الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} لا بد له من مفعول ثان فما ذلك ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : قيل : علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى : {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر : 1) على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره ، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة ، وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره ، وهو ما في القرآن ، وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر ، وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} (القمر : 17) والتعليم على هذا الوجه مجاز. يقال : إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه وثانيهما : أن المفعول الثاني لا بد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) ويحتمل أن يقال : المفعول الثاني هو محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد ، وفيه وجه ثالث : وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان ، وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 342
المسألة الرابعة : لم ترك المفعول الثاني ؟
نقول : إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص/ يقال : فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ، ولا يبين من يطعمه.
المسألة الخامسة : ما معنى التعليم ؟
نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به ، فإن قيل : كيف يفهم قوله تعالى : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} مع قوله : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ا إِلا اللَّه } ؟
(آل عمران : 7) نقول : من لا يقف عند قوله : {إِلا اللَّهُ} ويعطف : {الرَّاسِخُونَ} على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا ، ومن يقف ويعطف قوله تعالى : { والراسخون فِي الْعِلْمِ} على قوله : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه } عطف جملة على جملة يقول : إنه تعالى علم القرآن ، لأن من علم كتاباً عظيماً ووقع على ما فيه ، وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان ، يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين ، وكذلك القول في تعليم القرآن ، أو تقول : لا يعلم تأويله إلا الله وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه مالم يعلم ، فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كعيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم.
ثم قال تعالى : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في وجه الترتيب وهو على وجهين أحدهما : ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان ، فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة / يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} ثم قال تعالى : {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} (الواقعة : 77 ـ 80) إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه ، وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية ، وكل علوي قابله بسفلي ، وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات ، فقال : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} إشارة إلى تعليم العلويين ، وقال : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} إشارة إلى تعليم السفليين ، وقال : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة : 9) في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن : 6).
جزء : 29 رقم الصفحة : 342
ثم قال تعالى : {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} (الرحمن : 7) وفي مقابلتها : {وَالارْضَ وَضَعَهَا} (الرحمن : 10) ، وثانيهما : أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعاماً ، ثم بين كيفية تعليم القرآن ، فقال : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وهو كقول القائل : علمت فلاناً الأدب حملته عليه ، وأنفقت عليه مالي ، فقوله : حملته وأنفقت بيان لما تقدم ، وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم.
المسألة الثانية : ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق ، حيث قال هناك : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ} (العلق : 1) ثم قال : {وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق : 3 ، 4) فقدم الخلق على التعليم ؟
نقول : في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} بعد قوله : {خَلَقَ الانسَـانَ} .
المسألة الثالثة : ما المراد من الإنسان ؟
نقول : هو الجنس ، وقيل : المراد محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقيل : المراد آدم والأول أصح نظراً إلى اللفظ في {خَلَقَ} ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء.
(1/4304)

المسألة الرابعة : ما البيان وكيف تعليمه ؟
نقول : من المفسرين من قال : البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده ، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات ، وقوله : {خَلَقَ الانسَـانَ} إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص/ و{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره. وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} كما قلنا في المثال حيث يقول القائل : علمت فلاناً الأدب حملته عليه ، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر ، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير ، قال تعالى : {هَـاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} (آل عمران : 138) وقد سمى الله تعالى القرآن فرقاناً وبياناً والبيان فرقان بين الحق والباطل ، فصح إطلاق البيان ، وإرادة القرآن.
المسألة الخامسة : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول : أما إن قلنا : إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن ، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه ، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن ، فقال : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ} وقد بين ذلك ، وأما إن قلنا : المراد {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به ، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة / راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة ، فقال : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي علم الإنسان تعديداً للنعم عليه ومثل هذا قال في : {اقْرَأْ} قال مرة : {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} من غير بيان المعلم ، ثم قال مرة أخرى : {عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهو البيان ، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 342
343
وفي الترتيب وجوه أحدها : هو أن الله تعالى لما ثبت كونه رحمن وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم ، ولولا وجوده لما انتفع بشيء ، ثم بين نعمة الإدراك بقوله : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن : 4) وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع ، ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية وهما الشمس والقمر ولولا الشمس لما زالت الظلمة ، ولولا القمر لفات كثير من النعم الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما تظهر نعمتهما ، ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ولو كانت الشمس ثابتة في موضع لما انتفع بها أحد ، ولو كان سيرها غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها وبناء الأمر على الفصول ، ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين من الأرض وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق ، فإن الرزق أصله منه ، ولولا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله ، وأصل النعم على الرزق الدار ، وإنما قلنا : النبات هو أصل الرزق لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان ، ولولا النبات لما عاش الحيوان والنبات وهو الأصل وهو قسمان قائم على ساق كالحنطة والشعير والأشجار الكبار وأصول الثمار وغير قائم كالبقول المنبسطة على الأرض والحشيش والعشب الذي هو غذاء الحيوان ثانيها : هو أنه تعالى لما ذكر القرآن وكان هو كافياً لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ} وغيرها من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن تكن له النفس الزكية التي يغنيها الله بالدلائل التي في القرآن ، فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر ، وإنما اختارهما للذكر لأن حركتهما بحسبان تدل على فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص ، ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطئوا أن يثبتوا حركتهما على الممر المعين على الصواب المعين والمقدار المعلوم في البطء والسرعة لما بلغ أحد مراده إلى أن يرجع إلى الحق / ويقول : حركهما الله تعالى كما أراد ، وذكر الأرض والسماء وغيرهما إشارة إلى ما ذكرنا من الدلائل العقلية المؤكدة لما في القرآن من الدلائل السمعية ثالثها : هو أنا ذكرنا أن هذه السورة مفتتحة بمعجزة دالة عليها من باب الهيئة فذكر معجزة القرآن بما يكون جواباً لمنكري النبوة على الوجه الذي نبهنا عليه ، وذلك هو أنه تعالى أنزل على نبيه الكتاب وأرسله إلى الناس بأشرف خطاب ، فقال : بعض المنكرين كيف يمكن نزول الجرم من السماء إلى الأرض وكيف يصعد ما حصل في الأرض إلى السماء ؟
فقال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 343
(1/4305)

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} إشارة إلى (أن) حركتهما بمحرك مختار ليس بطبيعي وهم وافقونا فيه وقالوا : إن الحركة الدورية لا يمكن أن تكون طبيعية اختيارية فنقول : من حرك الشمس والقمر على الإستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ثم النجم والشجر يتحركان إلى فوق على الاستقامة مع أن الثقيل على مذهبكم لا يصعد إلى جهة فوق فذلك بقدرة الله تعالى وإرادته ، فكذلك حركة الملك جائزة مثل الفلك ، وأما قوله : {بِحُسْبَانٍ} ففيه إشارة إلى الجواب عن قولهم : {عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} (ص : 8) وذلك لأنه تعالى كما اختار لحركتهما ممراً معيناً وصوباً معلوماً ومقداراً مخصوصاً كذلك اختار للملك وقتاً معلوماً وممراً معيناً بفضله وفي التفسير مباحث :
الأول : ما الحكمة في تعريفه عما يرجع إلى الله تعالى حيث قال هما : {بِحُسْبَانٍ} ولم يقل : حركهما الله بحسبان أو سخرهما أو أجراهما كما قال : {خَلَقَ الانسَـانَ} وقال : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ؟
(الرحمن : 3 ، 4) نقول : فيه حكم منها أن يكون إشارة إلى أن خلق الإنسان وتعليمه البيان أتم وأعظم من خلق المنافع له من الرزق وغيره ، حيث صرح هناك بأنه فاعله وصانعه ولم يصرح هنا ، ومنها أن قوله : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ههنا بمثل هذا في العظم يقول القائل : إني أعطيتك الألوف والمئات مراراً وحصل لك الآحاد والعشرات كثيراً وما شكرت ، ويكون معناه حصل لك مني ومن عطائي لكنه يخصص التصريح بالعطاء عند الكثير ، ومنها أنه لما بينا أن قوله : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} إشارة إلى دليل عقلي مؤكد السمعي ولم يقل : فعلت صريحاً إشارة إلى أنه معقول إذا نظرت إليه عرفت أنه مني واعترفت به ، وأما السمعي فصرح بما يرجع إليه من الفعل الثاني : على أي وجه تعلق الباء من {بِحُسْبَانٍ} ، نقول : هو بين من تفسيره والتفسير أيضاً مر بيانه وخرج من وجه آخر ، فنقول : في الحسبان وجهان الأول : المشهور أن المراد الحساب يقال : حسب حساباً وحسباناً ، وعلى هذا فالباء للمصالحة تقول : قدمت بخير أي مع خير ومقروناً بخير فكذلك الشمس والقمر يجريان ومعهما حسابهما ومثله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (الرعد : 8) ،
جزء : 29 رقم الصفحة : 343
{وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} (الرعد : 8) ويحتمل أن تكون للاستعانة كما في قولك : بعون الله غلبت ، وبتوفيق الله حجت ، فكذلك يجريان بحسبان من الله والوجه الثاني : أن الحسبان هو الفلك تشبيهاً له بحسبان الرحا وهو ما يدور فيدير الحجر ، وعلى هذا فهو للاستعانة كما يقال : في الآلات كتبت بالقلم فهما يدوران بالفلك وهو كقوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس : 40) ، الثالث : على الوجه المشهور هل كل واحد يجري بحسبان أو كلاهما بحسبان واحد ما المراد ؟
نقول : كلاهما محتمل فإن نظرنا إليهما فلكل واحد منهما حساب على حدة فهو / كقوله تعالى : {كُلٌّ فِى فَلَكٍ} (الأنبياء : 33) لا بمعنى أن الكل مجموع في فلك واحد وكقوله : {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} (الرعد : 8) وإن نظرنا إلى الله تعالى فللكل حساب واحد قدر الكل بتقدير حسبانهما بحساب ، مثاله من يقسم ميراث نفسه لكل واحد من الورثة نصيباً معلوماً بحساب واحد ، ثم يختلف الأمر عندهم فيأخذ البعض السدس والبعض كذا والبعض كذا ، فكذلك الحساب الواحد. وأما قوله : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ففيه أيضاً مباحث :
جزء : 29 رقم الصفحة : 343
(1/4306)

الأول : ما الحكمة في ذكر الجمل السابقة من غير واو عاطفة ، ومن هنا ذكرها بالواو العاطفة ؟
نقول ليتنوع الكلام نوعين ، وذلك لأن من بعد النعم على غيره تارة يذكر نسقاً من غير حرف ، فيقول : فلان أنعم عليك كثيراً ، أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، قواك بعد ضعف ، وأخرى يذكرها بحرف عاطف وذلك العاطف قد يكون واواً وقد يكون فاء وقد يكون ثم ، فيقول : فلان أكرمك وأنعم عليك وأحسن إليك ، ويقول : رباك فعلمك فأغناك ، ويقول : أعطاك ثم أغناك ثم أحوج الناس إليك ، فكذلك هنا ذكر التعديد بالنوعين جميعاً ، فإن قيل : زده بياناً وبين الفرق بين النوعين في المعنى ، قلنا : الذي يقول بغير حرف كأنه يقصد به بيان النعم الكثيرة فيترك الحرف ليستوعب الكل من غير تطويل كلام ، ولهذا يكون ذلك النوع في أغلب الأمر عند مجاوزة النعم ثلاثاً أو عندما تكون أكثر من نعمتين فإن ذكر ذلك عند نعمتين فيقول : فلان أعطاك المال وزوجك البنت ، فيكون في كلامه إشارة إلى نعم كثيرة وإنما اقتصر على النعمتين للأنموذج ، والذي يقول بحرف فكأنه يريد التنبيه على استقلال كل نعمة بنفسها/ وإذهاب توهم البدل والتفسير ، فإن قول القائل : أنعم عليك أعطاك المال هو تفسير للأول فليس في كلامه ذكر نعمتين معاً بخلاف ما إذا ذكر بحرف ، فإن قيل : إن كان الأمر على ما ذكرت فلو ذكر النعم الأول بالواو ثم عند تطويل الكلام في الآخر سردها سرداً ، هل كان أقرب إلى البلاغة ؟
وورود كلامه تعالى عليه كفاه دليلاً على أن ما ذكره الله تعالى أبلغ ، وله دليل تفصيلي ظاهر يبين ببحث وهو أن الكلام قد يشرع فيه المتكلم أولاً على قصد الاختصار فيقتضي الحال التطويل ، إما لسائل يكثر السؤال ، وإما لطالب يطلب الزيادة للطف كلام المتكلم ، وإما لغيرهما من الأسباب وقد يشرع على قصد الإطناب والتفصيل ، فيعرض ما يقتضي الاقتصار على المقصود من شغل السامع أو المتكلم وغير ذلك مما جاء في كلام الآدميين ، نقول : كلام الله تعالى فوائده لعباده لا له ففي هذه السورة ابتدأ الأمر بالإشارة إلى بيان أتم النعم إذ هو المقصود ، فأتى بما يختص بالكثرة ، ثم إن الإنسان ليس بكامل العلم يعلم مراد المتكلم إذا كان الكلام من أبناء جنسه ، فكيف إذا كان الكلام كلام الله تعالى ، فبدأ الله به على الفائدة الأخرى وإذهاب توهم البدل والتفسير والنعي على أن كل واحد منها نعمة كاملة ، فإن قيل : إذا كان كذلك فما الحكمة في تخصيص العطف بهذا الكلام والابتداء به لا بما قبله ولا بما بعده ؟
قلنا : ليكون النوعان على السواء فذكر الثمانية من النعم كتعليم القرآن وخلق الإنسان وغير ذلك أربعاً منها بغير واو وأربعاً بواو ، / وأما قوله تعالى : {فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ} (الرحمن : 11) وقوله : {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} (الرحمن : 12) فلبيان نعمة الأرض على التفصيل ثم في اختيار الثمانية لطيفة ، وهي أن السبعة عدد كامل والثمانية هي السبعة مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى أن نعم الله خارجة عن حد التعديد لما أن الزائد على الكمال لا يكون معيناً مبيناً ، فذكر الثمانية منها إشارة إلى بيان الزيادة على حد العدد لا لبيان الانحصار فيه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 343
المسألة الثانية : النجم ماذا ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : النبات الذي لا ساق له والثاني : نجم السماء والأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ذكر أرضين في مقابلة سماوين ، ولأن قوله : {يَسْجُدَانِ} يدل على أن المراد ليس نجم السماء لأن من فسر به قال : يسجد بالغروب ، وعلى هذا فالشمس والقمر أيضاً كذلك يغربان ، فلا يبقى للاختصاص فائدة ، وأما إذا قلنا : هما أرضان فنقول : {يَسْجُدَانِ} بمعنى ظلالهما تسجد فيختص السجود بهما دون الشمس والقمر ، وفي سجودهما وجوه أحدها : ما ذكرنا من سجود الظلال ثانيها : خضوعهما لله تعالى وخروجهما من الأرض ودوامهما وثباتهما عليها بإذن الله تعالى ، فسخر الشمس والقمر بحركة مستديرة والنجم بحركة مستقيمة إلى فوق ، فشبه النبات في مكانها بالسجود لأن الساجد يثبت. ثالثها : حقيقة السجود توجد منهما وإن لم تكن مرئية كما يسمح كل منهما وإن لم يفقه كما قال تعالى : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الإسراء : 44) ، رابعها : السجود وضع الجبهة أو مقاديم الرأس على الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما على الأرض وأرجلهما في الهواء ، لأن الرأس من الحيوان ما به شربه واغذاؤه ، وللنجم والشجر اغتذاؤهما وشربهما بأجذالهما ولأن الرأس لا تبقى بدونه الحياة والشجر والنجم لا يبقى شيء منهما ثابتاً غضاً عند وقوع الخلل في أصولهما ، ويبقى عند قطع فروعهما وأعاليهما ، وإنما يقال : للفروع رؤوس الأشجار ، لأن الرأس في الإنسان هو ما يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس ، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما على الأرض دائماً ، فهو سجودهما بالشبه لا بطريق الحقيقة.
(1/4307)

المسألة الثالثة : في تقديم النجم على الشجر موازنة لفظية للشمس والقمر وأمر معنوي ، وهو أن النجم في معنى السجود أدخل لما أنه ينبسط على الأرض كالساجد حقيقة ، كما أن الشمس في الحسبان أدخل ، لأن حساب سيرها أيسر عند المقومين من حساب سير القمر ، إذ ليس عند المقومين أصعب من تقويم القمر في حساب الزيج.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 343
344
ورفع السماء معلوم معنى ، ونصبها معلوم لفظاً فإنها منصوبة بفعل يفسره قوله : {رَفَعَهَا} كأنه تعالى قال : رفع السماء ، وقرىء {وَالسَّمَآءَ} بالرفع على الابتداء والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (الرحمن : 5) وأما وضع الميزان / فإشارة إلى العدل وفيه لطيفة وهي أنه تعالى بدأ أولاً بالعلم ثم ذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ، ثم ذكر العدل وذكر أخص الأمور له وهو الميزان ، وهو كقوله تعالى : {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ وَالْمِيزَانَ} (الحديد : 25) ليعمل الناس بالكتاب ويفعلوا بالميزان ما يأمرهم به الكتاب فقوله : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} مثل : {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ وَالْمِيزَانَ} فإن قيل : العلم لا شك في كونه نعمة عظيمة ، وأما الميزان فما الذي فيه من النعم العظيمة التي بسببها يعد في الآلاء ؟
نقول : النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد بأن يغلبه الآخر ولو في الشيء اليسير ، ويرى أن ذلك استهانة به فلا يتركه لخصمه لغلبة ، فلا أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه فلولا التبيين ثم التساوي لأوقع الشيطان بين الناس البغضاء كما وقع عند الجهل وزوال العقل والسكر ، فكما أن العقل والعلم صارا سبباً لبقاء عمارة العالم ، فكذلك العدل في الحكمة سبب ، وأخص الأسباب الميزان فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته لكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 344
344
وعلى هذا قيل : المراد من الميزان الأول العدل ووضعه شرعه كأنه قال : شرع الله العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العدل ، هذا هو المنقول ، والأولى أن يعكس الأمر ، ويقال : الميزان الأول هو الآلة ، والثاني هو بمعنى المصدر ومعناه وضع الميزان لئلا تطغوا في الوزن أو بمعنى العدل وهو إعطاء كل مستحق حقه ، فكأنه قال : وضع الآلة لئلا تطغوا في إعطاء المستحقين حقوقهم. ويجوز إرادة المصدر من الميزان كإرادة الوثوق من الميثاق والوعد من الميعاد ، فإذن المراد من الميزان آلة الوزن. والوجه الثاني : (أنّ) (أن) مفسرة والتقدير شرع العدل ، أي لا تطغوا ، فيكون وضع الميزان بمعنى شرع العدل ، وإطلاق الوضع للشرع والميزان للعدل جائز ، ويحتمل أن يقال : وضع الميزان أي الوزن.
وقوله : {أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ} على هذا الوجه ، المراد منه الوزن ، فكأنه نهى عن الطغيان في الوزن ، والاتزان وإعادة الميزان بلفظه يدل على أن المراد منهما واحد ، فكأنه قال : ألا تطغوا فيه ، فإن قيل : لو كان المراد الوزن ، لقال : ألا تطغوا في الوزن ، نقول : لو قال في الوزن لظن أن النهي مختص بالوزن للغير لا بالاتزان للنفس ، فذكر بلفظ الآلة التي تشتمل على الأخذ والإعطاء ، وذلك لأن المعطي لو وزن ورجح رجحاناً ظاهراً يكون قد أربى ، ولا سيما في الصرف وبيع المثل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 344
346
(1/4308)

وقوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} يدل على أن المراد من قوله : {أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ} هو بمعنى لا تطغوا في الوزن ، لأن قوله : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} كالبيان لقوله : {أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ} وهو الخروج عن إقامته بالعدل ، وقوله : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} يحتمل وجهين / أحدهما : أقيموا بمعنى قوموا به كما في قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا} (البقرة : 43) أي قوموا بها دواماً ، لأن الفعل تارة يعدى بحرف الجر ، وتارة بزيادة الهمزة ، تقول : أذهبه وذهب به ثانيها : أن يكون أقيموا بمعنى قوموا ، يقال : في العود أقمته وقومته ، والقسط العدل ، فإن قيل : كيف جاء قسط بمعنى جار لا بمعنى عدل ؟
نقول : القسط اسم ليس بمصدر ، والأسماء التي لا تكون مصادر إذا أتى بها آت أو وجدها موجد ، يقال فيها : أفعل بمعنى أثبت ، كما قال : فلان أطرف وأتحف وأعرف بمعنى جاء بطرفة وتحفة وعرف ، وتقول : أقبض السيف بمعنى أثبت له قبضة ، وأعلم الثوب بمعنى جعل له علماً ، وأعلم بمعنى أثبت العلامة ، وكذا ألجم الفرس وأسرج ، فإذا أمر بالقسط أو أثبته فقد أقسط ، وهو بمعنى عدل ، وأما قسط فهو فعل من اسم ليس بمصدر ، والاسم إذا لم يكن مصدراً في الأصل ، ويورد عليه فعل فربما يغيره عما هو عليه في أصله ، مثاله الكتف إذا قلت كتفته كتافاً فكأنك قلت : أخرجته عما كان عليه من الانتفاع وغيرته ، فإن معنى كتفته شددت كتفيه بعضهما إلى بعض فهو مكتوف ، فالكتف كالقسط صارا مصدرين عن اسم وصار الفعل معناه تغير عن الوجه الذي ينبغي أن يكون ، وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقال : القاسط والمقسط ليس أصلهما واحداً وكيف كان يمكن أن يقال : أقسط بمعنى أزال القسط ، كما يقال : أشكى بمعنى أزال الشكوى أو أعجم بمعنى أزال العجمة ، وهذا البحث فيه فائدة فإن قول القائل : فلان أقسط من فلان وقال الله تعالى : {ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (البقرة : 282) والأصل في أفعل التفضيل أن يكون من الثلاثي المجرد تقول : أظلم وأعدل من ظالم وعادل ، فكذلك أقسط كان ينبغي أن يكون من قاسط ، ولم يكن كذلك ، لأنه على ما بينا الأصل القسط ، وقسط فعل فيه لا على الوجه ، والإقساط إزالة ذلك ، ورد القسط إلى أصله ، فصار أقسط موافقاً للأصل ، وأفعل التفضيل يؤخذ مما هو أصل لا من الذي فرع عليه ، فيقال : أظلم من ظالم لا من متظلم وأعلم من عالم لا من معلم ، والحاصل أن الأقسط وإن كان نظراً إلى اللفظ ، كان ينبغي أن يكون من القاسط ، لكنه نظراً إلى المعنى ، يجب أن يكون من المقسط ، لأن المقسط أقرب من الأصل المشتق وهو القسط ، ولا كذلك الظالم والمظلم ، فإن الأظلم صار مشتقاً من الظالم ، لأنه أقرب إلى الأصل لفظاً ومعنى ، وكذلك العالم والمعلم والخبر والمخبر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 346
(1/4309)

ثم قال : {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي لا تنقصوا الموزون. والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات كل مرة بمعنى آخر ، فالأول هو الآلة {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن : 7) ، والثاني بمعنى المصدر {أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ} (الرحمن : 8) أي الوزن ، والثالث للمفعول : {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي الموزون ، وذكر الكل بلفظ الميزان لما بينا أن الميزان أشمل للفائدة وهو كالقرآن ذكره الله تعالى بمعنى المصدر في قوله تعالى : {فَاتَّبِعْ قُرْءَانَه } (القيامة : 18) وبمعنى المقروء في قوله : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَه وَقُرْءَانَه } (القيامة : 17) وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في / قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرعد : 31) فكأنه آلة ومحل له ، وفي قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ} (الحجر : 87) وفي كثير من المواضع ذكر القرآن لهذا الكتاب الكريم ، وبين القرآن والميزان مناسبة ، فإن القرآن فيه من العلم مالا يوجد في غيره من الكتب ، والميزان فيه من العدل مالا يوجد في غيره من الآلات ، فإن قيل : ما الفائدة في تقديم السماء على الفعل حيث قال : {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} وتقديم الفعل على الميزان حيث قال : {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن : 7) نقول : قد ذكرنا مراراً أن في كل كلمة من كلمات الله فوائد لا يحيط بها علم البشر إلا ما ظهر والظاهر ههنا أنه تعالى لما عد النعم الثمانية كما بينا وكان بعضها أشد اختصاصاً بالإنسان من بعض فما كان شديد الاختصاص بالإنسان قدم فيه الفعل ، كما بينا أن الإنسان يقول : أعطيتك الألوف وحصلت لك العشرات ، فلا يصرح في القليل بإسناد الفعل إلى نفسه ، وكذلك يقول : في النعم المختصة ، أعطيتك كذا ، وفي التشريك وصل إليك مما اقتسمتم بينكم كذا ، فيصرح بالإعطاء عند الاختصاص ، ولا يسند الفعل إلى نفسه عند التشريك ، فكذلك ههنا ذكر أموراً أربعة بتقديم الفعل ، قال تعالى : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن : 7) وأموراً أربعة بتقديم الاسم ، قال تعالى : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالارْضَ وَضَعَهَا لِلانَامِ} (الرحمن : 5 ـ 10) لما أن تعليم القرآن نفعه إلى الإنسان أعود ، وخلق الإنسان مختص به ، وتعليمه البيان كذلك ووضع الميزان ، كذلك لأنهم هم المنتفعون به الملائكة ، ولا غير الإنسان من الحيوانات ، وأما الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء والأرض فينتفع به كل حيوان على وجه الأرض وتحت السماء.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 346
346
في مباحث :
الأول : هو أنه قد مر أن تقديم الاسم على الفعل كان في مواضع عدم الاختصاص وقوله تعالى : {لِلانَامِ} يدل على الاختصاص ، فإن اللام لعود النفع نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : ما قيل : إن الأنام يجمع الإنسان وغيره من الحيوان ، فقوله {لِلانَامِ} لا يوجب الاختصاص بالإنسان ثانيهما : أن الأرض موضوعة لكل ما عليها ، وإنما خص الإنسان بالذكر لأن انتفاعه بها أكثر فإنه ينتفع بها وبما فيها وبما عليها ، فقال {لِلانَامِ} لكثرة انتفاع الأنام بها ، إذا قلنا إن الأنام هو الإنسان ، وإن قلنا إنه الخلق فالخلق يذكر ويراد به الإنسان في كثير من المواضع.
جزء : 29 رقم الصفحة : 346
348
وقوله تعالى : {فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاكْمَامِ} إشارة إلى الأشجار ، وقوله : {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} (الرحمن : 12) إشارة إلى النبات الذي ليس بشجر والفاكهة ما تطيب به النفس ، وهي فاعلة إما على طريقة : {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) أي ذات رضى يرضى بها كل أحد ، وإما على تسمية الآلة بالفاعل يقال : راوية للقربة التي يروى بها العطشان ، وفيه معنى المبالغة كالراحلة لما يرحل عليه ، ثم صار اسماً لبعض الثمار /وضعت أولاً من غير اشتقاق ، والتنكير للتكثير ، أي كثيرة كما يقال لفلان مال أي عظيم ، وقد ذكرنا وجه دلالة التنكير على التعظيم وهو أن القائل : كأنه يشير إلى أنه عظيم لا يحيط به معرفة كل أحد فتنكيره إشارة إلى أنه خارج عن أن يعرف كنهه.
وقوله تعالى : {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاكْمَامِ} إشارة إلى النوع الآخر من الأشجار ، لأن الأشجار المثمرة أفضل الأشجار وهي منقسمة إلى أشجار ثمار هي فواكه لا يقتات بها وإلى أشجار ثمار هي قوت وقد يتفكه بها ، كما أن الفاكهة قد يقتات بها ، فإن الجائع إذا لم يجد غير الفواكه يتقوت بها ويأكل غير متفكه بها ، وفيه مباحث :
(1/4310)

الأول : ما الحكمة في تقديم الفاكهة على القوت ؟
نقول : هو باب الابتداء بالأدنى والارتقاء إلى الأعلى ، والفاكهة في النفع دون النخل الذي منه القوت ، والتفكه وهو دون الحب الذي عليه المدار في سائر المواضع ، وبه يتغذى الأنام في جميع البلاد ، فبدأ بالفاكهة ثم ذكر النخل ثم ذكر الحب الذي هو أتم نعمة لموافقته مزاج الإنسان ، ولهذا خلقه الله في سائر البلاد وخصص النخل بالبلاد الحارة.
البحث الثاني : ما الحكمة في تنكير الفاكهة وتعريف النخل ؟
وجوابه من وجوه أحدها : أن القوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان فهو أعرف والفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص وثانيها : هو أن الفاكهة على ما بينا ما يتفكه به وتطيب به النفس وذلك عند كل أحد بحسب كل وقت شيء ، فمن غلب عليه حرارة وعطش ، يريد التفكه بالحامض وأمثاله ، ومن الناس من يريد التفكه بالحلو وأمثاله ، فالفاكهة غير متعينة فنكرها والنخل والحب معتادان معلومان فعرفهما وثالثها : النخل وحدها نعمة عظيمة تعلقت بها منافع كثيرة ، وأما الفاكهة فنوع منها كالخوخ والإجاص مثلاً ليس فيه عظيم النعمة كما في النخل ، فقال : {فَـاكِهَةٍ} بالتنكير ليدل على الكثرة وقد صرح بالكثرة في مواضع أخر فقال : {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} (ص : 51) وقال : {وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} (الواقعة : 32 ، 33) ، فالفاكهة ذكرها الله تعالى ووصفها بالكثرة صريحاً وذكرها منكرة ، لتحمل على أنها موصوفة بالكثرة اللائقة بالنعمة في النوع الواحد منها بخلاف النخل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 348
البحث الثالث : ما الحكمة في ذكر الفاكهة باسمها لا باسم أشجارها ، وذكر النخل باسمها لا باسم ثمرها ؟
نقول : قد تقدم بيانه في سورة : يس حيث قال تعالى : {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (يس : 34) وهو أن شجرة العنب ، وهي الكرم بالنسبة إلى ثمرتها وهي العنب حقيرة ، وشجرة النخل بالنسبة إلى ثمرتها عظيمة ، وفيها من الفوائد الكثيرة على ماعرف من اتخاذ الظروف منها والانتفاع بجمارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك ، فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة ، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى الغير من الأشجار ، فذكر النخل باسمه وذكر الفاكهة دون أشجارها ، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها.
البحث الرابع : ما معنى : {ذَاتُ الاكْمَامِ} ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : الأكمام كل ما يغطي / جمع كم بضم الكاف ، ويدخل فيه لحاؤها وليفها ونواها والكل منتفع به ، كما أن النخل منتفع بها وأغصانها وقلبها الذي هو الجمار ثانيهما : الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الطلع فإنه يكون أولاً في وعاء فينشق ويخرج منه الطلع ، فإن قيل على الوجه الأول : {ذَاتُ الاكْمَامِ} في ذكرها فائدة لأنها إشارة إلى أنواع النعم ، وأما على الوجه الثاني فما فائدة ذكرها ؟
نقول : الإشارة إلى سهولة جمعها والانتفاع بها فإن النخلة شجرة عظيمة لا يمكن هزها لتسقط منها الثمرة فلا بد من قطف الشجرة فلو كان مثل الجميز الذي يقال : إنه يخرج من الشجرة متفرقاً واحدة واحدة لصعب قطافها فقال : {ذَاتُ الاكْمَامِ} أي يكون في كم شيء كثير إذا أخذ عنقود واحد منه كفى رجلا واثنين كعناقيد العنب ، فانظر إليها فلو كان العنب حباتها في الأشجار متفرقة كالجميز والزعرور لم يمكن جمعه بالهز متى أريد جمعه ، فخلقه الله تعالى عناقيد مجتمعة ، كذلك الرطب فكونها {ذَاتُ الاكْمَامِ} من جملة إتمام الإنعام.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 348
349
(1/4311)

اقتصر من الأشجار على النخل لأنها أعظمها ودخل في الحب القمح والشعير وكل حب يقتات به خبزاً أو يؤدم به بينا أنه أخره في الذكر على سبيل الارتقاء درجة فدرجة فالحبوب أنفع من النخل وأعم وجوداً في الأماكن. وقوله تعالى : {ذُو الْعَصْفِ} فيه وجوه أحدها : التبن الذي تنتفع به دوابنا التي خلقت لنا ثانيها : أوراق النبات الذي له ساق الخارجة من جوانب الساق كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها ثالثها : العصف هو ورق ما يؤكل فحسب والريحان فيه وجوه ، قيل : ما يشم وقيل : الورق ، وقيل : هو الريحان المعروف عندنا وبزره ينفع في الأدوية ، والأظهر أن رأسها كالزهر وهو أصل وجود المقصود ، فإن ذلك الزهر يتكون بذلك الحب وينعقد إلى أن يدرك فالعصف إشارة إلى ذلك الورق والريحان إلى ذلك الزهر ، وإنما ذكرهما لأنهما يؤولان إلى المقصود من أحدهما علف الدواب ، ومن الآخر دواء الإنسان ، وقرىء الريحان بالجر معطوفاً على العصف ، وبالرفع عطفاً على الحب وهذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد من الريحان المشموم فيكون أمراً مغايراً للحب فيعطف عليه والثاني : أن يكون التقدير ذو الريحان بحذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما في : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) وهذا مناسب للمعنى الذي ذكرنا ، ليكون الريحان الذي ختم به أنواع النعم الأرضية أعز وأشرف ، ولو كان المراد من الريحان هو المعروف أو المشمومات لما حصل ذلك الترتيب ، وقرىء : {وَالرَّيْحَانُ} ولا يقرأ : {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} ويعود الوجهان فيه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 349
350
وفيه مباحث :
الأول : الخطاب مع من ؟
نقول : فيه وجوه الأول : الإنس والجن وفيه ثلاثة أوجه / أحدها : يقال : الأنام اسم للجن والإنس وقد سبق ذكره ، فعاد الضمير إلى ما في الأنام من الجنس ثانيها : الأنام اسم الإنسان والجان لما كان منوياً وظهر من بعد بقوله : {وَخَلَقَ الْجَآنَّ} (الرحمن : 15) جاز عود الضمير إليه ، وكيف لا وقد جاز عود الضمير إلى المنوي ، وإن لم يذكر منه شيء ، تقول : لا أدري أيهما خير من زيد وعمرو ثالثها : أن يكون المخاطب في النية لا في اللفظ كأنه قال فبأي آلاء ربكما تكذبان أيها الثقلان الثاني : الذكر والأنثى. فعاد الضمير إليهما والخطاب معهما الثالث : فبأي آلاء ربك تكذب ، فبأي آلاء ربك تكذب ، بلفظ واحد والمراد التكرار للتأكيد الرابع : المراد العموم ، لكن العام يدخل فيه قسمان بهما ينحصر الكل ولا يبقى شيء من العام خارجاً عنه فإنك إذا قلت : إنه تعالى خلق من يعقل ومن لا يعقل ، أو قلت : الله يعلم ما ظهر وما لم يظهر إلى غير ذلك من التقاسيم الحاصرة يلزم التعميم ، فكأنه قال : يا أيها القسمان : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} واعلم أن التقسيم الحاصر لا يخرج عن أمرين أصلاً ولا يحصل الحصر إلا بهما ، فإن زاد فهناك قسمان قد طوى أحدهما في الآخر ، مثاله إذا قلت : اللون إما سواد وإما بياض ، وإما حمرة وإما صفرة وإما غيرها فكأنك قلت : اللون إما أسود وإما ليس بسواد أو إما بياض وإما ليس ببياض ، ثم الذي ليس ببياض إما حمرة وإما ليس بحمرة وكذلك إلى جملة التقسيمات ، فأشار إلى القسمين الحاصرين على أن ليس لأحد ولا لشيء أن ينكر نعم الله الخامس : التكذيب قد يكون بالقلب دون اللسان ، كما في المنافقين ، وقد يكون باللسان دون القلب كما في المعاندين وقد يكون بهما جميعاً ، فالكذب لا يخرج عن أن يكون باللسان أو بالقلب فكأنه تعالى قال : يا أيها القلب واللسان فبأي آلاء ربكما تكذبان فإن النعم بلغت حداً لا يمكن المعاند أن يستمر على تكذيبها ، السادس : المكذب مكذب بالرسول والدلائل السمعية التي بالقرآن ومكذب بالعقل والبراهين والتي في الآفاق والأنفس فكأنه تعالى قال : يا أيها المكذبان بأي آلاء ربكما تكذبان ، وقد ظهرت آيات الرسالة فإن الرحمن علم القرآن ، وآيات الوحدانية فإنه تعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ، ورفع السماء ووضع الأرض السابع : المكذب قد يكون مكذباً بالفعل وقد يكون التكذيب منه غير واقع بعد لكنه متوقع فالله تعالى قال : يا أيها المكذب تكذب وتتلبس بالكذب ، ويختلج في صدرك أنك تكذب ،
جزء : 29 رقم الصفحة : 350
(1/4312)

{فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، وهذه الوجوه قريبة بعضها من بعض والظاهر منها الثقلان ، لذكرهما في الآيات من هذه السورة بقوله : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} (الرحمن : 31) ، وبقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ} (الرحمن : 33) وبقوله : {خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ} (الرحمن : 14) إلى غير ذلك ، (والزوجان) لوروده في القرآن كثير والتعميم بإرادة نوعين حاصرين للجميع ، ويمكن أن يقال : التعميم أولى لأن المراد لو كان الإنس والجن اللذان خاطبهما بقوله : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ما كان يقول بعد خلق الإنسان ، بل كان يخاطب ويقول : خلقناك يا أيها الإنسان من صلصال وخلقناك يا أيها الجان أو يقول : خلقك يا أيها الإنسان / لأن الكلام صار خطاباً معهما ، ولما قال الإنسان ، دل على أن المخاطب غيره وهو العموم فيصير كأنه قال : يا أيها الخلق والسامعون إنا خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار/ وخلقنا الجان من مارج من نار. وسيأتي باقي البيان في مواضع من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى الثاني : ما الحكمة في الخطاب ولم يسبق ذكر مخاطب ، نقول : هو من باب الالتفات إذ مبنى افتتاح السورة على الخطاب مع كل من يسمع ، فكأنه لما قال : {الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 1 ، 2) قال : اسمعوا أيها السامعون ، والخطاب للتقريع والزجر كأنه تعالى نبه الغافل المكذب على أنه يفرض نفسه كالواقف بين يدي ربه يقول له ربه : أنعمت عليك بكذا وكذا ، ثم يقول : فبأي آلائي تكذب ولا شك أنه عند هذا يستحي استحياء لا يكون عنده فرض الغيبة الثالث : ما الفائدة في اختيار لفظة الرب وإذا خاطب أراد خطاب الواحد فلم قال : {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وهو الحاضر المتكلم فكيف يجعل التكذيب المسند إلى المخاطب وارداً على الغائب ولو قال : بأي آلائي تكذبان كان أليق في الخطاب ؟
نقول : في السورة المتقدمة قال : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} (القمر : 23) {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطا بِالنُّذُرِ} (القمر : 33) وقال : {كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ } (القمر : 42) وقال : {فَأَخَذْنَـاهُمْ} (
جزء : 29 رقم الصفحة : 350
(1/4313)

القمر : 42) وقال : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} (القمر : 21) كلها بالاستناد إلى ضمير المتكلم حيث كان ذلك للتخويف فالله تعالى أعظم من أن يخشى فلو قال : أخذهم القادر أو المهلك لما كان في التعظيم مثل قوله : {فَأَخَذْنَـاهُمْ} ولهذا قال تعالى : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } (آل عمران : 28 ، 30) وهذا كما أن المشهور بالقوة يقول أنا الذي تعرفني فيكون في إثبات الوعيد فوق قوله أنا المعذب فلما كان الإسناد إلى النفس مستعملاً في تلك السورة عند الإهلاك والتعذيب ذكر في هذه السورة عند بيان الرحمة لفظ يزيل الهيبة وهو لفظ الرب فكأنه تعالى قال فبأي آلاء ربكما تكذبان وهو رباكما الرابع : ما الحكمة في تكرير هذه الآية وكونه إحدى وثلاثين مرة ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : إن فائدة التكرير التقرير وأما هذا العدد الخاص فالأعداد توقيفية لا تطلع على تقدير المقدرات أذهان الناس والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام الله تعالى تمسكاً بقول عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس : كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت بيده وقال هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال : اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه وسيأتي فائدة كلامه تعالى في تفسير السورة إن شاء الله تعالى الجواب الثاني : ما قلناه : إنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} أربع مرات لبيان ما في ذلك من المعنى وثلاث مرات للتقرير والتكرير وللثلاث والسبع من بين الأعداد فوائد ذكرناها في قوله تعالى : {وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لقمان : 27) فلما ذكرنا العذاب ثلاث مرات ذكر الآلاء إحدى وثلاثين مرة لبيان ما فيه من المعنى وثلاثين مرة للتقرير الآلاء مذكورة عشر مرات أضعاف مرات ذكر العذاب إشارة إلى معنى قوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا} (الأنعام : 16) ، الثالث : إن الثلاثين مرة تكرير بعد البيان في المرة الأولى لأن / الخطاب مع الجن والإنس ، والنعم منحصرة في دفع المكروه وتحصيل المقصود ، لكن أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وأتم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب فإغلاق الأبواب السبعة وفتح الأبواب الثمانية جميعه نعمة وإكرام ، فإذا اعتبرت تلك النعم بالنسبة إلى جنسي الجن والإنس تبلغ ثلاثين مرة وهي مرات التكرير للتقرير/ والمرة الأولى لبيان فائدة الكلام ، وهذا منقول وهو ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر نعم الدنيا والآخرة ، وما ذكره اقتصار على بيان نعم الآخرة الرابع : هو أن أبواب النار سبعة والله تعالى ذكر سبع آيات تتعلق بالتخويف من النار ، من قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 350
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} ، إلى قوله تعالى : {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 31 ـ 44) ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك جنتين حيث قال : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) ولكل جنة ثمانية أبواب تفتح كلها للمتقين ، وذكر من أول السورة إلى ما ذكرنا من آيات التخويف ثماني مرات : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} سبع مرات للتقرير بالتكرير استيفاء للعدد الكثير الذي هو سبعة ، وقد بينا سبب اختصاصه في قوله تعالى : {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لقمان : 27) وسنعيد منه طرفاً إن شاء الله تعالى ، فصار المجموع ثلاثين مرة المرة الواحدة التي هي عقيب النعم الكثيرة لبيان المعنى وهو الأصل والتكثير تكرار فصار إحدى وثلاثين مرة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 350
350
(1/4314)

وفي الصلصال وجهان أحدهما : هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن ، ويكون الصلصال حينئذ من الصلول وثانيهما : من الصليل يقال : صل الحديد صليلاً إذا حدث منه صوت ، وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت ، إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سمع منه عند الانفصال صوت ، فإن قيل : الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك نقول : أما قوله {مِّن تُرَابٍ} (الحج : 5) تارة ، و{مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} (المرسلات : 20) أخرى ، فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين ، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده ، ويجوز أن يقال : زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه ، وأما قوله : {مِّن طِينٍ لازِب } (الصافات : 11) {مِّنْ حَمَإٍ} (الحجر : 26) وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولاً من التراب ، ثم صار طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم لازباً ، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك ، ومن ذلك ، والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف مستعمل على أصل الاشتقاق ، وهو مبالغة الفاخر كالعلام في العالم ، وذلك أن التراب الذي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفتت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 350
352
وفي الجان وجهان أحدهما : هو أبو الجن كما أن الإنسان المذكور هنا هو أبو الإنس وهو آدم ثانيهما : هو الجن بنفسه فالجان والجن وصفان من باب واحد ، كما يقال : ملح ومالح ، أو نقول الجن اسم الجنس كالملح والجان مثل الصفة كالمالح.
وفيه بحث : وهو أن العرب تقول : جن الرجل ولا يعلم له فاعل يبني الفعل معه على المذكور ، وأصل ذلك جنه الجان فهو مجنون ، فلا يذكر الفاعل لعدم العلم به ، ويقتصر على قولهم : جن فهو مجنون ، وينبغي أن يعلم أن القائل الأول لا يقول : الجان اسم علم لأن الجان للجن كآدم لنا ، وإنما يقول بأن المراد من الجان أبوهم ، كما أن المراد من الإنسان أبونا آدم ، فالأول منا خلق من صلصال ، ومن بعده خلق من صلبه ، كذلك الجن الأول خلق من نار ، ومن بعده من ذريته خلق من مارج ، والمارج المختلط ثم فيه وجهان أحدهما : أن المارج هو النار المشوبة بدخان والثاني : النار الصافية والثاني أصح من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ : فلأنه تعالى قال : {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} أي نار مارجة ، وهذا كقول القائل : هو مصوغ من ذهب فإن قوله من ذهب فيه بيان تناسب الأخلاط فيكون المعنى الكل من ذهب غير أنه يكون أنواعاً مختلفة مختلطة بخلاف ما إذا قلت : هذا قمح مختلط فلك أن تقول : مختلط بماذا فيقول : من كذا وكذا فلو اقتصر على قوله : من قمح وكان منه ومن وغيره أيضاً لكان اقتصاره عليه مختلط بما طلب من البيان وأما المعنى : فلأنه تعالى كما قال : {خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ} (الرحمن : 14) أي من طين حر كذلك بين أن خلق الجان من نار خالصة فإن قيل : فكيف يصح قوله : {مَّارِجٍ} بمعنى مختلط مع أنه خالص ؟
نقول : النار إذا قويت التهبت ، ودخل بعضها في بعض كالشيء الممتزج امتزاجاً جيداً لا تميز فيه بين الأجزاء المختلطة وكأنه من حقيقة واحدة كما في الطين المختمر ، وذلك يظهر في التنور المسجور ، إن قرب منه الحطب تحرقه فكذلك مارج بعضها ببعض لا يعقل بين أجزائها دخان وأجزاء أرضية ، وسنبين هذا في قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} (الرحمن : 19) فإن قيل : المقصود تعديد النعم على الإنسان ، فما وجه بيان خلق الجان ؟
نقول : الجواب عندي من وجوه أحدها : ما بينا أن قوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 352
(1/4315)

{رَبِّكُمَا} خطاب مع الإنس والجن يعدد عليهما النعم بل على الإنسان وحده ثانيها : أنه بيان فضل الله تعالى على الإنسان ، حيث بين أنه خلق من أصل كثيف كدر ، وخلق الجان من أصل لطيف ، وجعل الإنسان أفضل من الجان فإنه إذا نظر إلى أصله ، علم أنه ما نال الشرف إلا بفضل الله تعالى فكيف يكذب بآلاء الله ثالثها : أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة ، وكأنه تعالى لما بين النعم الثمانية التي ذكرها في أول السورة ، فكأنه ذكر الثمانية لبيان خروجها عن العدد الكثير الذي هو سبعة ودخولها في / الزيادة التي يدل عليها الثمانية كما بينا وقلنا إن العرب عند الثامن تذكر الواو إشارة إلى أن الثامن من جنس آخر ، فبعد تمام السبعة الأول شرع في بيان قدرته الكاملة ، وقال : هو الذي خلق الإنسان من تراب والجان من نار : (فبأي آلاء) الكثيرة المذكورة التي سبقت من السبعة ، والتي دلت عليها الثامنة : (تكذبان) وإذا نظرت إلى ما دلت عليه الثمانية وإلى قوله : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} يظهر لك صحة ما ذكر أنه بين قدرته وعظمته ثم يقول : فبأي تلك الآلاء التي عددتها أولاً تكذبان ، وسنذكر تمامه عند تلك الآيات.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 352
353
وفيه وجوه أولها مشرق الشمس والقمر ومغربهما ، والبيان حينئذ في حكم إعادة ما سبق مع زيادة ، لأنه تعالى لما قال : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن : 5) دل على أن لهما مشرقين ومغربين ، ولما ذكر : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن : 3 ، 4) دل على أنه مخلوق من شيء فبين أنه الصلصال الثاني : مشرق الشتاء ومشرق الصيف فإن قيل : ما الحكمة في اختصاصهما مع أن كل يوم من ستة أشهر للشمس مشرق ومغرب يخالف بعضها البعض ؟
نقول : غاية انحطاط الشمس في الشتاء وغاية ارتفاعها في الصيف والإشارة إلى الطرفين تتناول ما بينهما فهو كما يقول القائل في وصف ملك عظيم له المشرق والمغرب ويفهم أن له ما بينهما أيضاً الثالث : التثنية إشارة إلى النوعين الحاصرين كما بينا أن كل شيء فإنه ينحصر في قسمين فكأنه قال : رب مشرق الشمس ومشرق غيرها فهما مشرقان فتناول الكل ، أو يقال : مشرق الشمس والقمر وما يغرض إليهما العاقل من مشرق غيرهما فهو تثنية في معنى الجمع.
جزء : 29 رقم الصفحة : 353
354
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق الآية بما قبلها فنقول : لما ذكر تعالى المشرق والمغرب وهما حركتان في الفلك ناسب ذلك ذكر البحرين لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك كما يجري الإنسان في البحر قال تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33) فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر لانحصار البر والبحر بين المشرق والمغرب ، لكن البر كان مذكوراً بقوله تعالى : {وَالارْضَ وَضَعَهَا} (الرحمن : 10) فذكر ههنا مالم يكن مذكوراً. / المسألة الثانية : {مَرَجَ} ، إذا كان متعدياً كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه فكيف قال تعالى : {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن : 15) ولم يقل : من ممروج ؟
نقول : مرج متعد ومرج بكسر الراء لازم فالمارج والمريج من مرج يمرج كفرح يفرح ، والأصل في فعل أن يكون غريزياً والأصل في الغريزي أن يكون لازماً ، ويثبت له حكم الغريزي ، وكذلك فعل في كثير من المواضع.
(1/4316)

المسألة الثالثة : في البحرين وجوه أحدها : بحر السماء وبحر الأرض ثانيها : البحر الحلو والبحر المالح كما قال تعالى : {وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآاـاِغٌ شَرَابُه وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } (فاطر : 12) وهو أصح وأظهر من الأول ثالثها : ما ذكر في المشرقين وفي قوله : {تُكَذِّبَانِ} إنه إشارة إلى النوعين الحاصرين فدخل فيه بحر السماء وبحر الأرض والبحر العذب والبحر المالح ، رابعها : أنه تعالى خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض وببعض جزائرها يحيط الماء وخلق بحراً محيطاً بالأرض وعليه الأرض وأحاط به الهواء كما قال به أصحاب علم الهيئة وورد به أخبار مشهورة ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ولا يغطيانها بفضل الله تعالى لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام ، فإن عندهم موضع الأرض بطبعه أن يكون في المركز ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه ، فإذا قيل لهم : فكيف ظهرت الأرض من الماء ولم ترسب يقولون لانجذاب البحار إلى بعض جوانبها ، فإن قيل : لماذا انجذب ؟
فالذي يكون عنده قليل من العقل يرجع إلى الحق ويجعله بإرادة الله تعالى ومشيئته ، والذي يكون عديم العقل يجعل سببه من الكواكب وأوضاعها واختلاف مقابلاتها ، وينقطع في كل مقام مرة بعد أخرى ، وفي آخر الأمر إذا قيل له : أوضاع الكواكب لم اختلفت على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض آخر صار كما قال تعالى : {فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ } (البقرة : 258) ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى.
جزء : 29 رقم الصفحة : 354
المسألة الرابعة : إذا كان المرج بمعنى الخلط فما الفائدة في قوله تعالى : {يَلْتَقِيَانِ} ؟
نقول قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ولكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما ، وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين ، ويحتمل أن يقال : من محذوف تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان وعلى الأول : فالفائدة إظهار القدرة في النفع فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق الله وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة الله أو بقدرة الله ، يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان/ وفيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي : أن الحكماء اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الحكماء المحققين ذلك بإجراء الله تعالى ذلك عليه وعند من يدعي الحكمة ولم يوفقه الله من الطبيعيين يقول : ذلك له بطبعه ، فقوله : {يَلْتَقِيَانِ} أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحداً ، ثم إنهما بقيا / في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار وعلى الوجه الثاني : الفائدة في بيان القدرة أيضاً على المنع من الاختلاط ، فإن الماءين إذا تلاقيا لا يمتزجان في الحال بل يبقيان زماناً يسيراً كالماء المسخن إذا غمس إناء مملوء منه في ماء بارد إن لم يمكث فيه زماناً لا يمتزج بالبارد ، لكن إذا دام مجاورتهما فلا بد من الامتزاج فقال تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلاهما ذهاباً إلى أن يلتقيان ولا يمتزجان فذلك بقدرة الله تعالى.
ثم قال تعالى : {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} إشارة إلى ما ذكرنا من منعه إياهما من الجريان على عادتهما ، والبرزخ الحاجز وهو قدرة الله تعالى في البعض وبقدرة الله في الباقي ، فإن البحرين قد يكون بينهما حاجز أرضي محسوس وقد لا يكون ، وقوله : {لا يَبْغِيَانِ} فيه وجهان أحدهما : من البغي أي لا يظلم أحدهما على الآخر بخلاف قول الطبيعي حيث يقول : الماءآن كلاهما جزء واحد ، فقال : هما لا {يَبْغِيَانِ} ذلك وثانيهما : أن يقال : لا يبغيان من البغي بمعنى الطلب أي لا يطلبان شيئاً ، وعلى هذا ففيه وجه آخر ، وهو أن يقال : إن يبغيان لا مفعول له معين ، بل هو بيان أنهما لا يبغيان في ذاتهما ولا يطلبان شيئاً أصلاً ، بخلاف ما يقول الطبيعي : أنه يطلب الحركة والسكون في موضع عن موضع.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 354
355
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في القراءات التي فيها قرىء يخرج من خرج ويخرج بفتح الراء من أخرج وعلى الوجهين فاللؤلؤ والمرجان مرفوعان ويخرج بكسر الراء بمعنى يخرج الله ونخرج بالنون المضمومة والراء المكسورة ، وعلى القراءتين ينصب اللؤلؤ والمرجان ، اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره وقيل : المرجان هو الحجر الأحمر.
(1/4317)

المسألة الثانية : اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح فكيف قال : {مِنْهُمَا} ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس الذي لا يوثق بقوله ، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من المالح وما وجدوه إلا فيه ، لكن لا يلزم من هذا أن لا يوجد في الغير سلمنا لم قلتم : أن الصدف يخرج بأمر الله من الماء العذب إلى الماء المالح وكيف يمكن الجزم والأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم ثانيهما : أن نقول : إن صح قولهم في اللؤلؤ إنه لا يخرج إلا من البحر المالح فنقول : فيه وجوه أحدها : أن الصدف لا يتولد فيه اللؤلؤ إلا من المطر وهو بحر السماء ثانيها : أنه يتولد في ملتقاهما ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه طالباً للملوحة كالمتوحمة التي تشتهي الملوحة أوائل / الحمل فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب ثالثها : أن ما ذكرتم إنما كان يرد أن لو قال : يخرج من كل واحد منهما فأما على قوله : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} لا يرد إذ الخارج من أحدهما مع أن أحدهما مبهم خارج منهما كما قال تعالى : {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (نوح : 16) يقال : فلان خرج من بلاد كذا ودخل في بلاد كذا ولم يخرج إلا من موضع من بيت من محلة في بلدة رابعها : أن (من) ليست لابتداء شيء كما يقال : خرجت الكوفة بل لابتداء عقلي كما يقال : خلق آدم من تراب ووجدت الروح من أمر الله فكذلك اللؤلؤ يخرج من الماء أي منه يتولد.
جزء : 29 رقم الصفحة : 355
المسألة الثالثة : أي نعمة عظيمة في اللؤلؤ والمرجان حتى يذكرهما الله مع نعمة تعلم القرآن وخلق الإنسان ؟
وفي الجواب قولان : الأول : أن نقول : النعم منها خلق الضروريات كالأرض التي هي مكاننا ولولا الأرض لما أمكن وجود التمكين وكذلك الرزق الذي به البقاء ومنها خلق المحتاج إليه وإن لم يكن ضرورياً كأنواع الحبوب وإجراء الشمس والقمر ، ومنها النافع وإن لم يكن محتاجاً إليه كأنواع الفواكه وخلق البحار من ذلك ، كما قال تعالى : {وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} (البقرة : 164) ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى : {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } (فاطر : 12) فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة التي تتعلق بالقوى الجسمانية وصدرها بالقوة العظيمة التي هي الروح وهي العلم بقوله : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 2) والثاني : أن نقول : هذه بيان عجائب الله تعالى لا بيان النعم ، والنعم قد تقدم ذكرها هنا ، وذلك لأن خلق الإنسان من صلصال ، وخلق الجان من نار ، من باب العجائب لا من باب النعم ، ولو خلق الله الإنسان من أي شيء خلقه لكان إنعاماً ، إذا عرفت هذا فنقول : الأركان أربعة ، التراب والماء والهواء والنار فالله تعالى بين بقوله : {خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ} (الرحمن : 14) أن الإنسان خلقه من تراب وطين وبين بقوله : {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن : 15) أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب ، وبين بقوله : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أن الماء أصل لمخلوق آخر ، كالحيوان عجيب ، بقي الهواء لكنه غير محسوس ، فلم يذكر أنه أصل مخلوق بل بين كونه منشأ للجواري في البحر كالأعلام. فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 355
357
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له وله السموات وما فيها والأرض وما عليها ؟
نقول : هذا الكلام مع العوام ، فذكر مالا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلاً عن الفاضل الذكي ، فقال : لا شك أن الفلك في البحر لا يملكه في الحقيقة أحد إذ لا تصرف لأحد في هذا الفلك وإنما كلهم منتظرون رحمة الله تعالى معترفون بأن أموالهم وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى وهم في ذلك يقولون لك : الفلك ولك الملك وينسبون البحر والفلك إليه ، ثم إذا خرجوا ونظروا إلى / بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وخفي عليهم وجوه الهلاك ، يدعون مالك الفلك ، وينسبون ما كانوا ينسبون البحر والفلك إليه ، وإليه الإشارة بقوله : {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ} (العنكبوت : 65) الآية.
(1/4318)

المسألة الثانية : (الجواري) جمع جارية ، وهي اسم للسفينة أو صفة ، فإن كانت اسماً لزم الاشتراك والأصل عدمه ، وإن كانت صفة الأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف ، ولم يذكر الموصوف هنا ، فنقول : الظاهر أن تكون صفة للتي تجري ونقل عن الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري ، وسميت المملوكة جارية لأن الحرة تراد للسكن والازدواج ، والمملوكة لتجري في الحوائج ، لكنها غلبت السفينة ، لأنها في أكثر أحوالها تجري ، ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية ، ثم صار يطلق عليها ذلك وإن لم تجر ، حتى يقال : للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية ، لما أنها تجري ، وللملوكة الجالسة جارية للغلبة ، ترك الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى : {وَلَهُ الْجَوَارِ} أي السفن الجاريات ، على أن السفينة أيضاً فعيلة من السفن وهو النحت ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند ابن دريد أي تسفن الماء ، أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك وفيه لطيفة لفظية : وهي أن الله تعالى لما أمر نوحاً عليه السلام باتخاذ السفينة ، قال : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (هود : 37) ففي أول الأمر قال لها : الفلك لأنها بعد لم تكن جرت ، ثم سماها بعدما عملها سفينة كما قال تعالى : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ} (العنكبوت : 15) وسماها جارية كما قال تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَـاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ} (الحاقة : 11) وقد عرفنا أمر الفلك وجريها وصارت كالمسماة بها ، فالفلك قبل الكل ، ثم السفينة ثم الجارية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 357
المسألة الثالثة : ما معنى المنشآت ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، وأنشأ الله إذا رفعه وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر ، وإما مرفوعات الشراع وثانيهما : المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه فإن قيل : الوجه الثاني بعيد لأن قوله : {فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ} متعلق بالمنشآت فكأنه قال : وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام ، وهذا غير مناسب ، وأما على الأول فيكون كأنه قال : الجواري التي رفعت في البحر كالأعلام ، وذلك جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول : الرجل الجريء في الحرب كالأسد فيكون حسناً ، ولو قلت : الرجل العالم بدل الجريء في الحرب كالأسد لا يكون كذلك ، نقول : إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف ، كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله : {فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ} لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام/ فيكون أكثر بياناً للقدرة كأنه قال : له السفن التي تجري في البحر كالأعلام ، أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى ، فالأعلام جمع العلم الذي هو الجبل وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف ، فلا عجب فيه ، وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل في الماء وتكون المنشآت / معروفة ، كما أنك تقول : الرجل الحسن الجالس كالقمر فيكون متعلق قولك كالقمر الحسن لا الجالس فيكون منشأ للقدرة ، إذ السفن كالجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى.
المسألة الرابعة : قرىء بكسر الشين ، ويحتمل حينئذ أن يكون قوله : {الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ} ، يقوم مقام الجملة ، والجواري معرفة ولا توصف المعارف بالجمل ، فلا نقول : الرجل كالأسد جاءني ولا الرجل هو أسد جاءني ، وتقول : رجل كالأسد جاءني ، ورجل هو أسد جاءني ، فلا تحمل قراءة الفتح إلا على أن يكون حالاً وهو على وجهين أحدهما : أن تجعل الكاف اسماً فيكون كأنه قال : الجواري المنشآت شبه الأعلام ثانيهما : يقدر حالاً هذا شبهه كأنه يقول : كالأعلام ويدل عليه قوله : {فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} (هود : 42).
المسألة الخامسة : في جمع الجواري وتوحيد البحر وجمع الأعلام فائدة عظيمة ، وهي أن ذلك إشارة إلى عظمة البحر ، ولو قال : في البحار لكانت كل جارية في بحر ، فيكون البحر دون بحر يكون فيه الجواري التي هي كالجبال ، وأما إذا كان البحر واحداً وفيه الجواري التي هي كالجبال يكون ذلك بحراً عظيماً وساحله بعيداً فيكون الإنجاء بقدرة كاملة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 357
360
(1/4319)

وفيه وجهان أحدهما : وهو الصحيح أن الضمير عائد إلى الأرض ، وهي معلومة وإن لم تكن مذكورة قال تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } (فاطر : 45) الآية وعلى هذا فله ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأنه تعالى لما قال : {وَلَهُ الْجَوَارِ} (الرحمن : 24) إشارة إلى أن كل أحد يعرف ويجزم بأنه إذا كان في البحر فروحه وجسمه وماله في قبضة الله تعالى فإذا خرج إلى البر ونظر إلى الثبات الذي للأرض والتمكن الذي له فيها ينسى أمره فذكره وقال : لا فرق بين الحالتين بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وكل من على وجه الأرض فإنه كمن على وجه الماء ، ولو أمعن العاقل النظر لكان رسوب الأرض الثقيلة في الماء الذي هي عليه أقرب إلى العقل من رسوب الفلك الخفيفة فيه الثاني : أن الضمير عائد إلى الجارية إلا أنه بضرورة ما قبلها كأنه تعالى قال : الجواري ولا شك في أن كل من فيها إلى الفناء أقرب ، فكيف يمكنه إنكار كونه في ملك الله تعالى وهو لا يملك لنفسه في تلك الحالة نفعاً ولا ضراً ، وقوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 27) يدل على أن الصحيح الأول وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {مِنْ} للعقلاء وكل ما على وجه الأرض مع الأرض فان ، فما فائدة الاختصاص بالعقلاء ؟
نقول : المنتفع بالتخويف هو العاقل فخصه تعالى بالذكر.
المسألة الثانية : الفاني هو الذي فنى وكل من عليها سيفنى فهو باق بعد ليس بفان ، نقول كقوله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} (الزمر : 30) وكما يقال للقريب إنه واصل ، وجواب آخر : وهو أن وجود الإنسان / عرض وهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ، فأمر الدنيا بين شيئين حدوث وعدم ، أما البقاء فلا بقاء له لأن البقاء استمرار ، ولا يقال هذا تثبيت بالمذهب الباطل الذي هو القول بأن الجسم لا يبقى زمانين كما قيل في العرض ، لأنا نقول قوله {مِنْ} بدل قوله (ما) ينفي ذلك التوهم لأني قلت : (من عليها فان) لا بقاء له ، وما قلت : ما عليها فان ، ومن مع كونه على الأرض يتناول جسماً قام به أعراض بعضها الحياة والأعراض غير باقية ، فالمجموع لم يبق كما كان وإنما الباقي أحد جزأيه وهو الجسم وليس يطلق عليه بطريق الحقيقة لفظة (من) ، فالفاني ليس ما عليها وما عليها ليس بباق.
جزء : 29 رقم الصفحة : 360
المسألة الثالثة : ما الفائدة في بيان أنه تعالى قال : {فَانٍ} ؟
نقول : فيه فوائد منها : الحث على العبادة وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة ، ومنها : المنع من الوثوق بما يكون للمرء فلا يقول : إذا كان في نعمة إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه ، ومنها : الأمر بالصبر إن كان في ضر فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل ، ومنها : ترك اتخاذ الغير معبوداً والزجر على الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى فإن أمرهم إلى الزوال قريب فيبقى القريب منهم عن قريب في ندم عظيم لأنه إن مات قبلهم يلقى الله كالعبد الآبق ، وإن مات الملك قبله فيبقى بين الخلق وكل أحد ينتقم منه ويتشفى فيه ، ويستحي ممن كان يتكبر عليه وإن ماتا جميعاً فلقاء الله عليه بعد التوفي في غاية الصعوبة ، ومنها : حسن التوحيد وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 360
361
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الوجه يطلق على الذات والمجسم يحمل الوجه على العضو وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن لأن قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) يدل على أن لا يبقى إلا وجه الله تعالى ، فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله أو غير ذات الله شيء وهو كذلك ، وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها ورجله التي قال بها ، لا يقال : فعلى قولكم أيضاً يلزم أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله ، لأن الوجه جعلتموه ذاتاً ، والذات غير الصفات فإذا قلت : كل شيء هالك إلا حقيقة الله خرجت الصفات عنها فيكون قولكم نفياً للصفات ، نقول : الجواب عنه بالعقل والنقل ، أما النقل فذلك أمر يذكر في غير هذا الموضع ، وأما العقل فهو أن قول القائل : لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض ، وإذا قال : لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله ، فكذلك قولنا : يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته وإذا قلتم : لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده.
(1/4320)

/ المسألة الثانية : فما السبب في حسن إطلاق لفظ الوجه على الذات ؟
نقول : إنه مأخوذ من عرف الناس ، فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان ، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول : رأيته ، وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلاً لا يقول : رأيته ، وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس ، فإن الإنسان إذا رأى شيئاً علم منه مالم يكن يعلم حال غيبته ، لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي وإنما يتعلق ببعضه ، ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم فإذا رأى شيئاً بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه ، لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة كل واحد يدل على أمر ، فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه ، فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره ، فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام ، ثم نقل لي ما ليس بجسم ، يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف ، وقول من قال : إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية فليس بشيء إذ الأمر على العكس ، لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل ، فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره ، ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب.
جزء : 29 رقم الصفحة : 361
المسألة الثالثة : لو قال : ويبقى ربك أو الله أو غيره فحصلت الفائدة من غير وقوع في توهم ما هو ابتدع ، نقول : ما كان يقوم مقام الوجه لفظ آخر ولا وجه فيه إلا ما قاله الله تعالى ، وذلك لأن سائر الأسماء المعروفة لله تعالى أسماء الفاعل كالرب والخالق والله عند البعض بمعنى المعبود ، فلو قال : ويبقى ربك ربك ، وقولنا : ربك معنيان عند الاستعمال أحدهما أن يقال : شيء من كل ربك ، ثانيهما أن يقال : يبقى ربك مع أنه حالة البقاء ربك فيكون المربوب في ذلك الوقت ، وكذلك لو قال : يبقى الخالق والرازق وغيرهما.
المسألة الرابعة : ما الحكمة في لفظ الرب وإضافة الوجه إليه ، وقال في موضع آخر : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } (البقرة : 115) وقال : {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه } ؟
(الروم : 38) نقول : المراد في الموضعين المذكورين هو العبادة. أما قوله : {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } فظاهر لأن المذكور هناك الصلاة ، وأما قوله : {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه } فالمذكور هو الزكاة قال تعالى من قبل : {فَـاَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } (الروم : 38) {ذَالِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه } (الروم : 38) ولفظ الله يدل على العبادة ، لأن الله هو المعبود ، والمذكور في هذا الموضع النعم التي بها تربية الإنسان فقال : {وَجْهُ رَبِّكَ} .
جزء : 29 رقم الصفحة : 361
المسألة الخامسة : الخطاب بقوله : {رَبِّكَ} مع من ؟
نقول : الظاهر أنه مع كل أحد كأنه يقول : ويبقى وجه ربك أيها السامع ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإن قيل : فيكف قال : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاباً مع الإثنين ، وقال : {وَجْهُ رَبِّكَ} خطاباً مع الواحد ؟
نقول : عند قوله : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقعت الإشارة إلى فناء كل أحد ، وبقاء الله فقال / وجه ربك أي يا أيها السامع فلا تلتفت إلى أحد غير الله تعالى ، فإن كل من عداه فان ، والمخاطب كثيراً ما يخرج عن الإرادة في الكلام ، فإنك إذا قلت : لمن يشكو إليك من أهل موضع سأعاقب لأجلك كل من في ذلك الموضع يخرج المخاطب عن الوعيد ، وإن كان من أهل الموضع فقال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ليعلم كل أحد أن غيره فان ، ولو قال : وجه ربكما لكان كل واحد يخرج نفسه ورفيقه المخاطب من الفناء ، فإن قلت : لو قال ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل ؟
نقول : كأن الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف والإبقاء إشارة إلى القهر ، والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم ، فلو قال : بلفظ الرب لم يدل عليه الخطاب ، وفي لفظ الرب عادة جارية وهي أنه لا يترك استعماله مع الإضافة. فالعبد يقول : ربنا اغفر لنا ، ورب اغفر لي ، والله تعالى يقول : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ} (الدخان : 8) و{رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الفاتحة : 2) وحيث ترك الإضافة ذكره مع صفة أخرى من أوصاف اللفظ ، حيث قال تعالى : {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (سبأ : 15) وقال تعالى : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) ولفظ الرب يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى التربية ، يقال : ربه يربه رباً مثل رباه يربيه ، ويحتمل أن يكون وصفاً من الرب الذي هو مصدر بمعنى الراب كالطب للطبيب ، والسمع للحاسة ، والبخل للبخيل ، وأمثال ذلك لكن من باب فعل ، وعلى هذا فيكون كأنه فعل من باب فعل يفعل أي فعل الذي للغريزي كما يقال فيما إذا قلنا : فلان أعلم وأحكم ، فكان وصفاً له من باب فعل اللازم ليخرج عن التعدي.
(1/4321)

جزء : 29 رقم الصفحة : 361
المسألة السادسة : {الْجَلَـالِ} إشارة إلى كل صفة من باب النفي ، كقولنا : الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ، ولهذا يقال : جل أن يكون محتاجاً ، وجل أن يكون عاجزاً ، والتحقيق فيه أن الجلال هو بمعنى العظمة غير أن العظمة أصلها في القوة ، والجلال في الفعل ، فهو عظيم لا يسعه عقل ضعيف فجل أن يسعه كل فرض معقول : {وَالاكْرَامِ} إشارة إلى كل صفة هي من باب الإثبات ، كقولنا : حي قادر عالم ، وأما السميع والبصير فإنهما من باب الإثبات كذلك عند أهل السنة ، وعند المعتزلة من باب النفي ، وصفات باب النفي قبل صفات باب الإثبات عندنا ، لأنا أولاً نجد الدليل وهو العالم فنقول : العالم محتاج إلى شيء وذلك الشيء ليس مثل العالم فليس بمحدث ولا محتاج ، ولا ممكن ، ثم نثبت له القدرة والعلم وغيرهما ، ومن هنا قال تعالى لعباده : {لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} (الصافات : 35) وقال صلى الله عليه وسلّم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ونفي الإلهية عن غير الله ، نفي صفات غير الله عن الله ، فإنك إذا قلت : الجسم ليس بإله لزم منه قولك : الله ليس بجسم و(الجلال والإكرام) وصفان مرتبان على أمرين سابقين ، فالجلال مرتب على فناء الغير والإكرام على بقائه تعالى/ فيبقى الفرد وقد عز أن يحد أمره بفناء من عداه وما عداه ، ويبقى وهو مكرم قادر عالم فيوجد بعد فنائهم من يريد ، وقرىء : {ذُو الْجَلَـالِ} ، و{ذِى الْجَلَـالِ} . وسنذكر ما يتعلق به في تفسير آخر السورة إن شاء الله تعالى.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 361
362
وفيه وجهان أحدهما : أنه حال تقديره : يبقى وجه ربك مسئولاً وهذا منقول معقول ، وفيه إشكال وهو أنه يفضي إلى التناقض لأنه لما قال : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن : 27) كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض ، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض ؟
فأما إذا قلنا : الضمير عائد إلى (الأمور) الجارية (في يومنا) فلا إشكال في هذا الوجه ، وأما على الصحيح فنقول عنه أجوبة أحدها : لما بينا أنه فان نظراً إليه ولا يبقى إلا بإبقاء الله ، فيصح أن يكون الله مسئولاً ثانيها : أن يكون مسئولاً معنى لا حقيقة ، لأن الكل إذا فنوا ولم يكن وجود إلا بالله ، فكأن القوم فرضوا سائلين بلسان الحال ثالثها : أن قوله : {وَيَبْقَى } للاستمرار فيبقى ويعيد من كان في الأرض ويكون مسئولاً والثاني : أنه ابتداء كلام وهو أظهر وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ماذا يسأله السائلون ؟
فنقول : يحتمل وجوهاً أحدها : أنه سؤال استعطاء فيسأله كل أحد الرحمة وما يحتاج إليه في دينه ودنياه ثانيها : أنه سؤال استعلام أي عنده علم الغيب لا يعلمه إلا هو ، فكل أحد يسأله عن عاقبة أمره وعما فيه صلاحه وفساده. فإن قيل : ليس كل أحد يعترف بجهله وعلم الله نقول : هذا كلام في حقيقة الأمر من جاهل ، فإن كان من جاهل معاند فهو في الوجه الأول أيضاً وارد ، فإن من المعاندين من لا يعترف بقدرة الله فلا يسأله شيئاً بلسانه وإن كان يسأله بلسان حاله لإمكانه ، والوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة أي كل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه. والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم أي كل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات ثالثها : أن ذلك سؤال استخراج ، أمر. وقوله : {مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } أي من الملائكة يسألونه كل يوم ويقولون : إلهنا ماذا نفعل وبماذا تأمرنا ، وهذا يصلح جواباً آخر عن الإشكال على قول من قال : يسأله حال لأنه يقول : قال تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن : 26) ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمده ولولاها لا يعيش وأما من فيها من الملائكة الأرضية فهم فيها وليسوا عليها ولا تضرهم زلزلتها ، فعندما يفنى من عليها ويبقى الله تعالى لا يفنى هؤلاء في تلك الحال فيسألونه ويقولون : ماذا نفعل فيأمرهم بما يأمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ثم يقول لهم : عندما يشاء موتوا فيموتوا هذا على قول من قال : {يَسْـاَلُه } حال وعلى الوجه الآخر لا إشكال.
جزء : 29 رقم الصفحة : 362
(1/4322)

المسألة الثانية : هو عائد إلى من ؟
نقول : الظاهر المشهور أنه عائد إلى الله تعالى وعليه اتفاق المفسرين ، ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن ذلك الشأن فقال : "يغفر / ذنباً ويفرج كرباً ، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء" ويحتمل أن يقال : هو عائد إلى يوم و{كُلَّ يَوْمٍ} ظرف سؤالهم أي يقع سؤالهم في كل يوم وهو في شأن يكون جملة وصف بها يوم وهو نكرة كما يقال : يسألني فلان كل يوم هو يوم راحتي أي يسألني أيام الراحة ، وقوله : {هُوَ فِى شَأْنٍ} يكون صفة مميزة للأيام التي فيها شأن عن اليوم الذي قال تعالى فيه : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر : 16) فإنه تعالى في ذلك اليوم يكون هو السائل وهو المجيب ، ولا يسأل في ذلك اليوم لأنه ليس يوماً هو في شأن يتعلق بالسائلين من الناس والملائكة وغيرهم ، وإنما يسألونه في يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه/ فإن قيل : فهذا ينافي ما ورد في الخبر ، نقول : لا منافاة لقوله عليه السلام في جواب من قال : ما هذا الشأن ؟
فقال : "يغفر ذنباً (ويفرج كرباً)" أي فالله تعالى جعل بعض الأيام موسومة بوسم يتعلق بالخلق من مغفرة الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى : {يَسْـاَلُه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } في تلك الأيام التي في ذلك الشأن وجعل بعضها موسومة بأن لا داعي فيها ولا سائل ، وكيف لا نقول بهذا ، ولو تركنا كل يوم على عمومه لكان كل يوم فيه فعل وأمر وشأن فيفضي ذلك إلى القول بالقدم والدوام ، اللهم إلا أن يقال : عام دخله التخصيص كقوله تعالى : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23) و{تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء } (الأحقاف : 25).
جزء : 29 رقم الصفحة : 362
المسألة الثالثة : فعلى المشهور يكون الله تعالى في كل يوم ووقت في شأن ، وقد جف القلم بما هو كائن ، نقول : فيه أجوبة منقولة في غاية الحسن فلا نبخل بها وأجوبة معقولة نذكرها بعدها : أما المنقولة فقال بعضهم : المراد سوق المقادير إلى المواقيت ، ومعناه أن القلم جف بما يكون في كل (يوم و) وقت ، فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيه فيوجد ، وهذا وجه حسن لفظاً ومعنى وقال بعضهم : شؤون يبديها لا شؤون يبتديها ، وهو مثل الأول معنى ، أي لا يتغير حكمه بأنه سيكون ولكن يأتي وقت قدر الله فيه فعله فيبدو فيه ما قدره الله ، وهذان القولان ينسبان إلى الحسن بن الفضل أجاب بهما عبد الله بن طاهر وقال بعضهم : يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويشفي سقيماً ويمرض سليماً ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ، إلى غير ذلك وهو مأخوذ من قوله عليه السلام : "يغفر ذنباً ويفرج كرباً" وهو أحسن وأبلغ حيث بين أمرين أحدهما يتعلق بالآخرة والآخر بالدنيا ، وقدم الأخروي على الدنيوي وأما المعقولة : فهي أن نقول هذا بالنسبة إلى الخلق ، ومن يسأله من أهل السموات والأرض لأنه تعالى حكم بما أراد وقضى وأبرم فيه حكمه وأمضى ، غير أن ما حكمه يظهر كل يوم ، فنقول : أبرم الله اليوم رزق فلان ولم يرزقه أمس ، ولا يمكن أن يحيط علم خلقه بما أحاط به علمه ، فتسأله الملائكة كل يوم إنك يا إلهنا في هذا اليوم في أي شأن في نظرنا وعلمنا الثاني : هو أن الفعل يتحقق بأمرين من جانب الفاعل بأمر خاص ، ومن جانب المفعول في بعض الأمور ، ولا يمكن غيره وعلى وجه يختاره الفاعل من وجوه متعددة مثال الأول : تحريك الساكن لا يمكن إلا بإزالة السكون / عنه والإتيان بالحركة عقيبه من غير فصل ومثال الثاني : تسكين الساكن فإنه يمكن مع إبقاء السكون فيه ومع إزالته عقيبه من غير فصل أو مع فصل ، إذ يمكن أن يزيل عنه السكون ولا يحركه مع بقاء الجسم ، إذا عرفت هذا فالله تعالى خلق الأجسام الكثيرة في زمان واحد وخلق فيها صفات مختلفة في غير ذلك الزمان ، فإيجادها فيه لا في زمان آخر بعد ذلك الزمان فمن خلقه فقيراً في زمان لم يمكن خلقه غنياً في عين ذلك الزمان مع خلقه فقيراً فيه وهذا ظاهر ، والذي يظن أن ذلك يلزم منه العجز أو يتوهم فليس كذلك بل العجز في خلاف ذلك لأنه لو خلقه فقيراً في زمان يريد كونه غنياً لما وقع الغنى فيه مع أنه أراده ، فيلزم العجز من خلاف ما قلنا : لا فيما قلنا ، فإذن كل زمان هو غير الزمان الآخر فهو معنى قوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 362
(1/4323)

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} وهو المراد من قول المفسرين : أغنى فقيراً وأفقر غنياً ، وأعز ذليلاً وأذل عزيزاً ، إلى غير ذلك من الأضداد. ثم اعلم أن الضدين ليسا منحصرين في مختلفين بل المثلان في حكمهما فإنهما لا يجتمعان ، فمن وجد فيه حركة إلى مكان في زمان لا يمكن أن توجد فيه في ذلك الزمان حركة أخرى أيضاً إلى ذلك المكان ، وليس شأن الله مقتصراً على إفقار غنى أو إغناء فقير في يومنا دون إفقاره أو إغنائه أمس/ ولا يمكن أن يجمع في زيد إغناء هو أمسي مع إغناء هو يومي ، فالغنى المستمر للغني في نظرنا في الأمر متبدل الحال ، فهو أيضاً من شأن الله تعالى ، واعلم أن الله تعالى يوصف بكونه : لا يشغله شأن عن شأن ، ومعناه أن الشأن الواحد لا يصير مانعاً له تعالى عن شأن آخر كما أنه يكون مانعاً لنا ، مثاله : واحد منا إذا أراد تسويد جسم بصبغة يسخنه بالنار أو تبييض جسم يبرده بالماء والماء والنار متضادان إذا طلب منه أحدهما وشرع فيه يصير ذلك مانعاً له من فعل الآخر ، وليس ذلك الفعل مانعاً من الفعل لأن تسويد جسم وتبييض آخر لا تنافي بينهما ، وكذلك تسخينه وتسويده بصبغة لا تنافي فيه ، فالفعل صار مانعاً للفاعل من فعله ولم يصر مانعاً من الفعل ، وفي حق الله مالا يمنع الفعل لا يمنع الفاعل ، فيوجد تعالى من الأفعال المختلفة مالا يحصر ولا يحصى في آن واحد ، أما ما يمنع من الفعل كالذي يسود جسماً في آن لم يمكنه أن يبيضه في ذلك الآن ، فهو قد يمنع الفاعل أيضاً وقد لا يمنع ولكن لا بد من منعه للفاعل ، فالتسويد لا يمكن معه التبييض ، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلاً لكن أسبابه تمنع أسباباً آخر لا تمنع الفاعل. إذا علمت هذا البحث فقد أفادك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 362
363
التحقيق في قوله تعالى : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ولنذكر أولاً ما قيل فيه تبركاً بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي فنقول : اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل ، وقال بعضهم : خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس / فإن السيد يقول لعبده عند الغضب : سأفرغ لك ، وقد يكون السيد فارغاً جالساً لا يمنعه شغل ، وأما التحقيق فيه ، فنقول : عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول : ما أنا بفارغ للكتابة ، لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعاً للفاعل من الفعل الآخر ، يقال : هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل : أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة ، وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعاً من الفعل لا لكونه مانعاً من الفاعل كالذي يحرك جسماً في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين ، ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين ، فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك ، وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة ، إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين أحدهما : بشغل والآخر ليس بشغل ، فنقول : إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه ، فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ ، وإن كان له شغل ، فإذا أوجد ما أراد أولاً ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ ، فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه ، واعلم أن هذا ليس قولاً آخر غير قول المشايخ ، بل هو بيان لقولهم : سنقصدكم ، غير أن هذا مبين ، والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان. واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو ، لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر ، وإن كان في الزمان فيتسع للفعل ، فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه ، فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي ، فلا يرى خلوه. ويقال : فلان في زمان كذا فارغ لأن فلاناً هو المرئي لا الزمان والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فارغ فيمكنه وصفه للفعل فيه ، وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 363
(1/4324)

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} استعمال على ملاحظة الأصل ، لأن المكان إذا خلا يقال : لكذا ولا يقال : إلى كذا فكذلك الزمان لكن لما نقل إلى الفاعل وقيل : الفاعل على فراغ وهو عند الفراغ يقصد إلى شيء آخر قيل في الفاعل : فرغ من كذا إلى كذا ، وفي الظرف يقال : فرغ من كذا لكذا فقال لكم على ملاحظة الأصل ، وهو يقوي ما ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل. وأما {أَيُّهَ} فنقول : الحكمة في نداء المبهم والإتيان بالوصف بعده هي أن المنادي يريد صون كلامه عن الضياع ، فيقول أولاً : يا أي نداء لمبهم ليقبل عليه كل من يسمع ويتنبه لكلامه من يقصده ، ثم عند إقبال السامعين يخصص المقصود فيقول : الرجل والتزم فيه أمران أحدهما : الوصف بالمعرف باللام أو باسم الإشارة/ فتقول : يا أيها الرجل / أو يا أيهذا لا الأعرف منه وهو العلم ، لأن بين المبهم الواقع على كل جنس والعلم المميز عن كل شخص تباعداً وثانيهما : توسط ها التنبيه بينه وبين الوصف لأن الأصل في أي الإضافة لما أنه في غاية الإبهام فيحتاج إلى التمييز ، وأصل التمييز على ما بينا الإضافة ، فوسط بينهما لتعويضه عن الإضافة ، والتزم أيضاً حذف لام التعريف عند زوال أي فلا تقول : يا الرجل لأن في ذلك تطويلاً من غير فائدة ، فإنك لا تفيد باللام التنبيه الذي ذكرنا ، فقولك : يا رجل مفيد فلا حاجة إلى اللام فهو يوجب إسقاط اللام عند الإضافة المعنوية ، فإنها لما أفادت التعريف كان إثبات اللام تطويلاً من غير فائدة لكونه جمعاً بين المعرفين ، وقوله تعالى : {الثَّقَلانِ} المشهور أن المراد الجن والإنس وفيه وجوه أحدها : أنهما سميا بذلك لكونهما مثقلين بالذنوب ثانيهما : سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض فإن التراب وإن لطف في الخلق ليتم خلق آدم لكنه لم يخرج عن كونه ثقيلاً ، وأما النار فلما ولد فيها خلق الجن كثفت يسيراً ، فكما أن التراب لطف يسيراً فكذلك النار صارت ثقيلة ، فهما ثقلان فسميا بذلك ثالثها : الثقيل أحدهما : لا غير وسمي الآخر به للمجاورة والاصطحاب كمايقال : العمران والقمران وأحدهما عمر وقمر ، أو يحتمل أن يكون المراد العموم بالنوعين الحاصرين ، تقول : يا أيها الثقل الذي هو كذا ، والثقل الذي ليس كذا ، والثقل الأمر العظيم. قال عليه السلام : "إني تارك فيكم الثقلين".
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 363
365
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في وجه الترتيب وحسنه ، وذلك لأنه تعالى لماقال : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} (الرحمن : 31) وبينا أنه لم يكن له شغل فكأن قائلاً قال : فلم كان التأخير إذا لم يكن شغل هناك مانع ؟
فقال : المستعجل يستعجل. إما لخوف فوات الأمر بالتأخير وإما لحاجة في الحال ، وإما لمجرد الاختيار والإرادة على وجه التأخير ، وبين عدم الحاجة من قبل بقوله : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن : 26 ، 27) لأن ما يبقى بعد فناء الكل لا يحتاج إلى شيء ، فبين عدم الخوف من الفوات ، وقال : لا يفوتون ولا يقدرون على الخروج من السموات والأرض ، ولو أمكن خروجهم عنهما لما خرجوا عن ملك الله تعالى فهو آخذهم أين كانوا وكيف كانوا.
المسألة الثانية : المعشر الجماعة العظيمة ، وتحقيقه هو أن المعشر العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد ويقول : أحد عشر وإثنا عشر وعشرون وثلاثون ، / أي ثلاث عشرات فالمعشر كأنه محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
المسألة الثالثة : هذا الخطاب في الدنيا أو في الآخرة ؟
نقول : الظاهر فيه أنه في الآخرة ، فإن الجن والإنس يريدون الفرار من العذاب فيجدون سبعة صفوف من الملائكة محيطين بأقطار السموات والأرض ، والأولى ما ذكرنا أنه عام بمعنى لا مهرب ولا مخرج لكم عن ملك الله تعالى ، وأينما توليتم فثم ملك الله ، وأينما تكونوا أتاكم حكم الله.
المسألة الرابعة : ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس ههنا وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه } ؟
(الإسراء : 88) نقول : النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن ، والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن ، فقدم في كل موضع من يظن به القدرة على ذلك.
(1/4325)

المسألة الخامسة : ما معنى : {لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَـانٍ} ؟
نقول : ذلك يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون بياناً بخلاف ما تقدم أي ما تنفذون ولا تنفذون إلا بقوة وليس لكم قوة على ذلك. ثانيها : أن يكون على تقدير وقوع الأمر الأول ، وبيان أن ذلك لا ينفعكم ، وتقديره ما تنفذوا وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان الله ، كما يقول : خرج القوم بأهلهم أي معهم ثالثها : أن المراد من النفوذ ما هو المقصود منه ؟
وذلك لأن نفوذهم إشارة إلى طلب خلاصهم فقال : لا تنفذون من أقطار السموات لا تتخلصون من العذاب ولا تجدون ما تطلبون من النفود وهو الخلاص من العذاب إلا بسلطان من الله يجيركم وإلا فلا مجير لكم ، كما تقول : لا ينفعك البكاء إلا إذا صدقت وتريد به أن الصدق وحده ينفعك ، لا أنك إن صدقت فينفعك البكاء رابعها : أن هذا إشارة إلى تقرير التوحيد ، ووجهه هو كأنه تعالى قال : يا أيها الغافل لا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات والأرض فإذا أنت أبداً تشاهد دليلاً من دلائل الوحدانية ، ثم هب أنك تنفذ من أقطار السموات والأرض ، فاعلم أنك لا تنفذ إلا بسلطان تجده خارج السموات والأرض قاطع دال على وحدانيته تعالى والسلطان هو القوة الكاملة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 365
367
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها ؟
نقول : إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادي به يوم القيامة ، فكأنه تعالى قال : يوم يرسل عليكما شواظ من نار فلا يبقى لكما انتصار / إن استطعتما النفوذ فانفذا ، وإن قلنا : إن النداء في الدنيا ، فنقول قوله : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من الله فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم ، فكأنه قال : إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولا بد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن ، لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده ، ولا سبيل إليهما.
المسألة الثانية : كيف ثنى الضمير في قوله : {عَلَيْكُمَا} مع أنه جمع قبله بقوله : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} (الرحمن : 33) والخطاب مع الطائفتين وقال : {فَلا تَنتَصِرَانِ} وقال من قبل : {لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَـانٍ} ؟
(الرحمن : 33) نقول : فيه لطيفة ، وهي أن قوله : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى ، فقال : إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا ، ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر ، فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان ، وأماقوله تعالى : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار ، فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلاً ، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال : لا فرار لكم قبل الوقوع ، ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام والجواب الثاني : من حيث اللفظ ، هو أن الخطاب مع المعشر فقوله : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} أيها المعشر وقوله : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ليس خطاباً مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكوراً بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} وهذا يتأيد بقول تعالى : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} (الرحمن : 31) وحيث صرح بالنداء جمع الضمير ، وقال بعد ذلك : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} حيث لم يصرح بالنداء.
جزء : 29 رقم الصفحة : 367
المسألة الثالثة : ما الشواظ وما النحاس ؟
نقول : الشواظ لهب النار وهو لسانه ، وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب ، والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد ، وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار ، وأما النحاس ففيه وجهان ، أحدهما الدخان ، والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا ، ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد. وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره ، والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضاً. فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة ، والجن خفاف والنحاس ثقيل ، وكذلك إن قلنا : المراد من النحاس الدخان ، ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح.
(1/4326)

/ المسألة الرابعة : من قرأ بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : تقديره شيء من نحاس كقولهم : تقلدت سيفاً ورمحاً وثانيهما : وهو الأظهر أن يقول : الشواظ لم يكن إلا عندما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية ، وهو الدخان ، فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان ، وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب ، فإن قيل : على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان ، نقول : العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى ، لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور ، فلا يكون لها لهيب وهيبة ، وقوله تعالى : {وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} نفي لجميع أنواع الانتصار ، فلا ينتصر أحدهما بالآخر ، ولا هما بغيرهما ، وإن كان الكفار يقولون في الدنيا : {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} (القمر : 44) والانتصار التلبس بالنصرة ، يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها ، ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان ، والذي يقال فيه : إن الانتصار بمعنى الامتناع : {فَلا تَنتَصِرَانِ} بمعنى لا تمتنعان ، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبساً بالنصرة فهو ممتنع لذلك.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 367
368
إشارة إلى ما أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن ، فكأنه تعالى ذكر أولاً ما يخاف منه الإنسان ، ثم ذكر ما يخاف منه كل واحد ممن له إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أماكنهم بالشق ومساكن الجن والإنس بالخراب ، ويحتمل أن يقال : إنه تعالى لما قال : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن : 26) إشارة إلى سكان الأرض ، قال بعد ذلك : {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} بياناً لحال سكان السماء ، وفيه مسائل.
المسألة الأولى : الفاء في الأصل للتعقيب على وجوه ثلاثة منها : التعقيب الزماني للشيئين اللذين لا يتعلق أحدهما بالآخر عقلاً كقوله قعد زيد فقام عمرو ، لمن سألك عن قعود زيد وقيام عمر ، وإنهما كانا معاً أو متعاقبين ومنها : التعقيب الذهني للذين يتعلق أحدهما بالآخر كقولك : جاء زيد فقام عمرو إكراماً له إذ يكون في مثل هذا قيام عمرو مع مجيء زيد زماناً ومنها : التعقيب في القول كقولك : لا أخاف الأمير فالملك فالسلطان ، كأنك تقول : أقول لا أخاف الأمير ، وأقول لا أخاف الملك ، وأقول لا أخاف السلطان ، إذا عرفت هذا فالفاء هنا تحتمل الأوجه جميعاً ، أما الأول : فلأن إرسال الشواظ عليهم يكون قبل انشقاق السموات ، ويكون ذلك الإرسال / إشارة إلى عذاب القبر ، وإلى ما يكون عند سوق المجرمين إلى المحشر ، إذ ورد في التفسير أن الشواظ يسوقهم إلى المحشر ، فيهربون منها إلى أن يجتمعوا في موضع واحد ، وعلى هذا معناه يرسل عليكما شواظ ، فإذا انشقت السماء يكون العذاب الأليم ، والحساب الشديد على ما سنبين إن شاء الله وأما الثاني : فوجهه أن يقال : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فيكون ذلك سبباً لكون السماء تكون حمراء ، إشارة إلى أن لهيبها يصل إلى السماء ويجعلها كالحديد المذاب الأحمر ، وأما الثالث : فوجهه أن يقال : لما قال : {فَلا تَنتَصِرَانِ} (الرحمن : 35) أي في وقت إرسال الشواظ عليكما قال : فإذا انشقت السماء وصارت كالمهل ، وهو كالطين الذائب ، كيف تنتصران ؟
إشارة إلى أن الشواظ المرسل لهب واحد ، أو فإذا انشقت السماء وذابت ، وصارت الأرض والجو والسماء كلها ناراً فكيف تنتصران ؟
.
جزء : 29 رقم الصفحة : 368
(1/4327)

المسألة الثانية : كلمة (إذا) قد تستعمل لمجرد الظرف وقد تستعمل للشرط وقد تستعمل للمفاجأة وإن كانت في أوجهها ظرفاً لكن بينها فرق فالأول : مثل قوله تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } (الليل : 1 ، 2) والثاني : مثل قوله : إذا أكرمتني أكرمك ومن هذا الباب قوله تعالى : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه } (آل عمران : 159) وفي الأول لا بد وأن يكون الفعل في الوقت المذكور متصلاً به وفي الثاني لا يلزم ذلك ، فإنك إذا قلت : إذا علمتني تثاب يكون الثواب بعده زماناً لكن استحقاقه يثبت في ذلك الوقت متصلاً به والثالث : مثال ما يقول : خرجت فإذا قد أقبل الركب أما لو قال : خرجت إذا أقبل الركب فهو في جواب من يقول متى خرجت إذا عرفت هذا فنقول : على أي وجه استعمل (إذا) ههنا ؟
نقول : يحتمل وجهين أحدهما : الظرفية المجردة على أن الفاء للتعقيب الزماني ، فإن قوله : {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} بيان لوقت العذاب ، كأنه قال : إذا انشقت السماء يكون العذاب أي بعد إرسال الشواظ ، وعند انشقاق السماء يكون وثانيهما : الشرطية وذلك على الوجه الثالث وهو قولنا : {فَلا تَنتَصِرَانِ} عند إرسال الشواظ فكيف تنتصران إذا انشقت السماء ، كأنه قال : إذا انشقت السماء فلا تتوقعوا الانتصار أصلاً/ وأما الحمل على المفاجأة على أن يقال : يرسل عليكما شواظ فإذا السماء قد انشقت ، فبعيد ولا يحمل ذلك إلا على الوجه الثاني من أن الفاء للتعقيب الذهني.
المسألة الثالثة : ما المختار من الأوجه ؟
نقول : الشرطية وحينئذ له وجهان أحدهما : أن يكون الجزاء محذوفاً رأساً ليفرض السامع بعده كل هائل ، كما يقول القائل : إذا غضب السلطان على فلان لا يدري أحد ماذا يفعله ، ثم ربما يسكت عند قوله إذا غضب السلطان متعجباً آتياً بقرينة دالة على تهويل الأمر ، ليذهب السامع مع كل مذهب ، ويقول : كأنه إذا غضب السلطان يقتل ويقول الآخر : إذا غضب السلطان ينهب ويقول الآخر غير ذلك وثانيهما : ما بينا من بيان عدم الانتصار ويؤيد هذا قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ} إلى أن قال تعالى : {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَـافِرِينَ عَسِيرًا} (الفرقان : 25 ، 26) فكأنه تعالى / قال : إذا أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران ، فإذا انشقت السماء كيف ينتصران ؟
فيكون الأمر عسيراً ، فيكون كأنه قال : فإذا انشقت السماء يكون الأمر عسيراً في غاية العسر ، ويحتمل أن يقال : فإذا انشقت السماء يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه كما قال تعالى : {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} إلى أن قال : { يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـاقِيهِ} (الانشقاق : 1 ـ 6) الآية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 368
المسألة الرابعة : ما المعنى من الانشقاق ؟
نقول : حقيقته ذوبانها وخرابها كما قال تعالى : {يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ} (السماء : 104) إشارة إلى خرابها ويحتمل أن يقال : انشقت بالغمام كما قال تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ} (الفرقان : 25) وفيه وجوه منها أن قوله : {بِالْغَمَـامِ} أي مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا ههنا من الانفطار والخراب.
(1/4328)

المسألة الخامسة : ما معنى قوله تعالى : {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ؟
نقول : المشهور أنها في الحال تكون حمراء يقال : فرس ورد إذا أثبت للفرس الحمرة ، وحجرة وردة أي حمراء اللون. وقد ذكرنا أن لهيب النار يرتفح في السماء فتذوب فتكون كالصفر الذائب حمراء ، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال : وردة للمرة من الورود كالركعة والسجدة والجلسة والقعدة من الركوع والسجود والجلوس والقعود ، وحينئذ الضمير في كانت كما في قوله : {إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (يس : 53) أي الكائنة أو الداهية وأنث الضمير لتأنيث الظاهر وإن كان شيئاً مذكراً ، فكذا ههنا قال : {فَكَانَتْ وَرْدَةً} واحدة أي الحركة التي بها الانشقاق كانت وردة واحدة ، وتزلزل الكل وخرب دفعة ، والحركة معلومة بالانشقاق لأن المنشق يتحرك ، ويتزلزل ، وقوله تعالى : {كَالدِّهَانِ} فيه وجهان أحدهما : جمع دهن وثانيهما : أن الدهان هو الأديم الأحمر ، فإن قيل : الأديم الأحمر مناسب للوردة فيكون معناه كانت السماء كالأديم الأحمر ، ولكن ما المناسبة بين الوردة وبين الدهان ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : المراد من الدهان ما هو المراد من قوله تعالى : {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ} (المعارج : 8) وهو عكر الزيت وبينهما مناسبة ، فإن الورد يطلق على الأسد فيقال : أسد ورد ، فليس الورد هو الأحمر القاني والثاني : أن التشبيه بالدهن ليس في اللون بل في الذوبان والثالث : هو أن الدهن المذاب ينصب انصبابة واحدة ويذوب دفعة والحديد والرصاص لا يذوب غاية الذوبان ، فتكون حركة الدهن بعد الذوبان أسرع من حركة غيره فكأنه قال حركتها تكون وردة واحدة كالدهان المصبوبة صباً لا كالرصاص الذي يذوب منه ألطفه وينتفع به ويبقي الباقي ، وكذلك الحديد والنحاس ، وجمع الدهان لعظمة السماء وكثرة ما يحصل من ذوبانها لاختلاف أجزائها/ فإن الكواكب تخالف غيرها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 368
369
وفيه / وجهان أحدهما : لا يسأله أحد عن ذنبه ، فلا يقال : له أنت المذنب أو غيرك ، ولا يقال : من المذنب منكم بل يعرفونه بسواد وجوههم وغيره ، وعلى هذا فالضمير في ذنبه عائد إلى مضمر مفسر بما يعده ، وتقديره لا يسأل إنس عن ذنبه ولا جان يسأل ، أي عن ذنبه وثانيهما : معناه قريب من المعنى قوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الأنعام : 164) كأنه يقول : لا يسأل عن ذنبه مذنب إنس ولا جان وفيه إشكال لفظي ، لأن الضمير في ذنبه إن عاد إلى أمر قبله يلزم استحالة ما ذكرت من المعنى بل يلزم فساد المعنى رأساً لأنك إذا قلت : لا يسأل مسؤول واحد أو إنسي مثلاً عن ذنبه فقولك بعد إنس ولا جان ، يقتضي تعلق فعل بفاعلين وأنه محال ، والجواب عنه من وجهين أحدهما : أن لا يفرض عائداً وإنما يجعل بمعنى المظهر لا غير ويجعل عن ذنبه كأنه قال : عن ذنب مذنب ثانيهما : وهو أدق وبالقبول أحق أن يجعل ما يعود إليه الضمير قبل الفعل فيقال : تقديره فالمذنب يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، وفيه مسائل لفظية ومعنوية :
المسألة الأولى : اللفظية الفاء للتعذيب وأنه يحتمل أن يكون زمانياً كأنه يقول : فإذا انشقت السماء يقع العذاب ، فيوم وقوعه لا يسأل ، وبين الأحوال فاصل زماني غير متراخ ، ويحتمل أن يكون عقلياً كأنه يقول : يقع العذاب فلا يتأخر تعلقه بهم مقدار ما يسألون عن ذنبهم ، ويحتمل أن يكون أراد الترتيب الكلامي كأنه يقول : تهربون بالخروج من أقطار السموات ، وأقول لا تمتنعون عند انشقاق السماء ، فأقول : لا تمهلون مقدار ما تسألون.
(1/4329)

المسألة الثانية : ما المراد من السؤال ؟
نقول : المشهور ما ذكرنا أنهم لا يقال لهم : من المذنب منكم ، وهو على هذا سؤال استعلام ، وعلى الوجه الثاني سؤال توبيخ أي لا يقال له : لم أذنب المذنب ، ويحتمل أن يكون سؤال موهبة وشفاعة كما يقول القائل : أسألك ذنب فلان ، أي أطلب منك عفوه ، فإن قيل : هذا فاسد من وجوه أحدها : أن السؤال إذا عدى بعن لا يكون إلا بمعنى الاستعلام أو التوبيخ وإذا كان بمعنى لاستعطاء يعدى بنفسه إلى مفعولين فيقال : نسألك العفو والعافية ثانيها : الكلام لا يحتمل تقديراً ولا يمكن تقديره بحيث يطابق الكلام ، لأن المعنى يصير كأنه يقول : لا يسأل واحد ذنب أحد بل أحد لا يسأل ذنب نفسه ثالثها : قوله : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41) لا يناسب ذلك نقول : أما الجواب عن الأول فهو أن السؤال ربما يتعدى إلى مفعولين غير أنه عند الاستعلام يحذف الثاني ويؤتى بما يتعلق به يقال : سألته عن كذا أي سألته الإخبار عن كذا فيحذف الإخبار ويكتفي بما يدل عليه ، وهو الجار والمجرور فيكون المعنى طلبت منه أن يخبرني عن كذا وعن الثاني : أن التقدير لا يسأل إنس ذنبه ولا جان ، والضمير يكون عائداً إلى المضمر لفظاً لا معنى ، كما نقول : قبلوا أنفسهم ، فالضمير في أنفسهم عائد إلى ما في قولك : قتلوا لفظاً لا معنى لأن ما في قتلوا ضمير الفاعل ، وفي أنفسهم ضمير المفعول ، إذ الواحد لا يقتل نفسه وإنما المراد كل واحد قتل واحداً غيره ، فكذلك (كل) إنس لا يسأل (عن) ذنبه أي ذنب إنس غيره ، / ومعنى الكلام لا يقال : لأحد اعف عن فلان ، لبيان أن لا مسئول في ذلك الوقت من الإنس والجن ، وإنما كلهم سائلون الله والله تعالى حينئذ هو المسئول.
جزء : 29 رقم الصفحة : 369
وأما المعنوية فالأولى : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92) وبينه وبين قوله تعالى : {وَقِفُوهُم إِنَّهُم مَّسْـاُولُونَ} ؟
(الصافات : 24) نقول : على الوجه المشهور جوابان أحدهما : أن للآخرة مواطن. فلا يسأل في موطن ، ويسأل في موطن وثانيهما : وهو أحسن لا يسأل عن فعله أحد منكم ، ولكن يسأل بقوله : لم فعل الفاعل فلا يسأل سؤال استعلام ، بل يسأل سؤال توبيخ ، وأما على الوجه الثاني فلا يرد السؤال ، فلا حاجة إلى بيان الجمع.
والثانية : ما الفائدة في بيان عدم السؤال ؟
نقول : على الوجه المشهور فائدته التوبيخ لهم كقوله تعالى : {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس : 40 ، 41) وقوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (آل عمران : 106) وعلى الثاني بيان أن لا يؤخذ منهم فدية ، فيكون ترتيب الآيات أحسن ، لأن فيها حينئذ بيان أن لا مفر لهم بقوله : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا } (الرحمن : 33) ثم بيان أن لا مانع عنهم بقوله : {فَلا تَنتَصِرَانِ} (الرحمن : 35) ثم بيان أن لا فداء لهم عنهم بقوله : لا يسأل ، وعلى الوجه الأخير ، بيان أن لا شفيع لهم ولا راحم وفائدة أخرى : وهو أنه تعالى لما بين أن العذاب في الدنيا مؤخر بقوله : {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} (الرحمن : 31) بين أنه في الآخرة لا يؤخر بقدر ما يسأل وفائدة أخرى : وهو أنه تعالى لما بين أن لا مفر لهم بقول : {لا تَنفُذُونَ} (الرحمن : 33) ولا ناصر لهم يخلصهم بقوله : {فَلا تَنتَصِرَانِ} بين أمراً آخر ، وهو أن يقول المذنب : ربما أنجو في ظل خمول واشتباه حال ، فقال : ولا يخفى أحد من المذنبين بخلاف أمر الدنيا ، فإن الشرذمة القليلة ربما تنجو من العذاب العام بسبب خمولهم.
[بم وقال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 369
369
اتصال الآيات بما قبلها على الوجه المشهور ، ظاهر لا خفاء فيه ، إذ قوله : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ} كالتفسير وعلى الوجه الثاني من أن المعنى لا يسأل عن ذنبه غيره كيف قال : يعرف ويؤخذ وعلى قولنا : لا يسأل سؤال حط وعفو أيضاً كذلك ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : السيما كالضيزى وأصله سومى من السومة وهو يحتمل وجوهاً أحدها : كي على جباههم ، قال تعالى : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} (التوبة : 35) ثانيها : سواد كما قال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (آل عمران : 106) وقال تعالى : {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } (الزمر : 60) ثالثها : غبرة وقترة.
(1/4330)

المسألة الثانية : ما وجه إفراد (يؤخذ) مع أن (المجرمين) جمع ، وهم المأخوذون ؟
نقول فيه/ وجهان أحدهما : أن يؤخذ متعلق بقوله تعالى : {بِالنَّوَاصِى} كما يقول القائل ذهب بزيد وثانيهما : أن يتعلق بما يدل عليه يؤخذ ، فكأنه تعالى قال ، فيؤخوذون بالنواصي ، فإن قيل كيف عدى الأخذ بالباء وهو يتعدى بنفسه قال تعالى : {لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} (الحديد : 15) وقال : {خُذْهَا وَلا تَخَفْ } (طه : 21) نقول : الأخذ يتعدى بنفسه كما بينت ، وبالباء أيضاً كقوله تعالى : {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } (طه : 94) لكن في الاستعمال تدقيق ، وهو أن المأخوذ إن كان مقصوداً بالأخذ توجه الفعل نحوه فيتعدى إليه من غير حرف ، وإن كان المقصود بالأخذ غير الشيء المأخوذ حساً تعدى إليه بحرف ، لأنه لما لم يكن مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ ، وكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه ، فذكر الحرف ، ويدل على ما ذكرنا استعمال القرآن ، فإن الله تعالى قال : {خُذْهَا وَلا تَخَفْ } في العصا وقال تعالى : {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (النساء : 102) {أَخَذَ الالْوَاحَ } (الأعراف : 154) إلى غير ذلك ، فلما كان ما ذكر هو المقصود بالأخذ عدى الفعل إليه من غير حرف ، وقال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 369
{لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } وقال تعالى : {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ} ويقال : خذ بيدي وأخذ الله بيدك إلى غير ذلك مما يكون المقصود بالأخذ غير ما ذكرنا ، فإن قيل : ما الفائدة في توجيه الفعل إلى غير ما توجه إليه الفعل الأول ، ولم قال : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى} ؟
نقول فيه بيان نكالهم وسوء حالهم ونبين هذا بتقديم مثال وهو أن القائل إذا قال ضرب زيد فقتل عمرو فإن المفعول في باب ما لم يسم فاعله قائم مقام الفاعل ومشبه به ولهذا أعرب إعرابه فلو لم يوجه يؤخذ إلى غير ما وجه إليه يعرف لكان الأخذ فعل من عرف فيكون كأنه قال : يعرف المجرمين عارف فيأخذهم ذلك العارف ، لكن المجرم يعرفه بسيماه كل أحد ، ولا يأخذه كل من عرفه بسيماه ، بل يمكن أن يقال قوله : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} المراد يعرفهم الناس والملائكة الذين يحتاجون في معرفتهم إلى علامة ، أما كتبة الأعمال والملائكة الغلاظ الشداد فيعرفونهم كما يعرفون أنفسهم من غير احتياج إلى علامة ، وبالجملة فقوله : يعرف معناه يكونون معروفين عند كل أحد فلو قال : يأخذون يكون كأنه قال : فيكونون مأخوذين لكل أحد ، كذلك إذا تأملت في قول القائل : شغلت فضرب زيد علمت عند توجه التعليق إلى مفعولين دليل تغاير الشاغل والضارب لأنه يفهم منه أنى شغلني شاغل فضرب زيداً ضارب/ فالضارب غير ذلك الشاغل ، وإذا قلت : شغل زيد فضرب لا يدل على ذلك حيث توجه إلى مفعول واحد ، وإن كان يدل فلا يظهر مثل ما يظهر عند توجهه إلى مفعولين ، أما بيان النكال فلأنه لما قال : {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى} بين كيفية الأخذ وجعلها مقصود الكلام ، ولو قال : فيؤخذون لكان الكلام يتم عنده ويكون قوله : {بِالنَّوَاصِى} فائدة جاءت بعد تمام الكلام فلا يكون هو المقصود ، وأما إذا قال : فيؤخذ ، فلا بد له من أمر يتعلق به فينتظر السامع وجود ذلك ، فإذا قال : {بِالنَّوَاصِى} يكون هذا هو المقصود ، وفي كيفية الأخذ ظهور نكالهم لأن في نفس الأخذ بالناصية إذلالاً وإهانة ، وكذلك الأخذ بالقدم ، لا يقال قد ذكرت أن التعدية بالباء إنما تكون حيث لا يكون المأخوذ مقصوداً والآن ذكرت أن الأخذ بالنواصي هو المقصود لأنا نقول : لا تنافي بينهما فإن الأخذ بالنواصي مقصود الكلام والناصية ما أخذت لنفس كونها / ناصية وإنما أخذت ليصير صاحبها مأخوذاً ، وفرق بين مقصود الكلام وبين الأخذ ، وقوله تعالى : {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ} فيه وجهان أحدهما : يجمع بين ناصيتهم وقدمهم ، وعلى هذا ففيه قولان : أحدهما : أن ذلك قد يكون من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم من جانب الظهر فتخرج صدورهم نتأ والثاني : أن ذلك من جانب وجوههم فتكون رءوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة الوجه الثاني : أنهم يسحبون سحباً فبعضهم يؤخذ بناصيته وبعضهم يجر برجله ، والأول أصح وأوضح.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 369
369
(1/4331)

والمشهور أن ههنا إضماراً تقديره يقال لهم : هذه جهنم ، وقد تقدم مثله في مواضع. ويحتمل أن يقال : معناه هذه صفة جهنم فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ويكون ما تقدم هو المشار إليه ، والأقوى أن يقال : الكلام عند النواصي والأقدام قد تم ، وقوله : {هَـاذِه جَهَنَّمُ} لقربها كما يقال هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه ، فكأنه قال جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم ، ويلائمه قوله : {يُكَذِّبُ} لأن الكلام لو كان بإضمار يقال ، لقال تعالى لهم : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون لأن في هذا الوقت لا يبقى مكذب ، وعلى هذا التقدير يضمر فيه : كان يكذب.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 369
371
هو كقوله تعالى : {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} (الكهف : 29) وكقوله تعالى : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} (السجدة : 20) لأنهم يخرجون فيستغيثون فيظهر لهم من بعد شيء مائع هو صديدهم المغلي فيظنونه ماء ، فيردون عليه كما يرد العطشان فيقعون ويشربون منه شرب الهيم ، فيجدونه أشد حراً فيقطع أمعاءهم ، كما أن العطشان إذا وصل إلى ماء مالح لا يبحث عنه ولا يذوقه ، وإنما يشربه عباً فيحرق فؤاده ولا يسكن عطشه. وقوله : {حَمِيمٍ} إشارة إلى ما فعل فيه من الإغلاء ، وقوله تعالى : {ءَانٍ} إشارة إلى ما قبله ، وهو كما يقال : قطعته فانقطع فكأنه حمته النار فصار في غاية السخونة وآن الماء إذا انتهى في الحر نهاية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 371
371
وفيه بحث وهو أن هذه الأمور ليست من الآلاء فكيف قال : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ} ؟
نقول : الجواب من وجهين أحدهما : ما ذكرناه وثانيهما : أن المراد : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} مما أشرنا إليه في أول السورة. {تُكَذِّبَانِ} فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب ، وكذلك نقول : في قوله : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) هي الجنان ثم إن تلك الآلاء لا ترى ، وهذا ظاهر لأن الجنان غير مرئية ، وإنما حصل الإيمان بها بالغيب ، فلا / يحسن الاستفهام بمعنى الإنكار مثل ما يحسن الاستفهام عن هيئة السماء والأرض والنجم والشجر والشمس والقمر وغيرها مما يدرك ويشاهد ، لكن النار والجنة ذكرتا للترهيب والترغيب كما بينا أن المراد فبأيهما تكذبان فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 371
372
وفيه لطائف : الأولى : التعريف في عذاب جهنم قال : {هَـاذِه جَهَنَّمُ} (الرحمن : 43) والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد ، وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ثم بعدها مراتب وزيادات الثانية : قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق : 45) أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي ، والخشية خوف سببه عظمة المخشى ، قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم ، بل لعظمة جانب الله ، وكذلك قوله : {مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} (المؤمنون : 57) وقال تعالى : {لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه } (الحشر : 21) أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته ، وكذلك قوله تعالى : {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه } (الأحزاب : 37) وإنما قلنا : إن الخشية تدل على ما ذكرنا لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في خ ش ي ، وقال تعالى في الخوف : {وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا} (طه : 21) لما كان الخوف يضعف في موسى ، وقال : {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ } (العنكبوت : 33) وقال : {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (الشعراء : 14) وقال إني : {خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى} (مريم : 5) ويدل عليه تقاليب خ وف فإن قولك خفي قريب منه ، والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضاً ، وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي ، والعبد من الله خائف وخاش ، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف ، وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش ، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف ، فلهذا قال : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه }
جزء : 29 رقم الصفحة : 372
(1/4332)

جعله منحصراً فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه ، وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته ، بل تزداد خشيتهم ، وإما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه ، فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك ، فلذلك قال تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي ؟
الثالثة : لما ذكر الخوف ذكر المقام ، وعند الخشية ذكر اسمه الكريم فقال : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} وقال : {لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه } وقال عليه السلام : "خشية الله رأس كل حكمة" لأنه يعرف ربه بالعظمة فيخشاه. وفي مقام ربه قولان : أحدهما : مقام ربه أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه ، وهو مقام عبادته كما يقال : هذا معبد الله وهذا معبد الباري أي المقام الذي يعبد الله العبد فيه والثاني : مقام ربه الموضع الذي فيه الله قائم على عباده من قوله تعالى : / {أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (الرعد : 33) أي حافظ ومطلع أخذاً من القائم على الشيء حقيقة الحافظ له فلا يغيب عنه ، وقيل : مقام مقحم يقال : فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلاناً وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي ، لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي الله فالخاشي لو قيل له : افعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم والخائف ربما كان يقدم على ملاذ نفسه لو رفع عنه القلم وكيف لا/ ويقال : خاصة الله من خشية الله في شغل شاغل عن الأكل والشرب واقفون بين يدي الله سابحون في مطالعة جماله غائصون في بحار جلاله ، وعلى الوجه الثاني قرب الخائف من الخاشي وبينهما فرق الرابعة : في قوله : {جَنَّتَانِ} وهذه اللطيفة نبينها بعدما نذكر ما قيل في التثنية ، قال بعضهم : المراد جنة واحدة كما قيل في قوله : {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} (ق : 24) وتمسك بقول القائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 372
ومهمهين سرت مرتين
قطعته بالسهم لا السهمين
فقال : أراد مهمهاً واحداً بدليل توحيد الضمير في قطعته وهو باطل ، لأن قوله بالسهم يدل على أن المراد مهمهان ، وذلك لأنه لو كان مهمهاً واحداً لما كانوا في قطعته يقصدون جدلاً ، بل يقصدون التعجب وهو إرادته قطع مهمهين بأهبة واحدة وسهم واحد وهو من العزم القوي ، وأما الضمير فهو عائد إلى مفهوم تقديره قطعت كليهما وهو لفظ مقصور معناه التثنية ولفظه للواحد ، يقال : كلاهما معلوم ومجهول ، قال تعالى : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا} (الكهف : 33) فوحد اللفظ ولا حاجة ههنا إلى التعسف ، ولا مانع من أن يعطي الله جنتين وجناناً عديدة ، وكيف وقد قال بعد : {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} (الرحمن : 48) وقال : فيهما. والثاني وهو الصحيح أنهما جنتان وفيه وجوه أحدها : أنهما جنة للجن وجنة للإنس لأن المراد هذان النوعان وثانيهما : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي لأن التكليف بهذين النوعين وثالثها : جنة هي جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء ، ويحتمل أن يقال : جنتان جنة جسمية والأخرى روحية فالجسمية في نعيم والروحية في روح فكان كما قال تعالى : {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة : 48) وذلك لأن الخائف من المقربين والمقرب في روح وريحان وجنة نعيم وأما اللطيفة : فنقول : لما قال تعالى في حق المجرم إنه يطوف بين نار وبين حميم آن ، وهما نوعان ذكر لغيره وهو الخائف جنتين في مقابلة ما ذكر في حق المحرم ، لكنه ذكر هناك أنهم يطوفون فيفارقون عذاباً ويقعون في الآخر ، ولم يقل : ههنا يطوفون بين الجنتين بل جعلهم الله تعالى ملوكاً وهم فيها يطاف عليهم ولا يطاف بهم احتراماً لهم وإكراماً في حقهم ، وقد ذكرنا في قوله تعالى : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } (الرعد : 35) وقوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ} (الذاريات : 15) أنه تعالى ذكر الجنة والجنات ، فهي لاتصال أشجارها ومساكنها وعدم وقوع الفاصل بينهما كمهامه وقفار صارت كجنة واحدة ، ولسعتها وتنوع أشجارها وكثرة مساكنها كأنها جنات ، ولاشتمالها على ما تلتذ به الروح والجسم كأنها جنتان ، فالكل عائد إلى صفة مدح.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 372
374
(1/4333)

/ هي جمع فنن أي ذواتا أغصان أو جمع فن أي فيهما فنون من الأشجار وأنواع من الثمار. فإن قيل : أي الوجهين أقوى ؟
نقول : الأول لوجهين أحدهما : أن الأفنان في جمع فنن هو المشهور والفنون في جمع الفن كذلك ، ولا يظن أن الأفنان والفنون جمع فن بل كل واحد منهما جمع معرف بحرف التعريف والأفعال في فعل كثير والفعول في فعل أكثر ثانيهما : قوله تعالى : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن : 52) مستقل بما ذكر من الفائدة ، ولأن ذلك فيما يكون ثابتاً لا تفاوت فيه ذهناً ووجوداً أكثر ، فإن قيل : كيف تمدح بالأفنان والجنات في الدنيا ذوات أفنان كذلك ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : أن الجنات في الأصل ذوات أشجار ، والأشجار ذوات أغصان ، والأغصان ذوات أزهار وأثمار ، وهي لتنزه الناظر إلا أن جنة الدنيا لضرورة الحاجة وجنة الآخرة ليست كالدنيا فلا يكون فيها إلا ما فيه اللذة وأما الحاجة فلا ، وأصول الأشجار وسوقها أمور محتاج إليها مانعة للإنسان عن التردد في البستان كيفما شاء ، فالجنة فيها أفنان عليها أوراق عجيبة ، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ ، ويدل عليه أنه تعالى لم يصف الجنة إلا بما فيه اللذة بقوله : {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} أي الجنة هي ذات فنن غير كائن على أصل وعرف بل هي واقفة في الجو وأهلها من تحتها والثاني : من الوجهين هو أن التنكير للأفنان للتكثير أو للتعجب.
جزء : 29 رقم الصفحة : 374
376
أي في كل واحدة منهما عين جارية ، كما قال تعالى : {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وفي كل واحدة منهما من الفواكه نوعان ، وفيها مسائل بعضها يذكر عند تفسير قوله تعالى : {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن : 66 ، 68) وبعضها يذكر ههنا.
المسألة الأولى : هي أن قوله : {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} (الرحمن : 48) و{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} كلها أوصاف للجنتين المذكورتين فهو كالكلام الواحد تقديره : جنتان ذواتا أفنان ، ثابت فيهما عينان ، كائن فيهما من كل فاكهة زوجان ، فإن قيل : ما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثلاث مرات مع أنه في ذكر العذاب ما فصل بين كلامين بها حيث قال : {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} (الرحمن : 35) مع أن إرسال نحاس غير / إرسال شواظ ، وقال : {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 44) مع أن الحميم غير الجحيم ، وكذا قال تعالى : {هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} (الرحمن : 43) وهو كلام تام ، وقوله تعالى : {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 44) كلام آخر ولم يفصل بينهما بالآية المذكورة ؟
نقول : فيه تغليب جانب الرحمة ، فإن آيات العذاب سردها سرداً وذكرها جملة ليقصر ذكرها ، والثواب ذكره شيئاً فشيئاً ، لأن ذكره يطيب للسامع فقال بالفصل وتكرار عود الضمير إلى الجنس بقوله : {فِيهِمَا عَيْنَانِ} ، {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ} لأن إعادة ذكر المحبوب محبوب ، والتطويل بذكر اللذات مستحسن.
جزء : 29 رقم الصفحة : 376
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة عين واحدة كما مر ، وقوله : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} معناه كل واحدة منهما زوج ، أو معناه في كل واحدة منهما من الفواكه زوجان ، ويحتمل أن يكون المراد مثل ذلك أي في كل واحدة من الجنتين زوج من كل فاكهة ففيهما جميعاً زوجان من كل فاكهة ، وهذا إذا جعلنا الكنايتين فيهما للزوجين ، أو نقول : من كل فاكهة لبيان حال الزوجين ، ومثاله إذا دخلت من على ما لا يمكن أن يكون كائناً في شيء كقولك : في الدار من الشرق رجل ، أي فيها رجل من الشرق ، ويحتمل أن يكون المراد في كل واحدة منها زوجان ، وعلى هذا يكون كالصفة بما يدل عليه من كل فاكهة كأنه قال : فيهما من كل فاكهة ، أي كائن فيهما شيء من كل فاكهة ، وذلك الكائن زوجان ، وهذا بين فيما تكون من داخله على ما لا يمكن أن يكون هناك كائن في الشيء غيره ، كقولك : في الدار من كل ساكن ، فإذا قلنا : فيهما من كل فاكهة زوجان الثالث : عند ذكر الأفنان لو قال : فيهما من كل فاكهة زوجان كان متناسباً لأن الأغصان عليها الفواكه ، فما الفائدة في ذكر العينين بين الأمرين المتصل أحدهما بالآخر ؟
نقول : جرى ذكر الجنة على عادة المتنعمين ، فإنهم إذا دخلوا البستان لا يبادرون إلى أكل الثمار بل يقدمون التفرج على الأكل ، مع أن الإنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة مؤلمة فكيف في الجنة فذكر ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار ، وجريان الأنهار ، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار ، فسبحان من يأتي بالآي بأحسن المعاني في أبين المباني.
(1/4334)

[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 376
377
وفيه مسائل نحوية ولغوية ومعنوية.
المسألة الأولى من النحوية : هو أن المشهور أن (متكئين) حال وذو الحال من في قوله : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه } (الرحمن : 46) والعامل ما يدل عليه اللام الجارة تقديره لهم في حال الاتكاء جنتان /وقال صاحب الكشاف : يحتمل أن يكون نصباً على المدح ، وإنما حمله على هذا إشكال في قول من قال : إنه حال وذلك لأن الجنة ليست لهم حال الإتكاء بل هي لهم في كل حال فهي قبل الدخول لهم ، ويحتمل أن يقال : هو حال وذو الحال ما تدل عليه الفاكهة. لأن قوله تعالى : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن : 52) يدل على متفكهين بها كأنه قال : يتفكه المتفكهون بها ، متكئين ، وهذا فيه معنى لطيف ، وذلك لأن الأكل إن كان ذليلاً كالخول والخدم والعبيد والغلمان ، فإنه يأكل قائماً ، وإن كان عزيزاً فإن كان يأكل لدفع الجوع يأكل قاعداً ولا يأكل متكئاً إلا عزيز متفكه ليس عند جوع يقعده للأكل ، ولا هنالك من يحسمه ، فالتفكه مناسب للإتكاء.
المسألة الثانية من المسائل النحوية : {عَلَى فُرُشٍ} متعلق بأي فعل هو ؟
إن كان متعلقاً بما في {مُتَّكِـاِينَ} ، حتى يكون كأنه يقول : يتكئون على فرش كما كان يقال : فلان اتكأ على عصاه أو على فخذيه فهو بعيد لأن الفراش لا يتكأ عليه ، وإن كان متعلقاً بغيره فماذا هو ؟
نقول : متعلق بغيره تقديره يتفكه الكائنون على فرش متكئين من غير بيان ما يتكئون عليه ، ويحتمل أن يكون اتكاؤهم على الفرش غير أن الأظهر ما ذكرنا ليكون ذلك بياناً لما تحتهم وهم بجميع بدنهم عليه وهو أنعم وأكرم لهم.
المسألة الثالثة : الظاهر أن لكل واحد فرشاً كثيرة لا أن لكل واحد فراشاً فلكلهم فرش عليها كائنون.
المسألة الرابعة لغوية : الاستبرق هو الديباج الثخين وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم ، استعمل الاسم المعجم فيه غير أنهم تصرفوا فيه تصرفاً وهو أن اسمه بالفارسية ستبرك بمعنى ثخين تصغير "ستبر" فزادوا فيه همزة متقدمة عليه ، وبدلوا الكاف بالقاف ، أما الهمزة ، فلأن حركات أوائل الكلمة في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع فصارت كالسكون ، فأثبتوا فيه همزة كما أثبتوا همزة الوصل عند سكون أول الكلمة ، ثم إن البعض جعلوها همزة وصل وقالوا : {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } والأكثرون جعلوها همزة قطع لأن أول الكلمة في الأصل متحرك لكن بحركة فاسدة فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة وتمكنهم من تسكين الأول وعند تساوي الحركة ، فالعود إلى السكون أقرب ، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ولا تبدل حركة بحركة ، وأما القاف فلأنهم لو تركوا الكاف لاشتبه ستبرك بمسجدك ودارك ، فأسقطوا منه الكاف التي هي على لسان العرب في آخر الكلم للخطاب وأبدلوها قافاً ثم عليه سؤال مشهور ، وهو أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين ، وهذا ليس بعربي ، والجواب الحق أن اللفظة في أصلها لم تكن بين العرب بلغة ، وليس المراد أنه أنزل بلغة هي في أصل وضعها على لسان العرب ، بل المراد أنه منزل بلسان لا يخفى معناه على أحد من العرب ولم يستعمل فيه لغة لم تتكلم العرب بها ، فيصعب عليهم مثله لعدم مطاوعة لسانهم التكلم بها فعجزهم عن مثله ليس إلا لمعجز.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 377
المسألة الخامسة : معنوية الإتكاء من الهيئات الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب ، فالمتكىء تكون أمور جسمه على ما ينبغي وأحوال قلبه على ما ينبغي/ لأن العليل يضطجع ولا يستلقي أو يستند إلى شيء على حسب ما يقدر عليه للاستراحة ، وأما الإتكاء بحيث يضع كفه تحت رأسه ومرفقه على الأرض ويجافي جنبيه عن الأرض فذاك أمر لا يقدر عليه ، وأما مشغول القلب في طلب شيء فتحركه تحرك مستوفز.
المسألة السادسة : قال أهل التفسير قوله : {بَطَآاـاِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } يدل على نهاية شرفها فإن ما تكون بطائنها من الإستبرق تكون ظهائرها خيراً منها ، وكأن شيء لا يدركه البصر من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم ، وفيه وجه آخر معنوي وهو أن أهل الدنيا يظهرون الزينة ولا يتمكنون من أن يجعلوا البطائن كالظهائر ، لأن غرضهم إظهار الزينة والبطائن لا تظهر ، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب ، فلما لم يحصل في جعل البطائن من الديباج مقصودهم وهو الإظهار تركوه ، وفي الآخرة الأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظهائر فذكر البطائن.
(1/4335)

المسألة السابعة : قوله تعالى : {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} فيه إشارة إلى مخالفتها لجنة دار الدنيا من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الثمرة في الدنيا على رءوس الشجرة والإنسان عند الاتكاء يبعد عن رءوسها وفي الآخرة هو متكىء والثمرة تنزل إليه ثانيها : في الدنيا من قرب من ثمرة شجرة بعد عن الأخرى وفي الآخرة كلها دان في وقت واحد ومكان واحد ، وفي الآخرة المستقر في جنة عنده جنة أخرى ثالثها : أن العجائب كلها من خواص الجنة فكان أشجارها دائرة عليهم ساترة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في الدنيا وجناتها وفي الدنيا الإنسان متحرك ومطلوبه ساكن ، وفيه الحقيقة وهي أن من لم يكسل ولم يتقاعد عن عبادة الله تعالى ، وسعى في الدنيا في الخيرات انتهى أمره إلى سكون لا يحوجه شيء إلى حركة ، فأهل الجنة إن تحركوا تحركوا لا لحاجة وطلب ، وإن سكنوا سكنوا لا لاستراحة بعد التعب ، ثم إن الولي قد تصير له الدنيا أنموذجاً من الجنة ، فإنه يكون ساكناً في بيته ويأتيه الرزق متحركاً إليه دائراً حواليه ، يدلك عليه قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } (آل عمران : 37).
المسألة الثامنة : الجنتان إن كانتا جسميتين فهو أبداً يكون بينهما وهما عن يمينه وشماله هو يتناول ثمارهما وإن كانت إحداهما روحية والأخرى جسمية فلكل واحد منهما فواكه وفرش تليق بها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 377
379
/ وفيه مباحث :
الأول : في الترتيب وأنه في غاية الحسن لأنه في أول الأمر بين المسكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزه به فإن من يدخل بستاناً يتفرج أولاً فقال : {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} (الرحمن : 48 ، 50) ثم ذكر ما يتناول من المأكول فقال : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ} (الرحمن : 52) ثم ذكر موضع الراحة بعد التناول وهو الفراش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
الثاني : {فِيهِنَّ} الضمير عائد إلى ماذا ؟
نقول : فيه ثلاثة أوجه أحدها : إلى الآلاء والنعم أي قاصرات الطرف ثانيها : إلى الفراش أي في الفرش قاصرات وهما ضعيفان ، أما الأول فلأن اختصاص القاصرات بكونهن في الآلاء مع أن الجنتين في الآلاء والعينين فيهما والفواكه كذلك لا يبقى له فائدة ، وأما الثاني فلأن الفرش جعلها ظرفهم حيث قال : {مُتَّكِـاِينَ عَلَى فُرُشٍ} (الرحمن : 54) وأعاد الضمير إليها بقوله : {بَطَآاـاِنُهَا} (الرحمن : 54) ولم يقل : بطائنهن ، فقوله {فِيهِنَّ} يكون تفسيراً للضمير فيحتاج إلى بيان فائدة لأنه تعالى قال بعد هذا مرة أخرى : {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} (الرحمن : 70) ولم يكن هناك ذكر الفرش فالأصح إذن هو الوجه الثالث : وهو أن الضمير عائد إلى الجنتين ، وجمع الضمير ههنا وثنى في قوله : {فِيهِمَا عَيْنَانِ} (الرحمن : 50) و: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ} (الرحمن : 52) وذلك لأنا بينا أن الجنة لها اعتبارات ثلاثة أحدها : اتصال أشجارها وعدم وقوع الفيافي والمهامة فيها والأراضي الغامرة ، ومن هذا الوجه كأنها جنة واحدة لا يفصلها فاصل وثانيها : اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات ، فإن فيها ما في الدنيا ، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف ، ومالا يعرف ، وفيها ما يقدر على وصفه ، وفيها مالا يقدر ، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها على النوعين كأنها جنتان وثالثها : لسعتها وكثرة أشحارها وأماكنها وأنهارها ومساكنها كأنها جنات ، فهي من وجه جنة واحدةومن وجه جنتان ومن وجه جنات. إذا ثبت هذا فنقول : اجتماع النسوان للمعاشرة مع الأزواج والمباشرة في الفراش في موضع واحد في الدنيا لا يمكن ، وذلك لضيق المكان ، أو عدم الإمكان أو دليل ذلة النسوان ، فإن الرجل الواحد لا يجمع بين النساء في بيت إلا إذا كن جواري غير ملتفت إليهن ، فأما إذا كانت كل واحدة كبيرة النفس كثيرة المال فلا يجمع بينهن ، واعلم أن الشهوة في الدنيا كما تزداد بالحسن الذي في الأزواج تزداد بسبب العظمة وأحوال الناس في أكثر الأمر تدل عليه ، إذا ثبت هذا فنقول : الحظايا في الجنة يجتمع فيهن حسن الصورة والجمال والعز والشرف والكمال ، فتكون الواحدة لها كذا وكذا من الجواري والغلمان فتزداد اللذة بسبب كمالها ، فإذن ينبغي أن يكون لكل واحدة ما يليق بها من المكان الواسع فتصير الجنة التي هي واحدة من حيث الاتصال كثيرة من حيث تفرق المساكن فيها فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 379
(1/4336)

{فِيهِنَّ} وأما الدنيا فليس فيها تفرق المساكن دليلاً للعظمة واللذة فقال {فِيهِمَا} (الرحمن : 50) وهذا من اللطائف الثالث : قاصرات الطرف صفة لموصوف حذف ، وأقيمت الصفة مكانه ، والموصوف النساء أو الأزواج كأنه قال فيهن نساء قاصرات الطرف وفيه لطيفة : فإنه تعالى لم يذكر النساء إلا بأوصافهن ولم يذكر اسم الجنس فيهن ، فقال تارة : {وَحُورٌ عِينٌ} (الواقعة : 22) / وتارة : {عُرُبًا أَتْرَابًا} (الرحمن : 56) وتارة : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} (الرحمن : 56) ولم يذكر نساء كذا وكذا لوجهين أحدهما : الإشارة إلى تنحدرهن وتسترهن ، فلم يذكرهن باسم الجنس لأن اسم الجنس يكشف من الحقيقة مالا يكشفه الوصف فإنك إذا قلت المتحرك المريد الآكل الشارب لا تكون بينته بالأوصاف الكثيرة أكثر مما بينته بقولك : حيوان وإنسان وثانيهما : إعظاماً لهن ليزداد حسنهن في أعين الموعودين بالجنة فإن بنات الملوك لا يذكرن إلا بالأوصاف.
المسألة الرابعة : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} من القصر وهو المنع أي المانعات أعينهن من النظر إلى الغير ، أو من القصور ، وهو كون أعينهن قاصرة لا طماح فيها للغير ، أقول والظاهر أنه من القصر إذ القصر مدح والقصور ليس كذلك ، ويحتمل أن يقال : هو من القصر بمعنى أنهن قصرن أبصارهن ، فأبصارهن مقصورة وهن قاصرات فيكون من إضافة الفاعل إلى المفعول والدليل عليه هو أن القصر مدح والقصور ليس كذلك ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أنه تعالى قال من بعد هذه : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} (الرحمن : 72) فهن مقصورات وهن قاصرات ، وفيه وجهان أحدهما : أن يقال : هن قاصرات أبصارهن كما يكون شغل العفائف ، وهن قاصرات أنفسهن في الخيام كما هو عادة المخدرات لأنفسهن في الخيام ولأبصارهن عن الطماح وثانيهما : أن يكون ذلك بياناً لعظمتهن وعفافهن وذلك لأن المرأة التي لا يكون لها رادع من نفسها ولا يكون لها أولياء يكون فيها نوع هوان ، وإذا كان لها أولياء أعزة امتنعت عن الخروج والبروز ، وذلك يدل على عظمتهن ، وإذا كن في أنفسهن عند الخروج لا ينظرن يمنة ويسرة فهن في أنفسهن عفائف ، فجمع بين الإشارة إلى عظمتهن بقوله تعالى : {مَّقْصُورَاتٌ} منعهن أولياؤهن وههنا وليهن الله تعالى ، وبين الإشارة إلى عفتهن بقوله تعالى : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ثم تمام اللطف أنه تعالى قدم ذكر ما يدل على العفة على ما يدل على العظمة وذكر في أعلى الجنتين قاصرات وفي أدناهما مقصورات ، والذي يدل على أن المقصورات يدل على العظمة أنهن يوصفن بالمخدرات لا بالمتخدرات ، إشارة إلى أنهن خدرهن خادر لهن غيرهن كالذي يضرب الخيام ويدلي الستر ، بخلاف من تتخذه لنفسها وتغلق بابها بيدها ، وسنذكر بيانه في تفسير الآية بعد.
جزء : 29 رقم الصفحة : 379
المسألة الخامسة : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} فيها دلالة عفتهن ، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن ، فيجبن أزواجهن حباً بشغلهن عن النظر إلى غيرهم ، ويدل أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن ، والحورية لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها.
المسألة السادسة : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} فيه وجوه أحدها : لم يفرعهن ثانيها : لم يجامعهن ثالثها : لم يمسسهن ، وهو أقرب إلى حالهن وأليق بوصف كمالهن ، لكن لفظ الطمث غير ظاهر فيه ولو كان المراد منه المس لذكر اللفظ الذي يستحسن ، وكيف وقد قال تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} (البقرة : 237) وقال : {فَاعْتَزِلُوا } (البقرة : 222) ولم يصرح بلفظ موضوع للوطء ، فإن قيل : فما ذكرتم من / الإشكال باق وهو أنه تعالى كنى عن الوطء في الدنيا باللمس كما في قوله تعالى : {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} (النساء : 43) على الصحيح في تفسير الآية وسنذكره ، وإن كان على خلاف قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه وبالمس في قوله : {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} (البقرة : 237) ولم يذكر المس في الآخرة بطريق الكناية ، نقول : إنما ذكر الجماع الدنيا بالكناية لما أنه في الدنيا قضاء للشهوة وأنه يضعف البدن ويمنع من العبادة ، وهو في بعض الأوقات قبحه كقبح شرب الخمر ، وفي بعض الأوقات هو كالأكل الكثير وفي الآخرة مجرد عن وجوه القبح ، وكيف لا والخمر في الجنة معدودة من اللذات وأكلها وشربها دائم إلى غير ذلك ، فالله تعالى ذكره في الدنيا بلفظ مجازي مستور في غاية الخفاء بالكناية إشارة إلى قبحه وفي الآخرة ذكره بأقرب الألفاظ إلى التصريح أو بلفظ صريح/ لأن الطمث أدل من الجماع والوقاع لأنهما من الجمع والوقوع إشارة إلى خلوه عن وجوه القبح.
المسألة السابعة : ما الفائدة في كلمة {قَبْلَهُمْ} ؟
قلنا لو قال : لم يطمثهن إنس ولا جان يكون نفياً لطمث المؤمن إياهن وليس كذلك.
(1/4337)

المسألة الثامنة : ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع ؟
نقول : ليس كذلك بل الجن لهم أولاد وذريات وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الإنس أم لا ؟
والمشهور أنهم يواقعون وإلا لما كان في الجنة أحساب ولا أنساب ، فكأن مواقعة الإنس إياهن كمواقعة الجن من حيث الإشارة إلى نفيها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 379
380
وهذا التشبيه فيه وجهان أحدهما : تشبيه بصفائهما وثانيهما : بحسن بياض اللؤلؤ وحمرة الياقوت ، والمرجان صغار اللؤلؤ وهي أشد بياضاً وضياء من الكبار بكثير ، فإن قلنا : إن التشبيه لبيان صفائهن ، فنقول : فيه لطيفة هي أن قوله تعالى : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} إشارة إلى خلوصهن عن القبائح ، وقوله : {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} إشارة إلى صفائهن في الجنة ، فأول ما بدأ بالعقليات وختم بالحسيات ، كما قلنا : إن التشبيه لبيان مشابهة جسمهن بالياقوت والمرجان في الحمرة والبياض ، فكذلك القول فيه حيث قدم بيان العفة على بيان الحسن ولا يبعد أن يقال : هو مؤكد لما مضى لأنهن لما كن قاصرات الطرف ممتنعات عن الاجتماع بالإنس والجن لم يطمثهن فهن كالياقوت الذي يكون في معدنه والمرجان المصون في صدفه لا يكون قد مسه يد لامس ، وقد بينا مرة أخرى في قوله تعالى : {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} أن (كأن) الداخلة على المشبه به لا تفيد من التأكيد ما تفيده الداخلة على المشبه ، فإذا قلت : زيد كالأسد ، كان معناه زيد يشبه الأسد ، وإذا قلت كأن زيداً الأسد فمعناه يشبه أن زيداً هو الأسد حقيقة ، لكن قولنا : زيد يشبه الأسد ليس فيه مبالغة عظيمة ، فإنه يشبهه في أنهما حيوانان / وجسمان وغير ذلك ، وقولنا : زيد يشبه لا يمكن حمله على الحقيقة ، أما من حيث اللفظ فنقول : إذا دخلت الكاف على المشبه به ، وقيل : إن زيداً كالأسد عملت الكاف في الأسد عملاً لفظياً والعمل اللفظي مع العمل المعنوي ، فكأن الأسد عمل به عمل حتى صار زيداً ، وإذا قلت : كأن زيداً الأسد تركت الأسد على إعرابه فإذن هو متروك على حاله وحقيقته وزيد يشبه به في تلك الحال ولا شك في أن زيداً إذا شبه بأسد هو على حاله باق يكون أقوى مما إذا شبه بأسد لم يبق على حاله ، وكأن من قال : زيد كالأسد نزل الأسد عن درجته فساواه زيد ، ومن قال : كأن زيداً الأسد رفع زيداً عن درجته حتى ساوى الأسد ، وهذا تدقيق لطيف.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 380
380
(1/4338)

وفيه وجوه كثيرة حتى قيل : إن في القرآن ثلاث آيات في كل آية منها مائة قول الأولى : قوله تعالى : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) ، الثانية : قوله تعالى : {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } (الإسراء : 8) ، الثالثة : قوله تعالى : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} ولنذكر الأشهر منها والأقرب. أما الأشهر فوجوه أحدها : هل جزاء التوحيد غير الجنة ، أي جزاء من قال : لا إله إلا الله إدخال الجنة ثانيها : هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ثالثها : هل جزاء من أحسن إليكم في الدنيا بالنعم وفي العقبى بالنعيم إلا أن تحسنوا إليه بالعبادة والتقوى ، وأما الأقرب فإنه عام فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضاً ، ولنذكر تحقيق القول فيه وترجع الوجوه كلها إلى ذلك ، فنقول : الإحسان يستعمل في ثلاث معان أحدها : إثبات الحسن وإيجاده قال تعالى : {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } (غافر : 64) وقال تعالى : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه } (السجدة : 7) ثانيها : الإتيان بالحسن كالإظراف والإغراب للإتيان بالظريف والغريب قال تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (الأنعام : 160) ثالثها : يقال : فلان لا يحسن الكتابة ولا يحسن الفاتحة أي لا يعلمهما ، والظاهر أن الأصل في الإحسان الوجهان الأولان والثالث مأخوذ منهما ، وهذا لا يفهم إلا بقرينة الاستعمال مما يغلب على الظن إرادة العلم ، إذا علمت هذا فنقول : يمكن حمل الإحسان في الموضعين على معنى متحد من المعنيين ويمكن حمله فيهما على معنيين مختلفين أما الأول : فنقول : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ} أي هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن ، لكن الفعل الحسن من العبد ليس كل ما يستحسنه هو ، بل الحسن هو ما استحسنه الله منه ، فإن الفاسق ربما يكون الفسق في نظره حسناً وليس بحسن بل الحسن ما طلبه الله منه ، كذلك الحسن من الله هو كل ما يأتي به مما يطلبه العبد كما أتى العبد بما يطلبه الله تعالى منه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } (الزخرف : 71) وقوله تعالى : {وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـالِدُونَ} (الأنبياء : 102) وقال تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } (يونس : 26) أي ما هو حسن عندهم وأما الثاني فنقول : هل جزاء من أثبت / الحسن في عمله في الدنيا إلا أن يثبت الله الحسن فيه وفي أحواله في الدارين وبالعكس هل جزاء من أثبت الحسن فينا وفي صورنا وأحوالنا إلا أن نثبت الحسن فيه أيضاً ، لكن إثبات الحسن في الله تعالى محال ، فإثبات الحسن أيضاً في أنفسنا وأفعالنا فنحسن أنفسنا بعبادة حضرة الله تعالى ، وأفعالنا بالتوجه إليه وأحوال باطننا بمعرفته تعالى ، وإلى هذا رجعت الإشارة ، وورد في الأخبار من حسن وجوه المؤمنين وقبح وجوه الكافرين وأما الوجه الثالث : وهو الحمل على المعنيين فهو أن تقول : على جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يثبت الله فيه الحسن ، وفي جميع أحواله فيجعل وجهه حسناً وحاله حسناً ، ثم فيه لطائف :
جزء : 29 رقم الصفحة : 380
اللطيفة الأولى : هذه إشارة إلى رفع التكليف عن العوام في الآخرة ، وتوجيه التكليف على الخواص فيها أما الأول : فلأنه تعالى لما قال : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} والمؤمن لا شك في أنه يثاب بالجنة فيكون له من الله الإحسان جزاء له ومن جازى عبداً على عمله لا يأمره بشكره/ ولأن التكليف لو بقي في الآخرة فلو ترك العبد القيام بالتكليف لاستحق العقاب ، والعقاب ترك الإحسان لأن العبد لما عبد الله في الدنيا ما دام وبقي يليق بكرمه تعالى أن يحسن إليه في الآخرة ما دام وبقي ، فلا عقاب على تركه بلا تكليف وأما الثاني فنقول : خاصة الله تعالى عبدنا الله تعالى في الدنيا لنعم قد سبقت له علينا ، فهذا الذي أعطانا الله تعالى ابتداء نعمة وإحسان جديد فله علينا شكره ، فيقولون الحمد لله ، ويذكرون الله ويثنون عليه فيكون نفس الإحسان من الله تعالى في حقهم سبباً لقيامهم بشكره ، فيعرضون هم على أنفسهم عبادته تعالى فيكون لهم بأدنى عبادة شغل شاغل عن الحور والقصور والأكل والشرب فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتنابذون ولا يلعبون فيكون حالهم كحال الملائكة في يومنا هذا لا يتناكحون ولا يلعبون ، فلا يكون ذلك تكليفاً مثل هذه التكاليف الشاقة ، وإنما يكون ذلك لذة زائدة على كل لذة في غيرها.
(1/4339)

اللطيفة الثانية : هذه الآية تدل على أن العبد محكم في الآخرة كما قال تعالى : {لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (يس : 57) وذلك لأنا بينا أن الإحسان هو الإتيان بما هو حسن عند من أتى بالإحسان ، لكن الله لما طلب منا العبادة طلب كما أراد ، فأتى به المؤمن كما طلب منه ، فصار محسناً فهذا يقتضي أن يحسن الله إلى عبده ويأتي بما هو حسن عنده ، وهو ما يطلبه كما يريد فكأنه قال : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ} أي هل جزاء من أتى بما طلبته منه على حسب إرادتي إلا أن يؤتى بما طلبه مني على حسب إرادته ، لكن الإرادة متعلقة بالرؤية ، فيجب بحكم الوعد أن تكون هذه آية دالة على الرؤية البلكفية.
اللطيفة الثالثة : هذه الآية تدل على أن كل ما يفرضه الإنسان من أنواع الإحسان من الله تعالى فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به لأن الكريم إذا قال للفقير : افعل كذا ولك كذا ديناراً ، وقال لغيره افعل كذا على أن أحسن إليك يكون رجاء من لم يعين له أجراً أكثر من / رجاء من عين له ، هذا إذا كان الكريم في غاية الكرم ونهاية الغنى ، إذا ثبت هذا فالله تعالى قال : جزاء من أحسن إلى أن أحسن إليه بما يغبط به ، وأوصل إليه فوق ما يشتهيه فالذي يعطي الله فوق ما يرجوه وذلك على وفق كرمه وإفضاله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 380
380
لما ذكر الجزاء ذكر بعده مثله وهو جنتان أخريان ، وهذا كقوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 26) وفي قوله تعالى : {دُونِهِمَا} وجهان أحدهما : دونهما في الشرف ، وهو ما اختاره صاحب الكشاف وقال قوله : {مُدْهَآمَّتَانِ} مع قوله في الأوليين : {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} (الرحمن : 48) وقوله في هذه : {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} مع قوله في الأوليين : {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} (الرحمن : 50) لأن النضخ دون الجري ، وقوله في الأولين : {مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن : 52) مع قوله في هاتين : {فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن : 68) وقوله في الأوليين : {فُرُشٍ بَطَآاـاِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها وعدم إدراك العقول إياها مع قوله في هاتين : {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} (الرحمن : 76) دليل عليه ، ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأن عطايا الله في الآخرة متتابعة لا يعطي شيئاً بعد شيء إلا ويظن الظان أنه ذلك أو خير منه. ويمكن أن يجاب عنه تقريراً لما اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين ألحقهم الله بهم ولأتباعهم ، ولكنه إنما جعلهما لهم إنعاماً عليهم ، أي هاتان الأخريان لكم أسكنوا فيهما من تريدون الثاني : أن المراد دونهما في المكان كأنهم في جنتين ويطلعوا من فوق على جنتين أخريين دونهما ، ويدل عليه قوله تعالى {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} (الزمر : 20) الآية. والغرف العالية عندها أفنان ، والغرف التي دونها أرضها مخضرة ، وعلى هذا ففي الآيات لطائف :
جزء : 29 رقم الصفحة : 380
الأولى : قال في الأوليين : {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} وقال في هاتين : {مُدْهَآمَّتَانِ} أي مخضرتان في غاية الخضرة ، وإدهام الشيء أي اسواد لكن لا يستعمل في بعض الأشياء والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى أسود ، ويحتمل أن يقال : الأرض الخالية عن الزرع يقال لها : بياض أرض وإذا كانت معمورة يقال لها : سواد أرض كما يقال : سواد البلد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "عليكم بالسواد الأعظم ومن كثر سواد قوم فهو منهم" والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض / وانتهاءها هو السواد ، فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان ، ولهذا يطلق الكافر على الأسود ولا يطلق على لون آخر ، ولما كانت الخالية عن الزرع متصفة بالبياض واللاخالية بالسواد فهذا يدل على أنهما تحت الأوليين مكاناً ، فهم إذا نظروا إلى ما فوقهم ، يرون الأفنان تظلهم ، وإذا نظروا إلى ما تحتهم يرون الأرض مخضرة ، وقوله تعالى : {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فائرتان ماؤهما متحرك إلى جهة فوق ، وأما العينان المتقدمتان فتجريان إلى صوب المؤمنين فكلاهما حركتهما إلى جهة مكان أهل الإيمان ، وأما قول صاحب الكشاف : النضخ دون الجري فغير لازم لجواز أن يكون الجري يسيراً والنضخ قوياً كثيراً ، بل المراد أن النضخ فيه الحركة إلى جهة العلو ، والعينان في مكان المؤمنين ، فحركة الماء تكون إلى جهتهم ، فالعينان الأوليان في مكانهم فتكون حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جرياً.
[بم وأما قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 380
380
(1/4340)

فهو كقوله تعالى : {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن : 52) وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه البطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات وشجرية نحو النخل وغيره من الشجريات فقال : {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن : 64) بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية وفيهما أيضاً الفواكه الشجرية وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب لأنهما متقابلان فأحدهما حلو والآخر غير حلو وكذلك أحدهما حار والآخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء ، والآخر فاكهة ، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة ، وأحدهما أشجاره في غاية الطول والآخر أشجاره بالضد وأحدهما ما يؤكل منه بارز ومالا يؤكل كامن ، والآخر بالعكس فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما ، كما قال : {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وقدمنا ذلك.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 380
382
أي في باطنهن الخير وفي ظاهرهن الحسن والخيرات جمع خيرة وقد بينا أن في قوله تعالى : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} إلى أن قال : {كَأَنَّهُنَّ} (الرحمن : 56 ـ 58) إشارة إلى كونهن حساناً.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 382
384
/ إشارة إلى عظمتهن فإنهن ما قصرن حجراً عليهن ، وإنما ذلك إشارة إلى ضرب الخيام لهن وإدلاء الستر عليهن ، والخيمة مبيت الرجل كالبيت من الخشب ، حتى إن العرب تسمي البيت من الشعر خيمة لأنه معد للإقامة ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} إشارة إلى معنى في غاية اللطف ، وهو أن المؤمن في الجنة لا يحتاج إلى التحرك لشيء وإنما الأشياء تتحرك إليه فالمأكول والمشروب يصل إليه من غير حركة منه ، ويطاف عليهم بما يشتهونه فالحور يكن في بيوت ، وعند الانتقال إلى المؤمنين في وقت إرادتهم تسير بهن للارتحال إلى المؤمنين خيام وللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام إلى القصور ، وقوله تعالى : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ} قد سبق تفسيره.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 384
384
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في تأخير ذكر اتكائهم عن ذكر نسائهم في هذا الموضع مع أنه تعالى قدم ذكر اتكائهم على ذكر نسائهم في الجنتين المتقدمتين حيث قال : {مُتَّكِـاِينَ عَلَى فُرُشٍ} (الرحمن : 54) ثم قال : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} (الرحمن : 56) وقال ههنا : {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} (الرحمن : 70) ثم قال : {مُتَّكِـاِينَ} ؟
والجواب عنه من وجهين أحدهما : أن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم منعمون دائماً لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستفيض وعند قضاء وطره يستعمل الاغتسال والانتشار في الأرض للكسب ، ومنهم من يكون متردداً في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويريح قلبه من التعب قبل قضاء الوطر فيكون التعب لازماً قبل قضاء الوطر أو بعده فالله تعالى قال في بيان أهل الجنة : متكئين قبل الاجتماع بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك ، ليعلم أنهم دائم على السكون فلا تعب لهم لا قبل الاجتماع ولا بعد الاجتماع وثانيهما : هو أنا بينا في الوجهين المتقدمين أن الجنتين المتقدمتين لأهل الجنة الذين جاهدوا والمتأخرين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ، فهم فيهما وأهلهم في الخيام منتظرات قدوم أزواجهن ، فإذا دخل المؤمن جنته التي هي سكناه يتكىء على الفرش وتنتقل إليه أزواجه الحسان ، فكونهن في الجنتين المتقدمتين بعد اتكائهم على الفرش ، وأما كونهم في الجنتين المتأخرتين فذلك حاصل في يومنا ، واتكاء المؤمن غير حاصل في يومنا ، فقدم ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك. و{مُتَّكِـاِينَ} حال والعامل فيه / ما دل عليه قوله : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ} (الرحمن : 74) وذلك في قوة الاستثناء كأنه قال : لم يطمثهن إلا المؤمنون فإنهم يطمثوهن متكئين وما ذكرنا من قبل في قوله تعالى : {مُتَّكِـاِينَ عَلَى فُرُشٍ} (الرحمن : 54) يقال هنا.
المسألة الثانية : الرفرف إما أن يكون أصله من رف الزرع إذا بلغ من نضارته فيكون مناسباً لقوله تعالى : {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن : 64) ويكون التقدير أنهم متكئون على الرياض والثياب العبقرية ، وإما أن يكون من رفرفة الطائر ، وهي حومة في الهواء حول ما يريد النزول عليه فيكون المعنى أنهم على بسط مرفوعة كما قال تعالى : {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} (الواقعة : 34) وهذا يدل على أن قوله تعالى : {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} (الرحمن : 62) أنهما دونهما في المكان حيث رفعت فرشهم ، وقوله تعالى : {خُضْرٍ} صيغة جمع فالرفرف يكون جمعاً لكونه اسم جنس ويكون واحده رفرفة كحنظلة وحنظل والجمع في متكئين يدل عليه فإنه لما قال : {مُتَّكِـاِينَ} دل على أنهم على رفارف.
جزء : 29 رقم الصفحة : 384
(1/4341)

المسألة الثالثة : ما الفرق بين الفرش والرفرف حيث لم يقل : رفارف اكتفاء بما يدل عليه قوله : {مُتَّكِـاِينَ} وقال : {فُرُشٍ} ولم يكتف بما يدل عليه ذلك ؟
نقول : جمع الرباعي أثقل من جمع الثلاثي ، ولهذا لم يجيء للجمع في الرباعي إلا مثال واحد وأمثلة الجمع في الثلاثي كثيرة وقد قرىء : (على رفارف خضر) ، و(رفارف خضار وعباقر).
المسألة الرابعة : إذ قلنا : إن الرفرف هي البسط فما الفائدة في الخضر حيث وصف تعالى ثياب الجنة بكونها خضراً قال تعالى : {ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} ؟
(الإنسان : 21) نقول : ميل الناس إلى اللون الأخضر في الدنيا أكثر ، وسبب الميل إليه هو أن الألوان التي يظن أنها أصول الألوان سبعة وهي الشفاف وهو الذي لا يمنع نفوذ البصر فيه ولا يحجب ما وراءه كالزجاج والماء الصافي وغيرهما ثم الأبيض بعده ثم الأصفر ثم الأحمر ثم الأخضر ثم الأزرق ثم الأسود والأظهر أن الألوان الأصلية ثلاثة الأبيض والأسود وبينهما غاية الخلاف والأحمر متوسط بين الأبيض والأسود فإن الدم خلق على اللون المتوسط/ فإن لم تكن الصحة على ما ينبغي فإن كان لفرط البرودة فيه كان أبيض وإن كان لفرط الحرارة فيه كان أسود لكن هذه الثلاثة يحصل منها الألوان الأخر فالأبيض إذا امتزج بالأحمر حصل الأصفر يدل عليه مزج اللبن الأبيض بالدم وغيره من الأشياء الحمر وإذا امتزج الأبيض بالأسود حصل اللون الأزرق يدل عليه خلط الجص المدقوق بالفحم وإذا امتزج الأحمر بالأسود حصل الأزرق أيضاً لكنه إلى السواد أميل ، وإذا امتزج الأصفر بالأزرق حصل الأخضر من الأصفر والأزرق وقد علم أن الأصفر من الأبيض والأحمر والأزرق من الأبيض والأسود والأحمر والأسود فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأصلية فيكون ميل الإنسان إليه لكونه مشتملاً على الألوان الأصلية وهذا بعيد جداً والأقرب أن الأبيض يفرق البصر ولهذا لا يقدر الإنسان على إدامة النظر في الأرض عند كونها مستورة بالثلج وإنه يورث الجهر والنظر إلى الأشياء السود يجمع البصر ولهذا كره الإنسان النظر إليه وإلى الأشياء الحمر كالدم والأخضر لما اجتمع فيه الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض وحصل اللون الممتزج من الأشياء التي في بدن الإنسان وهي الأحمر / والأبيض والأصفر والأسود ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر ذكر الله تعالى في الآخرة ما هو على مقتضى طبعه في الدنيا.
جزء : 29 رقم الصفحة : 384
المسألة الخامسة : العبقري منسوب إلى عبقر وهو عند العرب موضع من مواضع الجن فالثياب المعمولة عملاً جيداً يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها كأنها ليست من عمل الإنس ، ويستعمل في غير الثياب أيضاً حتى يقال للرجل الذي يعمل عملاً عجيباً : هو عبقري أي من ذلك البلد قال صلى الله عليه وسلّم في المنام الذي رآه : "فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه" واكتفى بذكر اسم الجنس عن الجمع ووصفه بما توصف به الجموع فقال حسان : وذلك لما بينا أن جمع الرباعي يستثقل بعض الاستثقال ، وأما من قرأ : فقد جعل اسم ذلك الموضع عباقر فإن زعم أنه جمعه فقد وهم ، وإن جمع العبقري ثم نسب فقد التزم تكلفاً خلاف ما كلف الأدباء التزامه فإنهم في الجمع إذا نسبوا ردوه إلى الواحد وهذا القارىء تكلف في الواحد ورده إلى الجمع ثم نسبه لأن عند العرب ليس في الوجود بلاد كلها عبقر حتى تجمع ويقال : عباقر ، فهذا تكلف الجمع فيما لا جمع له ثم نسب إلى ذلك الجمع والأدباء تكره الجمع فيما ينسب لئلا يجمعوا بين الجمع والنسبة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 384
386
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الترتيب وفيه وجوه أحدها : أنه تعالى لما ختم نعم الدنيا بقوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} ختم نعم الآخرة بقوله : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} إشارة إلى أن الباقي والدائم لذاته هو الله تعالى لا غير والدنيا فانية ، والآخرة وإن كانت باقية لكن بقاؤها بإبقاء الله تعالى ثانيها : هو أنه تعالى في أواخر هذه السور كلها ذكر اسم الله فقال في السورة التي قبل هذه : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) وكون العبد عند الله من أتم النعم كذلك ههنا بعد ذكر الجنات وما فيها من النعم قال : {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى ، وأكمل اللذات ذكر الله تعالى ، وقال في السورة التي بعد هذه : {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة : 89) ثم قال تعالى في آخر السورة : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة : 96) ثالثها : أنه تعالى ذكر جميع الذات في الجنات ، ولم يذكر لذة السماع وهي من أتم أنواعها ، فقال : {مُتَّكِـاِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} يسمعون ذكر الله تعالى.
(1/4342)

المسألة الثانية : أصل التبارك من البركة وهي الدوام والثبات ، ومنها بروك البعير وبركة الماء ، فإن الماء يكون فيها دائماً وفيه وجوه أحدها : دام اسمه وثبت وثانيها : دام الخير عنده لأن البركة وإن كانت من الثبات لكنها تستعمل في الخير وثالثها : تبارك بمعنى علا وارتفع شأناً لا مكاناً.
/ المسألة الثالثة : قال بعد ذكر نعم الدنيا : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن : 27) وقال بعد ذكر نعم الآخرة : {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} لأن الإشارة بعد عد نعم الدنيا وقعت إلى عدم كل شيء من الممكنات وفنائها في ذواتها ، واسم الله تعالى ينفع الذاكرين ولا ذاكر هناك يوحد الله غاية التوحيد فقال : ويبقى وجه الله تعالى والإشارة هنا ، وقعت إلى أن بقاء أهل الجنة بإبقاء الله ذاكرين اسم الله متلذذين به فقال : {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} أي في ذلك اليوم لا يبقى اسم أحد إلا اسم الله تعالى به تدور الألسن ولا يكون لأحد عند أحد حاجة بذكره ولا من أحد خوف ، فإن تذاكروا تذاكروا باسم الله.
جزء : 29 رقم الصفحة : 386
المسألة الرابعة : الاسم مقحم أو هو أصل مذكور له التبارك ، نقول : فيه وجهان أحدهما : وهو المشهور أنه مقحم كالوجه في قوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} يدل عليه قوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنين : 14) و: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك : 1) وغيره من صور استعمال لفظ تبارك وثانيهما : هو أن الاسم تبارك ، وفيه إشارة إلى معنى بليغ ، أما إذا قلنا : تبارك بمعنى علا فمن علا اسمه كيف يكون مسماه وذلك لأن الملك إذا عظم شأنه لا يذكر اسمه إلا بنوع تعظيم ثم إذا انتهى الذاكر إليه يكون تعظيمه له أكثر ، فإن غاية التعظيم للاسم أن السامع إذا سمعه قام كما جرت عادة الملوك أنهم إذا سمعوا في الرسائل اسم سلطان عظيم يقومون عند سماع اسمه ، ثم إن أتاهم السلطان بنفسه بدلاً عن كتابه الذي فيه اسمه يستقبلونه ويضعون الجباه على الأرض بين يديه ، وهذا من الدلائل الظاهرة على أن علو الاسم يدل على علو زائد في المسمى ، أما إن قلنا : بمعنى دام الخير عنده فهو إشارة إلى أن ذكر اسم الله تعالى يزيل الشر ويهرب الشيطان ويزيد الخير ويقرب السعادات/ وأما إن قلنا : بمعنى دام اسم الله ، فهو إشارة إلى دوام الذاكرين في الجنة على ما قلنا من قبل.
المسألة الخامسة : القراءة المشهورة ههنا : {ذِى الْجَلَالِ} وفي قوله تعالى : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} لأن الجلال للرب ، والاسم غير المسمى ، وأما وجه الرب فهو الرب فوصف هناك الوجه ووصف ههنا الرب ، دون الاسم ولو قال : ويبقى الرب لتوهم أن الرب إذا بقي رباً فله في ذلك الزمان مربوب ، فإذا قال وجه أنسى المربوب فحصل القطع بالبقاء للحق فوصف الوجه يفيد هذه الفائدة ، والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 386
386
(1/4343)

سورة الواقعة
وهي ست وتسعون آية مكية
جزء : 29 رقم الصفحة : 386
389
/ أما تعلق هذه السورة بما قبلها ، فذلك من وجوه أحدها : أن تلك السورة مشتملة على تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه عن التكذيب كما مر ، وهذه السورة مشتملة على ذكر الجزاء بالخير لمن شكر وبالشر لمن كذب وكفر ثانيها : أن تلك السورة متضمنة للتنبيهات بذكر الآلاء في حق العباد ، وهذه السورة كذلك لذكر الجزاء في حقهم يوم التناد ثالثها : أن تلك السورة سورة إظهار الرحمة وهذه السورة سورة إظهار الهيبة على عكس تلك السورة مع ما قبلها ، وأما تعلق الأول بالآخر ففي آخر تلك السورة إشارة إلى الصفات من باب النفي والإثبات ، وفي أول هذه السورة إلى القيامة وإلى ما فيها من المثوبات والعقوبات ، وكل واحد منهما يدل على علو اسمه وعظمة شأنه ، وكمال قدرته وعز سلطانه. ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ففي تفسيرها جملة وجوه أحدها : المراد إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد ، ولا يتمكن أحد من إنكارها ، ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار ، وترفع المؤمنين في درجات الجنة ، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم الثاني : {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} تزلزل الناس ، فتخفض المرتفع ، وترفع المنخفض ، وعلى هذا فهي كقوله تعالى : {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} (الحجر : 74) في الإشارة إلى شدة الواقعة ، لأن العذاب الذي جعل العالي سافلاً بالهدم ، والسافل عالياً حتى صارت الأرض المنخفضة كالجبال الراسية ، والجبال الراسية كالأرض المنخفضة أشد وأبلغ ، فصارت البروج العالية مع الأرض متساوية ، والواقعة التي تقع ترفع المنخفضة فتجعل من الأرض أجزاء عالية ومن السماء أجزاء سافلة ، ويدل عليه قوله تعالى : {إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (الواقعة : 4 ، 5) فإنه إشارة إلى أن الأرض تتحرك بحركة مزعجة ، والجبال تتفتت ، فتصير الأرض المنخفضة كالجبال الراسية ، والجبال الشامخة كالأرض السافلة ، كما يفعل هبوب الريح في الأرض المرملة الثالث : {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} يظهر وقوعها / لكل أحد ، وكيفية وقوعها ، فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله : {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} معطوف على {كَاذِبَةٌ} نسقاً ، فيكون كما يقول القائل : ليس لي في الأمر شك ولا خطأ ، أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع.
جزء : 29 رقم الصفحة : 389
المسألة الثانية : {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا ، ويحتمل أن يكون المحذوف شيئاً غير معين ، وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله ، كما يقال : كانت الكائنة والمراد كان الأمر كائناً ما كان ، وقولنا : الأمر كائن لا يفيد إلا حدوث أمر ولو كان يسيراً بالنسبة إلى قوله : كانت الكائنة ، إذ في الكائنة وصف زائد على نفس كونه شيئاً ، ولنبين هذا ببيان كون الهاء للمبالغة في قولهم : فلان راوية ونسابة ، وهو أنهم إذا أرادوا أن يأتوا بالمبالغة في كونه راوياً كان لهم أن يأتوا بوصف بعد الخبر ويقولون : فلان راو جيد أو حسن أو فاضل ، فعدلوا عن التطويل إلى الإيجاز مع زيادة فائدة ، فقالوا : نأتي بحرف نيابة عن كلمة كما أتينا بهاء التأنيث حيث قلنا : ظالمة بدل قول القائل : ظالم أنثى ، ولهذا لزمهم بيان الأنثى عند مالا يمكن بيانها بالهاء في قولهم شاة أنثى وكالكتابة في الجمع حيث قلنا : قالوا بدلاً عن قول القائل : قال وقال وقال ، وقالا بدلاً عن قوله : قال وقال فكذلك في المبالغة أرادوا أن يأتوا بحرف يغني عن كلمة والحرف الدال على الزيادة ينبغي أن يكون في الآخر/ لأن الزيادة بعد أصل الشيء ، فوضعوا الهاء عند عدم كونها للتأنيث والتوحيد في اللفظ المفرد لا في الجمع للمبالغة إذا ثبت هذا فنقول : في كانت الكائنة ووقعت الواقعة حصل هذا معنى لا لفظاً ، أما معنى فلأنهم قصدوا بقولهم : كانت الكائنة أن الكائن زائد على أصل ما يكون ، وأما لفظاً فلأن الهاء لو كانت للمبالغة لما جاز إثبات ضمير المؤنث في الفعل ، بل كان ينبغي أن يقولوا : كان الكائنة ووقع الواقعة ، ولا يمكن ذلك لأنا نقول : المراد به المبالغة.
المسألة الثالثة : العامل في {إِذَا} ماذا ؟
نقول : فيه ثلاث أوجه أحدها : فعل متقدم يجعل إذا مفعولاً به لا ظرفاً وهو اذكر ، كأنه قال : اذكر القيامة ثانيها : العامل فيها ليس لوقعتها كاذبة كما تقول : يوم الجمعة ليس لي شغل ثالثها : يخفض قوم ويرفع قوم ، وقد دل عليه {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} ، وقيل : العامل فيها قوله : {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (الواقعة : 8) أي في يوم وقوع الواقعة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 389
(1/4344)

المسألة الرابعة : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة فالوقعة للمرة الواحدة ، وقوله : {كَاذِبَةٌ} يحتمل وجوهاً أحدها : كاذبة صفة لمحذوف أقيمت مقامه تقديره ليس لها نفس تكذب ثانيها : الهاء للمبالغة كما تقول في الواقعة وقد تقدم بيانه ثالثها : هي مصدر كالعاقبة فإن قلنا بالوجه الأول فاللام تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون للتعليل أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها كما يقال : لا كاذب عند الملك لضبطه الأمور فيكون نفياً عاماً بمعنى أن كل أحد يصدقه فيما يقول وقال : وقبله نفوس كواذب في أمور كثيرة ولا كاذب فيقول : / لا قيامة لشدة وقعتها وظهور الأمر وكما يقال : لا يحتمل الأمر الإنكار لظهوره لكل أحد فيكون نفياً خاصاً بمعنى لا يكذب أحد فيقول : لا قيامة وقبله نفوس قائلة به كاذبة فيه ثانيهما : أن تكون للتعدية وذلك كما يقال : ليس لزيد ضارب ، وحينئذ تقديره إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب إن أخبر عنها فهي خافضة رافعة تخفض قوماً وترفع قوماً وعلى هذا لا تكون عاملاً في {إِذَا} وهو بمعنى ليس لها كاذب يقول : هي أمر سهل يطاق يقال لمن يقدم على أمر عظيم ظاناً أنه يطيقه سل نفسك أي سهلت الأمر عليك وليس بسهل ، وإن قلنا بالوجه الثاني وهو المبالغة ففيه وجهان أحدهما : ليس لها كاذب عظيم بمعنى أن من يكذب ويقدم على الكذب العظيم لا يمكنه أن يكذب لهول ذلك اليوم وثانيهما : أن أحداً لو كذب وقال في ذلك اليوم لا قيامة ولا واقعة لكان كاذباً عظيماً ولا كاذب لهذه العظمة في ذلك اليوم والأول أدل على هول اليوم ، وعلى الوجه الثالث يعود ما ذكرنا إلى أنه لا كاذب في ذلك اليوم بل كل أحد يصدقه.
المسألة الخامسة : {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تقديره هي خافضة رافعة وقد سبق ذكره في التفسير الجملي وفيه وجوه أخرى أحدها : خافضة رافعة صفتان للنفس الكاذبة أي ليس لوقعتها من يكذب ولا من يغير الكلام فتخفض أمراً وترفع آخر فهي خافضة أو يكون هو زيادة لبيان صدق الخلق في ذلك اليوم وعدم إمكان كذبهم والكاذب يغير الكلام ، ثم إذا أراد نفي الكذب عن نفسه يقول ما عرفت مما كان كلمة واحدة وربما يقول ما عرفت حرفاً واحداً ، وهذا لأن الكاذب قد يكذب في حقيقة الأمر وربما يكذب في صفة صفاته والصفة قد يكون ملتفتاً إليها وقد لا يكون ملتفتاً إليها التفاتاً معتبراً وقد لا يكون ملتفتاً إليها أصلاً مثال الأول : قول القائل : ما جاء زيد ويكون قد جاء ومثال الثاني : ما جاء يوم الجمعة ومثال الثالث : ما جاء بكرة يوم الجمعة ويكون قد جاء بكرة يوم الجمعة وما جاء أول بكرة يوم الجمعة والثاني دون الأول والرابع دون الكل/ فإذا قال القائل : ما أعرف كلمة كاذبة نفى عنه الكذب في الإخبار وفي صفته والذي يقول : ما عرفت حرفاً واحداً نفى أمراً وراءه ، والذي يقول : ما عرفت أعرافة واحدة يكون فوق ذلك فقوله : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي من يغير تغييراً ولو كان يسيراً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 389
390
أي كانت الأرض كثيباً مرتفعاً والجبال مهيلاً منبسطاً ، وقوله تعالى : {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنابَثًّا} كقوله تعالى في وصف الجبال : {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} (القارعة : 5) وقد تقدم بيان فائدة ذكر المصدر وهي أنه يفيد أن الفعل كان قولاً معتبراً ولم يكن شيئاً لا يلتفت إليه ، ويقال فيه : إنه ليس بشيء فإذا قال القائل : ضربته ضرباً معتبراً لا يقول القائل فيه : ليس بضرب محتقراً له كما يقال : هذا ليس بشيء ، والعامل في : {إِذَا رُجَّتِ} / يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون إذا رجت بدلاً عن إذا وقعت فيكون العامل فيها ما ذكرنا من قبل ثانيها : أن يكون العامل في : {إِذَا وَقَعَتِ} (الواقعة : 1) هو قوله : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} (الواقعة : 2) والعامل في : {إِذَا رُجَّتِ} هو قوله : {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} (الواقعة : 3) تقديره تخفض الواقعة وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال والفاء للترتيب الزماني لأن الأرض مالم تتحرك والجبال مالم تنبس لا تكون هباء منبثاً ، والبس التقليب ، والهباء هو الهواء المختلط بأجزاء أرضية تظهر في خيال الشمس إذا وقع شعاعها في كوة ، وقال : الذين يقولون : إن بين الحروف والمعاني مناسبة إن الهواء إذا خالطه أجزاء ثقيلة أرضية ثقل من لفظه حرف فأبدلت الواو الخفيفة بالباء التي لا ينطق بها إلا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 390
391
أي في ذلك اليوم أنتم أزواج ثلاثة أصناف وفسرها بعدها بقوله : {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} وفيه مسائل :
(1/4345)

المسألة الأولى : الفاء تدل على التفسير ، وبيان ما ورد على التقسيم كأنه قال : (أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) إلخ ، ثم بين حال كل قوم ، فقال : {مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} فترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه ، فإنه ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها ، وسبق قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً} يغني عن تعديد الأقسام ، ثم أعاد كل واحدة لبيان حالها.
المسألة الثانية : {الْمَيْمَنَةِ مَآ} هم أصحاب الجنة ، وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم ، وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى ، كما قال تعالى : {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} (الحديد : 12) وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير ، والعرب تتفاءل بالسانح ، و(هو) الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي ، وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره ، حتى إن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى ، ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين ، أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين ، إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه ، ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحاً غير قدرة الله وإرادته لا يقدرون عليه ، فإن كان بعضهم يدعى كياسة وذكاء يقول : إن الكبد في الجانب الأيمن ، وبها قوة التغذية ، والطحال في الجانب الأيسر ، وليس فيه قوة ظاهرة / النفع فصار الجانب الأيمن قوياً لمكان الكبد على اليمين ؟
فنقول : هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال ، وتخصيص الله اليمين يجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله ، فضلوا اليمين على الشمال ، وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر ، وقيل : لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين ، ووضعوا له لفظاً على وزن العزيز ، فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير ، ومالا يتغير كالطويل والقصير ، وقيل له : اليمين ، وهو يدل على القوة ، ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن ، وهو الفعال ، فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى بهذا الوزن مع البناء على الكسر ، فيقال : يا فجار يا فساق يا خباث ، وقيل : اليمين اليسار ، ثم بعد ذلك استعمل في اليمين ، وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان ، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا : ملعبة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 391
المسألة الثالثة : جعل الله تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة ، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة ، يمينه وشماله ، وخلفه وقدامه ، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون ، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال ، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن/ وهم المقربون بين يدي الله يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين ، ثم إنه تعالى لم يقل : في مقابلتهم قوماً يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر : 32) لم يقل : منهم متخلف عن الكل.
المسألة الرابعة : ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب والجواب : أن نقول : ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعاً عن المعصية ، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزنون بالعذاب ، فلما ذكر تعالى : {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (اواقعة : 11) وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر ، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من الله فإن السابق يناله ما يناله بجذب ، وإليه الإشارة بقوله : جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة.
(1/4346)

/ المسألة الخامسة : ما معنى قوله : {مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} ؟
نقول : هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره : أخبرك بما جرى عليَّ ثم يقول هناك هو مجيباً لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل : من يعرف فلاناً فيكون أبلغ من أن يصفه ، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول : هذا نهاية ما هو عليه ، فإذا قال : من يعرف فلاناً بفرض السامع من نفسه شيئاً ، ثم يقول : فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 391
المسألة السادسة : ما إعرابه ومنه يعرف معناه ؟
نقول : {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه وقوله : {مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول : لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهماً ممتحناً زاعماً أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول : إنك لا تعرف الجواب ، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبراً ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلاً ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحناً زاعماً أنك لا تعرف كنهه ، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر ، كما أن قائلاً : إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيداً وصل ، وقال : إن زيداً ثم قبل قوله : جاء وقع بصره على زيد ورآه جالساً عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال : من جاء فإنه إن قال : زيد يكون جواباً وكثيراً ما نقول : زيد ولا نقول : جاء ، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل : الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول : ماذا أقول عنه. إذا علم هذا فنقول لما قال : {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه : إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال : {مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} ممتحناً زاعماً أنه لا يفهم ليكون ذلك دليلاً على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته ، وهذا وجه بليغ ، وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال : معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال : وأصحاب الميمنة ما هم ؟
على سبيل الاستفهام غير أنه أقام المظهر مقام المضمر وقال : {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهراً مرتين وكذلك القول في قوله تعالى : {وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ} وكذلك في قوله : {الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ} (الحاقة : 1 ، 2) وفي قوله : {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة : 1/ 2).
جزء : 29 رقم الصفحة : 391
(1/4347)

المسألة السابعة : ما الحكمة في اختيار لفظ {الْمَشْـاَمَةِ} في مقابلة {الْمَيْمَنَةِ} ، مع أنه قال في بيان أحوالهم : {وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَـابُ الشِّمَالِ} ؟
نقول : اليمين وضع للجانب المعروف أولاً ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع وقالوا : هذا ميمون وقالوا : أيمن به ووضعوا للجانب المقابل / له اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، فصار في مقابلة اليمين كيفما يدور فيقال : في مقابلة اليمنى اليسرى ، وفي مقابلة الأيمن الأيسر ، وفي مقابلة الميمنة الميسرة ، ولا تستعمل الشمال كما تستعمل اليمين ، فلا يقال : الأشمل ولا المشملة ، وتستعمل المشأمة كما تستعمل الميمنة ، فلا يقال : في مقابلة اليمين لفظ من باب الشؤم ، وأما الشآم فليس في مقابلة اليمين بل في مقابلة يمان ، إذا علم هذا فنقول : بعد ما قالوا باليمين لم يتركوه واقتصروا على استعمال لفظ اليمين في الجانب المعروف من الآدمي ، ولفظ الشمال في مقابلته وحدث لهم لفظان آخران فيه أحدهما : الشمال وذلك لأنهم نظروا إلى الكواكب من السماء وجعلوا ممرها وجه الإنسان وجعلوا السماء جانبين وجعلوا أحدهما أقوى كما رأوا في الإنسان ، فسموا الأقوى بالجنوب لقوة الجانب كما يقال : غضوب ورءوف ، ثم رأوا في مقابلة الجنوب جانباً آخر شمل ذلك الجانب عمارة العالم فسموه شمالاً واللفظ الآخر : المشأمة والأشأم في مقابلة الميمنة والأيمن ، وذلك لأنهم لما أخذوا من اليمين اليمن وغيره للتفاؤل وضعوا الشؤم في مقابلته لا في أعضائهم وجوانبهم تكرهاً لجعل جانب من جوانب نفسه شؤماً ، ولما وضعوا ذلك واستمر الأمر عليه نقلوا اليمين من الجانب إلى غيره ، فالله تعالى ذكر الكفار بلفظين مختلفين فقال : {وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ} {وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ} وترك لفظ الميسرة واليسار الدال على هون الأمر ، فقال ههنا : {وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ} بأفظع الاسمين ، ولهذا قالوا في العساكر : الميمنة والميسرة اجتناباً من لفظ الشؤم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 391
392
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها : {وَالسَّـابِقُونَ} عطف على {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} (الواقعة : 8) وعنده تم الكلام ، وقوله : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ * أولئك الْمُقَرَّبُونَ} جملة واحدة والثاني : أن قوله : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} جملة واحدة ، كما يقول القائل : أنت أنت وكما قال الشاعر :
أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه وجهان أحدهما : أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة والثاني : للإشارة إلى أن في المبتدأ مالا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ ، وهو كمايقول القائل لغيره أخبرني عن حال الملك فيقول : لا أعرف من الملك إلا أنه ملك فقوله : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر وههنا لطيفة : وهي أنه في أصحاب الميمنة قال : {مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} (الواقعة : 8) بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وههنا لم يقل : والسابقون ما السابقون ، لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال / له : إن كنت تعلم فبين الكلام وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له : كذبت ولا يقال : كيف كذا ، وما الجواب عن ذلك ، فكذلك في : {وَالسَّـابِقُونَ} ما جعلهم بحيث يدعون ، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز ، وعلى هذا فقوله تعالى : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} كقول العالم : لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان وثالثها : هو أن السابقون ثانياً تأكيد لقوله : {وَالسَّـابِقُونَ} والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح ، وعلى الوجه الأوسط قول آخر : وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى.
جزء : 29 رقم الصفحة : 392
(1/4348)

المسألة الثانية : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ} يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقرباً ، وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون ، نقول : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ} من الأزواج الثلاثة ، فإن قيل : {فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ} ليسوا من المقربين ، نقول : للتقريب درجات {وَالسَّـابِقُونَ} في غاية القرب ، ولا حد هناك ، ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يقال : المراد السابقون مقربون من الجنات حال كون أصحاب اليمين متوجهين إلى طريق الجنة لأنه بمقدار ما يحاسب المؤمن حساباً يسيراً ويؤتى كتابه بيمينه يكون السابقون قد قربوا من المنزل أو قربهم إلى الله في الجنة وأصحاب اليمين بعد متوجهون إلى ما وصل إليه المقربون ، ثم إن السير والارتفاع لا ينقطع فإن السير في الله لا انقطاع له ، والارتفاع لا نهاية له ، فكلما تقرب أصحاب اليمين من درجة السابق ، يكون قد انتقل هو إلى موضع أعلى منه ، فأولئك هم المقربون في جنات النعيم ، في أعلى عليين حال وصول أصحاب اليمين إلى الحور العين.
المسألة الثالثة : بعد بيان أقسام الأزواج لم يعد إلى بيان حالهم على ترتيب ذكرهم ، بل بين حال السابقين مع أنه أخرهم ، وأخر ذكر أصحاب الشمال مع أنه قدمهم أولاً في الذكر على السابقين ، نقول : قد بينا أن عند ذكر الواقعة قدم من ينفعه ذكر الأهوال ، وأخر من لا يختلف حاله بالخوف والرجاء ، وأما عند البيان فذكر السابق لفضيلته وفضيلة حاله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 392
393
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : عرف النعيم باللام ههنا وقال في آخر السورة : {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة : 89) بدون اللام ، والمذكور في آخر السورة هو واحد من السابقين فله جنة من هذه الجنات وهذه معرفة بالإضافة إلى المعرفة ، وتلك غير معرفة فما الفرق بينهما ؟
فنقول : الفرق لفظي ومعنوي فاللفظي هو أن السابقين معرفون باللام المستغرقة لجنسهم ، فجعل موضع المعرفين معرفاً ، وأما هناك فهو غير معرف ، لأن قوله : {إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الواقعة : 88) أي إن كان فرداً منهم فجعل موضعه غير معرف / مع جواز أن يكون الشخص معرفاً وموضعه غير معرف ، كما قال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} (الذاريات : 15) و{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ} (القمر : 54) وبالعكس أيضاً ، وأما المعنوي : فنقول : عند ذكر الجمع جمع الجنات في سائر المواضع فقال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ} وقال تعالى : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة : 11 ، 12) لكن السابقون نوع من المتقين ، وفي المتقين غير السابقون أيضاً ، ثم إن السابقين لهم منازل ليس فوقها منازل ، فهي صارت معروفة لكونها في غاية العلو أو لأنها لا أحد فوقها ، وأما باقي المتقين فلكل واحد مرتبة وفوقها مرتبة فهم في جنات متناسبة في المنزلة لا يجمعها صقع واحد لاختلاف منازلهم ، وجنات السابقين على حد واحد في على عليين يعرفها كل أحد ، وأما الواحد منهم فإن منزلته بين المنازل ، ولا يعرف كل أحد أنه لفلان السابق فلم يعرفها ، وأما منازلهم فيعرفها كل أحد ، ويعلم أنها للسابقين ، ولم يعرف الذي للمتقين على وجه كذا.
المسألة الثانية : إضافة الجنة إلى النعيم من أي الأنواع ؟
نقول : إضافة المكان إلى ما يقع في المكان يقال : دار الضيافة ، ودار الدعوة ، ودار العدل ، فكذلك جنة النعيم ، وفائدتها أن الجنة في الدنيا قد تكون للنعيم ، وقد تكون للاشتغال والتعيش بأثمان ثمارها ، بخلاف الجنة في الآخرة فإنها للنعيم لا غير.
جزء : 29 رقم الصفحة : 393
(1/4349)

المسألة الثالثة : في {جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} ، يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، ويحتمل أن يكون خبراً واحداً ، أما الأول فتقديره : أولئك المقربون كائنون في جنات ، كقوله : {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ، وأما الثاني فتقديرهم المقربون في الجنات من الله كما يقال : هو المختار عند الملك في هذه البلدة ، وعلى الوجه الأول فائدته بيان تنعيم جسمهم ، وكرامة نفسهم فهم مقربون عند الله فهم في غاية اللذة وفي جنات ، فجسمهم في غاية النعيم ، بخلاف المقربين عند الملوك ، فإنهم يلتذون بالقرب لكن لا يكون لجسمهم راحة ، بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال ، ولهذا قال : {فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} ولم يقتصر على جنات ، وعلى الوجه الثاني فائدته التمييز عن الملائكة ، فإن المقربين في يومنا هذا في السموات هم الملائكة والسابقون المقربون في الجنة فيكون المقربون في غيرها هم الملائكة وفيه لطيفة : وهي أن قرب الملائكة قرب الخواص عند الملك الذين هم للأشغال ، فهم ليسوا في نعيم ، وإن كانوا في لذة عظيمة ولا يزالون مشفقين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر ولا يرتفع عنهم التكليف ، والسابقون لهم قرب عند الله ، كما يكون لجلساء الملوك ، فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر ، فيلتذون بالقرب ، ويتنعمون بالراحة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 393
393
وهذا خبر بعد خبر ، وفيه مسائل.
المسألة الأولى : قد ذكرت أن قوله : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} (الواقعة : 10) جملة ، وإنما كان الخبر عين المبتدأ / لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم ، فكيف جاء خبر بعده ؟
نقول : ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر ، كما أن واحداً يقول : زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال : لا يخفى ، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك ههنا قال : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم.
المسألة الثانية : {الاوَّلِينَ} من هم ؟
نقول : المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلّم وإنما قال : {ثُلَّةٌ} والثلة الجماعة العظيمة ، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وعلى هذا قيل : إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم ، فنزل بعده : {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} (الواقعة : 13) ، {وَثُلَّةٌ مِّنَ الاخِرِينَ} (الواقعة : 40) هذا في غاية الضعف من وجوه أحدها : أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلّم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان ، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز وثانيها : أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد ثالثها : ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلّم كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أموراً لم تعف عن غيرهم ، وجعل للنبي صلى الله عليه وسلّم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين ، وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فهم في غاية القلة وهم السابقون ورابعها : هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال : {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء ، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإذا جعل قليلاً من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة ، يكون ذلك إنعاماً في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" الوجه الثاني : المراد منه :
جزء : 29 رقم الصفحة : 393
(1/4350)

{وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ} (التوبة : 100) فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا ، لقوله تعالى : {لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} (الحديد : 10) الآية. {وَقَلِيلٌ مِّنَ الاخِرِينَ} الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وعلى هذا فقوله : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً} (الواقعة : 7) يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل ، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا عليه السلام ، وهذا ظاهر فإن الخطاب لا يتعلق إلا بالموجودين من حيث اللفظ ، ويدخل فيه غيرهم بالدليل الوجه الثالث : {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنفسهم {وَقَلِيلٌ مِّنَ الاخِرِينَ} الذين قال الله تعالى فيهم : {وَاتَّبَعَتْهُمْ} (الطور : 21) فالمؤمنون وذرياتهم إن كانوا من أصحاب اليمين فهم في الكثرة سواء ، لأن كل صبي مات وأحد أبويه مؤمن فهو من أصحاب اليمين ، وأما إن كانوا من المؤمنين السابقين ، فقلما يدرك ولدهم درجة السابقين وكثيراً ما يكون ولد المؤمن أحسن حالاً من الأب لتقصير في أبيه ومعصية لم توجد في الابن الصغير وعلى هذا فقوله : {ثَمَّ الاخَرِينَ} المراد منه الآخرون التابعون من الصغار.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 393
394
/ والموضونة هي المنسوجة القوية اللحمة والسدى ، ومنه يقال للدرع المنسوجة : موضونة والوضين هو الحبل العريض الذي يكون منه الحزم لقوة سداه ولحمته ، والسرر التي تكون للملوك يكون لها قوائم من شيء صلب ويكون مجلسهم عليها معمولاً بحرير وغير ذلك لأنه أنعم من الخشب وما يشبهه في الصلابة وهذه السرر قوائمها من الجواهر النفيسة ، وأرضها من الذهب الممدود ، وقوله تعالى : {مُّتَّكِـاِينَ عَلَيْهَا} للتأكيد ، والمعنى أنهم كائنون على سرر متكئين عليها متقابلين ، ففائدة التأكيد هو أن لا يظن أنهم كائنون على سرر متكئين على غيرها كما يكون حال من يكون على كرسي صغير لا يسعه للاتكاء فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه ، فلما قال : على سرر متكئين عليها دل هذا على أن استقرارهم واتكاءهم جميعاً على سرر ، وقوله تعالى : {مُتَقَـابِلِينَ} فيه وجهان أحدهما : أن أحداً لا يستدبر أحداً وثانيهما : أن أحداً من السابقين لا يرى غيره فوقه ، وهذا أقرب لأن قوله : {مُتَقَـابِلِينَ} على الوجه الأول يحتاج إلى أن يقال : متقابلين معناه أن كل أحد يقابل أحداً في زمان واحد ، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات ، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور ، فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية جميع جهاتهم وجه كالنور الذي يقابل كل شيء ولا يستدبر أحداً ، والوجه الأول أقرب إلى أوصاف المكانيات.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 394
396
والولدان جمع الوليد ، وهو في الأصل فعيل بمعنى مفعول وهو المولود لكن غلب على الصغار مع قطع النظر عن كونهم مولودين ، والدليل أنهم قالوا للجارية الصغيرة وليدة ، ولو نظروا إلى الأصل لجردوها عن الهاء كالقتيل ، إذا ثبت هذا فنقول : في الولدان وجهان أحدهما : أنه على الأصل وهم صغار المؤمنين وهو ضعيف ، لأن صغار المؤمنين أخبر الله تعالى عنهم أنه يلحقهم بآبائهم ، ومن الناس المؤمنين الصالحين من لا ولد له فلا يجوز أن يخدم ولد المؤمن مؤمناً غيره ، فيلزم إما أن يكون لهم اختصاص ببعض الصالحين وأن لا يكون لمن لا يكون له ولد من يطوف عليه من الولدان ، وإما أن يكون ولد الآخر يخدم غير أبيه وفيه منقصة بالأب ، وعلى هذا الوجه قيل : هم صغار الكفار وهو أقرب من الأول إذ ليس فيه ما ذكرنا من المفسدة والثاني : أنه على الاستعمال الذي لم يلحظ فيه الأصل وهو إرادة الصغار مع قطع النظر عن كونهم مولودين وهو حينئذ كقوله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} (الطور : 24) وفي قوله تعالى : {مُّخَلَّدُونَ} وجهان أحدهما : أنه من الخلود والدوام ، وعلى هذا الوجه يظهر / وجهان آخران أحدهما : أنهم مخلدون ولا موت لهم ولا فناء وثانيهما : لا يتغيرون عن حالهم ويبقون صغاراً دائماً لا يكبرون ولا يلتحون والوجه الثاني : أنه من الخلدة وهو القرط بمعنى في آذانهم حلق ، والأول أظهر وأليق.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 396
397
أواني الخمر تكون في المجالس ، وفي الكوب وجهان أحدهما : أنه من جنس الأقداح وهو قدح كبير وثانيهما : من جنس الكيزان ولا عروة له ولا خرطوم والإبريق له عروة وخرطوم ، وفي الآية مسائل :
(1/4351)

المسألة الأولى : ما الفرق بين الأكواب والأباريق والكأس حيث ذكر الأكواب والأباريق بلفظ الجميع والكأس بلفظ الواحد ولم يقل : وكئوس ؟
نقول : هو على عادة العرب في الشرب يكون عندهم أوان كثيرة فيها الخمر معدة موضوعة عندهم ، وأما الكأس فهو القدح الذي يشرب به الخمر إذا كان فيه الخمر ولا يشرب واحد في زمان واحد إلا من كأس واحد ، وأما أواني الخمر المملوءة منها في زمان واحد فتوجد كثيراً ، فإن قيل : الطواف بالكأس على عادة أهل الدنيا وأما الطواف بالأكواب والأباريق فغير معتاد فما الفائدة فيه ؟
نقول : عدم الطواف بها في الدنيا لدفع المشقة عن الطائف لثقلها وإلا فهي محتاج إليها بدليل أنه عند الفراغ يرجع إلى الموضع الذي هو فيه ، وأما في الآخرة فالآنية تدور بنفسها والوليد معها إكراماً لا للحمل ، وفيه وجه آخر من حيث اللغة وهو أن الكأس إناء فيه شراب فيدخل في مفهومه المشروب ، والإبريق آنية لا يشترط في إطلاق اسم الإبريق عليها أن يكون فيها شراب ، وإذا ثبت هذا فنقول الإناء المملوء الاعتبار لما فيه لا للإناء ، وإذا كان كذلك فاعتبار الكأس بما فيه لكن فيه مشروب من جنس واحد وهو المعتبر ، والجنس لا يجمع إلا عند تنوعه فلا يقال للأرغفة من جنس واحد : أخباز ، وإنما يقال : أخباز عندما يكون بعضها أسود وبعضها أبيض وكذلك اللحوم يقال عند تنوع الحيوانات التي منها اللحوم ولا يقال للقطعتين من اللحم لحمان ، وأما الأشياء المصنفة فتجمع ، فالأقداح وإن كانت كبيرة لكنها لما ملئت خمراً من جنس واحد لم يجز أن يقال لها : خمور فلم يقل : كئوس وإلا لكان ذلك ترجيحاً للظروف ، لأن الكأس من حيث إنها شراب من جنس واحد لا بجمع واحد فيترك الجمع ترجيحاً لجانب المظروف بخلاف الإبريق فإن المعتبر فيه الإناء فحسب ، وعلى هذا يتبين بلاغة القرآن حيث لم يرد فيه لفظ الكئوس إذ كان ما فيها نوع واحد من الخمر ، وهذا بحث عزيز في اللغة.
المسألة الثانية : في تأخير الكأس ترتيب حسن ، فكذلك في تقديم الأكواب إذا كان الكوب منه يصب الشراب في الإبريق ومن الإبريق الكأس.
/ المسألة الثالثة : {مِّن مَّعِينٍ} بيان ما في الكأس أو بيان ما في الأكواب والأباريق ، نقول : يحتمل أن يكون الكل من معين والأول أظهر بالوضع ، والثاني ليس كذلك ، فلما قال : {وَكَأْسٍ} فكأنه قال : ومشروب ، وكأن السامع محتاجاً إلى معرفة المشروب ، وأما الإبريق فدلالته على المشروب ليس بالوضع ، وأما المعنى فلأن كون الكل ملآناً هو الحق ، ولأن الطواف بالفارغ لا يليق فكان الظاهر بيان ما في الكل ، ومما يؤيد الأول هو أنه تعالى عند ذكر الأواني ذكر جنسها لا نوع ما فيها فقال تعالى : {وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـاَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} (الإنسان : 15) الآية ، وعند ذكر الكأس بين ما فيها فقال : {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} فيحتمل أن الطواف بالأباريق ، وإن كانت فارغة للزينة والتجمل وفي الآخرة تكون للإكرام والتنعم لا غير.
جزء : 29 رقم الصفحة : 397
المسألة الرابعة : ما معنى المعين ؟
قلنا : ذكرنا في سورة الصافات أنه فعيل أو مفعول ومضى فيه خلاف ، فإن قلنا : فعيل فهو من معن الماء إذا جرى وإن قلنا : مفعول فهو من عانه إذا شخصه بعينه وميزه ، والأول أصح وأظهر لأن المعيون يوهم بأنه معيوب لأن قول القائل : عانني فلان معناه ضرني إذا أصابتني عينه/ ولأن الوصف بالمفعول لا فائدة فيه ، وأما الجريان في المشروب فهو إن كان في الماء فهو صفة مدح وإن كان في غيره فهو أمر عجيب لا يوجد في الدنيا ، فيكون كقوله تعالى : {وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ} (محمد : 15).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 397
398
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {لا يُصَدَّعُونَ} فيه وجهان أحدهما : لا يصيبهم منها صداع يقال : صدعني فلان أي أورثني الصداع والثاني : لا ينزفون عنها ولا ينفدونها من الصدع ، والظاهر أن أصل الصداع منه ، وذلك لأن الألم الذي في الرأس يكون في أكثر الأمر بخلط وريح في أغشية الدماغ فيؤلمه فيكون الذي به صداع كأنه يتطرف في غشاء دماغه.
(1/4352)

المسألة الثانية : إن كان المراد نفي الصداع فكيف يحسن عنها مع أن المستعمل في السبب كلمة من ، فيقال : مرض من كذا وفي المفارقة يقال : عن ، فيقال : برىء عن المرض ؟
نقول : الجواب هو أن السبب الذي يثبت أمراً في شيء كأنه ينفصل عنه شيء ويثبت في مكانه فعله ، فهناك أمران ونظران إذا نظرت إلى المحل ورأيت فيه شيئاً تقول : هذا من ماذا ، أي ابتداء وجوده من أي شيء فيقع نظرك على السبب فتقول : هذا من هذا أي ابتداء وجوده منه ، وإذا نظرت إلى جانب المسبب ترى الأمر الذي صدر عنه كأنه فارقه والتصق بالمحل ، ولهذا لا يمكن أن يوجد ذلك مرة أخرى ، والسبب كأنه كان فيه وانتقل عنه في أكثر الأمر فههنا يكون الأمران من الأجسام والأمور التي لها قرب وبعد ، إذا علم هذا فنقول : المراد ههنا بيان خمر الآخرة في / نفسها وبيان ما عليها ، فالنظر وقع عليها لا على الشاربين ولو كان المقصود أنهم لا يصدعون عنها لوصف منهم لما كان مدحاً لها ، وأما إذا قال : هي لا تصدع لأمر فيها يكون مدحاً لها فلما وقع النظر عليها قال عنها ، وأما إذا كنت تصف رجلاً بكثرة الشرب وقوته عليه ، فإنك تقول : في حقه هو لا يصدع من كذا من الخمر ، فإذا وصفت الخمر تقول هذه لا يصدع عنها أحد.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَلا يُنزِفُونَ} تقدم تفسيره في الصافات والذي يحسن ذكره هنا أن نقول : إن كان معنى {وَلا يُنزِفُونَ} لا يسكرون ، فنقول : إما أن نقول معنى : {لا يُصَدَّعُونَ} أنهم لا يصيبهم الصداع ، وإما أنهم لا يفقدون ، فإن قلنا : بالقول الأول فالترتيب في غاية الحسن لأنه على طريقة الارتقاء ، فإن قوله تعالى : {لا يُصَدَّعُونَ} معناه لا يصيبهم الصداع لكن هذا لا ينفي السكر فقال : بعده ولا يورث السكر ، كقول القائل : ليس فيه مفسدة كثيرة ، ثم يقول : ولا قليلة ، تتميماً للبيان ، ولو عكست الترتيب لا يكون حسناً ، وإن قلنا : {وَلا يُنزِفُونَ} لا يفقدون فالترتيب أيضاً كذلك لأن قولنا : {لا يُصَدَّعُونَ} أي لا يفقدونه ومع كثرته ودوام شربه لا يسكرون فإن عدم السكر لنفاد الشراب ليس بعجب ، لكن عدم سكرهم مع أنهم مستديمون للشراب عجيب وإن قلنا : {وَلا يُنزِفُونَ} بمعنى لا ينفد شرابهم كما بينا هناك. فنقول : أيضاً إن كان لا يصدعون بمعنى لا يصيبهم صداع فالترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن قوله : {لا يُصَدَّعُونَ} لا يكون بيان أمر عجيب إن كان شرابهم قليلاً فقال : {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} مع أنهم لا يفقدون الشراب ولا ينزفون الشراب ، وإن كان بمعنى لا ينزفون عنها فالترتيب حسن لأن معناه لا ينزفون عنها بمعنى لا يخرجون عما هم فيه ولا يؤخذ منهم ما أعطوا من الشراب ، ثم إذا أفنوها بالشراب يعطون.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 398
400
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه الجر ، والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين أحدهما : حالة الشرب والأخرى حال عدمه ، فالفاكهة من رءوس الأشجار تؤخذ ، كما قال تعالى : {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (الحاقة : 23) وقال : {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (الرحمن : 54) إلى غير ذلك ، وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان ، فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام ، كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن كان كل واحد منهما مشاركاً للآخر في القرب منها والوجه الثاني : أن يكون عطفاً في المعنى على جنات النعيم ، أي هم المقربون في جنات وفاكهة ، ولحم وحور ، أي في هذه النعم يتقلبون ، والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى ، وكيف لا يجوز هذا ، وقد جاز تقلد سيفاً ورمحاً.
(1/4353)

/ المسألة الثانية : هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة ؟
قلت : وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة ، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل ، ولا يصل إليها على القليل ، والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم ، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة ، والجائع مشته والشبعان غير مشته ، وإنما هو مختار إن أراد أكل ، وإن لم يرد لا يأكل ، ولا يقال في الجائع إن أراد أكل لأن أن لا تدخل إلا على المشكوك ، إذا علم هذا ثبت أن في الدنيا اللحم عند المشتهي مختار والفاكهة عند غير المشتهى مختارة وحكاية الجنة على ما يفهم في الدنيا فحص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار ، والتحقيق فيه من حيث اللفظ أن الاختيار هو أخذ الخير من أمرين والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أو لا ميل إلى أحدهما ، ثم يتفكر ويتروى ، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر فالتفكه هو ما يكون عند عدم الحاجة ، وأما إن اشتهى واحد فاكهة بعينها فاستحضرها وأكلها فهو ليس بمتفكه وإنما هو دافع حاجة ، وأما فواكه الجنة تكون أولاً عند أصحاب الجنة من غير سبق ميل منهم إليها ثم يتفكهون بها على حسب اختيارهم ، وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل فيحضر عندهم ، وميل النفس إلى المأكول شهوة ، ويدل على هذا قوله تعالى : {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (الحاقة : 23) وقوله : {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} (الرحمن : 54) وقوله تعالى : {وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} (الواقعة : 32 ، 33) فهو دليل على أنها دائمة الحضور ، وأما اللحم فالمروي أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه فينزل مشوياً ومقلياً على حسب ما يشتهيه ، فالحاصل أن الفاكهة تحضر عندهم فيتخير المؤمن بعد الحضور واللحم يطلبه المؤمن وتميل نفسه إليه أدنى ميل ، وذلك لأن الفاكهة تلذ الأعين بحضورها ، واللحم لا تلذ الأعين بحضوره ، ثم إن في اللفظ لطيفة ، وهي أنه تعالى قال : {مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} ولم يقل : مما يختارون مع قرب أحدهما إلى الآخر في المعنى ، وهو أن التخير من باب التكلف فكأنهم يأخذون ما يكون في نهاية الكمال ، وهذا لا يوجد إلا ممن لا يكون له حاجة ولا اضطرار.
جزء : 29 رقم الصفحة : 400
المسألة الثالثة : ما الحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه أحدها : العادة في الدنيا التقديم للفواكه في الأكل والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف وعلى ما علم فيها/ ولا سيما عادة أهل الشرب وكأن المقصود بيان حال شرب أهل الجنة وثانيها : الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولاً لأنها ألطف وأسرع انحداراً وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للهضم ، ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها وثالثها : يخرج مما ذكرنا جواباً خلا عن لفظ التخيير والاشتهاء هو أنه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود ، واللحم يشتهي ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال : {وَفَـاكِهَةٍ} لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها ، وهذا الوجه أصح لأن من الفواكه مالا يؤكل إلا بعد الطعام ، فلا يصح الأول جواباً في الكل.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 400
403
وفيها قراءات الأولى : الرفع وهو المشهور ، ويكون عطفاً على ولدان ، فإن قيل قال قبله : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} (الرحمن : 72) إشارة إلى كونها مخدرة ومستورة ، فكيف يصح قولك : إنه عطف على ولدان ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : وهو المشهور أن نقول : هو عطف عليهم في اللفظ لا في المعنى ، أو في المعنى على التقدير والمفهوم لأن قوله تعالى : {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} (الواقعة : 17) معناه لهم ولدان كما قال تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} (الطور : 24) فيكون : {وَحُورٌ عِينٌ} بمعنى ولهم حور عين وثانيهما : وهو أن يقال : ليست الحور منحصرات في جنس ، بل لأهل الجنة : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} في حظائر معظمات ولهن جواري وخوادم ، وحور تطوف مع الولدان السقاة فيكون كأنه قال : يطوف عليهم ولدان ونساء الثانية : الجر عطفاً على أكواب وأباريق ، فإن قيل : كيف يطاف بهن عليهم ؟
نقول : الجواب سبق عند قوله : {وَلَحْمِ طَيْرٍ} (الواقعة : 21) أو عطفاً على : {جَنَّـاتِ} أي : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة : 12) وحور وقرىء {وَقَرِّى عَيْنًا } بالنصب ، ولعل الحاصل على هذه القراءة على غير العطف بمعنى العطف لكن هذا القارىء لا بد له من تقدير ناصب فيقول : يؤتون حوراً فيقال : قد رافعاً فقال : ولهم حور عين فلا يلزم الخروج عن موافقة العاطف وقوله تعالى : {كَأَمْثَـالِ اللُّؤْلُواِ الْمَكْنُونِ} فيه مباحث.
(1/4354)

جزء : 29 رقم الصفحة : 403
الأول : الكاف للتشبيه ، والمثل حقيقة فيه ، فلو قال : أمثال اللؤلؤ المكنون لم يكن إلى الكاف حاجة ، فما وجه الجمع بين كلمتي التشبيه ؟
نقول : الجواب المشهور أن كلمتي التشبيه يفيدان التأكيد والزيادة في التشبيه ، فإن قيل : ليس كذلك بل لا يفيدان ما يفيد أحدهما لأنك إن قلت مثلاً : هو كاللؤلؤة للمشبه ، دون المشبه به في الأمر الذي لأجله التشبيه ؟
نقول : التحقيق فيه ، هو أن الشيء إذا كان له مثل فهو مثله ، فإذا قلت هو مثل القمر لا يكون في المبالغة مثل قولك هو قمر وكذلك قولنا : هو كالأسد ، وهو أسد ، فإذا قلت : كمثل اللؤلؤ كأنك قلت : مثل اللؤلؤ وقولك : هو اللؤلؤ أبلغ من قولك : هو كاللؤلؤ ، وهذا البحث يفيدنا ههنا ، ولا يفيدنا في قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } لأن النفي في مقابلة الإثبات ، ولا يفهم معنى النفي من الكلام مالم يفهم معنى الإثبات الذي يقابله ، فنقول قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } في مقابلة قول من يقول : كمثله شيء ، فنفى ما أثبته لكن معنى قوله : {كَمِثْلِه شَىْءٌ } إذا لم نقل بزيادة الكاف هو أن مثل مثله شيء ، وهذا كلام يدل على أن له مثلاً ، ثم إن لمثله مثلاً ، فإذا قلنا : ليس كذلك كان رداً عليه ، والرد عليه صحيح بقي أن يقال : إن الراد على من يثبت أموراً لا يكون نافياً لكل ما أثبته ، فإذا قال قائل : زيد عالم جيد ، ثم قيل رداً عليه : ليس زيد عالماً جيداً لا يلزم من هذا أن يكون نافياً لكونه عالماً ، فمن يقول : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } بمعنى ليس مثل مثله شيء لا يلزم أن يكون نافياً لمثله ، بل يحتمل أن يكون نافياً لمثل المثل ، فلا يكون / الراد أيضاً موحداً فيخرج الكلام عن إفادة التوحيد ، فنقول : يكون مفيداً للتوحيد لأنا إذا قلنا : ليس مثل مثله شيء لزم أن لا يكون له مثل لأنه لو كان له مثل لكان هو مثل مثله ، وهو شيء بدليل قوله تعالى : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه } (الأنعام : 19) فإن حقيقة الشيء هو الموجود فيكون مثل مثله شيء وهو منفي بقولنا : ليس مثل مثله شيء ، فعلم أن الكلام لا يخرج عن إفادة التوحيد ، فعلم أن الحمل على الحقيقة يفيد في الكلام مبالغة في قوله تعالى : {كَأَمْثَـالِ} وأما عدم الحمل عليها في قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ }
جزء : 29 رقم الصفحة : 403
فهو أوجز فتجعل الكاف زائدة لئلا يلزم التعطيل ، وهو نفي الإله ، نقول : فيه فائدة ، وهو أن يكون ذلك نفياً مع الإشارة إلى وجه الدليل على النفي ، وذلك لأنه تعالى واجب الوجود ، وقد وافقنا من قال بالشريك ، ولا يخالفنا إلا المعطل ، وذلك إثباته ظاهراً ، وإذا كان هو واجب الوجود فلو كان له مثل لخرج عن كونه واجب الوجود ، لأنه مع مثله تعادلاً في الحقيقة ، وإلا لما كان ذلك مثله وقد تعدد فلا بد من انضمام مميز إليه به يتميز عن مثله ، فلو كان مركباً فلا يكون واجباً لأن كل مركب ممكن ، فلو كان له مثل لما كان هو هو فيلزم من إثبات المثل له نفيه ، فقوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } إذا حملناه أنه ليس مثل مثله شيء ، ويكون في مقابلته قول الكافر : مثل مثله شيء فيكون مثبتاً لكونه مثل مثله ويكون مثله يخرج عن حقيقة نفسه ومنه لا يبقى واجب الوجود فذكر المثلين لفظاً يفيد التوحيد مع الإشارة إلى وجه الدليل على بطلان قول المشرك ولو قلنا : ليس مثله شيء يكون نفياً من غير إشارة إلى دليل ، والتحقيق فيه أنا نقول : في نفي المثل رداً على المشرك لا مثل لله ، ثم نستدل عليه ونقول : لو كان له مثل لكان هو مثلاً لذلك المثل فيكون ممكناً محتاجاً فلا يكون إلهاً ولو كان له مثل لما كان الله إلهاً واجب الوجود ، لأن عند فرض مثل له يشاركه بشيء وينافيه بشيء ، فيلزم تركه فلو كان له مثل لخرج عن حقيقة كونه إلهاً فإثبات الشريك يفضي إلى نفي الإله فقوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } توحيد بالدليل وليس مثله شيء توحيد من غير دليل وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعدما فرغت من كتابة هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائدلا لا أحصيها ، وأما قوله تعالى : {اللُّؤْلُواِ الْمَكْنُونِ} إشارة إلى غاية صفائهن أي اللؤلؤ الذي لم يغير لونه الشمس والهواء.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 403
405
(1/4355)

وفي نصبه وجهان أحدهما : أنه مفعول له وهو ظاهر تقديره فعل بهم هذا ليقع جزاء وليجزون بأعمالهم ، وعلى هذا فيه لطيفة : وهي أن نقول : المعنى أن هذا كله جزاء عملكم وأما الزيادة / فلا يدركها أحد منكم وثانيهما : أنه مصدر لأن الدليل على أن كل ما يفعله الله فهو جزاء فكأنه قال : تجزون جزاء ، وقوله : {بِمَا كَانُوا } قد ذكرنا فائدته في سورة الطور وهي أنه تعالى قال في حق المؤمنين : {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24) وفي حق الكافرين : {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم : 7) إشارة إلى أن العذاب عين جزاء ما فعلوا فلا زيادة عليهم ، والثواب : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة : 17) فلا يعطيهم الله عين عملهم ، بل يعطيهم بسبب عملهم ما يعطيهم ، والكافر يعطيه عين ما فعل ، فيكون فيه معنى قوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا} (الأنعام : 160) وفيه مسائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
المسألة الأولى : أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة ، ونحن نذكر بعضها فالأولى : قالت المعتزلة : هذا يدل على أن يقال : الثواب على الله واجب ، لأن الجزاء لا يجوز المطالبة به ، وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة ، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه وهو ما ذكروه. ولو صح لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة ، وذلك لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح وعلم بالعقل أن القبيح من الله لا يوجد علم أن الله يعطي هذه الأشياء لأنها أجزية ، وإيصال الجزاء واجب ، وأما إذا قلنا : بمذهبنا تكون الآيات مفيدة مبشرة ، لأن البشارة لا تكون إلا بالخير عن أمر غير معلوم ، لا يقال : الجزاء كان واجباً على الله وأما الخبر بهذه الأشياء فلا يذكرها مبشراً ، لأنا نقول : إذا وجب نفس الجزاء فما أعطانا الله تعالى من النعم في الدنيا جزاء فثواب الآخرة لا يكون إلا تفضلاً منه ، غاية ما في الباب أنه تعالى كمل النعمة بقوله : هذا جزاؤكم ، أي جعلته لكم جزاء ، ولم يكن متعيناً ولا واجباً ، كما أن الكريم إذا أعطى من جاء بشيء يسير شيئاً كثيراً ، فيظن أنه يودعه إيداعاً أو يأمره بحمله إلى موضع ، فيقول له : هذا لك فيفرح ، ثم إنه يقول : هذا إنعام عظيم يوجب على خدمة كثيرة ، فيقول له هذا جزاء ما أتيت به ، ولا أطلب منك على هذا خدمة ، فإن أتيت بخدمة فلها ثواب جديد ، فيكون هذا غاية الفضل ، وعند هذا نقول : هذا كله إذا كان الآتي غير العبد ، وأما إذا فعل العبد ما أوجب عليه سيده لا يستحق عليه أجراً ، ولا سيما إذا أتى بما أمر به على نوع اختلال ، فما ظنك بحالنا مع الله عز وجل ، مع أن السيد لا يملك من عبده إلا البنية ، والله تعالى يملك منا أنفسنا وأجسامنا ، ثم إنك إذا تفكرت في مذهب أهل السنة تجدهم قد حققوا معنى العبودية غاية التحقيق ، واعترفوا أنهم عبيد لا يملكون شيئاً ولا يجب للعبد على السيد دين ، والمعتزلة لم يحققوا العبودية ، وجعلوا بينهم وبين الله معاملة توجب مطالبة ، ونرجوا أن يحقق الله تعالى معنا المالكية غاية التحقيق ، ويدفع حاجاتنا الأصلية ويطهر أعمالنا ، كما أن السيد يدفع حاجة عبده بإطعامه وكسوته ، ويطهر صومه بزكاة فطره ، وإذا جنى جناية لم يمكن المجنى عليه منه ، بل يختار فداءه ويخلص رقبته من الجناية ، كذلك يدفع الله حاجاتنا في الآخرة ، وأهم الحاجات أن يرحمنا ويعفو عنا ، ويتغمدنا / بالمغفرة والرضوان ، حيث منع غيره عن تملك رقابنا باختيار الفداء عنا/ وأرجو أن لا يفعل مع إخواننا المعتزلة ما يفعله المتعاملان في المحاسبة بالنقير والقطمير ، والمطالبة بما يفضل لأحدهما من القليل والكثير.
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
المسألة الثانية : قالوا : لو كان في الآخرة رؤية لكانت جزاء ، وقد حصر الله الجزاء فيما ذكر والجواب عنه : أن نقول : لم قلتم : إنها لو كانت تكون جزاء ، بل تكون فضلاً منه فوق الجزاء ، وهب أنها تكون جزاء ، ولكن لم قلتم : إن ذكر الجزاء حصر وإنه ليس كذلك ، لأن من قال لغيره : أعطيتك كذا جزاء على عمل لا ينافي قوله : وأعطيتك شيئاً آخر فوقه أيضاً جزاء عليه ، وهب أنه حصر ، لكن لم قلتم : إن القربة لا تدل على الرؤية ، فإن قيل : قال في حق الملائكة : {وَلا الْمَلَـا اـاِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } (النساء : 172) ، ولم يلزم من قربهم الرؤية ، نقول : أجبنا أن قربهم مثل قرب من يكون عند الملك لقضاء الأشغال ، فيكون عليه التكليف والوقوف بين يديه بالباب تخرج أوامره عليه ، كما قال تعالى : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم : 6) وقرب المؤمن قرب المنعم من الملك ، وهو الذي لا يكون إلا للمكالمة والمجالسة في الدنيا ، لكن المقرب المكلف ليس كلما يروح إلى باب الملك يدخل عليه وأما المنعم لا يذهب إليه إلا ويدخل عليه فظهر الفرق.
(1/4356)

والذي يدل على أن قوله : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة : 11) فيه إشارة إلى الرؤية هو أن الله تعالى في سورة المطففين ذكر الأبرار والفجار ، ثم إنه تعالى قال في حق الفجار : {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين : 15) وقال في الأبرار : {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين : 28) ولم يذكر في مقابلة المحجوبون ما يدل على مخالفة حال الأبرار حال الفجار في الحجاب والقرب ، لأن قوله : {لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) وإن كان دليلاً على القرب وعلو المنزلة لكنه في مقابلة قوله : {لَفِى سِجِّينٍ} (المطففين : 7) فقوله تعالى في حقهم : {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} مع قوله تعالى : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (الإنسان : 21) يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون لجلساء الملك عند الملك ، وقوله في حق الملائكة في تلك السورة : {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين : 21) يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون للكتاب والحساب عند الملك لما أنه في الدنيا يحسد أحدهما الآخر ، فإن الكاتب إن كان قربه من الملك بسبب الخدمة لا يختار قرب الكتاب والحساب ، بل قرب النديم ، ثم إنه بين ذلك النوع من القرب وبين القرب الذي بسبب الكتابة ما يحمله على أن يختار غيره ، وفي سورة المطففين قوله : {لَّمَحْجُوبُونَ} يدل على أن المقربين غير محجوبين عن النظر إلى الله تعالى ، وينبغي أن لا ينظر إلى الله قولنا : جلساء الملك في ظاهر النظر الذي يقتضي في نظر القوم الجهة وإلى القرب الذي يفهم العامي منه المكان إلا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
المسألة الثالثة : قالوا قوله تعالى : {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يدل على أن العمل عملهم وحاصل بفعلهم ، نقول : لا نزاع في أن العلم في الحقيقة اللغوية وضع للفعل والمجنون للذي لا عقل له والعاقل للذي بلغ الكمال فيه ، وذلك ليس إلا بوضع اللغة لما يدرك بالحس ، وكل أحد يرى / الحركة من الجسمين فيقول : تحرك وسكن على سبيل الحقيقة ، كما يقول : تدور الرحا ويصعد الحجر ، وإنما الكلام في القدرة التي بها الفعل في المحل المرئي ، وذلك خارج عن وضع اللغة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
405
ثم قال تعالى : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في تأخير ذكره عن الجزاء مع أنه من النعم العظيمة ؟
نقول فيه لطائف الأولى : أن هذا من أتم النعم ، فجعلها من باب الزيادة التي منها الرؤية عند البعض ولا مقابل لها من الأعمال ، وإنما قلنا : إنها من أتم النعم ، لأنها نعمة سماع كلام الله تعالى على ما سنبين أن المراد من قوله : {سَلَـامًا} هو ما قال في سورة يس : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) فلم يذكرها فيما جعله جزاء ، وهذا على قولنا : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة : 11) ليس فيه دلالة على الرؤية الثانية : أنه تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا ، وهي الرؤية بالنظر كما مر وختم بمثلها ، وهي نعمة المخاطبة الثالثة : هي أنه تعالى لما ذكر النعم الفعلية وقابلها بأعمالهم حيث قال : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24) ذكر النعم القولية في مقابلة أذكارهم الحسنة ولم يذكروا اللذات العقلية التي في مقابلة أعمال قلوبهم من إخلاصهم واعتقادهم ، لأن العمل القلبي لم ير ولم يسمع ، فما يعطيهم الله تعالى من النعمة تكون نعمة لم ترها عين ولا سمعتها أذن ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم فيها : "مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر" وقوله عليه السلام : "ولا خطر" إشارة إلى الزيادة ، والذي يدل على النعمة القولية في مقابلة قولهم الطيب قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا } إلى قوله : {نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (فصلت : 30 ـ 32).
(1/4357)

المسألة الثانية : قوله تعالى : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} نفي للمكروه لما أن اللغو كلام غير معتبر ، لأنه عند المعتبرين من الرجال مكروه ، ونفي المكروه لا يعد من النعم العظيمة التي مر ذكرها ، كيف وقد ذكرت أن تأخير هذه النعمة لكونها أتم ، ولو قال : إن فلاناً في بلدة كذا محترم مكرم لا يضرب ولا يشتم فهو غير مكرم وهو مذموم والواغل مذموم وهو الذي يدخل على قوم يشربون ويأكلون فيأكل ويشرب معهم من غير دعاء ولا إذن فكأنه بالنسبة إليهم في عدم الاعتبار كلام غير معتبر وهو اللغو ، وكذلك ما يتصرف منه مثل الولوغ لا يقال إلا إذا كان الوالغ كلباً أو ما يشبهه من السباع ، وأما التأثيم فهو النسبة إلى الإثم ومعناه لا يذكر إلا باطلاً ولا ينسبه أحد إلا إلى الباطل ، وأما التقديم فلأن اللغو أعم من التأثيم أي يجعله آثماً كما تقول : إنه فاسق أو سارق ونحو ذلك وبالجملة فالمتكلم ينقسم إلى أن يلغو وإلى أن لا يلغو والذي لا يلغو يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيأخذ الناس بأقوالهم وهو لا يؤخذ عليه شيء ، فقال / تعالى : لا يلغو أحد ولا يصدر منه لغو ولا ما يشبه اللغو فيقول له : الصادق لا يلغو ولا يأثم ولا شك في أن الباطل أقبح ما يشبهه فقال : لا يأثم أحد.
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
المسألة الثالثة : قال تعالى في سورة النبأ : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} (النبأ : 35) فهل بينهما فرق ؟
قلنا : نعم الكذاب كثير التكذيب ومعناه هناك أنهم لا يسمعون كذباً ولا أحداً يقول لآخر : كذبت وفائدته أنهم لا يعرفون كذباً من معين من الناس ولا من واحد منهم غير معين لتفاوت حالهم وحال الدنيا فإنا نعلم أن بعض الناس بأعيانهم كذابون فإن لم نعرف ذلك نقطع بأن في الناس كذاباً لأن أحدهم يقول لصاحبه : كذبت فإن صدق فصاحبه كذاب ، وإن لم يصدق فهو كاذب فيعلم أن في الدنيا كذاباً بعينه أو بغير عينه ولا كذلك في الآخرة فلا كذب فيها ، وقال ههنا : {وَلا تَأْثِيمًا} وهو أبلغ من التكذيب فإن من يقول في حق من لا يعرفه : إنه زان أو شارب الخمر مثلاً فإنه يأثم وقد يكون صادقاً ، فالذي ليس عن علم إثم فلا يقول أحد لأحد : قلت مالا علم لك به فالكلام ههنا أبلغ لأنه قصر السورة على بيان أحوال الأقسام لأن المذكورين هنا هم السابقون وفي سورة النبأ هم المتقون ، وقد بينا أن السابق فوق المتقي.
المسألة الرابعة : {إِلا قِيلا} استثناء متصل منقطع ، فنقول : فيه وجهان أحدهما : وهو الأظهر أنه منقطع لأن السلام ليس من جنس اللغو تقديره لكن يسمعون : قيلا سلاماً سلاماً ثانيهما : أنه متصل ووجهه أن نقول : المجاز قد يكون في المعنى ، ومن جملته أنك تقول : مالي ذنب إلا أحبك ، فلهذا تؤذيني فتستثني محبته من الذنب ولا تريد المنقطع لأنك لا تريد بهذا القول بيان أنك تحبه إنما تريد في تبرئتك عن الذنوب ووجهه هو أن بينهما غاية الخلاف وبينهما أمور متوسطة ، مثاله : الحار والبارد وبينهما الفاتر الذي هو أقرب إلى الحار من البارد وأقرب إلى البارد من الحار ، والمتوسط يطلق عليه اسم البارد عند النسبة إلى الحار فيقال : هذا بارد ويخبر عنه بالنسبة إلى البارد فيقال : إنه حار ، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل : مالي ذنب إلا أني أحبك ، معناه لا تجد ما يقرب من الذنب إلا المحبة فإن عندي أموراً فوقها إذا نسبتها إلى الذنب تجد بينها غاية الخلاف فيكون ذلك كقوله : درجات الحب عندي طاعتك وفوقها إن أفضل جانب أقل أمر من أمورك على جانب الحفظ لروحي ، إشارة إلى المبالغة كما يقول القائل : ليس هذا بشيء مستحقراً بالنسبة إلى ما فوقه فقوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أي يسمعون فيها كلاماً فائقاً عظيم الفائدة كامل اللذة أدناها وأقربها إلى اللغو قول بعضهم لبعض : سلام عليك فلا يسمعون ما يقرب من اللغو إلا سلاماً ، فما ظنك بالذين يبعد منه كما يبعد الماء البارد الصادق والماء الذي كسرت الشمس برودته وطلب منه ماء حار ليس عندي ماء حار إلا هذا أي ليس عندي ما يبعد من البارد الصادق البرودة ويقرب من الحار إلا هذا وفيه المبالغة الفائقة والبلاغة الرائقة وحينئذ يكون اللغو مجازاً ، والاستثناء متصلاً فإن قيل : إذا لم يكن بد من مجاز وحمل اللغو على ما يقرب منه بالنسبة إليه فليحمل إلا على لكن لأنهما / مشتركان في إثبات خلاف ما تقدم ، نقول : المجاز في الأسماء أولى من المجاز في الحروف لأنها تقبل التغير في الدلالة وتتغير في الأحوال ، ولا كذلك الحروف لأن الحروف لا تصير مجازاً إلا بالاقتران باسم والإسم يصير مجازاً من غير الاقتران بحرف فإنك تقول : رأيت أسداً يرمي ويكون مجازاً ولا اقتران له بحرف ، وكذلك إذا قلت لرجل : هذا أسد وتريد بأسد كامل الشجاعة ، ولأن عرض المتكلم في قوله مالي ذنب إلا أني أحبك ، لا يحصل بما ذكرت من المجاز ، ولأن العدول عن الأصل لا يكون له فائدة من المبالغة والبلاغة.
(1/4358)

جزء : 29 رقم الصفحة : 405
المسألة الخامسة : في قوله تعالى : {قِيلا} قولان : أحدهما : إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدراً ، كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف ثانيهما : إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر ، وعلى هذا نقول : الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو : قال وقيل ، لما لم يذكر فاعله ، وما قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن القيل والقال ، يكون معناه نهى عن المشاجرة ، وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها ، وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله صلى الله عليه وسلّم : "رحم الله عبداً قال خيراً فغنم ، أو سكت فسلم" وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله ، والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله ، تقول : قال فلان كذا ، ثم قيل له : كذا ، فقال : كذا ، فيكون حاصل كلامه قيل وقال ، وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله ، والقال مأخوذ من قيل هو قال ، ولقائل أن يقول : هذا باطل لقوله تعالى : {وَقِيلِه يَـارَبِّ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} (الزخرف : 88) فإن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلّم أي يعلم الله قيل محمد : {وَقِيلِه يَـارَبِّ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} ، كما قال نوح عليه السلام : {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} (نوح : 27) ، وعلى هذا فقوله تعالى : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌ } (الزخرف : 89) إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده ، وإذا كان القول مضافاً إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فلا يكون القيل اسماً لقول لم يعلم قائله ؟
فنقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : إن قولنا : إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع وثانيهما : وهو الجواب الدقيق أن نقول : الهاء في : {وَقِيلِه } ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن ، وعند البصريين قال : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ} (الحج : 46) والهاء غير عائد إلى مذكور ، غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة ، والظاهر في هذه المسألة قول الكوفيين ، وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم الله تعالى قيل القائل منهم :
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
{يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ} ، إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون ، وأهل السماء علموا بأن عند الله علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول : {وَقِيلِه يَـارَبِّ إِنَّ هَـا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} (الزخرف : 88) من غير تعيين قول لاشتراك الكل فيه ، ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائداً إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله ، ولا شيء فيما / قبله يصح عود الضمير إليه ، وإما إلى معلوم غير مذكور وهو محمد صلى الله عليه وسلّم لكن الخطاب بقوله : {فَاصْفَحِ} (الحجر : 85) كان يقتضي أن يقول ، وقيلك يا رب لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم هو المخاطب أولاً بكلام الله ، وقد قال قبله : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ} (الزخرف : 87) وقال من قبل : {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} (الزخرف : 81) وكان هو المخاطب أولاً ، إذا تحقق هذا ؟
نقول : إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظاً مراعى ، فقال ههنا : {إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا} لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائماً من الملائكة والناس كما قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} (الرعد : 23 ، 24) وقال تعالى : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) حيث كان المسلم منفرداً ، وهو الله كأنه قال : سلام قولاً منا ، وقال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحًا} (فصلت : 33) وقال : {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ} (المزمل : 6) لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلاً فإن قوله : قويم ، ونهجه مستقيم ، وقال تعالى : {وَقِيلِه يَـارَبِّ} (الزخرف : 88) لأن كل أحد يقول : إنهم لا يؤمنون. أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم وأما غيرهم فلكفرانهم بإسرافهم وإصرارهم/ ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله ، فقال : {إِلا قِيلا} وهو سلام عليك ، وأما قول من يعرف وهو الله فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال : {سَلَـامٌ قَوْلا} (يس : 58).
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
(1/4359)

المسألة السادسة : {سَلَـامٌ} ، فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه صفة وصف الله تعالى بها {قِيلا} كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال : رجل عدل ، وقوم صوم ، ومعناه إلا قيلا سالماً عن العيوب ، وثانيها : هو مصدر تقديره ، إلا أن يقولوا سلاماً وثالثها : هو بدل من {قِيلا} ، تقديره : إلا سلاماً.
المسألة السابعة : تكرير السلام هل فيه فائدة ؟
نقول : فيه إشارة إلى تمام النعمة ، وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام ، فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر : السلام عليك ، فيقول الآخر : وعليك السلام ، فكذلك في الآخرة يقولون : {سَلَـامًا سَلَـامًا} ثم إنه تعالى لما قال : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) لم يكن له رد لأن تسليم الله على عبده مؤمن له ، فأما الله تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد ، بل الرد إن كان فهو قول المؤمن : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
المسألة الثامنة : ما الفرق بين قوله تعالى : {سَلَـامًا سَلَـامًا} بنصبهما ، وبين قوله تعالى : {قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ } (هود : 69) قلنا : قد ذكرنا هناك أن قوله : (سلام عليك) أتم وأبلغ من قولهم سلاماً عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا ، وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد ، وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيراً.
المسألة التاسعة : إذا كان قول القائل : (سلام عليك) أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة / صارت بالنصب ، ومن قرأ (سلام) ليس مثل الذي قرأ بالنصب ، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب ، فالنصب بقوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل ، وقولهم : {سَلَـامٌ} أبعد من اللغو من قولهم : {سَلَـامًا} فقال : {إِلا قِيلا سَلَـامًا} ليكون أقرب إلى اللغو من غيره ، وإن كان في نفسه بعيداً عنه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 405
406
لما بين حال السابقين شرع في شأن أصحاب الميمنة من الأزواج الثلاثة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في ذكرهم بلفظ : {الْمَيْمَنَةِ مَآ} (الواقعة : 8) عند ذكر الأقسام ، وبلفظ : {الْيَمِينِ مَآ} عند ذكر الإنعام ؟
نقول : الميمنة مفعلة إما بمعنى موضع اليمين كالمحكمة لموضع الحكم ، أي الأرض التي فيها اليمين وإما بمعنى موضع اليمن كالمنارة موضع النار ، والمجمرة موضع الجمر ، فكيفما كان الميمنة فيها دلالة على الموضع ، لكن الأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ، ويتفرقون لقوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (الروم) 14) وقال : {يُصَدَّعُونَ} (الروم : 43) فيتفرقون بالمكان فأشار في الأول إليهم بلفظ يدل على المكان ، ثم عند الثواب وقع تفرقهم بأمر مبهم لا يتشاركون فيه كالمكان ، فقال : {وَأَصْحَـابُ الْيَمِينِ} وفيه وجوه أحدها : أصحاب اليمين الذين يأخذون بأيمانهم كتبهم ثانيها : أصحاب القوة ثالثها : أصحاب النور ، وقد تقدم بيانه.
المسألة الثانية : ما الحكمة في قوله تعالى : {فِى سِدْرٍ} وأية نعمة تكون في كونهم في سدر ، والسدر من أشجار البوادي ، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب ؟
نقول : فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر ، واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزاً محموداً ، وهو صواب ولكنه غير فائق ، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق ، هو أن نقول : إنا قد بينا مراراً أن البليغ يذكر طرفي أمرين ، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما ، كما يقال : فلان ملك الشرق والغرب ، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما ، ويقال : فلان أرضى الصغير والكبير ، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك ، فنقول : لا خفاء في أن تزين المواضع التي يتفرج فيها بالأشجار ، وتلك الأشجار تارة يطلب منها نفس الورق والنظر إليه والاستظلال به ، وتارة يقصد إلى ثمارها ، وتارة يجمع بينهما ، لكن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة ، ويجمعها نوعان : أوراث صغار ، وأوراق كبار ، والسدر في غاية الصغر ، والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر ، فقوله تعالى : {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} إشارة إلى ما يكون ورقه / في غاية الصغر من الأشجار ، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها ، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها ، والورق أحد مقاصد الشجر ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار ، لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه ، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى ثمارها ، وكذلك قلنا في النخيل والأعناب ، فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة ، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة ، وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار ، وهذا جواب فائق وفقنا الله تعالى له.
(1/4360)

جزء : 29 رقم الصفحة : 406
المسألة الثالثة : ما معنى المخضود ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : مأخوذ الشوك ، فإن شوك السدر يستقصف ورقها ، ولولاه لكان منتزه العرب ، ذلك لأنها تظل لكثرة أوراقها ودخول بعضها في بعض وثانيهما : مخضود أي متعطف إلى أسفل ، فإن رؤوس أغصان السدر في الدنيا تميل إلى فوق بخلاف أشجار الثمار ، فإن رؤوسهما تتدلى ، وحينئذ معناه أنه يخالف سدر الدنيا ، فإن لها ثمراً كثيراً.
المسألة الرابعة : ما الطلح ؟
نقول : الظاهر أنه شجر الموز ، وبه يتم ما ذكرنا من الفائدة روي أن علياً عليه السلام سمع من يقرأ : {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فقال : ما شأن الطلح ؟
إنما هو (وطلع) ، واستدل بقوله تعالى : {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} (ق : 10) فقالوا : في المصاحف كذلك ، فقال : لا تحول المصاحف ، فنقول : هذا دليل معجزة القرآن ، وغزارة علم علي رضي الله عنه. أما المعجزة فلأن علياً كان من فصحاء العرب ولما سمع هذا حمله على الطلع واستمر عليه ، وما كان قد اتفق حرفه لمبادرة ذهنه إلى معنى ، ثم قال في نفسه : إن هذا الكلام في غاية الحسن ، لأنه تعالى ذكر الشجر المقصود منه الورق للاستظلال به ، والشجر المقصود منه الثمر للاستغلال به ، فذكر النوعين ، ثم إنه لما اطلع على حقيقة اللفظ علم أن الطلح في هذا الموضع أولى ، وهو أفصح من الكلام الذي ظنه في غاية الفصاحة فقال : المصحف بين لي أنه خير مما كان في ظني فالمصحف لا يحول. والذي يؤيد هذا أنه لو كان طلع لكان قوله تعالى : {وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} (الواقعة : 32) تكرار أحرف من غير فائدة ، وأما على الطلح فتظهر فائدة قوله تعالى : {وَفَـاكِهَةٍ} وسنبينها إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة : ما المنضود ؟
فنقول : إما الورق وإما الثمر ، والظاهر أن المراد الورق ، لأن شجر الموز من أوله إلى أعلاه يكون ورقاً بعد ورق ، وهو ينبت كشجر الحنطة ورقاً بعد ورق وساقه يغلظ وترتفع أوراقه ، ويبقى بعضها دون بعض ، كما في القصب ، فموز الدنيا إذا ثبت كان بين القصب وبين بعضها فرجة ، وليس عليها ورق ، وموز الآخرة يكون ورقه متصلاً بعضه ببعض فهو أكثر أوراقاً ، وقيل : المنضود المثمر ، فإن قيل : إذا كان الطلح شجراً فهو لا يكون منضوداً وإنما يكون له ثمر منضود ، فكيف وصف به الطلح ؟
نقول : هو من باب حسن الوجه وصف بسبب اتصاف ما يتصل به ، يقال : زيد حسن الوجه ، وقد يترك الوجه ويقال : زيد حسن والمراد / حسن الوجه ولا يترك إن أوهم فيصح أن يقال : زيد مضروب الغلام ، ولا يجوز ترك الغلام لأنه يوهم الخطأ ، وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 406
407
وفيه وجوه الأول : ممدود زماناً ، أي لا زوال له فهو دائم ، كما قال تعالى : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ وَظِلُّهَا } (الرعد : 35) أي كذلك الثاني : ممدود مكاناً ، أي يقع على شيء كبير ويستره من بقعة الجنة الثالث : المراد ممدود أي منبسط ، كما قال تعالى : {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} (الحجر : 19) فإن قيل : كيف يكون الوجه الثاني ؟
نقول : الظل قد يكون مرتفعاً ، فإن الشمس إذا كانت تحت الأرض يقع ظلها في الجو فيتراكم الظل فيسود وجه الأرض وإذا كانت على أحد جانبيها قريبة من الأفق ينبسط على وجه الأرض فيضيء الجو ولا يسخن وجه الأرض ، فيكون في غاية الطيبة ، فقوله : {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} أي عند قيامه عموداً على الأرض كالظل بالليل ، وعلى هذا فالظل ليس ظل الأشجار بل ظل يخلقه الله تعالى.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 407
407
فيه أيضاً وجوه الأول : مسكوب من فوق ، وذلك لأن العرب أكثر ما يكون عندهم الآبار والبرك فلا سكب للماء عندهم بخلاف المواضع التي فيها العيون النابعة من الجبال الحاكمة على الأرض تسكب عليها الثاني : جار في غير أخدود ، لأن الماء المسكوب يكون جارياً في الهواء ولا نهر هناك ، كذلك الماء في الجنة الثالث : كثير وذلك الماء عند العرب عزيز لا يسكب ، بل يحفظ ويشرب ، فإذا ذكروا النعم يعدون كثرة الماء ويعبرون عن كثرتها بإراقتها وسكبها ، والأول أصح.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 407
408
لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها ذكر بعدها الأشجار التي يقصد ثمرها ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في تقديم الأشجار المورقة على غير المورقة ؟
نقول : هي ظاهرة ، وهو أنه قدم الورق على الشجر على طريقة الارتقاء من نعمة إلى ذكر نعمة فوقها ، والفواكه أتم نعمة.
المسألة الثانية : ما الحكمة في ذكر الأشجار المورقة بأنفسها ، وذكر أشجار الفواكه بثمارها ؟
نقول : هي أيضاً ظاهرة ، فإن الأوراق حسنها عند كونها على الشجر ، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة سواء كانت عليها أو مقطوعة ، ولهذا صارت الفواكه لها أسماء بها تعرف أشجارها ، فيقال : شجر التين وورقه.
(1/4361)

/ المسألة الثالثة : ما الحكمة في وصف الفاكهة بالكثرة ، لا بالطيب واللذة ؟
نقول : قد بينا في سورة الرحمن أن الفاكهة فاعلة كالراضية في قوله : {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) أي ذات فكهة ، وهي لا تكون بالطبيعة إلا بالطيب واللذة ، وأما الكثرة ، فبينا أن الله تعالى حيث ذكر الفاكهة ذكر ما يدل على الكثرة ، لأنها ليست لدفع الحاجة حتى تكون بقدر الحاجة ، بل هي للتنعم ، فوصفها بالكثرة والتنوع.
المسألة الرابعة : {لا مَقْطُوعَةٍ} أي ليست كفواكه الدنيا ، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان ، وفي كثير من المواضع والأماكن {وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي لا تمنع من الناس لطلب الأعواض والأثمان ، والممنوع من الناس لطلب الأعواض والأثمان ظاهر في الحس ، لأن الفاكهة في الدنيا تمنع عن البعض فهي ممنوعة ، وفي الآخرة ليست ممنوعة. وأما القطع فيقال في الدنيا : إنها انقطعت فهي منقطعة لا مقطوعة ، فقوله تعالى : {لا مَقْطُوعَةٍ} في غاية الحسن ، لأن فيه إشارة إلى دليل عدم القطع ، كما أن في : {وَلا مَمْنُوعَةٍ} دليلاً على عدم المنع ، وبيانه هو أن الفاكهة في الدنيا لا تمنع إلا لطلب العوض ، وحاجة صاحبها إلى ثمنها لدفع حاجة به ، وفي الآخرة مالكها الله تعالى ولا حاجة له ، فلزم أن لا تمنع الفاكهة من أحد كالذي له فاكهة كثيرة ، ولا يأكل ولا يبيع ، ولا يحتاج إليها بوجه من الوجوه لا شك في أن يفرقها ولا يمنعها من أحد. وأما الانقطاع فنقول الذي يقال في الدنيا : الفاكهة انقطعت ، ولا يقال عند وجودها : امتنعت ، بل يقال : منعت ، وذلك ون الإنسان لا يتكلم إلا بما يفهمه الصغير والكبير ، ولكن كل أحد إذا نظر إلى الفاكهة زمان وجودها يرى أحداً يحوزها ويحفظها ولا يراها ينفسها تمتنع فيقول : إنها ممنوعة ، وأما عند انقطاعها وفقدها لا يرى أحداً قطعها حساً وأعدمها فيظنها منقطعة بنفسها لعدم إحساسه بالقاطع ووجود إحساسه بالمانع ، فقال تعالى : لو نظرتم في الدنيا حق النظر علمتم أن كل زمان نظراً إلى كونه ليلاً ونهاراً ممكن فيه الفاكهة فهي بنفسها لا تنقطع ، وإنما لا توجد عند المحقق لقطع الله إياها وتخصيصها بزمان دون زمان ، وعند غير المحقق لبرد الزمان وحره ، وكونه محتاجاً إلى الظهور والنمو والزهر ولذلك تجري العادة بأزمنة فهي يقطعها الزمان في نظر غير المحقق فإذا كانت الجنة ظلها ممدوداً لا شمس هناك ولا زمهرير استوت الأزمنة والله تعالى يقطعها فلا تكون مقطوعة بسبب حقيقي ولا ظاهر ، فالمقطوع يتفكر الإنسان فيه ويعلم أنه مقطوع لا منقطع من غير قاطع ، وفي الجنة لا قاطع فلا تصير مقطوعة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 408
المسألة الخامسة : قدم نفي كونها مقطوعة لما أن القطع للموجود والمنع بعد الوجود لأنها توجد أولاً ثم تمنع فإن لم تكن موجودة لا تكون ممنوعة محفوظة فقال : لا تقطع فتوجد أبداً ثم إن ذلك الموجود لا يمنع من أحد وهو ظاهر غير أنا نحب أن لا نترك شيئاً مما يخطر بالبال ويكون صحيحاً.
[بم / ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 408
409
وقد ذكرنا معنى الفرش ونذكر وجهاً آخر فيها إن شاء الله تعالى ، وأما المرفوعة ففيها ثلاثة أوجه أحدها : مرفوعة القدر يقال : ثوب رفيع أي عزيز مرتفع القدر والثمن ويدل عليه قوله تعالى : {عَلَى فُرُشٍ بَطَآاـاِنُهَا} (الرحمن : 54) وثانيها : مرفوعة بعضها فوق بعض ثالثها : مرفوعة فوق السرير.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 409
410
وفي الإنشاء مسائل :
(1/4362)

المسألة الأولى : الضمير في : {أَنشَأْنَـاهُنَّ} عائد إلى من ؟
فيه ثلاثة أوجه أحدها : إلى {وَحُورٌ عِينٌ} (الواقعة : 22) وهو بعيد لبعدهن ووقوعهن في قصة أخرى ثانيها : أن المراد من الفرش النساء والضمير عائد إليهن لقوله تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} (البقرة : 187) ، ويقال للجارية صارت فراشاً وإذا صارت فراشاً رفع قدرها بالنسبة إلى جارية لم تصر فراشاً ، وهو أقرب من الأول لكن يبعد ظاهراً لأن وصفها بالمرفوعة ينبىء عن خلاف ذلك وثالثها : أنه عائد إلى معلوم دل عليه فرش لأنه قد علم في الدنيا وفي مواضع من ذكر الآخرة ، أن في الفرش حظايا تقديره وفي فرش مرفوعة حظايا منشآت وهو مثل ما ذكر في قوله تعالى : {قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} (الرحمن : 56) (الرحمن : 72) فهو تعالى أقام الصفة مقام الموصوف ولم يذكر نساء الآخرة بلفظ حقيقي أصلاً وإنما عرفهن بأوصافهن ولباسهن إشارة إلى صونهن وتخدرهن ، وقوله تعالى : {إِنَّآ أَنشَأْنَـاهُنَّ} يحتمل أن يكون المراد الحور فيكون المراد الإنشاء الذي هو الابتداء ، ويحتمل أن يكون المراد بنات آدم فيكون الإنشاء بمعنى إحياء الإعادة ، وقوله تعالى : {أَبْكَارًا} يدل على الثاني لأن الإنشاء لو كان بمعنى الابتداء لعلم من كونهن أبكاراً من غير حاجة إلى بيان ولما كان المراد إحياء بنات آدم قال : {أَبْكَارًا} أي نجعلهن أبكاراً وإن متن ثيبات ، فإن قيل : فما الفائدة على الوجه الأول ؟
نقول : الجواب من وجهين الأول : أن الوصف بعدها لا يكون من غيرها إذا كن أزواجهم بين الفائدة لأن البكر في الدنيا لا تكون عارفة بلذة الزوج فلا ترضى بأن تتزوج من رجل لا تعرفه وتختار التزويج بأقرانها ومعارفها لكن أهل الجنة إذا لم يكن من جنس أبناء آدم وتكون الواحدة منهن بكراً لم تر زوجاً ثم تزوجت بغير جنسها فربما يتوهم منها سوء عشرة فقال : {أَبْكَارًا} فلا يوجد فيهن ما يوجد في أبكار الدنيا الثاني : المراد أبكاراً بكارة تخالف بكارة الدنيا ، فإن البكارة لا تعود إلا على بعد. وقوله تعالى : {أَتْرَابًا} يحتمل وجوهاً أحدها : مستويات في السن فلا تفضل إحداهن على الأخرى بصغر ولا كبر كلهن خلقن في زمان / واحد ، ولا يلحقهن عجز ولا زمانة ولا تغير لون ، وعلى هذا إن كن من بنات آدم فالفظ فيهن حقيقة ، وإن كن من غيرهن فمعناه ما كبرن سمين به لأن كلاً منهن تمس وقت مس الأخرى لكن نسي الأصل ، وجعل عبارة عن ذلك كاللذة للمتساويين من العقلاء ، فأطلق على حور الجنة أتراباً ثانيها : أتراباً متماثلات في النظر إليهن كالأتراب سواء وجدن في زمان أو في أزمنة ، والظاهر أنه في أزمنة لأن المؤمن إذا عمل عملاً صالحاً خلق له منهن ما شاء الله ثالثها : أتراباً لأصحاب اليمين ، أي على سنهم ، وفيه إشارة إلى الاتفاق ، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشاب يعيره.
جزء : 29 رقم الصفحة : 410
المسألة الثانية : إن قيل ما الفائدة في قوله : {فَجَعَلْنَـاهُنَّ} ؟
نقول : فائدته ظاهرة تتبين بالنظر إلى اللام في : {لِّأَصْحَـابِ الْيَمِينِ} فنقول : إن كانت اللام متعلقة بأتراباً يكون معناه : {أَنشَأْنَـاهُنَّ} وهذا لا يجوز وإن كانت متعلقة بأنشأناهن يكون معناه أنشأناهن لأصحاب اليمين والإنشاء حال كونهن أبكاراً وأتراباً فلا يتعلق الإنشاء بالأبكار بحيث يكون كونهن أبكاراً بالإنشاء لأن الفعل لا يؤثر في الحال تأثيراً واجباً فنقول : صرفه للإنشاء لا يدل على أن الإنشاء كان بفعل فيكون الإنعام عليهم بمجرد إنشائهن لأصحاب اليمين : {فَجَعَلْنَـاهُنَّ أَبْكَارًا} ليكون ترتيب المسبب على السبب فاقتضى ذلك كونهن أبكاراً ، وأما إن كان الإنشاء أولاً من غير مباشرة للأزواج ما كان يقتضي جعلهن أبكاراً فالفاء لترتيب المقتضى على المقتضى.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 410
410
(1/4363)

وقد ذكرنا ما فيه لكن هنا لطيفة : وهي أنه تعالى قال في السابقين : {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} (الواقعة : 13) قبل ذكر السرر والفاكهة والحور وذكر في أصحاب اليمين : {ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ} بعد ذكر هذه النعم ، نقول : السابقون لا يلتفتون إلى الحور العين والمأكول والمشروب ونعم الجنة تتشرف بهم ، وأصحاب اليمين يلتفتون إليها فقدم ذكرها عليهم ثم قال : هذا لكم وأما السابقون فذكرهم أولاً ثم ذكر مكانهم ، فكأنه قال لأهل الجنة هؤلاء واردون عليكم. والذي يتمم هذه اللطيفة أنه تعالى لم يقدم ثلة السابقين إلا لكونهم مقربين حساً فقال : {الْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّـاتِ} (الواقعة : 11 ، 12) ثم قال : {ثُلَّةٌ} ثم ذكر النعم لكونها فوق الدنيا إلا المودة في القربى من الله فإنها فوق كل شيء ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } (الشورى : 23) أي في المؤمنين ووعد المرسلين بالزلفى في قوله : {وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى } (ص : 25) وأما قوله : {فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة : 12) فقد ذكرنا أنه لتمييز مقربي المؤمنين من مقربي الملائكة ، فإنهم مقربون في الجنة وهم مقربون في أماكنهم لقضاء الأشغال التي للناس وغيرهم بقدرة الله وقد بان من هذا أن المراد من أصحاب اليمين هم الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا وعفا الله عنهم بسبب أدنى حسنة لا الذين غلبت حسناتهم وكثرت وسنذكر الدليل عليه في قوله تعالى : {فَسَلَـامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} (الواقعة : 91).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 410
413
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في ذكر السموم والحميم وترك ذكر النار وأهوالها ؟
نقول : فيه إشارة بالأدنى إلى الأعلى فقال : هواؤهم الذي يهب عليهم سموم ، وماؤهم الذي يستغيثون به حميم ، مع أن الهواء والماء أبرد الأشياء ، وهما أي السموم والحميم من أضر الأشياء بخلاف الهواء والماء في الدنيا فإنهما من أنفع الأشياء فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أيضاً أحر ، ولو قال : هم في نار ، كنا نظن أن نارهم كنارنا لأنا ما رأينا شيئاً أحر من التي رأيناها ، ولا أحر من السموم ، ولا أبرد من الزلال ، فقال : أبرد الأشياء لهم أحرها فكيف حالهم مع أحرها ، فإن قيل : ما السموم ؟
نقول : المشهور هي ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل غالباً ، والأولى أن يقال : هي هواء متعفن ، يتحرك من جانب إلى جانب فإذا استنشق الإنسان منه يفسد قلبه بسبب العفونة ويقتل الإنسان ، وأصله من السم كسم الحية والعقرب وغيرهما ، ويحتمل أن يكون هذا السم من السم ، وهو خرم الإبرة ، كماقال تعالى : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ } (الأعراف : 40) لأن سم الأفعى ينفذ في المسام فيفسدها ، وقيل : إن السموم مختصة بما يهب ليلاً ، وعلى هذا فقوله : {سَمُومٍ} إشارة إلى ظلمة ما هم فيه غير أنه بعيد جداً ، لأن السموم قد ترى بالنهار بسبب كثافتها.
المسألة الثانية : الحميم هو الماء الحار وهو فعيل بمعنى فاعل من حمم الماء بكسر الميم ، أو بمعنى مفعول من حمم الماء إذا سخنه ، وقد ذكرناه مراراً غير أن ههنا لطيفة لغوية : وهي أن فعولاً لما تكرر منه الشيء والريح لما كانت كثيرة الهبوب تهب شيئاً بعد شيء خص السموم بالفعول ، والماء الحار لما كان لا يفهم منه الورود شيئاً بعد شيء لم يقل : فيه حموم ، فإن قيل : ما اليحموم ؟
نقول : فيه وجوه أولها : أنه اسم من أسماء جهنم ثانيها : أنه الدخان ثالثها : أنه الظلمة ، وأصله من الحمم وهو الفحم فكأنه لسواده فحم فسموه باسم مشتق منه ، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه ، وربما تكون الزيادة فيه جاءت لمعنيين : الزيادة في سواده والزيادة في حرارته ، وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى دونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم الهواء الذي هو السموم ، وإن استكنوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكن يكونوا في ظل من يحموم وإن أرادوا الرد عن أنفسهم السموم بالاستكنان في مكان من حميم فلا انفكاك لهم من عذاب الحميم ، ويحتمل أن يقال فيه ترتيب وهو أن السموم يضربه فيعطش وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء / فيقطع أمعاءه ويريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل ظل اليحموم ، فإن قيل : كيف وجه استعمال (من) في قوله تعالى : {مِّن يَحْمُومٍ} ؟
فنقول : إن قلنا إنه اسم جهنم فهو لابتداء الغاية كما تقول : جاءني نسيم من الجنة ، وإن قلنا : إنه دخان فهو كما في قولنا : خاتم من فضة ، وإن قلنا : إنه الظلمة فكذلك ، فإن قيل : كيف يصح تفسيره بجهنم مع أنه اسم منصرف منكر فكيف وضع لمكان معرف ، ولو كان اسماً لها ، قلنا : استعماله بالألف واللام كالجحيم ، أو كان غير منصرف كأسماء جهنم يكون مثله على ثلاثة مواضع كلها يحموم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 413
414
(1/4364)

قال الزمخشري : كرم الظل نفعه الملهوف ، ودفعه أذى الحر عنه ، ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد ، والأقرب أن يقال : فائدة الظل أمران : أحدهما دفع الحر ، والآخر كون الإنسان فيه مكرماً ، وذلك لأن الإنسان في البرد يقصد عين الشمس ليتدفأ بحرها إذا كان قليل الثياب ، فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه في الظل ، أما الحر فظاهر ، وأما البرد فيدفعه بإدفاء الموضع بإيقاد ما يدفئه ، فيكون الظل في الحر مطلوباً للبرد فيطلب كونه بارداً ، وفي البرد يطلب لكونه ذا كرامة لا لبرد يكون في الظل فقال : {لا بَارِدٍ} يطلب لبرده ، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه ، وذلك لأن المواضع التي يقع عليها ظل كالمواضع التي تحت أشجار وأمام الجدار يتخذ منها مقاعد فتصير تلك المقاعد محفوظة عن الفاذورات ، وباقي المواضع تصير مزابل ، ثم إذا وقعت الشمس في بعض الأوقات عليها تطلب لنظافتها ، وكونها معدة للجلوس ، فتكون مطلوبة في مثل هذا الوقت لأجل كرامتها لا لبردها ، فقوله تعالى : {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} يحتمل هذا ، ويحتمل أن يقال : إن الظل يطلب لأمر يرجع إلى الحس ، أو لأمر يرجع إلى العقل ، فالذي يرجع إلى الحس هو برده ، والذي يرجع إلى العقل أن يكون الرجوع إليه كرامة ، وهذا لا برد له ولا كرامة فيه ، وهذا هو المراد بما نقله الواحدي عن الفراء أن العرب تتبع كل منفي بكريم إذا كان المنفي أكرم فيقال : هذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة ، والتحقيق فيه ما ذكرنا أن وصف الكمال ، إما حسي ، وإما عقلي ، والحسي يصرح بلفظه ، وأما العقلي فلخفائه عن الحس يشار إليه بلفظ جامع ، لأن الكرامة ، والكرامة عند العرب من أشهر أوصاف المدح ونفيهما نفي وصف الكمال العقلي ، فيصير قوله تعالى : {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} معناه لا مدح فيه أصلاً لا حساً ولا عقلاً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 414
415
/ وفي الآيات لطائف ، نذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في بيان سبب كونهم في العذاب مع أنه تعالى لم يذكر سبب كون أصحاب اليمين في النعيم ، ولم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين ؟
فنقول : قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى عند إيصال الثواب لا يذكر أعمال العباد الصالحة ، وعند إيصال العقاب يذكر أعمال المسيئين لأن الثواب فضل والعقاب عدل ، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم في المتفضل به نقص وظلم ، وأما العدل فإن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلماً فقال : هم فيها بسبب ترفهم ، والذي يؤيد هذه اللطيفة أن الله تعالى قال في حق السابقين : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24) ولم يقل : في حق أصحاب اليمين ، ذلك لأنا أشرنا أن أصحاب اليمين هم الناجون بالفضل العظيم ، وسنبين ذلك في قوله تعالى : {فَسَلَـامٌ لَّكَ} (الواقعة : 91) وإذا كان كذلك فالفضل في حقهم متمحض فقال : هذه النعم لكم ، ولم يقل جزاء لأن قوله : {جَزَآءَ } في مثل هذا الموضع ، وهو موضع العفو عنهم لا يثبت لهم سروراً بخلاف من كثرت حسناته ، فيقال له : نعم ما فعلت خذ هذا لك جزاء.
جزء : 29 رقم الصفحة : 415
(1/4365)

المسألة الثانية : جعل السبب كونهم مترفين وليس كل من هو من أصحاب الشمال يكون مترفاً فإن فيهم من يكون فقيراً ؟
نقول قوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} ليس بذم ، فإن المترف هو الذي جعل ذا ترف أي نعمة ، فظاهر ذلك لا يوجب ذماً ، لكن ذلك يبين قبح ما ذكر عنهم بعده وهو قوله تعالى : {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} لأن صدور الكفران ممن عليه غاية الإنعام أقبح القبائح فقال : إنهم كانوا مترفين ، ولم يشكروا نعم الله بل أصروا على الذنب وعلى هذا فنقول : النعم التي تقتضي شكر الله وعبادته في كل أحد كثيرة فإن الخلق والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل ، غاية ما في الباب أن حال الناس في الإتراف متقارب ، فيقال في حقل البعض بالنسبة إلى بعض : إنه في ضر ، ولو حمل نفسه على القناعة لكان أغنى الأغنياء وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حالة يجدها مفتقرة إلى مسكني يأوي إليه ولباس الحر والبرد وما يسد جوعه من المأكول والمشروب ، وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شح النفس ، ثم إن أحداً لا يغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو اكتراء ، فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات ، لا تفقد مدخلاً أو مغارة ، وأما اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد ، كلما تمزق منه موضع يرقعه من أي شيء كان ، بقي أمر المأكول والمشروب ، فإذا نظر الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء ، غير أن طلب الغنى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتاً مزخرفاً ولباساً فاخراً ومأكولاً طيباً ، وغير ذلك من أنواع الدواب / والثياب ، فيفتقر إلى أن يحمل المشاق ، وطلب الغنى يورث فقره ، وارتياد الارتفاع يحط قدره ، وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره على أننا نقول في قوله تعالى : {كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} لا شك أن أهل القبور لما فقدوا الأيدي الباطشة ، والأعين الباصرة ، وبان لهم الحقائق ، علموا {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} بالنسبة إلى تلك الحالة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 415
المسألة الثالثة : ما الإصرار على الحنث العظيم ؟
نقول : الشرك ، كما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) وفيها لطيفة وهي أنه أشار في الآيات الثلاث إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ} من حيث الاستعمال يدل على ذمهم بإنكار الرسل ، إذ المترف متكبر بسبب الغنى فينكر الرسالة ، والمترفون كانوا يقولون : {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه } (القمر : 34) وقوله : {يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} (الواقعة : 46) إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد ، وقوله تعالى : {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَاـاِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} إشارة إلى إنكار الحشر والنشر ، وقوله تعالى : {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} فيه مبالغات من وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} وهو آكد من قول القائل : إنهم قبل ذلك أصروا لأن اجتماع لفظي الماضي والمستقبل يدل على الاستمرار ، لأن قولنا : فلان كان يحسن إلى الناس ، يفيد كون ذلك عادة له ثانيها : لفظ الإصرار فإن الإصرار مداومة المعصية والغلول ، ولا يقال : في الخير أصر ثالثها : الحنث فإنه فوق الذنب فإن الحنث لا يكاد في اللغة يقع على الصغيرة والذنب يقع عليها ، وأما الحنث في اليمين فاستعملوه لأن نفس الكذب عند العقلاء قبيح ، فإن مصلحة العالم منوطة بالصدق وإلا لم يحصل لأحد بقول أحد ثقة فلا يبنى على كلامه مصالح ، ولا يجتنب عن مفاسد ، ثم إن الكذب لما وجد في كثير من الناس لأغراض فاسدة أرادوا توكيد الأمر بضم شيء إليه يدفع توهمه فضموا إليه الأيمان ولا شيء فوقها ، فإذا حنث لم يبق أمر يفيد الثقة فيلزم منه فساد فوق فساد الزنا والشرب ، غير أن اليمين إذا كانت على أمر مستقبل ورأى الحالف غيره جوز الشرع الحنث ولم يجوزه في الكبيرة كالزنا والقتل لكثرة وقوع الأيمان وقلة وقوع القتل والذي يدل على أن الحنث هو الكبيرة قولهم للبالغ : بلغ الحنث ، أي بلغ مبلغاً بحيث يرتكب الكبيرة وقبله ما كان ينفي عنه الصغيرة ، لأن الولي مأمور بالمعاقبة على إساءة الأدب وترك الصلاة.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {الْعَظِيمِ} هذا يفيد أن المراد الشرك ، فإن هذه الأمور لا تجتمع في غيره.
جزء : 29 رقم الصفحة : 415
(1/4366)

المسألة الخامسة : كيف اشتهر {مِتْنَا} بكسر الميم مع أن استعمال القرآن في المستقبل يموت قال تعالى عن يحيى وعيسى عليهما السلام : {وَيَوْمَ أَمُوتُ} (مريم : 33) ولم يقرأ أمات على وزن أخاف ، وقال تعالى : {قُلْ مُوتُوا } (آل عمران : 119) ولم يقل : قل ماتوا ، وقال تعالى : {وَلا تَمُوتُنَّ} (آل عمران : 102) ولم يقل : ولا تماتوا كما قال : {أَلا تَخَافُوا } (الصافات : 30) أقلنا : فيه وجهان أحدهما : أن هذه الكلمة خالفت غيرها ، فقيل فيها : {أَمْوَاتٌ} والسماع مقدم على القياس والثاني : مات يمات لغة في مات يموت ، فاستعمل ما فيها الكسر لأن / الكسر في الماضي يوجد أكثر الأمرين أحدهما : كثرة يفعل على يفعل وثانيهما : كونه على فعل يفعل ، مثل خاف يخاف ، وفي مستقبلها الضم لأنه يوجد لسببين أحدهما : كون الفعل على فعل يفعل ، مثل طال يطول ، فإن وصفه بالتطويل دون الطائل يدل على أنه من باب قصر يقصر ، وثانيهما : كونه على فعل يفعل ، تقول : فعلت في الماضي بالكسر وفي المستقبل بالضم.
المسألة السادسة : كيف أتى باللام المؤكدة في قوله : {لَمَبْعُوثُونَ} مع أن المراد هو النفي وفي النفي لا يذكر في خبر إن اللام يقال : إن زيداً ليجيء وإن زيداً لا يجيء ، فلا تذكر اللام ، وما مرادهم بالاستفهام إلا الإنكار بمعنى إنا لا نبعث ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : عند إرادة التصريح بالنفي يوجد التصريح بالنفي وصيغته ثانيهما : أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار ونحن نستكثر مبالغته وتأكيده فحكوا كلامهم على طريقة الاستفهام بمعنى الإنكار ، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم فقالوا أولاً : {أَاـاِذَا مِتْنَا} ولم يقتصروا عليه بل قالوا بعده : {وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا} أي فطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً والعظام رفاتاً ، ثم زادوا وقالوا : مع هذا يقال لنا : {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه أحدها : استعمال كلمة إن ثانيها : إثبات اللام في خبرها ثالثها : ترك صيغة الاستقبال ، والإتيان بالمفعول كأنه كائن ، فقالوا لنا : {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ثم زادوا وقالوا : {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} يعني هذا أبعد فإنا إذا كنا تراباً بعد موتنا والآباء حالهم فوق حال العظام الرفات فكيف يمكن البعث ؟
وقد بينا في سورة والصافات هذا كله وقلنا : إن قوله : {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} (الصافات : 17) معناه : أو يقولوا : آباؤنا الأولون ، إشارة إلى أنهم في الإشكال أعظم ، ثم إن الله تعالى أجابهم ورد عليهم في الجواب في كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 415
415
فقوله : {قُلْ} إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور ، وذلك أن في الرسالة أسراراً لا تقال إلا للأبرار ، ومن جملتها تعيين وقت القيامة لأن العوام لو علموا لاتَّكلوا والأنبياء ربما اطلعوا على علاماتها أكثر مما بينوا وربما بينوا للأكابر من الصحابة علامات على ما نبين ففيه وجوه أولها : قوله : {قُلْ} يعني أن هذا من جملة الأمور التي بلغت في الظهور إلى حد يشترك فيه العوام والخواص ، فقال : قل قولاً عاماً وهكذا في كل موضع ، قال : قل كان الأمر ظاهراً ، قال الله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) وقال : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف : 110) وقال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) أي هذا هو الظاهر من أمر الروح وغيره خفي ثانيها : قوله تعالى : {إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ} بتقديم الأولين على الآخرين في جواب قولهم : {أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} (الواقعة : 48) فإنهم أخروا ذكر الآباء لكون الاستبعاد فيهم أكثر ، فقال إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم وتؤخرونهم يبعثهم الله في أمر مقدم على الآخرين ، يتبين منه إثبات / حال من أخرتموه مستبعدين ، إشارة إلى كون الأمر هيناً ثالثها : قوله تعالى : {لَمَجْمُوعُونَ} فإنهم أنكروا قوله : {لَمَبْعُوثُونَ} (الواقعة : 47) فقال : هو واقع مع أمر زائد ، وهو أنهم يحشرون ويجمعون في عرصة الحساب ، وهذا فوق البعث ، فإن من بقي تحت التراب مدة طويلة ثم حشر ربما لا يكون له قدرة على الحركة ، وكيف لو كان حياً محبوساً في قبره مدة لتعذرت عليه الحركة ، ثم إنه تعالى بقدرته يحركه بأسرع حركة ويجمعه بأقوى سير ، وقوله تعالى : {لَمَجْمُوعُونَ} فوق قول القائل : مجموعون كما قلنا : إن قول قول القائل : إنه يموت في إفادة التوكيد دون قوله : إنه ميت رابعها : قوله تعالى : {إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} فإنه يدل على أن الله تعالى يجمعهم في يوم واحد معلوم ، واجتماع عدد من الأموات لا يعلم عددهم إلا الله تعالى في وقت واحد أعجب من نفس البعث وهذا كقوله تعالى في سورة والصافات :
جزء : 29 رقم الصفحة : 415
(1/4367)

{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} (الصافات : 19) أي أنتم تستبعدون نفس البعث ، والأعجب من هذا أنه يبعثهم بزجرة واحدة أي صيحة واحدة : {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي يبعثون مع زيادة أمر ، وهو فتح أعينهم ونظرهم ، بخلاف من نعس فإنه إذا انتبه يبقى ساعة ثم ينظر في الأشياء ، فأمر الإحياء عند الله تعالى أهون من تنبيه نائم خامسها : حرف {إِلَى } أدل على البعث من اللام ، ولنذكر هذا في جواب سؤال هو أن الله تعالى قال : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } (التغابن : 9) وقال هنا : {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ولم يقل : لميقاتنا وقال : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا} (التغابن : 143) نقول : لما كان ذكر الجمع جواباً للمنكرين المستبعدين ذكر كلمة {إِلَى } الدالة على التحرك والانتقال لتكون أدل على فعل غير البعث ولا يجمع هناك قال : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ} ولا يفهم النشور من نفس الحرف وإن كان يفهم من الكلام ، ولهذا قال ههنا : {لَمَجْمُوعُونَ} بلفظ التأكيد ، وقال هناك : {يَجْمَعُكُمْ} وقال ههنا : {إِلَى مِيقَـاتِ} وهو مصير الوقت إليه ، وأما قوله تعالى : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا} فنقول : الموضع هناك لم يكن مطلوب موسى عليه السلام ، وإنما كان مطلوبه الحضور ، لأن من وقت له وقت وعين له موضع كانت حركته في الحقيقة لأمر بالتبع إلى أمر/ وأما هناك فالأمر الأعظم الوقوف في موضعه لا زمانه فقال بكلمة دلالتها على الموضع والمكان أظهر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 415
416
في تفسير الآيات مسائل :
/ المسألة الأولى : الخطاب مع من ؟
نقول : قال بعض المفسرين مع أهل مكة ، والظاهر أنه عام مع كل ضال مكذب وقد تقدم مثل هذا في مواضع ، وهو تمام كلام النبي صلى الله عليه وسلّم كأنه تعالى قال لنبيه : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون ثم إنكم تعذبون بهذه الأنواع من العذاب.
المسألة الثانية : قال ههنا : {الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} بتقديم الضال وقال في آخر السورة : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ} (الواقعة : 92) بتقديم المكذبين ، فهل بينهما فرق ؟
قلت : نعم ، وذلك أن المراد من الضالين ههنا هم الذين صدر منهم الإصرار على الحنث العظيم ، فضلوا في سبيل الله ولم يصلوا إليه ولم يوحدوه ، وذلك ضلال عظيم ، ثم كذبوا رسله وقالوا : {أَاـاِذَا مِتْنَا} فكذبوا بالحشر ، فقال : {أَيُّهَا الضَّآلُّونَ} الذين أشركتم : {الْمُكَذِّبُونَ} الذين أنكرتم الحشر لتأكلون ما تكرهون ، وأما هناك فقال لهم : {أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} الذين كذبتم بالحشر : {الضَّآلُّونَ} في طريق الخلاص الذين لا يهتدون إلى النعيم ، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هنا مع الكفار فقال : يا أيها الذين ضللتم أولاً وكذبتم ثانياً ، والخطاب في آخر السورة مع محمد صلى الله عليه وسلّم يبين له حال الأزواج الثلاثة فقال : المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم ، وأصحاب اليمين في سلام ، وأما المكذبون الذين كذبوا فقد ضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامة محمد صلى الله عليه وسلّم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم والذي يدل على أن الكلام هناك مع محمد صلى الله عليه وسلّم قوله : {فَسَلَـامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} (الواقعة : 91).
جزء : 29 رقم الصفحة : 416
(1/4368)

المسألة الثالثة : ما الزقوم ؟
نقول : قد بيناه في موضع آخر واختلف فيه أقوال الناس ومآل الأقوال إلى كون ذلك في الطعم مراً وفي اللمس حاراً ، وفي الرائحة منتناً ، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يسيغه فيكره على ابتلاعه ، والتحقيق اللغوي فيه أن الزقوم لغية عربية دلنا تركيبه على قبحه ، وذلك لأن زق لم يجتمع إلا في مهمل أو في مكروه منه مزق ، ومنه زمق شعره إذا نتفه ، ومنه القزم للدناءة ، وأقوى من هذا أن القاف مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل على المكروه في أكثر الأمر ، فالقاف مع الميم قمامة وقمقمة ، وبالعكس مقامق ، الغليظ الصوت والقمقمة هو السور ، وأما القاف مع الزاي فالزق رمي الطائر بذرقه ، والزقزقة الخفة ، وبالعكس القزنوب فينفر الطبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقبح ، ثم قرن بالأكل فدل على أنه طعام ذو غضة ، وأما ما يقال بأن العرب تقول : زقمني بمعنى أطعمتني الزبد والعسل واللبن ، فذلك للمجانة كقولهم : أرشقني بثوب حسن ، وأرجمني بكيس من ذهب ، وقوله : {مِن شَجَرٍ} لابتداء الغاية أي تناولكم منه ، وقوله : {فَمَالِـاُونَ مِنْهَا} زيادة في بيان العذاب أي لا يكتفى منكم بنفس كما الأكل يكتفي من يأكل الشيء لتحلة القسم ، بل يلزمون بأن تملأوا منها البطون والهاء عائدة إلى الشجرة ، والبطون يحتمل أن يكون المراد منه مقابلة الجمع بالجمع أي يملأ كل واحد منكم بطنه / ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد منكم يملأ البطون ، والبطون حينئذ تكون بطون الأمعاء ، لتخيل وصف المعي في باطن الإنسان له/ كيأكل في سبعة أمعاء ، فيملأون بطون الأمعاء وغيرها ، والأول أظهر ، والثاني أدخل في التعذيب والوعيد ، قوله : {فَشَـارِبُونَ عَلَيْهِ} أي عقيب الأكل تجر مرارته وحرارته إلى شرب الماء فيشربون على ذلك المأكول وعلى ذلك الزقوم من الماء الحار ، وقد تقدم بيان الحميم ، وقوله : {فَشَـارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} بيان أيضاً لزيادة العذاب أي لا يكون أمركم أمر من شرب ماءاً حاراً منتناً فيمسك عنه بل يلزمكم أن تشربوا منه مثل ما تشرب الهيم وهي الجمال التي أصابها العطش فتشرب ولا تروى ، وهذا البيان في الشرب لزيادة العذاب ، وقوله : {فَمَالِـاُونَ مِنْهَا} في الأكل ، فإن قيل : الأهيم إذا شرب الماء الكثير يضره ولكن في الحال يلتذ به ، فهل لأهل الجحيم من شرب الحميم الحار في النار لذة ؟
قلنا : لا ، وإنما ذلك لبيان زيادة العذاب ، ووجهه أن يقال : يلزمون بشرب الحميم ولا يكتفي منهم بذلك الشرب بل يلزمون أن يشربوا كما يشرب الجمل الأهيم الذي به الهيام ، أو هم إذا شربوا تزداد حرارة الزقوم في جوفهم فيظنون أنه من الزقوم لا من الحميم فيشربون منه شيئاً كثيراً بناء على وهم الري ، والقول في الهيم كالقول في البيض ، أصله هوم ، وهذا من هام يهيم كأنه من العطش يهيم ، والهيام ذلك الداء الذي يجعله كالهائم من العطش.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 416
419
يعني ليس هذا كل العذاب بل هذا أول ما يلقونه وهو بعض منه وأقطع لأمعائهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 419
420
(1/4369)

دليلاً على كذبهم وصدق الرسل في الحشر لأن قوله : {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَه } إلزام على الإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى ، ولما كان قادراً على الخلق أولاً كان قادراً على الخلق ثانياً ، ولا مجال للنظر في ذاته وصفاته تعالى وتقدس ، وإن لم يعترفوا به ، بل يشكون ويقولن : الخلق الأول من مني بحسب الطبيعة ، فنقول : المنى من الأمور الممكنة ولا وجود للممكن بذاته بل بالغير على ما عرف ، فيكون المنى من القادر القاهر ، وكذلك خلق الطبيعة وغيرها من الحادثات أيضاً ، فقال لهم : هل تشكون في أن الله خلقكم أولاً أم لا ؟
فإن قالوا : لا نشك في أنه خالقاً ، فيقال : فهل تصدقون أيضاً بخلقكم ثانياً ؟
فإن من خلقكم أولاً من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانياً من أجزاء هي عنده معلومة ، وإن كنتم تشكون وتقولون : الخلق لا يكون إلا من منى وبعد الموت لا والده ولا مني ، فيقال لهم : هذا المنى أنتم تخلقونه أم الله ، فإن كنتم تعترفون بالله وبقدرته وإرادته وعمله ، فذلك / يلزمكم القول بجواز الحشر وصحته ، و(لولا) كلمة مركبة من كلمتين معناها التحضيض والحث والأصل فيه : لم لا ، فإذا قلت : لم لا أكلت ولم ما أكلت ، جاز الاستفهامان ، فإن معناه لا علة لعدم الأكل ولا يمكنك أن تذكر علة له ، كما تقول : لم فعلت ؟
موبخاً ، يكون معناه فعلت أمراً لا سبب له ولا يمكنك ذكر سبب له ثم إنهم تركوا حرف الاستفهام عن العلة وأتوا بحرف الاستفهام عن الحكم ، فقالوا : هلا فعلت ؟
كما يقولون في موضع : لم فعلت هذا وأنت تعلم فساده ، أتفعل هذا وأنت عاقل ؟
وفيه زيادة حث لأن قول القائل : لم فعلت حقيقته سؤال عن العلة ، ومعناه أن علته غير معلومة وغير ظاهرة ، فلا يجوز ظهور وجوده ، وقوله : أفعلت ، سؤال عن حقيقته ، ومعناه أنه في جنسه غير ممكن ، والسائل عن العلة كأنه سلم الوجود وجعله معلوماً وسأل عن العلة كما يقول القائل : زيد جاء فلم جاء ، والسائل عن الوجود لم يسلمه ، وقول القائل : لم فعلت وأنت تعلم ما فيه دون قوله : أفعلت وأنت تعلم ما فيه ، لأن في الأول جعله كالمصيب في فعله لعلة خفية تطلب منه ، وفي الثاني جعله مخطئاً في أول الأمر ، وإذا علم ما بين لم فعلت ، وأفعلت ، علم ما بين لم تفعل وهلا تفعل ، وأما (لولا) فنقول : هي كلمة شرط في الأصل والجملة الشرطية غير مجزومة بها كما أن جملة الاستفهام غير مجزوم به لكن لولا تدل على الاعتساف وتزيد نفي النظر والتواني ، فيقول : لولا تصدقون ، بدل قوله : لم لا ، وهلا ، لأنه أدل على نفي ما دخلت عليه وهو عدم التصديق وفيه لطيفة : وهي أن لولا تدخل على فعل ماض على مستقبل قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 420
{فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} (التوبة : 122) فما وجه اختصاص المستقبل ههنا بالذكر وهلا قال : فلولا صدقتم ؟
نقول : هذا كلام معهم في الدنيا والإسلام فيها مقبول ويجب ما قبله فقال : لم لا تصدقون في ساعتكم ، والدلائل واضحة مستمر والفائدة حاصلة ، فأما في قوله : {فَلَوْلا نَفَرَ} لم تكن الفائدة تحصل إلا بعد مدة فقال : لو سافرتم لحصل لكم الفائدة في الحال وقد فات ذلك ، فإن كنتم لا تسافرون في الحال تفوتكم الفائدة أيضاً في الاستقبال ، ثم قال تعالى : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} من تقرير قوله تعالى : {نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ} وذلك لأنه تعالى لما قال : {نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ} قال الطبيعيون : نحن موجودون من نطف الخلق بجواهر كامنة وقبل كل واحد نطفة واحد فقال تعالى رداً عليهم : هل رأيتم هذا المنى وأنه جسم ضعيف متشابه الصورة لا بد له من مكون ، فأنتم خلقتم النطفة أم غيركم خلقها ، ولا بد من الاعتراف بخالق غير مخلوق قطعاً للتسلسل الباطل وإلى ربنا المنتهى ، ولا يرتاب فيه أحد من أول ما خلق الله النطفة وصورها وأحياها ونورها فلم لا تصدقون أنه واحد أحد صمد قادر على الأشياء ، فإنه يعيدكم كما أنشأكم في الابتداء ، والاستفهام يفيد زيادة تقرير وقد علمت ذلك مراراً.
[بم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 420
422
/ فيما لا تعلمون ، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} وفيه مسائل.
المسألة الأولى : في الترتيب فيه وجهان أحدهما : أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى : وفيه مسائل.
(1/4370)

المسألة الأولى : في الترتيب فيه وجهان أحدهما : أنه تقرير لما سبق وهو كقوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) فقال : {نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ} (الواقعة : 57) ثم قال : {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} فمن قدر على الإحياء والإماتة وهما ضدان ثبت كونه مختاراً فيمكن الإحياء ثانياً منه بعد الإماتة بخلاف ما لو كان الإحياء منه ولم يكن له قدرة على الإماتة فيظن به أنه موجب لا مختار ، والموجب لا يقدر على كل شيء ممكن فقال : نحن خلقناكم وقدرنا الموت بينكم فانظروا فيه واعلموا أنا قادرون أن ننشئكم ، ثانيهما : أنه جواب عن قول مبطل يقول : إن لم تكن الحياة والموت بأمور طبيعية في الأجسام من حرارات ورطوبات إذا توفرت بقيت حية ، وإذا نقصت وفنيت ماتت لم يقع الموت وكيف يليق بالحكيم أن يخلق شيئاً يتقن خلقه ويحسن صورته ثم يفسده ويعدمه ثم يعيده وينشئه ، فقال تعالى : نحن قدرنا الموت ، ولا يرد قولكم : لماذا أعدم ولماذا أنشأ ، ولماذا هدم ، لأن كمال القدرة يقتضي ذلك وإنما يقبح من الصائغ والباني صياغة شيء وبناؤه وكسره وإنشاؤه لأنه يحتاج إلى صرف زمان إليه وتحمل مشقة وما مثله إلا مثل إنسان ينظر إلى شيء فيقطع نظره عنه طرفة عين ، ثم يعاوده ولا يقال له : لم قطعت النظر ولم نظرت إليه ، ولله المثل الأعلى من هذا ، لأن هنا لا بد من حركة وزمان ولو توارد على الإنسان أمثاله لتعب لكن في المرة الواحدة لا يثبت التعب والله تعالى منزه عن التعب ولا افتقار لفعله إلى زمان ولا زمان لفعله ولا إلى حركة بجرم ، وفيه وجه آخر ألطف منها ، وهو أن قوله تعالى : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة : 58) معناه أفرأيتم ذلك ميتاً لا حياة فيه وهو منى ، ولو تفكرتم فيه لعلمتم أنه كان قبل ذلك حياً متصلاً بحي وكان أجزاء مدركة متألمة متلذذة ثم إذا أمنيتموه لا تستريبون في كونه ميتاً كالجمادات ، ثم إن الله تعالى يخلقه آدمياً ويجعله بشراً سوياً فالنطفة كانت قبل الانفصال حية ، ثم صارت ميتة ثم أحياها الله تعالى مرة أخرى فاعلموا أنما إذا خلقناكم أولاً ثم قدرنا بينكم الموت ثانياً ثم ننشئكم مرة أخرى فلا تستبعدوا ذلك كما في النطف.
جزء : 29 رقم الصفحة : 422
المسألة الثانية : ما الفرق بين هذا الموضع وبين أول سورة تبارك حيث قال هناك : {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) بتقديم ذكر الموت ؟
نقول : الكلام هنا على الترتيب الأصلي كما قال تعالى في مواضع منها قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) ثم قال بعد ذلك : {ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَالِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون : 15) وأما في سورة الملك فنذكر إن شاء الله تعالى فائدتها ومرجعها إلى ما ذكرنا أنه قال : خلق الموت في النطف بعد كونها حية عند الاتصال ثم خلق الحياة فيها بعد الموت وهو دليل الحشر ، وقيل : المراد من الموت هنا الموت الذي بعد الحياة ، والمراد هناك الذي قبل الحياة.
/ المسألة الثالثة : قال ههنا : {نَحْنُ قَدَّرْنَا} وقال في سورة الملك : {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} فذكر الموت والحياة بلفظ الخلق ، وههنا قال : {خَلَقْنَـاكُمْ} وقال : {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} فنقول : كان المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين مطلقاً لا في الناس على الخصوص ، وهنا لما قال : {خَلَقْنَـاكُمْ} (الواقعة : 57) خصصهم بالذكر فصار كأنه قال : خلقنا حياتكم ، فلو قال : نحن قدرنا موتكم ، كان ينبغي أنه يوجد موتهم في الحال ولم يكن كذلك ، ولهذا قال : {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ} وأما هناك فالموت والحياة كانا مخلوقين في محلين ولم يكن ذلك بالنسبة إلى بعض مخصوص.
المسألة الرابعة : هل في قوله تعالى : {بَيْنَكُمُ} بدلاً عن غيره من الألفاظ فائدة ؟
نقول : نعم فائدة جليلة ، وهي تبين بالنظر إلى الألفاظ التي تقوم مقامها فنقول : قدرنا لكم الموت ، وقدرنا فيكم الموت ، فقوله : قدرنا فيكم يفيد معنى الخلق لأن تقدير الشيء في الشيء يستدعي كونه ظرفاً له إما ظرف حصول فيه أو ظرف حلول فيه كما يقال : البياض في الجسم والكحل في العين ، فلو قال : قدرنا فيكم الموت لكان مخلوقاً فينا وليس كذلك ، وإن قلنا : قدرنا لكم الموت كان ذلك ينبىء عن تأخره عن الناس فإن القائل إذا قال : هذا معد لك كان معناه أنه اليوم لغيرك وغداً لك ، كما قال تعالى : {وَتِلْكَ الايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران : 140).
جزء : 29 رقم الصفحة : 422
(1/4371)

المسألة الخامسة : قوله : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} المشهور أن المراد منه : وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم ، يقال : فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب ، ونقول : إذا كان قوله : {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ} لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت ، وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادراً مختاراً فقال : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته ، فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين ، وأما إن قلنا بأنه ذكره رداً عليهم حيث قالوا : لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان والله تعالى يخلق بكن فيكون ، فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول : لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد ، حيث يوهم أنه يفعل شيئاً ثم يبطله ، ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة ، وعلى هذا فنقول قوله في سورة تبارك : {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ} (الملك : 2) معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار ، فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه / موجباً لما عملتم شيئاً على هذا التفسير المشهور ، والظاهر أن المراد من قوله : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين أحدهما : أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء وثانيهما : في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان أما إذا قلنا : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}
جزء : 29 رقم الصفحة : 422
معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى الله وتقفون عنده ولا تجاوزونه/ فإنكم إن كنتم تقولون : قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق ، وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري ، وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام ، والعاقل الذي هداه الله تعالى الهداية القوية يعرف أولاً والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة ، والمعاند لا بد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب ، ويقول : لا بد للكل من إله ، وهو ليس بمسبوق فيما فعله ، فمعناه أنه فعل ما فعل ، ولم يكن لمفعوله مثال ، وأما إن قلنا : إنه ليس بمسبوق ، وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) ويؤيده قوله تعالى : {عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} فإن قيل : هذا لا يصح ، لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل ، والمراد ما ذكرنا كأنه قال : وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين ، أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا ، وذلك لأن قوله تعالى : {إِنَّا لَقَـادِرُونَ} أفاد فائدة انتفاء العجز عنه ، فلا بد من أن يكون لقوله تعالى : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فائدة ظاهرة ، ثم قال تعالى : {عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ} في الوجه المشهور ، قوله تعالى : {عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ} يتعلق بقوله : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي على التبديل ، ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 422
(1/4372)

والتحقيق في هذا الوجه أن من سبقه الشيء كأنه غلبه فعجز عنه ، وكلمة على في هذا الوجه مأخوذة من استعمال لفظ المسابقة فإنه يكون على شيء ، فإن من سبق غيره على أمر فهو الغالب ، وعلى الوجه الآخر يتعلق بقوله تعالى : {نَحْنُ قَدَّرْنَا} وتقديره : نحن قدرنا بينكم على وجه التبديل لا على وجه قطع النسل من أول الأمر ، كما يقول القائل : خرج فلان على أن يرجع عاجلاً ، أي على هذا الوجه خرج ، وتعلق كلمة على هذا الوجه أظهر ، فإن قيل : على ما ذهب إليه المفسرون لا إشكال في تبديل أمثالكم ، أي أشكالكم وأوصافكم ، ويكون الأمثال جمع مثل ، ويكون معناه وما نحن بعاجزين على أن نمسخكم ، ونجعلكم في صورة قردة وخنازير ، فيكون كقوله تعالى : {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} (يس : 67) وعلى ما قلت في تفسير المسبوقين ، وجعلت المتعلق لقوله : {عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ} هو قوله : {نَحْنُ قَدَّرْنَا} فيكون قوله : {نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ} معناه على أن نبدل أمثالهم لا على عملهم ، نقول : هذا إيراد وارد على المفسرين بأسرهم إذا فسروا الأمثال بجمع المثل ، وهو الظاهر كما في قوله تعالى : {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَـالَكُم} (محمد : 38) وقوله : {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـالَهُمْ تَبْدِيلا} (الإنسان : 28) فإن قوله : {إِذَا} دليل الوقوع ، وتغير أوصافهم بالمسخ ليس أمراً يقع والجواب أن يقال : الأمثال / إما أن يكون جمع مثل ، وإما جمع مثل ، فإن كان جمع مثل فنقول معناه قدرنا بينكم الموت على هذا الوجه ، وهو أن نغير أوصافكم فتكونوا أطفالاً ، ثم شباناً ، ثم كهولاً ، ثم شيوخاً ، ثم يدرككم الأجل ، وما قدرنا بينكم الموت على أن نهلككم دفعة واحدة إلا إذا جاء وقت ذلك فتهلكون بنفخة واحدة وإن قلنا : هو جمع مثل فنقول معنى : {نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ} نجعل أمثالكم بدلاً وبدله بمعنى جعله بدلاً ، ولم يحسن أن يقال : بدلناكم على هذا الوجه ، لأنه يفيد أنا جعلنا بدلاً فلا يدل على وقوع الفناه عليهم ، غاية ما في الباب أن قول القائل : جعلت كذا بدلاً لا تتم فائدته إلا إذا قال : جعلته بدلاً عن كذا لكنه تعالى لما قال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 422
{نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ} فالمثل يدل على المثل/ فكأنه قال : جعلنا أمثالكم بدلاً لكم ، ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعاً ثم ننشئهم ، وقوله تعالى : {فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق ، والظاهر أن المراد : {فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} من الأوصاف والزمان ، فإن أحداً لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا : ومتى الساعة والإنشاء ؟
فقال : لا علم لكم بهما ، هذا إذا قلنا : إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة : وهي أن قوله : {فِى مَا لا تَعْلَمُونَ} تقرير لقوله : {تَخْلُقُونَه ا أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ} (الواقعة : 59) وكأنه قال : كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به ؟
وهو كقوله تعالى : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ } (النجم : 32) وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح ، لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعاً في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة ، وقال تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاولَى } تقريراً لإمكان النشأة الثانية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 422
423
(1/4373)

ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء ، وقوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء ، وذكر أموراً ثلاثة المأكول ، والمشروب ، وما به إصلاح المأكول ، ورتبه ترتيباً فذكر المأكول أولاً لأنه هو الغذاء ، ثم المشروب لأن به الاستمراء ، ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل ، فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل ، ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل ، وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها ، ودخل في كل واحد منها ما هو دونه ، هذا هو الترتيب ، وأما التفسير فنقول : الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته / من كراب الأرض ، وإلقاء البذر ، وسقي المبذور ، والزرع هو آخر الحرث من خروج النبات واستغلاظه واستوائه على الساق ، فقوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} أي ما تبتدئون منه من الأعمال أأنتم تبلغونها المقصود أم الله ؟
ولا يشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس ، وليس بفعلهم إن كان سوى إلقاء البذر والسقي ، فإن قيل : هذا يدل على أن الله هو الزارع ، فكيف قال تعالى : {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} (الفتح : 29) وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "الزرع للزارع" قلنا قد ثبت من التفسير أن الحرث متصل بالزرع ، فالحرث أوائل الزرع ، والزرع أواخر الحرث ، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر ، لكن قوله : {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} بدلاً عن قوله : يعجب الحراث ، يدل على أن الحارث إذا كان هو المبتدي ، فربما يتعجب بما يترتب على فعله من خروج النبات والزارع لما كان هو المنتهى ، ولا يعجبه إلا شيء عظيم ، فقال : {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} الذين تعودوا أخذ الحراث ، فما ظنك بإعجابه الحراث ، وقوله صلى الله عليه وسلّم : "الزرع للزارع" فيه فائدة ، لأنه لو قال : للحارث فمن ابتدأ بعمل الزرع وأتى بكراب الأرض وتسويتها يصير حارثاً ، وذلك قبل إلقاء البذرة لزرع لمن أتى بالأمر المتأخر وهو إلقاء البذر ، أي من له البذر على مذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وهذا أظهر ، لأنه بمجرد الإلقاء في الأرض يجعل الزرع للملقى سواء كان مالكاً أو غاصباً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 423
423
وهو تدريج في الإثبات ، وبيانه هو أنه لما قال : {تَزْرَعُونَه ا أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ} (الواقعة : 64) لم يبعد من معاند أن يقول : نحن نحرث وهو بنفسه يصير زرعاً ، لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا ، فقال تعالى : ولو سلم لكم هذا الباطل هذا الباطل ، فما تقولون في سلامته عن الآفات التي تصيبه ، فيفسد قبل اشتداد الحب وقبل انعقاده ، أو قبل اشتداد الحب وقبل ظهور الحب فيه ، فهل تحفظونه منها أو تدفعونها عنه ، أو هذا الزرع بنفسه يدفع عن نفسه تلك الآفات ، كما تقولون : إنه بنفسه ينبت ، ولا يشك أحد أن دفع الآفات بإذن الله تعالى ، وحفظه عنها بفضل الله ، وعلى هذا أعاده ليذكر أموراً مرتبة بعضها على بعض فيكون الأمر الأول : للمهتدين والثاني : للظالمين والثالث : للمعاندين الضالين فيذكر الأمر الذي لا شك فيه في آخر الأمر إقامة للحجة على الضال المعاند.
(1/4374)

وفيه سؤال وهو أنه تعالى ههنا قال : {لَجَعَلْنَـاهُ} بلام الجواب وقال في الماء : {جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا} (الواقعة : 7) من غير لام فما الفرق بينهما ؟
نقول : ذكر الزمخشري عنه جوابين أحدهما : قوله تعالى : {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَـاهُ حُطَـامًا} كان قريب الذكر فاستغنى بذكر اللام فيه عن ذكرها ثانياً ، وهذا ضعيف لأن / وقوله تعالى : {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ} (يس : 66) مع قوله : {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ} (يس : 67) أقرب من قوله : {لَجَعَلْنَـاهُ حُطَـامًا} و{جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا} (الواقعة : 30) اللهم إلا أن نقول : هناك أحدهما قريب من الآخر ذكراً لا معنى لأن الطمس لا يلزمه المسخ ولا بالعكس والمأكول معه المشروب في الدهر ، فالأمران تقاربا لفظاً ومعنى والجواب الثاني : أن اللام يفيد نوع تأكيد فذكر اللام في المأكول ليعلم أن أمر المأكول أهم من أمر المشروب وأن نعمته أعظم وما ذكرنا أيضاً وارد عليه لأن أمر الطمس أهون من أمر المسخ وأدخل فيهما اللام ، وههنا جواب آخر يبين بتقديم بحث عن فائدة اللام في جواب لو ، فنقول : حرف الشرط آذا دخل على الجملة يخرجها عن كونها جملة في المعنى فاحتاجوا إلى علامة تدل على المعنى ، فأتوا بالجزم في المستقبل لأن الشرط يقتضي جزاء ، وفيه تطويل فالجزم الذي هو سكون أليق بالموضع وبينه وبين المعنى أيضاً مناسبة لكن كلمة لو مختصة بالدخول على الماضي معنى فإنها إذا دخلت على المستقبل جعلته ماضياً ، والتحقيق فيه أن الجملة الشرطية لا تخرج عن أقسام فإنها إذا ذكرت لا بد من أن يكون الشرط معلوم الوقوع لأن الشرط إن كان معلوم الوقوع فالجزاء لازم الوقوع فجعل الكلام جملة شرطية عدول عن جملة إسنادية إلى جملة تعليقية وهو تطويل من غير فائدة فقول القائل : آتيك إن طلعت الشمس تطويل والأولى أن يقول : آتيك جزماً من غير شرط فإذا علم هذا فحال الشرط لا يخلو من أن يكون معلوم العدم أو مشكوكاً فيه فالشرط إذا وقع على قسمين فلا بد لهما من لفظين وهما إن ولو ، واختصت إن بالشكوك ، ولو بمعلوم لأمر بيناه في موضع آخر لكن ما علم عدم يكون الآخر فقد أثبت منه فهو ماض أو في حكمه لأن العلم بالأمور يكون بعد وقوعها وما يشك فيه فهو مستقبل أو في معناه لأننا نشك في الأمور المستقبلة أنها تكون أولاً تكون والماضي خرج عن التردد ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : لما دخل لو على الماضي وما اختلف آخر بالعامل لم يتبين فيه إعراب ، وإن لما دخل على المستقبل بان فيه الإعراب ، ثم إن الجزاء على حسب الشرط وكان الجزاء في باب لو ماضياً فلم يتبين فيه الحال ولا سكون/ فيضاف له حرف يدل على خروجه عن كونه جملة ودخوله في كونه جزء جملة ، إذا ثبت هذا فنقول : عندما يكون الجزاء ظاهراً يستغني عن الحرف الصارف ، لكن كون الماء المذكور في الآية ، وهو الماء المشروب المنزل من المزن أجاجاً ليس أمراً واقعاً يظن أنه خبر مستقل ، ويقويه أنه تعالى يقول :
جزء : 29 رقم الصفحة : 423
(1/4375)

{جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا} على طريقة الإخبار والحرث والزرع كثيراً ما وقع كونه حطاماً فلو قال : جعلناه حطاماً ، كان يتوهم منه الإخبار فقال هناك : {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَـاهُ} ليخرجه عما هو صالح له في الواقع ، وهو الحطامية وقال الماء المنزل المشروب من المزن جعلناه أجاجاً لأنه لا يتوهم ذلك فاستغنى عن اللام ، وفيه لطيفة : أخرى نحوية ، وهي أن في القرآن إسقاط اللام عن جزاء لو حيث كانت لو داخلة على مستقبل لفظاً ، وأما إذا كان ما دخل عليه لو ماضياً ، وكان الجزاء موجباً فلا كما في قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا} (السجدة : 13) {لَوْ هَدَاـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَـاكُمْ } (إبراهيم : 21) وذلك لأن لو إذا دخلت على فعل مستقل كما في / قوله : {لَوْ نَشَآءُ} فقد أخرجت عن حيزها لفظاً ، لأن لو للماضي فإذا خرج الشرط عن حيزه جاز في الجزاء الإخراج عن حيزه لفظاً وإسقاط اللام عنه ، لأن إن كان حيزها المستقبل وتدخل على المستقبل ، فإذا جعل ما دخل إن عليه ماضياً كقولك : إن جئتني ، جاز في الخبر الإخراج عن حيزه وترك الجزم فنقول : أكرمك بالرفع ، وأكرمك بالجزم ، كما تقول في : {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَـاهُ} وفي : {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـاهُ} (الواقعة : 70) وما ذكرناه من الجواب في قوله : {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه } (يس : 47) إذا نظرت إليه تجده مستقيماً ، وحيث لم يقل : لو شاء الله أطعمه ، علم أن الآخر جزاء ولم يبق فيه توهم ، لأنه إما أن يكون عند المتكلم ، وذلك غير جائز لأن المتكلم عالم بحقيقة كلامه ، وإما أن يكون عندهم وذلك غير جائز ههنا ، لأن قولهم : لو شاء الله أطعمه رد على المؤمنين في زعمهم يعني أنتم تقولون : إن الله لو شاء فعل فلا نطعم من لو شاء الله أطعمه على زعمكم ، فلما كان أطعمه جزاءاً معلوماً عند السامع والمتكلم استغنى عن اللام ، والحطام كالفتات والجذاذ وهو من الحطم كما أن الفتات والجذاذ من الفت والجذ والفعال في أكثر الأمر يدل على مكروه أو منكر ، أما في المعاني : فكالسبات والفواق والزكام والدوار والصداع لأمراض وآفات في الناس والنبات. وأما في الأعيان : فكالجذاذ والحطام والفتات وكذا إذا لحقته الهاء كالبرادة والسحالة ، وفيه زيادة بيان وهو أن ضم الفاء من الكلمة يدل على ما ذكرنا في الأفعال فإنا نقول : فعل لما لم يسم فاعله وكان السبب أن أوائل الكلم لما لم يكن فيه التخفيف المطلق وهو السكون لم يثبت التثقيل المطلق وهو الضم ، فإذا ثبت فهو لعارض ، إن علم كما ذكرنا فلا كلام وإن لم يعلم كما في برد وقفل فالأمر خفي يطول ذكره والوضع يدل عليه في الثلاثي. وقوله تعالى : {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} وفيه وجهان : أما على الوجه الأول : كأنما هو كلام مقدر عنهم كأنه يقول : وحينئذ يحق أن تقولوا : إنا لمعذبون دائمون في العذاب. وأما على الوجه الثاني : فيقولون : إنا لمعذبون ومحرمون عن إعادة الزرع مرة أخرى ، يقولون : إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع ومحرومون عن دفعه بغير الزرع لفوات الماء والوجه الثاني : في الغرم إنا لمكرهون بالغرامة من غرم الرجل وأصل الغرم والغرام لزوم المكروه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 423
423
خصه بالذكر لأنه ألطف وأنظف أو تذكيراً لهم بالإنعام عليهم ، والمزن السحاب الثقيل بالماء لا بغيره من أنواع العذاب يدل على ثقله قلب اللفظ وعلى مدافعة الأمر وهو التزم في بعض اللغات / السحاب الذي مس الأرض وقد تقدم تفسير الأجاج أنه الماء المر من شدة الملوحة ، والظاهر أنه هو الحار من أجيج النار كالحطام من الحطيم ، وقد ذكرناه في قوله تعالى : {هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (الفرقان : 53) ذكر في الماء الطيب صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية ملمسه وهي البرودة واللطافة ، وفي الماء الآخر أيضاً صفتين إحداهما عائدة إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية لمسه وهي الحرارة ، ثم قال تعالى : {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} لم يقل عند ذكر الطعام الشكر وذلك لوجهين أحدهما : أنه لم يذكر في المأكول أكلهم ، فلما لم يقل : تأكلون لم يقل : تشكرون وقال في الماء : {تَشْرَبُونَ} فقال : {تَشْكُرُونَ} والثاني : أن في المأكول قال : {تَحْرُثُونَ} (الواقعة : 63) فأثبت لهم سعياً فلم يقل : تشكرون وقال في الماء : {أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ} لا عمل لكم فيه أصلاً فهو محض النعمة فقال : {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} وفيه وجه ثالث : وهو الأحسن أن يقال : النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب ألا ترى أن في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل الإنسان شيئاً مخافة العطش ، فلما ذكر المأكول أولاً وأتمه بذكر المشروب ثانياً قال : {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} على هذه النعمة التامة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 423
425
(1/4376)

وفي شجرة النار وجوه أحدها : أنها الشجرة التي تورى النار منها بالزند والزندة كالمرخ وثانيها : الشجرة التي تصلح لإيقاد النار كالحطب فإنها لو لم تكن لم يسهل إيقاد النار ، لأن النار لا تتعلق بكل شيء كما تتعلق بالحطب وثالثها : أصول شعلها ووقود شجرتها ولولا كونها ذات شعل لما صلحت لإنضاج الأشياء والباقي ظاهر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 425
428
في قوله : {تَذْكِرَةً} وجهان أحدهما : تذكرة لنار القيامة فيجب على العاقل أن يخشى الله تعالى وعذابه إذا رأى النار الموقدة وثانيهما : تذكرة بصحة البعث ، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا} (يس : 80) والمقوى : هو الذي أوقده فقواه وزاده وفيه لطيفة : وهو أنه تعالى قدم كونها تذكرة على كونها متاعاً ليعلم أن الفائدة الأخروية أتم وبالذكر أهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 428
433
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في وجه تعلقه بما قبله ؟
نقول : لما ذكر الله تعالى حال المكذبين بالحشر والوحدانية ذكر الدليل عليهما بالخلق والرزق ولم يفدهم الإيمان قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم : / أن وظيفتك أن تكمل في نفسك وهو علمك بربك وعملك لربك : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} (طه : 130) وفي موضع آخر.
المسألة الثانية : التسبيح التنزيه عما لا يليق به فما فائدة ذكر الاسم ولم يقل : فسبح بربك العظيم ؟
فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : هو المشهور وهو أن الاسم مقحم ، وعلى هذا الجواب فنقول : فيه فائدة زيادة التعظيم ، لأن من عظم عظيماً وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه ، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق ، وذلك لأن من يعظم شخصاً عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه ، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك ، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة ، فإن قيل : فعلى هذا فما فائدة الباء وكيف صار ذلك ، ولم يقل : فسبح اسم ربك العظيم ، أو الرب العظيم ، نقول : قد تقدم مراراً أن الفعل إذا كان تعلقه بالمفعول ظاهراً غاية الظهور لا يتعدى إليه بحرف فلا يقال : ضربت بزيد بمعنى ضربت زيداً ، وإذا كان في غاية الخفاء لا يتعدى إليه إلا بحرف فلا يقال : ذهبت زيداً بمعنى ذهبت بزيد ، وإذا كان بينهما جاز الوجهان فنقول : سبحته وسبحت به وشكرته وشكرت له ، إذا ثبت هذا فنقول : لما علق التسبيح بالاسم وكان الاسم مقحماً كان التسبيح في الحقيقة متعلقاً بغيره وهو الرب وكان التعلق خفياً من وجه فجاز ادخال الباء ، فإن قيل : إذا جاز الإسقاط والإثبات فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} ؟
(الأعلى : 1) فنقول : ههنا تقديم الدليل على العظمة أن يقال : الباء في قوله : {بِاسْمِ} غير زائدة ، وتقريره من وجهين أحدهما : أنه لما ذكر الأمور وقال : نحن أم أنتم ، فاعترف الكل بأن الأمور من الله ، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا : نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناماً آلهة في الاسم ونسميها آلهة والذي خلقها وخلق السموات هو الله فنحن ننزهه في الحقيقة فقال : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وكما أنك أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراكهما في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم ، ولا تقل لغيره إله ، فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة ، وعلى هذا فالخطاب لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلّم بل يكون كما يقول الواعظ : يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت عملك ، ولا يريد أحداً بعينه ، وتقديره يا أيها المسكين السامع وثانيهما : أن يكون المراد بذكر ربك ، أي إذا قلت : وتولوا ، فسبح ربك بذكر اسمه بين قومك واشتغل بالتبليغ ، والمعنى اذكره باللسان والقلب وبين وصفه لهم وإن لم يقبلوا فإنك مقبل على شغلك الذي هو التبليغ ، ولو قال : فسبح ربك ، ما أفاد الذكر لهم ، وكان ينبىء عن التسبيح بالقلب ، ولما قال : فسبح باسم ربك ، والاسم هو الذي يذكر لفظاً دل على أنه مأمور بالذكر اللساني وليس له أن يقتصر على الذكر القلبي ويحتمل أن يقال : فسبح مبتدئاً باسم ربك العظيم فلا تكون الباء زائدة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 433
(1/4377)

المسألة الثالثة : كيف يسبح ربنا ؟
نقول : إما معنى ، فبأن يعتقد فيه أنه واحد منزه عن / الشريك وقادر بريء عن العجز فلا يعجز عن الحشر وإما لفظاً فبأن يقال : سبحان الله وسبحان الله العظيم ، وسبحانه عما يشركون/ أو ما يقوم مقامه من الكلام الدال على تنزيهه عن الشريك والعجز فإنك إذا سبحته واعتقدت أنه واحد منزه عن كل مالا يجوز في حقيقته ، لزم أن لا يكون جسماً لأن الجسم فيه أشياء كثيرة وهو واحد حقيقي لا كثرة لذاته ، ولا يكون عرضاً ولا في مكان ، وكل مالا يجوز له ينتفي عنه بالتوحيد ولا يكون على شيء ، ولا في شيء ، ولا عن شيء ، وإذا قلت : هو قادر ثبت له العلم والإرادة والحياة وغيرها من الصفات وسنذكر ذلك في تفسير سورة الإخلاص إن شاء الله تعالى.
المسألة الرابعة : ما الفرق بين {الْعَظِيمِ} وبين {الاعْلَى } ، وهل في ذكر {الْعَظِيمِ} هنا بدل {الاعْلَى } وذكر {الاعْلَى } في قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) بدل {الْعَظِيمِ} فائدة ؟
نقول : أما الفرق بين العظيم والأعلى فهو أن العظيم يدل على القرب ، والأعلى يدل على البعد ، بيانه هو أن ما عظم من الأشياء المدركة بالحس قريب من كل ممكن ، لأنه لو بعد عنه لخلا عنه موضعه ، فلو كان فيه أجزاء أخر لكان أعظم مما هو عليه فالعظيم بالنسبة إلى الكل هو الذي يقرب من الكل ، وأما الصغير إذا قرب من جهة فقد بعد عن أخرى ، وأما العلي فهو البعيد عن كل شيء لأن ما قرب من شيء من جهة فوق يكون أبعد منه وكان أعلى فالعلي المطلق بالنسبة إلى كل شيء هو الذي في غاية البعد عن كل شيء ، إذا عرفت هذا فالأشياء المدركة تسبح الله ، وإذا علمنا من الله معنى سلبياً فصح أن نقول : هو أعلى من أن يحيط به إدراكنا وإذا علمنا منه وصفاً ثبوتياً من علم وقدرة يزيد تعظيمه أكثر مما وصل إليه علمنا ، فنقول : هو أعظم وأعلى من أن يحيط به علمنا ، وقولنا : أعظم معناه عظيم لا عظيم مثله ، ففيه مفهوم سلبي ومفهوم ثبوتي وقوله : أعلى ، معناه هو علي ولا علي مثله ، والعلي إشارة إلى مفهوم سلبي والأعلى مثله بسبب آخر ، فالأعلى مستعمل على حقيقته لفظاً ومعنى ، والأعظم مستعمل على حقيقته لفظاً ، وفيه معنى سلبي ، وكأن الأصل في العظيم مفهوم ثبوتي لا سلب فيه فالأعلى أحسن استعمالاً من الأعظم هذا هو الفرق.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 433
434
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الترتيب ووجهه هو أن الله تعالى لما أرسل رسوله الهدى ودين الحق آتاه كل ما ينبغي له وطهره عن كل مالا ينبغي له فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها ، والموعظة الحسنة وهي الأمور المفيدة المرققة للقلوب المنورة للصدور ، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق فأتى بها وعجز الكل عن معارضته بشيء ولم يؤمنوا والذي يتلى عليه ، كل ذلك ولا يؤمن لا يبقى له غير أنه يقول : هذا البيان ليس لظهور المدعى بل لقوة ذهن المدعى وقوته على تركيب الأدلة وهو يعلم أنه يغلب بقوة جداله لا بظهور مقاله وربما يقول أحد المناظرين للآخر عند / انقطاعه أنت تعلم أن الحق بيدي لكن تستضعفني ولا تنصفني وحينئذ لا يبقى للخصم جواب غير القسم بالأيمان التي لا مخارج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف ، وذلك لأنه لو أتى بدليل آخر لكان له أن يقول : وهذا الدليل أيضاً غلبتني فيه بقوتك وقدرتك ، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلّم لما آتاه الله جل وعز ما ينبغي قالوا : إنه يريد التفضل علينا وهو يجادلنا فيما يعلم خلافه ، فلم يبق له إلا أن يقسم فأنزل الله تعالى عليه أنواعاً من القسم بعد الدلائل ، ولهذا كثرت الأيمان في أوائل التنزيل وفي السبع الأخير خاصة.
المسألة الثانية : في تعلق الباء ، نقول : إنه لما بين أنه خالق الخلق والرزق وله العظمة بالدليل القاطع ولم يؤمنوا قال : لم يبق إلا القسم فأقسم بالله إني لصادق.
جزء : 29 رقم الصفحة : 434
(1/4378)

المسألة الثالثة : ما المعنى من قوله. {فَلا أُقْسِمُ} مع أنك تقول : إنه قسم ؟
نقول : فيه وجوه منقولة ومعقولة غير مخالفة للنقل ، أما المنقول فأحدها : أن (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى : {لِّئَلا يَعْلَمَ} (الحديد : 29) معناه ليعلم ثانيها : أصلها لأقسم بلام التأكيد أشبعت فتحتها فصارت لا كما في الوقف ثالثها : لا ، نافية وأصله على مقالتهم والقسم بعدها كأنه قال : لا ، والله لا صحة لقول الكفار أقسم عليه ، أما المعقول فهو أن كلمة لا هي نافية على معناها غير أن في الكلام مجازاً تركيبياً ، وتقديره أن نقول : لا في النفي هنا كهي في قول القائل لا تسألني عما جرى علي ، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله فإن غرضه من السؤال لا يحصل ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلا بيان عظمة الواقعة ويصير كأنه قال : جرى على أمر عظيم. ويدل عليه أن السامع يقول : له ماذا جرى عليك ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال : ماذا جرى عليك ، فيصح منه أن يقول : أخطأت حيث منعتك عن السؤال ، ثم سألتني وكيف لا ، وكثيراً ما يقول ذلك القائل الذي قال : لا تسألني عند سكون صاحبه عن السؤال ، أو لا تسألني ، ولا تقول : ماذا جرى عليك ولا يكون للسامع أن يقول : إنك منعتني عن السؤال كل ذلك تقرر في أفهامهم أن المراد تعظيم الواقعة لا النهي ، إذا علم هذا فنقول في القسم : مثل هذا موجود من أحد وجهين إما لكون الواقعة في غاية الظهور فيقول : لا أقسم بأنه على هذا الأمر لأنه أظهر من أن يشهر ، وأكثر من أن ينكر ، فيقول : لا أقسم ولا يريد به القسم ونفيه ، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة ، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به ، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول لا أقسم يميناً بل ألف يمين ، ولا أقسم برأس الأمير بل برأس السلطان ويقول : لا أقسم بكذا مريداً لكونه في غاية الجزم والثاني : يدل عليه أن هذه الصيغة لم ترد في القرآن والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته/ وإنما جاءت أمور مخلوقة والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء كما في قوله : {وَالصَّـا فَّـاتِ} (الصافات : 1) المراد منه رب الصافات ورب القيامة ورب الشمس إلى غير ذلك فإذاً قوله : {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه ، وأن يتطرق الشك إليه.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 434
المسألة الرابعة : مواقع النجوم ما هي ؟
فنقول : فيه وجوه الأول : المشارق والمغارب أو المغارب وحدها ، فإن عندها سقوط النجوم الثاني : هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها الثالث : مواقعها في اتباع الشياطين عند المزاحمة الرابع : مواقعها يوم القيامة حين تنتثر النجوم ، وأما مواقع نجوم القرآن ، فهي قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين ، أو معانيها وأحكامها التي وردت فيها.
المسألة الخامسة : هل في اختصاص مواقع النجوم للقسم بها فائدة ؟
قلنا : نعم فائدة جليلة ، وبيانها أنا قد ذكرنا أن القسم بمواقعها كما هي قسم كذلك هي من الدلائل ، وقد بيناه في الذاريات ، وفي الطور ، وفي النجم ، وغيرها ، فنقول : هي هنا أيضاً كذلك ، وذلك من حيث إن الله تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المنى وموته ، بين بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس قدرته واختياره ، ثم لما ذكر دليلاً من دلائل الأنفس ذكر من دلائل الآفاق أيضاً قدرته واختياره ، فقال : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة : 63) {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ} (الواقعة : 68) إلى غير ذلك ، وذكر قدرته على زرعه وجعله حطاماً ، وخلقه الماء فراتاً عذباً ، وجعله أجاجاً ، إشارة إلى أن القادر على الضدين مختار ، ولم يكن ذكر من الدلائل السماوية شيئاً ، فذكر الدليل السماوي في معرض القسم ، وقال : مواقع النجوم ، فإنها أيضاً دليل الاختيار ، لأن كون كل واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل فاعل مختار ، فقال : {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ليس إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) وهذا كقوله تعالى : {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِى أَنفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات : 20 ، 21) {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات : 22) حيث ذكر الأنواع الثلاثة كذلك هنا ، ثم قال تعالى : {وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} والضمير عائد إلى القسم الذي يتضمنه قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} فإنه يتضمن ذكر المصدر ، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل ، فيقال : ضربته قوياً ، وفيه مسائل نحوية ومعنوية ، أما النحوية :
جزء : 29 رقم الصفحة : 434
(1/4379)

فالمسألة الأولى : هو أن يقال : جواب {لَّوْ تَعْلَمُونَ} ماذا ، وربما يقول بعض من لا يعلم : إن جوابه ما تقدم وهو فاسد في جميع المواضع ، لأن جواب الشرط لا يتقدم ، وذلك لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها ، فلا يقال : زيداً إن قام ولا غيره من الحروف والسر فيه أن عمل الحروف مشبه بعمل المعاني ، ويميز بين الفاعل والمفعول وغيرهما ، فإذا كان العامل معنى لا موضع له في الحس فيعلم تقدمه وتأخر مدرك بالحس ، جاز أن يقال : قائماً ضربت زيد ، أو ضرباً شديداً ضربته ، وأما الحروف فلها تقدم وتأخر مدرك بالحس فلم يمكن بعد علمنا بتأخرها فرض وجودها متقدمة بخلاف المعاني ، إذا ثبت هذا فنقول : عمل حرف الشرط في المعنى إخراج كل واحدة من الجملتين عن كونها جملة مستقلة ، فإذا قلت : من ، وأن ، لا يمكن إخراج الجملة الأولى عن كونها جملة بعد وقوعها جمل ، ليعلم أن حرفها أضعف من عمل المعنى لتوقفه على / عمله مع أن المعنى أمكن فرضه متقدماً ومتأخراً/ وعمل الأفعال عمل معنوي ، وعمل الحروف عمل مشبه بالمعنى ، إذا ثبت هذا فنقول في قوله تعالى : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِه ا وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا} (يوسف : 24) قال بعض الوعاظ متعلق بلولا ، فلا يكون الهم وقع منه ، وهو باطل لما ذكرنا ، وهنا أدخل في البطلان ، لأن المتقدم لا يصلح جزاء للمتأخر ، فإن من قال : لو تعلمون إن زيداً لقائم ، لم يأت بالعربية ، إذا تبين هذا فالقول يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال : الجواب محذوف بالكلية لم يقصد بذلك جواب ، وإنما يراد نفي ما دخلت عليه لو ، وكأنه قال : وإنه لقسم لا تعلمون ، وتحقيقه أن لو تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره ، فلا بد من انتفاء الأول ، فإدخال لو على تعلمون أفادنا أن علمهم منتف ، سواء علمنا الجواب أو لم نعلم ، وهو كقولهم في الفعل المتعدي فلان يعطى ويمنع ، حيث لا يقصد به مفعول ، وإنما يراد إثبات القدرة ، وعلى هذا إن قيل : فما فائدة العدول إلى غير الحقيقة ، وترك قوله : إنه لقسم ولا تعلمون ؟
فنقول : فائدته تأكيد النفي ، لأن من قال : لو تعلمون كان ذلك دعوى منه ، فإذا طولب وقيل : لم قلت إنا لا نعلم يقول : لو تعلمون لفعلتم كذا ، فإذا قال في ابتداء الأمر : لا تعلمون كان مريداً للنفي ، فكأنه قال : أقول : إنكم لا تعلمون قولاً من غير تعلق بدليل وسبب وثانيهما : أن يكون له جواب تقديره : لو تعلمون لعظمتموه لكنكم ما عظمتموه ، فعلم أنكم لا تعلمون ، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم ، ولا تعظيم فلا تعلمون.
جزء : 29 رقم الصفحة : 434
المسألة الثانية : إن قيل قوله : {لَّوْ تَعْلَمُونَ} هل له مفعول أم لا ؟
قلنا : على الوجه الأول لا مفعول له ، كما في قولهم : فلان يعطي ويمنع ، وكأنه قال : لا علم لكم ، ويحتمل أن يقال : لا علم لكم بعظم القسم ، فيكون له مفعول ، والأول أبلغ وأدخل في الحسن ، لأنهم لا يعلمون شيئاً أصلاً لأنهم لو علموا لكان أولى الأشياء بالعلم هذه الأمور الظاهرة بالبراهين القاطعة ، فهو كقوله : {صُمُّا بُكْمٌ} (الفرقان : 44) وقوله : {كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وعلى الثاني أيضاً يحتمل وجهين أحدهما : لو كان لكم علم بالقسم لعظمتموه وثانيهما : لو كان لكم علم بعظمته لعظمتموه.
المسألة الثالثة : كيف تعلق قوله تعالى : {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بما قبله وما بعده ؟
فنقول : هو كلام اعتراض في أثناء الكلام تقديره : وإنه لقسم عظيم لو تعلمون لصدقتم ، فإن قيل : فما فائدة الاعتراض ؟
نقول : الاهتمام بقطع اعتراض المعترض ، لأنه لما قال : {وَإِنَّه لَقَسَمٌ} أراد أن يصفه بالعظمة بقوله : عظيم والكفار كانوا يجهلون ذلك ويدعون العلم بأمور النجم ، وكانوا يقولون : لو كان كذلك فما باله لا يحصل لنا علم وظن ، فقال : لو تعلمون لحصل لكم القطع ، وعلى ما ذكرنا الأمر أظهر من هذا ، وذلك لأنا قلنا : إن قوله : {لا أُقْسِمُ} معناه الأمر واضح من أن يصدق بيمين ، والكفار كانوا يقولون : أين الظهور ونحن نقطع بعدمه ، فقال : لو تعلمون شيئاً لما كان كذلك ، والأظهر منه أنا بينا أن كل ما جعله الله قسماً فهو في نفسه دليل على المطلوب وأخرجه مخرج القسم ، فقوله : {وَإِنَّه لَقَسَمٌ} معناه عند التحقيق ، وإنه دليل وبرهان قوي لو تعلمون وجهه لاعترفتم بمدلوله ، وهو التوحيد / والقدرة على الحشر ، وذلك لأن دلالة اختصاص الكواكب بمواضعها في غاية الظهور ولا يلزم الفلاسفة دليل أظهر منه ، وأما المعنوية :
فالمسألة الأولى : ما المقسم عليه ؟
نقول : فيه وجهان الأول : القرآن كانوا يجعلونه تارة شعراً وأخرى سحراً وغير ذلك وثانيهما : هو التوحيد والحشر وهو أظهر ، وقوله : {لَقُرْءَانٌ} ابتداء كلام وسنبين ذلك.
(1/4380)

المسألة الثانية : ما الفائدة في وصفه بالعظيم في قوله : {وَإِنَّه لَقَسَمٌ} فنقول : لما قال : {فَلا أُقْسِمُ} وكان معناه : لا أقسم بهذا لوضوح المقسم به عليه. قال : لست تاركاً للقسم بهذا ، لأنه ليس بقسم أو ليس بقسم عظيم ، بل هو قسم عظيم ولا أقسم به ، بل بأعظم منه أقسم لجزمي بالأمر وعلمي بحقيقته.
جزء : 29 رقم الصفحة : 434
المسألة الثالثة : اليمين في أكثر الأمر توصف بالمغلظة ، والعظم يقال : في المقسم حلف فلان بالأيمان العظام ، ثم تقول في حقه يمين مغلظة لأن آثامها كبيرة. وأما في حق الله عز وجل فبالعظيم وذلك هو المناسب ، لأن معناه هو الذي قرب قوله من كل قلب وملأ الصدر بالرعب لما بينا أن معنى العظيم فيه ذلك ، كما أن الجسم العظيم هو الذي قرب من أشياء عظيمة وملأ أماكن كثيرة من العظم ، كذلك العظيم الذي ليس بجسم قرب من أمور كثيرة ، وملأ صدوراً كثيرة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 434
436
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله تعالى : {إِنَّه } عائد إلى ماذا ؟
فنقول : فيه وجهان أحدهما : إلى معلوم وهو الكلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم ، وكان معروفاً عند الكل ، وكان الكفار يقولون : إنه شعر وإنه سحر ، فقال تعالى رداً عليهم : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} عائد إلى مذكور وهو جميع ما سبق في سورة الواقعة من التوحيد ، والحشر ، والدلائل المذكورة عليهما ، والقسم الذي قال فيه : {وَإِنَّه لَقَسَمٌ} (الواقعة : 76) وذلك لأنهم قالوا : هذا كله كلام محمد ومخترع من عنده ، فقال : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ} .
المسألة الثانية : القرآن مصدر أو اسم غير مصدر ؟
فنقول : فيه وجهان أحدهما : مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ومثله في قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرعد : 31) وهذا كما يقال في الجسم العظيم : أنظر إلى قدرة الله تعالى أي مقدوره وهو كما في قوله تعالى : {هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى} (لقمان : 11) ثانيهما : اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به ، والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن /وعلى هذا سنبين فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزكاة : يعطى شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو يعطى شيئاً دونه ، ويعطى الجبران أيضاً ، حيث قال : الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له هو كالقرآن بمعنى المقروء ، ويجوز أن يقال : لما أخذ جابر أو مجبور أو يقال : هو اسم لما يجبر به كالقربان.
المسألة الثالثة : إذا كان هذا الكلام للرد على المشركين فهم ما كانوا ينكرون كونه مقروءاً فما الفائدة في قوله : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : أنه إخبار عن الكل وهو قوله : {لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} فهم كانوا ينكرون كونه قرآناً كريماً وهم ما كانوا يقرون به وثانيهما : وهو أحسن من الأول ، أنهم قالوا : هو مخترع من عنده وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : إنه مسموع سمعته وتلوته عليكم فما كان القرآن عندهم مقروءاً ، وما كانوا يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن وفرق بين القراءة والإنشاء ، فلما قال : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} أثبت كونه مقروءاً على النبي صلى الله عليه وسلّم ليقرأ ويتلى فقال تعالى : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} سماه قرآناً لكثرة ما قرىء ، ويقرأ إلى الأبد بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
(1/4381)

المسألة الرابعة : قوله : {كَرِيمٍ} فيه لطيفة ؟
وهي أن الكلام إذا قرىء كثيراً يهون في الأعين والآذان ، ولهذا ترى من قال : شيئاً في مجلس الملوك لا يذكره ثانياً ، ولو قيل فيه : يقال لقائله لم تكرر هذا ، ثم إنه تعالى لما قال : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} أي مقروء قرىء ويقرأ ، قال : {كَرِيمٍ} أي لا يهون بكثرة التلاوة ويبقى أبد الدهر كالكلام الغض والحديث الطري ، ومن هنا يقع أن وصف القرآن بالحديث مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً فهو قديم يسمعه السامعون كأنه كلام الساعة ، وما قرع سمع الجماعة لأن الملائكة الذين علموه قبل النبي بألوف من السنين إذا سمعوه من أحدنا يتلذذون به التذاذ السامع بكلام جديد لم يذكر له من قبل ، والكريم اسم جامع لصفات المدح ، قيل : الكريم هو الذي كان طاهر الأصل ظاهر الفضل ، حتى إن من أصله غير زكي لا يقال له كريم مطلقاً ، بل يقال له : كريم في نفسه ، ومن يكون زكي الأصل غير زكي النفس لا يقال له : كريم إلا مع تقييد ، فيقال : هو كريم الأصل لكنه خسيس في نفسه ، ثم إن السخي المجرد هو الذي يكثر عطاؤه للناس ، أو يسهل عطاؤه ويسمى كريماً ، وإن لم يكن له فضل آخر لا على الحقيقة ولكن ذلك لسبب ، وهو أن الناس يحبون من يعطيهم ، ويفرحون بمن يعطى أكثر مما يفرحون بغيره ، فإذا رأوا زاهداً أو عالماً لا يسمونه كريماً ، ويؤيد هذا أنهم إذا رأوا واحداً لا يطلب منهم شيئاً يسمونه كريم النفس لمجرد تركه الاستعطاء لما أن الأخذ منهم صعب عليهم وهذا كله في العادة الرديئة ، وأما في الأصل فيقال : الكريم هو الذي استجمع فيه ما ينبغي من طهارة الأصل وظهور الفضل ، ويدل على هذا أن السخي في معاملته ينبغي أن لا يوجد منه ما يقال بسببه إنه لئيم ، فالقرآن أيضاً كريم بمعنى طاهر الأصل ظاهر الفضل لفظه فصيح ، ومعناه صحيح لكن القرآن أيضاً كريم على مفهوم العوام فإن كل من / طلب منه شيئاً أعطاه ، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه ، والحكيم يستمد به ويحتج به ، والأديب يستفيد منه ويتقوى به ، والله تعالى وصف القرآن بكونه كريماً ، وبكونه عزيزاً ، وبكونه حكيماً ، فلكونه كريماً كل من أقبل عليه نال منه ما يريده فإن كثيراً من الناس لا يفهم من العلوم شيئاً وإذا اشتغل بالقرآن سهل عليه حفظه ، وقلما يرى شخص يحفظ كتاباً يقرؤه بحيث لا يغير منه كلمة بكلمة ، ولا يبدل حرفًا بحرف وجميع القراء يقرأون القرآن من غير توقف ولا تبديل ، ولكونه عزيزاً أن كل من يعرض عنه لا يبقى معه منه شيء ، بخلاف سائر الكتب ، فإن من قرأ كتاباً وحفظه ثم تركه يتعلق بقلبه معناه حتى ينقله صحيحاً ، والقرآن من تركه لا يبقى معه منه شيء لعزته ولا يثبت عند من لا يلزمه بالحفظ ، ولكونه حكيماً من اشتغل به وأقبل عليه بالقلب أغناه عن سائر العلوم. وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
{فِى كِتَـابٍ} جعله شيئاً مظروفاً بكتاب فما ذلك ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : المظروف : القرآن ، أي هو قرآن في كتاب ، كما يقال : فلان رجل كريم في بيته ، لا يشك السامع أن مراد القائل : أنه في الدار قاعد ولا يريد به أنه كريم إذا كان في الدار ، وغير كريم إذا كان خارجاً ولا يشك أيضاً أنه لا يريد به أنه كريم في بيته ، بل المراد أنه رجل كريم وهو في البيت ، فكذلك ههنا أن القرآن كريم وهو في كتاب ، أو المظروف كريم على معنى أنه كريم في كتاب ، كما يقال : فلان رجل كريم في نفسه ، فيفهم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً فإن القائل : لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو نائم ، وإنما أراد به أنه كريم كرمه في نفسه ، فكذلك قرآن كريم فالقرآن كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريماً عند الكفار ثانيهما : المظروف هو مجموع قوله تعالى : (لقرآن كريم) أي هو كذا في كتاب كما يقال : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا عِلِّيُّونَ} (المطففين : 19) في كتاب الله تعالى ، والمراد حينئذ أنه في اللوح المحفوظ نعته مكتوب : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ} والكل صحيح ، والأول أبلغ في التعظيم بالمقروء السماوي.
المسألة الخامسة : ما المراد من الكتاب ؟
نقول فيه وجوه الأول : وهو الأصح أنه اللوح المحفوظ ويدل عليه قوله تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 20 ، 21) الثاني : الكتاب هو المصحف الثالث : كتاب من الكتب المنزلة فهو قرآن في التوراة والإنجيل وغيرهما فإن قيل كيف سمي الكتاب كتاباً والكتاب فعال ، وهو إذا كان للواحد فهو إما مصدر كالحساب والقيام وغيرهما ، أو اسم لما يكتب كاللباس واللثام وغيرهما ، فكيفما كان فالقرآن لا يكون في كتاب بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوباً في لوح أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، إنما يكون في القرطاس ، نقول : ما ذكرت من الموازين يدل على أن الكتاب ليس المكتوب ولا هو المكتوب فيه أو المكتوب عليه/ فإن اللثام ما يلثم به ، والصوان ما يصان فيه الثوب ، لكن اللوح لما لم يكن إلا الذي يكتب فيه صح تسميته كتاباً.
(1/4382)

جزء : 29 رقم الصفحة : 436
المسألة السادسة : المكتوب هو المستور قال الله تعالى : {كَأَمْثَـالِ اللُّؤْلُواِ الْمَكْنُونِ} (الواقعة : 23) ، قال : {بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} (الصمد : 24) فإن كان المراد من الكتاب اللوح فهو ليس بمستور وإنما الشيء فيه منشور ، وإن كان المراد هو المصحف فعدم كونه مكتوباً مستوراً ، فكيف الجواب عنه ؟
فنقول : المكنون المحفوظ إذا كان غير عزيز يحفظ بالعين ، وهو ظاهر للناس فإذا كان شريفاً عزيزاً لا يكتفي بالصون والحفظ بالعين بل يستر عن العيون ، ثم كلما تزداد عزته يزداد ستره فتارة يكون مخزوناً ثم يجعل مدفوناً ، فالستر صار كاللازم للصون البالغ فقال : {مَّكْنُونٍ} أي محفوظ غاية الحفظ ، فذكر اللام وأراد الملزوم وهو باب من الكلام الفصيح تقول مثلاً : فلان كبريت أحمر ، أي قليل الوجود والجواب الثاني : إن اللوح المحفوظ مستور عن العين لا يطلع عليه إلا ملائكة مخصوصون ، ولا ينظر إليه إلا قوم مطهرون ، وأما القرآن فهو مكتوب مستور أبد الدهر عن أعين المبدلين ، مصون عن أيدي المحرفين ، فإن قيل : فما فائدة كونه {فِى كِتَـابٍ} وكل مقروء في كتاب ؟
نقول : هو لتأكيد الرد على الكفار لأنهم كانوا يقولون : إنه مخترع من عنده مفترى ، فلما قال : مقروء عليه اندفع كلامهم ، ثم إنهم قالوا : إن كان مقروءاً عليه فهو كلام الجن فقال : {فِى كِتَـابٍ} أي لم ينزل به عليه الملك إلا بعدما أخذه من كتاب فهو ليس بكلام الملائكة فضلاً أن يكون كلام الجن ، وأما إذا قلنا : إذا كان كريماً فهو في كتاب ، ففائدته ظاهرة ، وأما فائدة كونه {فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ} فيكون رداً على من قال : إنه أساطير الأولين في كتب ظاهرة ، أي فلم لا يطالعها الكفار ، ولم لا يطلعون عليه لا بل هو {فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} ، فإذا بين فيما ذكرنا أن وصفه بكونه قرآناً صار رداً على من قال : يذكره من عنده ، وقوله : {فِى كِتَـابٍ} رد على من قال : يتلوه عليه الجن حيث اعترف بكونه مقروءاً ونازع في شيء آخر ، وقوله : {مَّكْنُونٍ} رد على من قال : إنه مقروء في كتاب لكنه من أساطير الأولين.
المسألة السابعة : {لا يَمَسُّه } الضمير عائد إلى الكتاب على الصحيح ، ويحتمل أن يقال : هو عائد إلى ما عاد إليه المضمر من قوله : {إِنَّه } ومعناه : لا يمس القرآن إلا المطهرون ، والصيغة إخبار ، لكن الخلاف في أنه هل هو بمعنى النهي ، كما أن قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (البقرة : 228) إخبار بمعنى الأمر ، فمن قال : المراد من الكتاب اللوح المحفوظ ، وهو الأصح على ما بينا ، قال : هو إخبار معنى كما هو إخبار لفظاً ، إذا قلنا : إن المضمر في {يَمَسُّه } للكتاب ، ومن قال : المراد المصحف اختلف في قوله ، وفيه وجه ضعيف نقله ابن عطية أنه نهي لفظاً ومعنى وجلبت إليه ضمة الهاء لا للإعراب ولا وجه له.
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
المسألة الثامنة : إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ ، فالصحيح أن الضمير في {لا يَمَسُّه } للكتاب ، فكيف يصح قول الشافعي رحمة الله تعالى عليه : لا يجوز مس المصحف للمحدث ، نقول : الظاهر أنه ما أخذه من صريح الآية ولعله أخذه من السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب إلى عمرو بن حزم : "لا يمس القرآن من هو على غير طهر" أو أخذه من الآية على طريق الاستنباط ، وقال : إن المس يطهر صفة من الصفات الدالة على التعظيم والمس بغير طهور / نوع إهانة في المعنى ، وذلك لأن الأضداد ينبغي أن تقابل بالأضداد ، فالمس بالمطهر في مقابلة المس على غير طهر ، وترك المس خروج عن كل واحدة منهما فكذلك الإكرام في مقابلة الإهانة وهناك شيء لا إكرام ولا إهانة فنقول : إن من لا يمس المصحف لا يكون مكرماً ولا مهيناً وبترك المس خرج عن الضدين ففي المس عن الطهر التعظيم ، وفي المس على الحدث الإهانة فلا تجوز وهو معنى دقيق يليق بالشافعي رحمه الله ومن يقرب منه في الدرجة.
(1/4383)

ثم إن ههنا لطيفة فقهية لاحت لهذا الضعيف في حال تفكره في تفسير هذه الآية فأراد تقييدها هنا فإنها من فضل الله فيجب علي إكرامها بالتقييد بالكتاب ، وهي أن الشافعي رحمه الله منع المحدث والجنب من مس المصحف وجعلهما غير مطهرين ثم منع الجنب عن قراءة القرآن ولم يمنع المحدث وهو استنباط منه من كلام الله تعالى ، وذلك لأن الله تعالى منعه عن المسجد بصريح قوله : {وَلا جُنُبًا} (النساء : 43) فدل ذلك على أنه ليس أهلاً للذكر لأنه لو كان أهلاً للذكر لما منعه من دخول المسجد لأنه تعالى أذن لأهل الذكر في الدخول بقوله تعالى : {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه } (النور : 36) الآية ، والمأذون في الذكر في المسجد مأذون في دخول المسجد ضرورة فلو كان الجنب أهلاً للذكر لما كان ممنوعاً عن دخول المسجد والمكث فيه وأنه ممنوع عنهما وعن أحدهما ، وأما المحدث فعلم أنه غير ممنوع عن دخول المسجد فإن من الصحابة من كان يدخل المسجد وجوز النبي صلى الله عليه وسلّم نوم القوم في المسجد وليس النوم حدثاً إذ النوم الخاص يلزمه الحكم بالحدث على اختلاف بين الأئمة ومالم يكن ممنوعاً من دخول المسجد لم يثبت كونه غير أهل للذكر فجاز له القراءة ، فإن قيل : وكان ينبغي أن لا يجوز للجنب أن يسبح ويستغفر لأنه ذكر ، نقول : القرآن هو الذكر المطلق قال الله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
(1/4384)

{وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) وقال الله تعالى : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} (ص : 1) وقوله : {يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه } مع أنا نعلم أن المسجد يسمى مسجداً ، ومسجد القوم محل السجود ، والمراد منه الصلاة والذكر الواجب في الصلاة هو القرآن ، فالقرآن مفهوم من قوله : {يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه } ، ومن حيث المعقول هو أن غير القرآن ربما يذكر مريداً به معناه فيكون كلاماً غير ذكراً ، فإن من قال : أستغفر الله أخبر عن نفسه بأمر ، ومن قال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كذلك أخبر عن أمر كائن بخلاف من قال : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) فإنه ليس بمتكلم به بل هو قائل له غير آمر لغيره بالقول ، فالقرآن هو الذكر الذي لا يكون إلا على قصد الذكر لا على قصد الكلام فهو المطلق وغيره قد يكون ذكراً ، وقد لا يكون ، فإن قيل : فإذا قال : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ} (الحجر : 46) وأراد الإخبار ينبغي أن لا يكون قرآناً وذكراً ، نقول : هو في نفسه قرآن ، ومن ذكره على قصد الإخبار ، وأراد الأمر والإذن في الدخول يخرج عن كونه قارئاً للقرآن ، وإن كان لا يخرج عن كونه قرآناً ، ولهذا نقول نحن ببطلان صلاته ولو كان قارئاً لما بطلت ، وهذا جواب فيه لطف ينبغي أن يتنبه له المطالع لهذا الكتاب ، وذلك من حيث إني فرقت بين أن يقال ليس قول / القائل : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ} على قصد الإذن قرآناً ، وبين قوله : ليس القائل {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ} على غير قصد بقارىء للقرآن ، وأما الجواب من حيث المعقول فهو أن العبادة على منافاة الشهوة ، والشهوة إما شهوة البطن ، وإما شهوة شهوة البطن ، وإما شهوة الفرج في أكثر الأمر ، فإن أحداً لا يخلو عنهما ، وإن لم يشته شيئاً آخر من المأكول والمشروب والمنكوح ، لكن شهوة البطن قد لا تبقى شهوة بل تصير حاجة عند الجوع وضرورة عند الخوف ، ولهذا قال تعالى : {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} (الواقعة : 21) أي لا يكون لحاجة ولا ضرورة بل لمجرد الشهوة وقد بيناه في هذه السورة/ وأما شهوة الفرج فلا تخرج عن كونها شهوة وإن خرجت تكون في محل الحاجة لا الضرورة ، فلا يعلم أن شهوة الفرج ليست شهوة محضة ، والعبادة فيها منضمة للشهوة ، فلم تخرج شهوة الفرج عن كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع ببطلان الحج به ، وبطلان الصوم والصلاة ، وأما قضاء شهوة البطن فلما لم يكن شهوة مجردة بطل به الصلاة والصوم دون الحج ، وربما لم تبطل به الصلاة أيضاً ، إذا ثبت هذا فنقول : خروج الخارج دليل قضاء الشهوة البطنية ، وخروج المني دليل قضاء الشهوة الفرجية ، فواجب بهما تطهير النفس ، لكن الظاهر والباطن متحاذيان ، فأمر الله تعالى بتطهير الظاهر عند الحدث والإنزال لموافقه الباطن ، والإنسان إذا كان له بصيرة وينظر في تطهير باطنه عند الاغتسال للجنابة ، فإنه يجد خفة ورغبة في الصلاة والذكر وهنا تتمة لهذه اللطيفة وهي أن قائلاً لو قال : لو صح قولك للزم أن يجب الوضوء بالأكل كما يجب بالحدث لأن الأكل قضاء الشهوة ، وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال ، لكونه دليل قضاء الشهوة ، وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج ، فكذلك الإحداث والأكل فنقول : ههنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة فنقول : الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة ، فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان ، فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلّم : "إنما الماء من الماء" فإن الإنزال كالإحداث ، وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء ، كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر وثانيهما : ما روي عنه صلى الله عليه وسلّم : الوضوء من أكل ما مسته النار فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله ، وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان ، فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة ، ونعود إلى الجواب عن السؤال ونقول : إذا تبين هذا فالشافعي رضي الله عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة ، فلا تجامع العبادة الجنابة ، فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن ، والمحدث يجوز له أن يقرأ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
(1/4385)

المسألة التاسعة : قوله : {إِلا الْمُطَهَّرُونَ} هم الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم / كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال : لا يمسه إلا المطهرون أو المطهرون ، بتشديد الطاء والهاء ، والقراءة المشهورة الصحيحة {الْمُطَهَّرُونَ} من التطهير لا من الإطهار ، وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر ، وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول : هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون : النبي صلى الله عليه وسلّم كاهن ، فقال : لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث ، ولا يكونون محلاً للإفساد والسفك ، فلا يفسدون ولا يسفكون ، وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه ، فيكون هذا رداً على القائلين : بكونه مفترياً ، وبكونه شاعراً ، وبكونه مجنوناً بمس الجن ، وبكونه كاهناً ، وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر الله تعالى ههنا من أوصاف كتاب الله العزيز.
المسألة العاشرة : قوله : {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} مصدر ، والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلاً إنما هو منزل كما قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ} (الشعراء : 193) نقول : ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما قلنا في قوله تعالى : {هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان : 11) فإن قيل : ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع ؟
فنقول : التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل ، لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر ، وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به ، فنقول : هذا في الكلام ، فإن كلام الله أيضاً وصف قائم بالله عندنا ، وإنما نقول : من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد ، فنقول : في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور ، فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه ، فإذا قال : هذا قدرة الله تعالى كان له من العظمة مالا يكون في قوله : هذا مقدور الله ، لأن عظمة الشيء بعظمة الله ، فإذا جعلت الشيء قائماً بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم ، وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم بالله وهو المفعول به كان دونه ، فقال : {تَنزِيلٌ} ولم يقل : منزل ، ثم إن ههنا : بلاغة أخرى وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا ، كما في قوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
{مُدْخَلَ صِدْقٍ} (الإسراء : 80) أي دخول صدق أو إدخال صدق وقال تعالى : {كُلَّ مُمَزَّقٍ } (سبأ : 7) أي تمزيق ، فالممزق بمعنى التمزيق ، كالمنزل بمعنى التنزيل ، وعلى العكس سواء ، وهذه البلاغة هي أن الفعل لا يرى ، والمفعول به يصير مرئياً ، والمرئي أقوى في العلم ، فيقال : مزقهم تمزيقاً وهو فعل معلوم لكل أحد علماً بيناً يبلغ درجة الرؤية ويصير التمزق هنا كما صار الممزق ثابتاً مرئياً ، والكلام يختلف بمواضع الكلام ، ويستخرج الموفق بتوفيق الله ، وقوله : {مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} أيضاً لتعظيم القرآن ، لأن الكلام يعظم بعظمة المتكلم ، ولهذا يقال لرسول الملك هذا كلام الملك أو كلامك وهذا كلام الملك الأعظم أو كلام الملك الذي دونه ، إذا كان الرسول رسول ملوك ، فيعظم الكلام بقدر عظمة المتكلم ، فإذا قال : {مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} تبين منه عظمة لا عظمة مثلها وقد بينا تفسير العالم وما فيه من اللطائف ، وقوله : {تَنزِيلٌ} رد على طائفة أخرى ، وهم الذين يقولون : {فِى كِتَـابٍ} و{لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة ، لكن الملك يأخذ ويعلم الناس من عنده ولا / يكون من الله تعالى ، وذلك أن طائفة من الروافض يقولون : إن جبرائيل أنزل على علي ، فنزل على محمد ، فقال تعالى : هو من الله ليس باختيار الملك أيضاً ، وعند هذا تبين الحق فعاد إلى توبيخ الكفار.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 436
437
وفيه مسائل :
(1/4386)

المسألة الأولى : (هذا) إشارة إلى ماذا ؟
فنقول : المشهور أنه إشارة إلى القرآن وإطلاق الحديث في القرآن على الكلام القديم كثير بمعنى كونه اسماً لا وصفاً فإن الحديث اسم لما يتحدث به ، ووصف يوصف به ما يتجدد ، فيقال : أمر حادث ورسم حديث أي جديد ، ويقال : أعجبني حديث فلان وكلامه وقد بينا أن القرآن قديم له لذة الكلام الجديد ، والحديث الذي لم يسمع الوجه الثاني : أنه إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى : {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَاـاِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ} (الواقعة : 47 ، 48) وذلك لأن الكلام مستقل منتظم فإنه تعالى رد عليهم ذلك بقوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ} (الواقعة : 49) وذكر الدليل عليهم بقوله : {نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ} (الواقعة : 57) وبقوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة : 58) {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة : 63) وأقسم بعد إقامة الدلائل بقوله : {فَلا أُقْسِمُ} (الواقعة : 75) وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} (الواقعة : 77) ثم عاد إلى كلامهم ، وقال : {أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ} الذي تتحدثون به {أَنتُم مُّدْهِنُونَ} لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه ، أم أنتم به جازمون ، وعلى الإصرار عازمون ، وسنبين وجهه بتفسير المدهن ، وفيه وجهان أحدهما : أن المدهن المراد به المكذب قال الزجاج : معناه أفبالقرآن أنتم تكذبون ، والتحقيق فيه أن الإدهان تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب ، فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالاً ثانياً وهذا إذا قلنا : إن الحديث هو القرآن والوجه الثاني : المدهن هو الذي يلين في الكلام ويوافق باللسان وهو مصر على الخلاف فقال : {أَنتُم}
جزء : 29 رقم الصفحة : 437
فمنهم من يقول : إن النبي كاذب ، وإن الحشر محال وذلك لما هم عليه من حب الرياسة ، وتخافون أنكم إن صدقتم ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل ، والأول عليه أكثر المفسرين ، لكن الثاني مطابق لصريح اللفظ فإن الحديث بكلامهم أولى وهو عبارة عن قولهم : {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (الواقعة : 47) والمدهن يبقى على حقيقته فإنهم ما كانوا مدهنين بالقرآن ، وقول الزجاج : مكذبون جاء بعده صريحاً. وأما قوله : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ففيه وجوه الأول : تجعلون شكر النعم أنكم تقولون مطرنا بنوء كذا ، وهذا عليه أكثر المفسرين ، الثاني : تجعلون معاشكم وكسبكم تكذيب محمد ، يقال : فلان قطع الطريق معاشه ، والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، يقال للمأكول رزق ، كما يقال للمقدور قدرة ، والمخلوق خلق ، وعلى هذا / فالتكذيب مصدر قصد به ما كانوا يحصلون به مقاصدهم ، وأما قوله : {تُكَذِّبُونَ} فعلى الأول المراد تكذيبهم بما قال الله تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وغير ذلك ، وعلى الثاني المراد جميع ما صدر منهم من التكذيب ، وهو أقرب إلى اللفظ.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 437
438
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من كلمة : {لَوْلا} معنى هلا من كلمات التحضيض وهي أربع كلمات : لولا ، ولوما ، وهلا ، وألا ويمكن أن يقال : أصل الكلمات لم لا ، على السؤال كما يقول القائل : إن كنت صادقاً فلم لا يظهر صدقك ، ثم إنما قلنا : الأصل لم لا لكونه استفهاماً أشبه قولنا : هلا ، ثم إن الاستفهام تارة يكون عن وجود شيء وأخرى عن سبب وجوده ، فيقال : هل جاء زيد ولم جاء ، والاستفهام بهل قبل الاستفهام بلم ، ثم إن الاستفهام قد يستعمل للإنكار وهو كثير ، ومنه قوله تعالى ههنا : {أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} (الواقعة : 81) وقوله : {أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ} (الصافات : 125) وقوله تعالى : {أَاـاِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات : 86) ونظائرها كثيرة ، وقد ذكرنا لك الحكمة فيه ، وهي أن النافي والناهي لا يأمر أن يكذب المخاطب فعرض بالنفي لئلا يحتاج إلى بيان النفي ، إذا ثبت هذا فالاستفهام "بهل" لإنكار الفعل ، والاستفهام "بلم" لإنكار سببه ، وبيان ذلك أن من قال : لم فعلت كذا ، يشير إلى أنه لا سبب للفعل ، ويقول : كان الفعل وقع من غير سبب الوقوع ، وهو غير جائز ، وإذا قال : هل فعلت ، ينكر نفس الفعل لا الفعل من غير سبب ، وكأنه في الأول يقول : لو وجد للفعل سبب لكان فعله أليق ، وفي الثاني يقول : الفعل غير لائق ولو وجد له سبب.
جزء : 29 رقم الصفحة : 438
(1/4387)

المسألة الثانية : إن كل واحد منهما يقع في صدر الكلام ، ويستدعي كلاماً مركباً من كلامين في الأصل ، أما في "هل" فلأن أصلها أنك تستعملها في جملتين ، فتقول : هل جاء زيد أو ما جاء ، لكنك ربما تحذف أحديهما ، وأما في (لو) فإنك تقول : لو كان كذا لكان كذا ، وربما تحذف الجزاء كما ذكرنا في قوله تعالى : {لَّوْ تَعْلَمُونَ} (الواقعة : 76) لأنه يشير بلو إلى أن المنفي له دليل ، فإذا قال القائل : لو كنتم تعلمون ، وقيل له لم لا يعلمون ، قال : إنهم لو يعلمون لفعلوا كذا ، فدليله مستحضر إن طولب به بينه وإذا ثبت أن النفي بلو ، والنفي بهل ، أبلغ من النفي بلا ، والنفي بقوله : لم ، وإن كان بينهما اشتراك معنى ولفظاً وحكماً وصارت كلمات التحضيض وهي : لو ما ، ولولا ، وهلا وألا ، كما تقول : لم لا فإذن قول القائل : هل تفعل وأنت عنه مستغن ، كقوله : لم تفعل وهو قبي ، وقوله : وهلا تفعل وأنت إليه محتاج ، وألا تفعل / وأنت إليه محتاج ، وقوله : لولا ، ولوما ، كقوله : لم لا تفعل ، ولم لا فعلت ، فقد وجد في ألا زيادة نص ، لأن نقل اللفظ لا يخلو من نص ، كما أن المعنى صار فيه زيادة ما ، على ما في الأصل كما بيناه ، وقوله تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي لم لا يقولون عند الموت وهو وقت ظهور الأمور وزمان اتفاق الكلمات ، ولو كان ما يقولونه حقاً ظاهراً كما يزعمون لكان الواجب أن يشركوا عند النزع ، وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله ، فإن قيل : ما سمع منهم الاعتراف وقت النزع بل يقولون : نحن نكذب الرسل أيضاً وقت بلوغ النفس إلى الحلقوم ونموت عليه ؟
فنقول : هذه الآية بعينها إشارة وبشارة ، أما الإشارة فإلى الكفار ، وأما البشارة فللرسل ، أما الإشارة وهي أن الله تعالى ذكر للكفار حالة لا يمكنهم إنكارها وهي حالة الموت فإنهم وإن كفروا بالحشر وهو الحياة بعد الموت لكنهم لم ينكروا الموت ، وهو أظهر من كل ما هو من مثله فلا يشكون في حالة النزع ، ولا يشكون في أن في ذلك الوقت لا يبقى لهم لسان ينطق/ ولا إنكار بعمل فتفوتهم قوة الاكتساب لإيمانهم ولا يمكنهم الإتيان بما يجب فيكون ذلك حثاً لهم على تجديد النظر النظر في طلب الحق قبل تلك الحالة ، وأما البشارة فلأن الرسل لما كذبوا وكذب مرسلهم صعب عليهم ، فبشروا بأن المكذبين سيرجعون عما يقولون ، ثم هو إن كان قبل النزع فذلك مقبول وإلا فعند الموت وهو غير نافع ، والضمير في
جزء : 29 رقم الصفحة : 438
{بَلَغَتِ} للنفس أو للحياة أو الروح ، وقوله : {وَأَنتُمْ حِينَـاـاِذٍ تَنظُرُونَ} تأكيد لبيان الحق أي في ذلك الوقت تصير الأمور مرئية مشاهدة ينظر إليها كل من بلغ إلى تلك الحالة ، فإن كان ما ذكرتم حقاً كان ينبغي أن يكون في ذلك الوقت ، وقد ذكرنا التحقيق في {حِينَـاـاِذٍ} في قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ} (الطور : 11) في سورة والطور واللفظ والمعنى متطابقان على ما ذكرنا لأنهم كانوا يكذبون بالرسل والحشر ، وصرح به الله في هذه السورة عنهم حيث قال : إنهم {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَاـاِذَا مِتْنَا} (الواقعة : 46 ، 47) وهذا كالتصريح بالتكذيب لأنهم ما كانوا ينكرون أن الله تعالى منزل لكنهم كانوا يجعلون أيضاً الكواكب من المنزلين ، وأما المضمر فذكره الله تعالى عند قوله : {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ} (الواقعة : 68) ثم قال : {ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (الواقعة : 69) بالواسطة وبالتفويض على ما هو مذهب المشركين أو مذهب الفلاسفة. وأيضاً التفسير المشهور محتاج إلى إضمار تقديره أتجعلون شكر رزقكم ، وأما جعل الرزق بمعنى المعاش فأقرب ، يقال : فلان رزقه في لسانه ، ورزق فلان في رجله ويده ، وأيضاً فقوله تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} متصل بما قبله لما بينا أن المراد أنكم تكذبون الرسل فلم لا تكذبونهم وقت النزع لقوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ مِنا بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّه } (العنكبوت : 63) فعلم أنهم كذبوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "كذب المنجمون ورب الكعبة" ولم يكذبوا وهذا على قراءة من يقرأ {تُكَذِّبُونَ} بالتخفيف ، وأما المدهن فعلى ما ذكرنا يبقى على الأصل ويوافقه : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم : 9) فإن المراد هناك ليس تكذب فيكذبون ، لأنهم أرادوا النفاق لا التكذيب الظاهر.
[بم / ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 438
439
وفيه مسائل :
(1/4388)

المسألة الأولى : أكثر المفسرين على أن (لولا) في المرة الثانية مكررة وهي بعينها هي التي قال تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (الواقعة : 83) ولها جواب واحد ، وتقديره على ما قاله الزمخشري : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم ، أي إن كنتم غير مدينين ، وقال بعضهم : هو كقوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (البقرة : 38) حيث جعل {فَلا خَوْفٌ} جزاء شرطين ، والظاهر خلاف ما قالوا ، وهو أن يقال : جواب لولا في قوله : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} هو ما يدل عليه ما سبق يعني تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم فلولا تكذبون وقت النزع وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأمور وتشاهدونها ، وأما لولا في المرة الثانية فجوابها : {تَرْجِعُونَهَآ} .
المسألة الثانية : في {مَدِينِينَ} أقوال منهم من قال : المراد مملوكين ، ومنهم من قال : مجزيين ، وقال الزمخشري : من دانه السلطان إذا ساسه ، ويحتمل أن يقال : المراد غير مقيمين من مدن إذا أقام ، هو حينئذ فعيل ، ومنه المدينة ، وجمعها مدائن ، من غير إظهار الياء ، ولو كانت مفعلة لكان جمعها مداين كمعايش بإثبات الياء ، ووجهه أن يقال : كان قوم ينكرون العذاب الدائم ، وقوم ينكرون العذاب ومن اعترف به كان ينكر دوامه ، ومثله قوله تعالى : {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } (البقرة : 80) قيل : إن كنتم على ما تقولون لا تبقون في العذاب الدائم فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة ، وأما على قوله : (مجزيين) فالتفسير مثل هذا كأنه قال : ستصدقون وقت النزع رسل الله في الحشر ، فإن كنتم بعد ذلك غير مجزيين فلم لا ترجعون أنفسكم إلى دنياكم ، فإن التعويق للجزاء لا غير ، ولولا الجزاء لكنتم مختارين كما كنت في دنياكم التي ليست دار الجزاء مختارين تكونون حيث تريدون من الأماكن ، وأما على قولنا : مملوكين من الملك ، ومنه المدينة للملوكة ، فالأمر أظهر بمعنى أنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد ، فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا كما كنتم في دنياكم التي ليست دار جزاء مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم ، وكل ذلك عند التحقيق راجع إلى كلام واحد ، وأنهم كانوا يأخذون بقول الفلاسفة في بعض الأشياء دون بعض ، وكانوا يقولون بالطبائع ، وأن الأمطار من السحب ، وهي متولدة بأسباب فلكية ، والنبات كذلك ، والحيوان كذلك ، ولا اختيار لله في شيء وسواء عليه إنكار الرسل والحشر ، فقال تعالى : إن كان الأمر كما يقولون فما بال الطبيعي الذي يدعى العلم لا يقدر على أن يرجع النفس من الحلقوم ، مع أن في الطبع عنده إمكاناً لذلك ، فإن عندهم البقاء بالغداء وزوال الأمراض بالدواء ، وإذا علم هذا فإن قلنا : {غَيْرَ مَدِينِينَ} معناه غير مملوكين رجع إلى قولهم من إنكار الاختيار وقلب الأمور كما يشاء الله ، وإن قلنا : غير مقيمين فكذلك ، لأن إنكار الحشر بناء على القول بالطبع ، وإن قلنا : غير / محاسبين ومجزيين فكذلك ، ثم لما بين أن الموت كائن والحشر بعده لازم ، بين ما يكون بعد الحشر ليكون ذلك باعثاً للمكلف على العمل الصالح ، وزاجراً للمتمرد عن العصيان والكذب فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 439
439
هذا وجه تعلقه معنى ، وأماتعلقه لفظاً فنقول : لما قال : {فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ} (الواقعة : 86 ، 87) وكان فيها أن رجوع الحياة والنفس إلى البدن ليس تحت قدرتهم ولا رجوع لهم بعد الموت إلى الدنيا صار كأنه قال : أنتم بعد الموت دائمون في دار الإقامة ومجزيون ، فالمجزى إن كان من المقربين فله الروح والريحان ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في معنى الروح وفيه وجوه الأول : هو الرحمة قال تعالى : {وَلا تَا يـاَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّه } (يوسف : 87) أي من رحمة الله الثاني : الراحة الثالث : الفرح ، وأصل الروح السعة ، ومنه الروح لسعة ما بين الرجلين دون الفحج ، وقرىء ، {فَرَوْحٌ} بضم الراء بمعنى الرحمة.
المسألة الثانية : في الكلام إضمار تقديره : فله روح أفصحت الفاء عنه لكونه فاء الجزاء لربط الجملة بالشرط فعلم كونها جزاء ، وكذلك إذا كان أمراً أو نهياً أو ماضياً ، لأن الجزاء إذا كان مستقبلاً يعلم كونه جزاء بالجزم الظاهر في السمع والخط ، وهذه الأشياء التي ذكرت لا تحتمل الجزم ، أما غير الأمر والنهي فظاهر ، وأما الأمر والنهي فلأن الجزم فيهما ليس لكونهما جزاءين فلا علامة للجزاء فيه ، فاختاروا الفاء فإنها لترتيب أمر على أمر ، والجزاء مرتب على الشرط.
(1/4389)

المسألة الثالثة : في الريحان ، وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى : {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} (الرحمن : 12) ولكن ههنا فيه كلام ، فمنهم من قال : المراد ههنا ما هو المراد ثمة ، إما الورق وإما الزهر وإما النبات المعروف ، وعلى هذا فقد قيل : إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه ، وقيل : إن المراد ههنا غير ذلك وهو الخلود ، وقيل : هو رضاء الله تعالى عنهم فإذا قلنا : الروح هو الرحمة فالآية كقوله تعالى : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة : 21) وأما : {جَنَّةَ نَعِيمٍ} فقد تقدم القول فيها عند تفسير السابقين في قوله : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة : 11 ، 12) وذكرنا فائدة التعريف هناك وفائدة التنكير ههنا.
جزء : 29 رقم الصفحة : 439
المسألة الرابعة : ذكر في حق المقربين أموراً ثلاثة ههنا وفي قوله تعالى : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} (التوبة : 21) وذلك لأنهم أتوا بأمور ثلاثة وهي : عقيدة حقة وكلمة طيبة وأعمال حسنة ، فالقلب واللسان والجوارح كلها كانت مرتبة برحمة الله على عقيدته ، وكل من له عقيدة حقة يرحمه الله ويرزقه الله دائماً وعلى الكلمة الطيبة وهي كلمة الشهادة ، وكل من قال : لا إله إلا الله فله رزق كريم والجنة له على أعماله الصالحة ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة : 111) وقال : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } (النازعات : 40 ، 41) فإن قيل : فعلى هذا من أتى بالعقيدة / الحقة ، ولم يأت بالكلمة الطيبة ينبغي أن يكون من أهل الرحمة ولا يرحم الله إلا من قال : لا إله إلا الله ، نقول : من كانت عقيدته حقة ، لا بد وأن يأتي بالقول الطيب فإن لم يسمع لا يحكم به ، لأن العقيدة لا اطلاع لنا عليها فالقول دليل لنا ، وأما الله تعالى فهو عالم الأسرار ، ولهذا ورد في الأخبار أن من الناس من يدفن في مقابر الكفار ويحشر مع المؤمنين/ ومنهم من يدفن في مقابر المسلمين ويحشر مع الكفار لا يقال : إن من لا يعمل الأعمال الصالحة لا تكون له الجنة على ما ذكرت ، لأنا نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن عقيدته الحقة وكلمته الطيبة لا يتركانه بلا عمل ، فهذا أمر غير واقع وفرض غير جائز وثانيهما : أنا نقول من حيث الجزاء ، وأما من قال : لا إله إلا الله فيدخل الجنة ، وإن لم يعمل عملاً لا على وجه الجزاء بل بمحض فضل الله من غير جزاء ، وإن كان الجزاء أيضاً من الفضل لكن من الفضل ما يكون كالصدقة المبتدأة ، ومن الفضل مالا كما يعطي الملك الكريم آخر والمهدي إليه غيرملك لا يستحق هديته ولا رزقه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 439
441
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في السلام وفيه وجوه أولها : يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين ، كما قال تعالى من قبل : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا} (الواقعة : 25 ، 26) ، ثانيها : {فَسَلَـامٌ لَّكَ} أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه فإنه في أعلى المراتب ، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه ، إذا كان يخدم عند كريم ، يقول له : كن فارغاً من جانب ولدك فإنه في راحة. ثالثها : أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم كما يقال : فلان ناهيك به ، وحسبك أنه فلان ، إشارة إلى أنه ممدوح فوق الفضل.
المسألة الثانية : الخطاب بقوله : {لَّكَ} مع من ؟
نقول : قد ظهر بعض ذلك فنقول : يحتمل أن يكون المراد من الكلام النبي صلى الله عليه وسلّم ، وحينئذ فيه وجه وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلّم فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها ، فسلام لك يا محمد منهم فإنهم في سلامة وعافية لا يهمك أمرهم ، أو فسلام لك يا محمد منهم ، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلّم دليل العظمة ، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم ، وعلى هذا ففيه لطيفة : وهي أن النبي صلى الله عليه وسلّم مكانته فوق مكانة أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين ، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين ، فلما قال : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ} كان فيه إشارة إلى أن مكانهم غير مكان الأولين المقربين ، فقال تعالى : هؤلاء وإن كانوا دون الأولين لكن لا تنفع بينهم المكانة والتسليم ، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك والغائب إلى أهله وولده ، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك وإن كنت أعلى مرتبة منهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 441
441
وفيه مسألتان :
(1/4390)

المسألة الأولى : قال ههنا : {مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ} وقال من قبل : {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك.
المسألة الثانية : ذكر الأزواج الثلاثة في أول السورة بعبارة وأعادهم بعبارة أخرى فقال : {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (الواقعة : 8) ثم قال : {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} (الواقعة : 27) وقال : {وَأَصْحَابُ الْمَشْاَمَةِ} (الواقعة : 9) ثم قال : {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} (الواقعة : 41) وأعادهم ههنا ، وفي المواضع الثلاثة ذكر أصحاب اليمين بلفظ واحد أو بلفظين مرتين ، أحدهما غير الآخر ، وذكر السابقين في أول السورة بلفظ السابقين ، وفي آخر السورة بلفظ المقربين ، وذكر أصحاب النار في الأول بلفظ {وَأَصْحَابُ الْمَشْاَمَةِ} ثم بلفظ {الشِّمَالِ مَآ} ثم بلفظ {الْمُكَذِّبِينَ} فما الحكمة فيه ؟
نقول : أما السابق فله حالتان إحداهما في الأولى ، والأخرى في الآخرة ، فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى ، وفي الثانية بماله في الحالة الآخرة ، وليس له حالة هي واسطة بين الوقوف للعرض وبين الحساب ، بل هو ينقل من الدنيا إلى أعلى عليين ، ثم ذكر أصحاب اليمين بلفظين متقاربين ، لأن حالهم قريبة من حال السابقين ، وذكر الكفار بألفاظ ثلاثة كأنهم في الدنيا ضحكوا عليهم بأنهم أصحاب موضع شؤم ، فوصفوهم بموضع الشؤم ، فإن المشأمة مفعلة وهي الموضع ، ثم قال : {الشِّمَالِ مَآ} فإنهم في الآخرة يؤتون كتابهم بشمالهم ، ويقفون في موضع هو شمال ، لأجل كونهم من أهل النار ، ثم إنه تعالى لما ذكر حالهم في أول الحشر بكونهم من أصحاب الشمال ذكر ما يكون لهم من السموم والحميم ، ثم لم يقتصر عليه ، ثم ذكر السبب فيه ، فقال : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ} (الواقعة : 45 ، 46) فذكر سبب العقاب لما بينا مراراً أن العادل يذكر للعقاب سبباً ، والمتفضل لا يذكر للإنعام والتفضل سبباً ، فذكرهم في الآخرة ما عملوه في الدنيا ، فقال : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} ليكون ترتيب العقاب على تكذيب الكتاب فظهر العدل ، وغير ذلك ظاهر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 441
443
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : {هَاذَا} إشارة إلى ماذا ؟
نقول : فيه وجوه أحدها : القرآن ثانيها : ما ذكره في السورة ثالثها : جزاء الأزواج الثلاثة.

المسألة الثانية : كيف أضاف الحق إلى اليقين مع أنهما بمعنى واحد ؟
نقول : فيه وجوه / أحدها : هذه الإضافة ، كما أضاف الجانب إلى الغربي في قوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} (القصص : 44) وأضاف الدار إلى الآخرة في قوله : {وَلَدَارُ الاخِرَةِ} (الأنعام : 32) غير أن المقدر هنا غير ظاهر ، فإن شرط ذلك أن يكون بحيث يوصف باليقين ، ويضاف إليه الحق ، وما يوصف باليقين بعد إضافة الحق إليه وثانيها : أنه من الإضافة التي بمعنى من ، كما يقال : باب من ساج ، وباب ساج ، وخاتم من فضة ، وخاتم فضة ، فكأنه قال : لهو الحق من اليقين ثالثها : وهو أقرب منها ما ذكره ابن عطية أن ذلك نوع تأكيد يقال : هذا من حق الحق ، وصواب الصواب ، أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه ، والذي وقع في تقرير هذا أن الإنسان أظهر ما عنده الأنوار المدركة بالحس ، وتلك الأنوار أكثرها مشوبة بغيرها ، فإذا وصل الطالب إلى أوله يقول : وجدت أمر كذا ، ثم إنه مع صحة إطلاق اللفظ عليه لا يتميز عن غيره ، فيتوسط الطالب ويأخذ مطلوبه من وسطه ، مثاله من يطلب الماء ، ثم يصل إلى بركة عظيمة ، فإذا أخذ من طرفه شيئاً يقول : هو ماء ، وربما يقول قائل آخر : هذا ليس بماء ، وإنما هو طين ، وأما الماء ما أخذته من وسط البركة ، فالذي في طرف البركة ماء بالنسبة إلى أجسام أخرى ، ثم إذا نسب إلى الماء الصافي ربما يقال له شيء آخر ، فإذا قال : هذا هو الماء حقاً قد أكد ، وله أن يقول : حق الماء ، أي الماء حقاً هذا بحيث لا يقول أحد فيه شيء ، فكذلك ههنا كأنه قال : هذا هو اليقين حقاً لا اليقين الذي يقول بعض إنه ليس بيقين ، ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يقال : الإضافة على حقيقتها ، ومعناه أن هذا القول لك يا محمد وللمؤمنين ، وحق اليقين أن تقول كذا ، ويقرب من هذا ما يقال : حق الكمال أن يصلي المؤمن ، وهذا كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلّم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" أن الضمير راجع إلى الكلمة أي إلا بحق الكلمة ، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة ، فكذلك حق اليقين أن يعرف ما قاله الله تعالى في الواقعة في حق الأزواج الثلاثة ، وعلى هذا معناه : أن اليقين لا يحق ولا يكون إلا إذا صدق فيما قاله بحق ، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه ، وأما قوله : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} فقد تقدم تفسيره ، وقلنا إنه تعالى لما بين الحق وامتنع الكفار ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم هذا هو حق ، فإن امتنعوا فلا تتركهم ولا تعرض عنهم وسبح ربك في نفسك ، وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك ، ويحتمل أن يكون المراد فسبح واذكر ربك باسمه الأعظم ، وهذا متصل بما بعده لأنه قال في السورة التي تلي هذه : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ} (الحديد : 1) فكأنه قال : سبح الله ما في السموات ، فعليك أن توافقهم ولا تلتفت إلى الشرذمة القليلة الضالة ، فإن كل شيء معك يسبح الله عز وجل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 443
444
(1/4391)

سورة الحديد
وهي تسع وعشرون آية مكية
جزء : 29 رقم الصفحة : 444
448
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التسبيح تبعيد الله تعالى من السوء ، وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد.
واعلم أن التسبيح عن السوء يدخل فيه تبعيد الذات عن السوء ، وتبعيد الصفات وتبعيد الأفعال ، وتبعيد الأسماء وتبعيد الأحكام ، أما في الذات : فأن لا تكون محلاً للإمكان ، فإن السوء هو العدم وإمكانه ، ثم نفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ، ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ، ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة. وأما في الصفات : فأن يكون منزهاً عن الجهل بأن يكون محيطاً بكل المعلومات ، ويكون قادراً على كل المقدورات ، وتكون صفاته منزهة عن التغيرات. وأما في الأفعال : فأن تكون فاعليته موقوفة على مادة ومثال ، لأن كل مادة ومثال فهو فعله ، لما بينا أن كل ما عداه فهو ممكن ، وكل ممكن فهو فعله ، فلو افتقرت فاعليته إلى مادة ومثال ، لزم التسلسل ، وغير موقوفة على زمان ومكان ، لأن كل زمان فهو مركب من أجزاء منقضية ، فيكون ممكناً ، كل مكان فهو يعد ممكن مركب من أفراد الأحياز ، فيكون كل واحد منهما ممكناً ومحدثاً ، فلو افتقرت فاعليته إلى زمان وإلى مكان ، لافتقرت فاعلية الزمان والمكان إلى زمان ومكان ، فيلزم التسلسل ، وغير موقوفة على جلب منفعة ، ولا دفع مضرة ، وإلا لكان مستكملاً بغيره ناقصاً في ذاته ، وذلك محال. وأما في الأسماء : فكما قال : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 18). وأما في الأحكام : فهو أن كل ما شرعه فهو مصلحة وإحسان وخير ، وأن كونه فضلاً وخيراً ليس على سبيل الوجوب عليه ، بل على سبيل الإحسان ، وبالجملة يجب أن يعلم من هذا الباب أن حكمه وتكليفه لازم لكل أحد ، وأنه ليس لأحد عليه حكم ولا تكليف ولا يجب لأحد عليه شيء أصلاً ، فهذا هو ضبط معاقد التسبيح.
(1/4392)

/ المسألة الثانية : جاء في بعض الفواتح {سَبَّحَ} على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت ، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي ، وتكون مسبحة أبداً في المستقبل ، وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها ، فيستحيل انفكاك تلك الماهيات عن ذلك التسبيح ، وإنما قلنا : إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها ، لأن كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممن فهو مفتقر إلى الواجب ، وكون الواجب واجباً يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه ، فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي ، وتكون حاصلة في المستقبل ، والله أعلم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 448
المسألة الثالثة : هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة ، وأخرى بنفسه كما في قوله : {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} وأصله التعدي بنفسه ، لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد يسبح لله أحدث التسبيح لأجل الله وخالصاً لوجهه.
المسألة الرابعة : زعم الزجاج أن المراد بهذا التسبيح ، التسبيح الذي هو القول ، واحتج عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الإسراء : 44) فلو كان المراد من التسبيح ، هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه الثاني : أنه تعالى قال : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (الأنبياء : 79) فلو كان تسبيحاً عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص لداود عليه السلام. واعلم أن هذا الكلام ضعيف (لحجتين) :
أما الأولى : فلأن دلالة هذه الأجسام على تنزيه ذات الله وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه ، ولذالك فإن العقلاء اختلفوا فيها ، فقوله : {وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ} لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة ، وأيضاً فقوله : {لا تَفْقَهُونَ} إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين ، فهو خطاب مع الكل فكأنه قال : كل هؤلاء ما فقهوا ذلك ، وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 448
وأما الحجة الثانية : فضعيفة ، لأن هناك من المحتمل أن الله خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح. أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح ، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالماً حياً ، وذلك كفر ، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى ، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه ، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات ، فإذاً التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسراً بأحد وجهين الأول : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع ، إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إن حملنا / التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول ، كان المراد بقوله : {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ} من في السموات ومنهم حملة العرش : {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ} (فصلت : 38) ومنهم المقربون : {قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } (سبأ : 41) ومن سائر الملائكة : {قَالُوا سُبْحَـانَكَ مَا كَانَ يَنابَغِى لَنَآ} (الفرقان : 18) وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال ذو النون : {لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ} (الأنبياء : 87) وقال موسى : {سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأعراف : 143) والصحابة يسبحون كما قال : {سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران : 191) وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي : فأجزاء السموات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه } (الإسراء : 44) وهذا التسبيح هو المراد بالسجود في قوله : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} (النحل : 49) أما قوله : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالمعنى أنه القادر الذي لا ينازعه شيء ، فهو إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى أنه العالم الذي لا يحتجب عن علمه شيء من الجزئيات والكليات أو أنه الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب ، ولما كان العلم بكونه قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً لا جرم قدم العزيز على الحكيم في الذكر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 448
(1/4393)

واعلم أن قوله : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يدل على أن العزيز ليس إلا هو لأن هذه الصيغة تفيد الحصر ، يقال : زيد هو العالم لا غيره ، فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد ، لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم ومالا يكون كذلك لا يكون إلهاً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 448
449
واعلم أن الملك الحق هو الذي يستغني في ذاته ، وفي جميع صفاته عن كل ما عداه ، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم ، والموصوف بهذين الأمرين ليس إلا هو سبحانه. أما أنه مستغن في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه فلأنه لو افتقر في ذاته إلى الغير لكان ممكناً لذاته فكان محدثاً ، فلم يكن واجب الوجود ، وأما أنه مستغن في جميع صفاته السلبية والإضافية عن كل ما عداه ، فلأن كل ما يفرض صفة له ، فإما أن تكون هويته سبحانه كافية في تحقق تلك الصفة سواء كانت الصفة سلباً أو إيجاباً أو لا تكون كافية في ذلك ، فإن كانت هويته كافية في ذلك من دوام تلك الهوية دوام تلك الصفة سلباً كانت الصفة أو إيجاباً ، وإن لم تكن تلك لزم الهوية كافية ، فحينئذ تكون تلك الهوية ممتنعة الانفكاك عن ثبوت تلك الصفة وعن سلبها ، ثم ثبوت تلك الصفة وسلبها ، يكون متوقفاً على ثبوت أمر آخر وسلبه ، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء ، فهويته سبحانه تكون موقوفة التحقق على تحقق علة / ثبوت تلك الصفة أو علة سلبها ، والموقوف على الغير ممكن لذاته فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وهذا خلف ، فثبت أنه سبحانه غير مفتقر لا في ذاته ، ولا في شيء من صفاته السلبية ولا الثبوتية إلى غيره ، وأما أن كل ما عداه مفتقر إليه فلأن كل ما عداه ممكن ، لأن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد والممكن لا بد له من مؤثر ، ولا واجب إلا هذا الواحد فإذن كل ما عداه فهو مفتقر إليه سواء كان جوهراً أو عرضاً ، وسواء كان الجوهر روحانياً أو جسمانياً ، وذهب جمع من العقلاء إلى أن تأثير واجب الوجود في إعطاء الوجود لا في الماهيات فواجب الوجود يجعل السواد موجوداً ، أما أنه يستحيل أن يجعل السواد سواداً ، قالوا : لأنه لو كان كون السواد سواداً بالفاعل ، لكان يلزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يبقى السواد سواداً وهذا محال ، فيقال لهم يلزمكم على هذا التقدير أن لا يكون الوجود أيضاً بالفاعل ، وإلا لزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يكون الوجود وجوداً ، فإن قالوا : تأثير الفاعل ليس في الوجود بل في جعل الماهية موصوفة بالوجود ، قلنا : هذا مدفوع من وجهين الأول : أن موصوفية الماهية بالوجود ليس أمراً ثبوتياً ، إذ لو كان أمراً ثبوتياً لكانت له ماهية ووجود ، فحينئذ تكون موصوفية تلك الماهية بالوجود زائدة عليه ولزم التسلسل وهو محال ، وإذا كان موصوفية الماهية بالوجوه ليس أمراً ثبوتياً ، استحال أن يقال : لا تأثير للفاعل في الماهية ولا في الوجود بل تأثيره في موصوفية الماهية بالوجود الثاني : أن بتقدير أن تكون تلك الموصوفية أمراً ثبوتياً ، استحال أيضاً جعلها أثراً للفاعل ، وإلا لزم عند فرض عدم ذلك الفاعل أن تبقى الموصوفية موصوفية ، فظهر أن الشبهة التي ذكروها لو تمت واستقرت يلزم نفي التأثير والمؤثر أصلاً ، بل كما أن الماهيات إنما صارت موجودة بتأثير واجب الوجود ، فكذا أيضاً الماهيات إنما صارت ماهيات بتأثير واجب الوجود ، وإذا لاحت هذه الحقائق ظهر بالبرهان العقلي صدق قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
{لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } بل ملك السموات والأرض بالنسبة إلى كمال ملكه أقل من الذرة ، بل لا نسبة له إلى كمال ملكه أصلاً ، لأن ملك السموات والأرض ملك متناه ، وكمال ملكه غير متناه ، والمتناهي لا نسبة له ألبتة إلى غير المتناهي ، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات والأرض لأنه شيء مشاهد محسوس ، وأكثر الخلق عقولهم ضعيفة قلما يمكنهم الترقي من المحسوس إلى المعقول.
ثم إنه سبحانه لما ذكر من دلائل الآفاق ملك السموات والأرض ذكر بعده دلائل الأنفس فقال : {لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا يُحْىِا وَيُمِيتُا وَهُوَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكر المفسرون فيه وجهين أحدهما : يحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا والثاني : قال الزجاج : يحيي النطف فيجعلها أشخاصاً عقلاء فاهمين ناطقين ، ويميت / وعندي فيه وجه ثالث وهو أنه ليس المراد من تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين وبأشخاص معينين ، بل معناه أنه هو القادر على خلق الحياة والموت ، كما قال في سورة الملك : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) والمقصود منه كونه سبحانه هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق ، لا يمنعه عنهما مانع ولا يرده عنهما راد ، وحينئذ يدخل فيه الوجهان اللذان ذكرهما المفسرون.
(1/4394)

المسألة الثانية : موضع {لا إِلَـاهَ} رفع على معنى هو يحيي ويميت ، ويجوز أن يكون نصباً على معنى : له ملك السموات والأرض حال كونه محيياً ومميتاً. واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الآفاق أولاً : ودلائل الأنفس ثانياً : ذكر لفظاً يتناول الكل فقال : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وفوائد هذه الآية مذكورة في أول سورة الملك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
449
وفيه مسائل :
(1/4395)

المسألة الأولى : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال في تفسير هذه الآية : "إنه الأول ليس قبله شيء والآخر ليس بعده شيء" وأعلم أن هذا المقام مقام مهيب غامض عميق والبحث فيه من وجوه : الأول : أن تقدم الشيء على الشيء يعقل على وجوه أحدها : التقدم بالتأثير فإنا نعقل أن لحركة الأصبع تقدماً على حركة الخاتم ، والمراد من هذا التقدم كون المتقدم مؤثراً في المتأخر وثانيها : التقدم بالحاجة لا بالتأثير ، لأنا نعقل احتياج الاثنين إلى الواحد وإن كنا نعلم أن الواحد ليس علة للاثنين وثالثها : التقدم بالشرف كتقدم أبي بكر على عمر ورابعها : التقدم بالرتبة ، وهو إما من مبدأ محسوس كتقدم الإمام على المأموم ، أو من مبدأ معقول ، وذلك كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، فإنه كلما كان النوع أشد تسفلاً كان أشد تأخراً ، ولو قلبناه انقلب الأمر وخامسها : التقدم بالزمان ، وهو أن الموجود في الزمان المتقدم ، متقدم على الموجود في الزمان المتأخر ، فهذا ما حصله أرباب العقول من أقسام القبلية والتقدم وعندي أن ههنا قسماً سادساً ، وهو مثل تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض ، فإن ذلك التقدم ليس تقدماً بالزمان ، وإلا وجب أن يكون الزمان محيطاً بزمان آخر ، ثم الكلام في ذلك المحيط كالكلام في المحاط به ، فيلزم أن يحيط بكل زمان زمان آخر لا نهاية بحيث تكون كلها حاضرة في هذا الآن ، فلا يكون هذا الآن الحاضر واحداً ، بل يكون كل حاضر في حاضر آخر لا إلى نهاية وذلك غير معقول ، وأيضاً فلأن مجموع تلك الآنات الحاضرة متأخر عن مجموع الآنات الماضية ، فلمجموع الأزمنة زمان آخر محيط بها لكن ذلك محال ، لأنه لما كان زماناً كان داخلاً في مجموع الأزمنة ، فإذاً ذلك لزمان داخل في ذلك المجموع وخارج عنه وهو محال ، فظهر بهذا البرهان الظاهر أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض ليس بالزمان ، وظاهر أنه ليس بالعلة ولا بالحاجة ، وإلا لوجدا معاً ، كما أن العلة والعلول / يوجدان معاً ، والواحد والإثنين يوجدان معاً ، وليس أيضاً بالشرف ولا بالمكان ، فثبت أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض قسم سادس غير الأقسام الخمسة المذكورة ، وإذا عرفت هذا فنقول : إن القرآن دل على أنه تعالى أول لكل ما عداه ، والبرهان دل أيضاً على هذا المعنى ، لأنا نقول : كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن محدث ، فكل ما عدا الواجب فهو محدث ، وذلك الواجب أول لكل ما عداه ، إنما قلنا : أن ما عدا الواجب ممكن ، لأنه لو وجد شيئآن واجبان لذاتهما لاشتركا في الواجب الذاتي ، ولتباينا بالتعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فيكون كل واحد منهما مركباً ، ثم كل واحد من جزأيه إن كان واجباً فقد اشترك الجزآن في الوجوب وتباينا بالخصوصية ، فيكون كل واحد من ذينك الجزأين أيضاً مركباً ولزم التسلسل ، وإن لم يكونا واجبين أو لم يكن أحدهما واجباً ، كان الكل المتقوم به أولى بأن لا يكون واجباً ، فثبت أن كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن محدث ، لأن كل ممكن مفتقر إلى المؤثر ، وذلك الافتقار إما حال الوجود أو حال العدم ، فإذاً كان حال الوجود ، فإما حال البقاء وهو محال لأنه يقتضي إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال ، فإن تلك الحاجة إما حال الحدوث أو حال العدم ، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون كل ممكن محدثاً ، فثبت أن كل ما عدا ذلك الواجب فهو محدث محتاج إلى ذلك الواجب ، فإذاً ذلك الواجب يكون قبل كل ما عداه ، ثم طلب العقل كيفية تلك القبلية فقلنا : لا يجوز أن تكون تلك القبلية بالتأثير ، لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثر والمضافان معاً ، والمع لا يكون قبل ، ولا يجوز أن تكون لمجرد الحاجة لأن المحتاج والمحتاج إليه لا يمتنع أن يوجدا معاً ، وقد بينا أن تلك المعية ههنا ممتنعة ، ولا يجوز أن تكون لمحض الشرف فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية ههنا مجرد أنه تعالى أشرف من الممكنات ، وأما القبلية المكانية فباطلة ، وبتقدير ثبوتها فتقدم المحدث على المحدث أمر زائد آخر وراء كون أحدهما فوق الآخر بالجهة ، وأما التقدم الزماني فباطل ، لأن الزمان أيضاً ممكن ومحدث ، أما أولاً فلما بينا أن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد ، وأما ثانياً فلأن أمارة الإمكان والحدوث فيه أظهر كما في غيره لأن جميع أجزائه متعاقبة ، وكل ما وجد بعد العدم وعدم بعد الوجود فلا شك أنه ممكن المحدث ، وإذا كان جميع أجزاء الزمان ممكناً ومحدثاً والكل متقوم بالأجزاء فالمفتقر إلى الممكن المحدث أولى بالإمكان والحدوث ، فإذن الزمان بمجموعه وبأجزائه ممكن ومحدث ، فتقدم موجده عليه لا يكون بالزمان ، لأن المتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان ، وإلا فيلزم في ذلك الزمان أن يكون داخلاً في مجموع الأزمنة لأنه زمان ، وأن يكون خارجاً عنها لأنه ظرفها ، والظرف مغاير للمظروف لا محال ، لكن كون الشيء الواحد داخلاً في شيء وخارجاً عنه محال ، وأما ثالثاً فلأن الزمان ماهيته تقتضي السيلان والتجدد ، وذلك يقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافي
(1/4396)

المسبوقية بالغير ، فالجمع بينهما محال ، فثبت أن تقدم الصانع على كل ما عداه ليس بالزمان ألبتة ، فإذن الذي عند العقل أنه متقدم على كل ما عداه ، أنه ليس ذلك التقدم على أحد هذه الوجوه / الخمسة ، فبقي أنه نوع آخر من التقدم يغاير هذه الأقسام الخمسة ، فأما كيفية ذلك التقدم فليس عند العقل منها خبر ، لأن كل ما يخطر ببال العقل فإنه لا بد وأن يقترن به حال من الزمان ، وقد دل الدليل على أن كل ذلك محال ، فإذن كونه تعالى أولاً معلوم على سبيل الإجمال ، فأما على سبيل التفصيل والإحاطة بحقيقة تلك الأولية ، فليس عند عقول الخلق منه أثر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
النوع الثاني : من هذا غوامض الموضع ، وهو أن الأزل متقدم على اللا يزال ، وليس الأزل شيئاً سوى الحق ، فتقدم الأزل على اللا يزال ، يتسدعي الامتياز بين الأزل وبين اللا يزال ، فهذا يقتضي أن يكون اللا يزال له مبدأ وطرف ، حتى يحصل هذا الامتياز ، لكن فرض هذا الطرف محال ، لأن كل مبدأ فرضته ، فإن اللايزال ، كان حاصلاً قبله ، لأن المبدأ الذي يفرض قبل ذلك الطرف المفروض بزيادة مائة سنة ، يكون من جملة اللايزال ، لا من جملة الأزل ، فقد كان معنى اللايزال موجوداً قبل أن كان موجوداً وذلك محال.
النوع الثالث : من غوامض هذا الموضوع ، أن امتياز الأزل عن اللا يزال ، يستدعي انقضاء حقيقة الأزل ، وانقضاء حقيقة الأزل محال ، لأن مالا أول له يمتنع انقضاؤه ، وإذا امتنع انقضاؤه امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللا يزال ، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللا يزال ، وامتياز اللا يزال عن الأزال ، وإذا امتنع حصول هذا الإمتياز امتنع حصول التقدم والتأخر ، فهذه أبحاث غامضة في حقيقة التقدم والأولية والأزلية ، وما هي إلا بسبب حيرة العقول البشرية في نور جلال ماهية الأزلية والأولية ، فإن العقل إنما يعرف الشيء إذا أحاط به ، وكل ما استحضره العقل ، ووقف عليه فذاك يصير محاطاً به ، والمحاط يكون متناهياً ، والأزلية تكون خارجة عنه ، فهو سبحانه ظاهر باطن في كونه أولاً ، لأن العقول شاهدة بإسناد المحدثات إلى موجد متقدم عليها فكونه تعالى أولاً أظهر من كل ظاهر من هذه الجهة ، ثم إذا أردت أن تعرف حقيقة تلك الأولية عجزت لأن كل ما أحاط به عقلك وعلمك فهو محدود عقلك ومحاط علمك فيكون متناهياً/ فتكون الأولية خارجة عنا ، فكونه تعالى أولاً إذا اعتبرته من هذه الجهة كان إبطن من كل باطن ، فهذا هو البحث عن كونه تعالى أولاً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
(1/4397)

أما البحث عن كونه آخراً ، فمن الناس من قال : هذا محال ، لأنه تعالى إنما يكون آخر الكل ما عداه ، لو بقي هو مع عدم كل ما عداه لكن عدم ما عداه إنما يكون بعد وجوده ، وتلك البعدية ، زمانية ، فإذن لا يمكن فرض عدم كل عداه إلا مع وجود الزمان الذي به تتحقق تلك البعدية ، فإذن حال ما فرض عدم كل ما عداه ، أن لا يعدم كل ما عداه ، فهذا خلف ، فإذن فرض بقائه مع عدم كل ما عداه محال ، وهذه الشبهة مبنية أيضاً على أن التقدم والتأخر لا يتقرران إلا بالزمان ، وقد دللنا على فساد هذه المقدمة فبطلت هذه الشبهة ، وأما الذين سلموا إمكان عدم كل ما عداه مع بقائه ، فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه تعالى آخراً للكل ، وهذا مذهب جهم ، فإنه زعم أنه / سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، ويوصل العقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها ، والنار وأهلها ، والعرش والكرسي والملك والفلك ، ولا يبقى مع الله شيء أصلاً ، فكما أنه كان موجوداً في الأزل ولا شيء يبقى موجوداً في اللا يزال أبد الآباد ولا شيء ، واحتج عليه بوجوه أولها : قوله هو الآخر ، يكون آخراً إلا عند فناء الكل وثانيها : أنه تعالى إما أن يكون عالماً بعدد حركات أهل الجنة والنار ، أو لا يكون عالماً بها ، فإن كان عالماً بها كان عالماً بكميتها ، وكل ماله عدد معين فهو متناه ، فإذن حركات أهل الجنة متناهية ، فإذن لا بد وأن يحصل بعدها عدم أبدي غير منقض وإذا لم يكن عالماً بها كان جاهلاً بها والجهل على الله محال وثالثها : أن الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك فهو متناه والجواب : أن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه هو أن هذه الماهيات لو زالت إمكاناتها ، لزم أن ينقلب الممكن لذاته ممتنعاً لذاته ، ولو انقلبت قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير ، لانقلبت الماهيات وذلك محال ، فوجب أن يبقى هذا الإمكان أبداً ، فإذن ثبت أنه يجب انتهاء هذه المحدثات إلى العدم الصرف ، أما التمسك بالآية فسنذكر الجواب عنه بعد ذلك إن شاء الله تعالى وأما الشبهة الثانية : فجوابها أنه يعلم أنه ليس لها عدد معين ، وهذا لا يكون جهلاً ، إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه ، أما إذا لم يكن له عدد معين وأنت تعلمه على الوجه فهذا لا يكون جهلاً بل علماً وأما الشبهة الثالثة : فجوابها أن الخارج منه إلى الوجود أبداً لا يكون متناهياً ، ثم إن المتكلمين لما أثبتوا إمكان بقاء العالم أبداً عولوا في بقاء الجنة والنار أبداً ، على إجماع المسلمين وظواهر الآيات ، ولا يخفى تقريرها ، وأما جمهور المسلمين الذين سلموا بقاء الجنة والنار أبداً ، فقد اختلفوا في معنى كونه تعالى آخراً على وجوه أحدها : أنه تعالى يفني جميع العالم والممكنات فيتحقق كونه آخراً ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبداً وثانيها : أن الموجود الذي يصح في العقل أن يكون آخراً لكل الأشياء ليس إلا هو ، فلما كانت صحة آخرية كل الأشياء مختصة به سبحانه ، لا جرم وصف بكونه آخراً وثالثها : أن الوجود منه تعالى يبتدىء ، ولا يزال ينزل وينزل حتى ينتهي إلى الموجود الأخير ، الذي كون هو مسبباً لكل ما عداه ، ولا يكون سبباً لشيء آخر ، فبهذا الاعتبار يكون الحق سبحانه أولاً ، ثم إذا انتهى أخذ يترقى من هذا الموجود الأخير درجة فدرجة حتى ينتهي إلى آخر الترقي ، فهناك وجود الحق سبحانه ، فهو سبحانه أول في نزول الوجود منه إلى الممكنات ، آخر عند الصعود من الممكنات إليه ورابعها : أنه يميت الخلق ويبقى بعدهم ، فهو سبحانه آخر بهذا الاعتبار وخامسها : أنه أول في الوجود وآخر في الاستدلال ، لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة الصانع ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد منها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة ، أما كونه تعالى ظاهراً وباطناً ، فاعلم أنه ظاهر بحسب الوجود ، فإنك لا ترى شيئاً من الكائنات والممكنات إلا ويكون دليلاً / على وجوده وثبوته وحقيقته وبراءته عن جهات التغير على ما قررناه ، وأما كونه تعالى باطناً فمن وجوه الأول : أن كمال كونه ظاهراً سبب لكونه باطناً ، فإن هذه الشمس لو دامت على الفلك لما كنا نعرف أن هذا الضوء إنما حصل بسببها ، بل ربما كنا نظن أن الأشياء مضيئة لذواتها إلا أنها لما كانت بحيث تغرب ثم ترى أنها متى غربت أبطلت الأنوار وزالت الأضواء عن هذا العالم ، علمنا حينئذ أن هذه الأضواء من الشمس ، فههنا لو أمكن انقطاع وجود الله عن هذه الممكنات لظهر حينئذ أن وجود هذه الممكنات من وجود الله تعالى ، لكنه لما دام ذلك الجود ولم ينقطع صار دوامه وكماله سبباً لوقوع الشبهة ، حتى إنه ربما يظن أن نور الوجود ليس منه بل وجود كل شيء له من ذاته ، فظهر أن هذا الاستتار إنما وقع من كمال وجوده ، ومن دوام جوده ، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره ، واحتجب عنها بكمال نوره.
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
(1/4398)

الوجه الثاني : أن ماهيته غير معقولة للبشر ألبتة ، ويدل عليه أن الإنسان لا يتصور ماهية الشيء إلا إذا أدركه من نفسه على سبيل الوجدان كالألم واللذة وغيرهما أو أدركه بحسه كالألوان والطعوم وسائر المحسوسات ، فأما مالا يكون كذلك فيتعذر على الإنسان أن يتصور ماهيته ألبتة ، وهويته المخصوصة جل جلاله ليست كذلك فلا تكون معقولة للبشر ، ويدل عليه أيضاً أن المعلوم منه عند الخلق ، إما الوجود وإما السلوب ، وهو أنه ليس بجسم ولا جوهر ، وإما الإضافة ، وهو أنه الأمر الذي من شأنه كذا وكذا ، والحقيقة المخصوصة مغايرة لهذه الأمور فهي غير معقولة ويدل عليه أن أظهر الأشياء منه عند العقل كونه خالقاً لهذه المخلوقات ، ومتقدماً عليها ، وقد عرفت حيرة العقل ودهشته في معرفة هذه الأولية ، فقد ظهر بما قدمناه أنه سبحانه هو الأول وهو الآخر ، وهو الظاهر وهو الباطن ، وسمعت والدي رحمه الله يقول : إنه كان يروى أنه لما نزلت هذه الآية أقبل المشركون نحو البيت وسجدوا.
المسألة الثانية : احتج كثير من العلماء في إثبات أن الإله واحد بقوله : {هُوَ الاوَّلُ} قالوا الأول هو الفرد السابق ، ولهذا المعنى لو قال : أول مملوك اشتريته فهو حر ، ثم اشترى عبدين لم يعتقا ، لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية ، وههنا لم تحصل ، فلو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق ، لأن شرط الأولية كونه سابقاً وههنا لم يحصل ، فثبت أن الشرط في كونه أولاً أن يكون فرداً ، فكانت الآية دالة على أن صانع العالم فرد.
المسألة الثالثة : أكثر المفسرين قالوا : إنه أول لأنه قبل كل شيء ، وإنه آخر لأنه بعد كل شيء ، وإنه ظاهر بحسب الدلائل ، وإنه باطن عن الحواس محتجب عن الأبصار ، وأن جماعة لما عجزوا عن جواب جهم قالوا : معنى هذه الألفاظ مثل قول القائل : فلان هو أول هذا الأمر وآخره وظاهره وباطنه ، أي عليه يدور ، وبه يتم.
واعلم أنه لما أمكن حمل الآية على الوجوه التي ذكرناها مع أنه يسقط بها استدلال جهم / لم يكن بنا إلى حمل الآية على هذا المجاز حاجة ، وذكروا في الظاهر والباطن أن الظاهر هو الغالب العالي على كل شيء ، ومنه قوله تعالى : {فَأَصْبَحُوا ظَـاهِرِينَ} (الصف : 14) أي غالبين عالين ، من قولك : ظهرت على فلان أي علوته ، ومنه قوله تعالى : {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف : 33) وهذا معنى ما روى في الحديث : "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" وأما الباطن فقال الزجاج : إنه العالم بما بطن ، كما يقول القائل : فلان يظن أمر فلان ، أي يعلم أحواله الباطنة قال الليث : يقال : أنت أبطن بهذا الأمر من فلان ، أي أخبر بباطنه ، فمعنى كونه باطناً ، كونه عالماً ببواطن الأمور ، وهذا التفسير عندي فيه نظر ، لأن قوله بعد ذلك : {وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} يكون تكراراً. أما على التفسير الأول فإنه يحسن موقعه لأنه يصير التقدير كأنه قيل : إن أحداً لا يحيط به ولا يصل إلى أسراره ، وإنه لا يخفى عليه شيء من أحوال غيره ونظيره {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } (المائدة : 116).
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
449
قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وهو مفسر في الأعراف والمقصود منه دلائل القدرة.
ثم قال تعالى : {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } وهو مفسر في سبأ ، والمقصود منه كمال العلم ، وإنما قدم وصف القدرة على وصف العلم ، لأن العلم بكونه تعالى قادراً قبل العلم بكونه تعالى عالماً ، ولذلك ذهب جمع من المحققين إلى أن أول العلم بالله ، هو العلم بكونه قادراً ، وذهب آخرون إلى أن أول العلم بالله هو العلم بكونه مؤثراً ، وعلى التقديرين فالعلم بكونه قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً.
ثم قال تعالى : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه قد ثبت أن كل ما عدا الواجب الحق فهو ممكن ، وكل ممكن فوجوده من الواجب ، فإذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة إفادة الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهية وبين وجودها ، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية ، ومن هذا السر قال المحققون : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ، وقال المتوسطون : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله معه ، وقال الظاهريون : ما رأيت الله بعده.
واعلم أن هذه الدقائق التي أظهرناها في هذه المواضع لها درجتان إحداهما : أن يصل الإنسان إليها بمقتضى الفكرة والروية والتأمل والتدبر والدرجة الثانية : أن تتفق لنفس الإنسان / قوة ذوقية وحالة وجدانية لا يمكن التعبير عنها ، وتكون نسبة الإدراك مع الذوق إلى الإدراك لا مع الذوق ، كنسبة من يأكل السكر إلى من يصف حلاوته بلسانه.
(1/4399)

المسألة الثانية : قال المتكلمون : هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ والحراسة ، وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز ، فإذن قوله : {وَهُوَ مَعَكُمْ} لا بد فيه من التأويل وإذا جوزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع.
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
المسألة الثالثة : اعلم أن في هذه الآيات ترتيباً عجيباً ، وذلك لأنه بين قوله : {هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ وَالظَّـاهِرُ وَالْبَاطِنُ } كونه إلهاً لجميع الممكنات والكائنات ، ثم بين كونه إلهاً للعرش والسموات والأرضين. ثم بين بقوله : {فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالماً بظواهرنا وبواطننا ، فتأمل في كيفية هذا الترتيب ، ثم تأمل في ألفاظ هذه الآيات فإن فيها أسراراً عجيبة وتنبيهات على أمور عالية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 449
450
أي إلى حيث لا مالك سواه ، ودل بهذا القول على إثبات المعاد.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 450
451
وهذه الآيات قد تقدم تفسيرها في سائر السور ، وهي جامعة بين الدلالة على قدرته ، وبين إظهار نعمه ، والمقصود من إعادتها البعث على النظر والتأمل ، ثم الاشتغال بالشكر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 451
452
قوله تعالى : {بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ} اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواعاً من الدلائل على التوحيد والعلم والقدرة ، أتبعها بالتكاليف ، وبدأ بالأمر بالإيمان ورسوله ، فإن قيل قوله : {ءَامَنُوا } خطاب مع من عرف الله ، أو مع من لم يعرف الله ، فإن كان الأول كان ذلك أمراً بأن يعرفه من عرف ، فيكون ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال ، وإن كان الثاني ، كان الخطاب متوجهاً على من لم يكن عارفاً به ، ومن لم يكن عارفاً به استحال أن يكون عارفاً بأمره ، فيكون الأمر متوجهاً على من يستحيل أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر ، وهذا تكليف مالا يطاق والجواب : من الناس من قال : معرفة وجود الصانع حاصلة للكل ، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات.
ثم قال تعالى : {ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا } في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه أمر الناس أولاً بأن يشتغلوا بطاعة الله ، ثم أمرهم ثانياً بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله ، كما قال : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) ، فقوله : {قُلِ اللَّهُ} هو المراد ههنا من قوله : {بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ} وقوله : {ثُمَّ ذَرْهُمْ} هو المراد ههنا من قوله : {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه } .
المسألة الثانية : في الآية وجهان الأول : أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، ثم إنه تعالى جعلها تحت يد المكلف ، وتحت تصرفه لينتفع بها على وفق إذن الشرع ، فالمكلف في تصرفه في هذه الأموال بمنزلة الوكيل والنائب والخليفة ، فوجب أن يسهل عليكم الإنفاق من تلك الأموال ، كما يسهل على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه الثاني : أنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم ، لأجل أنه نقل أموالهم إليكم على سبيل الإرث ، فاعتبروا بحالهم ، فإنها كما انتقلت منهم إليكم فستنقل منكم إلى غيركم فلا تبخلوا بها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 452
المسألة الثالثة : اختلفوا في هذا الإنفاق ، فقال بعضهم : هو الزكاة الواجبة ، وقال آخرون : بل يدخل فيه التطوع ، ولا يمتنع أن يكون عاماً في جميع وجوه البر ، ثم إنه تعالى ضمن لمن فعل ذلك أجراً كبيراً فقال : {فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} قال القاضي : هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالإيمان المنفرد حتى ينضاف هذا الإنفاق إليه ، فمن هذا الوجه يدل على أن من أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف ، وذلك لأن الآية تدل على أن من أخل بالزكاة الواجبة لم يحصل له ذلك الأجر الكبير ، فلم قلتم : إنها تدل على أنه لا أجر له أصلاً.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 452
454
وفيه مسائل :
(1/4400)

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى وبخ على ترك الإيمان بشرطين أحدهما : أن يدعو الرسول ، والمراد أنه يتلو عليهم القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة الثاني : أنه أخذ الميثاق عليهم ، وذكروا في أخذ الميثاق وجهين الأول : ما نصب في العقول من الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسل ، واعلم أن تلك الدلائل كما اقتضت وجوب القبول فهي أوكد من الحلف واليمين ، / فلذلك سماه ميثاقاً ، وحاصل الأمر أنه تطابقت دلائل النقل والعقل ، أما النقل فبقوله : {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} ، وأما العقل فبقوله : {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ} ومتى اجتمع هذان النوعان ، فقد بلغ الأمر إلى حيث تمتنع الزيادة عليه ، واحتج بهذه الآية من زعم أن معرفة الله تعالى لا تجب إلا بالسمع ، قال : لأنه تعالى إنما ذمهم بناء على أن الرسول يدعوهم ، فعلمنا أن استحقاق الذم لا يحصل إلا عند دعوة الرسول الوجه الثاني في تفسير أخذ الميثاق : قال عطاء ومجاهد والكلبي والمقاتلان : يريد حين أخرجهم من ظهر آدم ، وقال : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) وهذا ضعيف ، وذلك لأنه تعالى إنما ذكر أخذ الميثاق ليكون ذلك سبباً في أنه لم يبق لهم عذر في ترك الإيمان بعد ذلك ، وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلا بقول الرسول ، فقبل معرفة صدق الرسول لا يكون ذلك سبباً في وجوب تصديق الرسول ، أما نصب الدلائل والبينات فمعلوم لكل أحد ، فذلك يكون سبباً لوجوب الإيمان بالرسول ، فعلمنا أن تفسير الآية بهذا المعنى غير جائز.
المسألة الثانية : قال القاضي قوله : {وَمَا لَكُمْ} يدل على قدرتهم على الإيمان إذ لا يجوز أن يقال ذلك إلا لمن لا يتمكن من الفعل ، كما لا يقال : مالك لا تطول ولا تبيض ، فيدل هذا على أن الاستطاعة قبل الفعل ، وعلى أن القدرة صالحة للضدين ، وعلى أن الإيمان حصل بالعبد لا بخلق الله.
المسألة الثالثة : قرىء : {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ} على البناء للفاعل ، أما قوله : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالمعنى إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل ، فما لكم لا تؤمنون الآن ، فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية ، وبلغت مبلغاً لا يمكن الزيادة عليها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 454
455
قال القاضي : بين بذلك أن مراده بإنزال الآيات البينات التي هي القرآن ، وغيره من المعجزات أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأكد ذلك بقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ولو كان تعالى يريد من بعضهم الثبات على ظلمات الكفر ، ويخلق ذلك فيهم ، ويقدره لهم تقديراً لا يقبل الزوال لم يصح هذا القول ، فإن قيل : أليس أن ظاهره يدل على أنه تعالى يخرج من الظلمات إلى النور ، فيجب أن يكون الإيمان من فعله ؟
قلنا : لو أراد بهذا الإخراج خلق الإيمان فيه لم يكن لقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِه ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَكُم} معنى ، لأنه سواء تقدم ذلك أو لم يتقدم ، فخلقه لما خلقه لا يتغير ، فالمراد إذن بذلك أنه يلطف بهم في إخراجهم من الظلمات إلى / النور ولولا ذلك لم يكن بأن يصف نفسه بأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور أولى من أن يصف نفسه بأنه يخرجهم من النور إلى الظلمات.
واعلم أن هذا الكلام على خسته وروغته معارض بالعلم ، وذلك لأنه تعالى كان عالماً بأن علمه سبحانه بعدم إيمانهم قائم ، وعالماً بأن هذا العلم ينافي وجود الإيمان ، فإذا كلفهم بتكوين أحد الضدين مع علمه بقيام الضد الآخر في الوجود بحيث لا يمكن إزالته وإبطاله ، فهل يعقل مع ذلك أن يريد بهم ذلك الخير والإحسان ، لا شك أن مما لا يقوله عاقل ، وإذا توجهت المعارضة زالت تلك القوة ، أما قوله : {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فقد حمله بعضهم على بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم فقط ، وهذا التخصيص لا وجه له ، بل يدخل فيه ذلك مع سائر ما يتمكن به المرء من أداء التكاليف.
جزء : 29 رقم الصفحة : 455
456
ثم قال تعالى : {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } .
لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكد في الآية المتقدمة إيجاب الإيمان أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاب الإنفاق ، والمعنى أنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله ، وتحقيقه أن المال لا بد وأن يخرج عن اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله ، فإن وقع على الوجه الأول ، كان أثره اللعن والمقت والعقاب ، وإن وقع على الوجه الثاني ، كان أثره المدح والثواب ، وإذا كان لا بد من خروجه عن اليد ، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه بحيث يستعقب اللعن والعقاب.
ثم لما بين تعالى أن الإنفاق فضيلة بين أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة فقال :
(1/4401)

{لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَا أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الآية : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ، ومن أنفق من بعد الفتح ، كما قال : {لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِ } (الحشر : 20) إلا أنه حذف لوضوح الحال.
المسألة الثانية : المراد بهذا الفتح فتح مكة ، لأن إطلاق لفظ الفتح في المتعارف ينصرف إليه ، قال عليه الصلاة والسلام : "لا هجرة بعد الفتح" وقال أبو مسلم : ويدل القرآن على فتح آخر بقوله : {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَالِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح : 27) وأيهما كان ، فقد بين الله عظم موقع الإنفاق قبل الفتح.
/ المسألة الثالثة : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في فضل أبي بكر الصديق ، لأنه كان أول من أنفق المال على رسول الله في سبيل الله ، قال عمر : "كنت قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام ، فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره ؟
فقال : أنفق ماله علي قبل الفتح".
جزء : 29 رقم الصفحة : 456
واعلم أن الآية دلت على أن من صدر عنه الإنفاق في سبيل الله ، والقتال مع أعداء الله قبل الفتح يكون أعظم حالاً ممن صدر عنه هذان الأمران بعد الفتح ، ومعلوم أن صاحب الإنفاق هو أبو بكر ، وصاحب القتال هو علي ، ثم إنه تعالى قدم صاحب الإنفاق في الذكر على صاحب القتال ، وفيه إيماء إلى تقديم أبي بكر ، ولأن الإنفاق من باب الرحمة ، والقتال من باب الغضب ، وقال تعالى : "سبقت رحمتي غضبي" فكان السبق لصاحب الإنفاق ، فإن قيل : بل صاحب الإنفاق هو علي ، لقوله تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} (الإنسان : 8) قلنا : إطلاق القول بأنه أنفق لا يتحقق إلا إذا أنفق في الوقائع العظيمة أموالاً عظيمة ، وذكر الواحدي في البسيط أن أبا بكر كان أول من قاتل على الإسلام ، ولأن علياً في أول ظهور الإسلام كان صبياً صغيراً ، ولم يكن صاحب القتال وأما أبا بكر فإنه كان شيخاً مقدماً ، وكان يذب عن الإسلام حتى ضرب بسببه ضرباً أشرف به على الموت.
المسألة الرابعة : جعل علماء التوحيد هذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام ، وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل الفتح ، وبينوا الوجه في ذلك وهو عظم موقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام بالنفس ، وإنفاق المال في تلك الحال ، وفي عدد المسلمين قلة ، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد ، فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح ، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً ، والكفر ضعيفاً ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ} (التوبة : 100) وقوله عليه الصلاة والسلام : "لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
ثم قال تعالى : {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أي وكل واحد من الفريقين {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي المثوبة الحسنى ، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات.
المسألة الثانية : القراءة المشهورة {وَكُلا} بالنصب ، لأنه بمنزلة : زيداً وعدت خيراً ، فهو مفعول وعد ، وقرأ ابن عامر : (وكل) بالرفع ، وحجته أن الفعل إذا تأخر عن مفعوله لم يقع عمله فيه ، والدليل عليه أنهم قالوا : زيد ضربت ، وكقوله في الشعر :
جزء : 29 رقم الصفحة : 456
/ قد أصبحت أم الخيار تدعى
علي ذنباً كله لم أصنع
(1/4402)

روي (كله) بالرفع لتأخر الفعل عنه لموجب آخر ، واعلم أن للشيخ عبد القاهر في هذا الباب كلاماً حسناً ، قال : إن المعنى في هذا البيت يتفاوت بسبب النصب والرفع ، وذلك لأن النصب يفيد أنه ما فعل كل الذنوب ، وهذا لا ينافي كونه فاعلاً لبعض الذنوب ، فإنه إذا قال : ما فعلت كل الذنوب ، أفاد أنه ما فعل الكل ، ويبقى احتمال أنه فعل البعض ، بل عند من يقول : بأن دليل الخطاب حجة يكون ذلك اعترافاً بأنه فعل بعض الذنوب. أما رواية الرفع ، وهي قوله : كله لم أصنع ، فمعناه أن كل واحد واحد من الذنوب محكوم عليه بأنه غير مصنوع ، فيكون معناه أنه ماأتى بشيء من الذنوب ألبتة ، وغرض الشاعر أن يدعي البراءة عن جميع الذنوب ، فعلمنا أن المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، ومما يتفاوت فيه المعنى بسبب تفاوت الإعراب في هذا الباب قوله تعالى : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) فمن قرأ (كل) شيء بالنصب ، أفاد أنه تعالى خلق الكل بقدر ، ومن قرأ (كل) بالرفع لم يفد أنه تعالى خلق الكل ، بل يفيد أن كل ما كان مخلوقاً له فهو إنما خلقه بقدر ، وقد يكون تفاوت الإعراب في هذا الباب بحيث لا يوجب تفاوت المعنى كقوله : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ} (يس : 39) فإنك سواء قرأت {وَالْقَمَرِ} بالرفع أو بالنصب فإن المعنى واحد فكذا في هذه الآية سواء قرأت {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أو قرأت {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فإن المعنى واحد غير متفاوت.
المسألة الثالثة : تقدير الآية : وكلا وعده الله الحسنى إلا أنه حذف الضمير لظهوره كما في قوله : {أَهَـاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} (الفرقان : 41) وكذا قوله : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 48) ثم قال : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} والمعنى أنه تعالى لما وعد السابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالجزئيات ، وبجميع المعلومات ، حتى يمكنه إيصال الثواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالماً بهم وبأفعالهم على سبيل التفصيل ، لما أمكن الخروج عن عهدة الوعد بالتمام ، فلهذا السبب أتبع ذلك الوعد بقوله : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 456
458
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا أن رجلاً من اليهود قال عند نزول هذه الآية ما استقرض إله محمد حتى افتقر ، فلطمه أبو بكر ، فشكا اليهودي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له : ما أردت بذلك ؟
فقال : ما ملكت نفسي أن لطمته فنزل قوله تعالى : {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } (آل عمران : 186) قال المحققون : اليهودي إنما قال ذلك على سبيل الاستهزاء ، لا لأن العاقل يعتقد أن الإله يفتقر ، وكذا القول في قولهم : {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } (آل عمران : 181).
المسألة الثانية : أنه تعالى أكد بهذه الآية ترغيب الناس في أن ينفقوا أموالهم في نصرة / المسلمين وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين ، وسمى ذلك الإنفاق قرضاً من حيث وعد به الجنة تشبيهاً بالقرض.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد من هذا الإنفاق ، فمنهم من قال : المراد الإنفاقات الواجبة ، ومنهم من قال : بل هو في التطوعات ، والأقرب دخول الكل فيه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 458
(1/4403)

المسألة الرابعة : ذكروا في كون القرض حسناً وجوهاً أحدها : قال مقاتل : يعني طيبة بها نفسه وثانيها : قال الكلبي : يعني يتصدق بها لوجه الله وثالثها : قال بعض العلماء : القرض لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة الأول : أن يكون من الحلال قال عليه الصلاة والسلام : "إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب" وقال عليه الصلاة والسلام : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول" والثاني : أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء ، قال الله تعالى : {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (البقرة : 267) ، الثالث : أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة وهو المراد بقوله تعالى : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } (البقرة : 177) وبقول : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه } (الإنسان : 8) على أحد التأويلات وقال عليه الصلاة والسلام : "الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا" والرابع : أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها ، ولذلك خص الله تعالى أقواماً بأخذها وهم أهل السهمان الخامس : أن تكتم الصدقة ما أمكنك لأنه تعالى قال : {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } (البقرة : 271) ، السادس : أن لا تتبعها مناً ولا أذى ، قال تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى } (البقرة : 264) ، السابع : أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي ، كما قال : {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } (الليل : 20 ، 21) ولأن المرائي مذموم بالاتفاق الثامن : أن تستحقر ما تعطي وإن كثر ، لأن ذلك قليل من الدنيا ، والدنيا كلها قليلة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر : 6) في أحد التأويلات التاسع : أن يكون من أحب أموالك إليك ، قال تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) ، العاشر : أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير ، بل يكون الأمر بالعكس في نظرك ، فترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله بقوله : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) وترى نفسك تحت دين الفقير ، فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضاً حسناً/ وهذه الآية مفسرة في سورة البقرة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 458
ثم إنه تعالى قال : {فَيُضَـاعِفَه لَه وَلَه أَجْرٌ كَرِيمٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أنه تعالى ضمن على هذا القرض الحسن أمرين أحدهما : المضاعفة على ما ذكر في سورة البقرة ، وبين أن مع المضاعفة له أجر كريم ، وفيه قولان : الأول : وهو قول أصحابنا أن المضاعفة إشارة إلى أنه تعالى يضم إلى قدر الثواب مثله من التفضيل والأجر الكريم / عبارة عن الثواب ، فإن قيل : مذهبكم أن الثواب أيضاً تفضل فإذا لم يحصل الامتياز لم يتم هذا التفسير الجواب : أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ، أن كل من صدر منه الفعل الفلاني ، فله قدر كذا من الثواب ، فذاك القدر هو الثواب ، فإذا ضم إليه مثله فذلك المثل هو الضعف والقول الثاني : هو قول الجبائي من المعتزلة أن الأعواض تضم إلى الثواب فذلك هو المضاعفة ، وإنما وصف الأجر بكونه كريماً لأنه هو الذي جلب ذلك الضعف ، وبسببه حصلت تلك الزيادة ، فكان كريماً من هذا الوجه.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر : (فيضعفه) مشددة بغير ألف ، ثم إن ابن كثير قرأ بضم الفاء وابن عامر بفتح الفاء ، وقرأ عاصم (فيضاعفه) بالألف وفتح الفاء ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي : فيضاعفه بالألف وضم الفاء ، قال أبو علي الفارسي : يضاعف ويضعف بمعنى إنما الشأن في تعليل قراءة الرفع والنصب ، أما الرفع فوجهه ظاهر لأنه معطوف على {يُقْرِضُ} ، أو على الإنقطاع من الأول ، كأنه قيل : فهو يضاعف ، وأما قراء النصب فوجهها أنه لما قال : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ} فكأنه قال : أيقرض الله أحد قرضاً حسناً ، ويكون قوله : {فَيُضَـاعِفَه } جواباً عن الاستفهام فحينئذ ينصب.
جزء : 29 رقم الصفحة : 458
459
ثم قال تعالى : {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {يَوْمَ تَرَى} ظرف لقوله : {وَلَه أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد : 11) أو منصوب بأذكر تعظيماً لذلك اليوم.
(1/4404)

المسألة الثانية : المراد من هذا اليوم هو يوم المحاسبة ، واختلفوا في هذا النور على وجوه : أحدها : قال قوم : المراد نفس النور على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أن كل مثاب فإنه يحصل له النور على قدر عمله وثوابه في العظم والصغر" فعلى هذا مراتب الأنوار مختلفة فمنهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ، ومنهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه ، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى ، وهذا القول منقول عن ابن مسعود ، وقتادة وغيرهما ، وقال مجاهد : ما من عبد إلا وينادي يوم القيامة يا فلان ها نورك ، ويا فلان لا نور لك ، نعوذ بالله منه ، واعلم أنا بينا في سورة النور ، أن النور الحقيقي هو الله تعالى ، وأن نور العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر ، وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله هي النور في القيامة فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا القول الثاني : أن المراد من النور ما يكون سبباً للنجاة ، وإنما قال : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كماأن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ، ووراء ظهورهم القول الثالث : المراد بهذا النور الهداية إلى الجنة ، كما يقال / ليس لهذا الأمر نور ، إذا لم يكن المقصود حاصلاً ، ويقال : هذا الأمر له نور ورونق ، إذا كان المقصود حاصلاً.
المسألة الثالثة : قرأ سهل بن شعيب {وَبِأَيْمَـانِهِم} بكسر الهمزة ، والمعنى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم حصل ذلك السعي ، ونظيره قوله تعالى : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (الحج : 10) أي ذلك كائن بذلك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 459
ثم قال تعالى : {بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حقيقة البشارة ذكرناها في تفسير قوله : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البقرة : 25 ، يونس : 2) ثم قالوا : تقدير الآية ، وتقول لهم الملائكة بشراكم اليوم ، كما قال : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23/ 24).
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.
المسألة الثالثة : احتج الكعبي على أن الفاسق ليس بمؤمن فقال : لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة ، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنة ، ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن والجواب : أن الفاسق قاطع بأنه من أهل الجنة لأنه إما أن لا يدخل النار أو إن دخلها لكنه سيخرج منها وسيدخل الجنة ويبقى فيها أبد الآباد ، فهو إذن قاطع بأنه من أهل الجنة ، فسقط هذا الاستدلال.
المسألة الرابعة : قوله : {ذَالِكَ} عائد إلى جميع ما تقدم وهو النور والبشرى بالجنات المخلدة.
المسألة الخامسة : قرىء : (ذلك الفوز) ، بإسقاط كلمة : هو.
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين. فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 459
460
قوله : {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّه بَابُا بَاطِنُه فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـاهِرُه مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {يَوْمَ يَقُولُ} ، بدل من {يَوْمَ تَرَى} (الحديد : 12) ، أو هو أيضاً منصوب باذكر تقديراً.
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده (أنظرونا) مكسورة الظاء ، والباقون (أنظروا) ، قال أبو علي / الفارسي لفظ النظر يستعمل على ضروب أحدها : أن تريد به نظرت إلى الشيء ، فيحذف الجار ويوصل الفعل ، كما أنشد أبو الحسن :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك وثانيها : أن تريد به تأملت وتدبرت ، ومنه قولك : إذهب فانظر زيداً أيؤمن ، فهذا يراد به التأمل ، ومنه قوله تعالى : {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَالَ} (الأسراء : 48) ، {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (النساء : 50) ، {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (الإسراء : 21) قال : وقد يتعدى هذا بإلى كقوله : {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (الغاشية : 17) وهذا نص على التأمل ، وبين وجه الحكمة فيه ، وقد يتعدى بفي ، كقوله : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأعراف : 185) ، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم } (الروم : 8) وثالثها : أن يراد بالنظر الرؤية كما في قوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 460
ولما بدا حوران والآل دونه
(1/4405)

نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
والمعنى نظرت ، فلم تر بعينك منظراً تعرفه في الآل قال : إلا أن هذا على سبيل المجاز ، لأنه دلت الدلائل على أن النظر عبارة عن تقلب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته ، فلما كانت الرؤية من توابع النظر ولوازمه غالباً أجرى على الرؤية لفظ النظر على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب قال : ويجوز أن يكون قوله : نظرت فلم تنظر ، كما يقال : تكلمت وما تكلمت ، أي ما تكلمت بكلام مفيد ، فكذا هنا نظرت وما نظرت نظراً مفيداً ورابعها : أن يكون النظر بمعنى الانتظار ، ومنه قوله تعالى : {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَـاـاهُ} (الأحزاب : 53) أي غير منتظرين إدراكه وبلوغه ، وعلى هذا الوجه يكون نظرت معناه انتظرت ، ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير ، كقولهم : شويت واشتويت ، وحقرت واحتقرت ، إذا عرفت هذا فقوله : {انظُرُونَا} يحتمل وجهين الأول : أنظرونا ، أي انتظرونا ، لأنه يسرع بالمؤمنين إلى الجنة كالبروق الخاطفة ، والمنافقون مشاة والثاني : أنظرونا أي أنظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم ، والنور بين أيديهم فيستضيئون به ، وأما قراءة (أنظرونا) مكسورة الظاء فهي من النظرة والإمهال ، ومنه قوله تعالى : {أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الحجر : 36) وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإنظار المعسر ، والمعنى أنه جعل اتئادهم في المشي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم.
واعلم أن أبا عبيدة والأخفش كانا يطعنان في حصة هذه القراءة/ وقد ظهر الآن وجه صحتها.
المسألة الثالثة : اعلم أن الاحتمالات في هذا الباب ثلاثة أحدها : أن يكون الناس كلهم في الظلمات ، ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار ، والمنافقون يطلبونها منهم وثانيها : أن تكون الناس كلهم في الأنوار ، ثم إن المؤمنين يكونون في الجنات فيمرون سريعاً ، والمنافقون يبقون وراءهم فيطلبون منهم الانتظار وثالثها : أن يكون المؤمنون في النور والمنافقون في الظلمات ، ثم المنافقون يطلبون النور مع المؤمنين ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الاحتمالات قوم ، فإن كانت هذه الحالة إنما تقع / عند الموقف ، فالمراد من قوله : {انظُرُونَا} انظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم ، فقد أقبلوا عليهم ، ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاءوا بتلك الأنوار ، وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة ، كان المراد من قوله : {انظُرُونَا} يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 460
المسألة الرابعة : القبس : الشعلة من النار أو السراج ، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين أن يقتبسوه كاقتباس نيران الدنيا وهو منهم جهل ، لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا ، فلما لم توجد تلك الأعمال في الدنيا امتنع حصول تلك الأنوار في الآخرة ، قال الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله ، ثم إنه يؤخذ من حر جهنم ومما فيه من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق ، فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء ، ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفىء نور المنافقين ، فهنالك يقول المنافقون للمؤمنين : {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} كقبس النار.
المسألة الخامسة : ذكروا في المراد من قوله تعالى : {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} وجوهاً أحدها : أن المراد منه : ارجعوا إلى دار الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هنالك ، فإن هذه الأنوار إنما تتولد من اكتساب المعارف الإلهية ، والأخلاق الفاضلة والتنزه عن الجهل والأخلاق الذميمة ، والمراد من ضرب السور ، هو امتناع العود إلى الدنيا وثانيها : قال أبو أمامة : الناس يكونون في ظلمة شديدة ، ثم المؤمنون يعطون الأنوار ، فإذا أسرع المؤمن في الذهاب قال المنافق : {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} فيقال لهم : {ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} قال : وهي خدعة خدع بها المنافقون ، كما قال : {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 142) فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً ، فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً بينهم وبين المؤمنين وثالثها : قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين : {ارْجِعُوا } منع المنافقين عن الاستضاءة ، كقول الرجل لمن يريد القرب منه : وراءك أوسع لك ، فعلى هذا القول المقصود من قوله : {ارْجِعُوا } أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة ، لا أنه أمر لهم بالرجوع.
قوله تعالى : {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّه بَابُا بَاطِنُه فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَـاهِرُه مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وفيه مسألتان :
(1/4406)

المسألة الأولى : اختلفوا في السور ، فمنهم من قال : المراد منه الحجاب والحيلولة أي / المنافقون منعوا عن طلب المؤمنين ، وقال آخرون : بل المراد حائط بين الجنة والنار ، وهو قول قتادة ، وقال مجاهد : هو حجاب الأعراف.
جزء : 29 رقم الصفحة : 460
المسألة الثانية : الباء في قوله : {بِسُورٍ} صلة وهو للتأكيد والتقدير : ضرب بينهم سور كذا ، قاله الأخفش ، ثم قال : {لَّه بَابُ } أي لذلك السور باب {بَاطِنُه فِيهِ الرَّحْمَةُ} أي في باطن ذلك السور الرحمة/ والمراد من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين {وَظَـاهِرُه } يعني وخارج السور {مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي من قبله يأتيهم العذاب ، والمعنى أن ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة ، وما يلي الكافرين يأتيهم من قبله العذاب ، والحاصل أن بين الجنة والنار حائط وهو السور ، ولذلك السور باب ، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور ، والكافرون يبقون في العذاب والنار.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 460
461
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } في الدنيا والثاني : {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } في العبادات والمساجد والصلوات والغزوات ، وهذا القول هو المتعين.
المسألة الثانية : البعد بين الجنة والنار كثير ، لأن الجنة في أعلى السموات ، والنار في الدرك الأسفل ، فهذا يدل على أن البعد الشديد لا يمنع من الإدراك ، ولا يمكن أن يقال : إن الله عظم صوت الكفار بحيث يبلغ من أسفل السافلين إلى أعلى عليين ، لأن مثل هذا الصوت إنما يليق بالأشداء الأقوياء جداً ، والكفار موصوفون بالضعف وخفاء الصوت ، فعلمنا أن البعد لا يمنع من الإدراك على ما هو مذهبنا ، ثم حكى تعالى : أن المؤمنين قالوا بلى كنتم معنا إلا أنكم فعلتم أشياء بسببها وقعتم في هذا العذاب أولها : {وَلَـاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي بالكفر والمعاصي وكلها فتنة وثانيها : قوله : {وَتَرَبَّصْتُمْ} وفيه وجوه أحدها : قال ابن عباس : تربصتم بالتوبة وثانيها : قال مقاتل : وتربصتم بمحمد الموت ، قلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وثالثها : كنتم تتربصون دائرة السوء لتلتحقوا بالكفار ، وتتخلصوا من النفاق وثالثها : قوله : {وَارْتَبْتُمْ} وفيه وجوه الأول : شككتم في وعيد الله وثانيها : شككتم في نبوة محمد وثالثها : شككتم في البعث والقيامة ورابعها : قوله : {وَغرَّتْكُمُ الامَانِىُّ} قال ابن عباس : يريد الباطل وهو ما كانوا يتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني الموت ، والمعنى / ما زالوا في خدع الشيطان وغروره حتى أماتهم الله وألقاهم في النار.
قوله تعالى : {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ سماك بن حرب : {الْغَرُورُ} بضم الغين ، والمعنى وغركم بالله الاغترار وتقديره على حذف المضاف أي غركم بالله سلامتكم منه مع الاغترار.
جزء : 29 رقم الصفحة : 461
المسألة الثانية : {الْغَرُورُ} بفتح الغين هو الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 461
461
الفدية ما يفتدى به وهو قولان : الأول : لا يؤخذ منكم إيمان ولا توبة فقد زال التكليف وحصل الإلجاء.
الثاني : بل المراد لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم ، كقوله تعالى : {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَـاعَةٌ} (البقرة : 123) ، واعلم أن الفدية ما يفتدى به فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال ، وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً على ما تقوله المعتزلة لأنه تعالى بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً والتوبة فدية ، فتكون الآية دالة على أن التوبة غير مقبولة أصلاً ، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً أما قوله : {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ففيه بحث : وهو عطف الكافر على المنافق يقتضي أن لا يكون المنافق كافراً لوجوب حصول المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والجواب : المراد الذين أظهروا الكفر وإلا فالمنافق كافر.
ثم قال تعالى : {مَأْوَاـاكُمُ النَّارُا هِىَ مَوْلَـاـاكُم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
(1/4407)

وفي لفظ المولى ههنا أقوال : أحدها قال ابن عباس : {مَوْلَـاـاكُمْ } أي مصيركم ، وتحقيقه أن المولى موضع الولي ، وهو القرب ، فالمعنى أن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه ، والثاني : قال الكلبي : يعني أولى بكم ، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة ، واعلم أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للفظ ، لأن لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة ، لصح استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر ، فكان يجب أن يصح أن يقال : هذا مولى من فلان كما يقال : هذا أولى من فلان ، ويصح أن يقال : هذا أولى فلان كما يقال : هذا مولى فلان ، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير ، وإنما نبهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لما تسمك بإمامة علي ، بقوله / عليه السلام : "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال : أحد معاني مولى معناه أولى ، واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية ، بأن مولى معناه أولى ، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه ، لأن ما عداه إما بين الثبوت ، ككونه ابن العم والناصر ، أو بين الإنتفاء ، كالمعتق والمعتق ، فيكون على التقدير الأول عبثاً ، وعلى التقدير الثاني كذباً ، وأما نحن فقد بينا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير ، وحينئذ يسقط الاستدلال به ، وفي الآية وجه آخر : وهو أن معنى قوله : {هِىَ مَوْلَـاـاكُمْ } أي لا مولى لكم ، وذلك لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له ، كما يقال : ناصره الخذلان ومعينه البكاء ، أي لا ناصر له ولا معين ، وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى : {وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد : 11) ومنه قوله تعالى : {يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} (الكهف : 29).
(16)
جزء : 29 رقم الصفحة : 461
462
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ الحسن : (ألما يأن) ، قال ابن جني : أصل لما لم ، ثم زيد عليها ما فلم نفي لقوله أفعل ، ولما نفي لقوله قد يفعل ، وذلك لأنه لما زيد في الإثبات قد لا جرم زيد في نفيه ما ، إلا أنهم لما ركبوا لم مع ما حدث لها معنى ولفظ ، أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفاً ، فقالوا : لما قمت قام زيد ، أي وقت قيامك قام زيد ، وأما اللفظ فإنه يجوز أن تقف عليها دون مجزومها ، فيجوز أن تقول : جئت ولما ، أي ولما يجيء ، ولا يجوز أن يقول : جئت ولم.
وأما الذين قرأوا : {أَلَمْ يَأْنِ} فالمشهور ألم يأن من أنى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أي وقته. وقرىء : (ألم يئن) ، من أن يئين بمعنى أنى يأني.
المسألة الثانية : اختلفوا في قوله : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} فقال بعضهم : نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع ، والقائلون بهذا القول لعلهم ذهبوا إلى أن المؤمن لا يكون مؤمناً في الحقيقة إلا مع خشوع القلب ، فلا يجوز أن يقول تعالى ذلك إلا لمن ليس بمؤمن ، وقال آخرون : بل المراد من هو مؤمن على الحقيقة ، / لكن المؤمن قد يكون له خشوع وخشية ، وقد لا يكون كذلك ، ثم على هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها : لعل طائفة من المؤمنين ما كان فيهم مزيد خشوع ولا رقة ، فحثوا عليه بهذه الآية وثانيها : لعل قوماً كان فيهم خشوع كثير ، ثم زال منهم شدة ذلك الخشوع فحثوا على المعاودة إليها ، عن الأعمش قال : إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية ، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية وعن أبي بكر : أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً ، فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب ، وأما قوله : {لِذِكْرِ اللَّهِ} ففيه قولان : الأول : أن تقدير الآية ، أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم لذكر الله ، أي مواعظ الله التي ذكرها في القرآن ، وعلى هذا الذكر مصدر أضيف إلى الفاعل والقول الثاني : أن الذكر مضاف إلى المفعول ، والمعنى لذكرهم الله ، أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ، ولا يكونوا كمن ذكره بالغفلة فلا يخشع قلبه للذكر ، وقوله تعالى : {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فيه مسائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 462
المسألة الأولى : (ما) في موضع جر بالعطف على الذكر وهو موصول ، والعائد إليه محذوف على تقدير {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، ثم قال ابن عباس في قوله : {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} يعني القرآن.
المسألة الثانية : قال أبو علي : قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم ، {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} خفيفة ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم ، {وَمَا نَزَلَ} ، مشددة ، وعن أبي عمرو {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} مرتفعة النون مكسورة الزاي ، والتقدير في القراءة الأولى : أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولما نزل من الحق ، وفي القراءة الثانية ولما نزله الله من الحق ، وفي القراءة الثالثة ولما نزل من الحق.
(1/4408)

المسألة الثالثة : يحتمل أن يكون المراد من الحق هو القرآن لأنه جامع للوصفين الذكر والموعظة وإنه حق نازل من السماء ، ويحتمل أن يكون المراد من الذكر هو ذكر الله مطلقاً ، والمراد بما نزل من الحق هو القرآن/ وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن ، لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله ، فأما حصولها عند سماع القرآن فذاك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله ، ثم قال تعالى : {وَلا يَكُونُوا } قال الفراء : هو في موضع نصب معناه : ألم يأن أن تخشع قلوبهم ، وأن لا يكونوا ، قال : ولو كان جزماً على النهي كان صواباً ، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات ، ثم قال : {كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلُ} يريد اليهود والنصارى : {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامَدُ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير طول الأمد وجوهاً أحدها : طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وثانيها : قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله وثالثها : طالت أعمارهم في الغفلة فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السبب ورابعها : قال : / ابن جبان : الأمد ههنا الأمل البعيد ، والمعنى على هذا طال عليهم الأمد بطول الأمل ، أي لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم وخامسها : قال مقاتل بن سليمان : طال عليهم أمد خروج النبي عليه السلام وسادسها : طال عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما عن قلوبهم فلا جرم قست قلوبهم ، فكأنه تعالى نهى المؤمنين عن أن يكونوا كذلك ، قاله القرظي.
جزء : 29 رقم الصفحة : 462
المسألة الثانية : قرىء (الأمد) بالتشديد ، أي الوقت الأطول ، ثم قال : {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، وكأنه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 462
463
وفيه وجهان الأول : أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة ، فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث والثاني : أن المراد من قوله : {فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَـارِ رَحْمَتِ} بعث الأموات فذكر ذلك ترغيباً في الخشوع والخضوع وزجراً عن القساوة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 463
464
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو علي الفارسي : قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر : {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ} بالتخفيف ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم : {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ} بتشديد الصاد فيهما ، فعلى القراءة الأولى يكون معنى المصدق المؤمن ، فيكون المعنى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة ، ثم قالوا : وهذه القراءة أولى لوجهين الأول : أن من تصدق لله وأقرض إذا لم يكن مؤمناً لم يدخل تحت الوعد ، فيصير ظاهر الآية متروكاً على قراءة التشديد ، ولا يصير متروكاً على قراءة التخفيف والثاني : أن المتصدق هو الذي يقرض الله ، فيصير قوله : {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ} وقوله : {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} شيئاً واحداً وهو تكرار ، أما على قراءة التخفيف فإنه لا يلزم التكرار ، وحجة من نقل وجهان أحدهما : أن في قراءة أبي : {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ} بالتاء والثاني : أن قوله : {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} اعتراض بين الخبر والمخبر عنه ، والاعتراض بمنزلة الصفة ، فهو للصدقة أشد ملازمة / منه للتصديق ، وأجاب الأولون : بأنا لا نحمل قوله : {وَأَقْرَضُوا } على الاعتراض ، ولكنا نعطفه على المعنى ، ألا ترى أن المصدقين والمصدقات معناه : إن الذين صدقوا ، فصار تقدير الآية : إن الذين صدقوا وأقرضوا الله.
المسألة الثانية : في الآية إشكال وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه ههنا ؟
قال صاحب الكشاف قوله : {وَأَقْرَضُوا } معطوف على معنى الفعل في المصدقين ، لأن اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى صدقوا ، كأنه قيل : إن الذين صدقوا وأقرضوا ، واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ ، والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود ، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة وهو الإتيان بالقرض الحسن ، ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله : {يُضَـاعَفُ لَهُمْ} فقوله : {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} هو المسمى بحشو اللوزنج كما في قوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 464
إن الثمانين وبلغتها
(قد أحوجت سمعي إلى ترجمان)
(1/4409)

المسألة الثالثة : من قرأ : {الْمُصَّدِّقِينَ} بالتشديد اختلفوا في أن المراد هو الواجب أو التطوع أو هما جميعاً ، أو المراد بالتصدق الواجب وبالإقراض التطوع لأن تسميته بالقرض كالدلالة على ذلك فكل هذه الاحتمالات مذكورة ، أما قوله : {يُضَـاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} فقد تقدم القول فيه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 464
466
اعلم أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية حال المؤمنين والمنافقين ، وذكر الآن حال المؤمنين وحال الكافرين ، ثم في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : الصديق نعت لمن كثر منه الصدق ، وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله وفي هذه الآية قولان : أحدهما : أن الآية عامة في كل من آمن بالله ورسله وهو مذهب مجاهد قال : كل من آمن بالله ورسله فهو صديق ثم قرأ هذه الآية ، ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس في قوله : {هُمُ الصِّدِّيقُونَ } أي الموحدون الثاني : أن الآية خاصة ، وهو قول المقاتلين : أن الصديقين هم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم ولم يكذبوا ساعة قط مثل آل ياسين ، ومثل مؤمن آل فرعون ، وأما في ديننا فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته.
/ المسألة الثانية : قوله : {وَالشُّهَدَآءُ} فيه قولان : الأول : أنه عطف على الآية الأولى والتقدير : إن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء ، قال مجاهد : كل مؤمن فهو صديق وشهيد وتلا هذه الآية ، جذا القول اختلفوا في أنه لم سمي كل مؤمن شهيد ؟
فقال بعضهم لأن المؤمنين هم الشهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم ، والمراد أنهم عدول الآخرة الذي تقبل شهادتهم ، وقال الحسن : السبب في هذا الاسم أن كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه ، وقال الأصم : كل مؤمن شهيد لأنه قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من وجوب الإيمان ووجوب الطاعات وحرمة الكفر والمعاصي ، وقال أبو مسلم : قد ذكرنا أن الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صدقاً إلى صدق في الإيمان بالله تعالى ورسله فصاروا بذلك شهداء على غيرهم القول الثاني : أن قوله : {وَالشُّهَدَآءُ} ليس عطفاً على ما تقدم بل هو مبتدأ ، وخبره قوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} أو يكون ذلك صفة وخبره هو قوله : {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} وعلى هذا القول اختلفوا في المراد من الشهداء ، فقال الفراء والزجاج : هم الأنبياء لقوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) وقال مقاتل ومحمد بن جرير : الشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما تعدون الشهداء فيكم ؟
قالوا : المقتول ، فقال : إن شهداء أمتي إذاً لقليل ، ثم ذكر أن المقتول شهيد ، والمبطون شهيد ، والمطعون شهيد" الحديث.
جزء : 29 رقم الصفحة : 466
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين ، أتبعه بذكر حال الكافرين فقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ أولئك أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} . ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 466
467
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة فقال : / الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر ، ولا شك أن هذه الأشياء أمور محقرة ، وأما الآخرة فهي عذاب شديد دائم أو رضوان الله على سبيل الدوام ، ولا شك أن ذلك عظيم.
(1/4410)

المسألة الثانية : اعلم أن الحياة الدنيا حكمة وصواب ، ولذلك لما قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةًا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَا قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30) ولولا أنها حكمة وصواب لما قال ذلك ، ولأن الحياة خلقه ، كما قال : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) وأنه لا يفعل العبث على ما قال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنين : 115) وقال : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} ولأن الحياة نعمة بل هي أصل لجميع النعم ، وحقائق الأشياء لا تختلف بأن كانت في الدنيا أو في الآخرة ، ولأنه تعالى عظم المنة بخلق الحياة فقال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) فأول ما ذكر من أصناف نعمه هو الحياة ، فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة ، بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة الله بل إلى طاعة الله بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى ، فذاك هو المذموم ، ثم إنه تعالى وصفها بأمور : أولها : أنها {لَعِبٌ} وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جداً ، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة وثانيها : أنها {لَهُوَ} وهو فعل الشبان ، والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة ، وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهباً والعمر ذاهباً ، واللذة منقضية ، والنفس ازدادت شوقاً وتعطشاً إليه مع فقدانها ، فتكون المضار مجتمعة متوالية وثالثها : أنها {زِينَةُ} وهذا دأب النساء لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح ، وعمارة البناء المشرف على أن يصير خراباً ، والاجتهاد في تكميل الناقص ، ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي ، فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها ، فاسدة لذاتها ، فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها ، قال ابن عباس : المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة ، وهذا كما قيل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 467
حياتك يا مغرور سهو وغفلة
ورابعها : {شَهَـادَةُ بَيْنِكُمْ} بالصفات الفانية الزائلة ، وهو إما التفاخر بالنسب ، أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر وكلها ذاهبة وخامسها : قوله : {وَتَكَاثُرٌ فِى الامْوَالِ وَالاوْلْـادِ } قال ابن عباس : يجمع المال في سخط الله ، ويتباهى به على أولياء الله ، ويصرفه في مساخط الله ، فهو ظلمات بعضها فوق بعض ، وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام ، وبين أن حال الدنيا إذا لم يخل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة ، ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً ، فقال : {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يعني المطر ، ونظيره قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ} (الكهف : 45) والكاف في قوله : {كَمَثَلِ غَيْثٍ} موضعة رفع من وجهين أحدهما : أن يكون صفة لقوله : {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرُا بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ} ، والآخر : أن يكون خبراً بعد خبر قاله الزجاج ، وقوله : {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُه } فيه قولان : الأول : قال ابن مسعود : المراد من الكفار الزراع قال الأزهري : والعرب تقول للزارع : كافر ، لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض ، وإذا / أعجب الزراع نباته مع علمهم به فهو في غاية الحسن الثاني : أن المراد بالكفار في هذه الآية الكفار بالله وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا وحرثها من المؤمنين ، لأنهم لا يرون سعادة سوى سعادة الدنيا ، وقوله : {نَبَاتُه } أي ما نبت من ذلك الغيث ، وباقي الآية مفسر في سورة الزمر.
ثم إنه تعالى ذكر بعده حال الآخرة فقال : {وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي لمن كانت حياته بهذه الصفة ، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته ، وذلك لأنه لما وصف الدنيا بالحقارة وسرعة الانقضاء ، بين أن الآخرة إما عذاب شديد دائم ، وإما رضوان ، وهو أعظم درجات الثواب ، ثم قال : {وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ} يعني لمن أقبل عليها ، وأعرض بها عن طلب الآخرة ، قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم الوسيلة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 467
469
ثم قال تعالى : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} والمراد كأنه تعالى قال : لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه ، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة.
(1/4411)

واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ثم شرح ههنا كيفية تلك المسارعة ، فقال : مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، وقوله : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة ، فقال قوم المراد سابقوا إلى التوبة ، وقال آخرون : المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة ، وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات.
المسألة الثانية : احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية ، فقالوا : هذه الآية دلت على وجوب المسارعة ، فوجب أن يكون التراخي محظوراً ، أما قوله تعالى : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} وقال : في آل عمران {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (آل عمران : 133) ، فذكروا فيه وجوهاً أحدها : أن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها ، هذا قول مقاتل وثانيها : قال : عطاء (عن) ابن عباس يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة ، وثالثها : قال السدي : إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها ، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك ، ورابعها : أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم ، وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج ، وخامسها : / وهو اختيار ابن عباس أن الجنان أربعة ، قال تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) وقال : {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} (الرحمن : 62) فالمراد ههنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسموات السبع والأرضين السبع.
جزء : 29 رقم الصفحة : 469
ثم قال تعالى : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن الجنة مخلوقة ، وقالت المعتزلة هذه الآية : لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين : الأول : أن قوله تعالى : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} (الرعد : 35) يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى ، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) الثاني : أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة ، ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات ، قالوا : فثبت بهذين الوجهين أنه لا بد من التأويل ، وذلك من وجهين : الأول : أنه تعالى لما كان قادراً لا يصح المنع عليه ، وكان حكيماً لا يصح الخلف في وعده ، ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة ، فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع ، وقد يقول المرء لصاحبه : (أعدت لك المكافأة) إذا عزم عليها ، وإن لم يوجدها ، والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى : {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 50) أي إذا كان يوم القيامة نادى الجواب : أن قوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} عام ، وقوله : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} مع قوله : {أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ} خاص ، والخاص مقدم على العام ، وأما قوله ثانياً : الجنة مخلوقة في السماء السابعة قلنا : إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة : "سقفها عرش الرحمن" وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه ، أليس أن العرش أعظم المخلوقات ، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة.
المسألة الثانية : قوله : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} فيه أعظم رجاء وأقوى أمل ، إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ؛ ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر ، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطاعات بحكم تصرف الشرع ، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء ، فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق ، فالآية حجة عليهم ، ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية : {ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يعني أن الجنة فضل لا معاملة ، فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى ، فإن قيل : فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة ، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم ؟
قلنا : نقطع بحصول الجنة لهم ، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم ، لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد ، فقد كانت الجنة معدة لهم ، فإن قيل : فالمرتد قد آمن بالله ، فوجب أن يدخل تحت الآية قلت : خص من العموم ، فيبقى العموم حجة فيما عداه.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 469
(1/4412)

ثم قال تعالى : {ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل ، وهذا أيضاً قول الكعبي من المعتزلة ، واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية ، أجاب القاضي عنه فقال : هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلاً من الله تعالى ، فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال ، وإنما قلنا : إنه لا منافاة بين هذين الوصفين ، لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق ، فلما كان تعالى متفضلاً بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلاً بها ، قال : ولما ثبت أن قوله : {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } لا بد وأن يكون مشروطاً بما يستحقه ، ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} معنى.
واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلاً بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلاً بنفس الجنة ، فإن من وهب من إنسان كاغداً ودواة وقلماً ، ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفاً وباعه من الواهب ، لا يقال : إن أداء ذلك الثمن تفضيل ، بل يقال : إنه مستحق ، فكذا ههنا ، وأما قوله أولاً إنه لا بد من الاستحقاق ، وإلا لم يكن لقوله من قبل : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} معنى ، فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب ، لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء ، ويقول : لا أتفضل إلا مع هذا الشرط.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة ، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيماً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 469
469
قال الزجاج : إنه تعالى لما قال : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} (الحديد : 21) بين أن المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر ، فقال : {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض هي قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوع ، والمصيبة في الأنفس فيها قولان : الأول : أنها هي : الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها والثاني : أنها تتناول الخير / والشر أجمع لقوله بعد ذلك : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } (الحديد : 23) ثم قال : {إِلا فِى كِتَـابٍ} يعني مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية دالة على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللوح المحفوظ. قال المتكلمون : وإنما كتب كل ذلك لوجوه أحدها : تستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع الأشياء قبل وقوعها وثانيها : ليعرفوا حكمة الله فإنه تعالى مع علمه بأنهم يقدمون على تلك المعاصي خلقهم ورزقهم وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي ورابعها : ليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم على الطاعات وعصمته إياهم من المعاصي. وقالت الحكماء : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبرات أمراً ، وهم المقسمات أمراً ، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في هذا العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ، فتصوراتها لانسياق تلك الأسباب إلى المسببات هو المراد من قوله تعالى : {إِلا فِى كِتَـابٍ} .
المسألة الثانية : استدل جمهور أهل التوحيد بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها خلافاً لهشام بن الحكم ، ووجه الاستدلال أنه تعالى لما كتبها في الكتاب قبل وقوعها وجاءت مطابقة لذلك الكتاب علمنا أنه تعالى عالماً بها بأسرها.
المسألة الثالثة : قوله : {وَلا فِى أَنفُسِكُمْ} يتناول جميع مصائب الأنفس فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ، ومثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محالاً ، لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها ، والجمع بين المتنافيين محال ، فلما حصل العلم بوجودها ، وهذا العلم ممتنع الزوال كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالاً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 469
(1/4413)

المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يقل : إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب ، لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال ، وأيضاً خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات ، وأيضاً خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس ، وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار ، أما قوله : {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } فقد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : من قبل أن نخلق هذه المصائب ، وقال بعضهم : بل المراد الأنفس ، وقال آخرون : بل المراد نفس الأرض ، والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم ، وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود ، وقال آخرون : المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات ، والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ} (يوسف : 2).
ثم قال تعالى : {إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وفيه قولان : أحدهما : إن حفظ ذلك على الله هين ، والثاني : إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيراً على العباد ، ونظير هذه الآية قوله : {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِه إِلا فِى كِتَـابٍا إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (فاطر : 11).
[بم / ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 469
472
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سبباً لآخره ، كما تقول : قمت لأضربك فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب ، وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر ، ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع ، وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : "من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب" وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب ، وعدم كل ما لم يقع واجب أيضاً لأسباب أربعة أحدها : أن الله تعالى علم وقوعه ، فلو لم يقع انقلب العلم جهلاً ثانيها : أن الله أراد وقوعه ، فلو لم يقع انقلبت الإرادة تمنياً ثالثها : أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه ، فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزاً ، رابعها : أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذباً ، فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص ، ومن قدمها إلى الحدوث ، ولما كان ذلك ممتنعاً علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع ، وحينئذ يزول الغم والحزن ، عند ظهور هذه الخواطر وهانت عليه المحن والمصائب ، وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة ، ولكنهم يوافقون في العلم والخير ، وإذا كان الجبر لازماً في هاتين الصفتين ، فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع ، وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم ، وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية ، ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة ، ويمتنع وقوع ما يخالفها ، وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئاً من المؤثرات فهم لا بد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي ، وإذا كان اتفاقياً لم يكن اختيارياً ، فيكون الجبر لازماً ، فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء ، سواء أقروا به أو أنكروه ، فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية ، قالت المعتزلة : الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العيد متمكناً مختاراً ، وذلك من وجوه الأول : أن قوله : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة والثاني : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح وذلك خلاف قول المجبرة : إن الله تعالى / أراد كل ذلك منهم والثالث : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء ، فهو خلاف قول المجبرة : إن كل واقع فهو مراد الله تعالى الرابع : أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله : {لِّكَيْلا} وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض ، وأقول : العاقل يتعجب جداً من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 472
(1/4414)

المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي قرأ أبو عمرو وحده : {بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } قصراً ، وقرأ الباقون : {ءَاتَـاـاكُمْ } ممدوداً ، حجة أبي عمرو أن : {ءَاتَـاـاكُمْ } معادل لقوله : {فَاتَكُمْ} فكما أن الفعل للغائب في قوله : {فَاتَكُمْ} كذلك يكون الفعل للآني في قوله : {بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل ، وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوباً إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك ، ويكون فاعل الفعل في : {ءَاتَـاـاكُمْ } ضميراً عائداً إلى اسم الله سبحانه وتعالى والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه.
المسألة الثالثة : قال المبرد : ليس المراد من قوله : {يَسِيرٌ * لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ} نفي الأسى والفرح على الإطلاق بل معناه لا تحزنوا حزناً يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم ، ولا تفرحوا فرحاً شديد يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ودليل ذلك قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر ، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم ، وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً. واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد والجواب عنه أن كثيراً من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال : المحبة إرادة مخصوصة ، وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 472
473
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أن هذا بدل من قوله : {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} كأنه قال : لا يحب المختال ولا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغى فإذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا به بل يأمرون الناس بالبخل به ، وكل ذلك نتيجة فرحهم عند إصابته ، ثم قال بعد ذلك : {وَمَن يَتَوَلَّ} عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه القول الثاني : أن قوله : / {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله ، وهو في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ويخلوا ببيان نعته ، وهو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله : {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} وحذف الخبر كثير في القرآن كقوله : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} .
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قرأ نافع وابن عامر {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} ، وحذفوا لفظ {هُوَ} وكذلك {هُوَ} في مصاحف أهل المدينة والشأم ، وقرأ الباقون {هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} قال أبو علي : ينبغي أن هو في هذه الآية فصلاً لا مبتدأ ، لأن الفصل حذفه أسهل ، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب ، وقد يحذف فلا يخل بالمعنى كقوله : {إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا} (الكهف : 39).
المسألة الثالثة : قوله : {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} معناه أن الله غني فلا يعود ضرر عليه ببخل ذلك البخيل ، وقوله : {الْحَمِيدُ} كأنه جواب عن السؤال يذكر ههنا ، فإنه يقال : لما كان تعالى عالماً بأنه يبخل بذلك المال ولا يصرفه إلى وجوه الطاعات ، فلم أعطاه ذلك المال ؟
فأجاب بأنه تعالى حميد في ذلك الإعطاء ، ومستحق حيث فتح عليه أبواب رحمته ونعمته ، فإن قصر العبد في الطاعة فإن وباله عائد إليه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 473
475
ثم قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـاتِ} وفي تفسير البينات قولان : الأول : وهو قول مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة والثاني : وهو قول مقاتل بن حيان : أي أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة الله وإلى الإعراض عن غير الله ، والأول هو الوجه الصحيح لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات.
ثم قال تعالى : {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِا وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ} .
واعلم أن نظير هذه الآية قوله : {اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } (الشورى : 17) وقال : {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن : 7) وههنا مسائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 475
(1/4415)

المسألة الأولى : في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه. أحدها : وهو الذي أقوله أن مدار التكليف على أمرين : أحدهما : فعل ما ينبغي فعله والثاني : ترك ما ينبغي تركه ، والأول هو المقصود بالذات ، لأن المقصود بالذات لو كان هو الترك لوجب أن لا يخلق أحد ، لأن الترك كان حاصلاً في الأزل ، وأما فعل ما ينبغي فعله ، فإما أن يكون متعلقاً بالنفس ، وهو المعارف ، أو بالبدن وهو أعمال الجوارح ، فالكتاب هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من / الأفعال النفسانية ، لأن يتميز الحق من الباطل ، والحجة من الشبهة ، والميزان هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية ، فإن معظم التكاليف الشاقة في الأعمال هو ما يرجع إلى معاملة الخلق ، والميزان هو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص ، وأما الجديد ففيه بأس شديد ، وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي ، والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية ، والميزان إلى القوة العملية ، والحديد إلى دفع مالا ينبغي ، ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية ، ثم رعاية المصالح الجسمانية ، ثم الزجر عما لا ينبغي ، روعي هذا الترتيب في هذه الآية وثانيها : المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم : إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان ، أو مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد وثالثها : الأقوام ثلاثة : أما السابقون وهم يعاملون الخلق بمقتضى الكتاب ، فينصفون ولا ينتصفون ، ويحترزون عن مواقع الشبهات ، وإما مقتصدون وهم الذين ينصفون وينتصفون ، فلا بد لهم من الميزان ، وإما ظالمون وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون ولا بد لهم من الحديد والزجر ورابعها : الإنسان ، إما أن يكون في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة ومقام المقربين ، فههنا لا يسكن إلا إلى الله ، ولا يعمل إلا بكتاب الله ، كما قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وإما أن يكون في مقام الطريقة وهو مقام النفس اللوامة ، ومقام أصحاب اليمين ، فلا بد له من الميزان في معرفة الأخلاق حتى يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط ، ويبقى على الصراط المستقيم وإما أن يكون في مقام الشريعة وهو مقام النفس الأمارة ، وههنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضات الشاقة وخامسها : الإنسان إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فلا أنس له إلا بالكتاب/ أو صاحب الطلب والاستدلال فلا بد له من ميزان الدليل والحجة أو صاحب العناد واللجاج ، فلا بد وأن ينفى من الأرض بالحديد وسادسها : أن الدين هو إما لأصول وإما الفروع ، وبعبارة أخرى : إما المعارف وإما الأعمال ، فالأصول من الكتاب ، وأما الفروع : فالمقصود الأفعال التي فيها عدلهم ومصلحتهم وذلك بالميزان فإنه إشارة إلى رعاية العدل ، والحديد لتأديب من ترك ذينك الطريقين وسابعها : الكتاب إشارة إلى ما ذكر الله في كتابه من الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف ، والميزان إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكام المبنية على العدل والإنصاف وهو شأن الملوك ، والحديد إشارة إلى أنهم لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليهما بالسيف ، وهذا يدل على أن مرتبة العلماء وهم أرباب الكتاب مقدمة على مرتبة الملوك الذين هم أرباب السيف ، ووجوه المناسبات كثيرة ، وفيما ذكرناه تنبيه على الباقي.
جزء : 29 رقم الصفحة : 475
المسألة الثانية : ذكروا في : إنزال الميزان وإنزال الحديد ، قولين : الأول : أن الله تعالى أنزلهما من السماء ، روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ، وقال : مر قومك يزنوا به ، وعن ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان / والمقمعة والمطرقة والإبرة ، والمقعمة ما يحدد به ، ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال : "إن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد والنار والماء والملح". والقول الثاني : أن معنى هذا الإنزال الإنشاء والتهيئة ، كقوله تعالى : {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } (لزمر : 6) قال قطرب : {أَنزَلْنَـاهَا} (النور : 1) أي هيأناها من النزل ، يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ، ومنهم من قال هذا من جنس قوله : علفتها تبناً وماء بارداً ، وأكلت خبزاً ولبناً.
(1/4416)

المسألة الثالثة : ذكر في منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط ، والقسط والإقساط هو الإنصاف وهو أن تعطى قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك ، والعادل مقسط قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات : 9) والقاسط الجائر قال تعالى : {وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الجن : 15) وأما الحديد ففيه البأس الشديد فإن آلات الحروب متخذة منه ، وفيه أيضاً منافع كثيرة منها قوله تعالى : {وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} (الأنبياء : 8) ومنها أن مصالح العالم ، إما أصول ، وإما فروع ، أما الأصول فأربعة : الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة ، وذلك لأن الإنسان مضطر إلى طعام يأكله وثوب يلبسه وبناء يجلس فيه ، والإنسان مدني بالطبع فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه يشتغل كل واحد منهم بمهم خاص ، فحينئذ ينتظم من الكل مصالح الكل ، وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة ، ولا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض ، وذلك هو السلطان ، فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الحروف الأربعة ، أما الزراعة فمحتاجة إلى الحديد ، وذلك في كرب الأراضي وحفرها ، ثم عند تكون هذه الحبوب وتولدها لا بد من خبزها وتنقيتها ، وذلك لا يتم إلا بالحديد ، ثم الحبوب لا بد من طحنها وذلك لا يتم إلا بالحديد ، ثم لا بد من خبزها ولا يتم إلا بالنار ، ولا بد من المقدحة الحديدية ، وأما الفواكه فلا بد من تنظيفها عن قشورها ، وقطعها على الوجوه الموافقة للأكل ولا يتم ذلك إلا بالحديد ، وأما الحياكة فمعلوم أنه يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ثم يحتاج في قطع الثياب وخياطتها إلى الحديد ، وأما البناء فمعلوم أن كمال الحال فيه لا يحصل إلا بالحديد ، وأما أسباب السلطنة فمعلوم أنها لا تتم ولا تكمل إلا بالحديد/ وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ، ويظهر أيضاً أن الذهب لا يقوم مقام الحديد في شيء من هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيء من مصالح الدنيا ، ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا ، ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة ، جعله سهل الوجدان ، كثير الوجود ، والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود ، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده ، فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر ، جعل وجدانه أسهل ، ولهذا قال بعض الحكماء إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء ، فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة لمات الإنسان في الحال ، فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجداناً ، وهيأ أسباب التنفس وآلاته ، حتى إن الإنسان يتنفس دائماً بمقتضى طبعه من غير / حاجة فيه إلى تكلف عمل ، وبعد الهواء الماء ، إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلاً من تحصيل الهواء ، وبعد الماء الطعام ، ولما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء ، جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء ، ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة والعزة فكل ما كانت الحاجة إليه أشد ، كان وجدانه أسهل ، وكل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل ، والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جداً ، لا جرم كانت عزيزة جداً ، فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل ، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجداناً ، قال الشاعر :
جزء : 29 رقم الصفحة : 475
سبحان من خص العزيز بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس فمحتاج إلى أنفاسه
ثم قال تعالى : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُه وَرُسُلَه بِالْغَيْبِا إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى وليعلم الله من ينصره ، أي ينصر دينه ، وينصر رسله باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بالغيب أي غائباً عنهم. قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، ويقرب منه قوله تعالى : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد : 7).
المسألة الثانية : احتج من قال بحدوث علم الله بقوله : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} والجواب عنه أنه تعالى أراد بالعلم المعلوم ، فكأنه تعالى قال : ولتقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام ممن ينصره.
المسألة الثالثة : قال الجبائي : قوله تعالى : {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } فيه دلالة على أنه تعالى أنزل الميزان والحديد ، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط وأن ينصروا الرسول ، وإذا كان هذا مراده من الكل فقد بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك جوابه : أنه كيف يمكن أن يريد من الكل ذلك مع علمه بأن ضده موجود ، وأن الجمع بين الضدين محال ، وأن المحال غير مراد.
(1/4417)

المسألة الرابعة : لما كانت النصرة قد تكون ظاهرة ، كما يقع من منافق أو ممن مراده المنافع في الدنيا ، بين تعالى أن الذي أراده النصرة بالغيب ، ومعناه أن تقع عن إخلاص بالقلب ، ثم بين تعالى أنه قوي على الأمور عزيز لا يمانع.
جزء : 29 رقم الصفحة : 475
475
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ } واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات ، وأنه أنزل الميزان والحديد ، وأمر الخلق بأن / يقوموا بنصرتهم أتبع ذلك ببيان سائر الأشياء التي أنعم بها عليهم ، فبين أنه تعالى شرف نوحاً وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة ، ثم جعل في ذريتهما النبوة والكتاب فما جاء بعدهما أحد بالنبوة إلا وكان من أولادهما ، وإنما قدم النبوة على الكتاب ، لأن كمال حال النبي أن يصير صاحب الكتاب والشرع.
ثم قال تعالى : {فَمِنْهُم مُّهْتَدٍا وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ } أي فمن الذرية أو من المرسل إليهم ، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين ، والمعنى أن منهم مهتد ومنهم فاسق ، والغلبة للفساق ، وفي الفاسق ههنا قولان : الأول : أنه الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن ، لأن هذا الاسم يطلق على الكافر وعلى من لا يكون ، كذلك إذا كان مرتكباً للكبيرة ، والثاني : أن المراد بالفاسق ههنا الكافر ، لأن الآية دلت على أنه تعالى جعل الفساق بالضد من المهتدين ، فكأن المراد أن فيهم من قبل الدين واهتدى ، ومنهم من لم يقبل ولم يهتد ، ومعلوم أن من كان كذلك كان كافراً ، وهذا ضعيف ، لأن المسلم الذي عصى قد يقال فيه : إنه لم يهتد إلى وجه رشده ودينه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 475
477
قوله تعالى : {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَـاهُ الانجِيلَ } .
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : معنى قفاه أتبعه بعد أن مضى ، والمراد أنه تعالى أرسل بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام فأرسله الله تعالى بعدهم وآتاه الإنجيل.
المسألة الثانية : قال ابن جني قرأ الحسن : {وَقَفَّيْنَا عَلَى } بفتح الهمزة ، ثم قال : هذا مثال لا نظير له ، لأن أفعيل وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته ، لأنه يستخرج به الأحكام ، والتوراة فوعلة من ورى الزند يرى إذا أخرج النار ، ومثله الفرقان وهو فعلان من فرقت بين الشيئين ، فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة لأنه لا نظير له ، وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع وله وجهان أحدهما : أنه شاذ كما حكى بعضهم في البرطيل وثانيهما : أنه ظن الإنجيل أعجمياً فحرف مثاله تنبيهاً على كونه أعجمياً.
قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق لله تعالى وكسب للعبد ، قالوا : لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية ، قال القاضي : المراد بذلك أنه تعالى لطف بهم حتى قويت دواعيهم إلى الرهبانية ، التي هي تحمل الكلفة الزائدة على ما يجب من الخلوة واللباس الخشن والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، على أنا وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا أيضاً ، وذلك لأن حال الاستواء يمتنع حصول الرجحان وإلا فقد حصل الرجحان عند الاستواء والجمع بينهما متناقض ، وإذا كان الحصول عند الاستواء ممتنعاً ، كان عند المرجوحية أولى أن يصير ممتنعاً ، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.
جزء : 29 رقم الصفحة : 477
المسألة الثانية : قال مقاتل : المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعض ، كما وصف الله أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله : {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 29).
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرىء (رآفة) على فعالة.
(1/4418)

المسألة الرابعة : الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب ، كخشيان من خشي ، وقرىء : (ورهبانية) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب كراكب وركبان ، والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن ، والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف ، عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل ، فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف ، وروى ابن مسعود أنه عليه السلام ، قال : "يا ابن مسعود : أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة ، كلها في النار إلا ثلاث فرق ، فرقة آمنت بعيسى عليه السلام/ وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين ، فلبس العباء ، وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله : {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً} إلى آخر الآية".
المسألة الخامسة : لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم ، بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ، ولذلك قال تعالى بعده : {مَا كَتَبْنَـاهَا عَلَيْهِمْ} .
المسألة السادسة : منصوبة بفعل مضمر ، يفسره الظاهر ، تقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، وقال أبو علي الفارسي : الرهبانية لا يستقيم حملها على {وَمَا جَعَلْنَآ} ، لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى ، وأقول : هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين ، ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء.
/ ثم قال تعالى : {مَا كَتَبْنَـاهَا عَلَيْهِمْ} أي لم نفرضها نحن عليهم.
أما قوله : {إِلا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} ففيه قولان : أحدهما : أنه استثناء منقطع. أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني : أنه استثناء متصل ، والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى ، والمراد أنها ليست واجبة ، فإن المقصود من فعل الواجب ، دفع العقاب وتحصيل رضا الله ، أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب ، بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى.
جزء : 29 رقم الصفحة : 477
أما قوله تعالى : {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَـاَاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُم وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} ففيه أقوال : أحدها : أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها ، بل ضموا إليها التثليث والاتحاد ، وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله : {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ} ، وثانيها : أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال ، لكن لا لهذا الوجه ، بل لوجه آخر ، وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها : أنا لما كتباها عليهم تركوها ، فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب ورابعها : أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا به ، وقوله : {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا} أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به ، ويدل على هذا ما روي أنه عليه السلام قال : "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" وخامسها : أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ، ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان ، وما كانوا مقتدين بهم في العمل ، فهم الذين ما رعوها حق رعايتها ، قال عطاء : لم يرعوها كما رعاها الحواريون ، ثم قال : {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ} والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهراً وباطناً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 477
477
/ اعلم أنه لما قال في الآية الأولى : {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم} أي من قوم عيسى : {أَجْرَهُمْ } (الحديد : 27) قال في هذه الآية : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } والمراد به أولئك فأمرهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ثم قال : {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي نصيبين من رحمته لإيمانكم أولاً بعيسى ، وثانياً بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ونظيره قوله تعالى : { أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} (القصص : 54) عن ابن عباس أنه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول وأسلموا فجعل الله لهم أجرين ، وههنا سؤالان :
(1/4419)

السؤال الأول : ما الكفل في اللغة ؟
الجواب : قال المؤرج : الكفل النصيب بلغة هذيل وقال غيره بل هذه لغة الحبشة ، وقال المفضل بن مسلمة : الكفل كساء يديره الراكب حول السنام حتى يتمكن من القعود على البعير.
السؤال الثاني : أنه تعالى لما آتاهم كفلين وأعطى المؤمنين كفلاً واحداً كان حالهم أعظم والجواب : روى أن أهل الكتاب افتخروا بهذا السبب على المسلمين ، وهو ضعيف لأنه لا يبعد أن يكون النصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين ، فإن المال إذا قسم بنصفين كان الكفل الواحد نصفاً ، وإذا قسم بمائة قسم كان الكفل الواحد جزء من مائة جزء ، فالنصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من عشرين نصيباً من القسمة الثانية ، فكذا ههنا ، ثم قال تعالى : {وَيَجْعَل لَّكُمْ} أي يوم القيامة {نُورًا تَمْشُونَ بِه } وهو النور المذكور في قوله {يَسْعَى نُورُهُم} (الحديد : 12) {وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ما أسلفتم من المعاصي {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
جزء : 29 رقم الصفحة : 477
478
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي هذه آية مشكلة وليس للمفسرين فيها كلام واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها.
واعلم أن أكثر المفسرين على أن (لا) ههنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب ، وقال أبو مسلم الأصفهاني وجمع آخرون : هذه الكلمة ليست بزائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله تعالى وتوفيقه. أما القول المشهور : وهو أن هذه اللفظة زائدة ، فاعلم أنه لا بد ههنا من تقديم مقدمة وهي : أن أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل كانوا يقولون : الوحي والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلا لنا ، والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين ، إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وعدهم / بالأجر العظيم على ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم وغير حاصلة إلا في قومهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ، وأطنبنا في الوعد والوعيد ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً أما القول الثاني : وهو أن لفظة (لا) غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : {أَلا يَقْدِرُونَ} عائد إلى الرسول وأصحابه ، والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، وأنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه ، ثم قال : {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} أي وليعلموا أن الفضل بيد الله ، فيصير التقدير : إنا فعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله وإحسانه في أقوام معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله ، واعلم أن هذا القول ليس فيه إلا أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} تقدير وليعتقدوا أن الفضل بيد الله وأما القول الأول : فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجد ، ومن المعلوم أن الإضمار أولى من الحذف ، لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً ، أماإذا افتقر إلى الحذف كان ظاهره موهماً للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى والله أعلم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 478
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف قرىء : (لكي يعلم) ، و(لكيلا يعلم) ، و(ليعلم) ، و(لأن يعلم) ، بأدغام النون في الياء ، وحكى ابن جني في "المحتسب" عن قطرب : أنه روي عن الحسن : (ليلا) ، بكسر اللام وسكون الياء ، وحكى ابن مجاهد عنه ليلاً بفتح اللام وجزم الياء من غير همز ، قال ابن جني : وما ذكر قطرب أقرب ، وذلك لأن الهمزة إذا حذفت بقي لنلا فيجب إدغام النون في اللام فيصير للا فتجتمع اللامات فتجعل الوسطى لسكونها وانكسار ما قبلها ياء فيصير ليلاً ، وأما رواية ابن مجاهد عنه ، فالوجه فيه أن لام الجر إذا أضفته إلى المضمر فتحته تقول له : فمنهم من قاس المظهر عليه ، حكى أبو عبيدة أن بعضهم قرأ : {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إبراهيم : 46).
وأما قوله تعالى : {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} أي في ملكه وتصرفه واليد مثل {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } لأنه قارد مختار يفعل بحسب الاختيار {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} والعظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيماً/ والمراد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلّم في نبوته وشرعه وكتابه ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 478
482
(1/4420)

سورة المجادلة
وهي عشرون وآيتان مدنية
جزء : 29 رقم الصفحة : 482
487
روي أن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت رآها زوجها وهي تصلي ، وكانت حسنة الجسم ، وكان بالرجل لمم ، فلما سلمت راودها ، فأبت ، فغضب ، وكان به خفة فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت : إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في ، فلما خلا سني وكثر ولدي جعلني كأمه ، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ، ثم ههنا روايتان : يروي أنه عليه السلام قال لها : "ما عندي في أمرك شيء" وروي أنه عليه السلام قال لها : "حرمت عليه" فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقاً ، وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليَّ ، فقال : "حرمت عليه" فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي ، وكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "حرمت عليه" هتفت وشكت إلى الله ، فبينما هي كذلك إذ تربد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فنزلت هذه الآية ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى زوجها ، وقال : "ما حملك على ما صنعت ؟
فقال : الشيطان فهل من رخصة ؟
فقال : نعم ، وقرأ عليه الأربع آيات ، وقال له : هل تستطيع العتق ؟
فقال : لا والله ، فقال : هل تستطيع الصوم ؟
فقال : لا والله لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري ولظننت أني أموت ، فقال له : هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً ؟
فقال : لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة ، فأعانه بخمسة عشر صاعاً ، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً" واعلم أن في هذا الخبر مباحث :
الأول : قال أبو سليمان الخطابي : ليس المراد من قوله في هذا الخبر : (وكان به لمم) ، الخبل والجنون إذ لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء ، بل معنى اللمم هنا : الإلمام بالنساء ، وشدة الحرص ، والتوقان إليهن.
/ البحث الثاني : أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية ، لأنه في التحريم أوكد ما يمكن ، وإن كان ذلك الحكم صار مقرراً بالشرع كانت الآية ناسخة له ، وإلا لم يعد نسخاً ، لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في عادة الجاهلية ، لكن الذي روى أنه صلى الله عليه وسلّم قال لها : "حرمت" أو قال : "ما أراك إلا قد حرمت" كالدلالة على أنه كان شرعاً. وأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 487
البحث الثالث : أن هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ، ولم يبق له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهم ، ولنرجع إلى التفسير ، أماقوله : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {قَدْ} معناه التوقع ، لأن رسول الله والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنها.
المسألة الثانية : كان حمزة يدغم الدال في السين من : {قَدْ سَمِعَ} وكذلك في نظائره ، واعلم أن الله تعالى حكى عن هذه المرأة أمرين أولهما : المجادلة وهي قوله : {تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} أي تجادلك في شأن زوجها ، وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها : "حرمت عليه" قالت : والله ما ذكر طلاقاً وثانيهما : شكواها إلى الله ، وهو قولها : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي ، وقولها : إن لي صبية صغاراً ، ثم قال سبحانه : {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ } والمحاورة المراجعة في الكلام ، من حار الشيء يحور حوراً ، أي رجع يرجع رجوعاً ، ومنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، ومنه فما أحار بكلمة/ أي فما أجاب ، ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ} أي يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 487
488
قوله تعالى : {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآا ِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } اعلم أن قوله : {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : ما يتعلق بالمباحث اللغوية والفقهية ، فنقول في هذه الآية بحثان.
أحدهما : أن الظهار ما هو ؟
. الثاني : أن المظاهر من هو ؟
وقوله : {مِن نِّسَآا ِهِمْ} فيه بحث : وهو أن المظاهر منها من هي ؟
.
أما البحث الأول : وهو أن الظهار ما هو ؟
ففيه مقامان :
المقام الأول : في البحث عن هذه اللفظة بحسب اللغة وفيه قولان : أحدهما : أنه عبارة عن قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو مشتق من الظهر.
(1/4421)

/ والثاني : وهو صاحب النظم ، أنه ليس مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد ، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ ، بل الظهر ههنا مأخوذ من العلو ، ومنه قوله تعالى : {فَمَا اسْطَـاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} (الكهف : 97) أي يعلوه ، وكل من علا شيئاً فقد ظهره ، ومنه سمي المركوب ظهراً ، لأن راكبه يعلوه ، وكذلك امرأة الرجل ظهره ، لأنه يعلوها بملك البضع ، وإن لم يكن من ناحية الظهر ، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له ، ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلقتها ، وفي قولهم : أنت عليَّ كظهر أمي ، حذف وإضمار ، لأن تأويله : ظهرك علي ، أي ملكي إياك ، وعلوي عليك حرام ، كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي.
المقام الثاني : في الألفاظ المستعملة بهذا المعنى في عرف الشريعة. الأصل في هذا الباب أن يقال : أنت علي كظهر أمي ، فإما أن يكون لفظ الظهر ، ولفظ الأم مذكورين وإما أن يكون لفظ الأم مذكوراً دون لفظ الظهر ، وإما أن يكون لفظ الظهر مذكوراً دون لفظ الأم ، وإما أن لا يكون واحد منهما مذكوراً ، فهذه أقسام أربعة.
القسم الأول : إذا كانا مذكورين وهو معتبر بالاتفاق ، ثم لا مناقشة في الصلات إذا انتظم الكلام ، فلو قال : أنت علي كظهر أمي ، أو أنت مني كظهر أمي ، فهذه الصلات كلها جائزة ولو لم يستعمل صلة ، وقال : أنت كظهر أمي ، فقيل : إنه صريح ، وقيل : يحتمل أن يريد إنها كظهر أمه في حق غيره ، ولكن هذا الاحتمال كما لو قال لامرأته : أنت طالق ، ثم قال : أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
القسم الثاني : أن تكون الأم مذكورة ، ولا يكون الظهر مذكوراً ، وتفصيل مذهب الشافعي فيه أن الأعضاء قسمان ، منها ما يكون التشبيه بها غير مشعر بالإكرام ، ومنها ما يكون التشبيه بها مشعر بالإكرام ، أما الأول : فهو كقوله : أنت علي كرجل أمي ، أو كيد أمي ، أو كبطن أمي ، وللشافعي فيه قولان : الجديد أن الظهار يثبت ، والقديم أنه لا يثبت ، أما الأعضاء التي يكون التشبيه بها سبباً للإكرام ، فهو كقوله : أنت علي كعين أمي ، أو روح أمي ، فإن أراد الظهار كان ظهاراً ، وإن أراد الكرامة فليس بظهار ، فإن لفظه محتمل لذلك ، وإن أطلق ففيه تردد ، هذا تفصيل مذهب الشافعي ، وأما مذهب أبي حنيفة ، فقال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن" : إذا شبه زوجته بعضو من الأم يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً ، وهو قوله : أنت علي كيد أمي أو كرأسها ، أما إذا شبهها بعضو من الأم يحرم عليه النظر إليه كان ظهاراً/ كما إذا قال : أنت علي كبطن أمي أو فخذها ، والأقرب عندي هو القول القديم للشافعي ، وهو أنه لا يصح الظهار بشيء من هذه الألفاظ ، والدليل عليه أن حل الزوجة كان ثابتاً ، وبراءة الذمة عن وجوب الكفارة كانت ثابتة ، والأصل في الثابت البقاء على ما كان ترك العمل به فيما إذا قال : أنت علي / كظهر أمي لمعنى مفقود في سائر الصور ، وذلك لأن اللفظ المعهود في الجاهلية هو قوله : أنت علي كظهر أمي ، ولذلك سمي ظهاراً ، فكان هذا اللفظ بسبب العرف مشعراً بالتحريم ، ولم يوجد هذا المعنى في سائر الألفاظ ، فوجب البقاء على حكم الأصل.
القسم الثالث : ما إذا كان الظهر مذكوراً ولم تكن الأم مذكورة ، فهذا يدل على ثلاثة مراتب : المرتبة الأولى : أن يجري التشبيه بالمحرمات من النسب والرضاع ، وفيه قولان : القديم أنه لا يكون ظهاراً ، والقول الجديد أنه يكون ظهاراً ، وهو قول أبي حنيفة. المرتبة الثانية : تشبيهها بالمرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً مثل أن يقول لامرأته : أنت علي كظهر فلانة ، وكان طلقها والمختار عندي أن شيئاً من هذا لا يكون ظهاراً ، ودليله ما ذكرناه في المسألة السالفة ، وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ} وظاهر هذه الآية يقتضي حصول الظهار بكل محرم فمن قصره على الأم فقد خص والجواب : أنه تعالى لما قال بعده : {مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِم إِنْ أُمَّهَـاتُهُمْ إِلا الَّـا ئِى وَلَدْنَهُمْ } دل على أن المراد هو الظهار بذكر الأم ، ولأن حرمة الأم أشد من حرمة سائر المحارم ، فنقول : المقتضي لبقاء الحل قائم على ما بيناه ، وهذا الفارق موجود ، فوجب أن لا يجوز القياس.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
القسم الرابع : ما إذا لم يذكر لا الظهر ولا الأم ، كما لو قال : أنت علي كبطن أختي ، وعلى قياس ما تقدم يجب أن لا يكون ذلك ظهاراً.
البحث الثاني : في المظاهر ، وفيه مسألتان :
(1/4422)

المسألة الأولى : قال الشافعي رحمه الله : الضابط أن كل من صح طلاقه صح ظهاره ، فعلى هذا ظهار الذمي عنده صحيح ، وقال أبو حنيفة لا يصح ، واحتج الشافعي بعموم قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} وأما القياس فمن وجهين الأول : أن تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك ، بدليل صحة طلاقه ، وإذا ثبت هذا وجب أن يصح هذا التصرف منه قياساً على سائر التصرفات الثاني : أن الكفارة إنما وجبت على المسلم زجراً له عن هذا الفعل الذي هو منكر من القور وزور ، وهذا المعنى قائم في حق الذمي فوجب أن يصح ، واحتجوا لقول أبي حنيفة بهذه الآية من وجهين الأول : احتج أبو بكر الرازي بقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} وذلك خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين الثاني : من لوازم الظهار الصحيح ، وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق بدليل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَالِكُمْ تُوعَظُونَ بِه ا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (المجادلة : 3 ـ 4) وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع ، لأنه لو وجب لوجب ، إما مع الكفر وهو باطل بالإجماع ، أو بعد الإيمان وهو باطل ، لقوله عليه السلام : "الإسلام يجب ما قبله" والجواب : عن الأول / من وجوه أحدها : أن قوله : {مِنكُم} خطاب مشافهة فيتناول جميع الحاضرين ، فلم قلتم : إنه مختص بالمؤمنين ؟
سلمنا أنه مختص بالمؤمنين ، فلم قلتم : إن تخصيصه بالمؤمنين في الذكر يدل على أن حال غيرهم بخلاف ذلك ، لا سيما ومن مذهب هذا القائل : أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن حال ما عداه بخلافه ، سلمنا بأنه يدل عليه ، لكن دلالة المفهوم أضعف من دلالة المنطوق ، فكان التمسك بعموم قوله : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ} أولى ، سلمنا الاستواء في القوة ، لكن مذهب أبي حنيفة أن العام إذا ورد بعد الخاص كان ناسخاً للخاص ، والذي تمسكنا به وهو قوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
{وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} (المجادلة : 3) متأخر في الذكر عن قوله : {الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِنكُم} والظاهر أنه كان متأخراً في النزول أيضاً لأن قوله : {الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِنكُم} ليس فيه بيان حكم الظهار ، وقوله : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} فيه بيان حكم الظهار ، وكون المبين متأخراً في النزول عن المجمل أولى والجواب عن الثاني من وجوه الأول : أن لوازمه أيضاً أنه متى عجز عن الصوم اكتفى منه بالإطعام فههنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفى منه بالإطعام ، وإن لم يتحقق العجز فقد زال السؤال ، والثاني : أن الصوم يدل عن الإعتاق ، والبدل أضعف من المبدل ، ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره ، فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب المنع ، مع صحة الظهار ، ففوات أضعف اللازمين كيف يمنع من القول بصحة الظهار الثالث : قال القاضي حسين من أصحابنا إنه يقال : إن أردت الخلاص من التحريم ، فأسلم وصم ، أما قوله عليه والسلام : "الإسلام يجب ما قبله" قلنا : إنه عام ، والتكليف بالتكفير خاص ، والخاص مقدم على العام ، وأيضاً فنحن لا نكلفه بالصوم بل نقول : إذا أردت إزالة التحريم فصم ، وإلا فلا تصم.
المسألة الثانية : قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك رحمهم الله : لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو أن تقول المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أمي ، وقال الأزواعي : هو يمين تكفرها ، وهذا خطأ لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين ، وهو الأصل فكيف يلزم المرأة ذلك ؟
ولأن الظهار يوجب تحريماً بالقول ، والمرأة لا تملك ذلك بدليل أنها لا تملك الطلاق.
(1/4423)

المسألة الثالثة : قال الشافعي وأبو حنيفة إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم ، بطل الظهار بمضي اليوم ، وقال مالك وابن أبي ليلى ، هو مظاهر أبداً لنا أن التحريم الحاصل بالظهار قابل للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير ، وإذا كان قابلاً للتوقيت ، فإذا وقته وجب أن يتقدر بحسب ذلك التوقيت قياساً على اليمين ، فهذا ما يتعلق من المسائل بقوله تعالى : {الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ} ، أما قوله تعالى : {مِن نِّسَآاـاِهِمْ} فيتعلق به أحكام المظاهر منه ، واختلفوا في أنه هل يصح الظهار عن الأمة ؟
فقال أبو حنيفة والشافعي : لا يصح ، وقال مالك والأوزاعي : يصح ، حجة الشافعي أن الحل كان ثابتاً ، والتكفير لم يكن واجباً ، والأصل في الثابت البقاء ، والآية لا تتناول هذه الصورة لأن قوله : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} (المجادلة : 3) يتناول الحرائر دون الإماء ، والدليل عليه قوله : {أَوْ نِسَآاـاِهِنَّ} (النور : 31) والمفهوم منه الحرائر / ولولا ذلك لما صح عطف قوله : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ} لأن الشيء لا يعطف على نفسه ، وقال تعالى : {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ} (النساء : 23) فكان ذلك على الزوجات دون ملك اليمين.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
المسألة الرابعة : فيما يتعلق بهذه الآية من القراءات ، قال أبو علي : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ} بغير الألف ، وقرأ عاصم : {يُظَـاهِرُونَ} بضم الياء وتخفيف الظاء والألف ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي يظاهرون بفتح الياء وبالألف مشددة الظاء ، قال أبو علي : ظاهر من امرأته ، ظهر مثل ضاعف وضعف ، وتدخل التاء على كل واحد منهما فيصير تظاهر وتظهر ، ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر ، ثم تدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها ، فيصير يظاهر ويظهر ، وتفتح الياء التي هي حرف المضارعة ، لأنها للمطاوعة كما يفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع/ دحرجته فتدحرج ، وإنما فتح الياء في يظاهر ويظهر ، لأنه المطاوع كما أن يتدحرج كذلك ، ولأنه على وزنهما ، وإن لم يكونا للإلحاق ، وأما قراءة عاصم يظاهرون فهو مشتق من ظاهر يظاهر إذا أتى بمثل هذا التصرف.
المسألة الخامسة : لفظة : {مِنكُم} في قوله : {الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِنكُم} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصة دون سائر الأمم ، وقوله تعالى : {مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِمْ } فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية المفضل : {أُمَّهَـاتِهِمْ } بالرفع والباقون بالنصب على لفظ الخفض ، وجه الرفع أنه لغة تميم ، قال سيبويه : وهو أقيس الوجهين ، وذلك أن النفي كالاستفهام فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه ، فكذا ينبغي أن لا يغير النفي الكلام عما كان عليه ، ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز والأخذ في التنزيل بلغتهم أولى ، وعليها جاء قوله : {مَا هَـاذَا بَشَرًا} (يوسف : 31) ووجهه من القياس أن ما تشبه ليس في أمرين أحدهما : أن : (ما) تدخل على المبتدأ والخبر ، كما أن (ليس) تدخل عليهما والثاني : أن (ما) تنفي ما في الحال ، كما أن (ليس) تنفي ما في الحال ، وإذا حصلت المشابهة من وجهين وجب حصول المساواة في سائر الأحكام ، إلا ما خص بالدليل قياساً على باب مالا ينصرف.
المسألة الثانية : في الآية إشكال : وهو أن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو شبه الزوجة بالأم ، ولم يقل : إنها أم ، فكيف يليق أن يقال على سبيل الإبطال لقوله : {مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِمْ } وكيف يليق أن يقال : {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } والجواب : أما الكذب إنما لزم لأن قوله : أنت علي كظهر أمي ، إما أن يجعله إخباراً أو إنشاء وعلى التقدير الأول أنه كذب ، لأن الزوجة محللة والأم محرمة ، وتشبيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب ، وإن جعلناه إنشاء كان ذلك أيضاً كذباً ، لأن كونه إنشاء معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة ، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه ، كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم يكون كذباً وزوراً ، وقال / بعضهم : إنه تعالى إنما وصفه بكونه : {مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } لأن الأم محرمة تحريماً مؤبداً ، والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً ، فلا جرم كان ذلك منكراً من القول وزوراً ، وهذا الوجه ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي وقوع المشابهة بينهما من كل الوجوه ، فلا يلزم من تشبيه الزوجة بالأم في الحرمة تشبيهها بها في كون الحرمة مؤبدة ، لأن مسمى الحرمة أعم من الحرمة المؤبدة والمؤقتة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
(1/4424)

قوله تعالى : {إِنْ أُمَّهَـاتُهُمْ إِلا الَّـا ئِى وَلَدْنَهُم وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } أما الكلام في تفسير لفظة اللائي ، فقد تقدم في سورة الأحزاب عند قوله : {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـا ـِاى تُظَـاهِرُونَ} (الأحزاب : 4) ثم في الآية سؤالان : وهو أن ظاهرها يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة ، وهذا مشكل ، لأنه قال في آية آخرى : {وَأُمَّهَـاتُكُمُ الَّـاتِى أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء : 23) وفي آية أخرى : {وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) ولا يمكن أن يدفع هذا السؤال بأن المعنى من كون المرضعة أماً ، وزوجة الرسول أماً ، حرمة النكاح ، وذلك لأنا نقول : إن بهذا الطريق ظهر أنه لا يلزم من عدم الأمومة الحقيقية عدم الحرمة ، فإذاً لا يلزم من عدم كون الزوجة أماً عدم الحرمة ، وظاهر الآية يوهم أنه تعالى استدل بعدم الأمومة على عدم الحرمة ، وحينئذ يتوجه السؤال والجواب : أنه ليس المراد من ظاهر الآية ما ذكره السائل بل تقدير الآية كأنه قيل : الزوجة ليست بأم ، حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ، ولم يرد الشرع بجعل هذا اللفظ سبباً لوقوع الحرمة حتى تحصل الحرمة ، فإذاً لا تحصل الحرمة هناك ألبتة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إما من غير التوبة لمن شاء كما قال : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } أو بعد التوبة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
488
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } قال الزجاج : {الَّذِينَ} رفع بالابتداء وخبره فعليهم تحرير رقبة ، ولم يذكر عليهم لأن في الكلام دليلاً عليه ، وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة. أما قوله تعالى : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فاعلم أنه كثر اختلاف الناس في تفسير هذه الكلمة ، ولا بد أولاً من بيان أقوال أهل العربية في هذه الكلمة ، وثانياً من بيان أقوال أهل الشريعة ، وفيها مسائل :
/ المسألة الأولى : قال الفراء : لا فرق في اللغة بين أن يقال : يعودون لما قالوا ، وإلى ما قالوا وفيما قالوا ، أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان ، كقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاـانَا لِهَـاذَا} (الأعراف : 43) وقال : {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 23) وقال تعالى : {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ} (هود : 36) وقال : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة : 5).
المسألة الثانية : لفظ {مَا قَالُوا } في قوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فيه وجهان أحدهما : أنه لفظ الظهار ، والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ والثاني : أن يكون المراد بقوله : {لِمَا قَالُوا } المقول فيه ، وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه ، ونظيره قوله تعالى : {وَنَرِثُه مَا يَقُولُ} (مريم : 80) أي ونرثه المقول ، وقال عليه السلام : "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" وإنما هو عائد في الموهوب ، ويقول الرجل : اللهم أنت رجاؤنا ، أي مرجونا ، وقال تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) أي الموقن به ، وعلى هذا معنى قوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أي يعودون إلى الشيء الذي قالوا فيه ذلك القول ، ثم إذا فسرنا هذا اللفظ بالوجه الأول فنقول : قال أهل اللغة ، يجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي فعله مرة أخرى ، ويجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي نقض ما فعل ، وهذا كلام معقول ، لأن من فعل شيئاً ثم أراد أن يقال مثله ، فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضاً ، وأيضاً من فعل شيئاً ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه ، لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعود إليه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
(1/4425)

المسألة الثالثة : ظهر مما قدمنا أن قوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة ، ويحتمل أن يكون المراد منه ، ثم يعودون إلى تكوين مثله مرة أخرى ، أما الاحتمال الأول فهو الذي ذهب إليه أكثر المجتهدين واختلفوا فيه على وجوه : الأول : وهو قول الشافعي أن معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم ، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع منه من إيقاع التحريم ، ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق ، فذاك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم ، فحينئذ تجب عليه الكفارة ، واحتج أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن" على فساد هذا القول من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } وثم تقتضي التراخي ، وعلى هذا القول يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ ، وذلك خلاف مقتضى الآية الثاني : أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها/ فتشبيه الزوجة بالأم لا يقتضي حرمة إمساك الزوجة ، فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لقوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب أن لا يفسر العود بهذا الإمساك والجواب عن الأول : أن هذا أيضاً وارد عى قول أبي حنيفة فإنه جعل تفسير العود استباحة الوطء ، فوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي ، مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك ، فثبت أن هذا الإشكال وارد عليه أيضاً ، ثم نقول : إنه ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه ، لا يحكم عليه بكونه عائداً ، فقد تأخر كونه عائداً عن / كونه مظاهراً بذلك القدر من الزمان ، وذلك يكفي في العمل بمقتضى كلمة : ثم والجواب عن الثاني : أن الأم يحرم إمساكها على سبيل الزوجية ويحرم الاستمتاع بها ، فقوله : أنت علي كظهر أمي ، ليس فيه بيان أن التشبيه وقع في إمساكها على سبيل الزوجية ، أو في الاستمتاع بها ، فوجب حمله على الكل ، فقوله : أنت علي كظهر أمي ، يقتضي تشبيهها بالأم في حرمة إمساكها على سبيل الزوجية ، فإذا لم يطلقها فقد أمسكها على سبيل الزوجية ، فكان هذا الإمساك مناقضاً لمقتضى قوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب الحكم عليه بكونه عائداً ، وهذا كلام ملخص في تقرير مذهب الشافعي الوجه الثاني : في تفسير العود ، وهو قول أبي حنيفة : أنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة ، قالوا : وذلك لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ، ثم قصد استباحة هذه الأشياء كان ذلك مناقضاً لقوله : أنت علي كظهر أمي ، واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، لأنه لما شبهها بالأم ، لم يبين أنه في أي الأشياء شبهها بها ، فليس صرف هذا التشبيه إلى حرمة الاستمتاع ، وحرمة النظر أولى من صرفه إلى حرمة إمساكها على سبيل الزوجية ، فوجب أن يحمل هذا التشبيه على الكل ، وإذا كان كذلك ، فإذا أمسكها على سبيل الزوجية لحظة ، فقد نقض حكم قوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب أن يتحقق العود الوجه الثالث : في تفسير العود وهو قول مالك : أن العود إليها عبارة عن العزم على جماعها وهذا ضعيف ، لأن القصة إلى جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة القصد إلى استحلال جماعها ، وحينئذ نرجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله الوجه الرابع : في تفسير العود وهو قول طاوس والحسن البصري : أن العود إليها عبارة عن جماعها ، وهذا خطأ لأن قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } بفاء التعقيب في قوله : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يقتضي كون التكفير بعد العود ، ويقتضي قوله : {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } أن يكون التكفير قبل الجماع ، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون التكفير بعد العود ، وقبل الجماع ، جب أن يكون العود غير الجماع ، واعلم أن أصحابنا قالوا : العود المذكور ههنا ، هب أنه صالح للجماع ، أو للعزم على الجماع ، أو لاستباحة الجماع ، إلا أن الذي قاله الشافعي رحمه الله ، هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود ، وأما الباقي فزيادة لا دليل عليها ألبتة.
(1/4426)

الاحتمال الثاني : في قوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ} أي يفعلون مثل ما فعلوه ، وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضاً وجوه الأول : قال الثوري : العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام ، وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار ، فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، فقال : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} يريد في الجاهلية : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أي في الإسلام والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية ، فكفارته كذا وكذا ، قال أصحابنا هذا القول ضعيف لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة : ثم وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئاً غير الظهار ، فإن قالوا : المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام ، والعرب / تضمر لفظ كان ، كما في قوله : {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ} أي ما كانت تتلو الشياطين ، قلنا : الإضمار خلاف الأصل القول الثاني : قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد ، فإن لم يكن يكرر لم يكن عوداً ، وهذا قول أهل الظاهر ، واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يدل على إعادة ما فعلوه ، وهذا لا يكون إلا بالتكرير ، وهذا أيضاً ضعيف من وجهين : الأول : أنه لو كان المراد هذا لكان يقول ، ثم يعيدون ما قالوا الثاني : حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله الكفارة ، وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال : كنت لا أصبر عن الجماع فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعته فأتيت رسول الله فأخبرته بذلك وقلت : أمض في حكم الله ، فقال : "أعتق رقبة" فأوجب الرسول عليه السلام عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى العود ، هو أن يحلف على ما قال أولاً من لفظ الظهار ، فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على مالو قال في بعض الأطعمة ، إنه حرام عليَّ كلحم الآدمي ، فإنه لا تلزمه الكفارة ، فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين ، وهذا أيضاً ضعيف لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
أما قوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار ، فللشافعي قولان : أحدهما : أنه يحرم الجماع فقط القول الثاني : وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ودليله وجوه الأول : قوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } فكان ذلك عاماً في جميع ضروب المسيس ، من لمس بيد أو غيرها والثاني : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم ، فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه ، فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك الثالث : روى عكرمة : "أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فقال اعتزلها حتى تكفر".
المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً ، فقال الشافعي وأبو حنيفة : لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد ، وأراد بالتكرار التأكيد ، فإنه يكون عليه كفارة واحدة ، وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة ، دليلنا أن قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة ، فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة ، والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى ، أو لكفارة ثانية والأول باطل لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول وتكوين الكائن محال ، ولأن تأخر العلة عن الحكم محال ، فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة / ثانية ، واحتج مالك بأن قوله : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ} يتناول من ظاهر مرة واحدة ، ومن ظاهر مراراً كثيرة ، ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة ، فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار ، سواء كان مرة واحدة أو مراراً كثيرة والجواب : أنه تعالى قال : {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَا فَكَفَّـارَتُه ا إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـاكِينَ} (المائدة : 89) فهذا يقتضي أن لا يجب في الإيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة ، ولما كان باطلاً ، فكذا ما قلتموه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
(1/4427)

المسألة الثالثة : رجل تحته أربعة نسوة فظاهر منهن بكلمة واحدة وقال : أنتن علي كظهر أمي ، للشافعي قولان : أظهرهما أنه يلزمه أربع كفارات ، نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر منهن ، ودليله ما ذكرنا ، أنه ظاهر عن هذه ، فلزمه كفارة بسبب هذا الظهار ، وظاهر أيضاً عن تلك ، فالظهار الثاني لا بد وأن يوجب كفارة أخرى.
المسألة الرابعة : الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسة ، فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة ، وهو قول أكثر أهل العلم ، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق رحمهم الله ، وقال بعضهم : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان ، وهو قول عبدالرحمن بن مهدي دليلنا أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود ، فههنا فاتت صفة القبلية ، فيبقى أصل وجوب الكفارة ، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى.
المسألة الخامسة : الأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ويجبره على التكفير ، وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع ، قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها.
المسألة السادسة : قال أبو حنيفة رحمه الله هذه الرقبة تجزىء سواء كانت مؤمنة أو كافرة ، لقوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب ، وقال الشافعي : لا بد وأن تكون مؤمنة ودليله وجهان الأول : أن المشرك نجس ، لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة : 28) وكل نجس خبيث بإجماع الأمة وقال تعالى : {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} (البقرة : 267) الثاني : أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فكذا ههنا ، والجامع أن الإعتاق إنعام ، فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله ، وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله ، فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلاً لهذه المصلحة.
المسألة السابعة : إعتاق المكاتب لا يجزىء عند الشافعي رحمه الله ، وقال أبو حنيفة رحمه الله إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة ، وإذا أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً ، فظاهر الرواية أنه لا يجزىء ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجزىء ، حجة أبي حنيفة أن المكاتب رقبة / لقوله تعالى : {وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة : 117) والرقبة مجزئة لقوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، حجة الشافعي أن المقتضى لبقاء التكاليف بإعتاق الرقبة قائم ، بعد إعتاق المكاتب ، وما لأجله ترك العمل به في محل الرقاب غير موجود ههنا ، فوجب أن يبقى على الأصل ، بيان المقتضي أن الأصل في الثابت البقاء على ما كان ، بيان الفارق أن المكاتب كالزائل عن ملك المولى وإن لم يزل عن ملكه ، لكنه يمكن نقصان في رقه ، بدليل أنه صار أحق بمكاسبه ، ويمتنع على المولى التصرفات فيه ، ولو أتلفه المولى يضمن قيمته ، ولو وطىء مكاتبته يغرم المهر ، ومن المعلوم أن إزالة الملك الخالص عن شوائب الضعف أشق على المالك من إزالة الملك الضعيف ، ولا يلزم من خروج الرجل عن العهدة بإعتاق العبد القن خروجه عن العهدة بإعتاق المكاتب ، والوجه الثاني : أجمعنا على أنه لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزىء عن الكفارة ، فكذا إذا أعتقه المورث والجامع كون الملك ضعيفاً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
المسألة الثامنة : لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه ، لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة يقع/ حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية ، وحجة الشافعي ما تقدم.
المسألة التاسعة : قال أبو حنيفة : الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام ، وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير ، حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام ، وحقيقة الإطعام هو التمكين ، بدليل قول تعالى : {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة : 89) وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك ، فكذا ههنا ، وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر.
المسألة العاشرة : قال الشافعي : لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه حنطة أو شعيراً أو أرزاً أو تمراً أو أقطاً ، وذلك بمد النبي صلى الله عليه وسلّم ولا يعتبر مد حدث بعده ، وقال أبو حنيفة : يعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولا يجزئه دون ذلك ، حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام ، ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية ، فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي ، فلا بد من حمله على أقل مالا بد منه ظاهراً ، وذلك هو المد ، حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت : "لكل مسكين نصف صاع من بر" وعن علي وعائشة قالا : لكل مسكين مدان من بر ، ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين ، فيكون نظير صدقة الفطر ، ولا يتأدى ذلك بالمد ، بل بما قلنا ، فكذلك هنا.
(1/4428)

المسألة الحادية عشرة : لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزىء عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة يجزىء ، حجة الشافعي ظاهر الآية ، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكيناً ، فوجب رعاية ظاهر الآية ، وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل ، وللشافعي أن يقول : التحكمات غالبة على هذه التقديرات ، فوجب الامتناع فيها من القياس ، وأيضاً فلعل إدخال السرور / في قلب ستين إنساناً ، أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد.
المسألة الثانية عشرة : قال أصحاب الشافعي : إنه تعالى قال في الرقبة : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} وقال في الصوم : {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فذكر في الأول : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} وفي الثاني : {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} فقالوا : من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال أما من كان مريضاً في الحال ، فإنه ينتقل إلى الإطعام وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله ، قالوا : والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام : {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} وهو بسبب المرض الناجز ، والعجز العاجل غير مستطيع ، وقال في الرقبة : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة ، ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال ، وأيضاً يمكن أن يقال في الفرق إحضار المال يتعلق باختياره وأما إزالة المرض فليس باختياره.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
المسألة الثالثة عشرة : قال بعض أصحابنا : الشبق المفرط والغلمة الهائجة ، عذر في الانتقال إلى الإطعام ، والدليل عليه أنه عليه السلام لما أمر الأعرابي بالصوم قال له : وهل أتيت إلا من قبل الصوم فقال عليه السلام أطعم" دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام ، وأيضاً الاستطاعة فوق الوسع ، والوسع فوق الطاقة ، فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة ، ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق ، فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية ، والله أعلم.
قوله تعالى : {ذَالِكُمْ تُوعَظُونَ بِه ا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قال الزجاج : {ذَالِكُمْ} للتغليظ في الكفارة {تُوعَظُونَ بِه } أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه/ وقال غيره {ذَالِكُمْ تُوعَظُونَ بِه } أي تؤمرون به من الكفارة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التكفير وتركه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
488
ثم ذكر تعالى حكم العاجز عن الرقبة فقال : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فدلت الآية على أن التتابع شرط ، وذكر في تحرير الرقبة والصوم أنه لا بد وأن يوجدا من قبل أن يتماسا ، ثم ذكر تعالى أن من لم يستطع ذلك فإطعام ستين مسكيناً ، ولم يذكر أنه لا بد من وقوعه قبل المماسة ، إلا أنه كالأولين بدلالة الإجماع ، والمسائل الفقهية المفرعة على هذه الآية كثيرة مذكورة في كتاب الفقه.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه ا وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي قوله : {ذَالِكَ} وجهان الأول : قال الزجاج : إنه في محل الرفع ، والمعنى الفرض ذلك الذي وضعناه ، الثاني : فعلنا ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق ، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى : استدلت المعتزلة باللام في قوله : {لِتُؤْمِنُوا } على أن فعل الله معلل بالغرض وعلى أن غرضه أن تؤمنوا بالله ، ولا تستمروا على ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الإيمان وعدم الكفر.
المسألة الثانية : استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية ، فقال : أمرهم بهذه الأعمال ، وبين أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين ، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان ومن أنكر ذلك قال : إنه تعالى لم يقل : (ذلك لتؤمنوا بالله بعمل هذه الأشياء) ، ونحن نقول المعنى ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام ، ثم إنه تعالى أكد في بيان أنه لا بد لهم من الطاعة {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لمن جحد هذا وكذب به.
جزء : 29 رقم الصفحة : 488
491
وفيه مسألتان :
(1/4429)

المسألة الأولى : في المحادة قولان قال المبرد : أصل المحادة الممانعة ، ومنه يقال للبواب : حداد ، وللمنوع الرزق محدود ، قال أبو مسلم الأصفهاني : المحادة مفاعلة من لفظ الحديد ، والمراد المقابلة بالحديد سواء كان ذلك في الحقيقة ، أو كان ذلك منازعة شديدة شبيهة بالخصومة بالحديد ، أما المفسرون فقالوا : يحادون أي يعادون ويشاقون ، وذلك تارة بالمحاربة مع أولياء الله وتارة بالتكذيب والصد عن دين الله.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {يُحَآدُّونَ} يمكن أن يكون راجعاً إلى المنافقين ، فإنهم كانوا يوادون الكافرين ويظاهرون على الرسول عليه السلام فأذلهم الله تعالى ، ويحتمل سائر الكفار فأعلم الله رسوله أنهم {كُبِتُوا } أي خذلوا ، قال المبرد : يقال : كبت الله فلاناً إذا أذله ، والمردود بالذل يقال له : مكبوت ، ثم قال : {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من أعداء الرسل : {وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ } / تدل على صدق الرسول : {وَلِلْكَـافِرِينَ} بهذه الآيات : {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم ، فبين سبحانه أن عذاب هؤلاء المحادين في الدنيا الذل والهوان ، وفي الآخرة العذاب الشديد.
ثم ذكر تعالى ما به يتكامل هذا الوعيد فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 491
492
{يَوْمَ} منصوب بينبئهم أو بمهين أو بإضمار اذكر ، تعظيماً لليوم ، وفي قوله : {جَمِيعًا} قولان : أحدهما : كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث والثاني : مجتمعين في حال واحدة ، ثم قال : {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } تجليلاً لهم ، وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم ، الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار ، لما يلحقهم من الخزي على رؤس الإشهاد وقوله : {أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ} أي أحاط بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية ، والزمان والمكان لأنه تعالى عالم بالجزئيات ، ثم قال : {وَنَسُوه } لأنهم استحقروها وتهاونوا بها فلا جرم نسوها : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} أي مشاهد لا يخفى عليه شيء ألبتة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 492
492
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } .
قال ابن عباس : {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تعلم وأقول هذا حق لأن كونه تعالى عالماً بالأشياء لا يرى ، ولكنه معلوم بواسطة الدلائل ، وإنما أطلق لفظ الرؤية على هذا العلم ، لأن الدليل على كونه عالماً ، هو أن أفعاله محكمة متقنة منتسقة منتظمة ، وكل من كانت أفعاله كذلك فهو عالم.
أما المقدمة الأولى : فمحسوسة مشاهدة في عجائب السموات والأرض ، وتركيبات النبات والحيوان.
أما المقدمة الثانية : فبديهية ، ولما كان الدليل الدال على كونه تعالى كذلك ظاهراً لا جرم بلغ هذا العلم والاستدلال إلى أعلى درجات الظهور والجلاء ، صار جارياً مجرى المحسوس المشاهد ، فلذلك أطلق لفظ الرؤية فقال : {أَلَمْ تَرَ} وأما أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فلأن علمه علم قديم ، فلو تعلق بالبعض دون البعض من أن جميع المعلومات مشتركة في صحة المعلومية لافتقر ذلك العلم في ذلك التخصيص إلى مخصص ، وهو على الله تعالى محال ، فلا جرم وجب كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، واعلم أنه سبحانه قال : {يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ولم يقل : يعلم ما في الأرض وما في السموات وفي رعاية هذا الترتيب سر عجيب.
ثم إنه تعالى خص ما يكون من العباد من النجوى فقال :
/ {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَالِكَ وَلا أَكْثَرَ} .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن جني : قرأ أبو حيوة {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ} بالتاء ثم قال والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه ، لما هناك من الشياع وعموم الجنسية ، كقولك : ما جاءني من امرأة ، وما حضرني من جارية ، ولأنه وقع الفاصل بين الفاعل والمفعول ، وهو كلمة من ، ولأن النجوى تأنيثه ليس تأنيثاً حقيقياً ، وأما التأنيث فلأن تقدير الآية : ما تكون نجوى ، كما يقال : ما قامت امرأة وما حضرت جارية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 492
المسألة الثانية : قوله : {مَا يَكُونُ} من كان التامة ، أي ما يوجد ولا يحصل من نجوى ثلاثة.
المسألة الثالثة : النجوى التناجي وهو مصدر ، ومنه قوله تعالى : {لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ} (النساء : 114) وقال الزجاج : النجوى مشتق من النجوة ، وهي ما ارتفع ونجا ، فالكلام المذكور سراً لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة ، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير ، ويجوز أيضاً أن تجعل النجوى وصفاً ، فيقال : قوم نجوى ، وقوله تعالى : {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } (الإسراء : 47) والمعنى ، هم ذوو نجوى ، فحذف المضاف ، وكذلك كل مصدر وصف به.
(1/4430)

المسألة الرابعة : جر ثلاثة في قوله : {مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون مجروراً بالإضافة والثاني : أن يكون النجوى بمعنى المتناجين ، ويكون التقدير : ما يكون من متناجين ثلاثة فيكون صفة.
المسألة الخامسة : قرأ ابن أبي عبلة (ثلاثة) و(خمسة) بالنصب على الحال ، بإضمار يتناجون لأن نجوى يدل عليه.
المسألة السادسة : أنه تعالى ذكر الثلاثة والخمسة ، وأهمل أمر الأربعة في البين ، وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن هذا إشارة إلى كمال الرحمة ، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا أخذ إثنان في التناجي والمشاورة ، بقي الواحد ضائعاً وحيداً ، فيضيق قلبه فيقول الله تعالى : أنا جليسك وأنيسك ، وكذلك الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً ، أما إذا كانوا أربعة لم يبق واحد منهم فريداً ، / فهذا إشارة إلى أن كل من انقطع عن الخلق ما يتركه الله تعالى ضائعاً وثانيها : أن العدد الفرد أشرف من الزوج ، لأن الله وتر يحب الوتر ، فخص الأعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور وثالثها : أن أقل مالا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة ، حتى يكون الإثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما ، فحينئذ تكمل تلك المشورة ويتم ذلك الغرض ، وهكذا في كل جمع اجتمعوا للمشاورة ، فلا بد فيهم من واحد يكون حكماً مقبول القول ، فلهذا السبب لا بد وأن تكون أرباب المشاورة عددهم فرداً ، فذكر سبحانه الفردين الأولين واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي ورابعها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين ، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين ، قال ابن عباس نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو ، وصفوان بن أمية ، كانوا يوماً يتحدثون ، فقال أحدهم : هل يعلم الله ما تقول ؟
وقال الثاني : يعلم البعض دون البعض ، وقال الثالث : إن كان يعلم البعض فيعلم الكل وخامسها : أن في مصحف عبدالله : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا أخذوا في التناجي).
جزء : 29 رقم الصفحة : 492
المسألة السابعة : قرىء : {وَلا أَدْنَى مِن ذَالِكَ وَلا أَكْثَرَ} بالنصب على أن لا لنفي الجنس ، ويجوز أن يكون {وَلا أَكْثَرَ} بالرفع معطوفاً على محل (لا) مع (أدنى) ، كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوة والثالث : يجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء ، كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله والرابع : أن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل {مِن نَّجْوَى } كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم ، والخامس : يجوز أن يكونا مجروروين عطفاً على {نَّجْوَى } كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم.
المسألة الثامنة : قرىء : {وَلا أَكْبَرَ} بالباء المنقطعة من تحت.
المسألة التاسعة : المراد من كونه تعالى رابعاً لهم ، والمراد من كونه تعالى معهم كونه تعالى عالماً بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم ، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة.
المسألة العاشرة : قرأ بعضهم : {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} بسكون النون ، وأنبأ ونبأ واحد في المعنى ، وقوله : {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } أي يحاسب على ذلك ويجازي على قدر الاستحقاق ، ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} وهو تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات.
جزء : 29 رقم الصفحة : 492
493
ثم إنه تعالى بين حال أولئك الذين نهوا عن النجوى فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} واختلفوا في أنهم من هم ؟
فقال الأكثرون : هم اليهود ، ومنهم من قال : هم المنافقون ، ومنهم من قال : فريق من الكفار ، والأول أقرب ، لأنه تعالى حكى عنهم فقال : {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} ، وهذا الجنس فيما روي وقع من اليهود ، فقد كانوا إذا سلموا على الرسول عليه السلام قالوا : السام عليك ، يعنون الموت ، والأخبار في ذلك متظاهرة ، وقصة عائشة فيها مشهورة.
ثم قال تعالى : {وَيَتَنَـاجَوْنَ بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } وفيه مسألتان :
(1/4431)

المسألة الأولى : قال المفسرون : إنه صح أن أولئك الأقوام كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ، فيحزنون لذلك ، فلما أكثروا ذلك شكا المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله : {وَيَتَنَـاجَوْنَ بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يحتمل وجهين أحدهما : أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان ، سيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد. والثاني : أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم ، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 493
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده ، (ويتنجون) بغير ألف ، والباقون : ، قال أبو علي : ينتجون يفتعلون من النجوى ، والنجوى مصدر كالدعوى والعدوى ، فينتجون ويتناجون واحد ، فإن يفتعلون ، ويتفاعلون ، قد يجريان مجرى واحد ، كما يقال : ازدوجوا ، واعتوروا ، وتزاوجوا وتعاوروا ، وقوله تعالى : {أُخْتَهَا حَتَّى ا إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا} (الأعراف : 38) وادركوا فادركوا افتعلوا ، وادركوا تفاعلوا وحجة من قرأ : ، قوله : {ءَامَنُوا إِذَا نَـاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} (المجادلة : 12) {وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (المجادلة : 9) فهذا مطاوع ناجيتم ، وليس في هذا رد لقراءة حمزة : ينتجون ، لأن هذا مثله في الجواز ، وقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} قال صاحب الكشاف : قرىء (ومعصيات الرسول) ، والقولان ههنا كما ذكرناه في الإثم والعدوان وقوله : {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد والسام الموت ، والله تعالى يقول : {وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ا } (النمل : 59) و{اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } و{مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ} ثم ذكر تعالى أنهم {وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } يعني أنهم / يقولون في أنفسهم : إنه لو كان رسولاً فلم لا يعذبنا الله بهذا الاستخفاف.
ثم قال تعالى : {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة ، أو بحسب المصلحة ، فإذا لم يقتض المشيئة تقديم العذاب ، ولم يقتض الصلاح أيضاً ذلك ، فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 493
495
قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَـاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى } .
اعلم أن المخاطبين بقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } قولين ، وذلك لأنا إن حملنا قوله فيما تقدم : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى } (المجادلة : 8) على اليهود حملنا في هذه الآية قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } على المنافقين ، أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ، وإن حملنا ذلك على جميع الكفار من اليهود والمنافقين ، حملنا هذا على المؤمنين ، وذلك لأنه تعالى لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، أتبعه بأن نهى أصحابه المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقتهم ، فقال : {فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ} وهو ما يقبح مما يخصهم {وَالْعُدْوَانِ} وهو يؤدي إلى ظلم الغير {أَلَمْ تَرَ} وهو ما يكون خلافاً عليه ، وأمرهم أن يتناجوا بالبر الذي يضاد العدوان وبالتقوى وهو ما يتقي به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي ، واعلم أن القوم متى تناجوا بما هذه صفته قلت : مناجاتهم ، لأن ما يدعو إلى مثل هذا الكلام يدعو إظهاره ، وذلك يقرب من قوله : {لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـاحا بَيْنَ النَّاسِ } (النساء : 114) وأيضاً فمتى عرفت طريقة الرجل في هذه المناجاة لم يتأذ من مناجاته أحد.
ثم قال تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي إلى حيث يحاسب ويجازي وإلا فالمكان لا يجوز على الله تعالى.
جزء : 29 رقم الصفحة : 495
496
(1/4432)

قوله تعالى : {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَـانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } الألف واللام في لفظ {النَّجْوَى } لا يمكن أن يكون للاستغراق ، لأن في النجوى ما يكون من الله ولله ، بل المراد منه المعهود السابق وهو النجوى بالإثم والعدوان ، والمعنى أن الشيطان يحملهم على أن يقدموا على تلك النجوى التي / هي سبب لحزن المؤمنين ، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين ، ثالوا : ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا وهزموا ، ويقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له.
ثم قال تعالى : {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْـاًا إِلا بِإِذْنِ اللَّه } وفيه وجهان : أحدهما : ليس يضر التناجي بالمؤمنين شيئاً والثاني : الشيطان ليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله ، وقوله : {إِلا بِإِذْنِ اللَّه } فقيل : بعلمه وقيل : بخلقه ، وتقديره للأمراض وأحوال القلب من الحزن والفرح ، وقيل : بأن يبين كيفية مناجاة الكفار حتى يزول الغم.
ثم قال : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 496
497
قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَـالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودة ، وقوله : {تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَـالِسِ} توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : افسح عني ، أي تنح ، ولا تتضاموا ، يقال : بلدة فسيحة ، ومفازة فسيحة ، ولك فيه فسحة ، أي سعة.
المسألة الثانية : قرأ الحسن وداود بن أبي هند : (تفاسحوا) ، قال ابن جني : هذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل : (تفسحوا) ، فمعناه ليكن هناك تفسح ، وأما التفاسح فتفاعل ، والمراد ههنا المفاعلة ، فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة ، وقرىء : {فِى الْمَجَـالِسِ} قال الواحدي : والوجه التوحيد لأن المراد مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم وهو واحد ، ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة ، أي موضع جلوس.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
(1/4433)

المسألة الثالثة : ذكروا في الآية أقوالاً : الأول : أن المراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب منه ، وحرصاً على استماع كلامه ، وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوهاً الأول : قال مقاتل بن حيان : كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلّم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول ، فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه ، وشق ذلك على من أقيم / من مجلسه ، وعرفت الكراهية في وجوههم ، وطعن المنافقون في ذلك ، وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء ، إن قوماً أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة الثاني : روى عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن الشماس ، وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب ، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام ، ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلاناً لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية ، وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد ، الثالث : أنهم كانوا يحبون القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى فأمرهم الله تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء ، وكان أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح ، القول الثاني : وهو اختيار الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال ، وهو كقوله : {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } (آل عمران : 121) وكان الرجل يأتي الصف فيقول تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة والقول الثالث : أن المراد جميع المجالس والمجامع ، قال القاضي : والأقرب أن المراد ، منه مجلس الرسول عليه السلام/ لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهوداً ، والمعود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي يعظم التنافس عليه ، ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه ، ولما فيه من المنزلة ، ولذلك قال عليه السلام : "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى" ولذلك كان يقدم الأفاضل من أصحابه ، وكانوا لكثرتهم يتضايقون ، فأمروا بالتفسح إذا أمكن ، لأن ذلك أدخل في التحبب ، وفي الاشتراك في سماع مالا بد منه في الدين ، وإذا صح ذلك في مجلسه ، فحال الجهاد ينبغي أن يكون مثله ، بل ربما كان أولى ، لأن الشديد البأس قد يكون متأخراً عن الصف الأول ، والحاجة إلى تقدمه ماسة فلا بد من التفسح ، ثم يقاس على هذا سائر مجالس العلم والذكر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
أما قوله تعالى : {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } فهو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.
واعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة ، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ، ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس ، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم ، وإدخال السرور في قلبه ، ولذلك قال عليه السلام : "لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه المسلم".
ثم قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَـالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُم وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا ، واللفظ يحتمل وجوهاً أحدها : إذا قيل لكم : قوموا للتوسعة على الداخل ، فقوموا وثانيها : إذا قيل : قوموا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولا تطولوا في الكلام ، فقوموا ولا تركزوا معه ، كما قال : {وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ لِحَدِيثٍا إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ} (الأحزاب : 53) وهو قول الزجاج وثالثها : إذا قيل لكم : قوموا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير وتأهبوا له ، فاشتغلوا به وتأهبوا له ، ولا تتثاقلوا فيه ، قال الضحاك وابن زيد : إن قوماً تثاقلوا عن الصلاة ، فأمروا بالقيام لها إذا نودي.
المسألة الثانية : قرىء : {انشُزُوا } بكسر الشين وبضمها ، وهما لغتان مثل : {يَعْكُفُونَ} و{يَعْكُفُونَ} (الأعراف : 138) ، و{يَعْرِشُونَ} و{يَعْرِشُونَ} (الأعراف : 137).
(1/4434)

واعلم أنه تعالى لما نهاهم أولاً عن بعض الأشياء ، ثم أمرهم ثانياً ببعض الأشياء وعدهم على الطاعات ، فقال : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ } أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة درجات ، ثم في المراد من هذه الرفعة قولان : الأول : وهو القول النادر : أن المراد به الرفعة في مجلس الرسول عليه السلام والثاني : وهو القول المشهور : أن المراد منه الرفعة في درجات الثواب ، ومراتب الرضوان.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
واعلم أنا أطنبنا في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) في فضيلة العلم ، وقال القاضي : لا شبهة أن علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن ، ولذلك فإنه يقتدى بالعلم في كل أفعاله ، ولا يقتدى بغير العالم ، لأنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ، ومحاسبة النفس مالا يعرفه الغير ، ويعلم من كيفية الخشوع والتذلل في العبادة مالا يعرفه غيره ، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها مالا يعرفه غيره ، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق مالا يتحفظ منه غيره ، وفي الوجوه كثرة/ لكنه كما تعظم منزلة أفعاله من الطاعات في درجة الثواب ، فكذلك يعظم عقابه فيما يأتيه من الذنوب ، لمكان علمه حتى لا يمتنع في كثير من صغائر غيره أن يكون كبيراً منه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
497
فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : هذا التكليف يشتمل على أنواع من الفوائد أولها : إعظام الرسول عليه السلام وإعظام مناجاته فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه ، وإن وجده بالسهولة استحقره وثانيها : نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة وثالثها : قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى شقوا عليه ، وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت هذه الآية شح كثير من الناس فكفوا عن المسألة ورابعها : قال مقالت بن حيان : إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي صلى الله عليه وسلّم طول جلوسهم ، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة ، فأما الأغنياء فامتنعوا ، وأما الفقراء فلم يجدوا شيئاً ، واشتاقوا إلى مجلس الرسول عليه السلام ، فتمنوا أن لو كانوا يملكون شيئاً فينفقونه ويصلون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فعند هذا التكليف ازدادت درجة الفقراء عند الله ، وانحطت درجة الأغنياء وخامسها : يحتمل أن يكون المراد منه التخفيف عليه ، لأن أرباب الحاجات كانوا يلحون على الرسول ، ويشغلون أوقاته التي هي مقسومة على الإبلاغ إلى الأمة وعلى العبادة ، ويحتمل أنه كان في ذلك ما يشغل قلب بعض المؤمنين ، لظنه أن فلاناً إنما ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمر يقتضي شغل القلب فيما يرجع إلى الدنيا وسادسها : أنه يتميز به محب الآخرة عن محب الدنيا ، فإن المال محك الدواعي.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجباً ، لأن الأمر للوجوب ، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية : {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه ، ومنهم من قال : إن ذلك ما كان واجباً ، بل كان مندوباً ، واحتج عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال : {ذَالِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض والثاني : أنه لو كان ذلك واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به ، وهو قوله : {أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ} (المجادلة : 13) إلى آخر الآية والجواب عن الأول : أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر ، فالواجب أيضاً يوصف بذلك والجواب عن الثاني : أنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة ، كونهما متصلتين في النزول ، وهذا كما قلنا في الآية الدالة على وجوب الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً ، إنها ناسخة للاعتداد بحول ، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ ، ثم اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ ، فقال الكلبي : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ ، وقال مقاتل بن حيان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
(1/4435)

المسألة الثالثة : روي عن علي عليه السلام أنه قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم ، فكلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدمت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، وروي عن ابن جريج والكلبي وعطاء عن ابن عباس : أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا / علي عليه السلام تصدق بدينار ، ثم نزلت الرخصة. قال القاضي والأكثر في الروايات : أنه عليه السلام تفرد بالتصدق قبل مناجاته/ ثم ورد النسخ ، وإن كان قد روي أيضاً أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك ، وإن ثبت أنه اختص بذلك فلأن الوقت لم يتسع لهذا الغرض ، وإلا فلا شبهة أن أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله ، وأقول على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك ، فهذا لا يجر إليهم طعناً ، وذلك الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير ، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه ، ويوحش قلب الغني فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سبباً للطعن فيمن لم يفعل ، فهذا الفعل لما كان سبباً لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء ، لم يكن في تركه كبير مضرة ، لأن الذي يكون سبباً للألفة أولى مما يكون سبباً للوحشة ، وأيضاً فهذه المناجاة ليست من الواجبات ولا من الطاعات المندوبة ، بل قد بينا أنهم إنما كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ، ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سبباً للطعن.
المسألة الرابعة : روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "ما تقول في دينار ؟
قلت : لا يطيقونه ، قال : كم ؟
قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد" والمعنى إنك قليل المال فقدرت على حسب حالك.
أما قوله تعالى : {ذَالِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } أي ذلك التقديم في دينكم وأطهر لأن الصدقة طهرة.
أما قوله : {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فالمراد منه الفقراء ، وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفواً عنه.
المسألة الخامسة : أنكر أبو مسلم وقوع النسخ وقال : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً ، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي ، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت ، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت ، وحاصل قول أبي مسلم : أن ذلك التكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة ، فلا يكون هذا نسخاً ، وهذا الكلام حسن ما به بأس ، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله : ومنهم من قال : إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
497
/ والمعنى أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من إنفاق المال ، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب الله عليكم ورخص لكم في أن لا تفعلوه ، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات. فإن قيل : ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف ، وبيانه من وجوه أولها : قوله : {أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ} وهو يدل على تقصيرهم وثانيها : قوله : {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا } وثالثها : قوله : {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} قلنا : ليس الأمر كما قلتم ، وذلك لأن القوم لما كلفوا بأن يقدموا الصدقة ويشغلوا بالمناجاة ، فلا بد من تقديم الصدقة ، فمن ترك المناجاة يكون مقصراً ، وأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة ، فهذا أيضاً غير جائز ، لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول من المناجاة ، فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة ، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم ، فأما قوله : فلا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب ، فقال هذا القول ، وأما قوله : {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} فليس في الآية أنه تاب عليكم من هذا التقصير ، بل يحتمل أنكم إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله ، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، فقد كفاكم هذا التكليف ، أما قوله : {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} يعني محيط بأعمالكم ونياتكم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 497
498
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله : {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} وينقلون إليهم أسرار المؤمنين : {مَّا هُم مِّنكُمْ} أيها المسلمون ولا من اليهود {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} والمراد من هذا الكذب إما ادعاؤهم كونهم مسلمين ، وإما أنهم كانوا يشتمون الله ورسوله ويكيدون المسلمين فإذا قيل لهم : إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل ، فيحلفون أنا ما قلنا ذلك وما فعلناه ، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه.
(1/4436)

واعلم أن هذه الآية تدل على فساد قول الجاحظ إن الخبر الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه إنما يكون كذباً لو علم المخبر كون الخبر مخالفاً للمخبر عنه ، وذلك لأن لو كان الأمر على ما ذهب إليه لكان قوله : {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تكراراً غير مقيد ، يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان / يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجرته إذ قال : يدخل عليكم رجل ينظر بعين شيطان ـ أو بعيني شيطان ـ فدخل رجل عيناه زرقاوان فقال له : لم تسبني فجعل يحلف فنزل قوله : {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
جزء : 29 رقم الصفحة : 498
498
والمراد منه عند بعض المحققين عذاب القبر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 498
498
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ الحسن : {اتَّخَذْوا أَيْمَـانَهُمْ} بكسر الهمزة ، قال ابن جني : هذا على حذف المضاف ، أي اتخذوا ظهار إيمانهم جنة عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين ، أو جنة عن أن يقتلهم المسلمون ، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي عذاب الآخر ، وإنما حملنا قوله : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } على عذاب القبر ، وقوله ههنا : {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} على عذاب الآخر ، لئلا يلزم التكرار ، ومن الناس من قال : المراد من الكل عذاب الآخرة ، وهو كقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (النحل : 88).
جزء : 29 رقم الصفحة : 498
498
روي أن واحداً منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا ، فنزلت هذه الآية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 498
499
قال ابن عباس : إن المنافق يحلف لله يوم القيامة كذباً كما يحلف لأوليائه في الدنيا كذباً أما الأول : فكقوله : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23). وأما الثاني : فهو كقوله : {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} (البقرة : 56) والمعنى أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج / كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب ، فكان هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبداً ، وإليه الإشارة بقوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) قال الجبائي والقاضي : إن أهل الآخرة لا يكذبون ، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة أنا ما كنا كافرين عند أنفسنا ، وعلى هذا الوجه لا يكون هذا الحلف كذباً ، وقوله : {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَـاذِبُونَ} أي في الدنيا ، واعلم أن تفسير الآية بهذا الوجه لا شك أنه يقتضي ركاكة عظيمة في النظم ، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23).
جزء : 29 رقم الصفحة : 499
501
قال الزجاج : استحوذ في اللغة استولى ، يقال : حاوزت الإبل ، وحذتها إذا استوليت عليها وجمعتها ، قال المبرد : استحوذ على الشيء حواه وأحاط به ، وقالت عائشة في حق عمر : كان أحوذياً ، أي سائساً ضابطاً للأمور ، وهو أحد ما جاء على الأصل نحو : استصوب واستنوق ، أي ملكهم الشيطان واستولى عليهم ، ثم قال : {فَأَنسَـاـاهُمْ ذِكْرَ اللَّه أولئك حِزْبُ الشَّيْطَـانِا أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـانِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} واحتج القاضي به في خلق الأعمال من وجهين الأول : ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً والثاني : لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
جزء : 29 رقم الصفحة : 501
501
أي في جملة من هو أذل خلق الله ، لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني ، فلما كانت عزة الله غير متناهية ، كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً ، ولما شرح ذلهم ، بين عز المؤمنين فقال : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر : {أَنَا وَرُسُلِى } بفتح الياء ، والباقون لا يحركون ، قال أبو علي : التحريك والإسكان جميعاً جائزان.
(1/4437)

المسألة الثانية : غلبة جميع الرسل بالحجة مفاضلة ، إلا أن منهم من ضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالسيف ، ومنهم من لم يكن كذلك ، ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ} على نصرة أنبيائه : {عَزِيزٌ} غالب لا يدفعه أحد عن مراده ، لأن كل ما سواه ممكن الوجود لذاته ، والواجب لذاته يكون غالباً للممكن / لذاته ، قال مقاتل : إن المسلمين قالوا : إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم ، فقال عبد الله بن أبي : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم ، كلا والله إنهم أكثر جمعاً وعدة فأنزل الله هذه الآية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 501
501
المعنى أنه لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله ، وذلك لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب مع ذلك عدوه وهذا على وجهين أحدهما : أنهما لا يجتمعان في القلب ، فإذا حصل في القلب وداد أعداء الله ، لم يحصل فيه الإيمان ، فيكون صاحبه منافقاً والثاني : أنهما يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة ، وعلى هذا الوجه لا يكون صاحب هذا الوداد كافراً بسبب هذا الوداد ، بل كان عاصياً في الله ، فإن قيل : أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاشرتهم ، فما هذه المودة المحرمة المحظورة ؟
قلنا : المودة المحظورة هي إرادة منافسه ديناً ودنيا مع كونه كافراً ، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ، ثم إنه تعالى بالغ في المنع من هذه المودة من وجوه أولها : ما ذكر أن هذه المودة مع الإيمان لا يجتمعان وثانيها : قوله : {وَلَوْ كَانُوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } والمراد أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع الميل ، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مغلوباً مطروحاً بسبب الدين ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، وعمر بن لخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر ، وأبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : "متعنا بنفسك" ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير ، / وعلي بن أبي طالب وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم بدر ، أخبر أن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله ودينه وثالثها : أنه تعالى عدد نعمه على المؤمنين ، فبدأ بقوله : { أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَانَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعنى أن من أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله ، واختلفوا في المراد من قوله : {كَتَبَ} أما القاضي فذكر ثلاثة أوجه على وفق قول المعتزلة أحدها : جعل في قلوبهم علامة تعرف بها الملائكة ما هم عليه من الإخلاص وثانيها : المراد شرح صدورهم للإيمان بالألطاف والتوفيق وثالثها : قيل في : {كَتَبَ} قضى أن قلوبهم بهذا الوصف ، واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة نسلمها للقاضي ونفرع عليها صحة قولنا ، فإن الذي قضى الله به أخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ ، لو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهذا محال ، والمؤدي إلى المحال محال ، وقال أبو علي الفارسي معناه : جمع ، والكتيبة : الجمع من الجيش ، والتقدير أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان ، أي استكملوا فلم يكونوا ممن يقولون : {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} (النساء : 150) ومتى كانوا كذلك امتنع أن يحصل في قلوبهم مودة الكفار ، وقال جمهور أصحابنا : {كَتَبَ} معناه أثبت وخلق ، وذلك لأن الإيمان لا يمكن كتبه ، فلا بد من حمله على الإيجاد والتكوين.
جزء : 29 رقم الصفحة : 501
المسألة الثانية : روى المفضل عن عاصم : {كَتَبَ} على فعل مالم يسم فاعله ، والباقون : {كَتَبَ} على إسناد الفعل إلى الفاعل والنعمة الثانية : قوله : {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْه } وفيه قولان : الأول : قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيا أمرهم والثاني : قال السدي : الضمير في قوله : {مِّنْه } عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه قوله : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى : 52) النعمة الثالثة : {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } وهو إشارة إلى نعمة الجنة النعمة الرابعة : قوله تعالى : {رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } وهي نعمة الرضوان ، وهي أعظم النعم وأجل المراتب ، ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال : { أولئك حِزْبُ اللَّه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهو في مقابلة قوله فيهم : { أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِا أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة : 19).

واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله : {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَه } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلّم لما أراد فتح مكة ، وتلك القصة معروفة وبالجملة فالآية زجر عن التودد إلى الكفار والفساق.
عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول : "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت {لا تَجِدُ قَوْمًا} إلى آخره" والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين ، سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 29 رقم الصفحة : 501
المسألة الثانية : روى المفضل عن عاصم : {كَتَبَ} على فعل مالم يسم فاعله ، والباقون : {كَتَبَ} على إسناد الفعل إلى الفاعل والنعمة الثانية : قوله : {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْه } وفيه قولان : الأول : قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم ، وسمى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيا أمرهم والثاني : قال السدي : الضمير في قوله : {مِّنْه } عائد إلى الإيمان والمعنى أيدهم بروح من الإيمان يدل عليه قوله : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى : 52) النعمة الثالثة : {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } وهو إشارة إلى نعمة الجنة النعمة الرابعة : قوله تعالى : {رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } وهي نعمة الرضوان ، وهي أعظم النعم وأجل المراتب ، ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال : { أولئك حِزْبُ اللَّه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهو في مقابلة قوله فيهم : { أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِا أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة : 19).
واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله : {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَه } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلّم لما أراد فتح مكة ، وتلك القصة معروفة وبالجملة فالآية زجر عن التودد إلى الكفار والفساق.
عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول : "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت {لا تَجِدُ قَوْمًا} إلى آخره" والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وخاتم النبيين ، سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 29 رقم الصفحة : 501
504
(1/4438)

سورة الحشر
وهي عشرون وأربع آيات مدنية
جزء : 29 رقم الصفحة : 504
504
/ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لاوَّلِ الْحَشْرِ } صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر ، فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة الأنصاري ، فقتل كعباً غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف ، فقال لهم : أخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب ، وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فبعث إليهم عبد الله بن أبي وقال : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجن معكم ، فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون ليلة ، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب ، وآيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح ، فأبى إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق ، وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة. وههنا سؤالات.
(1/4439)

السؤال الأول : ما معنى هذه اللام في قوله : {لاوَّلِ الْحَشْرِ } الجواب : إنها هي اللام في قولك : جئت لوقت كذا ، والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أول الحشر. السؤال الثاني : ما معنى أول الحشر ؟
الجواب : أن الحشر هو أخراج الجمع من مكان إلى مكان ، وإما أنه لم سمي هذا الحشر بأول الحشر فبيانه من وجوه : أحدها : وهو قول ابن عباس والأكثرين إن هذا أول حشر أهل الكتاب ، أي أول مرة حشروا وأخرجوا من جزيرة / العرب لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك ، لأنهم كانوا أهل منعة وعز وثانيها : أنه تعالى جعل إخراجهم من المدينة حشراً ، وجعله أول الحشر من حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام ، ثم تدركهم الساعة هناك وثالثها : أن هذا أول حشرهم ، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ورابعها : معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما يحشرهم لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله وخامسها : قال قتادة هذا أول الحشر ، والحشر الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وذكروا أن تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.
جزء : 29 رقم الصفحة : 504
505
قوله تعالى : {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا } .
قال ابن عباس : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم وقوتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تعظيماً لهذه النعمة ، فإن النعمة إذا وردت على المرء والظن بخلافه تكون أعظم ، فالمسلمون ما ظنوا أنهم يصلون إلى مرادهم في خروج هؤلاء اليهود ، فيتخلصون من ضرر مكايدهم ، فلما تيسر لهم ذلك كان توقع هذه النعمة أعظم.
قوله تعالى : {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} .
قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول الله ، وفي الآية تشريف عظيم لرسول الله ، فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول الله هي بعينها نفس المعاملة مع الله ، فإن قيل : ما الفرق بين قولك : ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه ، قلنا : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم إسماً ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم ، وهذه المعاني لا تحصل في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم.
قوله تعالى : {فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية وجهان الأول : أن يكون الضمير في قوله : {فَأَتَـاـاهُمُ} عائد إلى اليهود ، أي فأتاهم عذاب الله وأخذهم من حيث لم يحتسبوا والثاني : أن يكون عائداً إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وتقويته من حيث لم يحتسبوا ، ومعنى : لم يحتسبوا ، أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم ، وذلك بسبب أمرين أحدهما : قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة ، وذلك مما أضعف قوتهم ، وفتت عضدهم ، وقل من شوكتهم والثاني : بما قذف في قلوبهم من الرعب.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 505
المسألة الثانية : قوله : {فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ} لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء ، فدل على أن باب التأويل مفتوح ، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز.
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرىء {فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ} أي فآتاهم الهلاك ، واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل ، لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة الأولى ، فإنها ثابتة بالتواتر ، ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها ، بل لا بد فيها من التأويل.
قوله تعالى : {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } قال أهل اللغة : الرعب ، الخوف الذي يستوعب الصدر ، أي يملؤه ، وقذفه إثباته فيه ، وفيه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه ، واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها لله ، وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من الله ودلت على أن ذلك الرعب سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله ، فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى الله بهذا الطريق.
قوله تعالى : {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو علي : قرأ أبو عمرو وحده : {يُخْرِبُونَ} مشددة ، وقرأ الباقون : {يُخْرِبُونَ} خفيفة ، وكان أبو عمرو يقول : الإخراب أن يترك الشيء خراباً والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً ، ويخربون هو الأصل خرب المنزل ، فإنما هو تكثير ، لأنه ذكر بيوتاً تصلح للقليل والكثير ، وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو فرحته وأفرحته ، وحسنه الله وأحسنه ، وقال الأعمش :
وأخربت من أرض قوم دياراً
(1/4440)

وقال الفراء : {يُخْرِبُونَ} بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها.
المسألة الثانية : ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوهاً أحدها : أنهم لما أيقنوا بالجلاء ، حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم ، فجعلوا يخربونها من داخل ، والمسلمون من خارج وثانيها : قال مقاتل : إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا ، ودربوا على الأزقة وحصنوها ، فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب وثالثها : أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم ، وينقبونها من أدبارها ورابعها : أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنوا بالجلاء ، وكانوا ينظرون / إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ويحملونها على الإبل ، فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين ؟
قلنا قال الزجاج : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 505
قوله تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} .
اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب "المحصول من أصول الفقه" على أن القياس حجة فلا نذكره ههنا ، إلا أنه لا بد ههنا من بيان الوجه الذي أمر الله فيه بالاعتبار ، وفيه احتمالات أحدها : أنهم اعتمدوا على حصونهم ، وعلى قوتهم وشوكتهم ، فأباد الله شوكتهم وأزال قوتهم ، ثم قال : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} ولا تعتمدوا على شيء غير الله ، فليس للزاهد أن يتعمد على زهده ، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام ، وليس للعالم أن يعتمد على علمه ، أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار ، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته وثانيها : قال القاضي : المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة ، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر ، والكفر في البلاء والجلاء ، والمؤمنين أيضاً يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي.
فإن قيل : هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا : إنهم غدروا وكفروا فعذبوا ، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر ، إلا أن هذا القول فاسد طرداً وعكساً أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر ، وما عذب في الدنيا وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن ، بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه ، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم ، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار ، وأيضاً فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم : {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ} وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين ، ومعلوم أن هذا لا يصلح ، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح والجواب : أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب أولها : كونه تخريباً للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين وثانيها : وهو أعم من الأول ، كونه عذاباً في الدنيا وثالثها : وهو أعم من الثاني ، كونه مطلق العذاب ، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب ، فأما خصوص كونه تخريباً أو قتلاً في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر ، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة ، والغدر والكفر يناسبان العذاب ، فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب ، فأينما حصلا حصل العذاب / من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة ، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح.
جزء : 29 رقم الصفحة : 505
المسألة الثانية : الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة ، وسمي العلم المخصوص بالتعبير ، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها ، وفي قوله : {لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ} وجهان الأول : قال ابن عباس : يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني : قال الفراء : {لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ} يا من عاين تلك الواقعة المذكورة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 505
505
(1/4441)

معنى الجلاء في اللغة ، الخروج من الوطن والتحول عنه ، فإن قيل : أن {لَوْلا} تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب في الدنيا ، لكن الجلاء نوع من أنواع التعذيب ، فإذاً يلزم من ثبوت الجلاء عدمه وهو محال ، قلنا معناه : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل كمافعل بإخوانهم بني قريظة ، وأما قوله : {وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} فهو كلام مبتدأ وغير معطوف على ما قبله ، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم أن لا يوجد لما بينا ، أن (لولا) تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.
جزء : 29 رقم الصفحة : 505
506
أما قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَه } فهو يقتضي أن علة ذلك التخريب هو مشاقة الله ورسوله ، فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها.
ثم قال : {وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والمقصود منه الزجر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 506
507
فيه مسائل :
المسألة الأولى : {مِّن لِّينَةٍ} بيان لِـ{مَا قَطَعْتُم} ، ومحل {مَّآ} نصب بقطعتم ، كأنه قال : أي شيء قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله : {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} لأنه في معنى اللينة.
المسألة الثانية : قال أبو عبيدة : اللينة النخلة ما لم تكن عجوة أو برنية ، وأصل لينة لونة ، فذهبت الواو لكسرة اللام ، وجمعها ألوان ، وهي النخل كله سوى البرني والعجوة ، وقال بعضهم : اللينة النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين وجمعها لين ، فإن قيل : لم خصت اللينة بالقطع ؟
قلنا : إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد.
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرىء (قوماً على أصلها) ، وفيه وجهان أحدهما : أنه جمع أصل كرهن ورهن ، واكتفى فيه بالضمة عن الواو ، وقرىء (قائماً على أصوله) ، ذهاباً إلى لفظ ما ، وقوله : {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي قطعها بإذن الله وبأمره {وَلِيُخْزِىَ الْفَـاسِقِينَ} أي ولأجل إخزاء الفاسقين ، أي اليهود أذن الله في قطعها.
المسألة الرابعة : روي أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق ، قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها ؟
وكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء ، فنزلت هذه الآية ، والمعنى أن الله إنما أذن في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار ، وتتضاعف حسرتهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعز أموالهم.
المسألة الخامسة : احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق ، وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة ، وعن ابن مسعود قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال.
المسألة السادسة : روي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار ، فاستدلوا به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول.
جزء : 29 رقم الصفحة : 507
508
/ قال المبرد : يقال فاء يفيء إذا رجع ، وأفاءه الله إذا رده ، وقال الأزهري : الفيء ما رده الله على أهل دينه ، من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال ، إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين ، أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم ، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم ، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح ، ويتركوا الباقي ، فهذا المال هو الفيء ، وهو ما أفاء الله على المسلمين ، أي رده من الكفار إلى المسلمين ، وقوله : {مِنْهُمْ} أي من يهود بني النضير ، قوله : {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ} يقال : وجف الفرس والبعير يجف وجفاً ووجيفاً ، وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه ، إذا حمله على السير السريع ، وقوله : {عَلَيْهِ} أي على ما أفاء الله ، وقوله : {مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الركاب ما يركب من الإبل ، واحدتها راحلة ، ولا واحد لها من لفظها ، والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارساً ، ومعنى الآية أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم ، فذكر الله الفرق بين الأمرين ، وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعباً ، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى الرسول يضعه حيث يشاء.
جزء : 29 رقم الصفحة : 508
(1/4442)

ثم ههنا سؤال : وهو أن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً ، وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنيمة لا من جملة الفيء ، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون ههنا وجهين الأول : أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير لأنهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون بل هو في فدك ، وذلك لأن أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول عليه السلام من غير حرب فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله ، ويجعل الباقي في السلاح والكراع ، فلما مات ادعت فاطمة عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا ، فقال أبو بكر : أنت أعز الناس علي فقراً ، وأحبهم إلي غنى ، لكني لا أعرف صحة قولك ، ولا يجوز أن أحكم بذلك ، فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول عليه السلام ، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن ، فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى الله عليه وسلّم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول ، ويجعل ما يبقى في السلاح والكراع ، وكذلك عمر جعله في يد علي ليجريه على هذا المجرى ، ورد ذلك في آخر عهد عمر إلى عمر ، وقال : إن بنا غنى وبالمسلمين حاجة إليه ، وكان عثمان رضي الله عنه يجريه كذلك ، ثم صار إلى علي فكان يجريه هذا المجرى / فالأئمة الأربعة اتفقوا على ذلك والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم ، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشياً ، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان راكب جمل ، فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل ، أجراه الله تعالى مجرى مالم يحصل فيه المقاتلة أصلاً فخص رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتلك الأموال/ ثم روى أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة. ثم إنه تعالى ذكر حكم الفيء فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 508
509
قال صاحب الكشاف : لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها وغير أجنبية عنها ، واعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله : {وَلِذِى الْقُرْبَى } بنو هاشم وبنو المطلب. قال الواحدي : كان الفيء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقسوماً على خمسة أسهم أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة وكان الخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم ، سهم منها لرسول الله أيضاً ، والأسهم الأربعة لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فللشافعي فيما كان من الفيء لرسول الله قولان أحدهما : أنه للمجاهدين المرصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله في رباط الثغور والقول الثاني : أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر ، يبدأ بالأهم فالأهم ، هذا في الأربعة أخماس التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف ، وقوله تعالى : {كَىْ لا يَكُونَ دُولَةَا بَيْنَ الاغْنِيَآءِ مِنكُمْ } فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المبرد : الدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا مرة ، والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم ، فالدولة بالضم اسم ما يتداول ، وبالفتح مصدر من هذا ، ويستعمل في الحالة السارة التي تحدث للإنسان ، فيقال : هذه دولة فلان / أي تداوله ، فالدولة اسم لما يتداول من المال ، والدولة اسم لما ينتقل من الحال ، ومعنى الآية كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم.
المسألة الثانية : قرىء : (دولة) و(دولة) بفتح الدال وضمها ، وقرأ أبو جعفر : (دولة) مرفوعة الدال والهاء ، قال أبو الفتح : {يَكُونَ} ههنا هي التامة كقوله : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} (البقرة : 280) يعني كي لا يقع دولة جاهلية ، ثم قال : {وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } يعني ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه فهو لكم حلال وما نهاكم عن أخذه فانتهوا {وَاتَّقُوا اللَّهَ } في أمر الفيء {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} على ما نهاكم عنه الرسول ، والأجود أن تكون هذه الآية عامة في كل ما آتى رسول الله ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 509
509
(1/4443)

اعلم أن هذا بدل من قوله : {وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الحشر : 7) كأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا ، ثم إنه تعالى وصفهم بأمور : أولها : أنهم فقراء وثانيها : أنهم مهاجرون وثالثها : أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم يعني أن كفار مكة أحوجوهم إلى الخروج فهم الذين أخرجوهم ورابعها : أنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، والمراد بالفضل ثواب الجنة وبالرضوان قوله : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } (التوبة : 72) وخامسها : قوله : {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه ا } أي بأنفسهم وأموالهم وسادسها : قوله : { أولئك هُمُ الصَّـادِقُونَ} يعني أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ظهر صدقهم في دينهم ، وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ، فقال : هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر يا خليفة رسول الله ، والله يشهد على كونهم صادقين ، فوجب أن يكونوا صادقين في قولهم يا خليفة رسول الله ، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.
ثم إنه تعالى ذكر الأنصار وأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء إذ للمهاجرين دونهم فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 509
509
/ والمراد من الدار المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية : والذين تبوءوا المدينة والإيمان من قبلهم فإن قيل : في الآية سؤالان أحدهما : أنه لا يقال : تبوأ الإيمان والثاني : بتقدير أن يقال : ذلك لكن الأنصار ما تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين والجواب عن الأول من وجوه أحدها : تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله :
ولقد رأيتك في الوغى
متقلداً سيفاً ورمحاً
وثانيها : جعلوا الإيمان مستقراً ووطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما أنهم لما سألوا سلمان عن نسبه فقال : أنا ابن الإسلام وثالثها : أنه سمى المدينة بالإيمان ، لأن فيها ظهر الإيمان وقوي والجواب : عن السؤال الثاني من وجهين الأول : أن الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان والثاني : أنه على تقدير حذف المضاف والتقدير : تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرتهم ، ثم قال : {وَلا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا } وقال الحسن : أي حسداً وحرارة وغيظاً مما أوتي المهاجرون من دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحرارة ، لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة ، فأطلق اسم اللام على الملزوم على سبيل الكناية ، ثم قال : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } يقال : آثره بكذا إذا خصه به ، ومفعول الإيثار محذوف ، والتقدير : ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال للأنصار : "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم فقالوا : لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة" فأنزل الله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } فبين أن هذا الإيثار ليس غنى عن المال ، ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر ، وأصلها من الخصاص وهي الفرج ، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص ، الواحد خصاصة ، وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات ، ثم قال : {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الشح بالضم والكسر ، وقد قرىء بهما.
جزء : 29 رقم الصفحة : 509
واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع ، والشح هو الحالة النفسانية التي / تقتضي ذلك المنع ، فلما كان الشح من صفات النفس ، لا جرم قال تعالى : {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الظافرون بما أرادوا ، قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقى شح نفسه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 509
510
اعلم أن قوله : {وَالَّذِينَ جَآءُو مِنا بَعْدِهِمْ} عطف أيضاً على المهاجرين وهم الذين هاجروا من بعد ، وقيل : التابعون بإحسان وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، وذكر تعالى أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان ، وهو قوله : {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَـانِ وَلا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا } أي غشاً وحسداً وبغضاً.
(1/4444)

واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون أ الأنصار أو الذين جاءوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 510
510
قال المقاتلان : يعني عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد ، كانوا من الأنصار ، ولكنهم نافقوا يقولون لإخوانهم ، وهذه الأخوة تحتمل وجوهاً أحدها : الأخوة في الكفر لأن اليهود والمنافقين كانوا مشتركين في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم وثانيها : الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة وثالثها : الأخوة بسبب ما بينهما من المشاركة في عداوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم أخبر / تعالى عنهم أنهم قالوا لليهود : { لئن أُخْرِجْتُمْ} من المدينة {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ} أي في خذلانكم {أَحَدًا أَبَدًا} ووعدوهم النصر أيضاً بقولهم : {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} ثم إنه تعالى شهد على كونهم كاذبين في هذا القول فقال : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} .
ولما شهد على كذبهم على سبيل الإجمال أتبعه بالتفصيل فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 510
510
واعلم أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، فعلم الموجودات في الأزمنة الثلاثة ، والمعدومات في الأزمنة الثلاثة ، وعلم في كل واحد من هذه الوجوه الستة ، أنه لو كان على خلاف ما وقع كيف كان يكون على ذلك التقدير ، فههنا أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم ، وقد كان الأمر كذلك ، لأن بني النضير لما أخرجوا لم يخرج معهم المنافقين ، وقوتلوا أيضاً فما نصروهم ، فأما قوله تعالى : {وَلَـاـاِن نَّصَرُوهُمْ} فتقديره كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول ، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول ، لكنه لا يفيد لك فائدة ، فكذا ههنا ذكر تعالى أنهم لا ينصرونهم ، وبتقدير أن ينصروا إلا أنهم لا بد وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا ، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي الأعداء ، ونظير هذه الآية قوله : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} ، فأما قوله : {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} ففيه وجهان : الأول : أنه راجع إلى المنافقين يعني لينهز من المنافقون : {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} بعد ذلك أي يهلكهم الله ، ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم والثاني : لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.
ثم ذكر تعالى أن خوف المنافقين من المؤمنين أشد من خوفهم من الله تعالى فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 510
511
أي لا يعلمون عظمة الله حتى يخشوه حق خشيته.
جزء : 29 رقم الصفحة : 511
511
ثم قال تعالى : {لا يُقَـاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرا } يريد أن هؤلاء اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب / أو من وراء جدر ، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب ، وأن تأييد الله ونصرته معكم ، وقرىء {جُدُرا } بالتخفيف وجدار وجدر وجدر وهما الجدار.
ثم قال تعالى : {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌا تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ا ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} وفيه ثلاثة أوجه أحدها : يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما يكون إذا كان بعضهم مع بعض ، فأما إذا قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة ، لأن الشجاع يجبن والعز يذل عند محاربة الله ورسوله وثانيها : قال مجاهد : المعنى أنهم إذا اجتمعوا يقولون : لنفعلن كذا وكذا ، فهم يهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون ، ثم يحترزون عن الخروج للقتال فبأسهم فيما بينهم شديد ، لا فيما بينهم وبين المؤمنين وثالثها : قال ابن عباس : معناه بعضهم عدو للبعض ، والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } يعني تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة ، أما قلوبهم فشتى ، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر ، وبينهم عداوة شديدة ، وهذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم ، وقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} فيه وجهان : الأول : أن ذلك بسبب أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم والثاني : لا يعقلون أن تشيت القلوب مما يوهن قواهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 511
511
(1/4445)

أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب فإن قيل : بم انتصب {قَرِيبًا } ، قلنا : بمثل ، والتقدير كوجود مثل أهل بدر. {قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله من قولهم : كلأ وبيل أي وخيم سيىء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا {وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} . ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 511
511
أي مثل المنافقين الذين غروا بني النضير بقولهم : { لئن أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} (الحشر : 11) ثم خذلوهم وما وفوا بعهدهم : {كَمَثَلِ الشَّيْطَـانِ إِذْ قَالَ لِلانسَـانِ اكْفُرْ} / ثم تبرأ منه في العاقبة ، والمراد إما عموم دعوة الشيطان إلى الكفر ، وإما إغواء الشيطان قريشاً يوم بدر بقوله : {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُم فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنكُمْ} (الأنفال : 48). ثم قال :
(17)
جزء : 29 رقم الصفحة : 511
512
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال مقاتل : فكان عاقبة المنافقين واليهود مثل عاقبة الشيطان والإنسان حيث صارا إلى النار.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قرأ ابن مسعود (خالدان فيها) ، على أنه خبران ، و(في النار) لغو ، وعلى القراءة المشهورة الخبر هو الظرف {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ} حال ، وقرىء : {عَـاقِبَتَهُمَآ} بالرفع ، ثم قال : {وَذَالِكَ جَزَا ؤُا الظَّـالِمِينَ} أي المشركين ، لقوله تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13).
جزء : 29 رقم الصفحة : 512
512
ثم إنه تعالى رجع إلى موعظة المؤمنين فقال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } . الغد : يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له ، ثم ذكر النفس والغد على سبيل التنكير. أما الفائدة في تنكير النفس فاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك ، وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأنه قيل : الغد لا يعرف كنهه لعظمه.
ثم قال : {وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو يحمل الأول : على أداء الواجبات والثاني : على ترك المعاصي.
جزء : 29 رقم الصفحة : 512
512
ثم قال تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ } وفيه وجهان : الأول : قال المقاتلان : نسوا حق الله فجعلهم ناسين حق أنفسهم حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده الثاني : {فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ } أي أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله : {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُم وَأَفْـاِدَتُهُمْ} (إبراهيم : 43) {وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى } (الحج : 2).
ثم قال : { أولئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ} والمقصود منه الذم ، واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة بقوله : {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } (الحشر : 18) وهدد الكافرين بقوله : {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ } بين الفرق بين الفريقين فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 512
512
واعلم أن التفاوت بين هذين الفريقين معلوم بالضرورة ، فذكر هذا الفرق في مثل هذا الموضع يكون الغرض منه التنبيه على عظم ذلك الفرق ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعتزلة احتجوا على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة ، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان ، فلو دخل صاحب الكبيرة في الجنة لكان أصحاب النار وأصحاب الجنة يستويان ، وهو غير جائز ، وجوابه معلوم.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي ، وقد بينا وجهه في الخلافيات.
جزء : 29 رقم الصفحة : 512
514
ثم إنه تعالى لما شرح هذه البيانات عظم أمر القرآن فقال :
{لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه } والمعنى أنه لو جعل في الجبل عقل كما جعل فيكم ، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله.
ثم قال : {وَتِلْكَ الامْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي الغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار ، وغلظ طباعهم ، ونظير قوله : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنا بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } (البقرة : 74) واعلم أنه لما وصف القرآن بالعظم ، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف ، أتبع ذلك بشرح عظمة الله فقال :
(1/4446)

جزء : 29 رقم الصفحة : 514
515
وقيل : السر والعلانية وقيل : الدنيا والآخرة.
اعلم أنه تعالى قدم الغيب على الشهادة في اللفظ وفيه سر عقلي ، أما المفسرون فذكروا أقوالاً في الغيب والشهادة ، فقيل : الغيب المعدوم ، والشهادة الموجود ما غاب عن العباد وما شاهدوه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 515
515
ثم قال : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ} وكل ذلك قد تقدم تفسيره.
/ ثم قال : {الْقُدُّوسُ} قرىء : بالضم والفتح ، وهو البليغ في النزاهة في الذات والصافات ، والأفعال والأحكام والأسماء ، وقد شرحناه في أول سورة الحديد ، ومضى شيء منه في تفسير قوله : {وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) وقال الحسن : إنه الذي كثرت بركاته.
وقوله : {السَّلَـامُ} فيه وجهان الأول : أنه بمعنى السلامة ومنه دار السلام ، وسلام عليكم وصف به مبالغة في كونه سليماً من النقائص كما يقال : رجاء ، وغياث ، وعدل فإن قيل فعلى هذا التفسير لايبقى بين القدوس ، وبين السلام فرق ، والتكرار خلاف الأصل ، قلنا : كونه قدوساً ، إشارة إلى براءته عن جميع العيوب في الماضي والحاضر ، كونه : سليماً ، إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من العيوب ، فإنه تزول سلامته ولا يبقى سليماً الثاني : أنه سلام بمعنى كونه موجباً للسلامة.
وقوله : {الْمُؤْمِنُ} فيه وجهان الأول : أنه الذي آمن أولياءه عذابه ، يقال : آمنه يؤمنه فهو مؤمن والثاني : أنه المصدق ، إما على معنى أنه يصدق أنبياءه بإظهار المعجزة لهم ، أو لأجل أن أمة محمد صلى الله عليه وسلّم يشهدون لسائر الأنبياء ، كما قال : {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143) ثم إن الله يصدقهم في تلك الشهادة ، وقرىء بفتح الميم ، يعني المؤمن به على حذف الجار كما حذف في قوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه } (الأعراف : 155).
وقوله : {الْمُهَيْمِنُ} قالوا : معناه الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء. ثم في أصله قولان ، قال الخليل وأبو عبيدة : هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيب على الشيء ، وقال آخرون : مهيمن أصله مؤيمن ، من آمن يؤمن ، فيكون بمعنى المؤمن ، وقد تقدم استقصاؤه عند قوله : {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه } (المائدة : 48) وقال ابن الأنباري : المهيمن القائم على خلقه برزقه وأنشد :
جزء : 29 رقم الصفحة : 515
ألا إن خير الناس بعد نبيه
مهيمنه التاليه في العرف والنكر
قال معناه : القائم على الناس بعده.
وما {الْعَزِيزُ} فهو إما الذي لا يوجد له نظير ، وإما الغالب القاهر.
وأما {الْجَبَّارُ} ففيه وجوه أحدها : أنه فعال من جبر إذا أغنى الفقير ، وأصلح الكسير. قال الأزهري : وهو لعمري جابر كل كسير وفقير ، وهو جابر دينه الذي ارتضاه ، قال العجاج :
قد جبر الدين الإله فجبر
والثاني : أن يكون الجبار من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراده ، قال السدي : إنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراده ، قال الأزهري : هي لغة تميم ، وكثير من الحجازيين يقولونها ، وكان الشافعي يقول : جبره السلطان على كذا بغير ألف. وجعل الفراء الجبار بهذا معنى / من أجبره ، وهي اللغة المعروفة في الإكراه ، فقال : لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين ، وهما جبار من أجبر ، ودراك من أدرك ، وعلى هذا القول الجبار هو القهار الثالث : قال ابن الأنباري : الجبار في صفة الله الذي لا ينال ، ومنه قيل للنخلة التي فاتت يد المتناول : جبارة الرابع : قال ابن عباس : الجبار ، هو الملك العظيم ، قال الواحدي : هذا الذي ذكرناه من معاني الجبار في صفة الله ، وللجبار معان في صفة الخلق أحدها : المسلط كقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } (ق : 45) ، والثاني : العظيم الجسم كقوله : {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} (المائدة : 22) والثالث : المتمرد عن عبادة الله ، كقوله : {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا} مريم : 32) ، والرابع : القتال كقوله : {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء : 130) وقوله : {إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ} (القصص : 19).
(1/4447)

أما قوله : {الْمُتَكَبِّرُ } ففيه وجوه أحدها : قال ابن عباس : الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وثانيها : قال قتادة : المتعظم عن كل سوء وثالثها : قال الزجاج : الذي تعظم عن ظلم العباد ورابعها : قال ابن الأنباري : المتكبرة ذو الكبرياء ، والكبرياء عند العرب : الملك ، ومنه قوله تعالى : {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الارْضِ} (يونس) 78) ، واعلم أن المتكبر في حق الخلق اسم ذم ، لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر ، وذلك نقص في حق الخلق ، لأنه ليس له كبر ولا علو ، بل ليس معه إلا الحقارة والذلة والمسكنة ، فإذا أظهر العلو كان كاذباً ، فكان ذلك مذموماً في حقه أما الحق سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء ، فإذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعلوه ، فكان ذلك في غاية المدح في حقه سبحانه ولهذا السبب لما ذكر هذا الإسم :
جزء : 29 رقم الصفحة : 515
قال : {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} كأنه قيل : إن المخلوقين قد يتكبرون ويدعون مشاركة الله في هذا الوصف لكنه سبحانه منزه عن التكبر الذي هو حاصل للخلق لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم ، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي ، أما الحق سبحانه فله العلو والعزة ، فإذا أظهره كان ذلك ضم كمال إلى كمال ، فسبحان الله عما يشركون في إثبات صفة المتكبرية للخلق.
جزء : 29 رقم الصفحة : 515
517
ثم قال : {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} والخلق هو التقدير معناه أنه يقدر أفعاله على وجوه مخصوصة ، فالخالقية راجعة إلى صفة الإرادة.
ثم قال : {الْبَارِئُ} وهو بمنزلة قولنا : صانع وموجد إلا أنه يفيد اختراع الأجسام ، ولذلك يقال في الخلق : برية ولا يقال في الأعراض التي هي كاللون والطعم.
وأما {الْمُصَوِّرُ } فمعناه أنه يخلق صور الخلق على ما يريد ، وقدم ذكر الخالق على البارىء ، / لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارىء على المصور ، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.
ثم قال تعالى : {لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } وقد فسرناه في قوله : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الأعراف : 180).
أما قوله : {يُسَبِّحُ لَه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فقد مر تفسيره في أول سورة الحديد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليماً كثيراً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 517
518
(1/4448)

سورة الممتحنة
وهي ثلاث عشرة آية مدنية
جزء : 29 رقم الصفحة : 518
519
{الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن من جملة ما يتحقق به التعلق بما قبلها هو أنهما يشتركان في بيان حال الرسول صلى الله عليه وسلّم مع الحاضرين في زمانه من اليهود والنصارى وغيرهم ، فإن بعضهم أقدموا على الصلح واعترفوا بصدقه ، ومن جملتهم بنو النضير ، فإنهم قالوا : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته وصفته في التوراة ، وبعضهم أنكروا ذلك وأقدموا على القتال ، إما على التصريح وإما على الإخفاء ، فإنهم مع أهل الإسلام في الظاهر ، ومع أهل الكفر في الباطن ، وأما تعلق الأول بالآخر فظاهر ، لما أن آخر تلك السورة يشتمل على الصفات الحميدة لحضرة الله تعالى من الوحدانية وغيرها ، وأول هذه السورة مشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات.
جزء : 29 رقم الصفحة : 519
المسألة الثانية : أما سبب النزول فقد روي أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، لما كتب إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتجهز للفتح ويريد أن يغزوكم فخذوا حذركم ، ثم أرسل ذلك الكتاب مع امرأة مولاة لبني هاشم ، يقال لها سارة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة ، فقال عليه السلام : أمسلمة جئت ؟
قالت : لا ، قال : أمهاجرة جئت ؟
قالت : لا ، قال : فما جاء بك ؟
قالت : قد ذهب الموالي يوم بدر ـ أي قتلوا في ذلك اليوم ـ فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني المطلب فكسوها وحملوها وزودوها ، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة ، فخرجت سائرة ، فأطلع الله الرسول عليه السلام على ذلك ، فبعث علياً وعمر وعماراً وطلحة والزبير خلفها وهم فرسان ، فأدركوها وسألوها عن ذلك فأنكرت وحلفت ، فقال علي عليه السلام : والله ما كذبنا ، ولا كذب رسول الله ، وسل سيفه ، فأخرجته من عقاص شعرها ، فجاءوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعرضه على حاطب فاعترف ، وقال : إن لي بمكة أهلاً ومالاً فأردت أن أتقرب منهم ، وقد علمت أن الله / تعالى ينزل بأسه عليهم ، فصدقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه وسلّم : ما يدريك يا عمر لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم فنزلت ، وأما تفسير الآية فالخطاب في : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } قد مر ، وكذلك في الإيمان أنه في نفسه شيء واحد وهو التصديق بالقلب أو أشياء كثيرة وهي الطاعات ، كما ذهب إليه المعتزلة ، وأما قوله تعالى : {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ} فاتخذ يتعدى إلى مفعولين ، وهما عدوي وأولياء ، والعدو فعول من عدا ، كعفو من عفا ، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، والعداوة ضد الصداقة ، وهما لا يجتمعان في محل واحد ، في زمان واحد ، من جهة واحدة/ لكنهما يرتفعان في مادة الإمكان ، وعن الزجاج والكرابيسي {عَدُوِّى} أي عدو ديني ، وقال عليه السلام : "المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل" وقال عليه السلام لأبي ذر : "يا أبا ذر أي عرا الإيمان أوثق ، فقال الله ورسوله أعلم ، فقال الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله" وقوله تعالى : {تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} فيه مسألتان :
جزء : 29 رقم الصفحة : 519
المسألة الأولى : قوله : {تُلْقُونَ} بماذا يتعلق ، نقول : فيه وجوه الأول : قال صاحب النظم : هو وصف النكرة التي هي أولياء ، قاله الفراء والثاني : قال في الكشاف : يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره ، وأولياء صفة له الثالث : قال ويجوز أن يكون استئنافاً ، فلا يكون صلة لأولياء ، والباء في المودة كهي في قوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادا بِظُلْمٍ} (الحج : 25) والمعنى : تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلّم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ، ويدل عليه : {تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} .
المسألة الثانية : في الآية مباحث الأول : اتخاذ العدو ولياً كيف يمكن ، وقد كانت العداوة منافية للمحبة والمودة ، والمحبة المودة من لوازم ذلك الاتخاذ ، نقول : لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر ، والمحبة والمودة بالنسبة إلى أمر آخر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ} (التغابن : 14) والنبي صلى الله عليه وسلّم قال : "أولادنا أكبادنا" الثاني : لما قال : {عَدُوِّى} فلم لم يكتف به حتى قال : {وَعَدُوَّكُمْ} لأن عدو الله إنما هو عدو المؤمنين ؟
نقول : الأمر لازم من هذا التلازم ، وإنما لا يلزم من كونه عدواً للمؤمنين أن يكون عدواً لله ، كما قال : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ} ، الثالث : لم قال : {عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ} ولم يقل بالعكس ؟
فنقول : العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبة الله تعالى ومحبة رسوله ، فتكون محبة العبد من أهل الإيمان لحضرة الله تعالى لعلة ، ومحبة حضرة الله تعالى للعبد لا لعلة ، لما أنه غني على الإطلاق ، فلا حاجة به إلى الغير أصلاً ، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة ، ولأن الشيء إذا كان له نسبة إلى الطرفين ، فالطرف الأعلى مقدم على الطرف الأدنى ، الرابع : قال : {أَوْلِيَآءَ} ولم يقل : ولياً ، والعدو والولي بلفظ ، فنقول : كما أن المعرف بحرف التعريف / يتناول كل فرد ، فكذلك المعرف بالإضافة الخامس : منهم من قال : الباء زائدة ، وقد مر أن الزيادة في القرآن لا تمكن ، والباء مشتملة على الفائدة ، فلا تكون زائدة في الحقيقة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 519
(1/4449)

ثم قال تعالى : {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى} .
{وَقَدْ كَفَرُوا } الواو للحال ، أي وحالهم أنهم كفروا : {بِمَا جَآءَكُم مِّنَ} الدين {الْحَقِّ} ، وقيل : من القرآن {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } يعني من مكة إلى المدينة {أَن تُؤْمِنُوا } أي لأن تؤمنوا {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} وقوله : {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} قال الزجاج : هو شرط جوابه متقدم وهو : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ، وقوله : {جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى } منصوبان لأنهما مفعولان لهما ، {تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} عن مقاتل بالنصيحة ، ثم ذكر أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، فقال : {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} من المودة للكفار {وَمَآ أَعْلَنتُمْ } أي أظهرتم ، ولا يبعد أن يكون هذا عاماً في كل ما يخفى ويعلن/ قال بعضهم : هو أعلم بسرائر العبد وخفاياه وظاهره وباطنه ، من أفعاله وأحواله ، وقوله : {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} يجوز أن تكون الكناية راجعة إلى الإسرار ، وإلى الإلقاء ، وإلى اتخاذ الكفار أولياء ، لما أن هذه الأفعال مذكورة من قبل ، وقوله تعالى : {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} فيه وجهان : الأول : عن ابن عباس : أنه عدل عن قصد الإيمان في اعتقاده ، وعن مقاتل : قد أخطأ قصد الطريق عن الهدى ، ثم في الآية مباحث :
الأول : {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بلا تتخذوا ، يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي ، استئناف ، معناه : أي طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي.
الثاني : لقائل أن يقول : {رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} الآية ، قضية شرطية ، ولو كان كذلك فلا يمكن وجود الشرط ، وهو قوله : {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} بدون ذلك النهي ، ومن المعلوم أنه يمكن ، فنقول : هذا المجموع شرط لمقتضى ذلك النهي ، لا للنهي بصريح اللفظ ، ولا يمكن وجود المجموع بدون ذلك لأن ذلك موجود دائماً ، فالفائدة في ابتغاء مرضاتي ظاهرة ، إذ الخروج قد يكون ابتغاء لمرضاة الله وقد لا يكون.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 519
الثالث : قال تعالى : {بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } ولم يقل : بما أسررتم وما أعلنتم ، مع أنه أليق بما سبق وهو {تُسِرُّونَ} ، فنقول فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإن الإخفاء أبلغ من الإسرار ، دل عليه قوله : {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه : 7) أي أخفى من السر.
الرابع : قال : {بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} قدم العلم بالإخفاء على الإعلان ، مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس. هذا بالنسبة إلى علمنا ، لا بالنسبة إلى علمه تعالى ، إذ هما سيان في علمه كما مر ، ولأن المقصود هو بيان ما هو الأخفى وهو الكفر ، فيكون مقدماً.
الخامس : قال تعالى : {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} ما الفائدة في قوله : {مِنكُمْ} ومن المعلوم أن من فعل هذا الفعل {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} نقول : إذا كان المراد من {مِنكُمْ} من المؤمنين فظاهر ، لأن من يفعل ذلك الفعل لا يلزم أن يكون مؤمناً.
ثم إنه أخبر المؤمنين بعداوة كفار أهل مكة فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 519
520
{يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يَكُونُوا لَكُمْ} في غاية العداوة ، وهو قول ابن عباس ، وقال مقاتل : يظهروا عليكم يصادقوكم {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالضرب {وَأَلْسِنَتَهُم} بالشتم {وَوَدُّوا } أن ترجعوا إلى دينهم ، والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله لما بينهم من المباينة {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} لما عوتب حاطب على ما فعل اعتذر بأن له أرحاماً ، وهي القرابات ، والأولاد فيما بينهم ، وليس له هناك من يمنع عشيرته ، فأراد أن يتخذ عندهم يداً ليحسنوا إلى من خلفهم بمكة من عشيرته ، فقال : {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُمْ } الذين توالون الكفار من أجلهم ، وتتقربون إليهم مخافة عليهم ، ثم قال : {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } وبين أقاربكم وأولادكم فيدخل أهل الإيمان الجنة ، وأهل الكفر النار {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي بما عمل حاطب ، ثم في الآية مباحث :
الأول : ما قاله صاحب الكشاف : {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَآءً} كيف يورد جواب الشرط مضارعاً مثله ، ثم قال : {وَوَدُّوا } بلفظ الماضي نقول : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم.
/ الثاني : {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} ظرف لاي شيء ، قلنا لقوله : {لَن تَنفَعَكُمْ} أو يكون ظرفاً ليفصل وقرأ ابن كثير : {يَفْصِلُ} بضم الياء وفتح الصاد ، و{يَفْصِلُ} على البناء للفاعل وهو الله ، و(نفصل) و(نفصل) بالنون.
(1/4450)

جزء : 29 رقم الصفحة : 520
الثالث : قال تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ولم يقل : خبير ، مع أنه أبلغ في العلم بالشيء ، والجواب : أن الخبير أبلغ في العلم والبصير أظهر منه فيه ، لما أنه يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر والله أعلم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 520
521
اعلم أن الأسوة ما يؤتسى به مثل القدوة لما يقتدى به ، يقال : هو أسوتك ، أي أنت مثله وهو مثلك ، وجمع الأسوة أسى ، فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به ، قال المفسرون أخبر الله تعالى أن إبراهيم وأصحابه تبرءوا من قومهم وعادوهم ، وقالوا لهم : {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} ، وأمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأنسوا بهم وبقوله ، قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهله في قوله تعالى : {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَا ؤُا مِنكُمْ} وقوله تعالى : {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وهو مشرك وقال مجاهد : نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفرون للمشركين ، وقال مجاهد وقتادة : ائتسوا بأمر إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه ، وقيل : تبرءوا من كفار قومكم فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم ، لا في الاستغفار لأبيه ، وقال ابن قتيبة : يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه : {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وقال ابن الأنباري : ليس الأمر على ما ذكره ، بل المعنى قد كانت لكم أسوة في كل شيء فعله ، إلا في قوله لأبيه : {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} / وقوله تعالى : {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } هذا من قول إبراهيم لأبيه يقول له : ما أغنى عنك شيئاً ، ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به ، فوعده الاستغفار رجاء الإسلام ، وقال ابن عباس : كان من دعاء إبراهيم وأصحابه : {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} الآية ، أي في جميع أمورنا {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} رجعنا بالتوبة عن المعصية إليك إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك ، وفي الآية مباحث :
جزء : 29 رقم الصفحة : 521
الأول : لقائل أن يقول : {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه } ما الفائدة في قوله : {وَحْدَه } والإيمان به وبغيره من اللوازم ، كما قال تعالى : {كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه } (البقرة : 285) فنقول : الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ، من لوازم الإيمان بالله وحده ، إذ المراد من قوله : {وَحْدَه } هو وحده في الألوهية ، ولا نشك في أن الإيمان بألوهية غيره ، لا يكون إيماناً بالله ، إذ هو الإشراك في الحقيقة ، والمشرك لا يكون مؤمناً.
الثاني : قوله تعالى : {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} استثناء من أي شيء هو ، نقول : من قوله : {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لما أنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ، ويتخذوه سنة يستنون بها.
الثالث : إن كان قوله : {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} مستثنى من القول الذي سبق وهو : {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فما بال قوله : {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا} (الفتح : 11) نقول : أراد الله تعالى استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له/ كأنه قال : أنا استغفر لك ، وما وسعي إلا الاستغفار.
الرابع : إذا قيل : بم اتصل قوله : {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} نقول : بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة ، ويجوز أن يكون المعنى هو الأمر بهذا القول تعليماً للمؤمنين وتتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفرة ، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم تنبيهاً على الإنابة إلى حضرة الله تعالى ، والاستعاذة به.
الخامس : إذا قيل : ما الفائدة في هذا الترتيب ؟
فنقول : فيه من الفوائد مالا يحيط به إلا هو ، والظاهر من تلك الجملة أن يقال : التوكل لأجل الإفادة ، وإفادة التوكل مفتقرة إلى التقوى قال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا} (الطلاق : 2) والتقوى الإنابة ، إذ التقوى الاحتراز عما لا ينبغي من الأمور ، والإشارة إلى أن المرجع والمصير للخلائق حضرته المقدسة ليس إلا ، فكأنه ذكر الشيء ، وذكر عقيبه ما يكون من اللوازم لإفادة ذلك كما ينبغي ، والقراءة في {بَرَآءٌ} على أربعة أوجه : برآء كشركاء ، وبراء كظراف ، وبراء على إبدال الضم من الكسر كرخال ، وبراء على الوصف بالمصدر والبراء والبراءة ، مثل الطماء والطماءة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 521
523
(1/4451)

قوله : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} من دعاء إبراهيم. قال ابن عباس : لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق ، وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك ، وقيل : لا تبسط عليهم الرزق دوننا ، فإن ذلك فتنة لهم ، وقيل : قوله {لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} ، أي عذاباً أي سبباً يعذب به الكفرة ، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم. وقوله تعالى : {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ } الآية ، من جملة ما مر ، فكأنه قيل : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } ثم أعاد ذكر الأسوة تأكيداً للكلام ، فقال : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي في إبراهيم والذين معه ، وهذا هو الحث عن الائتساء بإبراهيم وقومه ، قال ابن عباس : كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله ، وقوله تعالى : {لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ} بدل من قوله : {لَكُمْ} وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ، {وَمَن يَتَوَلَّ} أي يعرض عن الائتساء بهم ويميل إلى مودة الكفار {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ} عن مخالفة أعدائه {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه. أما قوله : {عَسَى اللَّهُ} فقال مقاتل : لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم والبراءة منهم فأنزل الله تعالى قوله : {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم}
جزء : 29 رقم الصفحة : 523
أي من كفار مكة {مَّوَدَّةً } وذلك بميلهم إلى الإسلام ومخالطتهم مع أهل الإسلام ومناكحتهم إياهم. وقيل : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم أم حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان ، واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أم حبيبة قد أسلمت ، وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصر وراودها على النصرانية فأبت ، وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى النجاشي ، فخطبها عليه ، وساق عنه إليها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يفدغ أنفه ، / و{عَسَى} وعد من الله تعالى : {وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } يريد نفراً من قريش آمنوا بعد فتح مكة ، منهم أبو سفيان بن حرب ، وأبو سفيان بن الحرث ، والحرث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام ، والله تعالى قادر على تقليب القلوب ، وتغيير الأحوال ، وتسهيل أسباب المودة ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بهم إذا تابوا وأسلموا ، ورجعوا إلى حضرة الله تعالى ، قال بعضهم : لا تهجروا كل الهجر ، فإن الله مطلع على الخفيات والسرائر. ويروى : أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما.
ومن المباحث في هذه الحكمة هو أن قوله تعالى : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} إذا كان تأويله : لا تسلط علينا أعداءنا مثلاً ، فلم ترك هذا ، وأتى بذلك ؟
فنقول : إذا كان ذلك بحيث يحتمل أن يكون عبارة عن هذا ، فإذا أتى به فكأنه أتى بهذا وذلك ، وفيه من الفوائد ما ليس في الاقتصار على واحد من تلك التأويلات.
الثاني : لقائل أن يقول : ما الفائدة في قوله تعالى : {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ } وقد كان الكلام مرتباً إذا قيل : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم فنقول : إنهم طلبوا البراءة عن الفتنة ، والبراءة عن الفتنة لا يمكن وجودها بدون المغفرة ، إذ العاصي لو لم يكن مغفوراً كان مقهوراً بقهر العذاب ، وذلك فتنة ، إذ الفتنة عبارة عن كونه مقهوراً ، و{الْحَمِيدُ} قد يكون بمعنى الحامد ، وبمعنى المحمود ، فالمحمود أي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم ، والحامد أي يحمد الخلق ، ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال.
ثم إنه تعالى بعدما ذكر من ترك انقطاع المؤمنين بالكلية عن الكفار رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 523
525
(1/4452)

اختلفوا في المراد من {الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ} فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا / رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ترك القتال ، والمظاهرة في العداوة ، وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه ، فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم ، وهذا قول ابن عباس والمقاتلين والكلبي ، وقال مجاهد : الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا ، وقيل : هم النساء والصبيان ، وعن عبد الله بن الزبير : أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر قدمت أمها فتيلة عليها وهي مشركة بهدايا ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلّم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها ، وعن ابن عباس : أنهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرهاً ، وعن الحسن : أن المسلمين استأمروا رسول الله في أقربائهم من المشركين أن يصلوهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل الآية في المشركين ، وقال قتادة نسختها آية القتال. وقوله : {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من {الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ} وكذلك {أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل من{الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ} والمعنى : لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء ، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة ، وقال أهل التأويل : هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين ، وإن كانت الموالاة منقطعة ، وقوله تعالى : {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } قال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يريد أهل البر والتواصل ، وقال مقاتل : أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا ، ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال : {إِنَّمَا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ وَظَـاهَرُوا عَلَى ا إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ } وفيه لطيفة : وهي أنه يؤكد قوله تعالى : {لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ} .
[
جزء : 29 رقم الصفحة : 525
بم ثن قال تعالى :
/ في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول ، وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة ، إما أن يستمر عناده ، أو يرجى منه أن يترك العناد ، أو يترك العناد ويستسلم ، وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم ، وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال.
أما قوله تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَه ا إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَا ؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} (الممتحنة : 4) فهو إشارة إلى الحالة الأولى ، ثم قوله : {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } (الممتحنة : 7) إشارة إلى الحالة الثانية ، ثم قوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ} إشارة إلى الحالة الثالثة ، ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق ، لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن ، وبالكلام إلا بالذي هو أليق.
(1/4453)

واعلم أنه تعالى سماهن مؤمنات لصدور ما يقتضي الإيمان وهو كلمة الشهادة منهن/ ولم يظهر منهن ما هو المنافي له ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان والامتحان وهو الابتلاء بالحلف ، والحلف لأجل غلبة الظن بإيمانهن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول للممتحنة : "بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله" وقوله : {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِهِنَّ } منكم والله يتولى السرائر : {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} العلم الذي هو عبارة عن الظن الغالب بالحلف وغيره ، {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } أي تردوهن إلى أزواجهن المشركين ، وقوله تعالى : {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّا وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُوا } أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور ، وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة يرد إليهم ، ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم ، وكتبوا بذلك العهد كتاباً وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلّم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي ، وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد أردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطاً أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان للرجال دون النساء. وعن الزهري أنه قال : إنها جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي عاتق ، فجاء أهلها يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرجعها إليهم ، وكانت هربت من زوجها عمرو بن العاس ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخويها وحبسها فقالوا : أرددها علينا ، فقال عليه السلام : "كان الشرط في الرجال دون النساء" وعن الضحاك : أن العهد كان إن يأتك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، وإن دخلت في دينك ولها زوج ردت على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلّم من الشرط مثل ذلك ، ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد ، واستحلفها الرسول عليه السلام فحلفت وأعطى زوجها ما أنفق ، ثم تزوجها عمر ، وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 525
{وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّا وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُوا ا وَلا} أي مهورهن إذ المهر أجر البضع {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} والعصمة ما يعتصم به من عهد / وغيره ، ولا عصمة بينكم وبينهن ولا علقة النكاح كذلك ، وعن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة ، وقيل : لا تقعدوا للكوافر ، وقرىء : {تُمْسِكُوا } ، بالتخفيف والتشديد ، و{تُمْسِكُوا } أي ولا تتمسكوا ، وقوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } وهو إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ولم يدفعوها إليكم فعليهم أن يغرموا صداقها كما يغرم لهم وهو قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ مُهَـاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } أي بين المسلمين والكفار وفي الآية مباحث :
الأول : قوله : {فَامْتَحِنُوهُنَّ } أمر بمعنى الوجوب أو بمعنى الندب أو بغير هذا وذلك ؟
قال الواحدي : هو بمعنى الاستحباب.
الثاني : ما الفائدة في قوله : {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِهِنَّ } وذلك معلوم من غير شك ؟
نقول : فائدته بيان أن لا سبيل إلى ما تطمئن به النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب.
الثالث : ما الفائدة في قوله : {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر ؟
نقول : هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل/ وفيه من الإفادة مالا يكون في غيره ، فإن قيل : هب أنه كذلك لكن يكفي قوله : {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } لأنه لا يحل أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه والمقصود هذا لا غير ، نقول : التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين بخلاف التلفظ بذلك اللفظ وهذا ظاهر.
البحث الرابع : كيف سمى الظن علماً في قوله : {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} ؟
نقول : إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد ، والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } (الإسراء : 36).
جزء : 29 رقم الصفحة : 525
526
(1/4454)

روى عن الزهري ومسروق أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم ، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة ، فأقر المسلمون بحكم الله وأبى المشركون فنزلت : {وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي سبقكم وانفلت / منكم ، قال الحسن ومقاتل : نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي ، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام ، وقوله تعالى : {فَعَاقَبْتُمْ} أي فغنمتم ، على قول ابن عباس ومسروق ومقاتل ، وقال أبو عبيدة أصبتم منهم عقبى ، وقال المبرد {فَعَاقَبْتُمْ} أي فعلتم ما فعل بكل يعني ظفرتم ، وهو من قولك : العقبى لفلان ، أي العاقبة ، وتأويل العاقبة الكرة الأخيرة ، ومعنى عاقبتم : غزوتم معاقبين غزواً بعد غزو ، وقيل : كانت العقبى لكم والغلبة ، فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر ، وهو قوله : {فَـاَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَآ أَنفَقُوا } ، وقرىء : (فأعقبتم) بالتشديد ، و(فعقبتم) بالتخفيف بفتح القاف وكسرها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 526
526
روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعرفها ، فقال عليه الصلاة والسلام : "أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً ، فرفعت هند رأسها وقالت : والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط ، فقال عليه الصلاة والسلام : ولا تسرقن ، فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا ؟
فقال : أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفها ، فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة ، قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك ، فقال : ولا تزنين ، فقالت : أتزن الحرة ، وفي رواية مازنت منهن امرأة قط ، فقال : ولا تقتلن أولادكن ، فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً ، فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك رضي الله عنه حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ولا تأتين ببهتان تفترينه ، وهو أن تقذف على زوجها ما ليس منه ، فقالت هند : والله / إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : ولا تعصينني في معروف ، فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصينك في شيء" وقوله : {وَلا يَسْرِقْنَ} يتضمن النهي عن الخيانة في الأموال والنقصان من العبادة ، فإنه يقال : أسرق من السارق من سرق من صلاته : {وَلا يَزْنِينَ} يحتمل حقيقة الزنا ودواعيه أيضاً على ما قال صلى الله عليه وسلّم : "اليدان تزنيان ، والعينان تزنيان ، والرجلان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وقوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 526
(1/4455)

{وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} أراد وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد وغيره ، وقوله : {وَلا يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ} نهى عن النميمة أي لا تنم إحداهن على صاحبها فيورث القطيعة ، ويحتمل أن يكون نهياً عن إلحاق الولد بأزواجهن. قال ابن عباس : لا تلحق بزوجها ولداً ليس منه ، قال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن وذلك أن الولد إذا رضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ، وليس المعنى نهيهن عن الزنا ، لأن النهي عن الزنا قد تقدم ، وقوله : {وَلا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } أي كل أمر وافق طاعة الله ، وقيل : في أمر بر وتقوى ، وقيل في كل أمر فيه رشد ، أي ولا يعصينك في جميع أمرك ، وقال ابن المسيب والكلبي وعبد الرحمن بن زيد : {وَلا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } أي مما تأمرهن به وتنهاهن عنه ، كالنوح وتمزيق الثياب ، وجز الشعر ونتفه ، وشق الجيب ، وخمش الوجه ، ولا تحدث الرجال إلا إذا كان ذا رحم محرم ، ولا تخلو برجل غير محرم ، ولا تسافر إلا مع ذي رحم محرم ، ومنهم من خص هذا المعروف بالنوح/ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، قال : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستقاء بالنجوم ، والنياحة" وقال : "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من جرب" وقال صلى الله عليه وسلّم : "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" وقوله : {فَبَايِعْهُنَّ} جواب {إِذَا} ، أي إذا بايعنك على هذه الشرائط فبايعهن ، واختلفوا في كيفية المبايعة ، فقالوا : كان يبايعهن وبين يده وأيديهن ثوب ، وقيل : كان يشترط عليهن البيعة وعمر يصافحهن ، قاله الكلبي ، وقيل : بالكلام ، وقيل : دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ، ثم غمسن أيديهن فيه ، وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يد امرأة قط ، وفي الآية مباحث :
البحث الأول : قال تعالى : {إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ولم يقل : فامتحنوهن ، كما قال في المهاجرات والجواب : من وجهين أحدهما : أن الامتحان حاصل بقوله تعالى : {عَلَى ا أَن لا يُشْرِكْنَ} إلى آخره وثانيهما : أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع لهن على الشرائع ، فلا بد من الامتحان ، وأما المؤمنات فهن في دار الإسلام وعلمن الشرائع فلا حاجة إلى الامتحان.
جزء : 29 رقم الصفحة : 526
الثاني : ما الفائدة في قوله تعالى : {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} وما وجهه ؟
نقول : من قال المرأة إذا التقطت ولداً ، فإنما التقطت بيدها ، ومشت إلى أخذه برجلها ، فإذا أضافته إلى زواجها فقد أتت / ببهتان تفترينه بين يديها ورجليها ، وقيل : يفترينه على أنفسهن ، حيث يقلن : هذا ولدنا وليس كذلك ، إذ الولد ولد الزنا ، وقيل : الولد إذا وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها.
الثالث : ما وجه الترتيب في الأشياء المذكورة وتقديم البعض منها على البعض في الآية ؟
نقول : قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح ، ثم كذلك إلى آخره ، وقيل : قدم من الأشياء المذكورة ما هو الأظهر فيما بينهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 526
527
قال ابن عباس : يريد حاطب ابن أبي بلتعة يقول : لا تتولوا اليهود والمشركين ، وذلك لأن جمعاً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم ، فنهوا عن ذلك ويئسوا من الآخرة ، يعني أن اليهود كذبت محمداً صلى الله عليه وسلّم ، وهم يعرفون أنه رسول الله وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه فهم يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ، والتقييد بهذا القيد ظاهر ، لأنهم إذا ماتوا على كفرهم كان العلم بخذلانهم وعدم حظهم في الآخرة قطعياً ، وهذا هو قول الكلبي وجماعة ، يعني الكفار الذين ماتوا يئسوا من الجنة ، ومن أن يكون لهم في الآخرة خير ، وقال الحسن : يعني الأحياء من الكفار يئسوا من الأموات ، وقال أبو إسحق : يئس اليهود الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلّم كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 527
527
(1/4456)

سورة الصف
أربع عشرة آية مكية
جزء : 29 رقم الصفحة : 527
528
/ وجه التعلق بما قبلها هو أن في تلك السورة بيان الخروج جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله : {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى } (الممتحنة : 1) وفي هذه السورة بيان ما يحمل أهل الإيمان ويحثهم على الجهاد بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِه صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف : 4) وأما الأول بالآخر ، فكأنه قال : إن كان الكفرة بجهلهم يصفون لحضرتنا المقدسة بما لا يليق بالحضرة ، فقد كانت الملائكة وغيرهم من الإنس والجن يسبحون لحضرتنا ، كما قال : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السموات والأرض و{الْعَزِيزُ} من عز إذا غلب ، وهو الذي يغلب على غيره أي شيء كان ذلك الغير ، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره و{الْحَكِيمُ} من حكم على الشيء إذا قضى عليه ، وهو الذي يحكم على غيره ، أي شيء كان ذلك الغير ، ولا يمكن أن يحكم عليه غيره ، فقوله : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } يدل على الربوبية والوحدانية إذن ، ثم إنه تعالى قال في البعض من السور : {سَبَّحَ لِلَّهِ} (الحديد : 1 ، الحشر : 1) ، وفي البعض : {يُسَبِّحُ} (الجمعة : 1 ، التغاب : 1) ، وفي البعض : {سَبَّحَ} (الأعلى : 1) بصيغة الأمر ، ليعلم أن تسبيح حضرة الله تعالى دائم غير منقطع لما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان ، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان ، والأمر يدل عليه في الحال ، وقوله تعالى : {اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} منهم من قال : هذه الآية في حق جماعة من المؤمنين ، وهم الذين أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى الله ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ} (الصف : 10) الآية و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ} (الصف : 4) فأحبوا الحياة وتولوا يوم أحد فأنزل الله تعالى : {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} وقيل في حق من يقول : قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، وفعلت ولم يفعل ، وقيل : / إنها في حق أهل النفاق في القتال ، لأنهم تمنوا القتال ، فلما أمر الله تعالى به قالوا : {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} (النساء : 77) وقيل : إنها في حق كل مؤمن ، لأنهم قد اعتقدوا الوفاء بما وعدهم الله به من الطاعة والاستسلام والخضوع والخشوع فإذا لم يوجد الوفاء بما وعدهم خيف عليهم في كل زلة أن يدخلوا في هذه الآية ثم في هذه الجملة مباحث :
جزء : 29 رقم الصفحة : 528
الأول : قال تعالى : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } (الحديد : 1 ، الحشر : 1) في أول هذه السورة ، ثم قاله تعالى في أول سورة أخرى ، وهذا هو التكرار ، والتكرار عيب ، فكيف هو ؟
فنقول : يمكن أن يقال : كرره ليعلم أنه في نفس الأمر غير مكرر لأن ما وجد منه التسبيح عند وجود العالم بإيجاد الله تعالى فهو غير ما وجد منه التسبيح بعد وجود العالم ، وكذا عند وجود آدم وبعد وجوده.
الثاني : قال : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ولم يقل : سبح لله السموات والأرض وما فيهما ، مع أن في هذا من المبالغة ما ليس في ذلك ؟
فنقول : إنما يكون كذلك إذا كان المراد من التسبيح ، التسبيح بلسان الحال مطلقاً ، أما إذا كان المراد هو التسبيح المخصوص فالبعض يوصف كذا ، فلا يكون كما ذكرتم.
الثالث : قال صاحب الكشاف : {لِمَ} هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم وفيم وعم ومم ، وإنما حذفت الألف لأن (ما) والحرف كشيء واحد ، وقد وقع استعمالها في كلام المستفهم ، ولو كان كذلك لكان معنى الاستفهام واقعاً في قوله تعالى : {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} والاستفهام من الله تعالى محال وهو عالم بجميع الأشياء ، فنقول : هذا إذا كان المراد من الاستفهام طلب الفهم ، أما إذا كان المراد إلزام من أعرض عن الوفاء ما وعد أو أنكر الحق وأصر على الباطل فلا.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 528
528
والمقت هو البغض ، ومن استوجب مقت الله لزمه العذاب ، قال صاحب الكشاف : المقت أشد البغض وأبلغه وأفحشه ، وقال الزجاج : {ءَانٍ} في موضع رفع و: {مَقْتًا} منصوب على التمييز ، والمعنى : كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله ، وهذا كقوله تعالى : {كَبُرَتْ كَلِمَةً} (الكهف : 5).
جزء : 29 رقم الصفحة : 528
529
(1/4457)

قرأ زيد بن علي : {يُقَـاتِلُونَ} بفتح التاء ، وقرىء (يقتلون) أن يصفون صفاً ، والمعنى يصفون أنفسهم عند القتال كأنهم بنيان مرصوص ، قال الفراء : مرصوص بالرصاص ، يقال : رصصت البناء إذا / لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ، وقال الليث : يقال : رصصت البناء إذا ضممته ، والرص انضمام الأشياء بعضها إلى بعض ، وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه فتسميه أهل مكة المرصوص ، وقال أبو إسحق : أعلم الله تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص ، وقال : ويجوز أن يكون على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص ، وقيل : ضرب هذا المثل للثبات : يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر ، وقيل : فيه دلالة على فضل القتال راجلاً ، لأن العرب يصطفون على هذه الصفة ، ثم المحبة في الظاهر على وجهين أحدهما : الرضا عن الخلق وثانيها : الثناء عليهم بما يفعلون ، ثم ما وجه تعلق الآية بما قبلها وهو قوله تعالى : {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن} نقول تلك الآية مذمة المخالفين في القتال وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا ، وهذه الآية محمدة الموافقين في القتال وهم الذين قاتلوا في سبيل الله وبالغوا فيه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 529
530
معناه اذكر لقومك هذه القصة ، و{إِذْ} منصوب بإضمار اذكر أي حين قال لهم : {تُؤْذُونَنِى} وكانوا يؤذونه بأنواع الأذى قولاً وفعلاً ، فقالوا : {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء : 153) ، {لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} (البقرة : 61) وقيل : قد رموه بالأدرة ، وقوله تعالى : {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ} في موضع الحال ، أي تؤذونني عالمين علماً قطعياً أني رسول الله وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والتوقير ، وقوله : {فَلَمَّا زَاغُوا } أي مالوا إلى غير الحق {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي أمالها عن الحق ، وهو قول ابن عباس وقال مقاتل : {زَاغُوا } أي عدلوا عن الحق بأبدانهم {أَزَاغَ اللَّهُ} أي أمال الله قلوبهم عن الحق وأضلهم جزاء ما عملوا ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} قال أبو إسحق معناه : والله لا يهدي من سبق في عمله أنه فاسق ، وفي هذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى {وَقَد} معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علماً يقينياً لا شبهة لكم فيه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 530
531
/ قوله : {أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ} أي اذكروا أني رسول الله أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة ومصدقاً بالتوراة وبكتب الله وبأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر {وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ} يصدق بالتوراة على مثل تصديقي ، فكأنه قيل له : ما اسمه ؟
فقال : اسمه أحمد ، فقوله : {يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ } جملتان في موضع الجر لأنهما صفتان للنكرة التي هي رسول ، وفي {بَعْدِى اسْمُه } قراءتان تحريك الياء بالفتح على الأصل ، وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين وإسكانها ، كما في قوله تعالى : {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} فمن أسكن في قوله : {مِنا بَعْدِى اسْمُه } حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين ، وهما الياء والسين من اسمه ، قاله المبرد وأبو علي ، وقوله تعالى : {أَحْمَدُ } يحتمل معنيين أحدهما : المبالغة في الفاعل ، يعني أنه أكثر حمداً لله من غيره وثانيهما : المبالغة من المفعول ، يعني أنه يحمد بما فيه من الإخلاص والأخلاق الحسنة أكثر ما يحمد غيره.
جزء : 29 رقم الصفحة : 531
(1/4458)

ولنذكر الآن بعض ما جاء به عيسى عليه السلام ، بمقدم سيدنا محمد عليه السلام في الإنجيل في عدة مواضع أولها : في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : "وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ، ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد ، والفارقليط هو روح الحق اليقين" هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربي ، وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ : "وأما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي ، ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء ، وهو يذكركم ما قلت لكم" ثم ذكر بعد ذلك بقليل : "وإني قد خبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون" ، وثانيها : ذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا : "ولكن أقول لكم الآن حقاً يقيناً انطلاقي عنكم خير لكم ، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط ، وإن انطلقت أرسلته إليكم ، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم ، ويدينهم ويمنحهم ويوقفهم على الخطيئة والبر والدين" وثالثها : ذكر بعد ذلك بقليل هكذا : "فإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ، ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ به ، ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق ، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه" هذا ما في الإنجيل ، فإن قيل : المراد بفارقليط إذا / جاء يرشدهم إلى الحق ويعلمهم الشريعة ، وهو عيسى يجيء بعد الصلب ؟
نقول : ذكر الحواريون في آخر الإنجيل أن عيسى لما جاء بعد الصلب ما ذكر شيئاً من الشريعة ، وما علمهم شيئاً من الأحكام ، وما لبث عندهم إلا لحظة ، وما تكلم إلا قليلاً ، مثل أنه قال : "أنا المسيح فلا تظنوني ميتاً ، بل أنا ناج عند الله ناظر إليكم ، وإني ما أوحي بعد ذلك إليكم" فهذا تمام الكلام ، وقوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} قيل : هو عيسى ، وقيل : هو محمد ، ويدل على أن الذي جاءهم بالبينات جاءهم بالمعجزات والبينات التي تبين أن الذي جاء به إنما جاء به من عند الله ، وقوله تعالى : {هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ساحر مبين. وقوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي من أقبح ظلماً ممن بلغ افتراؤه المبلغ الذي يفتري على الله الكذب وأنهم قد علموا أن ما نالوه من نعمة وكرامة فإنما نالوه من الله تعالى/ ثم كفروا به وكذبوا على الله وعلى رسوله : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} أي لا يوافقهم الله للطاعة عقوبة لهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 531
وفي الآية بحث : وهو أن يقال : بم انتصب {مُّصَدِّقًا} و{مُبَشِّرًا} أبما في الرسول من معنى الإرسال أم {إِلَيْكُمْ } ؟
نقول : بل بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 531
532
{لِيُطْفِـاُوا } أي أن يطفئوا وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما زيدت اللام في لا أباً لك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في أباك ، وإطفاء نور الله تعالى بأفواههم ، تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : {هَـاذَا سِحْرٌ} (الصف : 6) مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، كذا ذكره في الكشاف ، وقوله : {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِه } قرىء بكسر الراء على الإضافة ، والأصل هو التنوين ، قال ابن عباس : يظهر دينه ، وقال صاحب الكشاف : متم الحق ومبلغه غايته ، وقيل : دين الله ، وكتاب الله ، ورسول الله ، وكل واحد من هذه الثلاثة بهذه الصفة لأنه يظهر عليهم من الآثار وثانيها : أن نور الله ساطع أبداً وطالع من مطلع لا يمكن زواله أصلاً وهو الحضرة القدسية ، وكل واحد من الثلاثة كذلك وثالثها : أن النور نحو العلم ، والظلمة نحو الجهل ، أو النور الإيمان يخرجهم من / الظلمات إلى النور ، أو الإسلام هو النور ، أو يقال : الدين وضع إلهي سائق لأولي الألباب إلى الخيرات باختيارهم المحمود وذلك هو النور ، والكتاب هو المبين قال تعالى : {تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْمُبِينِ} (الشعراء : 2) فالإبانة والكتاب هو النور ، أو يقال : الكتاب حجة لكونه معجزاً ، والحجة هو النور ، فالكتاب كذلك ، أو يقال في الرسول : إنه النور ، وإلا لما وصف بصفة كونه رحمة للعالمين ، إذ الرحمة بإظهار ما يكون من الأسرار وذلك بالنور ، أو نقول : إنه هو النور ، لأنه بواسطته اهتدى الخلق ، أو هو النور لكونه مبيناً للناس ما نزل إليهم ، والمبين هو النور ، ثم الفوائد في كونه نوراً وجوه منها : أنه يدل على علو شأنه وعظمة برهانه ، وذلك لوجهين أحدهما : الوصف بالنور وثانيهما : الإضافة إلى الحضرة ، ومنها : أنه إذا كان نوراً من أنوار الله تعالى كان مشرقاً في جميع أقطار العالم ، لأنه لا يكون مخصوصاً ببعض الجوانب ، فكان رسولاً إلى جميع الخلائق ، لما روي عنه صلى الله عليه وسلّم : "بعثت إلى الأحمر والأسود" فلا يوجد شخص من الجن والإنس إلا ويكون من أمته إن كان مؤمناً فهو من أمة المتابعة ، وإن كان كافراً فهو من أمة الدعوة.
(1/4459)

جزء : 29 رقم الصفحة : 532
وقوله تعالى : {وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} أي اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين ، وقوله : {بِالْهُدَى } لمن اتبعه {وَدِينِ الْحَقِّ} قيل : الحق هو الله تعالى ، أي دين الله : وقيل : نعت للدين ، أي والدين هو الحق ، وقيل : الذي يحق أن يتبعه كل أحد و{لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } يريد الإسلام ، وقيل : ليظهره ، أي الرسول صلى الله عليه وسلّم بالغلبة وذلك بالحجة ، وههنا مباحث :
الأول : {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِه } والتمام لا يكون إلا عند النقصان ، فكيف نقصان هذا النور ؟
فنقول إتمامه بحسب النقصان في الأثر ، وهو الظهور في سائر البلاد من المشارق إلى المغارب ، إذ الظهور لا يظهر إلا بالإظهار وهو الإتمام ، يؤيده قوله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة : 3) وعن أبي هريرة : أن ذلك عند نزول عيسى من السماء ، قال مجاهد.
الثاني : قال ههنا : {مُتِمُّ نُورِه } (النور : 35) وقال في موضع آخر : {مَثَلُ نُورِه } وهذا عين ذلك أو غيره ؟
نقول : هو غيره ، لأن نور الله في ذلك الموضع هو الله تعالى عند أهل التحقيق ، وهنا هو الدين أو الكتاب أو الرسول.
الثالث : قال في الآية المتقدمة : {وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} وقال في المتأخرة : {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فما الحكمة فيه ؟
فنقول : إنهم أنكروا الرسول ، وما أنزل إليه وهو الكتاب ، وذلك من نعم الله ، والكافرون كلهم في كفران النعم ، فلهذا قال : {وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك ، والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون ، وهنا ذكر النور وإطفاءه ، واللائق به الكفر لأنه الستر والتغطية ، لأن من يحاول الإطفاء إنما يريد الزوال ، وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق ، وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام ، وهي اعتراض على الله تعالى كما قال :
/ ألا قل لمن ظل لي حاسدا
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله
كأنه لم ترض لي ما وهب
والاعتراض قريب من الشرك ، ولأن الحاسدين للرسول عليه السلام ، كان أكثرهم من قريش وهم المشركون ، ولما كان النور أعم من الدين والرسول ، لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام والإرسال ، والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 532
537
اعلم أن قوله تعالى : {هَلْ أَدُلُّكمْ} في معنى الأمر عند الفراء ، يقال : هل أنت ساكت أي اسكت وبيانه : أن هل ، بمعنى الاستفهام ، ثم يتدرج إلى أن يصير عرضاً وحثاً ، والحث كالإغراء ، والإغراء أمر ، وقوله تعالى : {عَلَى تِجَـارَةٍ} هي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى ، كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة : 111) دل عليه {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه } والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء ، وكما أن التجارة تنجي التاجر من محنة الفقر ، ورحمة الصير على ما هو من لوازمه ، فكذلك هذه التجارة وهي التصديق بالجنان والإقرار باللسان ، كما قيل في تعريف الإيمان فلهذا قال : بلفظ التجارة ، وكما أن التجارة في الربح والخسران ، فكذلك في هذا ، فإن من آمن وعمل صالحاً فله الأجر ، والربح الوافر ، واليسار المبين ، ومن أعرض عن العمل الصالح فله التحسر والخسران المبين ، وقوله تعالى : {تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قرىء مخففاً ومثقلاً ، {وَتُؤْمِنُونَ} استئناف ، كأنهم قالوا : كيف نعمل ؟
فقال : {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه } وهو خبر في معنى الأمر ، ولهذا أجيب بقوله : {يَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله تعالى : {وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة ، جهاد فيما بينه وبين نفسه ، وهو قهر النفس ، ومنعها عن اللذات والشهوات ، وجهاد فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يدع الطمع منهم ، ويشفق عليهم ويرحمهم وجهاد فيما بينه بين الدنيا وهو أن يتخذها زاداً المادة فتكون على خمسة أوجه ، وقوله تعالى : {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني الذي أمرتم به من الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} / أي أن كنتم تنتفعون بما عملتم فهو خير لكم ، وفي الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 537
الأول : لم قال : {تُؤْمِنُونَ} بلفظ الخبر ؟
نقول : للإيذان بوجوب الامتثال ، عن ابن عباس قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملنا ، فنزلت هذه الآية ، فمكثوا ما شاء الله يقولون : يا ليتنا نعلم ما هي ؟
فدلهم الله عليها بقوله : {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
(1/4460)

الثاني : ما معنى : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} نقول : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم كان خيراً لكم ، وهذه الوجوه للكشاف ، وأما الغير فقال : الخوف من نفس العذاب لا من العذاب الأليم ، إذ العذاب الأليم هو نفس العذاب مع غيره ، والخوف من اللوازم كقوله تعالى : {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران : 175) ومنها أن الأمر بالإيمان كيف هو بعد قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فنقول : يمكن أن يكون المراد من هذه الآية المنافقين ، وهم الذين آمنوا في الظاهر ، ويمكن أن يكون أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة فكأنه قال : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة آمنوا بالله وبمحمد رسول الله ، ويمكن أن يكون أهل الإيمان كقوله : {فَزَادَتْهُمْ إِيمَـانًا} (التوبة : 124) ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا} (الفتح : 4) وهو الأمر بالثبات كقوله : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (إبراهيم : 27) وهو الأمر بالتجدد كقوله : {خَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه } (النساء : 136) وفي قوله صلى الله عليه وسلّم : "من جدد وضوءه فكأنما جدد إيمانه" ، ومنها : أن رجاء النجاة كيف هو إذا آمن بالله ورسوله ، ولم يجاهد في سبيل الله ، وقد علق بالمجموع ، ومنها أن هذا المجموع وهو الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله خبر في نفس الأمر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 537
537
اعلم أن قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جواب قوله : {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (الصف : 11) لما أنه في معنى الأمر ، كما مر فكأنه قال : آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم ، وقيل جوابه : {ذَالِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (الصف : 11) وجزم : {يَغْفِرْ لَكُمْ} لما أنه ترجمة : {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ومحله جزم ، كقوله تعالى : {لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} (المنافقون : 10) لأن محل {فَأَصَّدَّقَ} جزم على قوله : {لَوْلا أَخَّرْتَنِى } وقيل : جزم {يَغْفِرْ لَكُمْ} بهل ، لأنه في معنى الأمر ، وقوله تعالى : {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} إلى آخر الآية ، من جملة ما قدم بيانه في التوراة ، ولا يبعد أن يقال : إن الله تعالى رغبهم في هذه الآية إلى مفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد ، وهو قوله : {يَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله تعالى : {ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يعني ذلك الجزاء الدائم هو الفوز العظيم ، وقد مر ، وقوله تعالى : {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } أي تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل ، قال الفراء : وخصلة أخرى تحبونها في الدنيا مع ثواب الآخرة ، وقوله تعالى : {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ} هو مفسر للأخرى ، لأنه يحسن أن يكون : {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ} مفسراً للتجارة إذ النصر لا يكون تجارة لنا بل هو ريح للتجارة ، وقوله تعالى : {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي عاجل وهو فتح مكة ، وقال الحسن : هو فتح فارس والروم ، وفي {تُحِبُّونَهَا } شيء من التوبيخ على محبة العاجل ، ثم في اةية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 537
الأول : قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. ويقال أيضاً : بم نصب من قرأ : {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا} (الصف : 11) ، فيقال : على الاختصاص ، أو على تنصرون نصراً ، ويفتح لكم فتحاً ، أو على يغفر لكم ، ويدخلكم ويؤتكم خيراً ، ويرى نصراً وفتحاً ، هكذا ذكر في الكشاف.
جزء : 30 رقم الصفحة : 537
538
ثم قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـانَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } .
(1/4461)

قوله : {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} أمر بإدامة النصرة والثبات عليه ، أي ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود : {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} فأخير عنهم بذلك ، أي أنصار دين الله وقوله : {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّانَ} أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } قال مقاتل ، يعني من يمنعني من الله ، وقال عطاء : من ينصر دين الله ، ومنهم من قال : أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلّم كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام ، وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصاً بهذه الأمة ، والحواريون أصفياؤه ، وأول من آمن به ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، وحواري الرجل صفيه وخلصاؤه من الحور ، وهو البياض الخالص ، وقيل : كانوا قصارين يحورون الثياب ، أي يبيضونها ، وأما الأنصار فعن قتادة : أن الأنصار كلهم من قريش : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعثمان بن مظعون ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، ثم في الآية مباحث :
/ البحث الأول : التشبيه محمول على المعنى والمراد كونوا كما كان الحواريون.
الثاني : ما معنى قوله : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } ؟
نقول : يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين والذي يطابقه أن يكون المعنى : من عسكري متوجهاً إلى نصرة الله ، وإضافة {أَنصَارِى } خلاف إضافة {أَنصَارُ اللَّه } لما أن المعنى في الأول : الذين ينصرون الله ، وفي الثاني : الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله.
جزء : 30 رقم الصفحة : 538
الثالث : أصحاب عيسى قالوا : {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّه } وأصحاب محمد لم يقولوا هكذا ، نقول : خطاب عيسى عليه السلام بطريق السؤال فالجواب لازم ، وخطاب محمد صلى الله عليه وسلّم بطريق الإلزام ، فالجواب غير لازم ، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر ، وهو قوله تعالى : {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّانَ مَنْ أَنصَارِى } .
قال ابن عباس يعني الذين آمنوا في زمن عيسى عليه السلام ، والذين كفروا كذلك ، وذلك لأن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء تفرقوا ثلاث فرق ، فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المسلمون ، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس ، واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم في الأرض ، فكانت الحالة هذه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم ، فظهرت المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ} ، وقال مجاهد : {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} يعني من اتبع عيسى ، وهو قول المقاتلين ، وعلى هذا القول معنى الآية : أن من آمن بعيسى ظهروا على من كفروا به فأصبحوا غالبين على أهل الأديان ، وقال إبراهيم : أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلّم وأن عيسى كلمة الله وروحه ، قال الكلبي : ظاهرين بالحجة ، والظهور بالحجة هو قول زيد بن علي رضي الله عنه ، والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 538
538
(1/4462)

سورة الجمعة
وهي إحدى عشرة آية مدنية
جزء : 30 رقم الصفحة : 538
539
/ وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة : {سَبَّحَ لِلَّهِ} (الصف : 1) بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل ، فقال في أول هذه السورة بلفظ المستقبل ليدل على التسبيح في زماني الحاضر والمستقبل ، وأما تعلق الأول بالآخر ، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا عالين على الكفار ، وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ، ومنزه عما يخطر ببال الجهلة في الآفاق ، وفي أول هذه السورة ما يدل على كونه مقدساً ومنزهاً عما لا يليق بحضرته العالية بالاتفاق ، ثم إذا كان خلق السموات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعال فله الملك ، كما قال تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا لَهُ الْمُلْكُ} (التغابن : 1) ولا ملك أعظم من هذا ، وهو أنه خالقهم ومالكهم وكلهم في قبضة قدرته وتحت تصرفه ، يسبحون له آناء الليل وأطراف النهار بل في سائر الأزمان ، كما مر في أول تلك السورة ، ولما كان الملك كله له فهو الملك على الإطلاق ، ولما كان الكل بخلقه فهو المالك ، والمالك والملك أشرف من المملوك ، فيكون متصفاً بصفات يحصل منها الشرف ، فلا مجال لما ينافيه من الصفات فيكون قدوساً ، فلفظ {الْمَلِكِ} إشارة إلى إثبات ما يكون من الصفات العالية ، ولفظ {الْقُدُّوسِ} هو إشارة إلى نفي مالا يكون منها ، وعن الغزالي {الْقُدُّوسِ} المنزه عما يخطر ببال أوليائه ، وقد مر تفسيره وكذلك {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ثم الصفات المذكورة قرئت بالرفع على المدح ، أي هو الملك القدوس ، ولو قرئت بالنصب لكان وجهاً ، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد ، كذا ذكره في "الكشاف" ، ثم في الآية مباحث :
الأول : قال تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} ولم يقل : يسبح الله ، فما الفائدة ؟
نقول : هذا من جملة ما يجري فيه اللفظان : كشكره وشكر له ، ونصحه ونصح له.
الثاني : {الْقُدُّوسِ} من الصفات السلبية ، وقيل : معناه المبارك.
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 539
الثالث : لفظ {الْحَكِيمِ} يطلق على الغير أيضاً ، كما قيل في لقمان : إنه حكيم ، نقول : الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء (في) مواضعها ، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.
ثم إنه تعالى بعدما فرغ من التوحيد والتنزيه شرع في النبوة فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 539
540
الأمي منسوب إلى أمة العرب ، لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم ، ولا يقرأون كتاباً ولا يكتبون. وقال ابن عباس : يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم ، وقيل : الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه وقد مر بيانه ، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب ، كما قال تعالى : {رَسُولا مِّنْهُمْ} (المؤمنون : 32) يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم نسبه من نسبهم ، وهو من جنسهم ، كما قال تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) قال أهل المعاني : وكان هو صلى الله عليه وسلّم أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم ، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي ، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة ، فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم ، وذلك أقرب إلى صدقة.
وقوله تعالى : {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِه } أي بيناته التي تبين رسالته وتظهر نبوته ، ولا يبعد أن تكون الآيات هي الآيات التي تظهر منها الأحكام الشرعية ، والتي يتميز بها الحق من الباطل {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من خبث الشرك ، وخبث ما عداه من الأقوال والأفعال ، وعند البعض {يُزَكِّيهِمْ} أي يصلحهم ، يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون به أزكياء أتقياء {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} والكتاب : ما يتلى من الآيات ، والحكمة : هي الفرائض ، وقيل : {الْحِكْمَةَ} السنة ، لأنه كان يتلو عليهم آياته ويعلمهم سننه ، وقيل : {الْكِتَابَ} الآيات نصاً ، والحكمة ما أودع فيها من المعاني ، ولا يبعد أن يقال : الكتاب آيات القرآن والحكمة وجه التمسك بها ، وقوله تعالى : {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ظاهر لأنهم كانوا عبدة الأصنام وكانوا في ضلال مبين وهو الشرك ، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى التوحيد والإعراض عما كانوا فيه ، وفي هذه الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 540
(1/4463)

أحدها : احتجاج أهل الكتاب بها قالوا قوله : {بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ} يدل على أنه عليه السلام كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصة ، غير أنه ضعيف فإنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَلا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ } (العنكبوت : 48) أنه لا يفهم منه أنه / يخطه بشماله ، ولأنه لو كان رسولاً إلى العرب خاصة كان قوله تعالى : {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبإ : 28) لا يناسب ذلك ، ولا مجال لهذا لما اتفقوا على ذلك ، وهو صدق الرسالة المخصوصة ، فيكون قوله تعالى : {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} دليلاً على أنه عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى الكل.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 540
541
{وَءَاخَرِينَ} عطف على الأميين. يعني بعث في آخرين منهم ، قال المفسرون : هم الأعاجم يعنون بهم غير العرب أي طائفة كانت قاله ابن عباس وجماعة ، وقال مقاتل : يعني التابعين من هذه الأمة الذين لم يلحقوا بأوائلهم ، وفي الجملة معنى جميع الأقوال فيه كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة فالمراد بالأميين العرب. وبالآخرين سواهم من الأمم ، وقوله : {وَءَاخَرِينَ} مجرور لأنه عطف على المجرور يعني الأميين ، ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في {وَيُعَلِّمُهُمُ} (الجمعة : 2) أي ويعلمهم ويعلم آخرين منهم ، أي من الأميين وجعلهم منهم ، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم ، فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلف أجناسهم ، قال تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) وأما من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم ولم يدخل في دينه فإنهم كانوا بمعزل عن المراد بقوله : {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ} وإن كان النبي مبعوثاً إليهم بالدعوة فإنه تعالى قال في الآية الأولى : {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة : 2) وغير المؤمنين ليس من جملة من يعلمه الكتاب والحكمة {وَهُوَ الْعَزِيزُ} من حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل له والفقر إليه ، والحكيم حيث جعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته ، قوله تعالى : {ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُا وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} قال ابن عباس : يريد حيث ألحق العجم وابناءهم بقريش ، يعني إذا آمنوا ألحقوا في درجة الفضل بمن شاهد الرسول عليه السلام ، وشاركوهم في ذلك ، وقال مقاتل : {ذَالِكَ فَضْلُ اللَّهِ} يعني الإسلام {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } وقال مقاتل بن حيان : يعني النبوة فضل الله يؤتيه من يشاء ، فاختص بها محمداً صلى الله عليه وسلّم. والله ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة كما مر ، وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال.
جزء : 30 رقم الصفحة : 541
ثم إنه تعالى ضرب لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة ، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم مثلاً فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 541
541
(1/4464)

/ اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة ، وبين في النبوة أنه عليه السلام بعث إلى الأميين واليهود لما أوردوا تلك الشبهة ، وهي أنه عليه السلام بعث إلى العرب خاصة ، ولم يبعث إليهم بمفهوم الآية أتبعه الله تعالى بضرب المثل للذين أعرضوا عن العمل بالتوراة ، والإيمان بالنبي عليه السلام ، والمقصود منه أنهم لما لم يعملوا بما في التوراة شبهوا بالحمار ، لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها ، ولم يوردوا تلك الشبهة ، وذلك لأن فيها نعت الرسول عليه السلام ، والبشارة بمقدمه ، والدخول في دينه ، وقوله : {حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ} أي حملوا العمل بما فيها ، وكلفوا القيام بها ، وحملوا وقرىء : بالتخفيف والتثقيل ، وقال صاحب "النظم" : ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ومنه قيل للكفيل : الحميل ، والمعنى : ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها. قال الأصمعي : الحميل ، الكفيل ، وقال الكسائي : حملت له حمالة. أي كفلت به ، والأسفار جمع سفر وهو الكتاب الكبير ، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء ، ونظيره شبر وأشبار ، شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة ، وهي دالة على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم بالحمار الذي يحمل الكتب العلمية ولا يدري ما فيها. وقال أهل المعاني : هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به ، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، ولهذا قال ميمون بن مهران : يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ، وقوله تعالى : {لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما بيناه ، فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتباً ، وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع مما يحمله ، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم ، ثم ذم المثل ، والمراد منه ذمهم فقال : {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ اللَّه } أي بئس القوم مثلاً الذين كذبوا ، كما قال : {سَآءَ مَثَلا الْقَوْمُ} (الأعراف : 177) وموضع الذين رفع ، ويجوز أن يكون جراً ، وبالجملة لما بلغ كذبهم مبلغاً وهو أنهم كذبوا على الله تعالى كان في غاية الشر والفساد ، فلهذا قال : {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} والمراد بالآيات ههنا الآيات الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وهو قول ابن عباس ومقاتل ، وقيل : الآيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وهذا أشبه هنا {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} قال عطاء : يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وههنا مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 541
البحث الأول : ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات ؟
نقول : لوجوه منها : أنه تعالى خلق {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } والزينة في الخيل أكثر وأظهر ؛ بالنسبة / إلى الركوب ، وحمل الشيء عليه ، وفي البغال دون ، وفي الحمار دون البغال ، فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة ، وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال ، وغيرهما من الحيوانات ، ومنها : أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة ، وذلك في الحمار إظهر ، ومنها : أن في الحمار من الذل والحقارة مالا يكون في الغير/ والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم ، فيكون تعيين الحمار أليق وأولى ، ومنها أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم ، لكونه ذلولاً ، سلس القياد ، لين الانقياد ، يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة. وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره ومنها : أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام ، وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى.
الثاني : {يَحْمِلُ} ما محله ؟
نقول : النصب على الحال ، أو الجر على الوصف كما قال في "الكشاف" إذا الحمار كاللئيم في قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
(فمررت ثمة قلت لا يعنيني)
الثالث : قال تعالى : {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} كيف وصف المثل بهذا الوصف ؟
نقول : الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم ، فكأنه قال : بئس القوم قوماً مثلهم هكذا.
ثم إنه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 541
544
هذه الآية من جملة ما مر بيانه ، وقرىء : {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} بكسر الواو ، و{هَادُوا } أي تهودوا ، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ، فلو كان قولكم حقاً وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه ، قال الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
(1/4465)

فهم يطلبون الموت لا محالة إذا كانت الحالة هذه ، وقوله تعالى : {وَلا يَتَمَنَّونَه ا أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات ، وذكر مرة بلفظ التأكيد {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا } ومرة بدون لفظ التأكيد {وَلا يَتَمَنَّونَه } وقوله : {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} أي بظلمهم من تحريف الآيات وعنادهم لها ، ومكابرتهم إياها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 544
545
يعني أن الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف الآيات وغيره ملاقيكم لا محالة ، ولا ينفعكم الفرار ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة يعني ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل وعالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلى الله عليه وسلّم وما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته ، وقوله تعالى : {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إما عياناً مقروناً بلقائكم يوم القيامة ، أو بالجزاء إن كان خيراً فخير. وإن كان شراً فشر ، فقوله : {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ} هو التنبيه على السعي فيما ينفعهم في الآخرة وقوله : {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} هو الوعيد البليغ والتهديد الشديد. ثم في الآية مباحث :
البحث الأول : أدخل الفاء لما أنه في معنى الشرط والجزاء ، وفي قراءة ابن مسعود {مُلَـاقِيكُمْ } من غير {فَإِنَّه } .
الثاني : أن يقال : الموت ملاقيهم على كل حال ، فروا أو لم يفروا ، فما معنى الشرط والجزاء ؟
قيل : إن هذا على جهة الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم ، وقد صرح بهذا المعنى ، وأفصح عنه بالشرط الحقيقي في قوله :
ومن هاب أسباب المنايا تناله
ولو نال أسباب السماء بسلم
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
545
وجه التعلق بما قبلها هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك ، فنبههم الله تعالى بقوله : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي إلى ما ينفعكم في الآخرة ، وهو حضور الجمعة ، لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية ، قال تعالى : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (الأعلى : 17) ووجه آخر في التعلق ، قال بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث ، افتخروا بأنهم أولياء الله واحباؤه ، فكذبهم بقوله : {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (الجمعة : 6) وبأنهم أهل الكتاب ، والعرب لا كتاب لهم ، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً ، وبالسبت وليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم الجمعة ، وقوله تعالى : {إِذَا نُودِىَ} يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة وهو قول مقاتل ، وأنه كما قال لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم نداء سواء كان إذا جلس عليه الصلاة والسلام على المنبر أذن بلال على باب المسجد ، وكذا على عهد أبي بكر وعمر ، وقوله تعالى : {لِلصَّلَواةِ} أي لوقت الصلاة يدل عليه قوله : {مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} ولا تكون الصلاة من اليوم ، وإنما يكون وقتها من اليوم ، قال الليث : الجمعة يوم خص به لاجتماع الناس في ذلك اليوم ، ويجمع على الجمعات والجمع ، وعن سلمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "سميت الجمعة جمعة لأن آدم جمع فيه خلقه" وقيل : لما أنه تعالى فرغ فيها من خلق الأشياء ، فاجتمعت فيها المخلوقات. قال الفراء : وفيها ثلاث لغات التخفيف ، وهي قراءة الأعمش والتثقيل ، وهي قراءة العامة ، ولغة لبني عقيل ، وقوله تعالى : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
(1/4466)

أي فامضوا ، وقيل : فامشوا وعلى هذا معنى ، السعي : المشي لا العدو ، وقال الفراء : المضي والسعي والذهاب في معنى واحد ، وعن عمر أنه سمع رجلاً يقرأ : {فَاسْعَوْا } قال من أقرأك هذا ، قال : أبي ، قال : لا يزال يقرأ بالمنسوخ ، لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي ، وقيل : المراد بالسعي القصد دون العدو ، والسعي التصرف في كل عمل ، ومنه قوله تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} قال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب ، وسعي بالنية ، وسعي بالرغبة ، ونحو هذا ، والسعي ههنا هو العمل عند قوم ، وهو مذهب مالك والشافعي ، إذ السعي في كتاب الله العمل ، قال تعالى : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الارْضِ} (البقرة : 205) {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } (الليل : 4) أي العمل ، وروي عنه صلى الله عليه وسلّم : "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، ولكن ائتوها وعليكم السكينة" واتفق الفقهاء على : "أن النبي صلى الله عليه وسلّم (كان) متى أتى الجمعة أتى على هينة" وقوله : {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الذكر هو الخطبة عند الأكثر من أهل التفسير ، وقيل : هو الصلاة ، وأما الأحكام المتعلقة بهذه الآية فإنها تعرف من الكتب الفقهية ، وقوله تعالى : {وَذَرُوا الْبَيْعَ } قال الحسن : إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع ، وقال عطاء : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ، / وقال الفراء إنما حرم البيع والشراء إذا نودي للصلاة لمكان الاجتماع ولندرك له كافة الحسنات ، وقوله تعالى : {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي في الآخرة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما هو خير لكم وأصلح ، وقوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ} أي إذا صليتم الفريضة يوم الجمعة {فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ} هذا صيغة الأمر بمعنى الإباحة لما أن إباحة الانتشار زائلة بفرضية أداء الصلاة ، فإذا زال ذلك عادت الإباحة فيباح لهم أن يتفرقوا في الأرض ويبتغوا من فضل الله ، وهو الرزق ، ونظيره : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } (البقرة : 198) ، وقال ابن عباس : إذا فرغت من الصلاة فإن شئت فاخرج ، وإن شئت فصل إلى العصر ، وإن شئت فاقعد ، كذلك قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
{وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} فإنه صيغة أمر بمعنى الإباحة أيضاً لجلب الرزق بالتجارة بعد المنع ، بقوله تعالى : {وَذَرُوا الْبَيْعَ } وعن مقاتل : أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة ، فمن شاء خرج. ومن شاء لم يخرج ، وقال مجاهد : إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، وقال الضحاك ، هو إذن من الله تعالى إذا فرغ ، فإن شاء خرج ، وإن شاء قعد ، والأفضل في الابتغاء من فضل الله أن يطلب الرزق ، أو الولد الصالح أو العلم النافع وغير ذلك من الأمور الحسنة ، والظاهر هو الأول ، وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد (و) قال : اللهم أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ، وقوله تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قال مقاتل : باللسان ، وقال سعيد بن جبير : بالطاعة ، وقال مجاهد : لا يكون من الذاكرين كثيراً حتى يذكره قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، والمعنى إذا رجعتم إلى التجارة وانصرفتم إلى البيع والشراء مرة أخرى فاذكروا الله كثيراً ، قال تعالى : {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} . وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "إذا أتيتم السوق فقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة" وقوله تعالى : {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} من جملة ما قد مر مراراً ، وفي الآية مباحث :
(1/4467)

البحث الأول : ما الحكمة في أن شرع الله تعالى في يوم الجمعة هذا التكليف ؟
فنقول : قال القفال : هي أن الله عز وجل خلق الخلق فأخرجهم من العدم إلى الوجود وجعل منهم جماداً ونامياً وحيواناً ، فكان ما سوى الجماد أصنافاً ، منها بهائم وملائكة وجن وإنس ، ثم هي مختلفة المساكن من العلو والسفل فكان أشرف العالم السفلي هم الناس لعجيب تركيبهم ، ولما كرمهم الله تعالى به من النطق ، وركب فيهم من العقول والطباع التي بها غاية التعبد بالشرائع ، ولم يخف موضع عظم المنة وجلالة قدر الموهبة لهم فأمروا بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة التي فيها أنشئت الخلائق وتم وجودها ، ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ماأنعم الله تعالى به عليهم ، وإذا كان شأنهم لم يخل من حين ابتدئوا من نعمة تتخللهم ، وإن منة الله مثبتة عليهم / قبل استحقاقهم لها ، ولكل أهل ملة من الملل المعروفة يوم منها معظم ، فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد ، وللمسلمين يوم الجمعة ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يوم الجمعة هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غداً وللنصارى بعد غد" ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته فجمعت الجماعات له كالسنة في الأعياد/ واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيراً بالنعمة وحثاً على استدامتها بإقامة ما يعود بآلاء الشكر ، ولما كان مدار التعظيم ، إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع والله أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
الثاني : كيف خص ذكر الله بالخطبة ، وفيها ذكر الله وغير الله ؟
نقول : المراد من ذكر الله الخطبة والصلاة لأن كل واحدة منهما مشتملة على ذكر الله ، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة والثناء عليهم والدعاء لهم فذلك ذكر الشيطان.
الثالث : قوله : {وَذَرُوا الْبَيْعَ } لم خص البيع من جميع الأفعال ؟
نقول : لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش ، وفيه إشارة إلى ترك التجارة ، ولأن البيع والشراء في الأسواق غالباً ، والغفلة على أهل السوق أغلب ، فقوله : {وَذَرُوا الْبَيْعَ } تنبيه للغافلين ، فالبيع أولى بالذكر ولم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة.
الرابع : ما الفرق بين ذكر الله أولاً وذكر الله ثانياً ؟
فنقول : الأول من جملة مالا يجتمع مع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة كما مر ، والثاني من جملة ما يجتمع كما في قوله تعالى : {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور : 37).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
545
(1/4468)

قال مقاتل : إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان معه من أنواع التجارة ، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق : وكان ذلك في يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلّم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس وتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يبق إلا إثنا عشر رجلاً أو أقل كثمانية أو أكثر كأربعين ، فقال عليه السلام : لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة ، ونزلت الآية : وكان من الذين معه أبو بكر وعمر. وقال الحسن : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء / سعر فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها وخرجوا إليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم ناراً" قال قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرات ، وقوله تعالى : {أَوْ لَهْوًا} وهو الطبل ، وكانوا إذا أنكحوا الجواري يضربون المزامير ، فمروا يضربون ، فتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم ، وقوله : {انفَضُّوا إِلَيْهَا} أي تفرقوا وقال المبرد : مالوا إليها وعدلوا نحوها ، والضمير في (إليها) للتجارة ، وقال الزجاج : انفضوا إليه وإليها ، ومعناهما واحد كقوله تعالى : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 45) واعتبر هنا الرجوع إلى التجارة لما أنها أهم إليهم ، وقوله تعالى : {وَتَرَكُوكَ قَآا ِمًا } اتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة قال جابر : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخطبة إلا وهو قائم ، وسئل عبد الله أكان النبي يخطب قائماً أو قاعداً فقرأ : {وَتَرَكُوكَ قَآا ِمًا } وقوله تعالى : {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ} أي ثواب الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلّم {خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } من اللهو الذي مر ذكره ، والتجارة التي جاء بها دحية ، وقوله تعالى : {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} هو من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين ، والمعنى إن أمكن وجود الرازقين فهو خير الرازقين ، وقيل : لفظ الرازق لا يطلق على غيره إلا بطريق المجاز ، ولا يرتاب في أن الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازق بطريق المجاز ، وفي الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
البحث الأول : أن التجارة واللهو من قبيل ما لا يرى أصلاً ، ولو كان كذلك كيف يصح {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} نقول : ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة ، ومثله حتى يسمع كلام الله ، إذ الكلام غير مسموع ، بل المسموع صوت يدل عليه.
الثاني : كيف قال : {انفَضُّوا إِلَيْهَا} وقد ذكر شيئين وقد مر الكلام فيه ، وقال صاحب "الكشاف" : تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
الثالث : أن قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} مناسب للتجارة التي مر ذكرها لا للهو ، نقول : بل هو مناسب للمجموع لماأن اللهو الذي مر ذكره كالتبع للتجارة ، لما أنهم أظهروا ذلك فرحاً بوجود التجارة كما مر ، والله أعلم بالصواب ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 545
546
(1/4469)

سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدنية
جزء : 30 رقم الصفحة : 546
548
/ وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، هو أن تلك السورة مشتملة على ذكر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وذكر من كان يكذبه قلباً ولساناً بضرب المثل كما قال : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَا ةَ} (الجمعة : 5) وهذه السورة على ذكر من كان يكذبه قلباً دون اللسان ويصدقه لساناً دون القلب ، وأما الأول بالآخر ، فذلك أن في آخر تلك السورة تنبيهاً لأهل الإيمان على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلّم ورعاية حقه بعد النداء لصلاة الجمعة وتقديم متابعته في الأداء على غيره وأن ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين ، والمنافقون هم الكاذبون ، كما قال في أول هذه السورة : {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يعني عبد الله بن أبي وأصحابه {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه } وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه } أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك لرسوله {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ} أضمروا غير ما أظهروا ، وإنه يدل على أن حقيقة الإيمان بالقلب ، وحقيقة كل كلام كذلك ، فإن من أخبر عن شيء واعتقد بخلافه فهو كاذب ، لما أن الكذب باعتبار المخالفة بين الوجود اللفظي والوجود الذهني ، كما أن الجهل باعتبار المخالفة بين الوجود الذهني ، والوجود الخارجي ، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم : نشهد إنك لرسول الله ، وسماهم الله كاذبين لما أن قولهم : يخالف اعتقادهم ، وقال : قوم لم يكذبهم الله تعالى في قولهم : {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه } إنما كذبهم بغير هذا من الأكاذيب الصادرة عنهم في قوله تعالى : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } (التوبة : 74) الآية. و{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} (التوبة : 56) وجواب إذا {قَالُوا نَشْهَدُ} أي أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة ، فهم كاذبون في تلك الشهادة ، لما مر أن قولهم يخالف اعتقادهم ، وفي الآية مباحث :
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 548
البحث الأول : أنهم قالوا : نشهد إنك لرسول الله ، فلو قالوا : نعلم إنك لرسول الله ، أفاد مثل ما أفاد هذا ، أم لا ؟
نقول : ما أفاد ، لأن قولهم : نشهد إنك لرسول الله ، صريح في الشهادة على إثبات الرسالة ، وقولهم : نعلم ليس بصريح في إثبات العلم ، لما أن علمهم في الغيب عند غيرهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 548
549
قوله : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي ستراً ليستتروا به عما خافوا على أنفسهم من القتل. قال في "الكشاف" : {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يجوز أن يراد أن قولهم : {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه } يمين من أيمانهم الكاذبة ، لأن الشهادة تجري مجرى الحلف في التأكيد ، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله ، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى : وبه استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين ، ويجوز أن يكون وصفاً للمنافقين في استخفافهم بالإيمان ، فإن قيل : لم قالوا نشهد ، ولم يقولوا : نشهد بالله كما قلتم ؟
أجاب بعضهم عن هذا بأنه في معنى الحلف من المؤمن وهو في المتعارف إنما يكون بالله ، فلذلك أخبر بقوله : نشهد عن قوله بالله.
وقوله تعالى : {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّه } أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله ، وقيل : صدوا ، أي صرفوا ومنعوا الضعفة عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم {سَآءَ} أي بئس {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا مشاكلة للمسلمين.
وقوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا } ذلك إشارة إلى قوله : {سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال مقاتل : ذلك الكذب بأنهم آمنوا في الظاهر ، ثم كفروا في السر ، وفيه تأكيد لقوله : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقوله : {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} لا يتدبرون ، ولا يستدلون بالدلائل الظاهرة. قال ابن عباس : ختم على قلوبهم ، وقال مقاتل : طبع على قلوبهم بالكفر فهم لا يفقهون القرآن ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقيل : إنهم كانوا يظنون أنهم على الحق ، فأخبر تعالى أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم ، ثم في الآية مباحث :
البحث الأول : أنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل ، ولم يقل : إنهم ساء ما كانوا يعملون ، فلم قلنا هنا ؟
نقول : إن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جنة ، أي سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون كما مر.
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 549
(1/4470)

الثاني : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله تعالى : {ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ} ؟
نقول : قال في "الكشاف" ثلاثة أوجه أحدها : {ءَامَنُواّ} نطقوا بكلمة الشهادة ، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام {ثُمَّ كَفَرُوا } ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وثانيها : {ءَامَنُواّ} نطقوا بالإيمان عند المؤمنين {ثُمَّ كَفَرُوا } نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله تعالى : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا} وثالثها : أن يراد أهل الذمة منهم.
الثالث : الطبع على القلوب لا يكون إلا من الله تعالى ، ولما طبع الله على قلوبهم لا يمكنهم أن يتدبروا ويستدلوا بالدلائل ، ولو كان كذلك لكان هذا حجة لهم على الله تعالى ، فيقولون : إعراضنا عن الحق لغفلتنا ، وغفلتنا بسبب أنه تعالى طبع على قلوبنا ، فنقول : هذا الطبع من الله تعالى لسوء أفعالهم ، وقصدهم الإعراض عن الحق ، فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 549
551
اعلم أن قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} يعني عبد الله بن أبي ، ومغيث بن قيس ، وجد بن قيس ، كانت لهم أجسام ومنظر ، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها ، وكان عبد الله بن أبي جسيماً صبيحاً فصيحاً ، وإذا قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلّم قوله ، وهو قوله تعالى : {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي ويقولوا : إنك لرسول الله تسمع لقولهم ، وقرىء يسمع على البناء للمفعول ، ثم شبههم بالخشب المسندة ، وفي الخشب التخفيف كبدنة وبدن وأسد وأسد ، والتثقيل كذلك كثمرة وثمر ، وخشبة / وخشب ، ومدرة ومدر. وهي قراءة ابن عباس ، والتثقيل لغة أهل الحجاز ، والخشب لا تعقل ولا تفهم ، فكذلك أهل النفاق كأنهم في ترك التفهم ، والاستبصار بمنزلة الخشب. وأما المسندة يقال : سند إلى شيء ، أي مال إليه ، وأسنده إلى الشيء ، أي أماله فهو مسند ، والتشديد للمبالغة ، وإنما وصف الخشب بها ، لأنها تشبه الأشجار القائمة التي تنمو وتثمر بوجه ما ، ثم نسبهم إلى الجبن وعابهم به ، فقال : {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُمُ الْعَدُوُّ} وقال مقاتل : إذا نادى مناد في العسكر ، وانفلتت دابة ، أو نشدت ضالة مثلاً ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب ، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ، ويكشف أسرارهم ، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة ، ثم أعلم (الله) رسوله بعداوتهم فقال : {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ } أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإنهم الكاملون في العداوة بالنسبة إلى غيرهم وقوله تعالى : {قَـاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ} مفسر وهو دعاء عليهم وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم وتعليم للمؤمنين أن يدعوا بذلك ، و{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق.
جزء : 30 رقم الصفحة : 551
وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} قال الكلبي : لما نزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلّم بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا : لهم ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم ، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت ، وقال ابن عباس لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه وأسمعوه المكروه فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول صلى الله عليه وسلّم حتى يستغفر لك ويرضى عنك ، فقال : لا أذهب إليه ، ولا أريد أن يستغفر لي ، وجعل يلوي رأسه فنزلت. وعند الأكثرين ، إنما دعى إلى الاستغفار لأنه قال : {لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ } (المنافقون : 8) وقال : {لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} (المنافقون : 7) فقيل له : تعال يستغفر لك رسول الله فقال : ماذا قلت : فذلك قوله تعالى : {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} وقرىء : {لَوَّوْا } بالتخفيف والتشديد للكثرة والكناية قد تجعل جمعاً والمقصود واحد وهو كثير في أشعار العرب قال جرير :
لا بارك الله فيمن كان يحسبكم
إلا على العهد حتى كان ما كانا
(1/4471)

وإنما خاطب بهذا امرأة وقوله تعالى : {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ذكر تعالى أن استغفاره لا ينفعهم فقال : {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} قال قتادة : نزلت هذه الآية بعد قوله : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وذلك لأنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "خيرني ربي فلأزيدنهم على السبعين" فأنزل الله تعالى : {لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} قال ابن عباس : المنافقين ، وقال قوم : فيه بيان أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان ، وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك ، وقيل : معناه لا يهديهم لفسقهم وقالت المعتزلة : لا يسميهم المهتدين إذا فسقوا وضلوا وفي الآية مباحث :
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 551
البحث الأول : لم شبههم بالخشب المسندة لا بغيره من الأشياء المنتفع بها ؟
نقول لاشتمال هذا التشبيه على فوائد كثيرة لا توجد في الغير الأولى : قال في "الكشاف" : شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير ، بالخشب المسندة إلى الحائط ، ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع ، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحائط شبهوا بها في حسن صورهم ، وقلة جداوهم الثانية : الخشب المسندة في الأصل كانت غصناً طرياً يصلح لأن يكون من الأشياء المنتفع بها ، ثم تصير غليظة يابسة ، والكافر والمنافق كذلك كان في الأصل صالحاً لكذا وكذا ، ثم يخرج عن تلك الصلاحية الثالثة : الكفرة من جنس الإنس حطب ، كما قال تعالى : {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء : 98) والخشب المسندة حطب أيضاً الرابعة : أن الخشب المسندة إلى الحائط أحد طرفيها إلى جهة ، والآخر إلى جهة أخرى ، والمنافقون كذلك ، لأن المنافق أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر ، والطرف الآخر وهو الظاهر إلى جهة أهل الإسلام الخامسة : المعتمد عليه الخشب المسندة ما يكون من الجمادات والنباتات ، والمعتمد عليه للمنافقين كذلك ، وإذا كانوا من المشركين إذ هو الأصنام ، إنها من الجمادات أو النباتات.
الثاني : من المباحث أنه تعالى شبهم بالخشب المسندة ، ثم قال من بعد ما ينافي هذا التشبيه وهو قوله تعالى : {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُمُ الْعَدُوُّ} (المنافقون : 4) والخشب المسندة لا يحسبون أصلاً ، نقول : لا يلزم أن يكون المشبه والمشبه به يشتركان في جميع الأوصاف ، فهم كالخشب المسندة بالنسبة إلى الانتفاع وعدم الانتفاع ، وليسوا كالخشب المسندة بالنسبة إلى الاستماع وعدم الاستماع للصيحة وغيرها.
الثالث : قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} ولم يقل : القوم الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كل واحد منهم من جملة ما سبق ذكره ؟
نقول : كل أحد من تلك الأقوام داخل تحت قوله : {الْفَـاسِقِينَ} أي الذين سبق ذكرهم وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون.
جزء : 30 رقم الصفحة : 551
551
/ أخبر الله تعالى بشنيع مقالتهم فقال : {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} كذا وكذا : أي يتفرقوا ، وقرىء : {حَتَّى يَنفَضُّوا } من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم ، قال المفسرون : اقتتل أجير عمر مع أجير عبد الله بن أبي في بعض الغزوات فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه واشتد عليه لسانه ، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال : أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أقبل على قومه فقال : لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء يعني المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فنزلت ، وقرىء : {لَيُخْرِجَنَّ} بفتح الياء ، وقرأ الحسن وابن أبي عيلة : {لَنَخْرُجَنَّ} بالنون ونصب الأعز والأذل ، وقوله تعالى : {وَلِلَّهِ خَزَآاـاِنُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} قال مقاتل : يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات ، والمعنى أن الله هو الرزاق : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (يونس : 31) وقال أهل المعاني : خزائن الله تعالى مقدوراته لأن فيها كل ما يشاء مما يريد إخراجه ، وقال الجنيد : خزائن الله تعالى في السموات الغيوب وفي الأرض القلوب وهو علام الغيوب ومقلب القلوب ، وقوله تعالى : {وَلَـاكِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} أي لا يفقهون أن : {أَمْرُه ا إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (يس : 82) وقوله يقولون : {لَـاـاِن رَّجَعْنَآ} أي من تلك الغزوة وهي غزوة بني المصطلق إلى المدينة فرد الله تعالى عليه وقال : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ}
(1/4472)

جزء : 30 رقم الصفحة : 551
أي الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وعزهم بنصرته إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وأعلم رسوله بذلك ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولو علموه ما قالوا : مقالتهم هذه ، قال صاحب "الكشاف" : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين ، وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه ، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً قال : ليس بتيه ولكنه عزة فإن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه ، وتلا هذه الآية قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى : العزة غير الكبر ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه ، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود ، والضعة مذمومة ، والكبر مذموم ، والعزة محمودة ، ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر ، قال تعالى : {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وفيه إشارة / خفية لإثبات العزة بالحق ، والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر/ فإن قيل : قال في الآية الأولى : {لا يَفْقَهُونَ} وفي الأخرى {لا يَعْلَمُونَ} فما الحكمة فيه ؟
فنقول : ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم ، ولا يفقهون من فقه يفقه ، كعلم يعلم ، ومن فقه يفقه : كعظم يعظم ، والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف ، فالأول علاجي ، والثاني مزاجي.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 551
552
{لا تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم كما شغلت المنافقين ، وقد اختلف المفسرون منهم من قال : نزلت في حق المنافقين ، ومنهم من قال في حق المؤمنين ، وقوله : {عَن ذِكْرِ اللَّه } عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله تعالى وقال الضحاك : الصلوات الخمس ، وعند مقاتل : هذه الآية وما بعدها خطاب للمنافقين الذين أفروا بالإيمان {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي ألهاه ماله وولده عن ذكر الله {فَ أولئك هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني وقيل : هم الخاسرون في إنكار ما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلّم من التوحيد والبعث.
وقال الكلبي : الجهاد ، وقيل : هو القرآن وقيل : هو النظر في القرآن والتفكر والتأمل فيه {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} قال ابن عباس يريد زكاة المال ومن للتبعيض ، وقيل : المراد هو الإنفاق الواجب {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي دلائل الموت وعلاماته فيسأل الرجعة إلى الدنيا وهو قوله : {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ} وقيل حضهم على إدامة الذكر ، وأن لا يضنوا بالأموال ، أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى زمان قليل ، وهو الزيادة في أجله حتى يتصدق ويتزكى وهو / قوله تعالى : {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين إذ المؤمن لا يسأل الرجعة. وقال الضحاك : لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة وقرأ هذه الآية ، وقال صاحب "الكشاف" : من قبل أن يعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق ويتعذر عليه الإنفاق ، ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع ويعض أنامله على فقد ما كان متمكناً منه ، وعن ابن عباس تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل وقوله : {وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس : أحج وقرىء فأكون وهو على لفظ فأصدق وأكون ، قال المبرد : وأكون على ما قبله لأن قوله : {فَأَصَّدَّقَ} جواب للاستفهام الذي فيه التمني والجزم على موضع الفاء ، وقرأ أبي فأتصدق على الأصل وأكن عطفاً على موضع فأصدق : وأنشد سيبويه أبياتاً كثيرة في الحمل على الموضع منها :
جزء : 30 رقم الصفحة : 552
(معاوى إننا بشر فأسجح)
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد عطفاً على المحل والباء في قوله : بالجبال ، للتأكيد لا لمعنى مستقبل يجوز حذفه وعكسه قول ابن أبي سلمى :
بدا لي أني لست مدرك ماضي
ولا سابق شيئاً إذا كان جاثياً

توهم أنه قال بمدرك فعطف عليه قوله سابق ، عطفاً على المفهوم ، وأما قراءة أبي عمرو فإنه حمله على اللفظ دون المعنى ، ثم أخبر تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال : {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} يعني عن الموت إذا جاء أجلها/ قال في "الكشاف" : هذا نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي ، وبالجملة فقوله : {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ} تنبيه على الذكر قبل الموت : {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} تنبيه على الشكر لذلك وقوله تعالى : {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج ، ويكون هذا كقوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) والمفسرون على أن هذا خطاب جامع لكل عمل خيراً أو شراً وقرأ عاصم يعملون بالياء على قوله : {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} لأن النفس وإن كان واحداً في اللفظ ، فالمراد به الكثير فحمل على المعنى والله أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 552
553
(1/4473)

سورة التغابن
ثمان عشرة آية مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 553
554
/ وجه التعلق بما قبلها ظاهر لما أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين وهذه السورة للمنافقين الصادقين ، وأيضاً تلك السورة مشتملة على بطالة أهل النفاق سراً وعلانية ، وهذه السورة على ما هو التهديد البالغ لهم ، وهو قوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَا وَاللَّهُ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} وأما الأول بالآخر فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما مر ، وفي أول هذه إشارة إلى أنهم إن أعرضوا عن الذكر والشكر ، قلنا : من الخلق قوم يواظبون على الذكر والشكر دائماً ، وهم الذين يسبحون ، كما قال تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ، وقوله تعالى : {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } معناه إذا سبح لله ما في السموات وما في الأرض فله الملك وله الحمد ، ولما كان له الملك فهو متصرف في ملكه والتصرف مفتقر إلى القدرة فقال : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقال في "الكشاف" : قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى وذلك لأن الملك في الحقيقة له لأنه مبدىء لكل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه ، كذلك الحمد فإن أصول النعم وفروعها منه ، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده ، وقوله تعالى : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} قيل : معناه وهو على كل شيء أراده قدير ، وقيل : قدير يفعل ما يشاء بقدر ما يشاء لا يزيد عليه ولا ينقص. وقد مر ذلك ، وفي الآية مباحث :
الأول : أنه تعالى قال في الحديد : {سَبِّحِ} (الحديد : ) والحشر والصف كذلك ، وفي الجمعة والتغابن {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} فما الحكمة فيه ؟
نقول : الجواب عنه قد تقدم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 554
البحث الثاني : قال في موضع : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } (الحشر : 1) وفي موضع /آخر {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ } (الحديد : 1) فما الحكمة فيه ؟
قلنا : الحكمة لا بد منها ، ولا نعلمها كما هي ، لكن نقول : ما يخطر بالبال ، وهو أن مجموع السموات والأرض شيء واحد ، وهو عالم مؤلف من الأجسام الفلكية والعنصرية ، ثم الأرض من هذا المجموع شيء والباقي منه شيء آخر ، فقوله تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } بالنسبة إلى هذا الجزء من المجموع وبالنسبة إلى ذلك الجزء منه كذلك ، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال ، قال تعالى في بعض السور كذا وفي البعض هذا ليعلم أن هذا العالم الجسماني من وجه شيء واحد ، ومن وجه شيئان بل أشياء كثيرة ، والخلق في المجموع غير ما في هذا الجزء ، وغير ما في ذلك أيضاً ولا يلزم من وجود الشيء في المجموع أن يوجد في كل جزء من أجزائه إلا بدليل منفصل ، فقوله تعالى : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } على سبيل المبالغة من جملة ذلك الدليل لما أنه يدل على تسبيح ما في السموات وعلى تسبيح ما في الأرض ، كذلك بخلاف قوله تعالى : {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ } .
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 554
555
(1/4474)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه تعالى خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمناً وكافراً ، وقال عطاء : إنه يريد فمنكم مصدق ، ومنكم جاحد ، وقال الضحاك : مؤمن في العلانية كافر في السر كالمنافق ، وكافر في العلانية مؤمن في السر كعمار بن ياسر ، قال الله تعالى : {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} (النحل : 106) وقال الزجاج : فمنكم كافر بأنه تعالى خلقه ، وهو من أهل الطبائع والدهرية ، ومنكم مؤمن بأنه تعالى خلقه كما قال : {قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَه } (عيس : 17 ، 18) وقال : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} (الكهف : 37) وقال أبو إسحاق : خلقكم في بطون أمهاتكم كفاراً ومؤمنين ، وجاء في بعض التفاسير أن يحي خلق في بطن أمه مؤمناً وفرعون خلق في بطن أمه كافراً ، دل عليه قوله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وقوله تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالم بكفركم / وإيمانكم اللذين من أعمالكم ، والمعنى أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فأنظروا النظر الصحيح وكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم بل تفرقتم فرقاً فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة ، ومنهم من قال : بالحق ، أي للحق ، وهو البعث ، وقوله : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } يحتمل وجهين أحدهما : أحسن أي أتقن وأحكم على وجه لا يوجد بذلك الوجه في الغير ، وكيف يوجد وقد وجد في أنفسهم من القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وثانيهما : أن نصرف الحسن إلى حسن المنظر ، فإن من نظر في قد الإنسان وقامته وبالنسبة بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة وقوله تعالى : {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي البعث وإنما أضافه إلى نفسه لأنه هو النهاية في خلقهم والمقصود منه ، ثم قال تعالى : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } لأنه لا يلزم من خلق الشيء أن يكون مصوراً بالصورة ، ولا يلزم من الصورة أن تكون على أحسن الصور ، ثم قال : {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي المرجع ليس إلا له ، وقوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَا وَاللَّهُ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} نبه بعلمه ما في السموات والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء لما أنه تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ألبتة أزلاً وأبداً ، وفي الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 555
الأول : أنه تعالى حكيم ، وقد سبق في علمه أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ، والإصرار عليه فأي حكمة دعته إلى خلقهم ؟
نقول : إذا علمنا أنه تعالى حكيم ، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة ، وخلق هذه الطائفة فعله ، فيكون على وفق الحكمة ، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة.
الثاني : قال : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } وقد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الصورة سمج الخلقة ؟
نقول : لا سماجة ثمة لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً لا يظهر حسنه ، وإلا فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حده.
الثالث : قوله تعالى : {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} يوهم الانتقال من جانب إلى جانب ، وذلك لا يمكن إلا أن يكون الله في جانب ، فكيف هو ؟
قلت : ذلك الوهم بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفس الأمر ، فإن نفس الأمر بمعزل عن حقيقة الانتقال من جانب إلى جانب إذا كان المنتقل إليه منزهاً عن الجانب وعن الجهة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 555
556
(1/4475)

/ اعلم أن قوله : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا } خطاب لكفار مكة وذلك إشارة إلى الويل الذي ذاقوه في الدنيا وإلى ما أعد لهم من العذاب في الآخرة. فقوله : {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي شدة أمرهم مثل قوله : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّه } أي بأن الشأن والحديث أنكروا أن يكون الرسول بشراً. ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً فكفروا وتولوا ، وكفروا بالرسل وأعرضوا واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم من الأزل ، وقوله تعالى : {وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} من جملة ما سبق ، والحميد بمعنى المحمود أي المستحق للحمد بذاته ويكون بمعنى الحامد ، وقوله تعالى : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا } قال في "الكشاف" : الزعيم ادعاء العلم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم : "زعموا مطية الكذب" وعن شريح لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا ، ويتعدى إلى مفعولين ، تعدى ، العلم ، قال الشاعر :
ولم أزعمك عن ذلك معزولا
والذين كفروا هم أهل مكة {بَلَى } إثبات لما بعد أن وهو البعث وقيل : قوله تعالى : {قُلْ بَلَى وَرَبِّى} يحتمل أن يكون تعليماً للرسول صلى الله عليه وسلّم ، أي يعلمه القسم تأكيداً لما كان يخبر عن البعث وكذلك جميع القسم في القرآن وقوله تعالى : {وَذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي لا يصرفه صارف ، وقيل : إن أمر البعث على الله يسير ، لأنهم أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً ، فأخبر أن إعادتهم أهون في العقول من إنشائهم ، وفي الآية مباحث.
الأول : قوله : {فَكَفَرُوا } يتضمن قوله : {وَتَوَلَّوا } فما الحاجة إلى ذكره ؟
نقول : إنهم كفروا وقالوا : {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية ، وذلك هو التولي ، فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي ، ولهذا قال : {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا } .
جزء : 30 رقم الصفحة : 556
الثاني : قوله : {وَتَوَلَّوا ا وَّاسْتَغْنَى اللَّه } يوهم وجود التولي والاستغناء معاً ، والله تعالى لم يزل غنياً ، قال في "الكشاف" : معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
الثالث : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا رسالته. نقول : إنهم / وإن أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار أظهر من الشمس عنده وفي اعتقاده ، والفائدة في الإخبار مع القسم ليس إلا هذا ، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم.
ولما بالغ في الإخبار عن البعث والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 556
557
قوله : {فَـاَامِنُوا } يجوز أن يكون صلة لما تقدم لأنه تعالى لما ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية ، وذلك لكفرهم بالله وتكذيب الرسل قال : {فَـاَامِنُوا } أنتم {بِاللَّهِ وَرَسُولِه } لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة {وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا } وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات ، وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث ، ثم ذكر في "الكشاف" أنه عنى برسوله والنور محمداً صلى الله عليه وسلّم والقرآن {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي بما تسرون وما تعلنون فراقبوه وخافوه في الحالين جميعاً وقوله تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } يريد به يوم القيامة جمع فيه أهل السموات وأهل الأرض ، و{ذَالِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } والتغابن تفاعل من الغبن في المجازاة والتجارات ، يقال : غبنه يغبنه غبناً إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن قوماً في النار يعذبون وقوماً في الجنة يتنعمون ، وقيل : هو يوم يغبن فيه أهل الحق ، أهل الباطل ، وأهل الهدى أهل الضلالة ، وأهل الإيمان. أهل الكفر ، فلا غبن أبين من هذا ، وفي الجملة فالغبن في البيع والشراء وقد ذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة / الدنيا بالآخرة واشتروا الضلالة بالهدى ، ثم ذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ودل المؤمنين على تجارة رابحة ، فقال : {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ} (الصف : 10) الآية ، وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين ، وقوله تعالى : {وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـالِحًا} يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك ، ويعمل صالحاً أي يعمل في إيمانه صالحاً إلى أن يموت ، قرىء يجمعكم ويكفر ويدخل بالياء والنون ، وقوله : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا } أي بوحدانية الله تعالى وبقدرته {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ} أي بآياته الدالة على البعث { أولئك أَصْحَـابُ النَّارِ خَـالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ثم في الآية مباحث :
(1/4476)

جزء : 30 رقم الصفحة : 557
الأول : قال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ} بطريق الإضافة ، ولم يقل : ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة مع أن النور ههنا هو القرآن والقرآن كلامه ومضاف إليه ؟
نقول : الألف واللام في النور بمعنى الإضافة كأنه قال : ورسوله ونوره الذي أنزلنا.
الثاني : بم انتصب الظرف ؟
نقول : قال الزجاج : بقوله : {لَتُبْعَثُنَّ} وفي "الكشاف" بقوله : {لَتُنَبَّؤُنَّ} أو بخبير لما فيه من معنى الوعيد. كأنه قيل : والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار اذكر.
الثالث : قال تعالى في الإيمان : {وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ} بلفظ المستقبل ، وفي الكفر وقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بلفظ الماضي ، فنقول : تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآيتاتنا يدخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
الرابع : قال تعالى : {وَمَن يُؤْمِن } بلفظ الواحد و{خَـالِدِينَ فِيهَآ} بلفظ الجمع ، نقول : ذلك بحسب اللفظ ، وهذا بحسب المعنى.
الخامس : ما الحكمة في قوله : {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} بعد قوله : {خَـالِدِينَ فِيهَآ} وذلك بئس المصير فنقول : ذلك وإن كان في معناه فلا يدل عليه بطريق التصريح فالتصريح مما يؤكده.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 557
558
قوله تعالى : {إِلا بِإِذْنِ اللَّه } أي بأمر الله قاله الحسن ، وقيل : بتقدير الله وقضائه ، وقيل : بإرادة / الله تعالى ومشيئته ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعلمه وقضائه وقوله تعالى : {يَهْدِ قَلْبَه } أي عند المصيبة أو عند الموت أو المرض أو الفقر أو القحط ، ونحو ذلك فيعلم أنها من الله تعالى فيسلم لقضاء الله تعالى ويسترجع ، فذلك قوله : {يَهْدِ قَلْبَه } أي للتسليم لأمر الله ، ونظيره قوله : {الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} إلى قوله : {وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة : 156 ، 157) ، قال أهل المعاني : يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما يهد قلبه إلى ما يحب ويرضى وقرىء {أَغْفَلْنَا قَلْبَه } بالنون وعن عكرمة {يَهْدِ قَلْبَه } بفتح الدال وضم الياء ، وقرىء قال الزجاج : هدأ قلبه يهدأ إذا سكن ، والقلب بالرفع والنصب ووجه النصب أن يكون مثل {مَن سَفِهَ نَفْسَه } (البقرة : 130) {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} يحتمل أن يكون إشارة إلى اطمئنان القلب عند المصيبة ، وقيل : عليم بتصديق من صدق رسوله فمن صدقه فقد هدى قلبه : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } فيما جاء به من عند الله يعني هونوا المصائب والنوازل واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ، ومن الرسول فيما دعاكم إليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 558
وقوله : {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} الظاهر والبيان البائن ، وقوله : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } يحتمل أن يكون هذا من جملة ما تقدم من الأوصاف الحميدة لحضرة الله تعالى من قوله : {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُا وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} (التغابن : 1) فإن من كان موصوفاً بهذه الصفات ونحوها : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } أي لا معبود إلا هو ولا مقصود إلا هو عليه التوكل في كل باب ، وإليه المرجع والمآب ، وقوله : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} بيان أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ، ولا يتقوى إلا به لما أنه يعتقد أن القادر بالحقيقة ليس إلا هو ، وقال في "الكشاف" : هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على التوكل عليه والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه ، فإن قيل : كيف يتعلق {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } بما قبله ويتصل به ؟
نقول : يتعلق بقوله تعالى : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ} (التغابن : 8) لما أن من يؤمن بالله فيصدقه يعلم ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 558
558
(1/4477)

/ قال الكلبي : كان الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به بنوه وزوجته فقالوا : أنت تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهله ويقيم فحذرهم الله طاعة نسائهم وأولادهم ، ومنهم من لا يطيع ويقول : أما والله لو لم نهاجر ويجمع الله بيننا وبينكم في دار الهجرة لا ننفعكم شيئاً أبداً ، فلما جمع الله بينهم أمرهم أن ينفقوا ويحسنوا ويتفضلوا ، وقال مسلم الخراساني : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان أهله وولده يثبطونه عن الهجرة والجهاد ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية ، فقال : هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم فهو قوله : عدواً لكم فاحذروهم أن تطيعوا وتدعوا الهجرة ، وقوله تعالى : {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا } قال هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه الهجرة وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ، ولم يصبهم بخير فنزل : {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا } الآية ، يعني أن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ، ينهون عن الإسلام ويثبطون عنه وهم من الكفار فاحذروهم ، فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان ، ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدواً لهم ، وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا عن الهجرة نزل : {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تطيعوهم في معصية الله تعالى وفتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة ، وقيل : أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جميع ما يقع بهم في الفتنة وهذا عام يعم جميع الأولاد ، فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله ، كغصب مال الغير وغيره :
جزء : 30 رقم الصفحة : 558
{وَاللَّهُ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي جزيل ، وهو الجنة أخبر أن عنده أجراً عظيماً ليتحملوا المؤونة العظيمة ، والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم. وقوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} قال مقاتل : أي ما أطقتم يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع ، قال قتادة : نسخت هذه الآية قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } (آل عمران : 102) ومنهم من طعن فيه وقال : لا يصح لأن قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لأنه فوق الطاقة والاستطاعة ، وقوله : أي لله ولرسوله ولكتابه وقيل : لما أمركم الله ورسوله به {اللَّهَ وَأَطِيعُوا } الله فيما يأمركم {وَأَنفِقُوا } من أموالكم في حق الله خيراً لأنفسكم ، والنصب بقوله : {وَأَنفِقُوا } كأنه قيل : وقدموا خيراً لأنفسكم ، وهو / كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ} (النساء : 170) وقوله تعالى : {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِه } الشح هو البخل ، وإنه يعم المال وغيره ، يقال : فلان شحيح بالمال وشحيح بالجاه وشحيح بالمعروف ، وقيل : يوق ظلم نفسه فالشح هو الظلم/ ومن كان بمعزل عن الشح فذلك من أهل الفلاح فإن قيل : {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } ، يدل على أن الأموال والأولاد كلها من الأعداء و{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ} يدل على أن بعضهم من الأعداء دون البعض ، فنقول : هذا في حيز المنع فإنه لا يلزم أن يكون البعض من المجموع الذي مر ذكره من الأولاد يعني من الأولاد من يمنع ومنهم من لا يمنع ، فيكون البعض منهم عدواً دون البعض.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 558
561

اعلم أن قوله : {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي إن تنفقوا في طاعة الله متقاربين إليه يجزكم بالضعف لما أنه شكور يحب المتقربين إلى حضرته حليم لا يعجل بالعقوبة غفور يغفر لكم ، والقرض الحسن عند بعضهم هو التصدق من الحلال ، وقيل : هو التصدق بطيبة نفسه ، والقرض هو الذي يرجى مثله وهو الثواب مثل الإنفاق في سبيل الله ، وقال في "الكشاف" : ذكر القرض تلطف في الاستدعاء وقوله : {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} أي يكتب لكم بالواحدة عشرة وسبعمائة إلى ما شاء من الزيادة وقرىء (يضعفه) {شَكُورٌ} مجاز أي يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب وكذلك حليم يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء فلا يعاجلكم بالعذاب مع كثرة ذنوبكم ، ثم لقائل أن يقول : هذه الأفعال مفتقرة إلى العلم والقدرة ، والله تعالى ذكر العلم دون القدرة فقال : {عَالِمُ الْغَيْبِ} ، فنقول قوله : {الْعَزِيزُ} يدل على القدرة من عز إذا غلب و{الْحَكِيمُ} على الحكمة ، وقيل : العزيز الذي لا يعجزه شيء ، والحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، والله تعالى كذلك فيكون عالماً قادراً حكيماً جل ثناؤه وعظم كبرياؤه ، والله أعلم بالصواب ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وخاتم النبيين سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 561
563
(1/4478)

سورة الطلاق
إثنتا عشرة آية مدنية
جزء : 30 رقم الصفحة : 563
563
/ {الْحَكِيمُ * يَا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } .
أما التعلق بما قبلها فذلك أنه تعالى قال في أول تلك السورة : {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُا وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} (التغابن : 1) والملك يفتقر إلى التصرف على وجه يحصل منه نظام الملك ، والحمد يفتقر إلى أن ذلك التصرف بطريق العدل والإحسان في حق المتصرف فيه وبالقدرة على من يمنعه عن التصرف وتقرير الأحكام في هذه السورة متضمن لهذه الأمور المفتقرة إليها تضمناً لا يفتقر إلى التأمل فيه ، فيكون لهذه السورة نسبة إلى تلك السورة ، وأما الأول بالآخر فلأنه تعالى أشار في آخر تلك السورة إلى كمال علمه بقوله : {عَالِمُ الْغَيْبِ} (التغابن : 18) وفي أول هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات ، وقوله : {الْحَكِيمُ * يَا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم طلق حفصة فأتت إلى أهلها فنزلت ، وقيل : راجعها فإنها صوامة قوامة وعلى هذا إنما نزلت الآية بسبب خروجها إلى أهلها لما طلقها النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله في هذه الآية : {وَلا يَخْرُجْنَ} وقال الكلبي : إنه عليه السلام غضب على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة فنزلت ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن عمر لما طلق امرأته حائضاً والقصة في ذلك مشهورة وقال مقاتل : إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل ابن عمر ، وهم عمرو بن سعيد بن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت فيهم ، وفي قوله تعالى : {الْحَكِيمُ * يَا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ}
جزء : 30 رقم الصفحة : 563
(1/4479)

وجهان أحدهما : أنه نادى النبي صلى الله عليه وسلّم ثم خاطب أمته لما أنه سيدهم وقدوتهم ، فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب. قال أبو إسحق : هذا خطاب النبي عليه السلام ، والمؤمنون داخلون معه في الخطاب وثانيهما : أن المعنى يا أيها النبي قل لهم : إذا طلقتم النساء فأضمر القول ، وقال الفراء : خاطبه وجعل الحكم للجميع ، كما تقول للرجل : ويحك أما تتقون الله أما تستحيون ، تذهب إليه وإلى أهل بيته و{إِذَا طَلَّقْتُمُ} أي إذا أردتم التطليق ، كقوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا} (المائدة : 6) أي إذا أردتم / الصلاة ، وقد مر الكلام فيه ، وقوله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال عبد الله : إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته ، فيطلقها طاهراً من غير جماع ، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل والحسن ، قالوا : أمر الله تعالى الزوج بتطليق امرأته إذا شاء الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، وهو قوله تعالى : {لِعِدَّتِهِنَّ} أي لزمان عدتهن ، وهو الطهر بإجماع الأمة ، وقيل : لإظهار عدتهن ، وجماعة من المفسرين قالوا : الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرة من غير جماع ، وبالجملة ، فالطلاق في حال الطهر لازم ، وإلا لا يكون الطلاق سنياً ، والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآيسة والحامل/ إذ لا سنة في الصغير وغير المدخول بها ، والآيسة والحامل ، ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء ، وليس في عدد الطلاق سنة وبدعة ، على مذهب الشافعي حتى لو طلقها ثلاثاً في طهر صحيح لم يكن هذا بدعياً بخلاف ما ذهب إليه أهل العراق ، فإنهم قالوا : السنة في عدد الطلاق أن يطلق كل طلقة في طهر صحيح. وقال صاحب "النظم" : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} صفة للطلاق كيف يكون ، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة للإضافة وهي أصلها ، ولبيان السبب والعلة كقوله تعالى : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (الإنسان : 9) وبمنزلة عند مثل قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (الإسراء : 78) أي عنده ، وبمنزلة في مثل قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مِن دِيَـارِهِمْ لاوَّلِ الْحَشْرِ } (الحشر : 2) وفي هذه الآية بهذا المعنى ، لأن المعنى فطلقوهن في عدتهن ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن فقال صاحب "الكشاف" : فطلقوهن مستقبلات لعدتهن كقوله : أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلاً لها ، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم : (من قبل عدتهن) فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة العدة ، المراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ، يخلين إلى أن تنقضي عدتهن ، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات ، وقال مالك بن أنس : لا أعرف طلاقاً إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة ، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : ما هكذا أمرك الله تعالى إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ، والشافعي يراعي الوقت وحده ، وقوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 563
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } أي أقراءها فاحتفظوا لها واحفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة واحفظوا نفس ما تعتدون به وهو عدد الحيض ، ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج يحتمل وجهين أحدهما : أنهم هم الذين يلزمهم الحقوق والمؤن وثانيهما : ليقع / تحصين الأولاد في العدة ، ثم في الآية مباحث :
(1/4480)

الأول : ما الحكمة في إطلاق السنة وإطلاق البدعة ؟
نقول : إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها عن عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلقة التي لا هي معتدة ولا ذات بعل والعقول تستقبح الإضرار ، وإذا كانت طاهرة مجامعة لم يؤمن أن قد علقت من ذلك الجمع بولد ولو علم الزوج لم يطلقها ، وذلك أن الرجل قد يرغب في طلاق امرأته إذا لم يكن بينهما ولد ولا يرغب في ذلك إذا كانت حاملاً منه بولد ، فإذا طلقها وهي مجامعة وعنده أنها حائل في ظاهر الحال ثم ظهر بها حمل ندم على طلاقها ففي طلاقه إياها في الحيض سوء نظر للمرأة ، وفي الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وقد حملت فيه سوء نظر للزوج ، فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أمن هذان الأمران ، لأنها تعتد عقب طلاقه إياها ، فتجري في الثلاثة قروء ، والرجل أيضاً في الظاهر على أمان من اشتمالها على ولد منه.
الثاني : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟
نقول : نعم ، وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه ، فقال له : "أو تلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم".
الثالث : كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو غير ذلك ؟
نقول : الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ، وقال محمد وزفر : لا يطلق للسنة إلا واحدة. وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعى الوقت.
الرابع : هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة ؟
نقول : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا ، والظاهر الكراهة.
الخامس : {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} عام يتناول المدخول بهن ، وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء ، والآيسات والصغار والحوامل ، فكيف يصح تخصيصه بذوات الأقراء والمدخول بهن ؟
نقول : لا عموم ثمة ولا خصوص أيضاً ، لكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن ، وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فلما قيل : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} علم أنه أطلق على بعضهن ، وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض ، كذا ذكره في "الكشاف".
جزء : 30 رقم الصفحة : 563
ثم قال تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُم لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنا بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍا وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَمَن يَتَعَدَّ} .
قوله : {اتَّقُوا اللَّهَ} قال مقاتل : اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم و{لا تُخْرِجُوهُنَّ} أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق ، فإن كانت المساكن عارية فارتجعت كان على الأزواج أن يعينوا مساكن أخرى بطريق الشراء ، أو بطريق الكراء ، أو بغير ذلك ، وعلى الزوجات أيضاً أن لا يخرجن حقاً لله تعالى إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت ليلاً أو نهاراً كان ذلك الخروج حراماً ، ولا تنقطع العدة.
وقوله تعالى : {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قال ابن عباس : هو أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن ، قال الضحاك الأكثرون : فالفاحشة على هذا القول هي الزنا ، وقال ابن عمر : الفاحشة خروجهن قبل انقضاء العدة ، قال السدي والباقون : الفاحشة المبينة هي العصيان المبين ، وهو النشوز ، وعن ابن عباس : إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن وسوء خلقهن ، فيحل للأزواج إخراجهن من بيوتهن ، وفي الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 563
(1/4481)

البحث الأول : هل للزوجين التراضي على إسقاطها ؟
نقول : السكنى الواجبة في حال قيام الزوجية حق للمرأة وحدها فلها إبطالها ، ووجه هذا أن الزوجين ما داما ثابتين على النكاح فإنما مقصودهما المعاشرة والاستمتاع ، ثم لا بد في تمام ذلك من أن تكون المرأة مستعدة له لأوقات حاجته إليها ، وهذا لا يكون إلا بأنه يكفيها في نفقتها ، كطعامها وشرابها وأدمها ولباسها وسكناها ، وهذه كلها داخلة في إحصاء الأسباب التي بها يتم كل ما ذكرنا من الاستمتاع ، ثم ما وراء ذلك من حق صيانة الماء ونحوها ، فإن وقعت الفرقة زال الأصل الذي هو الانتفاع وزواله بزوال الأسباب الموصلة إليه من النفقة عليها ، واحتيج إلى صيانة الماء فصارت السكنى في هذه الحالة بوجوبها الإحصاء لأسبابها ، لأن أصلها السكنى ، لأن بها تحصينها ، فصارت السكنى في هذه الحالة لا اختصاص لها بالزوج ، وصيانة الماء من حقوق الله ، ومما لا يجوز التراضي من الزوجين على إسقاطه ، فلم يكن لها الخروج ، وإن رضي الزوج ، ولا إخراجها ، وإن رضيت إلا عن ضرورة مثل انهدام المنزل ، وإخراج غاصب إياها أو نقلة من دار بكراء قد انقضت إجارتها أو خوف فتنة أو سيل أو حريق ، أو غير ذلك من طريق الخوف على النفس ، فإذا انقضى ما أخرجت له رجعت إلى موضعها حيث كان الثاني : قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } ولم يقل : واتقوا الله مقصوراً عليه فنقول : فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن لفظ الرب ينبههم على أن التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية الثاني : ما معنى الجمع بين إخراجهم وخروجهن ؟
نقول : معنى الإخراج أن لا يخرجهن / البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ، إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك. الثالث : قرىء : {بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } و{مُّبَيِّنَةٍ } فمن قرأ مبينة بالخفض فمعناه : أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها تبين أنها فاحشة ، ومن قرأ {مُّبَيِّنَةٍ } بالفتح فمعناه أنها مبرهنة بالبراهين ، ومبينة بالحجج ، وقوله : {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّه } والحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي ، والحد في الحقيقة هي النهاية التي ينتهي إليها الشيء ، قال مقاتل : يعود ما ذكر من طلاق السنة وما بعده من الأحكام {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} وهذا تشديد فيمن يتعدى طلاق السنة ، ومن يطلق لغير العدة {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه } أي ضر نفسه ، ولا يبعد أن يكون المعنى ومن يتجاوز الحد الذي جعله الله تعالى فقد وضع نفسه موضعاً لم يضعه فيه ربه ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، وقوله تعالى : {لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَالِكَ أَمْرًا} قال ابن عباس : يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها في العدة وهو دليل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقاً ، قال أبو إسحق : إذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى في قوله : {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَالِكَ أَمْرًا} .
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 563
565
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن انقضاء أجل العدة لا انقضاء أجلهن ، والمراد من بلوغ الأجل هنا مقاربة البلوغ ، وقد مر تفسيره. قال صاحب "الكشاف" : هو آخر العدة وشارفته ، فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة ، وإتقاء الضرار / وهو أن يراجعها في آخر العدة ، ثم يطلقها تطويلاً للعدة وتعذيباً لها.
(1/4482)

وقوله تعالى : {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} أي أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة ذوي عدل ، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } (البقرة : 282) وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة ، وقيل : فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث ، وقيل : الإشهاد إنما أمروا به للاحتياط مخافة أن تنكر المرأة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجاً. ثم خاطب الشهداء فقال : {وَأَقِيمُوا الشَّهَـادَةَ} وهذا أيضاً مر تفسيره ، وقوله : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا} قال الشعبي : من يطلق للعدة يجعل الله له سبيلاً إلى الرجعة ، وقال غيره : مخرجاً من كل أمر ضاق على الناس ، قال الكلبي : ومن يصبر على المصيبة يجعل الله له مخرجاً من النار إلى الجنة ، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة ، وقال أكثر أهل التفسير : أنزل هذا وما بعده في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابناً له فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم ، وذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة فقال له : "اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه ، وقد غفل عنه العدو ، فأصاب إبلاً وجاء بها إلى أبيه ، وقال صاحب "الكشاف" : فبينا هو في بيته ، إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها ، فذلك قوله : ويرزقه من حيث لا يحتسب ويجوز أنه إن اتقى الله وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق
جزء : 30 رقم الصفحة : 565
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } وقال في "الكشاف" : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة كما مر. وقوله تعالى : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ا } أي من وثق به فيما ناله كفاه الله ما أهمه ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله" وقرىء : {إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِه } بالإضافة {مَآ أَمَرَه } أي نافذ أمره ، وقرأ المفضل {مَآ أَمَرَه } ، على أن قوله {قَدْ جَعَلَ} خبر {ءَانٍ} ، و{مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُا وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ا إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِه ا قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا} أي تقديراً وتوقيتاً/ وهذا بيان لوجوب التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه ، قال الكلبي ومقاتل : لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه قدر الله تعالى ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر. وقال ابن عباس : يريد قدرت ما خلقت بمشيئتي ، وقوله : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إلى قوله : {مَخْرَجًا} آية ومنه إلى قوله : {قَدْرًا} آية أخرى عند الأكثر ، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة ثم في هذه الآية لطيفة : وهي أن التقوي في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال ، فقال تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا} وقريب من هذا قوله : {إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } (النور : 32) فإن قيل : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ا } يدل على عدم الاحتياج للكسب في طلب الرزق ، وقوله تعالى : / {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة : 10) يدل على الاحتياج فكيف هو ؟
نقول : لا يدل على الاحتياج ، لأن قوله : {فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} للإباحة كما مر والإباحة مما ينافي الاحتياج إلى الكسب لما أن الاحتياج مناف للتخيير.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 565
566
(1/4483)

قوله : {وَالَّـا ـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الآية ، ذكر الله تعالى في سورة البقرة عدة ذوات الأقراء والمتوفى عنها زوجها وذكر عدة سائر النسوة اللائي لم يذكرن هناك في هذه السورة ، وروي أن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض ، فما عدة التي لم تحض فنزل : {وَالَّـا ـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} وقوله : {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي إن أشكل عليكم حكمهن في عدة التي لا تحيض ، فهذا حكمهن ، وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ الإياس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ} فلما نزل قوله تعالى : {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ} قام رجل فقال : يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض ؟
فنزل : {وَالَّـاـا ِى لَمْ يَحِضْنَ } أي هي بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر ، فقام آخر وقال ، وما عدة الحوامل يا رسول الله ؟
فنزل : {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } معناه أجلهن في انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل ، وهذا عام في كل حامل ، وكان علي عليه السلام يعتبر أبعد الأجلين ، ويقول : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} (البقرة : 234) لا يجوز أن يدخل في قوله : {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ} وذلك لأن أولات الأحمال إنما هو في عدة الطلاق ، وهي لا تنقض عدة الوفاة إذا كانت بالحيض ، وعند ابن عباس عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين. وأما ابن مسعود فقال : يجوز أن يكون قوله : {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ} مبتدأ خطاب ليس بمعطوف على قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 566
{وَالَّـا ـاِى يَـاـاِسْنَ} ولما كان مبتدأ يتناول العدد كلها ، ومما يدل عليه خبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوماً ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تتزوج ، فدل على إباحة النكاح / قبل مضي أربعة أشهر وعشر ، على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال. وقال الحسن : إن وضعت أحد الولدين انقضت عدتها ، واحتج بقوله تعالى : {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ولم يقل : أحمالهن ، لكن لا يصح ، وقرىء (أحمالهن) ، وقوله : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مِنْ أَمْرِه يُسْرًا} أي ييسر الله عليه في أمره ، ويوفقه للعمل الصالح. وقال عطاء : يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة ، وقوله : {ذَالِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَه ا إِلَيْكُمْ } يعني الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم ، ومن يتق الله بطاعته ، ويعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم يكفر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة ، ويعظم له في الآخرة أجراً ، قاله ابن عباس. فإن قيل قال تعالى : {أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ولم يقل : أن يلدن ، نقول : الحمل اسم لجميع ما في بطنهن ، ولو كان كما قاله ، لكانت عدتهن بوضع بعض حملهن ، وليس كذلك.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 566
568
قوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} (الطلاق : 4) كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات ، فقيل : {أَسْكِنُوهُنَّ} قال صاحب "الكشاف" : (من) صلة ، والمعنى أسكنوهن حيث سكنتم. قال أبو عبيدة : {مِّن وُجْدِكُمْ} أي وسعكم وسعتكم ، وقال الفراء : على قدر طاقتكم ، وقال أبو إسحاق : يقال وجدت في المال وجداً ، أي صرت ذا مال ، وقرىء بفتح الواو أيضاً وبخفضها ، والوجد الوسع والطاقة ، وقوله : {وَلا تُضَآرُّوهُنَّ} نهي عن مضارتهن بالتضييق عليهن في السكنى والنفقة {وَإِن كُنَّ أُوْلَـاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وهذا بيان حكم المطلقة البائنة ، لأن الرجعية تستحق النفقة ، وإن لم تكن حاملاً ، وإن كانت مطلقة ثلاثاً أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً ، وعند مالك والشافعي ، ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها ، وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا سكنى لك ولا نفقة. وقوله : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن} يعني حق الرضاع وأجرته وقد مر ، وهو دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها وإلا لم يكن لها أن تأخذ الأجر ، وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات وإلا لكان لها بعض الأجر دون الكل ، وقوله تعالى : {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ }
جزء : 30 رقم الصفحة : 568
(1/4484)

قال عطاء : يريد بفضل معروفاً منك ، وقال مقاتل : بتراضي الأب والأم ، وقال المبرد : ليأمر بعضكم بعضاً بالمعروف ، والخطاب للأزواج من النساء والرجال ، والمعروف ههنا أن لا يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا هي في حق الولد ورضاعه وقد مر تفسير الائتمار ، وقيل : الائتمار التشاور في إرضاعه إذا تعاسرت هي ، وقوله تعالى : {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي في الأجرة : {فَسَتُرْضِعُ لَه ا أُخْرَى } غير الأم ، ثم بين قدر الإنفاق بقوله : {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِه } أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات على قدر سعتهم ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على مقدار ذلك ، ونظيره : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه } (البقرة : 236) وقوله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَآ ءَاتَـاـاهَا } أي ما أعطاها من الرزق ، قال السدي : لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني ، وقوله : {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء وكان الغالب في ذلك الوقت الفقر والفاقة ، فأعلمهم الله تعالى أن يجعل بعد عسر يسراً وهذا كالبشارة لهم بمطلوبهم ، ثم في الآية مباحث :
الأول : إذا قيل : (من) في قوله : {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما هي ؟
نقول : هي التبعيضية أي بعض مكان سكناكم إن لم يكن (لكم) غير بيت واحد فأسكنوها في بعض جوانبه.
الثاني : ما موقع {مِّن وُجْدِكُمْ} ؟
نقول : عطف بيان لقوله : {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} وتفسير له ، أي مكاناً من مسكنكم على قدر طاقتكم.
الثالث : فإذا كانت كل مطلقة عندكم يجب لها النفقة ، فما فائدة الشرط في قوله تعالى : {وَإِن كُنَّ أُوْلَـاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ} نقول : فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها ، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار مدة الحمل ، فنفى ذلك الظن.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 568
568
/ قوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} الكلام في كأين قد مر ، وقوله : {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} وصف القرية بالعتو والمراد أهلها ، كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) قال ابن عباس : {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} أي أعرضت عنه ، وقال مقاتل : خالفت أمر ربها ، وخالفت رسله ، فحاسبناها حساباً شديداً ، فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب ، وهو قوله : {وَعَذَّبْنَـاـاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} أي عذاباً منكراً عظيماً ، فسر المحاسبة بالتعذيب. وقال الكلبي : هذا على التقديم والتأخير ، يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً ، والمراد حساب الآخرة وعذابها {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي شدة أمرها وعقوبة كفرها. وقال ابن عباس : عاقبة كفرها {وَكَانَ عَـاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} أي عاقبة عتوها خساراً في الآخرة ، وهو قوله تعالى : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمداً فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم ، وقوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَـا أُوْلِى الالْبَـابِ} خطاب لأهل الإيمان ، أي فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله ، وقوله : {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولا} هو على وجهين أحدهما : أنزل الله إليكم ذكراً ، هو الرسول ، وإنما سماه ذكراً لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم وثانيهما : أنزل الله إليكم ذكراً ، وأرسل رسولاً. وقال في "الكشاف" : {رَّسُولا} هو جبريل عليه السلام ، أبدل من {ذِكْرًا} لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر ، والذكر قد يراد به الشرف ، كما في قوله تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) وقد يراد به القرآن ، كما في قوله تعالى : {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ} (النحل : 44) وقرىء (رسول) على هو رسول ، و{يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَـاتٍ} بالخفض والنصب ، والآيات هي الحجج فبالخفض ، لأنها تبين الأمر والنبي والحلال والحرام ، ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده.
جزء : 30 رقم الصفحة : 568
وقوله تعالى : {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } يعني من ظلمة / الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة ، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم.
وفي الآية مباحث :
الأولى : قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَـا أُوْلِى الالْبَـابِ} يتعلق بقوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} أم لا ؟
فنقول : قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ} يؤكد قول من قال : المراد من قرية أهلها ، لما أنه يدل على أن خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول فمن لا عقل له فلا خطاب عليه/ وقيل قوله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} مشتمل على الترهيب والترغيب.
(1/4485)

الثاني : الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة فكيف يقال لهم : {فَاتَّقُوا اللَّهَ} ؟
نقول : للتقوى درجات ومراتب فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك.
الثالث : كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى : {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } أن يقال : ليخرج الذين كفروا ؟
نقول : يمكن أن يكون المراد : ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى} (آل عمران : 55) أي وإذ يقول الله ، ويمكن أن يكون ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم.
ثم قال تعالى : {وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَه رِزْقًا} .
قوله : {وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ} فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب ، وقرىء {يُدْخِلْهُ} بالياء والنون ، و{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَه رِزْقًا} قال الزجاج : رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها ، وقيل : {رِزْقًا} أي طاعة في الدنيا وثواباً في الآخرة ونظيره {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة : 201).
جزء : 30 رقم الصفحة : 568
569
قال الكلبي : خلق سبع سموات بعضها فوق بعض مثل القبة ، ومن الأرض / مثلهن في كونها طباقاً متلاصقة كما هو المشهور أن الأرض ثلاث طبقات طبقة أرضية محضة وطبقة طينية ، وهي غير محضة ، وطبقة منكشفة بعضها في البحر وبعضها في البر وهي المعمورة ، ولا بعد في قوله : {وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ} من كونها سبعة أقاليم على حسب سبع سموات ، وسبع كواكب فيها وهي السيارة فإن لكل واحد من هذه الكواكب خواص تظهر آثار تلك الخواص في كل إقليم من أقاليم الأرض فتصير سبعة بهذا الاعتبار ، فهذه هي الوجوه التي لا يأباها العقل ، وما عداها من الوجوه المنقولة عن أهل التفسير فذلك من جملة ما يأباها العقل مثل ما يقال : السموات السبع أولها : موج مكفوف وثانيها : صخر وثالثها : حديد ورابعها : نحاس وخامسها : فضة وسادسها : ذهب وسابعها : ياقوت ، وقول من قال : بين كل واحدة منها مسيرة خمسمائة سنة وغلظ كل واحدة منها كذلك ، فذلك غير معتبر عند أهل التحقيق ، اللهم إلا أن يكون نقل متوتر(اً) ، ويمكن أن يكون أكثر من ذلك والله أعلم بأنه ما هو وكيف هو. فقوله : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ} مبتدأ وخبر ، وقرىء {مِثْلَهُنَّ} بالنصب عطفاً على {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وبالرفع على الإبتداء وخبره {مِّنَ الارْضِ} . وقوله تعالى : {يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ} قال عطاء يريد الوحي بينهن إلى خلقه في كل أرض وفي كل سماء ، وقال مقاتل : يعني الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى ، وقال مجاهد : {يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ} بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلاً وقال قتادة : في كل سماء من سماواته وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه ، وقرىء {يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ} قوله تعالى : {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} قرىء {لِيَعْلَمُوا } بالياء والتاء أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض ، وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده وقوله : {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} من قبل ما تقدم ذكره {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا } يعني بكل شيء من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، عالم بجميع الأشياء وقادر على الإنشاء بعد الإفناء ، فتبارك الله رب العالمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 569
570
(1/4486)

سورة التحريم
اثنتا عشرة آية مدنية
جزء : 30 رقم الصفحة : 570
572
/ أما التعلق بما قبلها ، فذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء ، واشتراك الخطاب بالطلاق في أول تلك السورة مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة لما كان الطلاق في الأكثر من الصور أو في الكل كما هو مذهب البعض مشتملاً على تحريم ما أحل الله ، وأما الأول بالآخر ، فلأن المذكور في آخر تلك السورة ، يدل على عظمة حضرة الله تعالى ، كما أنه يدل على كمال قدرته وكمال علمه ، لما كان خلق السموات والأرض وما فيهما من الغرائب والعجائب مفتقراً إليهما وعظمة الحضرة مما ينافي القدرة على تحريم ما أحل الله ، ولهذا قال تعالى : {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } واختلفوا في الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلّم على نفسه ، قال في "الكشاف" : روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة ، فقال لها : اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ، فأخبرت به عائشة ، وكانتا متصادقتين ، وقيل : خلا بها في يوم حفصة ، فأرضاها بذلك واستكتمها ، فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ، ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية ، وروي أن عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك ، فنزل جبريل عليه السلام ، وقال : راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة ، وروي أنه ما طلقها وإنما نوه بطلاقها ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة ، فقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكره التفل فحرم العسل ، فمعناه : لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل ، والأول قول الحسن ومجاهد وقتادة والشعبي ومسروق ورواية ثابت عن أنس قال مسروق : حرم النبي صلى الله عليه وسلّم أم ولده وحلف أن لا يقربها / فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له : أما الحرام فحلال ، وأما اليمين التي حلفت عليها ، فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم. وقال الشعبي : كان مع الحرام يمين فعوتب في الحرام ، وإنما يكفر اليمين ، فذلك قوله تعالى : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ} الآية قال صاحب "النظم" قوله : {لِمَ تُحَرِّمُ} استفهام بمعنى الإنكار والإنكار من الله تعالى نهي ، وتحريم الحلال مكروه ، والحلال لا يحرم إلا بتحريم الله تعالى وقوله تعالى : {تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } و{تَبْتَغِى} حال خرجت مخرج المضارع والمعنى : لم تحرم مبتغياً مرضات أزواجك قال في "الكشاف" : {تَبْتَغِى} ، إما تفسير لتحرم ، أو حال أو استئناف ، وهذا زلة منه ، لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قد غفر لك ما تقدم من الزلة ، {رَّحِيمٌ} قد رحمك لم يؤاخذك به ، ثم في الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 572
البحث الأول : {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب وخطاب الوصف ، وهو النبي ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم فكيف هو نقول : الظاهر أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن كما ينبغي.
البحث الثاني : تحريم ما أحل الله تعالى غير ممكن ، لما أن الإحلال ترجيح جانب الحل والتحريم ترجيح جانب الحرمة ، ولا مجال للاجتماع بين الترجيحين فكيف يقال : {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ} ؟
نقول : المراد من هذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحل الله تعالى فالنبي صلى الله عليه وسلّم امتنع عن الانتفاع معها مع اعتقاده بكونه حلالاً ومن اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله تعالى بعينه فقد كفر فكيف يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم مثل هذا.
البحث الثالث : إذا قيل : ما حكم تحريم الحلال ؟
نقول : اختلفت الأئمة فيه فأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين ، وإن نوى ثلاثاً فكما نوى ، فإن قال : نويت الكذب دين فيما بينه وبين ربه ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى ولا يراه الشافعي يميناً ، ولكن سبباً (في الكفارة) في النساء وحدهن ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده ، وأما اختلاف الصحابة فيه فكما هو في "الكشاف" ، فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 572
573
(1/4487)

/ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} . قال مقاتل : قد بين الله ، كما في قوله تعالى : {سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا وَفَرَضْنَـاهَا} (النور : 1) وقال الباقون : قد أوجب ، قال صاحب "النظم" : إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كما في قوله تعالى : {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} (الأحزاب : 50) وإذا وصل باللام احتمل الوجهين ، وقوله تعالى : {تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ } أي تحليلها بالكفارة وتحلة على وزن تفعلة وأصله تحللة وتحلة القسم على وجهين أحدهما : تحليله بالكفارة كالذي في هذه الآية وثانيهما : أن يستعمل بمعنى الشيء القليل ، وهذا هو الأكثر كما روي في الحديث : "لن يلج النار إلا تحلة القسم" يعني زماناً يسيراً ، وقرىء (كفارة أيمانكم) ، ونقل جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلّم حلف أن لا يطأ جاريته فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الحرام يمين ، يعني إذا قال : أنت علي حرام ولم ينو طلاقاً ولا ظهاراً كان هذا اللفظ موجباً لكفارة يمين {وَاللَّهُ مَوْلَـاـاكُمْ } ، أي وليكم وناصركم وهو العليم بخلقه الحكيم فيما فرض من حكمه ، وقوله تعالى : {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِه حَدِيثًا} يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه واستكتمها ذلك وقيل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلّم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين تحريم الأمة على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر ، قاله ابن عباس وقوله : {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِه } أي أخبرت به عائشة وأظهره الله عليه أطلع نبيه على قول حفصة لعائشة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم حفصة عند ذلك ببعض ما قالت وهو قوله تعالى : {عَرَّفَ بَعْضَه } حفصة : {وَأَعْرَضَ عَنا بَعْضٍ } لم يخبرها أنك أخبرت عائشة على وجه التكرم والإغضاء ، والذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر وعمر ، وقرىء (عرف) مخففاً أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك وقد عرفت ما صنعت قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} (النساء : 63) أي يجازيهم وهو يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين وقوله تعالى : {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِه قَالَتْ} حفصة : {مَنْ أَنابَأَكَ هَـاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وصفه بكون خبيراً بعد ما وصفه بكون عليماً لما أن في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم ، وفي الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 573
البحث الأول : كيف يناسب قوله : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ } إلى قوله {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } (التحريم : 1) ؟
نقول : يناسبه لما كان تحريم المرأة يميناً حتى إذا قال لامرأته : أنت علي حرام فهو يمين ويصير مولياً بذكره من بعد ويكفر.
البحث الثاني : ظاهر قوله تعالى : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ } إنه كانت منه يمين / فهل كفر النبي عليه الصلاة والسلام لذلك ؟
نقول : عن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين/ وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 573
574
(1/4488)

قوله : {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ} خطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما والتوبة من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالإيذاء {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أي عدلت ومالت عن الحق ، وهو حق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك حق عظيم يوجد فيه استحقاق العتاب بأدنى تقصير وجواب الشرط محذوف للعلم به على تقدير : كان خيراً لكما ، والمراد بالجمع في قوله تعالى : {قُلُوبُكُمَا } التثنية ، قال الفراء : وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح إثنان إثنان في الإنسان كاليدين والرجلين والعينين ، فلما جرى أكثره على ذلك ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى إثنين مذهب الإثنين ، وقد مر هذا ، وقوله تعالى : {وَإِن تَظَـاهَرَا عَلَيْهِ} أي وإن تعاونا على النبي صلى الله عليه وسلّم بالإيذاء {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـاـاهُ} أي لم يضره ذلك التظاهر منكما أي وليه وناصره {مَوْلَـاـاهُ وَجِبْرِيلُ} رأس الكروبيين ، قرن ذكره بذكره مفرداً له من الملائكة تعظيماً له وإظهاراً لمكانته (عنده) {وَصَـالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . قال ابن عباس : يريد أبا بكر وعمر مواليين النبي صلى الله عليه وسلّم على من عاداه ، وناصرين له ، وهو قول المقاتلين ، وقال الضحاك خيارالمؤمنين ، وقيل من صلح من المؤمنين ، أي كل من آمن وعمل صالحاً ، وقيل : من برىء منهم من النفاق ، وقيل : الأنبياء كلهم ، وقيل : الخلفاء وقيل : الصحابة ، وصالح ههنا ينوب عن الجمع ، ويجوز أن يراد به الواحد والجمع ، وقوله تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ بَعْدَ ذَالِكَ} أي بعد حضرة الله وجبريل وصالح المؤمنين {ظَهِيرٌ}
جزء : 30 رقم الصفحة : 574
أي فوج مظاهر للنبي صلى الله عليه وسلّم ، وأعوان له وظهير في معنى الظهراء ، كقوله : {وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا} (النساء : 69) قال الفراء : والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير ، قال أبو علي : / وقد جاء فعيل مفرداً يراد به الكثرة كقوله تعالى : {وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ } (المعارج : 10 ، 11) ثم خوف نساءه بقوله تعالى : {عَسَى رَبُّه ا إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَه ا أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ} قال المفسرون : عسى من الله واجب ، وقرأ أهل الكوفة {أَن يُبْدِلَه } بالتخفيف ، ثم إنه تعالى كان عالماً أنه لا يطلقهن لكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهم تخويفاً لهن ، والأكثر في قوله : {طَلَّقَكُنَّ} الإظهار ، وعن أبي عمرو إدغام القاف في الكاف ، لأنهما من حروف الفم ، ثم وصف الأزواج اللاتي كان يبدله فقال : {مُسْلِمَـاتٍ} أي خاضعات لله بالطاعة {مُّؤْمِنَـاتٍ} مصدقات بتوحيد الله تعالى مخلصات {قَـانِتَـاتٍ} طائعات ، وقيل : قائمات بالليل للصلاة ، وهذا أشبه لأنه ذكر السائحات بعد هذا والسائحات الصائمات ، فلزم أن يكون قيام الليل مع صيام النهار ، وقرىء (سيحات) ، وهي أبلغ وقيل للصائم : سائح لأن السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه فشبه بالصائم الذي يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره ، وقيل : سائحات مهاجرات ، ثم قال تعالى : {ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا} لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار/ فالذكر على حسب ما وقع ، وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلّم ليس على حسب الشهوة والرغبة ، بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى وفي الآية مباحث :
البحث الأول : قوله {بَعْدَ ذَالِكَ} تعظيم للملائكة ومظاهرتهم ، وقرىء {تَظَـاهَرَا} وو {سِحْرَانِ تَظَـاهَرَا} .
البحث الثاني : كيف يكون المبدلات خيراً منهن ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين ؟
نقول : إذا طلقهن الرسول لعصيانهن له ، وإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله خيراً منهن.
جزء : 30 رقم الصفحة : 574
البحث الثالث : قوله : {مُسْلِمَـاتٍ مُّؤْمِنَـاتٍ} يوهم التكرار ، والمسلمات والمؤمنات على السواء ؟
نقول : الإسلام هو التصديق باللسان والإيمان هو التصديق بالقلب ، وقد لا يتوافقان فقوله : {مُسْلِمَـاتٍ مُّؤْمِنَـاتٍ} تحقيق للتصديق بالقلب واللسان.
البحث الرابع : قال تعالى : {ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا} بواو العطف ، ولم يقل : فيما عداهما بواو العطف ، نقول : قال في "الكشاف" : إنها صفتان متنافيتان ، لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات. (فلم يكن بد من الواو).
البحث الخامس : ذكر الثيبات في مقام المدح وهي من جملة ما يقلل رغبة الرجال إليهن. نقول : يمكن أن يكون البعض من الثيب خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول لاختصاصهن بالمال والجمال ، أو النسب ، أو المجموع مثلاً ، وإذا كان كذلك فلا يقدح ذكر الثيب في المدح لجواز أن يكون المراد مثل ما ذكرناه من الثيب.
[بم / ثم قال تعالى :
(1/4489)

جزء : 30 رقم الصفحة : 574
575
{قُوا أَنفُسَكُمْ} أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه ، وقال مقاتل : أن يؤدب المسلم نفسه وأهله ، فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ، وقال في "الكشاف" : {قُوا أَنفُسَكُمْ} بترك المعاصي وفعل الطاعات ، {وَأَهْلِيكُمْ} بأن تؤاخذوهم بما تؤاخذون به أنفسكم ، وقيل : {قُوا أَنفُسَكُمْ} مما تدعو إليه أنفسكم إذ الأنفس تأمرهم بالشر وقرىء : عطفاً على واو {ءَامَنُوا قُوا } وحسن العطف للفاصل ، و{نَارًا} نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة ، وعن ابن عباس هي حجارة الكبريت ، لأنها أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها ، وقرىء : {وَقُودُهَا} بالضم ، وقوله : {عَلَيْهَا مَلَـا اـاِكَةٌ} يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم {غِلاظٌ شِدَادٌ} في أجرامهم غلظة وشدة أي جفاء وقوة ، أو في أفعالهم جفاء وخشونة ، ولا يبعد أن يكونوا بهذه الصفات في خلقهم ، أو في أفعالهم بأن يكونوا أشداء على أعداء الله ، رحماء على أولياء الله كما قال تعالى : {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 29) وقوله تعالى : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يدل على اشتدادهم لمكان الأمر ، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله تعالى والانتقام من أعدائه ، وفيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به وبما ينهاهم عنه والعصيان منهم مخالفة للأمر والنهي.
وقوله تعالى : {يُؤْمَرُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ } لما ذكر شدة العذاب بالنار ، واشتداد الملائكة في انتقام الأعداء ، فقال : {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ } أي يقال لهم : لا تعتذروا اليوم إذ الاعتذار هو التوبة ، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار ، فلا ينفعكم الاعتذار ، وقوله تعالى : {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب في الحكمة ، وفي الآية مباحث :
جزء : 30 رقم الصفحة : 575
البحث الأول : أنه تعالى خاطب المشركين في قوله : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وقال : {أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} (البقرة : 24) جعلها معدة للكافرين ، فما معنى مخاطبته به المؤمنين ؟
نقول : الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار ، فإنهم مع الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا : {قُوا أَنفُسَكُمْ} باجتناب الفسق مجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد.
/ البحث الثاني : كيف تكون الملائكة غلاظاً شداداً وهم من الأرواح ، فنقول : الغلظة والشدة بحسب الصفات لما كانوا من الأرواح لا بحسب الذات ، وهذا أقرب بالنسبة إلى الغير من الأقوال.
البحث الثالث : قوله تعالى : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} في معنى قوله : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فما الفائدة في الذكر فنقول : ليس هذا في معنى ذلك لأن معنى الأول أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثاني أنهم (يؤدون) ما يؤمرون به كذا ذكره في "الكشاف".
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 575
577
قوله : {تَوْبَةً نَّصُوحًا} أي توبة بالغة في النصح ، وقال الفراء : نصوحاً من صفة التوبة والمعنى توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه ، وهو أنها الصادقة الناصحة ينصحون بها أنفسهم ، وعن عاصم ، {نَّصُوحًا} بضم النون ، وهو مصدر نحو العقود ، يقال : نصحت له نصحاً ونصاحة ونصوحاً ، وقال في "الكشاف" : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي ، وهو أن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة لا يعودون ، وقيل : من نصاحة الثوب ، أي خياطته و{عَسَى رَبُّكُمْ} إطماع من الله تعالى لعباده.
وقوله تعالى : {يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} نصب بيدخلكم ، و{لا} تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسق واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم ، ثم المعتزلة تعلقوا بقوله تعالى : {يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} وقالوا : الإخزاء يقع بالعذاب ، فقد وعد بأن لا يعذب الذين آمنوا ، ولو كان أصحاب الكبائر من الإيمان لم نخف عليهم العذاب ، وأهل السنة أجابوا / عنه بأنه تعالى وعد أهل الإيمان بأن لا يخزيهم ، والذين آمنوا ابتداء كلام ، وخبره {يَسْعَى } ، أو {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} ، ثم من أهل السنة من يقف على قوله : {يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} أي لا يخزيه في رد الشفاعة ، والإخزاء الفضيحة ، أي لا يفضحهم بين يدي الكفار ، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة ، وقوله : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي عند المشي {وَبِأَيْمَـانِهِمْ} عند الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير ، ويسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم ، لأن خلفهم وشمالهم طريق الكفرة.
(1/4490)

جزء : 30 رقم الصفحة : 577
وقوله تعالى : {يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس : يقولون ذلك عند إطفاء نور المنافقين إشفاقاً ، وعن الحسن : أنه تعالى متمم لهم نورهم ، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى ، كقوله : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} (محمد : 19) وهو مغفور ، وقيل : أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطىء قدمه ، لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه ، وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم حبواً وزحفاً ، فهم الذين يقولون : {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قاله في "الكشاف" ، وقوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَـاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـافِقِينَ} ذكر المنافقين مع أن لفظ الكفار يتناول المنافقين {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } أي شدد عليهم ، والمجاهدة قد تكون بالقتال ، وقد تكون بالحجة تارة باللسان ، وتارة بالسنان ، وقيل : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، لأنهم هم المرتكبون الكبائر ، لأن أصحاب الرسول عصموا منها {وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ } وقد مر بيانه ، وفي الآية مباحث :
البحث الأول : كيف تعلق {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بما سبق وهو قوله : {عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (التحريم : 7) ؟
فنقول : نبههم تعالى على دفع العذاب في ذلك اليوم بالتوبة في هذا اليوم ، إذ في ذلك اليوم لا تفيد وفيه لطيفة : وهي أن التنبيه على الدفع بعد الترهيب فيما مضى يفيد الترغيب بذكر أحوالهم والإنعام في حقهم وإكرامهم.
البحث الثاني : أنه تعالى لا يخزي النبي في ذلك اليوم ولا الذين آمنوا ، فما الحاجة إلى قوله {مَعَه } ؟
فنقول : هي إفادة الاجتماع ، يعني لا يخزي الله المجموع الذي يسعى نورهم وهذه فائدة عظيمة ، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا وبين نبيهم تشريف في حقهم وتعظيم.
البحث الثالث : قوله : {وَاغْفِرْ لَنَآ } يوهم أن الذنب لازم لكل واحد من المؤمنين والذنب لا يكون لازماً ، فنقول : يمكن أن يكون طلب المغفرة لما هو اللازم لكل ذنب ، وهو التقصير في الخدمة والتقصير لازم لكل واحد من المؤمنين.
البحث الرابع : قال تعالى في أول السورة : {عِلْمَا * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ} (التحريم : 1) ومن بعده { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَـاهِدِ الْكُفَّارَ} خاطبه بوصفه وهو النبي لا باسمه كقوله لآدم يا آدم ، ولموسى يا موسى ولعيسى يا عيسى ، نقول : خاطبه بهذا الوصف ، ليدل على فضله عليهم وهذا ظاهر.
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 577
البحث الخامس : قوله تعالى : {وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ } يدل على أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً إذ المطلق يدل على الدوام ، وغير المطلق لا يدل لما أنه يطهرهم عن الآثام.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 577
577
قوله : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} أي بين حالهم بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير اتقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كانوا فيه من القرابة بينهم وبين نبيهم وإنكارهم للرسول صلى الله عليه وسلّم ، فيما جاء به من عند الله وإصرارهم عليه ، وقطع العلائق ، وجعل الأقارب من جملة الأجانب بل أبعد منهم وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً كحال امرأة نوح ولوط ، لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان وقيل لهما في اليوم الآخر ادخلا النار ثم بين حال المسلمين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم كحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى مع كونها زوجة ظالم من أعداء الله تعالى ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً ، وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين ، وهما حفصة وعائشة لما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر ، وضرب مثلاً آخر في امرأة فرعون آسية بنت مزاحم ، وقيل : هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه ، وتلقف العصا ، فعذبها فرعون عذاباً شديداً بسبب الإيمان ، وعن أبي هريرة أنه وتدها بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس ، وألقى عليها صخرة عظيمة ، فقالت : رب نجني من فرعون فرقى بروحها إلى الجنة ، فألقيت الصخرة على / جسد لا روح فيه ، قال الحسن. رفعها إلى الجنة تأكل فيها وتشرب ، وقيل : لما قالت : {رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ} رأت بيتها في الجنة يبنى لأجلها ، وهو من درة واحدة ، والله أعلم كيف هو وما هو ؟
وفي الآية مباحث :
البحث الأول : ما فائدة قوله تعالى {مِنْ عِبَادِنَا} ؟
نقول : هو على وجهين أحدهما : تعظيماً لهم كما مر الثاني : إظهاراً للعبد بأنه لا يترجح على الآخر عنده إلا بالصلاح.
جزء : 30 رقم الصفحة : 577
(1/4491)

البحث الثاني : ما كانت خيانتهما ؟
نقول : نفاقهما وإخفاؤهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ، فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون وامرأة لوط كانت تدل على نزول ضيف إبراهيم ، ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور ، وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط ، وقيل : خيانتهما في الدين.
البحث الثالث : ما معنى الجمع بين {عِندَكَ} و{فِى الْجَنَّةِ} ؟
نقول : طلبت القرب من رحمة الله ثم بينت مكان القرب بقولها : {فِى الْجَنَّةِ} أو أرادت ارتفاع درجتها في جنة المأوى التي هي أقرب إلى العرش.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 577
579
أحصنت أي عن الفواحش لأنها قذفت بالزنا. والفرج حمل على حقيقته ، قال ابن عباس : نفخ جبريل في جيب الدرع ومده بأصبعيه ونفخ فيه ، وكل ما في الدرع من خرق ونحوه فإنه يقع عليه اسم الفرج ، وقيل : {أَحْصَنَتْ} تكلفت في عفتها ، والمحصنة العفيفة : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أي فرج ثوبها ، وقيل : خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان. وقوله : {فِيهِ} أي في عيسى ، ومن قرأ (فيها) أي في نفس عيسى والنفث مؤنث ، وأما التشبيه بالنفخ فذلك أن الروح إذا خلق فيه انتشر في تمام الجسد كالريح إذا نفخت في شيء ، وقيل : بالنفخ لسرعة دخوله فيه نحو الريح وصدقت بكلمات ربها. قال مقاتل : يعني بعيسى ، ويدل عليه قراءة الحسن (بكلمة ربها) وسمي عيسى (كلمة الله) في مواضع من القرآن. وجمعت تلك الكلمة هنا ، وقال أبو علي الفارسي : الكلمات الشرائع التي شرع لها دون القول ، فكأن المعنى صدقت الشرائع وأخذت بها وصدقت الكتب فلم تكذب والشرائع سميت بكلمات كما في قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَاتٍ} (البقرة : 124) وقوله تعالى : {صَدَّقْتَ} قرىء بالتخفيف والتشديد على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة يعني وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه ، وقرىء (كلمة) و(كلمات) ، و(كتبه) و(كتابه) ، والمراد بالكتاب هو الكثرة والشياع أيضاً قوله تعالى : {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} الطائعين قاله ابن عباس ، وقال عطاء : من المصلين ، وفي الآية مباحث.
/ البحث الأول : ما كلمات الله وكتبه ؟
نقول : المراد بكلمات الله الصحف المنزلة على إدريس وغيره ، وبكتبه الكتب الأربعة ، وأن يراد جميع ما كلم الله تعالى (به) ملائكته وما كتبه في اللوح المحفوظ وغيره ، وقرىء : {بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} أي بعيسى وكتابه وهو الإنجيل ، فإن قيل : (لم قيل) {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} على التذكير ، نقول : لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين ، فغلب ذكوره على إناثه ، ومن للتبعيض ، قاله في "الكشاف" ، وقيل : من القانتين لأن المراد هو القوم ، وأنه عام ، كـ {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران : 43) أي كوني من المقيمن على طاعة الله تعالى ، ولأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام.
جزء : 30 رقم الصفحة : 579
وأما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة ، وامرأة لوط المسماة بواهلة ، فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى ، منها التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم ، والعذاب الأليم ، ومنها العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد ، وفساد الغير لا يضر المصلح ، ومنها أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ، ولا يأمن نفسه ، كالصادر من امرأتي نوح ولوط ، ومنها العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة ، كما أفاد مريم بنت عمران ، كما أخبر الله تعالى ، فقال : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} (آل عمران : 42) ومنها التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب ، وإلى الثواب بغير حساب ، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب ، وإليه المرجع والمآب ، جلت قدرته وعلت كلمته ، لا إله إلا هو وإليه المصير ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيد المرسلين ، وآله وصحبه وسلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 579
581
(1/4492)

سورة الملك
وهي ثلاثون آية مكية
/ سورة الملك وتسمى المنجية : لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر ، وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها في القبر ، وهي ثلاثون آية مكية.
جزء : 30 رقم الصفحة : 581
582
أما قوله : {تَبَارَكَ} فقد فسرناه في أول سورة الفرقان ، وأما قوله : {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً ، كما يقال : بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك. قال صاحب "الكشاف" : {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} على كل موجود ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ} ما لم يوجد من الممكنات {قَدِيرٌ} ، وقوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء ، فقال قوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} يقتضي كون مقدوره شيئاً ، فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى ، إما أن يكون موجوداً أو معدوماً ، لا جائز أن يكون موجوداً ، لأنه لو كان قادراً على الموجود ، لكان إما أن يكون قادراً على إيجاده وهو محال ، لأن إيجاد الموجود محال ، وإما أن يكون قادراً على إعدامه وهو محال ، لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل ، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير ، والعدم نفي محض ، فيستحيل جعل العدم أثر القدرة ، فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود ، فوجب أن يكون معدوماً ، فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئاً ، واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئاً بهذه الآية فقالوا : لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء ، والله قادر على كل شيء. فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادراً على الجوهر من حيث إنه جوهر ، وعلى السواد من حيث هو سواد ، وإذا كان كذلك كان كون الجوهر جوهراً ، والسواد سواداً واقعاً بالفاعل ، والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدماً على فعله ، فإذاً وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهراً ، أو السواد سواداً ، فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئاً وهو المطلوب ، ثم أجابوا عن شبهة / الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل ، ولئن سلمنا ذلك ، لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئاً ، لأجل أنه سيصير شيئاً ، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه ، لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء.
جزء : 30 رقم الصفحة : 582
المسألة الثانية : زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل ، وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة ، ومحمود الخوارزمي ، وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل ، احتج القاضي بأن الموجودات أشياء ، والله على كل شيء قدير ، فهو إذاً قادر على الموجودات ، فإما أن يكون قادراً على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال ، أو على إعدامها ، وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل.
المسألة الثالثة : زعم الكعبي أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد ، وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد ، وقال أصحابنا : إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره ، واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء ، والله على كل شيء قدير ، فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين.
المسألة الرابعة : زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى ، وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة ، وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة ، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه ، واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء ، فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر ، لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدوراً له وذلك محال/ لأن ما سوى الله ممكن محدث ، فيكون أضعف قوة من قدرة الله ، والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى.
المسألة الخامسة : هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد ، لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً ، فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر ، فإن لم يقدر ألبتة على إيجاد شيء أصلاً لم يكن إلهاً ، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً ، فيلزم كونه مقدوراً للإله الأول لقوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال ، لأنه إذا كان واحد منهما مستقلاً بالإيجاد ، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما ، وغنياً عنهما ، وذلك محال.
المسألة السادسة : احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال : لو كان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} لكن كونه قادراً على نفسه محال ، فيمتنع كونه شيئاً ، وقال أصحابنا لما دل قوله : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُ } (الأنعام : 19) على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم ، فإذاً هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى ، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع.
جزء : 30 رقم الصفحة : 582
المسألة السابعة : زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل / والعبث والظلم ، وزعم النظام أنه غير قادر عليه ، واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فوجب كونه تعالى قادراً عليها.
(1/4493)

المسألة الثامنة : احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة ، فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزاً عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه ، إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمراً موجوداً لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشاراً إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزاً عن البعض في الحس ، وأن يكون مقصداً للمتحرك ، فإذن لو كان الله تعالى حاصلاً في حيز لكان ذلك الحيز موجوداً ، ولو كان ذلك الحيز موجوداً لكان شيئاً ولكان مقدور الله لقوله تعالى : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده ، فيلزم أن يكون الله متقدماً في الوجود على تحقق ذلك الحيز ، ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققاً من غير حيز وله جهة أصلاً والأزلي لا يزول ألبتة ، فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلاً وأبداً.
المسألة التاسعة : أنه تعالى قال أولاً : {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ثم قال بعده : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير ، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله ، لكان ذلك مشعراً بالعجز والضعف ، وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق ، فدل ذلك ، على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادراً على جميع الأشياء.
المسألة العاشرة : القدير مبالغة في القادر ، فلما كان قديراً على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه ألبتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته ، وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعاً له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعاً له من الفعل ، فلا يكون كاملاً في القدرة ، فلا يكون قديراً والله أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 582
583
قوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت ، فقال قوم : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ} والعدم لا يكون مخلوقاً هذا هو التحقيق ، وروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة / في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي. واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل والتصوير ، وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه.
المسألة الثانية : إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه : أحدها : قال مقاتل : يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح وثانيها : روى عطاء عن ابن عباس قال : يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان وثالثها : أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أن منادياً ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة ، فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا : نعم ، ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح ، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزن" واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشاً بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت ، فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية ، وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم.
المسألة الثالثة : اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضاً في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم ، والموت أيضاً نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب ، وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه ، قال عليه الصلاة والسلام : "أكثروا من ذكر هازم اللذات" وقال لقوم : "لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى" وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه ، فقال : "كيف ذكره الموت ؟
قالوا قليل ، قال فليس كما تقولون".
جزء : 30 رقم الصفحة : 583
قوله تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} وفيه مسائل :
(1/4494)

المسألة الأولى : الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالماً بجميع المعلومات أزلاً وأبداً محال ، إلا أنا قد حققنا هذه المسألة في تأويل قوله : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ} (البقرة : 124) والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه (الابتلاء) على المختبر.
المسألة الثانية : احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله : {لِيَبْلُوَكُمْ} قالوا : هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى : {إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه / لما أشبه الابتلاء سمي مجازاً ، فكذا ههنا ، فإنه يشبه الغرض وإن لم يكن في نفسه غرضاً ، فذكر فيه حرف الغرض.
المسألة الثالثة : اعلم أنا فسرنا الموت والحياة بالموت حال كونه نطفة وعلقة ومضغة ، والحياة بعد ذلك فوجه الابتلاء على هذا الوجه أن يعلم أنه تعالى هو الذي نقله من الموت إلى الحياة وكما فعل ذلك فلا بد وأن يكون قادراً على أن ينقله من الحياة إلى الموت فيحذر مجيء الموت الذي به ينقطع استدراك ما فات ويستوي فيه الفقير والغني والمولى والعبد ، وأما إن فسرناهما بالموت في الدنيا وبالحياة في القيامة فالابتلاء فيهما أتم لأن الخوف من الموت في الدنيا حاصل وأشد منه الخوف من تبعات الحياة في القيامة ، والمراد من الابتلاء أنه هل ينزجر عن القبائح بسبب هذا الخوف أم لا.
المسألة الرابعة : في تعلق قوله : {لِيَبْلُوَكُمْ} بقوله : {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } وجهان : الأول : وهو قول الفراء والزجاج : إن المتعلق بأيكم مضمر والتقدير ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملاً والثاني : قال صاحب "الكشاف" : {لِيَبْلُوَكُمْ} في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أيكم أحسن عملاً.
المسألة الخامسة : ارتفعت (أي) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام فإنك إذا قلت : لا أعلم أيكم أفضل كان المعنى لا أعلم أزيد أفضل أم عمرو ، واعلم أن مالا يعمل فيما بعد الألف فكذلك لا يعمل في (أي) لأن المعنى واحد ، ونظير هذه الآية قوله : {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ} (القلم : 40) وقد تقدم الكلام فيه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 583
المسألة السادسة : ذكروا في تفسير {أَحْسَنُ عَمَلا } وجوهاً : أحدها : أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص فالخالص أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السنة وثانيها : قال قتادة : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "يقول أيكم أحسن عقلاً" ثم قال : أتمكم عقلاً أشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً ، وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل لأنه يترتب على العقل ، فمن كان أتم عقلاً كان أحسن عملاً على ما ذكر في حديث قتادة وثالثها : روي عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركاً لها ، واعلم أنه لما ذكر حديث الابتلاء قال بعده : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} أي وهو العزيز الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ، الغفور لمن تاب من أهل الإساءة.
واعلم أن كونه عزيزاً غفوراً لا يتم إلا بعد كونه قادراً على كل المقدورات عالماً بكل المعلومات أما أنه لا بد من القدرة التامة ، فلأجل أن يتمكن من إيصال جزاء كل أحد بتمامه إليه سواء كان عقاباً أو ثواباً ، وأما أنه لا بد من العلم التام فلأجل أن يعلم أن المطيع من هو والعاصي من هو فلا يقع الخطأ في إيصال الحق إلى مستحقه ، فثبت أن كونه عزيزاً غفوراً لا يمكن ثبوتها إلا بعد ثبوت / القدرة التامة والعلم التام ، فلهذا السبب ذكر الله الدليل على ثبوت هاتين الصفتين في هذا المقام ، ولما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً ، لا جرم ذكر أولاً دلائل القدرة وثانياً دلائل العلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 583
586
أما دليل القدرة فهو قوله : {الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر صاحب "الكشاف" في {طِبَاقًا } ثلاثة أوجه أولها : طباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر وثانيها : أن يكون التقدير ذات طباق وثالثها : أن يكون التقدير طوبقت طباقاً.
المسألة الثانية : دلالة هذه السموات على القدرة من وجوه أحدها : من حيث إنها بقيت في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختص بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معينة ورابعها : كونها في ذواتها محدثة وكل ذلك يدل على استنادها إلى قادر تام القدرة.
وأما دليل العلم فهو قوله : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍا فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} وفيه مسائل :
(1/4495)

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {مِن تَفَـاوُتٍ } والباقون {مِن تَفَـاوُتٍ } ، قال الفراء : وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر ، وتعهد وتعاهد ، وقال الأخفش : {تَفَـاوُتٍ } أجود لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون : تفوت ، واختار أبو عبيدة : {تَفَـاوُتٍ } ، وقال : يقال تفوت الشيء إذا فات ، واحتج بما روي في الحديث أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله.
المسألة الثانية : حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم : (تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب) ، وأما ألفاظ المفسرين فقال السدي : من تفاوت أي من اختلاف عيب ، يقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن ، وقال آخرون : التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك : {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} نظيره قوله : {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق : 6) قال القفال : ويحتمل أن يكون المعنى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثاً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 586
المسألة الثالثة : الخطاب في قوله : {مَّا تَرَى } إما للرسول أو لكل مخاطب وكذا القول في / قوله : {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} .
المسألة الرابعة : قوله : {طِبَاقًا } صفة للسموات ، وقوله بعد ذلك : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ } صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سموات طباقاً ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله : {خَلْقِ الرَّحْمَـانِ} تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.
المسألة الخامسة : اعلم أن وجه الاستدلال بهذا على كمال علم الله تعالى هو أن الحس دل أن هذه السموات السبع ، أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فإنه لا بد وأن يكون عالماً ، فدل هذه الدلالة على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
المسألة السادسة : احتج الكعبي بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله تعالى ، قال : لأنه تعالى نفى التفاوت في خلقه/ وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص والعيب فوجب حمله على نفي التفاوت في خلقه من حيث الحكمة ، فيدل من هذا الوجه على أن أفعال العباد ليست من خلقه على ما فيها من التفاوت الذي بعضه جهل وبعضه كذب وبعضه سفه ، الجواب : بل نحن نحمله على أنه لا تفوت فيه بالنسبة إليه ، من حيث إن الكل يصح منه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وإنه لا يقبح منه شيء أصلاً ، فلم كان حمل الآية على التفاوت من الوجه الذي ذكرتم أولى من حملها على نفي التفاوت من الوجه الذي ذكرناه ، ثم إنه تعالى أكد بيان كونها محكمة متقنة ، وقال : {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} والمعنى أنه لما قال : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ } كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك بالبصر الواحد ، ولا تعتمد عليه بسبب أنه قد يقع الغلط في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر واردد النظرة مرة أخرى ، حتى تتيقن أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتة. والفطور جمع فطر ، وهو الشق يقال : فطره فانفطر ومنه فطر ناب البعير ، كما يقال : شق ومعناه شق اللحم فطلع ، قال المفسرون : {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أي من فروج وصدوع وشقوق ، وفتوق ، وخروق ، كل هذا ألفاظهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 586
586
أمر بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع ، هل يجد فيه عيباً وخللاً ، يعني أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل والعيب ، بل يرجع إليك خاسئاً أي مبعداً من قولك خسأت الكلب إذا باعدته ، قال المبرد : الخاسيء المبعد المصغر ، وقال ابن عباس : الخاسيء الذي لم ير ما يهوى ، وأما الحسير فقال ابن عباس : هو الكليل ، قال الليث : / الحسر والحسور الإعياء ، وذكر الواحدي ههنا احتمالين أحدهما : أن يكون الحسير مفعولاً من حسر العين بعد المرئي ، قال رؤبة :
يحسر طرف عيناه فضا
الثاني : قول الفراء : أن يكون فاعلاً من الحسور الذي هو الإعياء ، والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاده فإنه لا يجد عيباً ولا فطوراً ، بل البصر يرجع خاسئاً من الكلال والإعياء ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرتين اثنتين الجواب : التثنية للتكرار بكثرة كقولهم : لبيك وسعديك يريد إجابات متوالية.
السؤال الثاني : فما معنى {ثُمَّ اْرجِعِ} الجواب : أمره برجع البصر ثم أمره بأن لا يقنع بالرجعة الأولى ، بل أن يتوقف بعدها ويجم بصره ثم يعيده ويعاوده إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من فطور.
(1/4496)

جزء : 30 رقم الصفحة : 586
586
اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادراً عالماً ، وذلك لأن هذه الكواكب نظراً إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص ، وموضع معين ، وسير معين ، تدل على أن صانعها قادر ونظراً إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا ، وسبباً لانتفاعهم بها ، تدل على أن صانعها عالم ، ونظير هذه الآية في سورة الصفات {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} (الصافات : 7) وههنا مسائل.
المسألة الأولى : {السَّمَآءَ الدُّنْيَا} القربى ، وذلك لأنها أقرب السموات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس ، والمصابيح السرج سميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة ، أما قوله تعالى : {وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } فاعلم أن الرجوم جمع رجم ، وهو مصدر سمي به ما يرجم به ، وذكروا في معرض هذه الآية وجهين : الوجه الأول أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها ، فإن قيل : جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوماً للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض ، قلنا : ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب ، بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها ، وتلك الشعل هي الشهب ، وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار / باقية الوجه الثاني : في تفسير كون الكواكب رجوماً للشياطين أنا جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين.
المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ، وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها ، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها ، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح.
واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرات السيارات ، واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك ، وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، وذلك لأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة ، وإنما قلنا : إن هذه الثوابت لما كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلها هناك ، لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة واحدة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 586
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف ، فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك ، لأنه لا يبعد وجود كرة تحت القمر ، وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية ، إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا ، فثبت أن مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف.
(1/4497)

المسألة الثالثة : اعلم أن منافع النجوم كثيرة ، منها أن الله تعالى زين السماء بها ، ومنها أنه يحصل بسببها في الليل قدر من الضوء ، ولذلك فإنه إذا تكاثف السحاب في الليل عظمت الظلمة/ وذلك بسبب أن السحاب يحجب أنوارها ، ومنها أنه يحصل بسببها تفاوت في أحوال الفصول الأربعة ، فإنها أجسام عظيمة نورانية ، فإذا قارنت الشمس كوكباً مسخناً في الصيف ، صار الصيف أقوى حراً ، وهو مثل نار تضم إلى نار أخرى ، فإنه لا شك أن يكون الأثر الحاصل من المجموع أقوى ، ومنها أنه تعالى جعلها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، على ما قال تعالى : {وَعَلَـامَـاتٍا وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل : 16) ومنها أنه تعالى جعلها رجوماً للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر ، يروى أن السبب في ذلك أن الجن كانت تتسمع لخبر السماء ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلّم حرست السماء ، ورصدت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النبي أمره ويرتاب الناس بخبره ، فهذا هو السبب في انقضاض الشهب ، وهو المراد من قوله : {وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } ومن الناس / من طعن في هذا من وجوه أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، وإذا بلغ الناس التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب وثانيها : أن هؤلاء الجن كيف يجوز أن يشاهدوا واحداً وألفاً من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم فإن العاقل إذا رأى الهلاك في شيء مرة ومراراً وألفاً امتنع أن يعود إليه من غير فائدة وثالثها : أنه يقال في ثخن السماء فإنه مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن إن نفذوا في جرم السماء وخرقوا اتصاله ، فهذا باطل لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 586
{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك : 3) وإن كانوا لا ينفذون في جرم السماء ، فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، ثم إن جاز أن يسمعوا كلامهم من ذلك البعد العظيم ، فلا يسمعوا كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها في اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها من وحي الله تعالى إليهم ، وعلى التقديرين فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يتمكن الجن من الوقوف عليها وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار بل تقويها ، فكيف يعقل أن يقال : إن الشياطين زجروا عن استراق السمع بهذه الشهب وسادسها : أنه كان هذا الحذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وسابعها : أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، بدليل أنا نشاهد حركتها بالعين ولو كانت قريبة من الفلك ، لما شاهدنا حركتها كما لم نشاهد حركات الكواكب ، وإذا ثبت أن هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض ، فكيف يقال : إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك وثامنها : أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم ؟
وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء حتى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب ؟
.
والجواب عن السؤال الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم لأسباب آخر ، إلا أن ذلك لا ينافي أنها بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام قد توجد بسبب آخر وهو دفع الجن وزجرهم. يروى أنه قيل للزهري : أكان يرمى في الجاهلية قال : نعم ، قيل : أفرأيت قوله تعالى : {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـاعِدَ لِلسَّمْعِا فَمَن يَسْتَمِعِ الانَ يَجِدْ لَه شِهَابًا رَّصَدًا} (الجن : 9) قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلّم.
والجواب عن السؤال الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها الحرق لطغيانها وضلالتها ، قيض لها من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها ، تقدم على العمل المفضي إلى الهلاك والبوار.
/ ووالجواب عن السؤال الثالث : أن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ، فأما ثخن الفلك فلعله لا يكون عظيماً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 586
(1/4498)

وأما الجواب عن السؤال الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن ابن عباس قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلّم جالساً في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : "ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا ، قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم" قال عليه الصلاة والسلام : "فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء ، وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ، ماذا قال ربكم ؟
فيخبرونهم ، ولا يزال ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون ، فما جاءوا به فهو حق ، ولكنهم يزيدون فيه.
والجواب عن السؤال الخامس : أن النار قد تكون أقوى من نار أخرى ، فالأقوى يبطل الأضعف.
والجواب عن السؤال السادس : أنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة ، فلو لم يدم هذا العذاب لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسول عن بطلان الكهانة.
والجواب عن السؤال السابع : أن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع ، فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك الموضع سمعوا كلام الملائكة.
والجواب عن السؤال الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.
والجواب عن السؤال التاسع : أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فهذا ما يتعلق بهذا الباب على سبيل الاختصار والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الكواكب وذكر أن من جملة المنافع أنها رجوم للشياطين ، قال بعد ذلك : {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أي أعتدنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عذاب السعير في الآخرة ، قال المبرد : سعرت النار فهي مسعورة وسعير كقولك : مقبولة وقبيل ، واحتج أصحابنا على أن النار مخلوقة الآن بهذه الآية ، لأن قوله : {وَأَعْتَدْنَا} إخبار عن الماضي.
جزء : 30 رقم الصفحة : 586
587
اعلم أنه تعالى بين في أول السورة أنه قادر على جميع الممكنات ، ثم ذكر بعده أنه وإن كان قادراً على الكل إلا أنه إنما خلق ما خلق لا للعبث والباطل بل لأجل الابتلاء والامتحان ، وبين / أن المقصود من ذلك الابتلاء أن يكون عزيزاً في حق المصرين على الإساءة غفوراً في حق التائبين ومن ذلك كان كونه عزيزاً وغفوراً لا يثبتان إلا إذا ثبت كونه تعالى كاملاً في القدرة والعلم بين ذلك بالدلائل المذكورة ، وحينئذ ثبت كونه قادراً على تعذيب العصاة فقال : {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } أي ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم ، ليس الشياطين المرجومون مخصوصين بذلك ، وقرىء : {عَذَابُ جَهَنَّمَ } بالنصب عطف بيان على قوله : {عَذَابَ السَّعِيرِ} (الحج : 4) ثم إنه تعالى وصف ذلك العذاب بصفاته كثيرة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 587
588
الصفة الأولى : قوله تعالى : {إِذَآ أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} .
{أُلْقُوا } طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به فيها ، ومثله قوله : {حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 98) وفي قوله : {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} وجوه أحدها : قال مقاتل : سمعوا لجهنم شهيقاً ، ولعل المراد تشبيه صوت لهب النار بالشهيق ، قال الزجاج : سمع الكفار للنار شهيقاً ، وهو أقبح الأصوات ، وهو كصوت الحمار ، وقال المبرد : هو والله أعلم تنفس كتنفس المتغيظ وثانيها : قال عطاء : سمعوا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها شهيقاً وثالثها : سمعوا من أنفسهم شهيقاً ، كقوله تعالى : {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (هود : 106) والقول هو الأول.
الصفة الثانية : قوله : {وَهِىَ تَفُورُ} قال الليث : كل شيء جاش فقد فار ، وهو فور القدر والدخان والغضب والماء من العين ، قال ابن عباس : تغلي بهم كغلي المرجل ، وقال مجاهد : تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل ، ويجوز أن يكون هذا من فور الغضب ، قال المبرد : يقال تركت فلاناً يفور غضباً ، ويتأكد هذا القول بالآية الآتية.
جزء : 30 رقم الصفحة : 588
588
(1/4499)

الصفة الثالثة : قوله : {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } يقال : فلان يتميز غيظاً ، ويتعصف غيظاً وغضب فطارت منه (شعلة في الأرض وشعلة) في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه. وأقول لعل السبب في هذا المجاز أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فتتمدد تلك الأوعية عند ازدياد مقادير الرطوبات في البدن ، فكلما كان الغضب أشد كان الغليان أشد ، فكان الازدياد أكثر ، وكان تمدد الأوعية وانشقاقها وتميزها أكثر ، فجعل ذكر هذه الملازمة كناية عن شدة الغضب ، فإن قيل : النار ليست من الأحياء ، فكيف يمكن وصفها بالغيظ قلنا الجواب من وجوه أحدها : أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة فلعل الله يخلق فيها وهي نار حياة وثانيها : أنه شبه صوت لهبها وسرعة تبادرها بصوت الغضبان وحركته وثالثها : يجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية.
/ الصفة الرابعة : قوله تعالى : {كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} .
الفوج الجماعة من الناس والأفواج الجماعات في تعرفه ، ومنه قوله : {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} (النبأ : 18) و{خَزَنَتُهَآ} مالك وأعوانه من الزبانية {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} وهو سؤال توبيخ ، قال الزجاج : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب ، وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : احتجت المرجئة على أنه لا يدخل النار أحد إلا الكفار بهذه الآية ، قالوا : لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : كذبنا النذير ، وهذا يقتضي أن من لم يكذب الله ورسوله لا يدخل النار ، واعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصر لا يدخل النار ، وأجاب القاضي عنه بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المحذرة المخوفة ، ولا أحد يدخل النار إلا وهو مخالف للدليل غير متمسك بموجبه.
المسألة الثانية : احتج القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع بهذه الآية وقالوا : هذه الآية دلت على أنه تعالى إنما عذبهم لأنه أتاهم النذير ، وهذا يدل على أنه لو لم يأتهم النذير لما عذبهم.
ثم إنه تعالى حكى عن الكفار جوابهم عن ذلك السؤال من وجهين :
جزء : 30 رقم الصفحة : 588
589
الأول : قوله تعالى : {قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} .
واعلم أن قوله : {بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل ، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا : {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} .
أما قوله تعالى : {إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ كَبِيرٍ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجهان الوجه الأول : وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين الوجه الثاني : يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار ، والتقدير أن الكفار لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم : {إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ كَبِيرٍ} .
المسألة الثانية : يحتمل أن يكون المراد من الضلال الكبير ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الهلاك ، ويحتمل أن يكون سمي عقاب الضلال باسمه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 589
589
هذا هو الكلام / الثاني مما حكاه الله تعالى عن الكفار جواباً للخزنة حين قالوا : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (الملك : 8) والمعنى لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل من كان متأملاً متفكراً لما كنا من أصحاب السعير ، وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل ، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والإضلال بأن قالوا لفظة لو تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره فدلت الآية على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل ، لكن لا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة ، وأنهم ما كانوا صم الأسماع ولا مجانين ، فوجب أن يكون المراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية.
المسألة الثانية : احتج بهذه الآية من قال : الدين لا يتم إلا بالتعليم فقال : إنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد وهداية الهادي ، ثم إنه يترتب عليه فهم المستجيب وتأمله فيما يلقيه المعلم والجواب : أنه إنما قدم السمع لأن المدعو إذا لقي الرسول فأول المراتب أنه يسمع كلامه ثم إنه يتفكر فيه ، فلما كان السمع مقدماً بهذا السبب على التعقل والتفهم لا جرم قدم عليه في الذكر.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ، ثم قال كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم.
(1/4500)

المسألة الرابعة : احتج من فضل السمع على البصر بهذه الآية ، وقالوا : دلت الآية على أن للسمع مدخلاً في الخلاص عن النار والفوز بالجنة ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 589
589
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار هذا القول قال : {فَاعْتَرَفُوا بِذَنابِهِمْ} قال مقاتل : يعني بتكذيبهم الرسول وهو قولهم : {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} (الملك : 9) وقوله : {بِذَنابِهِمْ} فيه قولان : أحدهما : أن الذنب ههنا في معنى الجمع ، لأن فيه معنى الفعل ، كما يقال : خرج عطاء الناس ، أي عطياتهم هذا قول الفراء والثاني : يجوز أن يراد بالواحد المضاف الشائع ، كقوله : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} (النحل : 34).
ثم قال : {فَسُحْقًا لِّأَصْحَـابِ السَّعِيرِ} قال المفسرون : فبعداً لهم اعترفوا أو جحدوا ، فإن ذلك لا ينفعهم ، والسحق البعد ، وفيه لغتان : التخفيف والتثقيل ، كما تقول في العنق والطنب ، قال الزجاج : سحقاً منصوب على المصدر ، والمعنى أسحقهم الله سحقاً ، أي باعدهم الله من رحمته مباعدة ، وقال أبو علي الفارسي : كان القياس سحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف كقولهم : عمرك الله. / واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 589
590
وفيه وجهان الوجه الأول : أن المراد : إن الذين يخشون ربهم وهم في دار التكليف والمعارف النظرية وبهم حاجة إلى مجاهدة الشيطان ودفع الشبه بطريق الاستدلال الوجه الثاني : أن هذا إشارة إلى كونه متقياً من جميع المعاصي لأن من يتقي معاصي الله في الخلوة اتقاها حيث يراه الناس لا محالة ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على انقطاع وعيد الفساق فقالوا : دلت الآية على أن من كان موصوفاً بهذه الخشية فله الأجر العظيم ، فإذا جاء يوم القيامة مع الفسق ومع هذه الخشية ، فقد حصل الأمران فإما أن يثاب ثم يعاقب وهو بالإجماع باطل أو يعاقب ثم ينقل إلى دار الثواب وهو المطلوب.
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ووعد المؤمنين على سبيل المغايبة رجع بعد ذلك إلى خطاب الكفار فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 590
592
وفيه وجهان : الوجه الأول : قال ابن عباس كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فأنزل الله هذه الآية القول الثاني : أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحد في علمه تعالى بهذا فاحذروا من المعاصي سراً كما تحترزون عنها جهراً فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى ، وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب.
ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالماً بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالماً بهذه الأشياء فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 592
592
وفيه مسائل :
(1/4501)

المسألة الأولى : أن معنى الآية أن من خلق شيئاً لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ، وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضاً مقررة بالدلائل العقلية ، وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك الشيء فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصداً إليه ، وكما أنه ثبت أن الخالق لا بد وأن يكون عالماً بماهية المخلوق لا بد وأن يكون عالماً بكميته ، لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو / أنقص لا بد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره ، والقصد مسبوق بالعلم فلا بد وأن يكون قد علم ذلك المقدار وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه ، وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن من خلق شيئاً فإنه لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته ، وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن العبد غير موجد لأفعاله من وجهين الوجه الأول : قالوا : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها ، لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها ، بيان الملازمة من وجهين الأول : التمسك بهذه الآية الثاني : أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلاً ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضاً ممكن ، فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص ، لا بد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع ، وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعاً للممكن المحدث من غير مرجح ، لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلا بد وأن يكون عالماً بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص ، فثبت أن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه أحدها : أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات ، فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكوناً مع أنه لم يخطر ألبتة بباله أنه فعل ههنا حركة وههنا سكوناً وثانيها : أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي ؟
ومعلوم أن ذلك غير معلوم وثالثها : أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها ورابعها : أن عند أبي علي ، وأبي هاشم ، الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز ، ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق ، فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله الوجه الثاني : في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول : إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده :
جزء : 30 رقم الصفحة : 592
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر ، وفي الصدور والقلوب ، فإنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله : {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} مقتضياً كونه تعالى عالماً بتلك الأشياء ، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء ؟
قلنا : إنه لا يلزم من كونه خالقاً لغيره هذه الأشياء كونه عالماً بها ، لأن من يكون فاعلاً لشيء لا يجب أن يكون عالماً بشيء آخر ، نعم يلزم من كونه خالقاً لها كونه عالماً بها لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالماً به.
/ المسألة الثانية : الآية تحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون {مَنْ خَلَقَ} في محل الرفع والمنصوب يكون مضمراً والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه وثانيها : أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمراً ، والتقدير ألا يعلم الله من خلق والاحتمال الأول أولى لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالماً بذات من هو مخلوقه ، ولا يقتضي كونه عالماً بأحوال من هو مخلوقه والمقصود من الآية هذا لا الأول وثالثها : أن تكون {مِنَ} في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} (الشمس : 5) وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
(1/4502)

أما قوله : {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فاعلم أنهم اختلفوا في {اللَّطِيفُ} فقال بعضهم : المراد العالم وقال آخرون : بل المراد من يكون فاعلاً للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لطف الله بعباده عجيب ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم ، وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكراراً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 592
593
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ، ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد ، ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر : يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي ، فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعاً للمحن التي تهلك بسببها ، فكذا ههنا ، كأنه تعالى قال : أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم ، فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي ، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها ، وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم ، أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سبباً لنفعكم ، فامشوا في مناكبها ، فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض ، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن ، فهذا هو الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها.
المسألة الثانية : الذلول من كل شيء : المنقاد الذي يذل لك ، ومصدره الذل ، وهو الانقياد واللين ، ومنه يقال : دابة ذلول ، وفي وصف الأرض بالذلول أقوال : أحدها : أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها ، كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة وثانيها : أنه / تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها ، وبناء الأبنية منها كما يراد ، ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك وثالثها : أنها لو كانت حجرية ، أو كانت مثل الذهب أو الحديد ، لكانت تسخن جداً في الصيف ، وكانت تبرد جداً في الشتاء ، ولكانت الزراعة فيها ممتنعة ، والغراسة فيها متعذرة ، ولما كانت كفاتاً للأموات والأحياء ورابعها : أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الهواء ، ولو كانت متحركة على الاستقامة ، أو على الاستدارة لم تكن منقادة لنا.
المسألة الثالثة : قوله : {فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا} أمر إباحة ، وكذا القول في قوله : {وَكُلُوا مِن رِّزْقِه } .
جزء : 30 رقم الصفحة : 593
المسألة الرابعة : ذكروا في مناكب الأرض وجوهاً أحدها : قال صاحب "الكشاف" : المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأبعده من إمكان المشي عليه ، فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي على منكبه ، فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة ، فثبت أن قوله : {فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا} كناية عن كونها نهاية في الذلولية وثانيها : قول قتادة والضحاك وابن عباس : إن مناكب الأرض جبالها وآكامها ، وسميت الجبال مناكب ، لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضاً شاخصة ، والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها ، وهي أبعد أجزائها عن التذليل ، فكيف الحال في سائر أجزائها وثالثها : أن مناكبها هي الطرق ، والفجاج والأطراف والجوانب وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، واختيار الفراء ، وابن قتيبة قال : مناكبها جوانبها ، ومنكبا الرجل جانباه ، وهو كقوله تعالى : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ بِسَاطًا * لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} (نوح : 19 ، 20) أما قوله : {وَكُلُوا مِن رِّزْقِه } أي مما خلقه الله رزقاً لكم في الأرض : {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض ، وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله ، وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله ، والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر ، ثم إنه تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته/ وأنه لو شاء لقلب الأمر عليهم ، ولأمطر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات. فقال تقريراً لهذا المعنى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 593
593
واعلم أن هذه الآيات نظيرها قوله تعالى : {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى ا أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} (الأنعام : 65) وقال : {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} (القصص : 81).
(1/4503)

واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله : {ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ} ، والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين ، لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطاً به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر من السماء ، والسماء أصغر من العرش / بكثير ، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئاً حقيراً بالنسبة إلى العرش ، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال ، ولأنه تعالى قال : {قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُل لِّلَّه } (الأنعام : 12) فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكاً لنفسه وهذا محال ، فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل ، ثم فيه وجوه : أحدها : لم لا يجوزأن يكون تقدير الآية : أأمنتم من في السماء عذابه ، وذلك لأن عادة الله تعالى جارية ، بأنه إنما ينزل البلاء على من يكفر بالله ويعصيه من السماء فالسماء موضع عذابه تعالى ، كما أنه موضع نزول رحمته ونعمته وثانيها : قال أبو مسلم : كانت العرب مقرين بوجود الإله ، لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على وفق قول المشبهة ، فكأنه تعالى قال لهم : أتأمنون من قد أقررتم بأنه في السماء ، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء أن يخسف بكم الأرض وثالثها : تقدير الآية : من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته ، كما قال : {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِ } (الأنعام : 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين ، فوجب أن يكون المراد من كونه في السموات وفي الأرض نفاذ أمره وقدرته ، وجريان مشيئته في السموات وفي الأرض ، فكذا ههنا ورابعها : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : {مَّن فِى السَّمَآءِ} الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريل عليه السلام ، والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه. وقوله : {فَإِذَا هِىَ تَمُورُ} قالوا معناه : إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها ، فيذهبون والأرض فوقهم تمور ، فتلقيهم إلى أسفل السافلين ، وقد ذكرنا تفسير المور فيما تقدم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 593
594
ثم زاد في التخويف فقال : {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } .
قال ابن عباس : كما أرسل على قوم لوط فقال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} (القمر : 34) والحاصب ريح فيها حجارة وحصباء ، كأنها تقلع الحصباء لشدتها ، وقيل : هو سحاب فيها حجارة.
ثم هدد وأوعد فقال : {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} .
قيل في النذير ههنا إنه المنذر ، يعني محمداً عليه الصلاة والسلام وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك ، والمعنى فستعملون رسولي وصدقه ، لكن حين لا ينفعكم ذلك ، وقيل : إنه بمعنى الإنذار ، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، و(كيف) في قوله : {كَيْفَ نَذِيرِ} ينبىء عما ذكرنا من صدق الرسول وعقوبة الإنذار.
واعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بهذه التخويفات أكد ذلك التخويف بالمثال والبرهان أما المثال فهو أن الكفار الذين كانوا قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 594
594
يعني عاداً وثمود وكفار الأمم ، وفيه وجهانأحدهما : قال الواحدي : {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري وتغييري ، أليس وجدوا العذاب حقاً والثاني : قال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر ، ثم قال : وإنما سقط الياء من نذيري ، ومن نكيري حتى تكون مشابهة لرؤوس الآي المتقدمة عليها ، والمتأخرة عنها. وأما البرهان فهو أنه تعالى ذكر ما يدل على كمال قدرته ، ومتى ثبت ذلك ثبت كونه تعالى قادراً على إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ؛ وذلك البرهان من وجوه :
جزء : 30 رقم الصفحة : 594
594
البرهان الأول : هو قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـا فَّـاتٍ وَيَقْبِضْنَ } .
{صَـا فَّـاتٍ } أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها {وَيَقْبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قيل لم قال : {وَيَقْبِضْنَ } ولم يقل وقابضات ، قلنا : لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصلي بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ، كما يكون من السابح.
ثم قال تعالى : {يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَـانُ } وذلك لأنها مع ثقلها وضخامة أجسامها لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بإمساك الله وحفظه ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : هل تدل هذه الآية على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله ، قلنا : نعم ، وذلك لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري للطير.
ثم إنه تعالى قال : {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَـانُ } فدل هذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
(1/4504)

السؤال الثاني : أنه تعالى قال في النحل (79) : {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّه } وقال ههنا : {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَـانُ } فما الفرق ؟
قلنا : ذكر في النحل أن الطير مسخرات في جو السماء فلا جرم كان إمساكها هناك محض الإلهية ، وذكر ههنا أنها صافات وقابضات ، فكان إلهامها إلى كيفية البسط ، والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن.
ثم قال تعالى : {إِنَّه بِكُلِّ شَىْءا بَصِيرٌ} وفيه وجهان الوجه الأول : المراد من البصير ، كونه عالماً بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان بصر في هذا الأمر ، أي حذق والوجه الثاني : أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول : إنه تعالى شيء ، والله بكل شيء بصير ، فيكون رائياً لنفسه ولجميع الموجودات ، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه تعالى يصح أن يكون مرئياً وأن كل / الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إن كان عالماً به ، قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات ، بصير بالمبصرات.
جزء : 30 رقم الصفحة : 594
595
اعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ، ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان تعويلهم على شيئين أحدهما : القوة التي كانت حاصلة لهم بسبب مالهم وجندهم والثاني : أنهم كانوا يقولون : هذه الأوثان ، توصل إلينا جميع الخيرات ، وتدفع عنا كل الآفات وقد أبطل الله عليهم كل واحد من هذين الوجهين ، أما الأول فبقوله : {أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـن ِ } وهذا نسق على قوله : {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ} (الملك : 17) والمعنى أم من يشار إليه من المجموع ، ويقال : هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عذابه عليكم ، ثم قال : {إِنِ الْكَـافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ} أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 595
595
أما الثاني فهو قوله : {أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه } .
والمعنى : من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم ، وهذا أيضاً مما لا ينكره ذو عقل ، وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى : {بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق ، في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور ، أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية ، والنفور بسبب جهلهم ، وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور ، نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين.
[بم فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 595
596
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : أكب مطاوع كبه ، يقال : كببته فأكب ونظيره قشعت / الريح السحاب فأقشع ، قال صاحب "الكشاف" : ليس الأمر كذلك ، و(جاء) شيء من بناء أفعل مطاوعاً ، بل قولك : أكب معناه دخل في الكب وصار ذا كب ، وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع ، وأنفض أي دخل في النفض ، وهو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر وألام دخل في اللوم ، وأما مطاوع كب وقشع فهو انكب وانقشع.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير قوله : {يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِه } وجوهاً : أحدها : معناه أن الذي يمشي في مكان غير مستو بل فيه ارتفاع وانخفاض فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه مكباً فحاله نقيض حال من يمشي سوياً أي قائماً سالماً من العثور والخرور وثانيها : أن المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين وثالثها : أن الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه لا يكون كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المعلوم ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : هذا حكاية حال الكافر في الآخرة ، قال قتادة : الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه ، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة ، وقال آخرون : بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا ، واختلفوا أيضاً فمنهم من قال : هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار ، ومنهم من قال : بل المراد منه شخص معين ، فقال مقاتل : المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام ، وقال عطاء عن ابن عباس : المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر.
البرهان الثاني : على كمال قدرته قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 596
596
(1/4505)

اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان أولاً من حال سائر الحيوانات ، وهو وقوف الطير في الهواء ، أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية ، وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد ، ولقد تقدم شرح أحوال هذه الأمور الثلاثة في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة ، واعلم أن في ذكرها ههنا تنبيهاً على دقيقة لطيفة ، كأنه تعالى قال : أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة ، لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ، ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه ، فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب ، فلهذا قال : {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه ، / وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة.
البرهان الثالث : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 596
596
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولاً ثم بصفات الإنسان ثانياً وهي السمع والبصر والعقل ، ثم بحدوث ذاته ثالثاً وهو قوله : {هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الارْضِ} واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال : {قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الارْضِ} فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض ، وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزاً جسماً ، واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك : 2) ثم لأجل إثبات هذا المطلوب ، ذكر وجوهاً من الدلائل على قدرته ، ثم ختمها بقوله : {قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الارْضِ} ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده : {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب.
واعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين أحدهما : أنهم طالبوه بتعيين الوقت.
[بم وهو قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 596
597
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو مسلم إنه تعالى قال : يقول بلفظ المستقبل فهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ، ويحتمل الماضي ، والتقدير : فكانوا يقولون هذا الوعد.
المسألة الثانية : لعلهم كانوا يقولون ذلك على سبيل السخرية ، ولعلهم كانوا يقولونها إبهاماً للضعفة أنه لما لم يتعجل فلا أصل له.
المسألة الثالثة : الوعد المسؤول عنه ما هو ؟
فيه وجهان أحدهما : أنه القيامة والثاني : أنه مطلق العذاب ، وفائدة هذا الاختلاف تظهر بعد ذلك إن شاء الله. ثم أجاب الله عن هذا السؤال بقوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 597
597
والمراد أن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع ، فالعلم الأول حاصل عندي ، وهو كاف في الإنذار والتحذير ، أما العلم الثاني فليس إلا لله ، ولا حاجة في كوني نذيراً مبيناً إليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 597
597
/ ثم إنه تعالى بين حالهم عند نزول ذلك الوعد فقال تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِى ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وفيه مسائل :
المسألة لأولى : قوله {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير للوعد ، والزلفة القرب والتقدير : فلما رأوه قرباً ويحتمل أنه لما اشتد قربه ، جعل كأنه في نفس القرب. وقال الحسن : معاينة ، وهذا معنى وليس بتفسير ، وذلك لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة.
المسألة الثانية : قوله : {سِى ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } قال ابن عباس : اسودت وعلتها الكآبة والقترة ، وقال الزجاج : تبين فيها السوء ، وأصل السوء القبح ، والسيئة ضد الحسنة ، يقال : ساء الشيء يسوء فهو سيىء إذا قبح ، وسيىء يساء إذا قبح ، وهو فعل لازم ومتعد فمعنى سيئت وجوههم قبحت بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة وكلحوا ، وصارت وجوههم كوجه من يقاد إلى القتل.
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} إخبار عن الماضي ، فمن حل الوعد في قوله : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ} (الملك : 25) على مطلق العذاب سهل تفسير الآية على قوله فلهذا قال أبو مسلم في قوله : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} يعني أنه لما أتاهم عذاب الله المهلك لهم كالذي نزل بعاد وثمود سيئت وجوههم عند قربه منهم ، وأما من فسر ذلك الوعد بالقيامة كان قوله : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} معناه فمتى ما رأوه زلفة ، وذلك لأن قوله : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} إخبار عن الماضي وأحوال القيامة مستقبلة لا ماضية فوجب تفسير اللفظ بما قلناه ، قال مقاتل : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي لما رأوا العذاب في الآخر قريباً.
(1/4506)

وأما قوله تعالى : {وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَدَّعُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : القائلون هم الزبانية ، وقال آخرون : بل يقول بعضهم لبعض ذلك.
المسألة الثانية : في قوله : {تَدَّعُونَ} وجوه : أحدها : قال الفراء : يريد تدعون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به ، وتدعون وتدعون واحد في اللغة مثل تذكرون وتذكرون وتدخرون وتدخرون وثانيها : أنه من الدعوى معناه : هذا الذي كنتم تبطلونه أي تدعون أنه باطل لا يأتيكم أو هذا الذي كنتم بسببه وتدعون أنكم لا تبعثون وثالثها : أن يكون هذا استفهاماً على سبيل الإنكار ، والمعنى أهذا الذي تدعون ، لا بل كنتم تدعون عدمه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 597
المسألة الثالثة : قرأ يعقوب الحضرمي {تَدَّعُونَ} خفيفة من الدعاء ، وقرأ السبعة {تَدَّعُونَ} مثقلة من الادعاء.
جزء : 30 رقم الصفحة : 597
598
اعلم أن هذا الجواب هو من النوع الثاني مما قاله الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلّم حين خوفهم بعذاب الله ، يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك ، كما قال تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور : 30) وقال : {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى ا أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} (الفتح : 12) ثم إنه تعالى أجاب عن ذلك من وجهين الوجه الأول : هو هذه الآية ، والمعنى قل لهم : إن الله تعالى سواء أهلكني بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل ، فأي راحة لكم في ذلك ، وأي منفعة لكم فيه ، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم ، أتظنون أن الأصنام تجيركم أو غيرها ، فإذا علمتم أن لا مجير لكم فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث. الوجه الثاني : في الجواب قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 598
598
والمعنى أنه الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فيعلم أنه لا يقبل دعاءكم وأنتم أهل الكفر والعناد في حقنا ، مع أنا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم ، ثم قال : {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } لا على غيره كما فعلتم أنتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم ، وقرىء {فَسَتَعْلَمُونَ} على المخاطبة ، وقرىء بالياء ليكون على وفق قوله : {فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} (الكافرين : 28).
واعلم أنه لما ذكر أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره ، ذكر الدليل عليه.
[بم فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 598
599
والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر ، أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض فمن يأتيكم بماء معين ، فلا بد وأن يقولوا : هو الله ، فيقال لهم حينئذ : فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في المعبودية ؟
وهو كقوله : {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (الواقعة : 68 ، 69) وقوله : {غَوْرًا} أي غائراً ذاهباً في الأرض يقال : غار الماء يغور غوراً ، إذا نضب وذهب في الأرض ، والغور ههنا بمعنى الغائر سمي بالمصدر كما يقال : رجل عدل ورضا ، والمعين الظاهر الذي تراه العيون فهو من مفعول العين كمبيع ، وقيل : المعين الجاري من العيون من الإمعان في الجري كأنه قيل : ممعن في الجري ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 599
602
(1/4507)

سورة القلم
وهي اثنتان وخمسون آية مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 602
602
/ { } فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الأقوال المذكورة في هذا الجنس قد شرحناها في أول سورة البقرة والوجوه الزائدة التي يختص بها هذا الموضع أولها : أن النون هو السمكة ، ومنه في ذكر يونس {وَذَا النُّونِ} (الأنبياء : 87) وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ثم القائلون بهذا منهم من قال : إنه قسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ، ومنهم من قال : إنه قسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه ، ومنهم من قال : إنه قسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه والقول الثاني : وهو أيضاً مروي عن ابن عباس واختيار الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما الشوق يرجع بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون هذا قسماً بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة ، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق و(تارة) يتحرى بالكتابة والقول الثالث : أن النون لوح تكتب الملائكة ما يأمرهم الله به فيه رواه معاوية بن قرة مرفوعاً والقول الرابع : أن النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنا إذا جعلناه مقسماً به وجب إن كان جنساً أن نجره وننونه ، فإن القسم على هذا التقدير يكون بدواة منكرة أو بسمكة منكرة ، كأنه قيل : وسمكة والقلم ، أو قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علماً أن نصرفه ونجره أو لا نصرفه ونفتحه إن جعلناه غير منصرف. والقول الخامس : أن نون ههنا آخر حروف الرحمن فإنه يجتمع من الرحمن ن اسم الرحمن فذكر الله هذا الحرف الأخير من هذا الاسم ، والمقصود القسم بتمام هذا الاسم ، وهذا أيضاً ضعيف لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية ، بل الحق أنه إما أن يكون اسماً للسورة أو يكون الغرض منه التحدي أو سائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة.
المسألة الثانية : القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائه من قوله : {ا وَالْقَلَمِ} فمن أظهرها فلأنه / ينوي بها الوقف بدلالة اجتماع الساكنين فيها ، وإذا كانت موقوفة كانت في تقدير الانفصال مما بعدها ، وإذا انفصلت مما بعدها وجب التبيين ، لأنها إنما تخفى في حروف الفم عند الاتصال ، ووجه الإخفاء أن همزة الوصل لم تقطع مع هذه الحروف في نحو { الر * اللَّهُ} (آل عمران : 1) وقولهم في العدد واحد إثنان فمن حيث لم تقطع الهمزة معها علمنا أنها في تقدير الوصل وإذا وصلتها أخفيت النون وقد ذكرنا هذا في {طسا } (النمل : 1) و{يس } ، (يس : 1) وقال الفراء : وإظهارها أعجب إلي لأنها هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 602
وقوله تعالى : {وَالْقَلَمِ} فيه قولان : أحدهما : أن القسم به هو الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، قال تعالى : {وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق : 3 ـ 5) فمنّ بتيسير الكتابة بالقلم كما منَّ بالنطق فقال : {خَلَقَ الانسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن : 3 ، 4) ووجه الانتفاع به أن ينزل الغائب منزلة المخاطب فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب والثاني : أن المقسم به هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن أول ما خلق الله القلم ، قال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال/ قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض ، وروى مجاهد عنه قال : أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب القدر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه. قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز ، لأن القلم الذي هو آلة مخصوصة في الكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال ، بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله : {إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} (البقرة : 117) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف ، بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة ، ومن الناس من زعم أن القلم المذكور ههنا هو العقل ، وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه روي في الأخبار أن أول ما خلق الله القلم ، وفي خبر آخر : أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض ، قالوا : فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض.
قوله تعالى : {وَمَا يَسْطُرُونَ} .
اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر ، فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم ، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابة ، ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب ، وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات الله كان المعنى ظاهراً ، وكأنه تعالى أقسم بكل قلم ، وبكل ما يكتب / بكل قلم ، وقيل : بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون ، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم وسطرهم ، أي ومسطوراتهم. وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله : {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ ، ولفظ الجمع في قوله : {يَسْطُرُونَ} ليس المراد منه الجمع بل التعظيم ، أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار ، وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 602
603
(1/4508)

اعلم أن قوله : {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته فلم تجده ، فإذا به وجهه متغير بلا غبار ، فقالت له مالك ؟
فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق : 1) فهو أول ما نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ، ثم صلى وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها ، وكان قد خالف دين قومه ، ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليَّ محمداً ، فأرسلته فأتاه فقال له : هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحداً ؟
فقال : لا ، فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ، ثم مات قبل دعاء الرسول ، ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه لمجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة ، ثم قال ابن عباس : وأول ما نزل قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} (الأعلى : 1) وهذه الآية هي الثانية.
المسألة الثانية : قال الزجاج : {أَنتَ} هو اسم {مَآ} و{بِمَجْنُونٍ} الخبر ، وقوله : {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، وأنت بحمد الله لست بمجنون ، وأنت بنعمة الله فهم ، وأنت بنعمة الله لست بفقير ، ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت ، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه ، وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة ، وهو جواب لقولهم : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر : 6) واعلم أنه تعالى وصفه ههنا بثلاثة أنواع من الصفات.
/ الصفة الأولى : نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله : {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون ، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له : إنه مجنون.
جزء : 30 رقم الصفحة : 603
الصفة الثانية : قوله : {وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} وفي الممنون قولان : أحدهما : وهو قول الأكثرين ، أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال : منَّه السير أي أضعفه ، والمنين الضعيف ومنَّ الشيء إذا قطعه ، ومنه قول لبيد :
غبش كواسب ما يمن طعامها
يصف كلاباً ضارية ، ونظيره قوله تعالى : {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود : 108).
والقول الثاني : وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي ، إنه غير مقدر عليك بسبب المنة ، قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه : إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك ، وليس بتفضل ابتداء ، والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير ، ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل ؟
قال قوم معناه : إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً/ وقال آخرون : المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات ، في دعاء الخلق إلى الله ، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم ، فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم ، فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله.
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وفيه مسائل :
(1/4509)

المسألة الأولى : اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب ، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ، ومن كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة ، ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال : {قُلْ مَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (ص : 86) أي لست متكلفاً فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً بل يرجع إلى الطبع ، وقال آخرون : إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمداً بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول ، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم ، فكأن كل واحد منهم كان مختصاً بنوع واحد ، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله ، لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم ، وفيه دقيقة / أخرى وهي قوله : {لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وكلمة على للاستعلاء ، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها ، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
جزء : 30 رقم الصفحة : 603
المسألة الثانية : الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة. واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير ، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب ، والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل ، وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهراً له وحصل له حق آخر. وروي عن ابن عباس أنه قال معناه : وإنك لعلى دين عظيم ، وروي أن الله تعالى قال له : "لم أخلق ديناً أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك" يعني الإسلام ، واعلم أن هذا القول ضعيف ، وذلك لأن الإنسان له قوتان ، قوة نظرية وقوة عملية ، والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية ، والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية ، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر ، ويمكن أيضاً أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين : الوجه الأول : أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني : أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلاً ، فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة ، كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة ، فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق.
المسألة الثالثة : قال سعيد بن هشام : قلت لعائشة : "أخبريني عن خلق رسول الله ، قالت ألست قرأ القرآن ؟
قلت : بلى قالت : فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام" وسئلت مرة أخرى فقالت : كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1) إلى عشرة آيات ، وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب ، وإلى كل ما يتعلق بها ، وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة ، اللهم ارزقنا شيئاً من هذه الحالة. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : "ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك" فلهذا قال تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال أنس : "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشر سنين ، فما قال لي في شي فعلته لم فعلت ، ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت" وأقول : إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم ، فقال : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء ، فدل / مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة ، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة.
واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 603
603
(1/4510)

أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين ، وفيه قولان : منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا ، يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم ، فإنك تصير معظماً في القلوب ، ويصيرون دليلين ملعونين ، وتستولي عليهم بالقتل والنهب ، قال مقاتل : هذا وعيد بالعذاب ببدر ، ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله : {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الاشِرُ} (القمر : 26).
[بم وأما قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 603
603
ففيه وجوه : أحدها : وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة : أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله : {تَنابُتُ بِالدُّهْنِ} (المؤمنين : 20) أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
والفراء طعن في هذا الجواب وقال : إذا أمكن فيه بيان المعنى الصحيح من دون طرح الباء كان ذلك أولى ، وأما البيت فمعناه نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج أو نرجو النصر بالفرج وثانيها : وهو اختيار الفراء والمبرد أن المفتون ههنا بمعنى الفتون وهو الجنون ، والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقود والميسور بمعنى العقد واليسر ، يقال : ليس له معقود رأي أي عقد رأى ، وهذا قول الحسن والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس وثالثها : أن الباء بمعنى في ومعنى الآية : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون ، أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ورابعها : المفتون هو الشيطان إذ لا شك أنه مفتون في دينه وهم لما قالوا إنه مجنون فقد قالوا : إن به شيطاناً فقال تعالى : سيعلمون غداً بأيهم شيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 603
605
وفيه وجهان : الأول : هو أن يكون المعنى إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة ، وهم الذي ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون الثاني : أن يكون المعنى إنهم رموك بالجنون ووصفوا أنفسهم بالعقل وهم كذبوا في ذلك ، ولكنهم موصوفون بالضلال ، وأنت موصوف بالهداية والامتياز الحاصل بالهداية والضلال أولى بالرعاية من الامتياز الحاصل بسبب العقل والجنون ، لأن ذاك / ثمرته السعادة الأبدية (أ) والشقاوة ، وهذا ثمرته السعادة (أ) والشقاوة في الدنيا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 605
606
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمر الرسول ونسبته إلى الجنون مع الذي أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق ، أتبعه بما يدعوه إلى التشدد مع قومه وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار ، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال : {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} يعني رؤساء أهل مكة ، وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم ، وهذا من الله إلهاب وتهييج التشدد في مخالفتهم. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 606
607
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الليث : الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام ، قال المبرد : داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر ، والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك ، وروى عطاء عن ابن عباس : لو تكفر فيكفرون.
المسألة الثانية : إنما رفع {فَيُدْهِنُونَ} ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون كقوله : {فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّه فَلا يَخَافُ} (الجن : 13) على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، قال سيبويه : وزعم هارون وكان من القراء أنها في بعض المصاحف : (ودوا لو تدهن فيدهنوا). واعلم أنه تعالى لما نهاه عن طاعة المكذبين ، وهذا يتناول النهي عن طاعة جميع الكفار إلا أنه أعاد النهي عن طاعة من كان من الكفار موصفاً بصفات مذمومة وراء الكفر ، وتلك الصفات هي هذه :
الصفة الأولى : كونه حلافاً ، والحلاف من كان كثير الحلف في الحق والباطل ، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله : {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ} (البقرة : 224).
الصفة الثانية : كونه مهيناً ، قال الزجاج : هو فعيل من المهانة ، ثم فيه وجهان أحدهما : أن المهانة هي القلة والحقارة في الرأي والتمييز والثاني : أنه إنما كان مهيناً لأن المراد الحلاف / في الكذب ، والكذاب حقير عند الناس. وأقول : كونه حلافاً يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله ، إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته ومن لم يكن عالماً بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهيناً ، فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية ، وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية.
(1/4511)

الصفة الثالثة : كونه همازاً وهو العياب الطعان ، قال المبرد : هو الذي يهمز الناس أي يذكرهم بالمكروه وأثر ذلك يظهر العيب ، وعن الحسن يلوي شدقيه في أقفية الناس وقد استقصينا (القول) فيه في قوله : {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ} (الهمزة : 1).
جزء : 30 رقم الصفحة : 607
الصفة الرابعة : كونه مشاء بنميم أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نم ينم وينم نماً ونميماً ونميمة.
الصفة الخامسة : كونه مناعاً للخير وفيه قولان : أحدهما : أن المراد أنه بخيل والخير المال والثاني : كان يمنع أهله من الخير وهو الإسلام ، وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان له عشرة من البنين وكان يقول لهم وما قاربهم لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبداً فمنعهم الإسلام فهو الخير الذي منعهم ، وعن ابن عباس أنه أبو جهل وعن مجاهد : الأسود بن عبد يغوث ، وعن السدي : الأخنس بن شريق.
الصفة السادسة : كونه معتدياً ، قال مقاتل : معناه أنه ظلوم يتعدى الحق ويتجاوزه فيأتي بالظلم ويمكن حمله على جميع الأخلاق الذميمة يعني أنه نهاية في جميع القبائح والفضائح.
الصفة السابعة : كونه أثيماً ، وهو مبالغة في الإثم.
الصفة الثامنة : العتل وأقوال المفسرين فيه كثيرة ، وهي محصورة في أمرين أحدهما : أنه ذم في الخلق والثاني : أنه ذم في الخلق ، وهو مأخوذ من قولك : عتله إذا قاده بعنف وغلظة ، ومنه قوله تعالى : {فَاعْتِلُوهُ} (الدخان : 47) أما الذين حملوه على ذم الخلق فقال ابن عباس في رواية عطاء : يريد قوي ضخم. وقال مقاتل : واسع البطن ، وثيق الخلق وقال الحسن : الفاحش الخلق ، اللئيم النفس وقال عبيدة بن عمير : هو الأكول الشروب ، القوي الشديد وقال الزجاج : هو الغليظ الجافي. أما الذين حملوه على ذم الأخلاق ، فقالوا : إنه الشديد الخصومة ، الفظ العنيف.
الصفة التاسعة : قوله : {زَنِيمٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الزنيم أقوال : الأول : قال الفراء : الزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم ، قال حسان :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنمة من كل شيء الزيادة ، وزنمت الشاة أيضاً إذا شقت أذنها فاسترخت ويبست وبقيت / كالشيء المعلق ، فالحاصل أن الزنيم هو ولد الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم ، وكان الوليد دعياً في قريش وليس من سنخهم ادعاه بعد ثمان عشرة (ليلة) من مولده. وقيل : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية والقول الثاني : قال الشعبي هو الرجل يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها والقول الثالث : روى عن عكرمة عن ابن عباس قال : معنى كونه زنيماً أنه كانت له زنمة في عنقه يعرف بها ، وقال مقاتل : كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 607
المسألة الثانية : قول {بَعْدَ ذَالِكَ} معناه أنه بعدما عدَّ له من المثالب والنقائص فهو عتل زنيم وهذا يدل على أن هذين الوصفين وهو كونه عتلاً زنيماً أشد معايبه لأنه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد ، ولهذا قال عليه الصلاة السلام : "لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده" وقيل : ههنا {بَعْدَ ذَالِكَ} نظير {ثُمَّ} في قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17) وقرأ الحسن (عتل) رفعاً على الذم.
ثم إنه تعالى بعد تعديد هذه الصفات قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 607
607
وفيه مسألتان :
(1/4512)

المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {أَن كَانَ} يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله وأن يكون متعلقاً بما بعده أما الأول : فتقديره : ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين ، أي لا تطعه مع هذه المثالب ليساره وأولاده وكثرته ، وأما الثاني : فتقديره لأجل أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين ، والمعنى لأجل أن كان ذا مال وبنين جعل مجازاة هذه النعم التي خولها الله له الكفر بآياته قال أبو علي الفاسي : العامل في قوله : {أَن كَانَ} إما أن يكون هو قوله : {تُتْلَى } أو قوله {قَالَ} . أو شيئاً ثالثاً ، والأول باطل لأن {تُتْلَى } قد أضيفت {إِذَا} إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله ألا ترى أنك لا تقول : القتال زيداً حين يأتى تريد حين يأتي زيداً ، ولا يجوز أن يعمل فيه أيضاً {قَالَ} لأن {قَالَ} جواب {إِذَا} ، وحكم الجواب أن يكون بعدما هو جواب له ولا يتقدم عليه ، ولما بطل هذان القسمان علمنا أن العامل فيه شيء ثالث دل ما في الكلام عليه وذلك هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق أو نحو ذلك ، وإنما جاز أن يعمل المعنى فيه ، وإن كان متقدماً عليه لشبهه بالظرف ، والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها ، ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه ، فإن تقدير الآية : لأن كان ذا مال وإذا صار كالظرف لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه ، كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله : {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سبأ : 7) لما كان ظرفاً ، والعامل فيه القسم الدال عليه قوله : {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} فكذلك قوله : {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} تقديره : إنه جحد آياتنا ، لأن كان ذا مال وبنين أو كفر بآياتنا ، لأن كان ذا مال وبنين.
/ المسألة الثانية : قرىء : {أَن كَانَ} على الاستفهام ، والتقدير : ألأن كان ذال مال كذب ، أو التقدير : أتطيعه لأن كان ذا مال. وروى الزهري عن نافع : إن كان بالكسر ، والشرط للمخاطب ، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونظير صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجى إليه في قوله : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ} (طه : 44).
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه قبائح أفعاله وأقواله قال متوعداً له :
جزء : 30 رقم الصفحة : 607
608
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الوسم أثر الكية وما يشبهها ، يقال : وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية ، وإما قطع في أذن علامة له.
المسألة الثانية : قال المبرد : الخرطوم ههنا الأنف ، وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به ، لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة ، لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً ، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر ، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر.
المسألة الثالثة : الوجه أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة ، وقالوا : الأنف في الأنف وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين ، وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين ، فكيف على أكرم موضع من الوجه.
المسألة الرابعة : منهم من قال : هذا الوسم يحصل في الآخرة ، ومنهم من قال : يحصل في الدنيا ، أما على القول الأول : ففيه وجوه أولها : وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء : أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار ، والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وثانيها : أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة ، إنه كان غالياً في عداوة الرسول ، وفي إنكار الدين الحق وثالثها : أن في الآية احتمالاً آخر عندي ، وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية ، فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية ، فعبر عن هذا الاختصاص بقوله : {سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ} ، وأما على القول الثاني : وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه : أحدها : قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال / وثانيها : أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهوراً بالذكر الرديء والوصف القبيح في العالم ، والمعنى سنلحق به شيئاً لا يفارقه ونبين أمره بياناً واضحاً حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم ، تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة : قد وسمه ميسم سوء ، والمراد أنه ألصق به عاراً لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول ألبتة ، قال جرير :
جزء : 30 رقم الصفحة : 608
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
(1/4513)

يريد أنه وسم الفرزدق (والبعيث) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عاراً لا يزول ، ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم ، ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في {زَنِيمٍ} إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وثالثها : يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد :
تظل يومك في لهو وفي طرب
وأنت بالليل شراب الخراطيم
فعلى هذا معنى الآية : سنحده على شرب الخمر وهو تعسف ، وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة ، وهي ما سلف من عصير العنب ، أو لأنها تطير في الخياشيم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 608
608
اعلم أنه تعالى لما قال : لأجل أن كان ذا مال وبنين ، جحد وكفر وعصى وتمرد ، وكان هذا استفهاماً على سبيل الإنكار بين في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان ، وليصرفه إلى طاعة الله ، وليواظب على شكر نعم الله ، فإن لم يفعل ذلك فإنه تعالى يقطع عنه تلك النعم ، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات فقال : {إِنَّا بَلَوْنَـاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} أي كلفنا هؤلاء أن يشكروا على النعم ، كما كلفنا أصحاب الجنة ذات الثمار ، أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم ، روي أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً ، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء ، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيباً وافراً للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه ، ثم قالوا : عيالنا كثير ، والمال قليل ، ولا يمكننا أن نعطي المساكين ، مثل ما كان يفعل أبونا ، فأحرق الله جنتهم ، وقيل : كانوا من بني إسرائيل ، وقوله : {إِذْ أَقْسَمُوا } إذ حلفوا : {لَيَصْرِمُنَّهَا} ليقطعن ثمر نخيلهم مصبحين ، أي في وقت الصباح ، قال مقاتل : معناه أغدوا سراً إلى جنتكم ، فاصرموها ، ولا تخبروا المساكين ، وكان أبوهم يخبر المساكين ، فيجتمعون عند صرام جنتهم ، يقال : قد صرم العذق عن النخلة ، وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه ، وقوله : {وَلا يَسْتَثْنُونَ} يعني ولم يقولوا : إن شاء / الله ، هذا قول جماعة المفسرين ، يقال : حلف فلان يميناً ليس فيها ثنيا ولا ثنوى ، ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء وكله واحد ، وأصل هذا كله من الثنى وهو الكف والرد ، وذلك أن الحالف إذا قال : والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره ، فقد رد انعقاد ذلك اليمين ، واختلفوا في قوله : {وَلا يَسْتَثْنُونَ} فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة ، وقال آخرون : بل المراد أنهم يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إلى المساكين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 608
608
{طَآاـاِفٌ مِّن رَّبِّكَ} أي عذاب من ربك ، والطائف لا يكون إلا ليلاً أي طرقها طارق من عذاب الله ، قال الكلبي : أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت وهم نائمون فأصبحت الجنة كالصريم.
واعلم أن الصريم فعيل ، فيحتمل أن يكون بمعنى المفعول ، وأن يكون بمعنى الفاعل وههنا احتمالات أحدها : أنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمر وإن حصل الاختلاف في أمور أخر ، فإن الأشجار إذا احترقت فإنها لا تشبه الأشجار التي قطعت ثمارها ، إلا أن هذا الاختلاف وإن حصل من هذا الوجه ، لكن المشابهة في هلاك الثمر حاصلة وثانيها : قال الحسن : أي صرم عنها الخير فليس فيها شيء ، وعلى هذين الوجهين الصريم بمعنى المصروم وثالثها : الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم ، وعلى هذا شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال ، وهي لا تنبت شيئاً ينتفع به ورابعها : الصبح يسمى صريماً لأنه انصرم من الليل ، والمعنى أن تلك الجنة يبست وذهبت خضرتها ولم يبق فيها شيء ، من قولهم : بيض الإناء إذا فرغه وخامسها : أنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم ، والليل يسمى صريماً وكذا النهار يسمى أيضاً صريماً ، لأن كل واحد منهما ينصرم بالآخر ، وعلى هذا الصريم بمعنى الصارم ، وقال قوم : سمي الليل صريماً ، لأنه يقطع بظلمته عن التصرف وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل ، وقال آخرون : سميت الليلة بالصريم ، لأنها تصرم نور البصر وتقطعه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 608
609
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض : {اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} ويعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب ، ولذلك قال : صارمين لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار. فإن قيل : لم لم / يقل اغدوا إلى حرثكم ، وما معنى على ؟
قلنا : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول : غدا عليهم العدو ، ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال ، كقولهم : يغدي عليهم بالجفنة ويراح ، أي فأقبلوا على حرثكم باكرين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 609
609
(1/4514)

أي يتسارون فيما بينهم ، وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى كتم ومنه الخفدود للخفاش ، قال ابن عباس : غدوا إليها بصدفة يسر بعضهم إلى بعض الكلام لئلا يعلم أحد من الفقراء والمساكين.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 609
609
{ءَانٍ} مفسرة ، وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلها والنهي للمسكين عن الدخول نهي لهم عن تمكينه منه ، أي لا تمكنوه من الدخول (حتى يدخل) ، كقولك لا أرينك ههنا. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 609
609
وفيه أقوال : الأول : الحرد المنع يقال : حاردت السنة إذا قل مطرها ومنعت ريعها ، وحاردت الناقة إذا منعت لبنها فقل اللبن ، والحرد الغضب ، وهما لغتان الحرد والحرد والتحريك أكثر ، وإنما سمي الغضب بالحرد لأنه كالمانع من أن يدخل المغضوب منه في الوجود ، والمعنى وغدوا وكانوا عند أنفسهم وفي ظنهم قادرين على منع المساكين الثاني : قيل : الحرد القصد والسرعة ، يقال : حردت حردك قال الشاعر :
أقبل سيل جاء من أمر الله
يحرد حرد الجنة المغلة
وقطاً حراد أي سراع ، يعني وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم يقولون : نحن نقدر على صرامها ، ومنع منفعتها عن المساكين والثالث : قيل : حرد علم لتلك الجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم ، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان.
جزء : 30 رقم الصفحة : 609
610
فيه وجوه أحدها : أنهم لما رأوا جنتهم محترقة ظنوا أنهم قد ضلوا الطريق فقالوا : {إِنَّا لَضَآلُّونَ} ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا : {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنع الفقراء وثانيها : يحتمل / أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا : إنا لضالون حيث كنا عازمين على منع الفقراء ، وحيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها ، بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 610
610
قوله تعالى : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} يعني أعدلهم وأفضلهم وبينا وجهه في تفسير قوله : {أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143). {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} يعني هلا تسبحون وفيه وجوه الأول : قال الأكثرون معناه هلا تستثنون فتقولون : إن شاء الله ، لأن الله تعالى إنما عابهم بأنهم لا يستثنون ، وإنما جاز تسمية قول : إن شاء الله بالتسبيح لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل سوء ، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله ، لكان ذلك يوجب عودة نقص إلى قدرة الله ، فقولك : إن شاء الله ، يزيل هذا النقص ، فكان ذلك تسبيحاً.
واعلم أن لفظ القرآن يدل على أن القوم كانوا يحلفون ويتركون الاستثناء وكان أوسطهم ينهاهم عن ترك الاستثناء ويخوفهم من عذاب الله ، فلهذا حكى عن ذلك الأوسط أنه قال بعد وقوع الواقعة : {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} . الثاني : أن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم قال الأوسط لهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب ، فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام الأول وقال : {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} فلا جرم اشتغل القوم في الحال بالتوبة و:
جزء : 30 رقم الصفحة : 610
610
فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به لكن بعد خراب البصرة الثالث : قال الحسن : هذا التسبيح هو الصلاة كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة وإلا لكانت ناهية لهم عن الفحشاء والمنكر ولكانت داعية لهم إلى أن يواظبوا على ذكر الله وعلى قول : إن شاء الله ، ثم إنه تعالى لما حكى عن ذلك الأوسط أنه أمرهم بالتوبة وبالتسبيح حكى عنهم أشياء أولها : أنهم اشتغلوا بالتسبيح وقالوا في الحال سبحان ربنا عن أن يجري في ملكه شيء إلا بإرادته ومشيئته ، ولما وصفوا الله تعالى بالتنزيه والتقديس اعترفوا بسوء أفعالهم وقالوا إنا كنا ظالمين. وثانيها :
جزء : 30 رقم الصفحة : 610
610
أي يلوم بعضهم بعضاً يقول : هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول : ذاك لهذا أنت خوفتنا بالفقر ، ويقول الثالث لغيره : أنت الذي رغبتني في جمع المال فهذا هو التلاوم. / ثم نادوا على أنفسهم بالويل :
جزء : 30 رقم الصفحة : 610
611
والمراد أنهم استعظموا جرمهم. ثم قالوا عند ذلك :
جزء : 30 رقم الصفحة : 611
611
{عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَآ} قرىء {يُبْدِلَنَا} بالتخفيف والتشديد {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} طالبون منه الخير راجون لعفوه ، واختلف العلماء ههنا ، فمنهم من قال إن ذلك كان توبة منهم ، وتوقف بعضهم في ذلك قالوا : لأن هذا الكلام يحتمل أنهم إنما قالوه رغبة منهم في الدنيا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 611
611
(1/4515)

ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ الْعَذَابُ } يعني كما ذكرنا من إحراقها بالنار ، وههنا تم الكلام في قصة أصحاب الجنة.
واعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة أمران أحدهما : أنه تعالى قال : {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} (القلم : 14 ، 15) والمعنى : لأجل أن أعطاه المال والبنين كفر بالله كلا : بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء ، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمر الله على جنتهم فكيف يكون الحال في حق من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية والثاني : أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها فقلب الله عليهم القضية فكذا أهل مكة لما خرجوا إلى بد حلفوا على أن يقتلوا محمداً وأصحابه ، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور ، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة.
ثم إنه لما خوف الكفار بعذاب الدنيا قال : {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وهو ظاهر لا حاجة به إلى التفسير.
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال السعداء ، فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 611
612
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة {جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} أي جنات ليس لهم فيه إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه ، كما يشوب جنات الدنيا ، قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا ، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل ، فلا أقل من المساواة.
/ ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الكلام بقوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 612
612
ومعنى الكلام أن التسوية بين المطيع والعاصي غير جائزة ، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى : قال القاضي : فيه دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي ، فالفاسق لما كان مجرماً وجب أن لا يكون مسلماً والجواب : أنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم ، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور ، فإنهما يتماثلان في الجوهرية والجسمية والحدوث والحيوانية ، وغيرها من الأمور الكثيرة ، بل المراد إنكار استوائهما في الإسلام والجرم ، أو في آثار هذين الأمرين ، أو المراد إنكار أن يكون أثر إسلام المسلم مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله ، وهذا مسلم لا نزاع فيه ، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع أن يجتمع فيه كونه مسلماً ومجرماً ؟
.
المسألة الثانية : قال الجبائي : دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتة في الجنة ، لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما ، ولو حصلا في الجنة ، لحصلت التسوية بينهما في الثواب ، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم إذا كان المجرم أطول عمراً من المسلم ، وكانت طاعاته غير محبطة الجواب : هذا ضعيف لأنا بينا أن الآية لا تمنع من حصول التسوية في شيء أصلاً بل تمنع من حصول التسوية في درجة الثواب ، ولعلهما يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى ، على أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة وذلك لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرف.
المسألة الثالثة : أن الله تعالى استنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين في الثواب ، فدل هذا على أنه يقبح عقلاً ما يحكى عن أهل السنة أنه يجوز أن يدخل الكفار في الجنة والمطيعين في النار والجواب : أنه تعالى استنكر ذلك بحكم الفضل والإحسان ، لا أن ذلك بسبب أن أحداً يستحق عليه شيئاً.
واعلم أنه تعالى لما قال على سبيل الاستبعاد : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} قرر هذا الاستبعاد بأن قال على طريقة الالتفات : {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم المعوج ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 612
612
وهو كقوله تعالى : {أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ} (الصافات : 156) والأصل تدرسون أن لكم ما تتخيرون بفتح أن لأنه مدرس ، فلما / جاءت اللام كسرت ، وتخير الشيء واختاره ، أي أخذ خيره ونحوه تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 612
612
وفيه مسألتان :
(1/4516)

المسألة الأولى : يقال : لفلان على يمين بكذا إذا ضمنته منه وخلقت له على الوقاء به يعني أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. فإن قيل : إلى في قوله : {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } بم يتعلق ؟
قلنا : فيه وجهان الأول : أنها متعلقة بقوله : {بَـالِغَةٌ} أي هذه الأيمان في قوتها وكمالها بحيث تبلغ إلى يوم القيامة والثاني : أن يكون التقدير. أيمان ثابتة إلى يوم القيامة. ويكون معنى بالغة مؤكدة كما تقول جيدة بالغة ، وكل شيء متناه في الصحة والجودة فهو بالغ ، وأما قوله : {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} فهو جواب القسم لأن معنى : {أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ عَلَيْنَا} أم أقسمنا لكم.
المسألة الثانية : قرأ الحسن بالغة بالنصب وهو نصب على الحال من الضمير في الظرف. ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام :
جزء : 30 رقم الصفحة : 612
615
والمعنى أيهم بذلك الحكم زعيم ، أي قائم به وبالاستدلال على سحته ، كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 615
615
وفي تفسيره وجهان الأول : المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله فيعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب ، وإنماأضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوها شركاء لله وهذا كقوله : {هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَىْءٍ } (الروم : 40) ، الوجه الثاني : في المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في هذا المذهب وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين ، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم ، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب ، ولا دليل نقلي وهو كتاب يدرسونه ، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول ، وذلك يدل على أنه باطل من كل الوجوه.
واعلم أنه تعالى لما أبطل قولهم ، وأفسد مقالتهم شرح بعد ذلك عظمة يوم القيامة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 615
616
فقال : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يوم منصوب بماذا ؟
فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب ، بقوله : {فَلْيَأتُوا } في قوله : {فَلْيَأتُوا بِشُرَكَآاـاِهِمْ} (القلم : 41) وذلك أن ذلك اليوم يوم شديد ، فكأنه تعالى قال : / إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة ، لتنفعهم ونشفع لهم وثانيها : أنه منصوب بإضمار اذكر وثالثها : أن يكون التقدير يوم يكشف عن ساق ، كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ ، وأن ثم من الكوائن مالا يوصف لعظمته.
المسألة الثانية : هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق ، أهو يوم القيامة أو في الدنيا ؟
فيه قولان : الأول : وهو الذي عليه الجمهور ، أنه يوم القيامة ، ثم في تفسير الساق وجوه : الأول : أنه الشدة ، وروي أنه سئل ابن عباس عن هذه الآية ، فقال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :
سن لنا قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال : وهو كرب وشدة وروى مجاهد عنه قال : هو أشد ساعة في القيامة ، وأنشد أهل اللغة أبياتاً كثيرة (منها) :
فإن شمرت لك عن ساقها
فدنها ربيع ولا تسأم
ومنها : كشفت لكم عن ساقها
وبدا من الشر الصراح
وقال جرير : ألا رب سام الطرف من آل مازن
إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال آخر : في سنة قد شمرت عن ساقها
حمراء تبرى اللحم عن عراقها
وقال آخر : قد شمرت عن ساقها فشدوا
وجدت الحرب بكم فجدوا
جزء : 30 رقم الصفحة : 616
(1/4517)

ثم قال ابن قتيبة أصل هذا أن الرجل إذاوقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه ، يشمر عن ساقه ، فلا جرم يقال في موضع الشدة : كشف عن ساقه ، واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى ، يستحيل أن يكون جسماً ، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز ، وأعلم أن صاحب "الكشاف" أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر ، فمعنى قوله : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يوم يشتد الأمر ويتفاقم ، ولا كشف ثم ، ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل ، ثم أخذ يعظم علم البيان ويقول لولاه : لما وقفنا على هذه الأسرار وأقول : إما أن يدعى أنه صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو يقول : إنه لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بإجماع المسلمين ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد فإنهم يقولون في قوله : {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } (البقرة : 25) ليس هناك لا أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للذة والسعادة ، ويقولون في قوله : {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (الحج : 77) ليس هناك لا سجود ولا ركوع. وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع وفساد الدين/ وأما إن قال : بأنه لا يصار إلى هذا التأويل إلا بعد قيام الدلالة على أنه لا يجوز حمله على / ظاهره ، فهذا هو الذي لم يزل كل أحد من المتكلمين (إلا) قال به وعول عليه ، فأين هذه الدقائق ، التي استبد هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطة علم البيان ، فرحم الله أمراً عرف قدره ، وما تجاوز طوره القول الثاني : وهو قول أبي سعيد الضرير : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ، أي عن أصل الأمر ، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر ، وساق الإنسان ، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها القول الثالث : يوم يكشف عن ساق جهنم ، أو عن ساق العرش ، أو عن ساق ملك مهيب عظيم ، واللفظ لا يدل إلا على ساق ، فأما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه والقول الرابع : وهو اختيار المشبهة ، أنه ساق الله ، تعالى الله عنه روى عن ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام : "أنه تعالى يتمثل للخلق يوم القيامة حين يمر المسلمون ، فيقول : من تعبدون ؟
فيقولون : نعبد الله فيشهدهم مرتين أو ثلاثاً ثم يقول : هل تعرفون ربكم ، فيقولون : سبحانه إذا عرفنا نفسه عرفناه ، فعند ذلك يكشف عن ساق ، فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجداً ، ويبقى المنافقون ظهورهم كالطبق الواحد كأنما فيها السفافيد" واعلم أن هذا القول باطل لوجوه أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث ، لأن كل جسم متناه ، وكل متناه محدث ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، ولأن كل جسم ممكن ، وكل ممكن محدث وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف ، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن ، أما لو حملناه على الشدة ، ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم ، كأنه قيل : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة ، أي شدة لا يمكن وصفها وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه القول الثاني : أن قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 616
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ليس المراد منه يوم القيامة ، بل هو في الدنيا ، وهذا قول أبي مسلم قال : أنه لا يمكن حمله على يوم القيامة لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم : {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه ، إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى : {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لا بُشْرَى } (الفرقان : 22) ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها ، وإما حال الهرم والمرض والعجز وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن ، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم ، ونظير هذه الآية قوله : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (الواقعة : 83) واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم ، فأما قوله : إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل ههنا ، والتكاليف زائلة يوم القيامة فجوابه أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل ، فلم قلتم : إن ذلك غير جائز.
(1/4518)

المسألة الثالثة : قرىء : {يَوْمِ} بالنون وبالتاء المنقوطة من فوق على البناء للفاعل والمفعول جميعاً والفعل للساعة أو للحال ، أي يوم يشتد الحال أو الساعة ، كما تقول : / كشف الحرب عن ساقها على المجاز. وقرىء (تكشف) بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا.
قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَـاشِعَةً أَبْصَـارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌا وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَـالِمُونَ} .
اعلم أنا بينا أنهم لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً ، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ، ثم إنه تعالى حال ما يدعوهم إلى السجود يسلب عنهم القدرة على السجود ، ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه ، حين دعوا إلى السجود وهم سالموا الأطراف والمفاصل. قال الجبائي : لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل ذلك على أنهم في الدنيا كانوا يستطيعون ، فبطل بهذا قول من قال : الكافر لا قدرة له على الإيمان ، وإن القدرة على الإيمان لا تحصل إلا حال وجود الإيمان والجواب : عنه أن علم الله بأنه لا يؤمن مناف لوجود الإيمان والجمع بين المتنافيين محال ، فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي.
جزء : 30 رقم الصفحة : 616
أما قوله : {خَـاشِعَةً أَبْصَـارُهُمْ} فهو حال من قوله : {أَبْصَـارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم مثل العبد الذي أعرض عنه مولاه ، فإنه يكون ذليلاً فيما بين الناس ، وقوله : {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَـالِمُونَ} يعني حين كانوا يدعون إلى الصلوات بالأذان والإقامة وكانوا سالمين قادرين على الصلاة ، وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 616
616
اعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف فخوفهم بما عنده ، وفي قدرته من القهر ، فقال : ذرني وإياه ، يريد كله إليَّ ، فإني أكفيكه ، كأنه يقول : يا محمد حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إلي ، وتخلي بيني بينه ، فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك ، ثم قال : {سَنَسْتَدْرِجُهُم} يقال : استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة ، حتى يورطه فيه. وقوله : {مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو روق : {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي كلما أذنبوا ذنباً جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار ، فالإستدراج إنما حصل في الاغتناء الذي لا يشعرون أنه استدراج ، وهو الإنعام / عليهم لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين ، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 616
616
(1/4519)

أي أمهلهم كقوله : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } (آل عمران : 178) وأطيل لهم المدة والملاوة المدة من الدهر ، يقال : أملى الله له أي أطال الله له الملاوة والملوان الليل والنهار ، والملأ مقصوراً الأرض الواسعة سميت به لامتدادها. وقيل : {وَأُمْلِى لَهُمْ } أي بالموت فلا أعاجلهم به ، ثم إنه إنما سمي إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكون في صورة الكيد ، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك ، واعلم أن الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات ، فقالوا : هذا الذي سماه بالاستدراج وذلك الكيد ، إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو يكون له فيه أثر ، والأول باطل ، وإلا لكان هو سائر الأشياء الأجنبية بمثابة واحدة ، فلا يكون استدراجاً ألبتة ولا كيداً ، وأما الثاني فهو يقتضي كونه تعالى مريداً لذلك الفعل الذي ينساق إليه ذلك الاستدراج وذلك الكيد ، لأنه إذا كان تعالى لا يزال يؤكد هذا الجانب ، ويفتر ذلك الجانب الآخر ، واعلم أن تأكيد هذا الجانب لا بد وأن ينساق بالآخرة إلى فعله ودخوله في الوجود ، فلا بد وأن يكون مريداً لدخول ذلك الفعل في الوجود وهو المطلوب ، أجاب الكعبي عنه فقال : المراد سنستدرجهم إلى الموت من حيث لا يعلمون ، وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة فإنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه لصاروا آمنين إلى ذلك الوقت ولأقدموا على المعاصي. وفي ذلك إغراء بالمعاصي ، وأجاب الجبائي عنه ، فقال : سنستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون في الآخرة ، وأملي لهم في الدنيا توكيداً للحجة عليهم إن كيدي متين فأمهله وأزيح الأعذار عنه ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة فهذا هو المراد من الكيد المتين ، ثم قال : والذي يدل على أن المراد ما ذكرنا أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ } (القلم : 44) ولا شك أن هذا التهديد إنما وقع بعقاب الآخرة ، فوجب أن يكون المراد من الاستدراج والكيد المذكورين عقيبه هو عذاب الآخرة ، أو العذاب الحاصل عند الموت ، واعلم أن أصحابنا قالوا الحرف الذي ذكرناه وهو : أن هذا الإمهال إذا كان متأدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان ، واعلم أن قولهم : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} مفسر في سورة الأعراف.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 616
617
وهذه الآية مع ما بعدها مفسرة في سورة الطور ، وأقول : إنه أعاد الكلام إلى ما تقدم من قوله : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ} (القلم : 41) والمغرم الغرامة أي لم يطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 617
617
وفيه وجهان الأول : أن عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر والشرك ، فلذلك أصروا عليه ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار الثاني : أن الأشياء الغائبة كأنها حضرت في عقولهم حتى إنهم يكتبون على الله أي يحكمون عليه بما شاءوا وأرادوا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 617
618
ثم إنه تعالى لما بالغ في تزييف طريقة الكفار وفي زجرهم عما هم عليه قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وفيه وجهان الأول : فاصبر لحكم ربك في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم والثاني : فاصبر لحكم ربك في أن أوجب عليك التبليغ والوحي وأداء الرسالة ، وتحمل ما يحصل بسبب ذلك من الأذى والمحنة.
ثم قال تعالى : {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : العامل في {إِذْ} معنى قوله : {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} يريد لا تكن كصاحب الحوت حال ندائه وذلك لأنه في ذلك الوقت كان مكظوماً فكأنه قيل : لا تكن مكظوماً.
المسألة الثانية : صاحب الحوت يونس عليه السلام ، إذ نادى في بطن الحوت بقوله : {لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) ، {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا ملأه ، والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبلى ببلائه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 618
619
وقرىء (رحمة من ربه) ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم لم يقل : لولا أن تداركته نعمة من ربه ؟
الجواب : إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود تداركته ، وقرأ الحسن : تداركه ، أي تتداركه على حكاية الحال الماضية ، بمعنى لولا أن كان ، يقال : فيه تتداركه ، كما يقال : كان زيد سيقوم فمنعه فلان ، أي كان يقال فيه : سيقوم ، والمعنى كان متوقعاً منه القيام.
(1/4520)

السؤال الثاني : ما المراد من قوله : {نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّه } ؟
الجواب : المراد من تلك النعمة ، هو أنه تعالى أنعم عليه بالتوفيق للتوبة ، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الصالحات والطاعات إلا بتوفيقه وهدايته.
/ السؤال الثالث : أين جواب لولا ؟
الجواب : من وجهين الأول : تقدير الآية : لولا هذه النعمة لنبذ بالعراء مع وصف المذمومية ، فلما حصلت هذه النعمة لا جرم لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف ، لأنه لما فقد هذا الوصف : فقد فقد ذلك المجموع الثاني : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ، ويدل على هذا قوله : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الاصفات : 143 ، 144) وهذا كما يقال : عرصة القيامة ؛ وعراء القيامة.
السؤال الرابع : هل يدل قوله : {وَهُوَ مَذْمُومٌ} على كونه فاعلاً للذنب ؟
الجواب : من ثلاثة أوجه الأول : أن كلمة {لَّوْلا} دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل الثاني : لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله : {فَاجْتَبَـاهُ رَبُّه } (القلم : 50) والفاء للتعقيب.
السؤال الخامس : ما سبب نزول هذه الآيات ؟
الجواب : يروى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ما حل ، فأراد أن يدعوا على الذين انهزموا ، وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف.
جزء : 30 رقم الصفحة : 619
620
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجهان أحدهما : قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه والثاني : قال قوم : ولعله ما كان رسولاً صاحب وحي قبل هذه الواقعة ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً ، وهو المراد من قوله : {فَاجْتَبَـاهُ رَبُّه } والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا القول الأول. لأن احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصاً ولا كرامة فلا بد وأن يكون معجزة وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحالة.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله : {فَجَعَلَه مِنَ الصَّـالِحِينَ} فالآية تدل على أن ذلك الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه ، قال الجبائي : يحتمل أن يكون معنى جعله أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني والجواب : أن هذين الوجهين اللذين ذكرتم مجاز ، والأصل في الكلام الحقيقة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 620
620
قوله تعالى : {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : إن مخففة من الثقيلة واللام علمها.
المسألة الثانية : قرىء : {لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء وفتحها ، وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال : زلق / الرأس وأزلقه حلقه ، وقرىء ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها ، ثم فيه وجوه أحدها : أنهم من أشدة تحديقهم ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم : نظر إليَّ نظراً يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله ، قال الشاعر :
يتقارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزل مواطىء الأقدام
وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه :
نظروا إلي بأعين محمرة
نظر التيوس إلى شفار الجازر
وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم للقرآن وهو قوله : {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} الثاني : منهم من حمله على الإصابة بالعين ، وههنا مقامان أحدهما : الإصابة بالعين ، هل لها في الجملة حقيقة أم لا ؟
الثاني : أن بتقدير كونها صحيحة ، فهل الآية ههنا مفسرة بها أم لا ؟
.
المقام الأول : من الناس من أنكر ذلك ، وقال : تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة ، وههنا لا مماسة ، فامتنع حصول التأثير.
واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة ، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن ، فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً اختلافها في لوازمها وآثارها ، فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير ، وإن كان الثاني لم يمتنع أيضاً أن يكون مزاج إنسان واقعاً على وجه مخصوص يكون له أثر خاص ، وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم ، وليس في بطلانه شبهة فضلاً عن حجة ، والدلائل السمعية ناطقة بذلك ، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال : "العين حق" وقال : "العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر".
(1/4521)

والمقام الثاني : من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا : كانت العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء ، فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك ، فعصمه الله تعالى ، وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال : الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء ، والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه ، بل كانوا يمقتونه ويبغضونه ، والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 620
620
قوله تعالى : {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : إن مخففة من الثقيلة واللام علمها.
المسألة الثانية : قرىء : {لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء وفتحها ، وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال : زلق / الرأس وأزلقه حلقه ، وقرىء ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها ، ثم فيه وجوه أحدها : أنهم من أشدة تحديقهم ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم : نظر إليَّ نظراً يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله ، قال الشاعر :
يتقارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزل مواطىء الأقدام
وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه :
نظروا إلي بأعين محمرة
نظر التيوس إلى شفار الجازر
وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم للقرآن وهو قوله : {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} الثاني : منهم من حمله على الإصابة بالعين ، وههنا مقامان أحدهما : الإصابة بالعين ، هل لها في الجملة حقيقة أم لا ؟
الثاني : أن بتقدير كونها صحيحة ، فهل الآية ههنا مفسرة بها أم لا ؟
.
المقام الأول : من الناس من أنكر ذلك ، وقال : تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة ، وههنا لا مماسة ، فامتنع حصول التأثير.
واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة ، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن ، فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً اختلافها في لوازمها وآثارها ، فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير ، وإن كان الثاني لم يمتنع أيضاً أن يكون مزاج إنسان واقعاً على وجه مخصوص يكون له أثر خاص ، وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم ، وليس في بطلانه شبهة فضلاً عن حجة ، والدلائل السمعية ناطقة بذلك ، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال : "العين حق" وقال : "العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر".
والمقام الثاني : من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا : كانت العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء ، فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك ، فعصمه الله تعالى ، وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال : الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء ، والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه ، بل كانوا يمقتونه ويبغضونه ، والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 620
واعلم أن هذا السؤال ضعيف ، لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته ، وإيراده للدلائل. وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين قراءة هذه الآية.
جزء : 30 رقم الصفحة : 620
620
/ ثم قال تعالى : {وَيَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ} وهو على ما افتتح به السورة.
{وَمَا هُوَ} أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه {إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} فإنه تذكير لهم ، وبيان لهم ، وأدلة لهم ، وتنبيه لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد ، وفيه من الآداب والحكم ، وسائر العلوم مالا حد له ولا حصر ، فكيف يدعى من يتلوه مجنوناً ، ونظيره مما يذكرون ، مع أنه من أدلة الأمور على كمال الفضل والعقل. والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 620
621
(1/4522)

سورة الحاقة
خمسون وآيتان مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 621
621
/ المسألة الأولى : أجمعوا على أن الحاقة هي القيامة واختلفوا في معنى الحاقة على وجوه : أحدها : أن الحق هو الثابت الكائن ، فالحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها وثانيها : أنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته جعل الفعل لها وهو لأهلها وثالثها : أنها ذوات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق ، والثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة أمور واجبة الوقوع والوجود فهي كلها حواق ورابعها : أن {الْحَآقَّةُ} بمعنى الحقة والحقة أخص من الحق وأوجب تقول : هذه حقتي أي حقي ، وعلى هذا {الْحَآقَّةُ} بمعنى الحق ، وهذا الوجه قريب من الوجه الأول وخامسها : قال الليث : {الْحَآقَّةُ} النازلة التي حقت بالجارية فلا كاذبة لها وهذا معنى قوله تعالى : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ، (الواقعة : 2) وسادسها : {الْحَآقَّةُ} الساعة التي يحق فيها الجزاء على كل ضلال وهدى وهي القيامة وسابعها : {الْحَآقَّةُ} هو الوقت الذي يحق على القوم أن يقع بهم وثامنها : أنها الحق بأن يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين فإن في ذلك اليوم يحصل الثواب والعقاب ويخرج عن حد الانتظار وهو قول الزجاج وتاسعها : قال الأزهري : والذي عندي في {الْحَآقَّةُ} أنها سميت بذلك لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه من قولك : حاققته فحققته أي غالبته فغلبته وفلجت عليه وعاشرها : قال أبو مسلم : {الْحَآقَّةُ} الفاعلة من حقت كلمة ربك.
المسألة الثانية : الحاقة مرفوعة بالابتداء وخبرها {مَا الْحَآقَّةُ} والأصل {الْحَآقَّةُ} ما هي أي أي شيء هي ؟
تفخيماً لشأنها ، وتعظيماً لهولها فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها ومثله قوله : {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة : 1 ـ 2) وقوله : {وَمَآ أَدْرَا كَ} أي وأي شيء أعلمك {مَا الْحَآقَّةُ} يعني إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، يعني أنه في العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك {وَمَآ} في موضع الرفع على الابتداء و{أَدْرَا كَ} معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام.
جزء : 30 رقم الصفحة : 621
622
/ قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادُا بِالْقَارِعَةِ} {الْقَارِعَةُ} هي التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والانفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار ، وإنما قال : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادُا بِالْقَارِعَةِ} ولم يقل : بها ، ليدل على أن معنى القرع حاصل في الحاقة ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها. ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها ، وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة ، وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 622
622
اعلم أن في الطاغية أقوالاً : الأول : أن الطاغية هي الواقعة المجاوزة للحد في الشدة والقوة ، قال تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} (الحاقة : 1) أي جاوز الحد ، وقال : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } (النجم : 17) فعلى هذا القول : الطاغية نعت محذوف ، واختلفوا في ذلك المحذوف ، فقال بعضهم : إنها الصيحة المجاوزة في القوة والشدة للصيحات ، قال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (القمر : 31) وقال بعضهم : إنها الرجفة ، وقال آخرون : إنها الصاعقة والقول الثاني : أن الطاغية ههنا الطغيان ، فهي مصدر كالكاذبة والباقية والعاقبة والعافية ، أي أهلكوا بطغيانهم على الله إذ كذبوا رسله وكفروا به ، وهو منقول عن ابن عباس ، والمتأخرون طعنوا فيه من وجهين الأول : وهو الذي قاله الزجاج : أنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيء الذي وقع به العذاب ، وهو قوله تعالى : {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} (الحاقة : 6) وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تكون المناسبة حاصلة والثاني : وهو الذي قاله القاضي : وهو أنه لو كان المراد ما قالوه ، لكان من حق الكلام أن يقال : أهلكوا لها ولأجلها والقول الثالث : {بِالطَّاغِيَةِ} أي بالفرقة التي طغت من جملة ثمود ، فتآمروا بعقر الناقة فعقروها ، أي أهلكوا بشؤم فرقتهم الطاغية ، ويجوز أن يكون المراد بالطاغية ذلك الرجل الواحد الذي أقدم على عقر الناقة وأهلك الجميع ، لأنهم رضوا بفعله وقيل له طاغية ، كما يقول : فلان راوية الشعر ، وداهية وعلامة ونسابة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 622
623
(1/4523)

الصرصر الشديدة الصوت لها صرصرة وقيل : الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها ، وأما العاتية ففيها أقوال : الأول : قال الكلبي : عتت على خزنتها يومئذ ، فلم يحفظوا كم خرج منها ، ولم يخرج قبل ذلك ، ولا بعده منها شيء إلا بقدر معلوم ، قال عليه الصلاة والسلام : طغى الماء على خزانه يوم / نوح ، وعتت الريح على خزانها يوم عاد ، فلم يكن لها عليها سبيل ، فعلى هذا القول : هي عاتية على الخزان الثاني : قال عطاء عن ابن عباس : يريد الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببناء أو (استناد إلى جبل) ، فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم القول الثالث : أن هذا ليس من العتو الذي هو عصيان ، إنما هو بلوغ الشيء وانتهاؤه ومنه قولهم : عتا النبت ، أي بلغ منتهاه وجف ، قال تعالى : {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (مريم : 8) فعاتية أي بالغة منتهاها في القوة والشدة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 623
623
قوله تعالى : {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } قال مقاتل : سلطها عليهم. وقال الزجاج : أقلعها عليهم ، وقال آخرون : أرسلها عليهم ، هذه هي الألفاظ المنقولة عن المفسرين ، وعندي أن فيه لطيفة ، وذلك لأن من الناس من قال : إن تلك الرياح إنما اشتدت ، لأن اتصالاً فلكياً نجومياً اقتضى ذلك ، فقوله : {سَخَّرَهَا} فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب ، وبيان أن ذلك إنما حصل بتقدير الله وقدرته ، فإنه لولا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف والتحذير عن العقاب. وقوله : {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } الفائدة فيه أنه تعالى لو لم يذكر ذلك لما كان مقدار زمان هذا العذاب معلوماً ، فلما قال : {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ} صار مقدار هذا الزمان معلوماً ، ثم لما كان يمكن أن يظن ظان أن ذلك العذاب كان متفرقاً في هذه المدة أزال هذا الظن ، بقوله : {حُسُومًا } أي متتابعة متوالية ، واختلفوا في الحسوم على وجوه أحدها : وهو قول الأكثرين (حسوماً) ، أي متتابعة ، أي هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المهلكة ، فلم يكن فيها فتور ولا انقطاع ، وعلى هذا القول : حسوم جمع حاسم. كشهود وقعود ، ومعنى هذا الحسم في اللغة القطع بالاستئصال ، وسمي السيف حساماً ، لأنه يحسم العدو عما يريد ، من بلوغ عداوته فلما كانت تلك الرياح متتابعة ما سكنت ساعة حتى أتت عليهم أشبه تتابعها عليهم تتابع فعل الحاسم في إعادة الكي ، على الداء كرة بعد أخرى ، حتى ينحسم وثانيها : أن الرياح حسمت كل خير ، واستأصلت كل بركة ، فكانت حسوماً أو حسمتهم ، فلم يبق منهم أحد ، فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم وثالثها : أن يكون الحسوم مصدراً كالشكور والكفور ، وعلى هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمراً ، والتقدير : يحسم حسوماً ، يعني استأصل استئصالاً ، أو يكون صفة ، كقولك : ذات حسوم ، أو يكون مفعولاً له ، أي سخرها عليهم للاستئصال ، وقرأ السدي : {حُسُومًا } بالفتح حالاً من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة ، وقيل : هي أيام العجوز ، وإنما سميت بأيام العجوز ، لأن عجوزاً من عاد توارت في سرب ، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها ، وقيل : هي أيام العجز وهي آخر الشتاء.
جزء : 30 رقم الصفحة : 623
قوله تعالى : {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى } أي في مهابها ، وقال آخرون : أي في تلك الليالي / والأيام : {صَرْعَى } جمع صريع. قال مقاتل : يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم ، فهم مصرعون صرع الموت.
ثم قال : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها ، والنخل يؤنث ويذكر ، قال الله تعالى في موضع آخر : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} (القمر : 20) وقرىء : (أعجاز نخيل) ، ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها ، وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعاً ضخاماً كأصول النخل. وأما وصف النخل بالخواء ، فيحتمل أن يكون وصفاً للقوم ، فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف ، ويحتمل أن تكون الخالية بمعنى البالية لأنها إذا بليت خلت أجوافها ، فشبهوا بعد أن أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 623
623
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الباقية ثلاثة أوجه أحدها : إنها البقية وثانيها : المراد من نفس باقية وثالثها : المراد بالباقية البقاء ، كالطاغية بمعنى الطغيان.
(1/4524)

المسألة الثانية : ذهب قوم إلى أن المراد أنه لم يبق من نسل أولئك القوم أحد ، واستدل بهذه الآية على قوله قال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عقاب الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا ، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ، فذاك هو قوله : {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنا بَاقِيَةٍ} وقوله : {فَأْصْبَحُوا لا يُرَى ا إِلا مَسَـاكِنُهُمْ } (الأحقاف : 25).
القصة الثانية قصة فرعون
جزء : 30 رقم الصفحة : 623
624
أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو ، و(من) لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين ، قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ، {وَمَن قَبْلَه } بكسر القاف وفتح الباء ، قال سيبويه : قبل لما ولي الشيء تقول : ذهب قبل السوق ، ولى قبلك حق ، أي فيما يليك ، واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك ، فمعنى {مِن قَبْلِه } أي من عنده من أتباعه وجنوده والذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن ابن مسعود وأبياً وأبا موسى قرؤا : {وَمَن} روى عن أبي وحده أنه قرأ : {مُوسَى وَمَن مَّعَه } أما قوله : {وَالْمُؤْتَفِكَـاتُ} فقد تقدم تفسيرها ، وهم الذين أهلكوا من قوم لوط ، على معنى والجماعات المؤتفكات ، وقوله : {بِالْخَاطِئَةِ} فيه وجهان الأول : أن الخاطئة مصدر كالخطأ والثاني : أن يكون المراد بالفعلة / أو الأفعال ذات الخطأ العظيم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 624
624
الضمير إن كان عائداً إلى {فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَه } (الحاقة : 9) ، فرسول ربهم هو موسى عليه السلام ، وإن كان عائداً إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط ، قال الواحدي : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله ، {فَعَصَوْا } فيكون كقوله : {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 16) وقوله : {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ثم فيه وجهان الأول : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار الثاني : أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة ، لقوله : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا ، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو.
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
جزء : 30 رقم الصفحة : 624
625
طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج وليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة ولا بعدها إلا بكيل معلوم ، وسائر المفسرين قالوا : {طَغَى } أي تجاوز حده حتى علا كل شيء وارتفع فوقه ، و{حَمَلْنَـاكُمْ} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ، ولا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في السفينة ، وقوله : {فِى الْجَارِيَةِ} يعني في السفينة التي تجري في الماء ، وهي سفينة نوح عليه السلام ، والجارية من أسماء السفينة ، ومنه قوله : {وَلَهُ الْجَوَارِ} (الرحمن : 24).
جزء : 30 رقم الصفحة : 625
625
قوله تعالى : {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} الضمير في قوله : {لِنَجْعَلَهَا} إلى ماذا يرجع ؟
فيه وجهان : الأول : قال الزجاج إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة ، وإن كانت ههنا غير مذكورة ، والتقدير لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة وعبرة الثاني : قال الفراء : لنجعل السفينة ، وهذا ضعيف والأول هو الصواب ، ويدل على صحته قوله : {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} فالضمير في قوله : {وَتَعِيَهَآ} عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول ، لكن الضمير في قوله : {وَتَعِيَهَآ} لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول.
قوله تعالى : {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : لكل شيء حفظته في نفسك وعيته ووعيت العلم ، ووعيت ما قلت ويقال : لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيته يقال : أوعيت المتاع في الوعاء ، ومنه قول الشاعر :
/ والشر أخبث ما أوعيت من زاد
واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ورحمته وشدة قهره وسطوته ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم عند نزول هذه الآية : "سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ، قال علي : فما نسيت شيئاً بعد ذلك ، وما كان لي أن أنسى" فإن قيل : لم قال {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} على التوحيد والتنكير ؟
قلنا : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله ، وأن ما سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالم منهم.
(1/4525)

المسألة الثانية : قراءة العامة : {وَتَعِيَهَآ} بكسر العين ، وروى عن ابن كثير {وَتَعِيَهَآ} ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ ، فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف ، وإنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وهو وهي ومثل ذلك قوله : {وَيَتَّقْهِ} (النور : 52) في قراءة من سكن القاف.
جزء : 30 رقم الصفحة : 625
واعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث ونبه بها عن ثبوت القدرة والحكمة للصانع فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة ، وثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة.
ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة فذكر أولاً مقدماتها. فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 625
625
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {نَفْخَةٌ} بالرفع والنصب ، وجه الرفع أسند الفعل إليها ، وإنما حسن تذكير الفعل للفصل ، ووجه النصب أن الفعل مسند إلى الجار والمجرور ثم نصب نفخة على المصدر.
المسألة الثانية : المراد من هذه النفخة الواحدة هي النفخة الأولى لأن عندها يحصل خراب العالم ، فإن قيل : لم قال بعد ذلك {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ} (الحاقة : 18) والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية ؟
قلنا : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان ، والصعقة والنشور ، والوقوف والحساب ، فلذلك قال : {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ} كما تقول : جئته عام كذا ، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته.
جزء : 30 رقم الصفحة : 625
626
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : رفعت الأرض والجبال ، إما بالزلزلة التي تكون في القيامة ، وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة أو بقدرة الله من غير / سبب فدكتا ، أي فدكت الجملتان جملة الأرض وجملة الجبال ، فضرب بعضها ببعض ، حتى تندق وتصير كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً والدك أبلغ من الدق ، وقيل : فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً من قولك : اندك السنام إذا انفرش ، وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان.
المسألة الثانية : قال الفراء : لا يجوز في دكة ههنا إلا النصب لارتفاع الضمير في دكتا ، ولم يقل : فدككن لأنه جعل الجبال كالواحدة والأرض كالواحدة ، كما قال : {أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا رَتْقًا} (الأنبياء : 30) ثم قال تعالى ولم يقل : كن.
جزء : 30 رقم الصفحة : 626
627
أي فيومئذ قامت القيامة الكبرى وانشقت السماء لنزول الملائكة : {فَهِىَ يَوْمَـاـاِذٍ وَاهِيَةٌ} أي مسترخية ساقطة القوة {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} بعدما كانت محكمة شديدة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 627
628
ثم قال تعالى : {وَالْمَلَكُ عَلَى ا أَرْجَآاـاِهَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَالْمَلَكُ} لم يرد به ملكاً واحداً ، بل أراد الجنس والجمع.
المسألة الثانية : الأرجاء في اللغة النواجي يقال : رجا ورجوان والجمع الأرجاء ، ويقال ذلك لحرف البئر وحرف القبر وما أشبه ذلك ، والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء ، فإن قيل : الملائكة يموتون في الصعقة الأولى ، لقوله : {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ} (الزمر : 68) فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء ؟
قلنا : الجواب من وجهين : الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون الثاني : أن المراد الذين استثناهم الله في قوله : {إِلا مَن شَآءَ اللَّه } (الزمر : 68).
قوله تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا العرش هو الذي أراده الله بقوله {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} (غافر : 7) وقوله : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر : 75).
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {فَوْقَهُمْ} إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان الأول : وهو الأقرب أن المراد فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش الثاني : قال مقاتل : يعني أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم. و(مجيء) الضمير قبل الذكر جائز كقوله : في بيته يؤتي الحكم.
(1/4526)

/ المسألة الثالثة : نقل عن الحسن رحمه الله أنه قال : لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف أو ثمانية آلاف صف. واعلم أن حمله على ثمانية أشخاص أولى لوجوه : أحدها : ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية" ويروى : "ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون" (وقيل : بعضهم على صورة الإنسان) وقيل : بعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ، وروي ثمانية أملاك في صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً ، وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ، وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك الوجه الثاني : في بيان أن الحمل على ثمانية أشخاص أولى من الحمل على ثمانية آلاف وذلك لأن الثمانية أشخاص لا بد منهم في صدق اللفظ ، ولا حاجة في صدق اللفظ إلى ثمانية آلاف ، فحينئذ يكون اللفظ دالاً على ثمانية أشخاص ، ولا دلالة فيه على ثمانية آلاف فوجب حمله على الأول الوجه الثالث : وهو أن الموضع موضع التعظيم والتهويل فلو كان المراد ثمانية آلاف ، أو ثمانية صفوف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل ، فحيث لم يذكر ذلك علمنا أنه ليس المراد إلا ثمانية أشخاص.
جزء : 30 رقم الصفحة : 628
المسألة الرابعة : قالت المشبهة : لو لم يكن الله في العرش لكان حمل العرش عبثاً عديم الفائدة ، ولا سيما وقد تأكد ذلك بقوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ} (الحاقة : 18) والعرض إنما يكون لو كان الإله حاصلاً في العرش ، أجاب أهل التوحيد عنه بأنه لا يمكن أن يكون المراد منه أن الله جالس في العرش وذلك لأن كل من كان حاملاً للعرش كان حاملاً لكل ما كان في العرش/ فلو كان الإله في العرش للزم الملائكة أن يكونوا حاملين لله تعالى وذلك محال ، لأنه يقتضي احتياج الله إليهم ، وأن يكونوا أعظم قدرة من الله تعالى وكل ذلك كفر صريح ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل فنقول : السبب في هذا الكلام هو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه ، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ، وليس أنه يسكنه ، تعالى الله عنه وجعل في ركن البيت حجراً هو يمينه في الأرض ، إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العباد حفظة ليس لأن النسيان يجوز عليه سبحانه ، لكن هذا هو المتعارف فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس إليهم على سرير ووقف الأعوان حوله أحضر الله يوم القيامة عرشاً وحضرت الملائكة وحفت به ، لا لأنه يقعد عليه أو يحتاج إليه بل لمثل ما قلناه في البيت والطواف.
جزء : 30 رقم الصفحة : 628
628
قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ} العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة ، شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله ، ونظيره قوله : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} وروى : "أن في القيامة / ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنثر الكتب فيأخذ السعيد كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله".
ثم قال : {لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجهان الأول : تقرير الآية : تعرضون لا يخفى أمركم فإنه عالم بكل شيء ، ولا يخفى عليه منكم خافية ، ونظيره قوله : {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ } فيكون الغرض منه المبالغة في التهديد ، يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلاً الوجه الثاني : المراد لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفياً منكم في الدنيا ، فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم ، وتظهر أحوال أهل العذاب فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم ، وهو المراد من قوله : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ * فَمَا لَه مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} وفي هذا أعظم الزجر والوعيد وهو خوف الفضيحة.
المسألة الثانية : قراءة العامة {لا تَخْفَى } بالتاء المنقطة من فوقها ، واختار أبو عبيدة الياء وهي قراءة حمزة ، والكسائي قال : لأن الياء تجوز للذكر والأنثى والتاء لا تجوز إلا للأنثى ، وههنا يجوز إسناد الفعل إلى المذكر وهو أن يكون المراد بالخافية شيء ذو خفاء. وأيضاً فقد وقع الفصل ههنا بين الاسم والفعل بقوله : منكم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما ينتهي هذا العرض إليه قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 628
629
وفيه مسألتان :
(1/4527)

المسألة الأولى : هاء صوت يصوت به ، فيفهم منه معنى خذ كأف وحس ، وقال أبو القاسم الزجاجي وفيه لغات وأجودها ما حكاه سيبويه عن العرب فقال : ومما يؤمر به من المبنيات قولهم : هاء يا فتى ، ومعناه تناول ويفتحون الهمزة ويجعلون فتحها علم المذكر كما قالوا : هاك يا فتى ، فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر ويقال للإثنين : هاؤما ، وللجمع هاؤموا وهاؤم والميم في هذا الموضع كالميم في أنتما وأنتم وهذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤم إنما هي ضمة ميم الجمع لأن الأصل فيه هاؤموا وأنتموا فاشبعوا الضمة وحكموا للإثنين بحكم الجمع لأن الإثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام.
المسألة الثانية : إذا اجتمع عاملان على معمول واحد ، فإعمال الأقرب جائز بالاتفاق وإعمال الأبعد هل يجوز أم لا ؟
ذهب الكوفيون إلى جوازه والبصريون منعوه ، واحتج البصريون على قولهم : بهذه الآية ، لأن قوله : {هَآؤُمُ} ناصب ، وقوله : {اقْرَءُوا } ناصب أيضاً ، فلو كان / الناصب هو الأبعد ، لكان التقدير : هاؤم كتابيه ، فكان يجب أن يقول : اقرأوه ، ونظيره {ءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} واعلم : أن هذه الحجة ضعيفة لأن هذه الآية دلت على أن الواقع ههنا إعمال الأقرب وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يجوز إعمال الأبعد أم لا ، وليس في الآية تعرض لذلك ، وأيضاً قد يحذف الضمير لأن ظهوره يغني عن التصريح به كما في قوله : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} فلم لا يجوز أن يكون ههنا كذلك ، ثم احتج الكوفيون بأن العامل الأول متقدم في الوجود على العامل الثاني ، والعامل الأول حين وجد اقتضى معمولاً لامتناع حصول العلة دون المعمول ، فصيرورة المعمول معمولاً للعامل الأول متقدم على وجود العامل الثاني ، والعامل الثاني إنما وجد بعد أن صار معمولاً للعامل الأول فيستحيل أن يصير أيضاً معمولاً للعامل الثاني ، لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين ، ولامتناع تعليل ما وجد قبل بما يوجد بعد ، وهذه المسألة من لطائف النحو.
المسألة الثالثة : الهاء للسكت {كِتَـابِيَهْ} وكذا في{حِسَابِيَهْ} وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، ولما كانت هذه الهاءات مثبتة في المصحف والمثبتة في المصحف لا بد وأن تكون مثبتة في اللفظ ، ولم يحسن إثباتها في اللفظ إلا عند الوقف ، لا جرم استحبوا الوقف لهذا السبب. وتجاسر بعضهم فأسقط هذه الهاءات عند الوصل ، وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغيرها. وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعاً لاتباع المصحف.
جزء : 30 رقم الصفحة : 629
المسألة الرابعة : اعلم أنه لما أوتي كتابيه بيمينه ، ثم إنه يقول : {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ} دل ذلك على أنه بلغ الغاية في السرور لأنه لما أعطى كتابه بيمينه علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم ، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله. وقيل : يقول ذلك لأهل بيته وقرابته.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول :
جزء : 30 رقم الصفحة : 629
629
وفيه وجوه الأول : المراد منه اليقين الاستدلالي وكل ما ثبت بالاستدلال فإنه لا ينفك من الخواطر المختلفة ، فكان ذلك شبيهاً بالظن الثاني : التقدير : إني كنت أظن أني ألاقي حسابي فيؤاخذني الله بسيئاتي ، فقد تفضل علي بالعفو ولم يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كتابيه وثالثها : روي أبو هريرة أنه عليه السلام قال : "إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه فتظهر حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن ، فيقال له : اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح ، ثم يقول : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ * إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ} على سبيل الشدة ، وأما الآن فقد فرح الله عني ذلك الغم ، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا ورابعها : ظننت : أي علمت ، وإنما أجرى مجرى العلم. لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في / العادات والأحكام ، يقال : أظن ظناً كاليقين أن الأمر كيت وكيت وخامسها : المراد إني ظننت في الدنيا أن بسبب الأعمال التي كنت أعملها في الدنيا سأصل في القيامة إلى هذه الدرجات وقد حصلت الآن على اليقين فيكون الظن على ظاهره ، لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك.
ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 629
629
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : وصف العيشة بأنها راضية فيه وجهان الأول : المعنى أنها منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل ، والنسبة نسبتان نسبة بالحروف ونسبة بالصيغة والثاني : أنه جعل الرضا للعيشة مجازأ مع أنه صاحب العيشة.
(1/4528)

المسألة الثانية : ذكروا في حد الثواب أنه لا بد وأن يكون منفعة ، ولا بد وأن تكون خالصة عن الشوائب ، ولا بد وأن تتكون دائمة ولا بد وأن تكون مقرونة بالتعظيم ، فالمعنى إنما يكون مرضياً به من جميع الجهات لو كان مشتملاً على هذه الصفات فقوله : {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} كلمة حاوية لمجموع هذه الشرائط التي ذكرناها.
جزء : 30 رقم الصفحة : 629
630
ثم قال : {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} وهو أن من صار في {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي يعيش عيشاً مرضياً في جنة عالية ، والعلو إن أريد به العلو في المكان فهو حاصل ، لأن الجنة فوق السموات ، فإن قيل : أليس أن منازل البعض فوق منازل الآخرين ، فهؤلاء السافلون لا يكونون في الجنة العالية ، قلنا : إن كون بعضها دون بعض لا يقدح في كونها عالية وفوق السموات ، وإن أريد العلو في الدرجة والشرف فالأمر كذلك ، وإن أريد به كون تلك الأبنية عالية مشرفة فالأمر أيضاً كذلك.
جزء : 30 رقم الصفحة : 630
630
ثم قال : {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} أي ثمارها قريبة التناول يأخذها الرجل كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له ، قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً. وإن أحب أن تدنو إلي فيه دنت ، والقطوف جمع قطف وهو المقطوف.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 630
630
والمعنى يقال لهم ذلك وفيه مسائل :
المسألة الأولى : منهم من قال قوله : {كُلُوا } ليس بأمر إيجاب ولا ندب ، لأن الآخرة ليست دار تكليف ، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون ندباً ، إذا كان الغرض منه تعظيم ذلك الإنسان وإدخال السرور في قلبه.
المسألة الثانية : إنما جمع الخطاب في قوله : كلوا بعد قوله فهو في عيشة ، لقوله : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ} ومن مضمن معنى الجمع.
المسألة الثالثة : قوله : {بِمَآ أَسْلَفْتُمْ} أي قدمتم من أعمالكم الصالحة ، ومعنى الإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالإقراض. ومنه يقال : أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله ، والمعنى بما عملتم من الأعمال الصالحة : والأيام الخالية ، المراد منها أيام الدنيا والخالية الماضية ، ومنه قوله : {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى} و{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } وقال الكلبي : {بِمَآ أَسْلَفْتُمْ} يعني الصوم ، وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب ، دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنه بالصوم ، طاعة لله تعالى.
المسألة الرابعة : قوله : {بِمَآ أَسْلَفْتُمْ} يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم ، وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب ، وأيضاً لو كانت الطاعات فعلاً لله تعالى لكان قد أعطى الإنسان ثوباً لا على فعل فعله الإنسان ، وذلك محال وجوابه معلوم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 630
631
واعلم أنه تعالى بين أنه لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله خجل منها وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار ، فقال : ليتهم عذبوني بالنار ، وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة ، وهذا ينبهك على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني ، وقوله : {وَلَمْ أَدْرِ} أي ولم أدر أي شيء حسابيه ، لأنه حاصل ولا طائل له في ذلك الحساب ، وإنما كله عليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 631
632
ثم قال : {حِسَابِيَهْ * يَـالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} الضمير في إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان الأول : إلى الموتة الأولى ، وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة و{يَـالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} القاطعة عن الحياة. وفيها إشارة إلى الإنتهاء والفراغ ، قال تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ} (الجمعة : 10) ويقال : قضى على فلان ، أي مات فالمعنى يا ليت الموتة التي متها كانت القاطعة لأمري ، فلم أبعث بعدها ، ولم ألق ما وصلت إليه ، قال قتادة : تمني الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ، وشر من الموت ما يطلب له الموت ، قال الشاعر :
وشر من الموت الذي إن لقيته
تمنيت منه الموت والموت أعظم
والثاني : أنه عائد إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته فتمناه عندها. / ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 632
632
(1/4529)

{مَآ أَغْنَى } نفي أو استفهام على وجه الإنكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار ، ونظيره قوله : {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} وقوله : {هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ} في المراد بلسطانيه وجهان : أحدهما : قال ابن عباس : ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا ، وقال مقاتل : ضلت عني حجتي يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك والثاني : ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً ، وقيل معناه : إنني إنما كنت أنازع المحقين بسبب الملك والسلطان ، فالآن ذهب ذلك الملك وبقي الوبال.
واعلم أنه تعالى ذكر سرور السعداء أولاً ، ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب ، كذا ههنا ذكر غم الأشقياء وحزنهم ، ثم ذكر أحوالهم في الغل والقيد وطعام الغسلين ، فأولها أن تقول : خزنة جهنم خذوه فيبتدر إليه مائة ألف ملك ، وتجمع يده إلى عنقه ، فذاك قوله : {فَغُلُّوهُ} وقوله : {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} قال المبرد : أصليته النار إذا أوردته إياها وصليته أيضاً كما يقال : أكرمته وكرمته ، وقوله : {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} معناه لا تصلوه إلى الجحيم ، وهي النار العظمى لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس ، ثم في سلسلة وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل ، وقوله : {ذَرْعُهَا} معنى الذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد ، يقال : ذرع الثوب يذرعه ذرعاً إذا قدره بذراعه ، وقوله : {سَبْعُونَ ذِرَاعًا} فيه قولان : أحدهما : أنه ليس الغرض التقدير بهذا المقدار بل الوصف بالطول ، كما قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة والثاني : أنه مقدر بهذا المقدار ثم قالوا : كل ذراع سبعون باعاً وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة ، وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هو ، وقوله : {فَا سْلُكُوهُ} قال المبرد : يقال سلكه في الطريق ، وفي القيد وغير ذلك وأسلكته معناه أدخلته ولغة القرآن سلكته قال الله تعالى : {مَا سَلَكَكُمْ فِى} وقال : {كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (الشعراء : 200) قال ابن عباس : تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه ، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه ، وقال الكلبي : كما يسلك الخيط في اللؤلؤ ثم يجعل في عنقه سائرها ، وههنا سؤالات :
جزء : 30 رقم الصفحة : 632
السؤال الأول : ما الفائدة في تطويل هذه السلسلة ؟
الجواب : قال سويد بن أبي نجيح : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، وإذا كان الجمع من الناس مقيدين بالسلسة الواحدة كان العذاب على كل واحد منهم بذلك السبب أشد.
/ السؤال الثاني : سلك السلسلة فيهم معقول ، أما سلكهم في السلسلة فما معناه ؟
الجواب : سلكه في السلسلة أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أجزاؤها وهو فيما بينها مزهق مضيق عليه لا يقدر على حركة ، وقالوا الفراء : المعنى ثم اسلكوا فيه السلسلة كما يقال : أدخلت رأسي في القلنسوة وأدخلتها في رأسي ، ويقال : الخاتم لا يدخل في إصبعي ، والإصبع هو الذي يدخل في الخاتم.
السؤال الثالث : لم قال في سلسلة فاسلكوه ، ولم يقل : فاسلكوه في سلسلة ؟
الجواب : المعنى في تقديم السلسلة على السلك هو الذي ذكرناه في تقديم الجحيم على التصلية ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة لأنها أفظع من سائر السلاسل السؤال الرابع : ذكر الأغلال والتصلية بالفاء وذكر السلك في هذه السلسة بلفظ ثم/ فما الفرق ؟
الجواب : ليس المراد من كلمة ثم تراخي المدة بل التفاوت في مراتب العذاب.
واعلم أنه تعالى لما شرح هذا العذاب الشديد ذكر سببه فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 632
632
فالأول إشارة إلى فساد حال القوة العاقلة. والثاني إشارة إلى فساد حال القوة العملية ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فيه قولان : أحدهما : ولا يحض على بذل طعام المسكين والثاني : أن الطعام ههنا سم أقيم مقام الإطعام كما وضع العطاء مقام الإعطاء في قوله :
وبعد عطائك المائة الرتاعا
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف قوله : {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فيه دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين أحدهما : عطفه على الكفر وجعله قرينة له والثاني : ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة ، فكيف بمن يترك الفعل.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة ، وهو المراد من قولنا : إنهم مخاطبون بفروع الشرائع ، وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي وقيل : المراد منه منع الكفار وقولهم : {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه } (يس : 47).
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 632
633
(1/4530)

أي ليس له في الآخرة حميم أي قريب يدفع عنه ويحزن عليه ، لأنهم يتحامون ويفرون منه كقوله : {وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} وكقوله : {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} .
جزء : 30 رقم الصفحة : 633
633
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين ، فقال : لا أدري ما الغسلين. وقال الكلبي : وهو ماء يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو {غِسْلِينٍ} فعلين من الغسل.
المسألة الثانية : الطعام ما هيء للأكل ، فلما هيء الصديد ليأكله أهل النار كان طعاماً لهم ، ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم لهم مقام الطعام فسمى طعاماً ، كما قال :
تحية بينهم ضرب وجيع
والتحية لا تكون ضرباً إلا أنه لما أقيم مقامه جاز أن يسمى به.
جزء : 30 رقم الصفحة : 633
633
ثم إنه تعالى ذكر أن الغسلين أكل من هو ؟
فقال : {لا يَأْكُلُه ا إِلا الْخَـاطِـاُونَ} الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب وهم المشركون ، وقرىء الخاطيون بإبدال الهمزة ياء والخاطون بطرحها ، وعن ابن عباس أنه طعن في هذه القراءة ، وقال ما الخاطيون كلنا نخطو إنما هو الخاطئون ، ما الصابون ، إنما هو الصابئون ، ويجوز أن يجاب عنه بأن المراد الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله.
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على إمكان القيامة ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال.
جزء : 30 رقم الصفحة : 633
634
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : منهم من قال : المراد أقسم ولا صلة ، أو يكون رد الكلام سبق ، ومنهم من قال : لا ههنا نافية للقسم ، كأنه قال : لا أقسم ، على أن هذا القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة : 40) يعني أنه لوضوحه يستغني عن القسم ، والاستقصاء في هذه المسألة سنذكره في أول سورة {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 1).
المسألة الثانية : قوله : {بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} يوم جميع الأشياء على الشمول ، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر ، فشمل الخالق والخلق ، والدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجن ، والنعم الظاهرة والباطنة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 634
634
واعلم أنه تعالى ذكر في سورة (التكوير : 1) : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} مثل هذا الكلام ، والأكثرون هناك على أن المراد منه جبريل عليه السلام ، والأكثرون ههنا على أن المراد منه محمد صلى الله عليه وسلّم ، واحتجوا / على الفرق بأن ههنا لما قال : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ، ولا كاهن ، والقوم ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة ، بل كانوا يصفون محمداً بهذين الوصفين. وأما في سورة : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} لما قال : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ثم قال بعده : {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ} (التكوير : 25) كان المعنى : إنه قول ملك كريم ، لا قول شيطان رجيم ، فصح أن المراد من الرسول الكريم ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفي تلك السورة هو جبريل عليه السلام ، وعند هذا يتوجه السؤال : أن الأمة مجمعة على أن القرآن كلام الله تعالى ، وحينئذ يلزم أن يكون الكلام الواحد كلاماً لله تعالى ، ولجبريل ولمحمد ، وهذا غير معقول والجواب : أنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب ، فهو كلام الله تعالى ، بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ ، وهو الذي رتبه ونظمه ، وهو كلام جبريل عليه السلام ، بمعنى أنه هو الذي أنزله من السموات إلى الأرض ، وهو كلام محمد ، بمعنى أنه هو الذي أظهره للخلق ، ودعا الناس إلى الإيمان به ، وجعله حجة لنبوته.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 634
634
وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور : تؤمنون وتذكرون بالتاء المنقوطة من فوق على الخطاب إلا ابن كثير ، فإنه قرأهما بالياء على المغايبة ، فمن قرأ على الخطاب ، فهو عطف على قوله : {بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} (الحاقة : 38 ، 39) ومن قرأ على المغايبة سلك فيه مسلك الالتفات.
المسألة الثانية : قالوا : لفظة ما في قوله : {قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍا قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} لغو وهي مؤكدة ، وفي قوله : {قَلِيلا} وجهان الأول : قال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله ، والمعنى لا يؤمنون أصلاً ، والعرب يقولون : قلما يأتينا يريدون لا يأتينا الثاني : أنهم قد يؤمنون في قلوبهم ، إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ولا يتمون الاستدلال ، ألا ترى إلى قوله : {إِنَّه فَكَّرَ وَقَدَّرَ} إلا أنه في آخر الأمر قال : {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر : 24).
(1/4531)

المسألة الثالثة : ذكر في نفي الشاعرية {قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ} وفي نفي الكاهنية {مَّا تَذَكَّرُونَ} والسبب فيه كأنه تعالى قال : ليس هذا القرآن قولاً من رجل شاعر ، لأن هذا الوصف مباين لصنوف الشعر كلها إلا أنكم لا تؤمنون ، أي لا تقصدون الإيمان ، فلذلك تعرضون عن التدبر ، ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم : إنه شاعر ، لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر ، ولا / أيضاً بقول كاهن ، لأنه وارد بسبب الشياطين وشتمهم ، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين ، إلا أنكم لا تتذكرون كيفية نظم القرآن ، واشتماله على شتم الشياطين ، فلهذا السبب تقولون : إنه من باب الكهانة.
[بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 634
635
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء : {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} (الشعراء : 192 ـ 194) فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله ، وهو قول جبريل لأنه نزل به ، وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به ، فههنا أيضاً لما قال فيما تقدم : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة : 40) أتبعه بقوله : {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} حتى يزول الإشكال ، وقرأ أبو السمال : تنزيلاً ، أي نزل تنزيلاً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 635
635
قرىء : {وَلَوْ تَقَوَّلَ} على البناء للمفعول ، التقول افتعال القول ، لأن فيه تكلفاً من المفتعل ، وسمي الأقوال المنقولة أقاويل تحقيراً لها ، كقولك الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول ، والمعنى ولو نسب إلينا قولاً لم نقله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 635
635
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية وجوه الأول : معناه لأخذنا بيده ، ثم لضربنا رقبته ، وهذا ذكره على سبيل التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم ، فإنهم لا يمهلونه ، بل يضربون رقبته في الحال ، وإنما خص اليمين بالذكر ، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحقه بالسيف ، وهو أشد على المعمول به ذلك العمل لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ، ومعناه : لأخذنا بيمينه ، كماأن قوله : {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} لقطعنا وتينه وهذا تفسير بين وهو منقول عن الحسن البصري القول الثاني : أن اليمين بمعنى القوة والقدرة وهو قول الفراء والمبرد والزجاج ، وأنشدوا قول الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
والمعنى لأخذ منه اليمين ، أي سلبنا عنه القوة ، والباء على هذا التقدير صلة زائدة ، قال ابن قتيبة : وإنما قام اليمين مقام القوة ، لأن قوة كل شيء في ميامنه والقول الثالث : قال مقاتل : {لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (الصافات : 28) يعني انتقمنا منه بالحق ، واليمين على هذا القول بمعنى الحق ، كقوله تعالى : {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي من قبل الحق.
/ اعلم أن حاصل هذه الوجوه أنه لو نسب إلينا قولاً لم نقله لمنعناه عن ذلك. إما بواسطة إقامة الحجة فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه ، وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه ، فيكون ذلك إبطالاً لدعواه وهدماً لكلامه ، وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك القول ، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب.
المسألة الثانية : الوتين هو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات الحيوان قال أبو زيد : وجمعه الوتن و(يقال) ثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه ، قال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه ، فكان كمن قطع وتينه ، ونظيره قوله علي السلام : "ما زالت أكله خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع ابهرى" والأبهر عرق يتصل بالقلب ، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : هذا أوأن يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 635
636
قال مقاتل والكلبي معناه ليس منكم أحد يحجزنا عن ذلك الفعل ، قال الفراء والزجاج : إنما قال حاجزين في صفة أحد لأن أحداً هنا في معنى الجمع ، لأنه اسم يقع في النفي العام مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومنه قوله تعالى : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } (البقرة : 285) وقوله : {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } (الأحزاب : 32) واعلم أن الخطاب في قوله : {فَمَا مِنكُم} للناس.
واعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن تنزيل من الله الحق بواسطة جبريل على محمد الذي من صفته أنه ليس بشاعر ولا كاهن ، بين بعد ذلك أن القرآن ما هو ؟
فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 636
636
وقد بينا في أول سورة البقرة (2) في قوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ما فيه من البحث. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 636
636

له بسبب حب الدنيا ، فكأنه تعالى قال : أما من اتقى حب الدنيا فهو يتذكر بهذا القرآن وينتفع. وأما من مال إليها فإنه يكذب بهذا القرآن ولا يقربه.
وأقول : للمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله ، وذلك لأنه وصف القرآن بأنه تذكرة للمتقين ، ولم يقل : بأنه إضلال للمكذبين ، بل ذلك الضلال نسبه إليهم ، فقال : وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ، ونظيره قوله في سورة النحل : {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا} (النحل : ) واعلم أن الجواب عنه ما تقدم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 636
637
الضمير في قوله : {إِلَىَّ أَنَّهُ} إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان : الأول : أنه عائد إلى القرآن ، فكأنه قيل : وإن القرآن لحسرة على الكافرين. إما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به ، أو في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين والثاني : قال مقاتل : وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم ، ودل عليه قوله : {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ} (الحاقة : 49).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 637
637
معناه أنه حق يقين ، أي حق لا بطلان فيه ، ويقين لا ريب فيه ، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 637
638
إما شكراً على ما جعلك أهلاً لإيحائه إليك ، وإما تنزيهاً له عن الرضا بأن ينسب إليه الكاذب من الوحي ما هو بريء عنه. وأما تفسير قوله : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فمذكور في أول سورة : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} وفي تفسير قوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ} والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 638
640
(1/4532)

سورة المعارج
أربعون وأربع آيات
جزء : 30 رقم الصفحة : 640
640
/ اعلم أن قوله تعالى : {سَأَلَ} فيه قراءتان منهم من قرأه بالهمزة ، ومنهم من قرأه بغير همزة ، أما الأولون وهم الجمهور فهذه القراءة تحتمل وجوهاً من التفسير : الأول : أن النضر بن الحرث لما قال : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال : 32) فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى قوله : {سَأَلَ سَآا ِلُ } أي دعا داع بعذاب واقع من قولك دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ} (الدخان : 55) قال ابن الأنباري : وعلى هذا القول تقدير الباء الإسقاط ، وتأويل الآية : سأل سائل عذاباً واقعاً ، فأكد بالباء كقوله تعالى : {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم : 25) وقال صاحب الكشاف لما كان {سَأَلَ} معناه ههنا دعا لا جرم عدى تعديته كأنه قال دعا داع بعذاب من الله الثاني : قال الحسن وقتادة لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون : بعضهم لبعض سلوا محمداً لمن هذا العذاب وبمن يقع فأخبره الله عنه بقوله : {سَأَلَ سَآا ِلُا بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قال ابن الأنباري : والتأويل على هذا القول : (سأل سائل) عن عذاب والباء بمعنى عن ، كقوله :
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وقال تعالى : {الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} (الفرقان : 59) وقال صاحب "الكشاف" : {سَأَلَ} على هذا الوجه في تقدير عنى واهتم كأنه قيل : اهتم مهتم بعذاب واقع الثالث : قال بعضهم : هذا السائل هو رسول الله استعجل بعذاب الكافرين ، فبين الله أن هذا العذاب واقع بهم ، فلا دافع له قالوا : والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر الآية : {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا} (المعارج : 5) وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره بالصبر الجميل ، أما القراءة الثانية وهي (سال) بغير همز فلها وجهان : أحدهما : أنه أراد {سَأَلَ} بالهمزة فخفف وقلب قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 640
/ سألت قريش رسول الله فاحشة
ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
(1/4533)

والوجه الثاني : أن يكون ذلك من السيلان ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل والسيل مصدر في معنى السائل ، كالغور بمعنى الغائر ، والمعنى اندفع عليهم واد بعذاب ، وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد قالا : سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع. أما {سَآاـاِلُ } ، فقد اتفقوا على أنه لا يجوز فيه غير الهمز لأنه إن كان من سأل المهموز فهو بالهمز ، وإن لم يكن من المهموز كان بالهمز أيضاً نحو قائل وخائف إلا أنك إن شئت خففت الهمزة فجعلتها بين بين ، وقوله تعالى : {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَـافِرِينَ} فيه وجهان ، وذلك لأنا إن فسرنا قوله : {سَأَلَ} بما ذكرنا من أن النضر طلب العذاب ، كان المعنى أنه طلب طالب عذاباً هو واقع لا محالة سواء طلب أو لم يطلب ، وذلك لأن ذلك العذاب نازل للكافرين في الآخرة واقع بهم لا يدفعه عنهم أحد ، وقد وقع بالنضر في الدنيا لأنه قتل يوم بدر ، وهو المراد من قوله : {لَيْسَ لَه دَافِعٌ} وأما إذا فسرناه بالوجه الثاني وهو أنهم سألوا الرسول عليه السلام ، أن هذا العذاب بمن ينزل فأجاب الله تعالى عنه بأنه واقع للكافرين/ والقول الأول وهو السديد ، وقوله : {مِنَ اللَّهِ} فيه وجهان الأول : أن يكون تقدير الآية بعذاب واقع من الله للكافرين الثاني : أن يكون التقدير ليس له دافع من الله ، أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته ، فإنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله وقوله : {ذِي الْمَعَارِجِ} المعارج جمع معرج وهو المصعد ، ومنه قوله تعالى : {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف : 33) والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً أحدها : قال ابن عباس في رواية الكلبي : {ذِي الْمَعَارِجِ} ، أي ذي السموات ، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها وثانيها : قال قتادة : ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب ، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة وثالثها : أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة ، وعندي فيه وجه رابع : وهو أن هذه السموات كما أنها متفاوتة في الارتفاع والانخفاض والكبر والصغر ، فكذا الأرواح الملكية مختلفة في القوة والضعف والكمال والنقص وكثرة المعارف الإلهية وقوتها وشدة القوة على تدبير هذا العالم وضعف تلك القوة ، ولعل نور إنعام الله وأثر فيض رحمته لا يصل إلى هذا العالم إلا بواسطة تلك الأرواح ، إما على سبيل العادة أولا كذلك على ما قال : {فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا} (الذاريات : 4) ، {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (النازعات : 5) فالمراد بقوله : {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} الإشارة إلى تلك الأرواح. المختلفة التي هي كالمصاعد لارتفاع مراتب الحاجات من هذا العالم إليها وكالمنازل لنزول أثر الرحمة من ذلك العالم إلى ما ههنا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 640
640
وههنا مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض / التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا } (النبأ : 38) وهذا يقتضي أن الروح أعظم (من) الملائكة قدراً ، ثم ههنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج الملائكة أولاً والروح ثانياً ، كما في هذه الآية ، وذكر عند القيام الروح أولاً والملائكة ثانياً ، كما في قوله : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا } وهذا يقتضي كون الروح أولاً في درجة النزول وآخراً في درجة الصعود ، وعند هذا قال بعض المكاشفين : إن الروح نور عظيم هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ، ومنه تتشعب أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح ، وبين الطرفين معارج مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأنوار القدسية ، ولا يعلم كميتها إلا الله ، وأما ظاهر قول المتكلمين وهو أن الروح هو جبريل عليه السلام فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا } (النبأ : 38).
(1/4534)

المسألة الثانية : احتج القائلون بأن الله في مكان ، إما في العرش أو فوقه بهذه الآية من وجهين : الأول : أن الآية دلت على أن الله تعالى موصوف بأنه ذو المعارج وهو إنما يكون كذلك لو كان في جهة فوق والثاني : قوله : {تَعْرُجُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} فبين أن عروج الملائكة وصعودهم إليه ، وذلك يقتضي كونه تعالى في جهة فوق والجواب : لما دلت الدلائل على امتناع كونه في المكان والجهة ثبت أنه لا بد من التأويل ، فأما وصف الله بأنه ذو المعارج فقد ذكرنا الوجوه فيه ، وأما حرف (إلى) في قوله : {تَعْرُجُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} فليس المراد منه المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله : {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامْرُ كُلُّه } (هود : 123) المراد الانتهاء إلى موضع العز والكرامة كقوله : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} (الصافات : 99) ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها.
جزء : 30 رقم الصفحة : 640
المسألة الثالثة : الأكثرون على أن قوله : {فِى يَوْمٍ} من صلة قوله {تَعْرُجُ} ، أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم ، وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله : {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (المعارج : 1) وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وعلى التقدير الأول ، فذلك اليوم ، إما أن يكون في الآخرة أو في الدنيا ، وعلى تقدير أن يكون في الآخرة ، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً ، وإما أن يكون مقدراً فهذه هي الوجوه التي تحملها هذه الآية ، ونحن نذكر تفصيلها القول الأول : هو أن معنى الآية أن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، وهذا قول الحسن : قال وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط ، إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ولفنيت الجنة والنار عند تلك الغاية وهذا غير جائز ، بل المراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا. ثم بعد ذلك يستقر أهل النار في دركات النيران نعوذ بالله منها. واعلم أن هذا الطول إنما يكون في حق الكافر ، أما في حق المؤمن فلا ، والدليل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى : {أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} (الفرقان : 24) واتفقوا على (أن) ذلك (المقيل والمستقر) هو / الجنة وأما لخبر فما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما طول هذا اليوم ؟
فقال : "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا" ومن الناس من قال : إن ذلك الموقف وإن طال فهو يكون سبباً لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة ، ويكون سبباً لمزيد الحزن والغم لأهل النار الجواب : عنه أن الآخرة دار جزاء فلا بد من أن يعجل للمثابين ثوابهم ، ودار الثواب هي الجنة لا الموقف ، فإذن لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار القول الثاني : هو أن هذه المدة واقعة في الآخرة ، لكن على سبيل التقدير لا على سبيل التحقق ، والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، وأيضاً الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة قليلة ، وهذا قول وهب وجماعة من المفسرين القول الثالث : وهو قول أبي مسلم : إن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء ، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم ، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة ، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً ، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي القول الرابع : تقدير الآية : سأل سائل بعذاب واقع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار ، ويحتمل أن يكون المراد تقدير مدته ، وعلى هذا فليس المراد تقدير العذاب بهذا المقدار ، بل المراد التنبيه على طول مدة العذاب ، ويحتمل أيضاً أن العذاب الذي سأله ذلك السائل يكون مقدراً بهذه المدة ، ثم إنه تعالى ينقله إلى نوع آخر من العذاب بعد ذلك ، فإن قيل : روى ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية ، وعن قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 640
(1/4535)

{فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه ا أَلْفَ سَنَةٍ} (السجدة : 5) فقال : أيام سماها الله تعالى هو أعلم بها كيف تكون ، وأكره أن أقول فيها مالا أعلم ، فإن قيل : فما قولكم في التوفيق بين هاتين الآيتين ؟
قلنا : قال وهب في الجواب عن هذا ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة ، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى ، فقوله تعالى : {فِى يَوْمٍ} يريد من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار ألف سنة لو صعدوا إلى أعالي العرش.
جزء : 30 رقم الصفحة : 640
641
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا متعلق بسأل سائل ، لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم / فأمر بالصبر عليه ، وكذلك من يسأل عن العذاب لمن هو فإنما يسأل على طريق التعنت من كفار مكة ، ومن قرأ : {سَأَلَ سَآاـاِلُ } فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر فقد جاء وقت الانتقام.
المسألة الثانية : قال الكلبي : هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال.
جزء : 30 رقم الصفحة : 641
642
الضمير في {يَرَوْنَه } إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان الأول : أنه عائد إلى العذاب الواقع والثاني : أنه عائد إلى : {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج : 4) أي يستبعدونه على جهة الإحالة نحن {يَكُونَ قَرِيبًا} هيناً في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر. فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان ، وبالقريب القريب منه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 642
642
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : {يَوْمَ تَكُونُ} منصوب بماذا ؟
فيه وجوه أحدها : بقريباً ، والتقدير : ونراه قريباً ، يوم تكون السماء كالمهل ، أي يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم وثانيها : التقدير : سأل سائل بعذاب واقع يوم تكون السماء كالمهل والثالث : التقدير يوم تكون السماء كالمهل كان كذا وكذا والرابع : أن يكون بدلاً من يوم ، والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم تكون السماء كالمهل.
المسألة الثانية : أنه ذكر لذلك اليوم صفات :
الصفة الأولى : أن السماء تكون فيه كالمهل وذكرنا تفسير المهل عند قوله : {بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} قال ابن عباس : كدردى الزيت ، وروى عنه عطاء : كعكر القطران ، وقال الحسن : مثل الفضة إذا أذيبت ، وهو قول ابن مسعود.
الصفة الثانية : أن تكون الجبال فيه كالعهن ، ومعنى العهن في اللغة : الصوف المصبوغ ألواناً ، وإنما وقع التشبيه به ، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
الصفة الثالثة : قوله : {وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس الحميم القريب الذي يعصب له ، وعدم السؤال إنما كان لاشتغال كل أحد بنفسه ، وهو كقوله : {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} (الحج : 2) وقوله : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} إلى قوله {لِكُلِّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس : 37) ثم في الآية وجوه أحدها : أن يكون / التقدير : لا يسأل حميم عن حميمه فحذف الجار وأوصل الفعل الثاني : لا يسأل حميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه ، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام الثالث : لا يسأل حميم حميماً شفاعة ، ولا يسأل حميم حميماً إحساناً إليه ولا رفقاً به.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير : {وَلا يَسْـاَلُ} بضم الياء ، والمعنى لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته ، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه ، وهذا أيضاً على حذف الجار قال الفراء : أي لا يقال لحميم أين حميمك ولست أحب هذه القراءة لأنها مخالفة لما أجمع عليه القراء.
جزء : 30 رقم الصفحة : 642
643
(1/4536)

قوله تعالى : {يُبَصَّرُونَهُمْ } يقال : بصرت به أبصر ، قال تعالى : {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه } (طه : 96) ويقال : بصرت زيد بكذا فإذا حذفت الجار قلت : بصرني زيد كذا فإذا أثبت الفعل للمفعول به وقد حذفت الجار قلت : بصرني زيداً ، فهذا هو معنى يبصرونهم ، وإنما جمع فقيل : يبصرونهم لأن الحميم وإن كان مفرداً في اللفظ فالمراد به الكثرة والجميع والدليل عليه قوله تعالى : {فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ} (الشعراء : 100) ومعنى يبصرونهم يعرفونهم ، أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه ، وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه ، فإن قيل : ما موضع يبصرونهم ؟
قلنا : فيه وجهان الأول : أنه متعلق بما قبله كأنه لما قال : {وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} (المعارج : 10) قيل : لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم ولكنهم لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم الثاني : أنه متعلق بما بعده ، والمعنى أن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه لكل ما يملكه ، فإن الإنسان إذا كان في البلاد الشديد ثم رآه عدوه على تلك الحالة كان ذلك في نهاية الشدة عليه.
الصفة الرابعة : قوله : {يُبَصَّرُونَهُم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِـاـاِذا بِبَنِيهِ * وَصَـاحِبَتِه وَأَخِيهِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المجرم هو الكافر ، وقيل : يتناول كل مذنب.
المسألة الثانية : قرىء {يَوْمَـاـاِذٍ} بالجر والفتح على البناء لسبب الإضافة إلى غير متمكن ، وقرىء أيضاً : {مِنْ عَذَابِ يَوْمِـاـاِذ } بتنوين {عَذَابِ} ونصب {يَوْمَـاـاِذٍ} وانتصابه بعذاب لأنه في معنى تعذيب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 643
642
فصيلة الرجل ، أقاربه الأقربون الذين فصل عنهم وينتهي إليهم ، لأن المراد من الفصيلة المفصولة ، لأن الولد يكون منفصلاً من الأبوين. قال عليه السلام : "فاطمة بضعة مني" فلما كان هو مفصولاً منهما ، كانا أيضاً مفصولين / منه ، فسميا فصيلة لهذا السبب ، وكان يقال للعباس : فصيلة النبي صلى الله عليه وسلّم ، لأن العم قائم مقام الأب ، وأما قوله : فالمعنى تضمه انتماء إليها في النسب أو تمسكاً بها في النوائب.
وقوله : {ثُمَّ يُنجِيهِ} فيه وجهان الأول : أنه معطوف على {يَفْتَدِي} (المعارج : 11) والمعنى : يود المجرم لو يفتدي بهذه الأشياء ثم ينجيه والثاني : أنه متعلق بقوله : {وَمَن فِى الارْضِ} والتقدير : يود لو يفتدي بمن في الأرض ثم ينجيه ، و{ثُمَّ} لاستبعاد الإنجاء ، يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ، ثم ينجيه ذلك ، وهيهات أن ينجيه.
[بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 642
644
{كَلا} ردع للمجرم عن كونه بحيث يود الافتداء ببنيه ، وعلى أنه لا ينفعه ذلك الافتداء ، ولا ينجيه من العذاب ، ثم قال : {أَنَّهَآ} وفيه وجهان الأول : أن هذا الضمير للنار ، ولم يجر لها ذكر إلا أن ذكر العذاب دل عليها والثاني : يجوز أن يكون ضمير القصة ، ولظى من أسماء النار. قال الليث : اللظى ، اللهب الخالص ، يقال : لظت النار تلظى لظى ، وتلظت تلظياً ، ومنه قوله : {نَارًا تَلَظَّى } ولظى علم للنار منقول من اللظى ، وهو معرفة لا ينصرف ، فلذلك لم ينون ، وقوله : {نَزَّاعَةً} مرفوعة ، وفي سبب هذا الارتفاع وجوه الأول : أن تجعل الهاء في أنها عماد ، أو تجعل لظى اسم إن ، ونزاعة خبر إن ، كأنه قيل : إن لظى نزاعة والثاني : أن تجعل الهاء ضمير القصة ، ولظى مبتدأ ، ونزاعة خبراً ، وتجعل الجملة خبراً عن ضمير القصة ، والتقدير : إن القصة لظى نزاعة للشوى والثالث : أن ترتفع على الذم ، والتقدير : إنها لظى وهي نزاعة للشوى ، وهذا قول الأخفش والفراء والزجاج. وأما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه أحدها : قال الزجاج : إنها حال مؤكدة ، كما قال : {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} وكما يقول : أنا زيد معروفاً ، اعترض أبو علي الفارسي على هذا وقال : حمله على الحال بعيد ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال ، فإن قلت في قوله : {لَظَى } معنى التلظي والتلهب ، فهذا لا يستقيم ، لأن لظى اسم علم لماهية مخصوصة ، والماهية لا يمكن تقييدها بالأحوال ، إنما الذي يمكن تقييده بالأحوال هو الأفعال ، فلا يمكن أن يقال : رجلاً حال كونه عالماً ، ويمكن أن يقال : رأيت رجلاً حال كونه عالماً وثانيها : أن تكون لظى اسماً لنار تتلظى تلظياً شديداً ، فيكون هذا الفعل ناصباً ، لقوله : {نَزَّاعَةً} وثالثها : أن تكون منصوبة على الاختصاص ، والتقدير : إنها لظى أعنيها نزاعة للشوى ، ولم تمنع.
المسألة الثالثة : الأطراف ، وهي اليدان والرجلان ، ويقال للرامي : إذا لم يصب المقتل أشوى ، أي أصاب الشوى ، والشوى أيضاً جلد الرأس ، واحدتها شواة ومنه قول الأعشى :
/ قالت قتيلة ماله
قد جللت شيباً شواته
(1/4537)

هذا قول أهل اللغة ، قال مقاتل : تنزع النار الهامة والأطراف فلا تترك لحماً ولا جلداً إلا أحرقته ، وقال سعيد بن جبير : العصب والعقب ولحم الساقين واليدين ، وقال ثابت البناني : لمكارم وجه بني آدم. واعلم أن النار إذا أفنت هذه الأعضاء ، فالله تعالى يعيدها مرة أخرى ، كما قال : {نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } .
[بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 644
644
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر ، فذكروا وجوهاً أحدها : أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل : سل الأرض من أشق أنهارك ، وغرس أشجارك ؟
فإن لم تجبك جؤاراً ، أجابتك اعتباراً فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم ، كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم وثانيها : أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحاً : إلي يا كافر ، إلي يا منافق ، ثم تلتقطهم التقاط الحب وثالثها : المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف ورابعها : تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله أي أهلكك ، وقوله : {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان {وَجُمِعَ} المال {فَأَوْعَى } أي جعله في وعاء وكنزه ، ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله : {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله وطاعته ، وقوله : {وَجَمَعَ فَأَوْعَى } إشارة إلى حب الدنيا ، فجمع إشارة إلى الحرص ، وأوعى إشارة إلى الأمل ، ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه.
[بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 644
645
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : المراد بالإنسان ههنا الكافر ، وقال آخرون : بل هو على عمومه ، بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين.
المسألة الثانية : يقال : هلع الرجل يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هالع وهلوع ، وهو شدة الحرص وقلة الصبر ، يقال : جاع فهلع ، وقال الفراء : الهلوع الضجور ، وقال المبرد : الهلع الضجر ، يقال : نعوذ بالله من الهلع عند منازلة الأقران ، وعن أحمد بن يحيى ، قال لي محمد بن عبدالله بن طاهر : ما الهلع ؟
فقلت : قد فسره الله ، ولا تفسير أبين من تفسيره ، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس.
المسألة الثالثة : قال القاضي قوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا} نظير لقوله : {خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف ، والدليل عليه أن الله تعالى ذمه عليه والله تعالى لا يذم فعله ، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة / المذمومة ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها. واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين : أحدهما : الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع والثاني : تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية ، أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق الله تعالى ، لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه ، ومن خلق شجاعاً بطلاً لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية ، أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار.
[بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 645
645
المراد من الشر والخير الفقر والغنى أو المرض والصحة ، فالمعنى أنه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزع والشكاية ، وإذا صار غنياً أو صحيحاً أخذ في منع المعروف وشح بماله ولم يلتفت إلى الناس ، فإن قيل : حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضار طالب للراحة ، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله عليه ؟
قلنا : إنما ذمه عليه لأنه قاصر النظر على الأحوال الجسمانية العاجلة ، وكان من الواجب عليه أن يكون مشغولاً بأحوال الآخرة ، فإذا وقع في مرض أو فقر وعلم أنه فعل الله تعالى كان راضياً به ، لعلمه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية ، واعلم أنه استثنى من هذه الحالة المذكورة المذمومة من كان موصوفاً بثمانية أشياء :
(22)
جزء : 30 رقم الصفحة : 645
645
(1/4538)

أولها ـ قوله : {إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَآاـاِمُونَ} فإن قيل : قال : {عَلَى صَلاتِهِمْ دَآاـاِمُونَ} ثم : {عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المعارج : 34) قلنا : معنى دوامهم عليها أن لا يتركوها في شيء من الأوقات ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه ، وهذا الاهتمام إنما يحصل تارة بأمور سابقة على الصلاة وتارة بأمور لاحقة بها ، وتارة بأمور متراخية عنها ، أما الأمور السابقة فهو أن يكون قبل دخول وقتها متعلق القلب بدخول أوقاتها ، ومتعلق بالوضوء ، وستر العورة وطلب القبلة ، ووجدان الثوب والمكان الطاهرين ، والإتيان بالصلاة في الجماعة ، وفي المساجد المباركة ، وأن يجتهد قبل الدخول في الصلاة في تفريغ القلب عن الوساوس والإلتفات إلى ما سوى الله تعالى ، وأن يبالغ في الاحتراز عن الرياء والسمعة ، وأما الأمور المقارنة فهو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، وأن يكون حاضر القلب عند القراءة ، فاهماً للأذكار ، مطلعاً على حكم الصلاة ، وأما الأمور المتراخية فهي أن لا يشتغل بعد إقامة الصلاة باللغو واللهو واللعب ، وأن يحترز كل / الاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي.
وثانيها قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 645
645
اختلفوا في الحق المعلوم : فقال ابن عباس والحسن وابن سيرين ، إنه الزكاة المفروضة ، قال ابن عباس : من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق قالوا : والدليل على أن المراد به الزكاة المفروضة وجهان : الأول : أن الحق المعلوم المقدر هو الزكاة ، أما الصدقة فهي غير مقدرة الثاني : وهو أنه تعالى ذكر هذا على سبيل الاستثناء ممن ذمه ، فدل على أن الذي لا يعطى هذا الحق يكون مذموماً ، ولا حق على هذه الصفة إلا الزكاة ، وقال آخرون : هذا الحق سوى الزكاة ، وهو يكون على طريق الندب والاستحباب ، وهذا قول مجاهد وعطاء والنخعي. وقوله : {لِّلسَّآاـاِلِ} يعني الذي يسأل {وَالْمَحْرُومِ} الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم.
وثالثها قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 645
645
أي يؤمنون بالبعث والحشر.
ورابعها قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 645
646
والإشفاق يكون من أمرين ، إما الخوف من ترك الواجبات أو الخوف من الإقدام على المحظورات ، وهذا كقوله : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون : 60) وكقوله سبحانه : {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الحج : 35) ومن يدوم به الخوف والإشفاق فيما كلف يكون حذراً من التقصير حريصاً على القيام بما كلف به من علم وعمل.
ثم إنه تعالى أكد ذلك الخوف فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 646
646
والمراد أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ، واحترز عن المحظورات بالكلية ، بل يجوز أن يكون قد وقع منه تقصير في شيء من ذلك ، فلا جرم يكون خائفاً أبد.
وخامسها قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 646
646
/ وقد مر تفسيره في سورة المؤمنين.
وسادسها قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 646
646
وقد تقدم تفسيره أيضاً.
وسابعها قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 646
646
قرىء بشهادتهم وبشهاداتهم ، قال الواحدي : والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإن أضيف لجمع كقوله لصوت الحمير. ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات ، وكثرت ضروبها فحسن الجمع من جهة الاختلاف ، وأكثر المفسرين قالوا : يعني الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق ، ولا يكتمونها وهذه الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وفي تركها إبطالها وتضييعها ، وروى عطاء عن ابن عباس قال : يريد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له.
وثامنها قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 646
647
وقد تقدم تفسيره.
ثم وعد هؤلاء وقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 647
647
ثم ذكر بعده ما يتعلق بالكفار فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 647
647
المهطع المسرع وقيل : الماد عنقه ، وأنشدوا فيه :
بمكة أهلها ولقد أراهم
بمكة مهطعين إلى السماع
والوجهان متقاربان ، روى أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلّم حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون ويستهزئون بكلامه ، ويقولون : إذا دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد : فلندخلنها قبلهم ، فنزلت هذه الآية فقوله : {مُهْطِعِينَ} أي مسرعين نحوك مادين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ، وقال أبو مسلم : ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون ، فهم الذين كانوا عنده وإسراعهم المذكور هو الإسراع في الكفر كقوله : {لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} . ثم قال :
(1/4539)

جزء : 30 رقم الصفحة : 647
647
وذلك لأنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين ، ومعنى : {عِزِينَ} جماعات في تفرقة واحدها عزة ، وهي العصبة من الناس ، قال الأزهري : وأصلها من قولهم : عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزواً إذا انتهى إليهم ، والاسم العزوة وكان العزة / كل جماعة اعتزوها إلى أمر واحد ، واعلم أن هذا من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضاً من المحذوف وأصلها عزوة ، والكلام في هذه كالكلام في {عِضِينَ} (الحجر : 91) وقد تقدم ، وقيل : كان المستهزئون خمسة أرهط. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 647
648
والنعيم ضد البؤس ، والمعنى أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون.
جزء : 30 رقم الصفحة : 648
649
ثم قال : {كَلا} وهو ردع لهم عن ذلك الطمع الفاسد.
ثم قال : {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الغرض من هذا الاستدلال على صحة البعث ، كأنه قال : لما قدرت على أن أخلقكم من النطفة ، وجب أن أكون قادراً على بعثكم.
المسألة الثانية : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها : أنه لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث ، فكأنه قيل لهم كلا إنكم منكرون للبعث ، فمن أين تطمعون في دخول الجنة وثانيها : أن المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين ، فقال تعالى : هؤلاء المستهزئون مخلوقون مما خلقوا ، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار وثالثها : أنهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة ، فلو لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة ، فكيف يليق بالحكيم إدخالهم الجنة. ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 649
649
يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه أو مشرق كل كوكب ومغربه ، أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبي وبالمغرب موته أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} وهو مفسر في قوله : {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} وقوله : {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا } مفسر في آخر سورة والطور ، واختلفوا في أن ما وصف الله نفسه بالقدرة عليه من ذلك هل خرج إلى الفعل أم لا ؟
فقال بعضهم : بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين / فإن حالتهم في نصرة الرسول مشهورة ، وقال آخرون بل بدل الله كفر بعضهم بالإيمان ، وقال بعضهم : لم يقع هذا التبديل ، فإنهم أو أكثرهم بقوا على جملة كفرهم إلى أن ماتوا ، وإنما كان يصح وقوع التبديل بهم لو أهلكوا ، لأن مراده تعالى بقوله : {إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ} بطريق الإهلاك ، فإذا لم يحصل ذلك فكيف يحكم بأن ذلك قد وقع ، وإنما هدد تعالى القوم بذلك لكي يؤمنوا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 649
649
ثم ذكر تعالى ذلك اليوم الذي تقدم ذكره فقال : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ سِرَاعًا} وهو كقوله : {فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} .
قوله تعالى : {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌا ذَالِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} .
اعلم أن في {نَصَبٌ} ثلاث قراءات أحدها : وهي قراءة الجمهور {نَصَبٌ} بفتح النون والنصب كل شيء نصب والمعنى كأنهم إلى علم لهم يستبقون والقراءة الثانية : {نَصَبٌ} بضم النون وسكون الصاد وفيه وجهان أحدهما : النصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف وثانيهما : أن يكون جمع نصب كشقف جمع شقف والقراءة الثالثة : {نَصَبٌ} بضم النون والصاد ، وفيه وجهان أحدهما : أن يكون النصب والنصب كلاهما يكونان جمع نصب كأسد وأسد جمع أسد وثانيهما : أن يكون المراد من النصب الأنصاب وهي الأشياء التي تنصب فتعبد من دون الله كقوله : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وقوله : {يُوفِضُونَ} يسرعون ، ومعنى الآية على هذا الوجه أنهم يوم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصارهم ، وبقية السورة معلومة ، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 649
650
(1/4540)

سورة نوح عليه السلام
عشرون وثمان آيات مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 650
650
/ {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} في قوله : {ءَانٍ} وجهان أحدهما : أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل ، والمعنى أرسلناه بأن قلنا له : أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإندار الثاني قال الزجاج : يجوز أن تكون مفسرة والتقدير : إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أي أنذر قومك وقرأ ابن مسعود ، {أَنذِرْ} بغير أن على إرادة القول.
ثم قال : {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال مقاتل يعني الغرق بالطوفان.
واعلم أن الله تعالى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 650
651
{أَنِ اعْبُدُوا } هو نظير {أَنْ أَنذِرْ} (نوح : 1) في الوجهين ، ثم إنه أمر القوم بثلاثة أشياء بعبادة الله وتقواه وطاعة نفسه ، فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح ، والأمر بتقواه يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات ، وقوله : {وَأَطِيعُونِ} يتناول أمرهم بطاعته وجميع المأمورات والمنهيات ، وهذا وإن كان داخلاً في الأمر بعبادة الله وتقواه ، إلا أنه خصه بالذكر تأكيداً في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره ، ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين أحدهما : أن يزيل مضار الآخرة عنهم ، وهو قوله : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} . الثاني : يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان ، وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان. وههنا سؤالات :
/ السؤال الأول : ما فائدة {مِّنَ} في قوله : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} ؟
والجواب من وجوه أحدها : أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني : أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به ، فلو قال : يغفر لكم ذنوبكم ، لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم ، وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع ، فله أن يقول : لا أطالبك بمجموع ذنوبك ، ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط ، أما لما قال : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم ، وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضاً على كل فرد من أفراد المجموع الثالث : أن قوله : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفوراً ، أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفوراً ، فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض.
السؤال الثاني : كيف قال : {وَيُؤَخِّرْكُمْ} مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ، وهل هذا إلا تناقض ؟
الجواب : قضى الله مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى وقت سماه الله وجعله غاية الطول في العمر ، وهو تمام الألف ، ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول ، لا بد من الموت.
جزء : 30 رقم الصفحة : 651
السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجواب : الغرض الزجر عن حب الدنيا ، وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها ، يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت. [بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 651
651
اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره ، وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد ، فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سبباً لحصول الهداية ، والميل والرغبة ، وفي حق الثاني سبباً لمزيد العتو والتكبر ، ونهاية النفرة ، وليس لأحد أن يقول : إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف ، فإن هذا مكابرة في المحسوس ، فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة ، ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض ، وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة ، فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره ، فإن قيل : هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره ، لكن حصول / العصيان عند النفرة يكون باختياره ، فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع ، قلنا : إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل ، وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة ، فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع ، فبأن يصير الفعل ممتنعاً أولى ، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 651
652
(1/4541)

ثم قال تعالى : {وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} .
اعلم أن نوحاً عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم ، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة ، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة ، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} (نوح : 4) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال : {وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء :
أولها : قوله : {جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ} والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة.
وثانيها : قوله : {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي تغطوا بها ، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه ، ولا أن يروا وجهه. وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا ، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك ، صار المانع من السماع أقوى.
وثالثها : قوله : {وَأَصَرُّوا } والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم ، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق.
ورابعها : قوله : {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} أي عظيماً بالغاً إلى النهاية القصوى.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 652
653
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة ، فبدأ بالمناصحة في السر ، فعاملوه بالأمور الأربعة ، ثم ثنى بالمجاهرة ، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار ، وكلمة {ثُمَّ} دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان ، أو بحسب الرتبة ، لأن الجهار أغلظ / من الإسرار ، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده ، فإن قيل : بم انتصب ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر ، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها : أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها : أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً ، أي مجاهراً به ورابعها : أن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً.
[بم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 653
653
قال مقاتل : إن قوم نوح لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فرجعوا فيه إلى نوح ، فقال نوح : استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه.
واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات ، ويدل عليه وجوه أحدها : أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} (مريم : 90 ، 91) فلما كان الكفر سبباً لخراب العالم ، وجب أن يكون الإيمان سبباً لعمارة العالم وثانيها : الآيات منها هذه الآية ومنها قوله : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ا ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ} (الأعراف : 96) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ} (المائدة : 66) {وَأَلَّوِ اسْتَقَـامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا} (الجن : 16) {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق : 2 ـ 3) {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } (طه : 132) وثالثها : أنه تعالى قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها : أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء. المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة ، ونوءه يكون عزيزاً شبه عمر إلا استغفاراً بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء ، وعن بكر بن عبدالله : أن أكثر الناس ذنوباً أقلهم استغفاراً ، وأكثرهم استغفاراً أقلهم ذنوباً ، وعن الحسن : أن رجلاً شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا له الآية ، وههنا سؤالات :
جزء : 30 رقم الصفحة : 653
(1/4542)

الأول : أن نوحاً عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة ، فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار ؟
الجواب : أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقاً فلم تأمرنا بتركه ، وإن كان باطلاً فكيف يقبلنا بعد أن / عصيناه ، فقال نوح عليه السلام : إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب ، فإنه سبحانه كان غفاراً.
السؤال الثاني : لم قال : {إِنَّه كَانَ غَفَّارًا} ولم يقل : إنه غفار ؟
قلنا المراد : إنه كان غفاراً في حق كل من استغفروه كأنه يقول : لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن ، بل هو أبداً هكذا كان ، فكأن هذا هو حرفته وصنعته.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 653
653
واعلم أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة ، ولذلك قال تعالى : {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } فلا جرم أعلمهم الله تعالى ههنا أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا.
والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة أولها : قوله : {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} وفي السماء وجوه : أحدها : (أن) المطر منها ينزل إلى السحاب وثانيها : أن يراد بالسماء السحاب وثالثها : أن يراد بالسماء المطر من قوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم
(رعيناه وإن كانوا غضابا)
والمدرار الكثير الدرور ، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث ، كقولهم : رجل أو امرأة معطار ومتفال وثانيها : قوله : {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ} وهذا لا يختص بنوع واحد من المال بل يعم الكل وثالثها : قوله : {وَبَنِينَ} ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه. ورابعها : قوله : {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ} أي بساتين وخامسها : قوله : {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـارًا} . ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 653
654
وفيه قولان : الأول : أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ومنه قول الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والوقار العظمة والتوقير التعظيم ، ومنه قوله تعالى : {وَتُوَقِّرُوهُ} بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة. وهذا القول عندي غير جائز ، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة ، فلو قلنا : إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحاً للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية / المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن ، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتاً وإثباته نفياً بهذا الطريق الوجه الثاني : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المعنى : مالكم لا تأملون لله توقيراً أي تعظيماً ، والمعنى مالكم لا تكونوا على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم و{لِلَّهِ} بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة للوقار.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 654
655
في موضع الحال كأنه قال : مالكم لا تؤمنون بالله ، والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} أي تارات خلقكم أولاً تراباً ، ثم خلقكم نطفاً ، ثم خلقكم علقاً ، ثم خلقكم مضغاً ، ثم خلقكم عظاماً ولحماً ، ثم أنشأكم خلقاً آخر ، وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم الله تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به ، فكأنه قال لهم : إنكم إذا وقرتم نوحاً وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل الله ، فما لكم لا ترجون وقاراً وتأتون به لأجل الله ولأجل أمره وطاعته ، فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل الله ، فإنه لا بد وأن يرجوا منه خيراً ووجه رابع : وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر ، فكأنه قال : {مَالَكُمْ} وعند هذا تم الكلام ، ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (الجن : 13) أي لا ترجون لله ثباتاً وبقاء ، فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه ، ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره ، والمراد من قوله : {تَرْجُونَ} أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له.
واعلم أنه لما أمر في هذه الآية بتعظيم الله استدل على التوحيد بوجوه من الدلائل :
الأول : قوله : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} وفيه وجهان : الأول : قال الليث : الطورة التارة يعني حالاً بعد حال كما ذكرنا أنه كان نطفة ، ثم علقة إلى آخر التارات الثاني : قال ابن الأنباري : الطور الحال ، والمعنى خلقكم أصنافاً مختلفين لا يشبه بعضكم بعضاً ، ولما ذكر هذا الدليل من الأنفس على التوحيد ، أتبعه بذكر دليل التوحيد من الآفاق على العادة المعهودة في كل القرآن..
الدليل الثاني : على التوحيد قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 655
655
(1/4543)

واعلم أنه تعالى تارة يبدأ بدلائل الأنفس ، وبعدها بدلائل الآفاق كما في هذه الآية ، وذلك لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه ، فلا جرم بدأ بالأقرب ، وتارة يبدأ بدلائل الآفاق ، ثم بدلائل الأنفس إما لأن دلائل الآفاق أبهر وأعظم ، فوقعت البداية بها لهذا السبب ، أو لأجل / أن دلائل الأنفس حاضرة ، لا حاجة بالعاقل إلى التأمل فيها ، إنما الذي يحتاج إلى التأمل فيه دلائل الآفاق ، لأن الشبه فيها أكثر ، فلا جرم تقع البداية بها ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : قوله : {سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا} يقتضي كون بعضها منطبقاً على البعض ، وهذا يقتضي أن لا يكون بينها فرج ، فالملائكة كيف يسكنون فيها ؟
الجواب : الملائكة أرواح فلعل المراد من كونها طباقاً كونها متوازية لا أنها متماسة.
السؤال الثاني : كيف قال : {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا ؟
والجواب : هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا.
السؤال الثالث : السراج ضوءه عرضي وضوء القمر عرضي متبدل فتشبيه القمر بالسراج أولى من تشبيه الشمس به الجواب : الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس لما كانت سبباً لزوال ظل الأرض كانت شبيهة بالسراج ، وأيضاً فالسراج له ضوء والضوء أقوى من النور فجعل الأضعف للقمر والأقوى للشمس ، ومنه قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس : 5).
الدليل الثالث : على التوحيد قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 655
655
واعلم أنه تعالى رجع ههنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله : {خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح : 14) فإنه بين أنه تعالى خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى ، أما قوله : {أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجهان أحدهما : معنى قوله : {أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ} أي أنبت أباكم من الأرض كما قال : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59). والثاني : أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض.
المسألة الثانية : كان ينبغي أن يقال : أنبتكم إنباتاً إلا أنه لم يقل ذلك بل قال : أنبتكم نباتاً ، والتقدير أنبتكم فنبتم نباتاً ، وفيه دقيقة لطيفة : وهي أنه لو قال : أنبتكم إنباتاً كان المعنى أنبتكم إنباتاً عجيباً غريباً ، ولما قال : أنبتكم نباتاً كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً ، وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا ، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا / بواسطة إخبار الله تعالى ، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع ، أما لما قال : {وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا} على معنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً كاملاً كان ذلك وصفاً للنبات بكونه عجيباً كاملاً ، وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس ، فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى ، فكان هذا موافقاً لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف ، أما قوله : {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء كان قادراً على الإعادة ، وقوله : {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} أكده بالمصدر كأنه قال : يخرجكم حقاً لا محالة.
الدليل الرابع : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 655
658
أي طرقاً واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم.
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 658
659
فالأول قوله : {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى} وذلك لأنه قال في أول السورة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح : 3) فكأنه قال : قلت لهم أطيعون فهم عصوني.
الثاني قوله : {وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُه وَوَلَدُهُ ا إِلا خَسَارًا} وفيه مسألتان :
(1/4544)

المسألة الأولى : ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر ، وقوله : {مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُه وَوَلَدُهُ ا إِلا خَسَارًا} يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سبباً للخسارة في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار والأمر كذلك في الحقيقة لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فإذا صارت المنافع الدنيوية أسباباً للخسار في الآخرة صار ذلك جارياً مجرى اللقمة الواحدة من الحلو إذا كانت مسمومة سم الوقت ، واستدل بهذه الآية من قال : إنه ليس لله على الكافر نعمة لأن هذه النعم استدراجات ووسائل إلى العذاب الأبدي فكانت كالعدم ، ولهذا المعنى قال نوح عليه السلام في هذه الآية : {لَّمْ يَزِدْهُ مَالُه وَوَلَدُهُ ا إِلا خَسَارًا} .
المسألة الثانية : قرىء {وَوَلَدُهُ} بضم الواو واعلم أن الولد بالضم لغة في الولد ، ويجوز أن يكون جمعاً إما جمع ولد كالفلك ، وههنا يجوز أن يكون واحداً وجمعاً.
/ النوع الثالث : من قبائح أفعالهم قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
659
فيه مسائل :
المسألة الأولى : {وَمَكَرُوا } معطوف على {مَن لَّمْ يَزِدْهُ} (نوح : 21) لأن المتبوعين هم الذين مكروا وقالوا للأتباع : {لا تَذَرُنَّ} ، وجمع الضمير وهو راجع إلى {مِّنَ} ، لأنه في معنى الجمع.
المسألة الثانية : قرىء {كُبَّارًا} و{كُبَّارًا} بالتخفيف والتثقيل ، وهو مبالغة في الكبير ، فأول المراتب الكبير ، والأوسط الكبار بالتخفيف ، والنهاية الكبار بالتثقيل ، ونظيره : جميل وجمال وجمال ، وعظيم وعظام وعظام ، وطويل وطوال وطوال.
المسألة الثالثة : المكر الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم : {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا} فهم منعوا القوم عن التوحيد ، وأمروهم بالشرك ، ولما كان التوحيد أعظم المراتب ، لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر فلهذا وصفه الله تعالى بأنه كبار ، واستدل بهذا من فضل علم الكلام على سائر العلوم ، فقال : الأمر بالشرك كبار في القبح والخزي ، فالأمر بالتوحيد والإرشاد وجب أن يكون كباراً في الخير والدين.
المسألة الرابعة : أنه تعالى إنما سماه {مَكْرًا} لوجهين الأول : لما في إضافة الإلهية إليهم من الحيلة الموجبة لاستمرارهم على عبادتها ، كأنهم قالوا : هذه الأصنام آلهة لكم ، وكانت آلهة لآبائكم ، فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين كافرين ، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ، ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه ، وعلى جميع أسلافه بالقصور والنقص والجهل شاقاً شديداً ، صارت الإشارة إلى هذه المعاني بلفظ {ءَالِهَتَكُمْ} صارفاً لهم عن الدين ، فلأجل اشتمال هذا الكلام على هذه الحيلة الخفية سمى الله كلامهم {مَكْرًا} الثاني : أنه تعالى حكى عن أولئك المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد ، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح لا يعطيه شيئاً لأنه فقير ، فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح ، وهذا مثل مكر فرعون إذ قال : {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} (الزخرف : 51) وقال : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} (الزخرف : 52/ 53).
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
(1/4545)

المسألة الخامسة : ذكر أبو زيد البلخي في كتابه في الرد على عبدة الأصنام أن العلم بأن هذه الخشبة المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات والأرض ، والنبات والحيوان علم ضروري ، والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء ، وعبادة الأوثان دين كان موجوداً قبل مجيء نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية ، وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان ، وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين ، فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل ، وإلا لما بقي هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم ، فإذاً لا بد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات أحدها : قال أبو معشر جعفر بن محمد المنجم : هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن الله جسم وفي مكان ، وذلك لأنهم قالوا : إن الله نور هو أعظم الأنوار ، والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه ، هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم ، فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنماً هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه/ واتخذوا أصناماً متفاوتة ، بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين ، واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة ، فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم الوجه الثاني : وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة ، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها ، فالبشر عبيد هذه الكواكب ، والكواكب عبيد الإله الأعظم ، فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب ، ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى ، فاتخذوا أصناماً على صورها واشتغلوا بعبادتها ، وغرضهم عبادة الكواكب الوجه الثالث : أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر ، كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام ، في إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب ، فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب ، فكانوا يتخذون ذلك الطلسم ، وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة ، وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته ، وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص ، فقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر الوجه الرابع : أنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها ، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم :
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) الوجه الخامس : أنه ربما مات ملك عظيم ، أو شخص عظيم ، فكانوا يتخذون تمثالاً على صورته وينظرون إليه ، فالذين جاؤا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء ، أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، أسماء خمسة من أولاد آدم ، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم ، فكنتم تنظرون إليهم ، ففعلوا فلما مات أولئك / قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ، ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور أولاً ، ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة السادس : الذين يقولون إنه تعالى جسم ، وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول ، لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان ، أو في شخص صنم ، فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة ، خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ولذلك فإن جمعاً من قدماء الروافض لما رأوا أن علياً عليه السلام قلع باب خيبر ، وكان ذلك على خلاف المعتاد قالوا : إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله الوجه السابع : لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو الله ، فهذا جملة ما في هذا الباب ، وبعضها باطلة بدليل العقل ، فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله ، وبطل القول أيضاً بالحلول والنزول ، ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات ، بطل القول بالوسايط والطلسمات ، ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم ، بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء.
المسألة السادسة : هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم ، ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب ، فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بعبد ود ، وعبد يغوث ، هكذا قيل في الكتب ، وفيه إشكال لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان ، فكيف بقيت تلك الأصنام ، وكيف انتقلت إلى العرب ، ولا يمكن أن يقال : إن نوحاً عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعياً منه في حفظها.
(1/4546)

المسألة السابعة : قرىء : {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا} بفتح الواو وبضم الواو ، قال الليث : ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح ، ود بالضم صنم لقريش ، وبه سمي عمرو بن عبد ود ، وأقول : على قول الليث وجب أن لا يجوز ههنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة نوح لا في أحوال قريش وقرأ الأعمش : {وَلا} بالصرف وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف ، إما التعريف ووزن الفعل ، وإما التعريف والعجمة ، فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
واعلم أن نوحاً لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم : {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ} قال : {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } فيه وجهان : الأول : أولئك الرؤساء قد أضلوا كثيراً قبل هؤلاء الموصين (بأن يتمسكوا) بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال الثاني : يجوز أن يكون الضمير عائداً إلى الأصنام ، كقوله : {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36) وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} ، وأما قوله تعالى : {وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ إِلا ضَلَـالا} ففيه سؤالان :
الأول : كيف موقع قوله : {وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ} ؟
الجواب : كأن نوحاً عليه السلام لما / أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظاً وغضباً عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم.
السؤال الثاني : إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم ؟
الجواب : من وجهين : الأول : لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين ، بل الضلال في أمر دنياهم ، وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني : الضلال العذاب لقوله : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} (القمر : 47).
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
659
ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده : {مِّمَّا خَطِى ـاَـاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : (ما) صلة كقوله : {فَبِمَا نَقْضِهِم} (النساء : 155) {فَبِمَا رَحْمَةٍ} (النساء : 159) والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها ، وقرأ ابن مسعود : {مِّنَ} فأخر كلمة ما ، وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر.
واعلم أن تقديم قوله : {مِّمَّا خَطِى ـاَـاتِهِمْ} لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان (فإدخالهم النار) إلا من أجل خطيآتهم ، فمن قال من المنجمين : إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم ، وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذباً لصريح هذه الآية فيجب تكفيره.
المسألة الثانية : قرىء {خَطِى ـاَـاتِهِمْ} بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و{خَطَـايَـاهُم} و{خَطِى ـاَـاتِهِمْ} بالتوحيد على إرادة الجنس ، ويجوز أن يراد به الكفر. واعلم أن الخطايا والخطيئآت كلاهما جمع خطيئة ، إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة ، وقد تقدم الكلام فيها في (البقرة : 58) عند قوله : {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـايَـاكُمْ } وفي (الأعراف : 161) عند قوله : {خَطِى ئَـاتِكُمْ } .
المسألة الثالثة : تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} وذلك من وجهين الأول : أن الفاء في قوله : {فَأُدْخِلُوا نَارًا} تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة ، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني : أنه قال : {فَأُدْخِلُوا } على سبيل الإخبار عن الماضي. وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك ، قال مقاتل والكلبي : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله : {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ النَّارِ} (الأعراف : 50){وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 44) واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل. فإن قيل : إنما تركنا هذا الظاهر لدليل ، وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً ؟
والجواب : هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل ، وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره ، مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره ، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ، ومعلوم أن الباقي غير / المتبدل ، فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن ، فلم لا يجوز أن يقال : إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن الله تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
(1/4547)

ثم قال تعالى : {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم ، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب الله عنهم ، وهو كقوله : {أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا } واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى.
جزء : 30 رقم الصفحة : 659
661
قال المبرد : {دَيَّارًا} لا تستعمل إلا في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار ولا تستعمل في جانب الإثبات ، قال أهل العربية : هو فيعال من الدور ، وأصله ديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى ، قال الفراء والزجاج : وقال ابن قتيبة : ما بها ديار أي نازل دار. ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 661
661
فإن قيل : كيف عرف نوح عليه السلام ذلك ؟
قلنا : للنص والاستقراء ، أما النص فقوله تعالى : {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا} وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وجربهم ، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك ، وقوله : {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} فيه وجهان : أحدهما : أنهم يكونون في علمك كذلك والثاني : أنهم سيصيرون كذلك.
جزء : 30 رقم الصفحة : 661
666
واعلم أنه عليه السلام لما دعا على الكفار قال بعده : {رَّبِّ اغْفِرْ لِى} أي فيما صدر عني من ترك الأفضل ، ويحتمل أنه حين دعا على الكفار إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم ، فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام فاستغفر عن ذلك لما فيه من طلب حظ النفس.
ثم قال : {وَلِوَالِدَىَّ} أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين ، وقال عطاء : لم يكن بين نوح وآدم عليهما السلام من آبائه كافر ، وكان بينه وبين آدم عشرة آباء. وقرأ الحسن بن علي (ولولدي) يريد ساما وحاما.
/ ثم قال تعالى : {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا} قيل : مسجدي ، وقيل : سفينتي ، وقيل : لمن دخل في ديني ، فإن قيل : فعلى هذا التفسير يصير قوله : {مُؤْمِنًا} مكرراً ، قلنا : إن من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً بقلبه وقد لا يكون ، والمعنى ولمن دخل في ديني دخولاً مع تصديق القلب.
ثم قال تعالى : {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إنما خص نفسه أولاً بالدعاء ثم المتصلين به لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عم المؤمنين والمؤمنات.
ثم ختم الكلام مرة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال : {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارَا } أي هلاكاً ودماراً وكل شيء أهلك فقد تبر ومنه قوله : {إِنَّ هَا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} وقوله : {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالكلية ، فإن قيل : ما جرم الصبيان حين أغرقوا ؟
والجواب من وجوه الأول : أن الله تعالى أيبس أصلاب آبائهم وأعقم أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة أو (تسعين) فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ، ويدل عليه قوله : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} إلى قوله {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح : 10 ـ 12) وهذا يدل بحسب المفهوم على أنهم إذا لم يستغفروا فإنه تعالى لا يمددهم بالبنين الثاني : قال الحسن : علم الله براءة الصبيان فأهلكهم بغير عذاب الثالث : غرقوا معهم لا على وجه العقاب بل كما يموتون بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 666
667
(1/4548)

سورة الجن
وهي عشرون وثمان آيات مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
667
/ {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف الناس قديماً وحديثاً في ثبوت الجن ونفيه ، فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره ، وذلك لأن أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة ، ثم قال : وهذا شرح للاسم. فقوله : وهذا شرح للاسم يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج ، وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن ، واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية ، وزعموا أن الأرواح السفلية أسرع إجابة إلا أنها أضعف ، وأما الأرواح الفلكية فهي أبطأ إجابة إلا أنها أقوى. واختلف المثبتون على قولين : فمنهم من زعم أنها ليست أجساماً ولا حالة في الأجسام بل هي جواهر قائمة بأنفسها ، قالوا : ولا يلزم من هذا أن يقال : إنها تكون مساوية لذات الله لأن كونها ليست أجساماً ولا جسمانية سلوب والمشاركة في السلوب لا تقتضي المساواة في الماهية ، قالوا : ثم إن هذه الذوات بعد اشتراكها في هذا السلب أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها خيرة ، وبعضها شريرة ، وبعضها كريمة محبة للخيرات ، وبعضها دنيئة خسيسة محبة للشرور والآفات ، ولا يعرف عدد أنواعهم وأصنافهم إلا الله ، قالوا : وكونها موجودات مجردة لا يمنع من كونها عالمة بالخبريات قادرة على الأفعال ، فهذه الأرواح يمكنها أن تسمع وتبصر وتعلم الأحوال الخبرية وتفعل الأفعال المخصوصة ، ولما ذكرنا أن ماهياتها مختلفة لا جرم لم يبعد أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدر البشر ، ولا يبعد أيضاً أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ، وكما أنه دلت الدلائل الطبية على أن المتعلق الأول للنفس الناطقة التي ليس الإنسان إلا هي ، هي الأرواح وهي أجسام بخارية لطيفة / تتولد من ألطف أجزاء الدم وتتكون في الجانب الأيسر من القلب ثم بواسطة تعلق النفس بهذه الأرواح تصير متعلقة بالأعضاء التي تسري فيها هذه الأرواح لم يبعد أيضاً أن يكون لكل واحد من هؤلاء الجن تعلق بجزء من أجزاء الهواء ، فيكون ذلك الجزء من الهواء هو المتعلق الأول لذلك الروح ثم بواسطة سيران ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل لتلك الأرواح تعلق وتصرف في تلك الأجسام الكثيفة ، ومن الناس من ذكر في الجن طريقة أخرى فقال : هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالاً بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق أن حدث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن ، فسبب تلك المشاكلة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما لهذا البدن ، وتصير تلك النفس المفارقة كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن ، فإن الجنسية علة الضم ، فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكاً وتلك الإعانة إلهاماً ، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطاناً وتلك الإعانة وسوسة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
والقول الثاني : في الجن أنهم أجسام ثم القائلون بهذا المذهب اختلفوا على قولين ، منهم من زعم أن الأجسام مختلفة في ماهياتها ، إنما المشترك بينها صفة واحدة/ وهي كونها بأسرها حاصلة في الحيز والمكان والجهة وكونها موصوفة بالطول والعرض والعمق ، وهذه كلها إشارة إلى الصفات ، والاشتراك في الصفات لا يقتضي الإشتراك في تمام الماهية لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد. قالوا : وليس لأحد أن يحتج على تماثل الأجسام بأن يقال : الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد ، وحقيقة واحدة ، فيلزم أن لا يحصل التفاوت في ماهية الجسم من حيث هو جسم ، بل إن حصل التفاوت حصل في مفهوم زائد على ذلك ، وأيضاً فلأنه يمكننا تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف ، والعلوي والسفلي ، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام ، فالأقسام كلها مشتركة في الجسمية والتفاوت ، إنما يحصل بهذه الصفات ، وهي اللطافة والكثافة ، وكونها علوية وسفلية قالوا : وهاتان الحجتان ضعيفتان.
(1/4549)

أما الحجة الأولى : فلأنا نقول ، كما أن الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد ، وحقيقة واحدة ، فكذا العرض من حيث إنه عرض له حد واحد ، وحقيقة واحدة فيلزم منه أن تكون الأعراض كلها متساوية في تمام الماهية ، وهذا مما لا يقوله عاقل ، بل الحق عند الفلاسفة أنه ليس للأعراض ألبتة قدر مشترك بينها من الذاتيات ، إذا لو حصل بينها قدر مشترك ، لكان ذلك المشترك جنساً لها ، ولو كان كذلك لما كانت التسعة أجناساً عالية بل كانت أنواع جنس واحد إذا ثبت هذا فنقول : الأعراض من حيث إنها أعراض لها حقيقة واحدة ، ولم يلزم من ذلك أن يكون بينها ذاتي مشترك أصلاً ، فضلاً عن أن تكون متساوية في تمام الماهية ، فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجسم كذلك ، فإنه كما أن الأعراض مختلفة في تمام الماهية ، ثم إن تلك المختلفات متساوية في / وصف عارض وهو كونها عارضة لموضوعاتها ، فكذا من الجائز أن تكون ماهيات الأجسام مختلفة في تمام ماهياتها ثم إنها تكون متساوية في وصف عارض ، وهو كونها مشاراً إليها بالحس وحاصلة في الحيز والمكان ، وموصوفة بالأبعاد الثلاثة ، فهذا الاحتمال لا دافع له أصلاً.
وأما الحجة الثانية : وهي قولهم : إنه يمكن تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف فهي أيضاً منقوضة بالعرض فإنه يمكن تقسيم العرض إلى الكيف والكم ولم يلزم أن يكون هناك قدر مشترك من الذاتي فضلاً عن التساوي في كل الذاتيات فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا أيضاً كذلك إذا ثبت أنه لا امتناع في كون الأجسام مختلفة ولم يدل دليل على بطلان هذا الاحتمال ، فحينئذ قالوا : لا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الهواء في الماهية ثم تكون تلك الماهية تقتضي لذاتها علماً مخصوصاً وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة ، وعلى هذا التقدير يكون القول بالجن ظاهر الاحتمال وتكون قدرتها على التشكل بالأشكال المختلفة ظاهرة الاحتمال.
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
القول الثاني : قول من قال : الأجسام متساوية في تمام الماهية ، والقائلون بهذا المذهب أيضاً فرقتان.
الفرقة الأولى : زعموا أن البنية ليست شرطاً للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية ، قالوا : ولو كانت البنية شرطاً للحياة لكان إما أن يقال : إن الحياة الواحدة قامت بمجموع الأجزاء أو يقال : قام بكل واحد من الأجزاء حياة على حدة ، والأول محال لأن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة دفعة واحدة غير معقول ، والثاني أيضاً باطل لأن الأجزاء التي منها تألف الجسم متساوية والحياة القائمة بكل واحد منها مساوية للحياة القائمة بالجزء الآخر وحكم الشيء حكم مثله ، فلو افتقر قيام الحياة بهذا الجزء إلى قيام تلك الحياة بذلك الجزء لحصل هذا الافتقار من الجانب الآخر فيلزم وقوع الدور وهو محال ، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ ثبت أن قيام الحياة بهذا الجزء لا يتوقف على قيام الحياة الثانية بذلك الجزء الثاني/ وإذا بطل هذا التوقف ثبت أنه يصح كون الجزء الواحد موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة وبطل القول بأن البنية شرط ، قالوا : وأما دليل المعتزلة وهو أنه لا بد من البنية فليس إلا الاستقراء وهو أنا رأينا أنه متى فسدت البنية بطلت الحياة ومتى لم تفسد بقيت الحياة فوجب توقف الحياة على حصول البنية ، إلا أن هذا ركيك ، فإن الاستقراء لا يفيد القطع بالوجوب ، فما الدليل على أن حال من لم يشاهد كحال ما شوهد ، وأيضاً فلأن هذا الكلام إنما يستقيم على قول من ينكر خرق العادات ، أما من يجوزها فهذا لا يتمشى على مذهبه والفرق بينهما في جعل بعضها على سبيل العادة وجعل بعضها على سبيل الوجوب تحكم محض لا سبيل إليه ، فثبت أن البنية ليست شرطاً في الحياة ، وإذا ثبت هذا لم يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً بأمور كثيرة وقدرة / على أشياء شاقة شديدة ، وعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن ، سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة ، وسواء كانت أجزاؤهم كبيرة أو صغيرة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
(1/4550)

القول الثاني : أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادراً على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى ، وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضراً والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة ، وتكون الحاسة سليمة ، ثم مع هذا لا يحصل الإدراك أو يكون هذا ممتنعاً عقلاً ؟
أما الأشعري وأتباعه فقد جوزوه ، وأما المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلاً ، والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية ، أما العقلية فأمران : الأول : أنا نرى الكبير من البعد صغيراً وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجباً الثاني : أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة ، فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء ، فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر أو لا تكون ، فإن كان الأول يلزم الدور لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضاً رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء فيقع الدور ، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة ، ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى ، فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجباً بل جائزاً ، وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم : فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة ، والجبال ياقوتاً وزبرجداً ، أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر ، ثم كما فتحت العين أعدمها الله عجزوا عن الفرق ، والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات ، فوهموا أن بعضها واجبة ، وبعضها غير واجبة ، ولم يجدوا قانوناً مستقيماً ، ومأخذاً سليماً في الفرق بين البابين ، فتشوش الأمر عليهم ، بل الواجب أن يسوى بين الكل ، فيحكم على الكل بالوجوب ، كما هو قول الفلاسفة ، أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري. فأما التحكم في الفرق فهو بعيد ، إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن ، فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها ، وإن كانوا حاضرين هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه ، وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم/ وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة ، والجن أيضاً كذلك ، وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة ، / فإذاً يجب في الملك والجن أن يكون كذلك ، ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبداً ، وهم الكرام الكاتبون والحفظة ، ويحضرون أيضاً عند قبض الأرواح ، وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وأن أحداً من القوم ما كان يراهم ، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحداً ، فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم ، وإن كانوا موصفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم : إن البنية شرط الحياة ، وإن قالوا : إنها أجسام لطيفة وحية ، ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة ، فهذا إنكار لصريح القرآن ، وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب ، وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلاً عن حجة مبينة ، فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات ، وبالله التوفيق.
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
المسألة الثانية : اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا ؟
.
(1/4551)

فالقول الأول : وهو مذهب ابن عباس أنه عليه السلام ما رآهم ، قال : إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة فلما بعث الله محمداً عليه السلام حرست السماء ، وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال : لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا والله هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ} فأخبر الله تعالى محمداً عليه السلام عن ذلك الغيب وقال : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} كذا وكذا ، قال وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي ، فإن قيل : الذين رموا بالشهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع ؟
قلنا : فيه وجهان الأول : أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر الثاني : أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم : شياطين كما قيل : شياطين الجن والإنس فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة الله ، واختلفوا في أن أولئك الجن الذين سمعوا القرآن من هم ؟
فروى عاصم عن ذر قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي صلى الله عليه وسلّم فسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم ثم انصرفوا فذلك قوله : {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} (الأحقاف : 29) وقيل : كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم.
القول الثاني : وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام ، قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام : "أمرت أن أتلو القرآن على الجن / فمن يذهب معي ؟
فسكتوا ، ثم قال الثانية فسكتوا ، ثم قال الثالثة ، فقال : عبدالله قلت أنا أذهب معك يا رسول الله قال : فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب ، خط علي خطاً فقال : لا تجاوزه ، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه/ فغاب عن بصري فقمت ، فأومأ إلي بيده أن أجلس ، ثم تلا القرآن ، فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم. وفي رواية أخرى فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : ما أنت ؟
قال : أنا نبي الله ، قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟
قال : هذه الشجرة ، تعالي يا شجرة ، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه ، فقال على ماذا تشهدين لي ؟
قالت : أشهد أنك رسول الله ، قال : اذهبي ، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود : فلما عاد إلي ، قال : أردت أن تأتيني ؟
قلت : نعم يا رسول الله قال : ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين ، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر ، فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات ، وطريق التوفيق بين مذهب ابن عباس ، ومذهب ابن مسعود من وجوه أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً ، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود وثانيها : أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة ، إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم ، وقراءة القرآن عليهم ، إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا ، وأي شيء فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا وثالثها : أن الواقعة كانت مرة واحدة ، وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم ، وهم آمنوا به ، ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ} وكان كذا وكذا ، فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ما قالوه لأقوامهم ، وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب.
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله تعالى : {قُلْ} أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن ، وفيه فوائد إحداها : أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس ، فقد بعث إلى الجن وثانيها : أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه ، فآمنوا بالرسول وثالثها : أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس ورابعها : أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا وخامسها : أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان ، وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
(1/4552)

المسألة الرابعة : الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم : الوحي الوحي والقراءة المشهورة ، {أُوحِىَ} بالألف ، وفي رواية يونس / وهرون ، عن أبي عمرو {وَحْىٌ} بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال : وحي إليه وأوحى إليه وقرىء بالهمز من غير واو ، وأصله وحي ، فقلبت الواو همزة كما يقال : أعد وأزن {نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (المرسلات : 11) وقوله تعالى : {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمعوا على أن قوله : {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل {أُوحِىَ} فهو كقوله : {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـاذَا الْقُرْءَانُ} (الأنعام : 19) وأجمعوا على كسر إنا في قوله : {إِنَّا سَمِعْنَا} لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، ثم ههنا قراءتان إحداهما : أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجن كسر ، وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله : {وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ لِلَّهِ} (الجن : 18) {وَأَنَّه لَمَّا قَامَ} (الجن : 19) ، وثانيهما : فتح الكل والتقدير : فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي ، فإن قيل : ههنا إشكال من وجهين أحدهما : أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال : وآمنا بأنه كان يقول : سفيهنا على الله شططاً والثاني : وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال : آمنا به وزيد ، بل يقال : آمنا به وبزيد والجواب : عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله : آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان.
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
المسألة الثانية : {نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهوداً ، وذكر الحسن أن فيهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين ، ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء :
النوع الأول : مما حكوه قوله تعالى : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَـاَامَنَّا بِه ا وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا} أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله : {فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} (الأحقاف : 29) ، {قُلْ أُوحِىَ} أي خارجاً عن حد أشكاله ونظائره ، و(عجباً) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب ، {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} أي إلى الصواب ، وقيل : إلى التوحيد {يَهْدِى إِلَى} أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا} أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين.
النوع الثاني : مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد. فقالوا :
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
667
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الجد قولان : الأول : الجد في اللغة العظمة يقال : جد فلان أي عظم / ومنه الحديث : "كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا" أي جد قدره وعظم ، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس ، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص.
القول الثاني : الجد الغنى ومنه الحديث : "لا ينفع ذا الجد منك الجد" قال أبو عبيدة : أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وكذلك الحديث الآخر : "قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون" يعني أصحاب الغنى في الدنيا ، فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد.
وعندي فيه قول ثالث : وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازاً عن الأصل ، فقوله : {تَعَـالَى جَدُّ رَبِّنَا} معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته ، وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد.
المسألة الثانية : قرىء {يَقُولُ رَبَّنَآ} بالنصب على التمييز و{جَدُّ رَبِّنَا} بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولاً عن الشرك وثانياً عن دين النصارى.
النوع الثالث : مما ذكره الجن قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 667
668
السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولاً هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه.
(1/4553)

واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد ، وليس في اللفظ ما يدل على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات ، فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم فمجاوزة الحد في النفي تفضي إلى التعطيل ومجاوزة الحد في الإثبات تفضي إلى التشبيه ، وإثبات الشريك والصاحبة والولد وكلا الأمرين شطط ومذموم.
النوع الرابع : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 668
668
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : معنى الآية أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال : الكذب على الله ، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون ، وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات /بسبب التقليد ، وأنهم إنما تخلصوا عن تلك الظلمات ببركة الاستدلال والاحتجاج.
المسألة الثانية : قوله : {كَذِبًا} بم نصب ؟
فيه وجوه أحدها : أنه وصف مصدر محذوف والتقدير أن لن تقول الإنس والجن على الله قولاً كذباً وثانيها : أنه نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول وثالثها : أن من قرأ : {أَن لَّن تَقُولَ} وضع {كَذِبًا} موضع تقوّلاً ، ولم يجعله صفة ، لأن التقوّل لا يكون إلا كذباً.
النوع الخامس : ـ قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 668
669
{وَأَنَّه كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} فيه قولان : الأول : وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح ، وقال آخرون : كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم ، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم ، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن ، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا ، وربما تفزعهم الجن فيهربون القول الثاني : المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً ، لكن من شر الجن ، مثل أن يقول الرجل : أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي ، وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه ، لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن ، وهذا ضعيف ، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً ، أما قوله : {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} قال المفسرون : معناه زادوهم إثماً وجرأة وطغياناً وخطيئة وغياً وشراً ، كل هذا من ألفاظهم ، قال الواحدي : الرهق غشيان الشيء ، ومنه قوله تعالى : {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} (يونس : 26) وقوله : {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس : 41) ورجل مرهق أي يغشاه السائلون. ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت ، والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن ، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان ، فإنهم لما تعوذوا بهم ، ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترؤا عليهم فزادوهم ظلماً ، وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم ، وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغياناً فيقولون : سدنا الجن والإنس ، والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها.
النوع السادس : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 669
670
اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن ، ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي فإن / كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض ، كان التقدير وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن ، وإن كانا من الوحي كان التقدير : وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث ، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحداً للرسالة على ما هو مذهب البراهمة ، واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق.
النوع السابع : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 670
670
اللمس : المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال : لمسه والتمسه ، ومثله الجس يقال : جسوه بأعينهم وتجسسوه ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها ، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شداداً.
النوع الثامن : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 670
670
(1/4554)

أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب ، وفي قوله : {شِهَابًا رَّصَدًا} وجوه أحدها : قال مقاتل : يعني رمياً من الشهب ورصداً من الملائكة ، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهاباً ورصداً لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد وثانيها : قال الفراء : أي شهاباً قد أرصد له ليرجم به ، وعلى هذا الرصد نعت للشهاب ، وهو فعل بمعنى مفعول وثالثها : يجوز أن يكون رصداً أي راصداً ، وذلك لأن الشهاب لما كان معداً له ، فكأن الشهاب راصد له ومترصد له واعلم أنا قد استقصينا في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5) فإن قيل : هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ، ويدل عليه أمور أحدها : أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب ، وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث وثانيها : قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } ذكر في خلق الكواكب فائدتين ، التزيين ورجم الشياطين وثالثها : أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية ، قال أوس بن حجر :
فانقض كالدريّ يتبعه
نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع :
يرد علينا العير من دون إلفه
أو الثور كالدرى يتبعه الدم
وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما : "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم / جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ؟
فقالوا كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم" الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} قالوا : فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ، فما معنى تخصيصها بمحمد عيه الصلاة والسلام ؟
والجواب : مبني على مقامين :
جزء : 30 رقم الصفحة : 670
المقام الأول : أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وأبي بن كعب ، روي عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً ، أما الكلمة فإنها تكون حقة ، وأما الزيادات فتكون باطلة فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم منعوا مقاعدهم ، ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قائماً يصلي ، الحديث إلى آخره ، وقال أبي بن كعب : لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول الله فرمي بها ، فرأت قريش أمراً ما رأوه قبل ذلك فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم ، يظنون أنه الفناء ، فبلغ ذلك بعض أكابرهم ، فقال : لم فعلتم ما أرى ؟
قالوا : رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء ، فقال : اصبروا فإن تكن نجوماً معروفة فهو وقت فناء الناس ، وإن كانت نجوماً لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا ، فإذا هي لا تعرف ، فأخبروه فقال : في الأمر مهلة ، وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيراً حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبدالله ويدعي أنه نبي مرسل ، وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعناً منهم في هذه المعجزة/ وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة.
المقام الثاني : وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى ، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال : {فَوَجَدْنَـاهَا مُلِئَتْ} (الجن : 8) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله : {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـاعِدَ} أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها ، فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب ، إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية.
النوع التاسع : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 670
670
وفيه قولان : أحدهما : أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير والثاني : لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا.
/ النوع العاشر : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 670
671
(1/4555)

أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من ؟
فيه قولان : الأول : أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين والثاني : أن المراد من لا يكون كاملاً في الصلاح ، فيدخل فيه المقتصدون والكافرون ، والقدة من قدد ، كالقطعة من قطع. ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق ، وفي تفسير الآية وجوه أحدها : المراد كنا ذوي طرائق قدداً أي ذوي مذاهب مختلفة. قال السدي : الجن أمثالكم ، فيهم مرجئة وقدرية وروافض وخوارج وثانيها : كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وثالثها : كانت طرائقنا طرائق قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه.
النوع الحادي عشر : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 671
671
الظن بمعنى اليقين ، و{فِى الارْضِ} و{هَرَبًا} فيه وجهان الأول : أنهما حالان ، أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء والثاني : لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ، ولن نعجزه هرباً إن طلبنا.
النوع الثاني عشر : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 671
671
{لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى } أي القرآن ، قال تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) {بِه إِنَّهُ} أي آمنا بالقرآن {فَلا يَخَافُ} فهو لا يخاف أي فهو غير خائف ، وعلى هذا يكون الكلام في تقدير جملة من المبتدأ والخبر ، أدخل الفاء عليها لتصير جزاء للشرط الذي تقدمها ، ولولا ذاك لقيل : لا يخف ، فإن قيل : أي فائدة في رفع الفعل ، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء ، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف قلنا : الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك ، فكأنه قيل : فهو لا يخاف ، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة ، وأنه هو المختص لذلك دون غيره ، لأن قوله : فهو لا يخاف معناه أن غيره يكون خائفاً ، وقرأ الأعمش : {فَلا يُخَفَّفُ} ، وقوله تعالى : {بَخْسًا وَلا رَهَقًا} البخس النقص ، والرهق الظلم ، ثم فيه وجهان الأول : لا يخاف جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ، ولا (رهق) ظلم أحداً ، فلا يخاف جزاءهما الثاني : لا يخاف أن / يبخس ، بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى ، ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله : {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } .
النوع الثالث عشر : قوله تعالى :
(14)
جزء : 30 رقم الصفحة : 671
673
القاسط الجائر ، والمقسط العادل ، وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء ، فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، وعن سعيد بن جبير : أن الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول في ؟
قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل ، فقال الحجاج : يا جهلة إنه سماني ظالماً مشركاً ، وتلا لهم قوله : {وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ} وقوله : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، (الأنعام : 1) {تَحَرَّوْا رَشَدًا} أي قصدوا طريق الحق ، قال أبو عبيدة : تحروا توخوا ، قال المبرد : أصل التحري من قولهم : ذلك أحرى ، أي أحق وأقرب ، وبالحري أن تفعل كذا ، أي يجب عليك.
ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا :
جزء : 30 رقم الصفحة : 673
674
وفيه سؤالان :
الأول : لمَ ذكر عقاب القاسطين ولمْ يذكر ثواب المسلمين ؟
الجواب : بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى : {تَحَرَّوْا رَشَدًا} (الجن : 14) أي توخوا رشداً عظيماً لا يبلغ كنهه إلا الله تعالى ، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
السؤال الثاني : الجن مخلوقين من النار ، فكيف يكونون حطباً للنار ؟
الجواب : أنهم وإن خلقوا من النار ، لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحماً ودماً هكذا ، قيل : وههنا آخر كلام الحسن.
جزء : 30 رقم الصفحة : 674
675
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير : قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : (أن) مخففة من الثقيلة والمعنى : وأوحي إليَّ أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا. قال الواحدي : وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل لا والسين في / قوله : {أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا} و{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} .
(1/4556)

المسألة الثانية : الضمير في قوله : {اسْتَقَـامُوا } إلى من يرجع ؟
فيه قولان : قال بعضهم : إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم ، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا. وقال آخرون : بل المراد الإنس ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني : أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مجرى قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه. وأقول : يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة ، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة.
المسألة الثالثة : الغدق بفتح الدال وكسرها : الماء الكثير ، وقرىء بهما يقال : غدقت العين بالكسر فهي غدقة ، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء ، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء ، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الغيث والمطر ، والثاني : وهو قول أبي مسلم : أنه إشارة إلى الجنة كما قال : {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } وثالثها : أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها ، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 675
المسألة الرابعة : إن قلنا : الضمير في قوله : {اسْتَقَـامُوا } راجع إلى الجن كان في الآية قولان : أحدهما : لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ، ونظيره قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَـابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا } (المائدة : 65) وقوله : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاكَلُوا } (المائدة : 66) وقوله : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ} (الطلاق : 2 ، 3) وقوله : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} إلى قوله {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح : 12) وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع ، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني : أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق ، ونظيره قوله تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} (الزخرف : 33) واختار الزجاج الوجه الأول قال : لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيه } فهو كقوله : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } (آل عمران : 178) ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضاً ابتلاء واختباراً حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا ، وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان ، وأما الذين قالوا : الضمير عائد إلى الإنس ، فالوجهان عائدان فيه بعينه / وههنا يكون إجراء قوله : {لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا} على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 675
(1/4557)

المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بقوله : {لِّنَفْتِنَهُمْ} على أنه تعالى يضل عباده ، والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال : فتنت الذهب بالنار لاخلق الضلال ، واستدلت المعتزلة باللام في قوله {لِّنَفْتِنَهُمْ} على أنه تعالى إنما يفعل لغرض ، وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله. وقوله تعالى : {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّه } أي عن عبادته أو عن موعظته ، أو عن وحيه. يسلكه ، وقرىء بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذاباً ، والأصل نسلكه في عذاب كقوله : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} (المدثر : 42) إلا أن هذه العبارة أيضاً مستقيمة لوجهين الأول : أن يكون التقدير نسلكه في عذاب ، ثم حذف الجار وأوصل الفعل ، كقوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه } (الأعراف : 155) والثاني : أن يكون معنى نسلكه أي ندخله ، يقال : سلكه وأسلكه ، والصعد مصدر صعد ، يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب لأنه (يصعد فوق طاقة) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ، يريد ما شق علي ولا غلبني ، وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعداً جبل في جهنم ، وهو صخرة ملساء ، فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها ، ثم يكلف الصعود مرة أخرى ، فهذا دأبه أبداً ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {سَأُرْهِقُه صَعُودًا} (المدثر : 17).
النوع الثالث : من جملة الموحى قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 675
675
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التقدير : قل أوحي إلي أن المساجد لله ، ومذهب الخليل أن التقدير : ولأن المساجد لله فلا تدعوا ، فعلى هذا اللام متعلقة ، (بلا تدعوا ، أي) فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد لأنها لله خاصة ، ونظيره قوله : {وَإِنَّ هَـاذِه أُمَّتُكُمْ} على معنى ، ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ، أي لأجل هذا المعنى فاعبدون.
المسألة الثانية : اختلفوا في المساجد على وجوه أحدها : وهو قول الأكثرين : أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين ، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس ، فأمر الله المسلمين بالإخلاص والتوحيد وثانيها : قال الحسن : أراد بالمساجد البقاع كلها قال عليه الصلاة والسلام : "جعلت لي الأرض مسجداً" كأنه تعالى قال : الأرض كلها مخلوقة لله تعالى فلا تسجدوا عليها لغير خالقها وثالثها : روي عن الحسن أيضاً أنه قال : المساجد هي الصلوات فالمساجد على هذا القول جمع مسجد بفتح / الجيم والمسجد على هذا القول مصدر بمعنى السجود ورابعها : قال سعيد بن جبير : المساجد الأعضاء التي يسجد العبد عليها وهي سبعة القدمان والركبتان واليدان والوجه ، وهذا القول اختيار ابن الأنباري ، قال : لأن هذه الأعضاء هي التي يقع السجود عليها وهي مخلوقة لله تعالى ، فلا ينبغي أن يسجد العاقل عليها لغير الله تعالى ، وعلى هذا القول معنى المساجد مواضع السجود من الجسد واحدها مسجد بفتح الجيم وخامسها : قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد بالمساجد مكة بجميع ما فيها من المساجد ، وذلك لأن مكة قبلة الدنيا وكل أحد يسجد إليها ، قال الواحدي : وواحد المساجد على الأقوال كلها مسجد بفتح الجيم إلا على قول من يقول : إنها المواضع التي بنيت للصلاة فإن واحدها بكسر الجيم لأن المواضع والمصادر كلها من هذا الباب بفتح العين إلا في أحرف معدودة وهي : المسجد والمطلع والمنسك والمسكن والمنبت والمفرق والمسقط والمجزر والمحشر والمشرق والمغرب ، وقد جاء في بعضها الفتح وهو المنسك والمسكن والمفرق والمطلع ، وهو جائز في كلها وإن لم يسمع.
المسألة الثالثة : قال الحسن : من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله لأن قوله : {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه.
النوع الرابع : من جملة الموحى قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 675
675
(1/4558)

اعلم أن عبدالله هو النبي صلى الله عليه وسلّم في قول الجميع ، ثم قال الواحدي : إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى ، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد ، كما في قوله : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـن ِ وَفْدًا} والأكثرون على أنه من جملة الموحى ، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن. وفي خلل ما هو كلام الجن مختلاً بعيداً عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن ، ومن جعله من كلام الجن كسرها ، ونحن نفسر الآية على القولين ، أما على قول من قال : إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله : {كَادُوا } إلى من يعود ؟
فيه ثلاثة أوجه أحدها : إلى الجن ، ومعنى {عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن ، فاستمعوا القراءة {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} ، أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته ، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً ، وساجداً وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا مالم يروا مثله ، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني : لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الأوثان ، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث : وهو قول قتادة : لما قام عبدالله تلبدت / الإنس والجن ، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله ، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه ، وأما على قول من قال : إنه من كلام الجن ، فالوجهان أيضاً عائدان فيه ، وقوله : {لِبَدًا} فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض ، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته ، ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال : لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه ، ومنه قول زهير :
(لدى أسد شاكي السلاح مقذف)
له لبد أظفاره لم تقلم
وقرىء : {لِبَدًا} بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة ، وقرىء {لِبَدًا} جمع لابد كسُجِّد وساجد. وقرىء أيضاً : {لِبَدًا} بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور ، فإن قيل : لم سمي محمداً بعبدالله ، وما ذكره برسول الله أو نبي الله ؟
قلنا : لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى ، فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية ، وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبدالله لما اشتغل بعبودية الله ، فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه ، مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل ؟
.
جزء : 30 رقم الصفحة : 675
675
قرأ العامة قال على الغيبة وقرأ عاصم وحمزة ، {قُلْ} حتى يكون نظيراً لما بعده ، وهو قوله : {قُلْ إِنِّى لا أَمْلِكُ} (الجن : 21) {قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى} (الجن : 22) قال مقاتل : إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم : "إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا" فأنزل الله : {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُوا رَبِّى} وهذا حجة لعاصم وحمزة ، ومن قرأ {قَالَ} حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك ، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله : {إِنَّمَآ أَدْعُوا رَبِّى} فحكى الله ذلك عنه بقوله {قَالَ} أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 675
677
إما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام : لا أملك لكم غياً ولا رشداً ، ويدل عليه قراءة أبي (غياً ولا رشداً) ، ومعنى الكلام أن النافع والضار ، والمرشد والمغوي هو الله ، وإن أحداً من الخلق لا قدرة له عليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 677
677
قوله تعالى : {قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} قال مقاتل : إنهم قالوا : اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك ، فقال الله له : {قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} .
ثم قال تعالى : {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا} أي ملجأ وحرزاً ، قال المبرد : {مُلْتَحَدًا} مثل قولك منعرجاً ، والتحد معناه في اللغة مال ، فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض.
جزء : 30 رقم الصفحة : 677
678
(1/4559)

/ قوله تعالى : {إِلا بَلَـاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَـالَـاتِه } ذكروا في هذا الاستثناء وجوهاً أحدها : أنه استثناء من قوله : {لا أَمْلِكُ} (الجن : 21) أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله ، وقوله : {قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى} (الجن : 22) جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى : أنه تعالى إن أراد به سوءاً لم يقدر أحد أن يجيره منه ، وهذا قول الفراء. وثانيها : وهو قول الزجاج : أنه نصب على البدل من قوله : {مُلْتَحَدًا} (الجن : 22) والمعنى : ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغاً ، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به ، وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحداً بل قال : {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا} ، والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله : {مِن دُونِه مُلْتَحَدًا} لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله ، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه ثالثها : قال بعضهم : (إلا) معناه إن (لا) ومعناه : إن لا أبلغ بلاغاً كقولك : (إلا) قياماً فقعوداً ، والمعنى : إن لا أبلغ لم أجد ملتحداً ، فإن قيل : المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام : "بلغوا عني ، بلغوا عني" فلم قال ههنا : {بَلَـاغًا مِّنَ اللَّهِ} ؟
قلنا : (من) ليست (بصفة للتبلغ) إنما هي بمنزلة (من) في قوله : {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ} بمعنى بلاغاً كائناً من الله. أما قوله تعالى : {وَرِسَـالَـاتِه } فهو عطف على {بَلَـاغًا} كأنه قال : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ، والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول : قال الله كذا ناسباً القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.
قوله تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ} قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله : {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه } (المائدة : 95) {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُه } (البقرة : 126) {فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّه فَلا يَخَافُ} (الجن : 13) على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب "الكشاف" وقرىء : {فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ} على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه } (الأنفال : 41) أي فحكمه أن لله خمسه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 678
ثم قال تعالى : {خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} حملاً على معنى الجمع في (من) وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار ، قالوا : وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها ، قالوا : وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله : {أَبَدًا} فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل ، أما ههنا (فقد) جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحاً في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب : أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات ، ونزيد ههنا وجوهاً أحدها : أن تخصيص / العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور ، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق ، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى/ ثم قال : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } يعني جبريل : {فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ} أي من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم ، وإذا كان ما ذكرنا محتملاً سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني : وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكماً لا تعلق له بها ، فيكون هذا الوعيد وعيداً على ترك التبليغ من الله ، ولا شك أن ترك التبليغ من الله أعظم الذنوب ، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب ، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب ، لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة ، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب ، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب ، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث : وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد ، وذكرها ههنا مقيدة بقيد الأبد ، فلا بد في هذا التخصيص من سبب ، ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب ، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب ، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا الذنب ، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 678
(1/4560)

{فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} معناه أن هذه الحالة له لا لغيره ، وهذا كقوله : {لَكُمْ دِينَكُمْ} أي لكم لا لغيركم. وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم ، وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد ، فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم. وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر ، وهو أن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي ، وذلك هو الكافر ونحن نقول : بأن الكافر يبقى في النار مؤبداً ، وإنما قلنا إن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي لأن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ} يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه ، مثل أن يقال ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا ، وإلا في شرب الخمر ، ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً تحت اللفظ وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ} متناولاً لمن أتى بكل المعاصي ، والذي يكون كذلك هو الكافر ، فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير ، فسقط وجه الاستدلال بها. فإن قيل : كون الإنسان الواحد آتياً لجميع أنواع المعاصي محال ، لأن من المحال أن يكون قائلاً بالتجسم ، وأن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل ، وإذا كان ذلك محالاً فحمل الآية عليه غير جائز قلنا : تخصيص العام بدليل العقل جائز ، فقولنا : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ} يفيد كونه آتياً بجميع أنواع / المعاصي ، ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلاً حصوله فيبقى متناولاً للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها ، ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به.
المسألة الثانية : تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا : تارك المأمور به عاص لقوله تعالى : {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} (طه : 93) ، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} (التحريم : 6) ، {وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} (الكهف : 69) والعاصي مستحق للعقاب لقوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} .
جزء : 30 رقم الصفحة : 678
679
فإن قيل : ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له ؟
قلنا : فيه وجهان الأول : أنه متعلق بقوله : {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (الجن : 19) والتقدير أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون (عدده) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة ، {فَسَيَعْلَمُونَ} أيهم أضعف ناصراً وأقل عدداً ، الثاني : أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل : هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا ، واعلم أن نظير هذه الآية قوله في مريم : {حَتَّى ا إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} (مريم : 75) واعلم أن الكافر لا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة على ما قال : {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر : 18) {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء : 28) ويفر كل أحد منهم من صاحبه على ما قال : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (عبس : 34) إلى آخره : {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} (الحج : 2) وأما المؤمنون فلهم العزة والكرامة والكثرة قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23 ، 24) والملك القدوس يسلم عليهم {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين أو في جانب الكفار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 679
681
قال مقاتل : لما سمعوا قوله : {حَتَّى ا إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} (الجن : 24) قال النضر بن الحرث : متى يكون هذا الذي توعدنا به ؟
فأنزل الله تعالى : {قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} إلى آخره والمعنى أن وقوعه متيقن ، أما وقت وقوعه فغير معلوم ، وقوله : {أَمْ يَجْعَلُ لَه رَبِّى أَمَدًا} أي غاية وبعداً وهذا كقوله : {وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} (الأنبياء : 109) فإن قيل : أليس أنه قال : "بعثت أنا والساعة كهاتين" فكان عالماً بقرب وقوع القيامة ، فكيف قال : ههنا لا أدري أقريب أم بعيد ؟
قلنا : المراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى ، فهذا القدر من القرب معلوم ، / وأما معنى معرفة القرب القريب وعدم ذلك فغير معلوم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 681
681
(1/4561)

ثم قال تعالى : {عَـالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} لفظة (من) في قوله : {مِن رَّسُولٍ} تبيين لمن ارتضى يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي يكون رسولاً ، قال صاحب "الكشاف" ، وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف الكرامات إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وفيها أيضاً إبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط ، قال الواحدي : وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
واعلم أن الواحدي يجوز الكرامات وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ونسبة الآية إلى الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله صاحب "الكشاف" ، وإن زعم أنها لا تدل على المنع من الإلهامات الحاصلة للأولياء فينبغي أن لا يجعلها دالة على المنع من الدلائل النجومية ، فأما التحكم بدلالتها على المنع من الأحكام النجومية وعدم دلالتها على الإلهامات الحاصلة للأولياء فمجرد التشهي ، وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه والذي تدل عليه أن قوله : {عَلَى غَيْبِه } ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد ، والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله : {إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَه رَبِّى أَمَدًا} (الجن : 25) يعني لا أدري وقت وقوع القيامة ، ثم قال بعده : {عَـالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا} أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد ، وبالجملة فقوله : {عَلَى غَيْبِه } لفظ مفرد مضاف ، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد ، فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه ، فإن قيل : فإذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال : {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله ؟
قلنا : بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة ، وكيف لا وقد قال : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ وَنُزِّلَ الْمَلَـا اـاِكَةُ تَنزِيلا} (الفرقان : 25) ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة ، وأيضاً يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعاً ، كأنه قال : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحداً ، ثم قال بعده : لكن من ارتضى من رسول : {فَإِنَّه يَسْلُكُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه } حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن ، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع / القيامة على سبيل الاستهزاء به ، والاستحقار لدينه ومقالته.
جزء : 30 رقم الصفحة : 681
واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية أن لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات إلا الرسل ، والذي يدل عليه وجوه أحدها : أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم قبل زمان ظهوره/ وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم ، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم ، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها : أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير ، وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل ، ويكون صادقاً فيه وثالثها : أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان ، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء ، ثم إنها وقعت على وفق كلامها.
قال مصنف الكتاب ختم الله له بالحسنى : وأنا قد رأيت أناساً محققين في علوم الكلام والحكمة ، حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخباراً على سبيل التفصيل ، وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها ، وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها ، وقال : لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً.
(1/4562)

ورابعها : أنا نشاهد (ذلك) في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وليس هذا مختصاً بالأولياء بل قد يوجد في السحرة أيضاً من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضاً في أكثر تلك الأخبار ، ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور ، وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها ، وإذا كان ذلك مشاهداً محسوساً ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن ، وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {فَإِنَّه يَسْلُكُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه رَصَدًا} فالمعنى أنه يسلك من بين يدي من ارتضى للرسالة ، {وَمِنْ خَلْفِه رَصَدًا} أي حفظة من الملائكة يحفظونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم ، حتى يبلغ ما أوحى به إليه ، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونه ولا يضرونه وعن الضحاك "ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين (الذين) يتشبهون بصورة الملك".
جزء : 30 رقم الصفحة : 681
681
قوله تعالى : {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : وحَّد الرسول في قوله : {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّه يَسْلُكُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه } (الجن : 27) ثم جمع في قوله : {أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} ونظيره ما تقدم من قوله : {فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ} (الجن : 23).
المسألة الثانية : احتج من قال بحدوث علم الله تعالى بهذه الآية لأن معنى الآية ليعلم الله أن قد أبلغوا الرسالة ، ونظيره قوله تعالى : {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} (محمد : 31) والجواب من وجهين الأول : قال قتادة ومقاتل : ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة ، وعلى هذا ، اللام في قوله : {لِّيَعْلَمَ} متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل : أخبرناه بحفظ الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ الحق ، ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الرسول أن قد أبلغوا أي جبريل والملائكة الذين يبعثون إلى الرسل رسالات ربهم ، فلا يشك فيها ويعلم أنها حق من الله الثاني : وهو اختيار أكثر المحققين أن المعنى ليعلم الله أن قد أبلغ الأنبياء رسالات ربهم ، والعلم ههنا مثله في قوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ} (آل عمران : 142) والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم فيعلم ذلك منهم.
المسألة الثالثة : قرىء {لِّيَعْلَمَ} على البناء للمفعول.
أما قوله : {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} فهو يدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات ، وأما قوله : {وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدَا } فهو يدل على كونه عالماً بجميع الموجودات ، فإن قيل : إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي ، وقوله : {كُلَّ شَىْءٍ} يدل على كونه غير متناه ، فلزم وقوع التناقض في الآية ، قلنا : لا شك أن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي ، فأما لفظة {كُلَّ شَىْءٍ} فإنها لا تدل على كونه غير متناه ، لأن الشيء عندنا هو الموجودات ، والموجودات متناهية في العدد ، وهذه الآية أحد ما يحتج به على أن المعدوم ليس بشيء ، وذلك لأن المعدوم لو كان شيئاً ، لكانت الأشياء غير متناهية ، وقوله : {وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدَا } يقتضي كون تلك المحصيات متناهية ، فيلزم الجمع بين كونها متناهية وغير متناهية وذلك محال ، فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض.
جزء : 30 رقم الصفحة : 681
والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين ، وخاتم النبيين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 681
683
(1/4563)

سورة المزمل عليه السلام
وهي عشرون آية مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 683
684
/ فيه مسألتان :
المسألة الأولى : أجمعوا على أن المراد بالمزمل النبي عليه السلام ، وأصله المتزمل بالتاء وهو الذي تزمل بثيابه أي تلفف بها ، فأدغم التاء في الزاي ، ونحوه المدثر في المتدثر ، واختلفوا لم تزمل بثوبه ؟
على وجوه أحدها : قال ابن عباس : أول ما جاءه جبريل عليه السلام خافه وظن أن به مساً من الجن ، فرجع من الجبل مرتعداً وقال : زملوني ، فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال : يا أيها المزمل وثانيها : قال الكلبي : إنما تزمل النبي عليه السلام بثيابه للتهيء للصلاة وهو اختيار الفراء وثالثها : أنه عليه السلام كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة ، وقيل : يا أيها النائم المتزمل بثوبه قم واشتغل بالعبودية ورابعها : أنه كان متزملاً في مرط لخديجة مستأنساً بها فقيل له : {عَدَدَا * يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ} كأنه قيل : اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية وخامسها : قال عكرمة : يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله والزمل الحمل ، وازدمله احتمله.
المسألة الثانية : قرأ عكرمة {الْمُزَّمِّلُ} و{الْمُدَّثِّرُ} (المدثر : 1) بتخفيف الزاي والدال وتشديد الميم والثاء على أنه اسم فاعل أو مفعول ، فإن كان على اسم الفاعل كان المفعول محذوفاً والتقدير يا أيها المزمل نفسه والمدثر نفسه وحذف المفعول في مثل هذا المقام فصيح قال تعالى : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} أي أوتيت من كل شيء شيئاً ، وإن كان على أنه اسم المفعول كان ذلك لأنه زمل نفسه أو زمله غيره ، وقرىء (يا أيها المتزمل) على الأصل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 684
686
وقوله تعالى : {قُمِ الَّيْلَ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله لقوله : {قُمِ الَّيْلَ} وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ ، واختلفوا في سبب النسخ على وجوه أولها : أنه كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها وثانيها : أنه تعالى لما قال : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِّصْفَه ا أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وشق عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر هذه السورة : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه } (المزمل : 20) وذلك في صدر الإسلام ، ثم قال ابن عباس : وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة ، وقال في رواية أخرى : إن إيجاب هذا كان بمكة ونسخه كان بالمدينة ، ثم نسخ هذا القدر أيضاً بالصلوات الخمس ، والفرق بين هذا القول وبين القول الأول أن في هذا القول نسخ وجوب التهجد بقوله : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } (المزمل : 20) ثم نسخ هذا بإيجاب الصلوات ، وفي القول الأول نسخ إيجاب التهجد بإيجاب الصلوات الخمس ابتداء ، وقال بعض العلماء : التهجد ما كان واجباً قط ، والدليل عليه وجوه أولها : قوله : {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِه نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء : 79) فبين أن التهجد نافلة له لا فرض ، وأجاب ابن عباس عنه بأن المعنى زيادة وجوب عليك وثانيها : أن التهجد لو كان واجباً على الرسول لوجب على أمته لقوله : {وَاتَّبِعُوهُ} (الأعراف : 158) وورود النسخ على خلاف الأصل وثالثها : استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال : {نِّصْفَه ا أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجباً وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول : أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك ، ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله : {قُمِ الَّيْلَ} وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب ، لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب ، فلا بد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعاً للاشتراك والمجاز ، وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل ، فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب والله أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 686
المسألة الثانية : قرأ أبو السمال {قُمِ الَّيْلَ} بفتح الميم وغيره بضم الميم ، قال أبو الفتح بن جني : الغرض من هذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين ، فأي الحركات تحرك فقد حصل الغرض وحكى قطرب عنهم : قم الليل ، وقل الحق برفع الميم واللام وبع الثوب ثم قال : من كسر فعلى أصل الباب ومن ضم أتبع ومن فتح فقد مال إلى خفة الفتح.
قوله تعالى : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِّصْفَه ا أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} .
(1/4564)

اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول : أن المراد بقوله : {إِلا قَلِيلا} الثلث ، والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه } (المزمل : 20) فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان/ فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا} هو الثلث ، فإذاً قوله : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا} معناه قم ثلثي الليل ثم قال : {نِّصْفَه } والمعنى أو قم نصفه ، كما تقول : جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت ، فتحذف واو العطف فتقدير الآية : قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه ، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ، ويكون الثلث أقصى النقصان ، فيكون الواجب هو الثلث ، والزائد عليه يكون مندوباً ، فإن قيل : فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم قد ترك الواجب ، لأنه تعالى قال : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه } فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين ، وأقل من النصف ، وأقل من الثلث ، فإذا كان الثلث واجباً كان عليه السلام تاركاً للواجب ، قلنا : إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد ، فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئاً قليلاً فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله ، ولذلك قال تعالى لهم : {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} (
جزء : 30 رقم الصفحة : 686
المزمل : 20) ، الوجه الثاني : أن يكون قوله : {نِّصْفَه } تفسيراً لقوله : {قَلِيلا} وهذا التفسير جائز لوجهين الأول : أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني : أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً ، فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه ، وإذا ثبت هذا فنقول : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا} معناه قم الليل إلا نصفه ، فيكون الحاصل : قم نصف الليل ، ثم قال : {أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع ، ثم قال : {أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه ، وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام النصف ، وبين أن يقوم ربع الليل ، وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه ، وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لا بد منه هو قيام الربع ، والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل ، وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه } (المزمل : 20) يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل ، ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات ، فزال السؤال المذكور ، والله أعلم.
قوله تعالى : {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا} قال الزجاج : رتل القرآن ترتيلاً ، بينه تبييناً ، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن ، إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع ، قال المبرد : أصله من قولهم : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير ، وقال الليث : الترتيل تنسيق الشيء ، وثغر رتل ، حسن التنضيد ، ورتلت الكلام ترتيلاً ، إذا تملهت فيه وأحسنت تأليفه ، وقوله تعالى : {تَرْتِيلا} تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه مما لا بد منه للقارىء.
/ واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها ، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته ، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله ، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني ، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية/ ومن ابتهج بشيء أحب ذكره ، ومن أحب شيئاً لم يمر عليه بسرعة ، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 686
686
(1/4565)

ذكروا في تفسير الثقيل وجوهاً أحدها : وهو المختار عندي أن المراد من كونه ثقيلاً عظم قدره وجلالة خطره ، وكل شيء نفس وعظم خطره ، فهو ثقل وثقيل وثاقل ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء : {قَوْلا ثَقِيلا} يعني كلاماً عظيماً ، ووجه النظم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً ، فلا بد وأن تسعى في صيرورة نفسك مستعدة لذلك القول العظيم ، ولا يحصل ذلك الاستعداد إلا بصلاة الليل ، فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره والثناء عليه ، والتضرع بين يديه ، ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية والعوائق الجسمانية استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها ، وتهيأت للتجرد التام ، والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية ، فلما كان لصلاة الليل أثر في صيرورة النفس مستعدة لهذا المعنى لا جرم قال : إني إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ، فصير نفسك مستعدة لقبول ذلك المعنى ، وتمام هذا المعنى ما قال عليه الصلاة والسلام : "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" وثانيها : قالوا : المراد بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين عامة ، وعلى رسول الله خاصة ، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته ، وحاصله أن ثقله راجع إلى ثقل العمل به ، فإنه لا معنى للتكليف إلا إلزام ما في فعله كلفة ومشقة وثالثها : روى عن الحسن : أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة ، وهو إشارة إلى كثرة منافعه وكثرة الثواب في العمل به ورابعها : المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه ، روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها ، حتى وضعت جرانها ، فلم تستطع أن تتحرك ، وعن ابن عباس : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه ، وعن عائشة رضي الله عنها : "رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليرفض عرقاً" وخامسها : قال الفراء : {قَوْلا ثَقِيلا} أي ليس بالخفيف ولا بالسفساف ، لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى وسادسها : قال الزجاج : معناه أنه قول متين في صحته وبيانه ونفعه ، / كما تقول : هذا كلام رزين وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان وسابعها : قال أبو علي الفارسي : إنه ثقيل على المنافقين ، من حيث إنه يهتك أسرارهم ، ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم وثامنها : أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول ، فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن على وجه الدهر كما قال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (الحجر : 9) ، وتاسعها : أنه ثقيل بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه ، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون ، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله ، فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ، وعاشرها : أنه ثقيل لكونه مشتملاً على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون ، المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية ، فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق.
جزء : 30 رقم الصفحة : 686
687
(1/4566)

قوله تعالى : {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ} يقال : نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة ، والإنشاء الإحداث ، فكل ما حدث (فهو ناشىء) فإنه يقال للذكر ناشىء وللمؤنث ناشئة ، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان : أحدهما : أنها عبارة عن ساعات الليل والثاني : أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل ، أما القول الأول ، فقال أبو عبيدة : ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى ، فهي ناشئة بعد ناشئة ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال الليل كله ناشئة ، روى ابن أبي مليكة ، قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل ، فقال الليل كله ناشئة. وقال زين العابدين رضي الله عنه : ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا : لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدىء سواد الليل ، القول الثاني : هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل ، وذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها : قالوا : ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها : ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم ، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة ، ومنه ناشئة الليل ، وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة ، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية ، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات ، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية ، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية / والخواطر النورانية ، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس ، وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار ، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات ، وتارة أنوار ومكاشفات ، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه ، أو تخيلات أحوال عجيبة ، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناساً كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 687
أما قوله تعالى : {هِىَ أَشَدُّ} أي مواطأة وملاءمة وموافقة ، وهي مصدر يقال : واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطأة ومنه {عَامًا لِّيُوَاطِـاُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة : 37) أي ليوافقوا ، فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص ، وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان ، وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى مايراد من الخشوع والإخلاص ، وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار ، وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق.
المسألة الثانية : قرىء : {أَشَدُّ} بالفتح والكسر وفيه وجهان الأول : قال الفراء : أشد ثبات قدم ، لأن النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني : أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار ، وهو من قولك : اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه ، وفي الحديث : "اللهم أشدد وطأتك على مضر" فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام : "أفضل العبادات أحمزها" أي أشقها. واختار أبو عبيدة القراءة الأولى ، قال : لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية ، فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل ، وأيضاً الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم.
قوله تعالى : {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : {إِلا قَلِيلا} قال ابن عباس : أحسن لفظاً ، قال ابن قتيبة : لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول ، ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل.
(1/4567)

المسألة الثانية : قرأ أنس (وأصوب قيلا) ، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي : {وَأَقْوَمُ قِيلا} فقال أنس : (إن أقوم) وأصوب وأهيأ واحد ، قال ابن جني ، وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ، فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ : (فحاسوا خلال الديار) بالحاء غير المعجمة ، فقيل له : إنما هو جاسوا ، فقال : حاسوا وجاسوا واحدو أنا / أقول : يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيراً للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن ، إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن ، ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقاً لذلك المعنى ، ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد ، وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن ، فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 687
688
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال المبرد : سبحاً أي تقلباً فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحاً لتقلبه بيديه ورجليه ، ثم في كيفية المعنى وجهان الأول : إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل ، فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني : قال الزجاج : أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه.
المسألة الثانية : قرىء بالخاء المنقطة من فوق ، وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه ، فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل ، وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة ، واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولاً بقيام الليل ، ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار ، ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو.
جزء : 30 رقم الصفحة : 688
689
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما : الذكر ، والثاني : التبتل ، أما الذكر فاعلم أنه إنما قال : {كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} ههنا وقال في آية أخرى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف : 205) لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم ويبقى المسمى ، فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وإنما تكون مشتغلاً بذكر الرب ، إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته ، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك ، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق القلب به ، وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلاً بذكر إلهيته ، وإليه الإشارة بقوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} (البقرة : 200) وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية ، لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية ، ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام متردداً في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية ، التي كلت العبارات عن شرحها ، وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها ، وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق ، ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات ، حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة ، ولا تكون الهوية مركبة حتى / ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء ، ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة ، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر ، وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات ، فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره ، وأما قوله تعالى : {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} ففيه مسألتان :
جزء : 30 رقم الصفحة : 689
(1/4568)

المسألة الأولى : اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص ، وأصل التبتل في اللغة القطع ، وقيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة ، وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها. وقال الليث : التبتيل تمييز الشيء عن الشيء ، والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال ، لا رغبة لها فيهم. إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات ، قال الفراء : يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته ، وقال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله ، واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون لأن قوله : {وَتَبَتَّلْ} أي انقطع عن كل ما سواه إليه والمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى ، بل التبتل إلى الآخرة والمغشول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله ، والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبداً كاملاً بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله ، ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان ، ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف ، فقد خاض لجة الوصول ، وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ، ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ولا يجد الإنسان لهذا مثالاً إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية ، فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق.
المسألة الثانية : الواجب أن يقال : وتبتل إليه تبتلاً أو يقال : بتل نفسك إليه تبتيلاً ، لكنه تعالى لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعاً إلى الله ، إلا أنه لا بد أولاً من التبتيل حتى يحصل التبتل كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فذكر التبتل أولاً إشعاراً بأنه المقصود بالذات وذكر التبتيل ثانياً إشعاراً بأنه لا بد منه ولكنه مقصود بالغرض.
واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولاً ثم بالتبتل ثانياً ذكر السبب فيه فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 689
689
وفيه مسائل :
(1/4569)

/ المسألة الأولى : اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة ، والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى ، وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل ، أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوباً لأجل شيء آخر ، وإلا لزم التسلسل ، فإذاً لا بد من الانتهاء إلى ما يكون محبوباً لذاته ، والكمال محبوب لذاته ، فإن من اعتقد أن فلاناً الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفاً بعلم أزيد من علم سائر الناس مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى ، ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفاً بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى ، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته وكمال الكمال لله تعالى ، فالله تعالى محبوب لذاته ، فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله ، وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب والجواد المطلق هو الله تعالى فالمحبوب المطلق هو الله تعالى ، والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى ، لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه ، فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه ، واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملاً في ذاته ، لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالباً للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان ، ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالباً للمعروف لا للعرفان ، فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملاً فقوله : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين ، فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي ، ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر ، وهو مقام التفويض ، وهو أن يرفع الاختيار من البين ، ويفوض الأمر بالكلية إليه ، فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلاً رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو ، بل من حيث إنه مراد الحق ، وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتيل ، بل من حيث إنه مراد الحق ، وههنا آخر الدرجات ، وقوله : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} إشارة إلى هذه الحالة ، فهذا ما جرى به القلم في تفسير في هذه الآية ، وفي الزوايا خبايا ، ومن أسرار هذه الآية بقايا {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّه } (لقمان : 27).
جزء : 30 رقم الصفحة : 689
المسألة الثانية : {رَّبُّ} فيه قراءتان إحداهما : الرفع ، وفيه وجهان : أحدهما : على المدح ، والتقدير هو رب المشرق ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، كقوله : {بِشَرٍّ مِّن ذَالِكُمُا النَّارُ} وقوله : {مَتَـاعٌ قَلِيلٌ} (آل عمران : 197) أي تقلبهم متاع قليل والثاني : أن ترفعه بالابتداء ، وخبره الجملة التي هي ، {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} ، والعائد إليه الضمير المنفصل ، والقراءة الثانية : الخفض ، وفيها وجهان : الأول : على البدل {مِن رَّبِّكَ} (المزمل : 8) والثاني : قال ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسم كقولك : الله لأفعلن وجوابه : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} كما تقول والله لا أحد في الدار إلا زيد ، وقرأ ابن عباس {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} .
أما قوله : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلاً / وأن تفوض كل أمورك إليه/ وههنا مقام عظيم ، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه ، فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو ، وتقريره أن كل ما سواه ممكن ومحدث ، وكل ممكن ومحدث ، فإنه مالم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب ، ولما كان الواجب لذاته واحداً كان جميع الممكنات مستندة إليه ، منتهية إليه وهذا هو المراد من قوله : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} وقال بعضهم : {وَكِيلا} أي كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 689
690
(1/4570)

المعنى إنك لما اتخذتني وكيلاً فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك ، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع الله ، وكيفية معاملتهم مع الخلق ، والأول أهم من الثاني ، فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني ، وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين ، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطاً للناس أو مجانباً عنهم فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم ، فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان ، فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير ، فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل ، فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين ، والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المدارة والإغضاء وترك المكافأة ، ونظيره {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} (النساء : 63) {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (الأعراف : 199) {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} (النجم : 29) قال المفسرون : هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال ، وقال آخرون : بل ذلك هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله وهذا أصح.
جزء : 30 رقم الصفحة : 690
690
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادراً على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له : ذرني أنا وذاك أي لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر وهو كقوله : {فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ} (القلم : 44) وقوله : {أُوالِى النَّعْمَةِ} بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة يقال : أنعم بك ونعمك عيناً أي أسرَّ عينك وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} فيه وجهان أحدهما : المراد من القليل الحياة الدنيا والثاني : المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر ، فإن الله أهلكهم في ذلك اليوم.
/ ثم ذكر كيفية عذابهم عند الله فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 690
691
أي إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا ، وذكر أموراً أربعة أولها : قوله : {أَنكَالا} واحدها نكل ونكل ، قال الواحدي : النكل القيد ، وقال صاحب الكشاف : النكل القيد الثقيل وثانيها : قوله : {وَجَحِيمًا} ولا حاجة به إلى التفسير وثالثها : قوله : {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} الغصة ما يغص به الإنسان ، وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى : {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ} (الغاشية : 6) قالوا : إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج ورابعها : قوله : {وَعَذَابًا أَلِيمًا} والمراد منه سائر أنواع العذاب ، واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية ، أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية ، فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة ، فبعد البدن يشتد الحنين ، مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ، ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية ، فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها ، يوجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ، ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه ، فذاك هو الجحيم ، ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق ، فذاك هو المراد من قوله : {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروماً عن تجلي نور الله والانخراط في سلك المقدسين ، وذلك هو المراد من قوله : {وَعَذَابًا أَلِيمًا} والتنكير في قوله : {وَعَذَابًا} يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل ، واعلم أني لا أقول المراد بهذه الآيات هو ما ذكرته فقط ، بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية ، وحصول المراتب الأربعة الروحانية ، ولا يمتنع حمله عليهما ، وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة ، وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازاً متعارفاً مشهوراً.
ثم إنه تعالى لما وصف العذاب ، أخبر أنه متى يكون ذلك فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 691
693
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : {يَوْمَ} منصوب بقول : {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالا وَجَحِيمًا} (المزمل : 12) أي ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم ترجف الأرض.
(1/4571)

المسألة الثانية : الرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة ، والكثيب القطعة العظيمة من الرمل تجتمع محدودبة وجمعه الكثبان ، وفي كيفية الاشتقاق قولان : أحدهما : أنه من كثب الشيء / إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول والثاني : قال الليث : الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به ، والفعل اللازم انكثب ينكثب انكثاباً ، وسمي الكثيب كثيباً ، لأن ترابه دقاق ، كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته ، وقوله : {مَّهِيلا} أي سائلاً قد أسيل ، يقال : تراب مهيل ومهيول أي مصبوب ومسيل الأكثر في اللغة مهيل ، وهو مثل قولك مكيل ومكيول ، ومدين ومديون ، وذلك أن الياء تحذف منه الضمة فتسكن ، والواو أيضاً ساكنة ، فتحذف الواو لالتقاء الساكنين ذكره الفراء والزجاج ، وإذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى يفرق تركيب أجزاء الجبال وينسفها نسفاً ويجعلها كالعهن المنفوش ، فعند ذلك تصير كالكثيب ، ثم إنه تعالى يحركها على ما قال : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} (الكهف : 47) وقال : {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } (النمل : 88) وقال : {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} (النبإ : 20) فعند ذلك تصير مهيلاً ، فإن قيل لم لم يقل : وكانت الجبال كثباناً مهيلة ؟
قلنا : لأنها بأسرها تجتمع فتصير كثيباً واحداً مهيلاً.
واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النعمة بأهوال القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 693
693
واعلم أن الخطاب لأهل مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم نكر الرسول ثم عرف ؟
الجواب : التقدير أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه فأخذناه أخذاً وبيلاً ، فأرسلنا إليكم أيضاً رسولاً فعصيتم ذلك الرسول ، فلا بد وأن نأخذكم أخذاً وبيلا.
السؤال الثاني : هل يمكن التمسك بهذه الآية في إثبات أن القياس حجة ؟
والجواب : نعم لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى ، فإن قيل : هب أن القياس في هذه الصورة حجة ، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة ، وحينئذ يحتاج إلى قياس سائر القياسات على هذا القياس ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس ، وإنه غير جائز ؟
قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة ، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم ، بل وجه التمسك هو أن نقول : لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظناً يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة ، وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم ههنا فإن لقائل أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حالة العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة ههنا ، فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل ههنا ، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم / بالتسوية في الحكم فهذا الجزم لا بد وأن يقال : إنه كان مسبوقاً بتقرير أنه متى وقع الاشتراك في المناط الظاهر وجب الجزم بالاشتراك في الحكم ، وإن مجرد احتمال الفرق بالأشياء التي لا يعلم كونها مناسبة للحكم لا يكون قادحاً في تلك التسوية ، فلا معنى لقولنا القياس حجة إلا هذا.
السؤال الثالث : لم ذكر في هذا الموضع قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم ؟
الجواب : لأن أهل مكة ازدروا محمداً عليه الصلاة والسلام ، واستخفوا به لأنه ولد فيهم ، كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه رباه وولد فيما بينهم وهو قوله : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} (الشعراء : 18).
السؤال الرابع : ما معنى كون الرسول شاهداً عليهم ؟
الجواب : من وجهين الأول : أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم الثاني : المراد كونه مبيناً للحق في الدنيا ، ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الكفر ، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ، ولذلك وصفت بأنها بينة ، فلا يمتنع أن يوصف عليه الصلاة والسلام بذلك من حيث إنه بين الحق ، وهذا بعيد لأن الله تعالى قال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) أي عدولاً خياراً {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) فبين أنه يكون شاهداً عليهم في المستقبل ، ولأن حمله على الشهادة في الآخرة حقيقة ، وحمله على البيان مجاز والحقيقة أولى.
جزء : 30 رقم الصفحة : 693
السؤال الخامس : ما معنى الوبيل ؟
الجواب : فيه وجهان الأول : الوبيل : الثقيل الغليظ ومنه قولهم : صار هذا وبالاً عليهم ، أي أفضى به إلى غاية المكروه ، ومن هذا قيل للمطر العظيم : وابل ، والوبيل : العصا الضخمة الثاني : قال أبو زيد : الوبيل الذي لا يستمرأ ، وماء وبيل وخيم إذا كان غير مريء وكلأ مستوبل ، إذا أدت عاقبته إلى مكروه ، إذا عرفت هذا فنقول قوله : {فَأَخَذْنَـاهُ أَخْذًا وَبِيلا} يعني الغرق ، قاله الكلبي ومقاتل وقتادة.
ثم إنه تعالى عاد إلى تخويفهم بالقيامة مرة أخرى فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 693
696
وفيه مسائل :
(1/4572)

المسألة الأولى : قال الواحدي : في الآية تقديم وتأخير ، أي فكيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم.
المسألة الثانية : ذكر صاحب "الكشاف" في قوله : {يَوْمًا} وجوهاً الأول : أنه مفعول به ، أي فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر والثاني : أن يكون ظرفاً أي / وكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والثالث : أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم ، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء لأن تقوى الله لا معنى لها إلا خوف عقابه.
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين الأول : قوله : {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} وفيه وجهان الأول : أنه مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان ، إذا تفاقمت على الإنسان ، أسرع فيه الشيب ، لأن كثرة الهموم توجب انقصار الروح إلى داخل القلب ، وذلك الانقصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وانطفاء الحرارة الغريزية وضعفها ، يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط ، وذلك يوجب ابيضاض الشعر ، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم ، جعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الوالدان شيباً حقيقة ، لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز يوم القيامة الثاني : يجوز أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب ، ولقد سألني بعض الأدباء عن قول المعري :
وظلم يملأ الفودين شيباً
وقال : كيف يفضل هذا التشبيه الذي في القرآن على بيت المعري ؟
فقلت : من وجوه الأول : أن امتلاء الفودين من الشيب ليس بعجب ، أما صيرورة الولدان شيباً فهو عجيب كأن شدة ذلك اليوم تنقلهم من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة ، من غير أن يمروا فيما بين الحالتين بسن الشباب ، وهذا هو المبالغة العظيمة في وصف اليوم بالشدة وثانيها : أن امتلاء الفودين من الشيب معناه ابيضاض الشعر ، وقد يبيض الشعر لعلة مع أن قوة الشباب تكون باقية فهذا ليس فيه مبالغة ، وأما الآية فإنها تدل على صيرورة الولدان شيوخاً في الضعف والنحافة وعدم طراوة الوجه ، وذلك نهاية في شدة ذلك اليوم وثالثها : أن امتلاء الفودين من الشيب ، ليس فيه مبالغة لأن جانبي الرأس موضع للرطوبات الكثيرة البلغمية ، ولهذا السبب ، فإن الشيب إنما يحدث أولاً في الصدغين ، وبعده في سائر جوانب الرأس ، فحصول الشيب في الفودين ليس بمبالغة إنما المبالغة هو استيلاء الشيب على جميع أجزاء الرأس بل على جميع أجزاء البدن كما هو مذكور في الآية ، والله أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 696
النوع الثاني : من أهوال يوم القيامة قوله : {السَّمَآءُ مُنفَطِرُا بِه } وهذا وصف لليوم بالشدة أيضاً ، وأن السماء على عظمها وقوتها تنفطر فيه ، فما ظنك بغيرها من الخلائق ، ونظيره قوله : {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار : 1) وفيه سؤالان :
السؤال الأول : لم لم يقل : منفطرة ؟
الجواب من وجوه : أولها : روى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء ، إنما قال : {السَّمَآءُ مُنفَطِرُ } ولم يقل : منفطرة لأن مجازها مجاز السقف ، تقول : هذا سماء البيت وثانيها : قال الفراء : السماء تؤنث وتذكر ، وهي ههنا في وجوه التذكير / وأنشد شعراً :
فلو رفع السماء إليه قوما
لحقنا بالنجوم مع السحاب
وثالثها : أن تأنيث السماء ليس بحقيقي ، وما كان كذلك جاز تذكيره.
قال الشاعر :
والعين بالإثمد الخيري مكحول
وقال الأعشى :
فلا مزنة ودقت ودقها
ولا أرض أبقل إبقالها
ورابعها : أن يكون السماء ذات انفطار فيكون من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، وأعجاز نخل منقعر ، وكقولهم امرأة مرضع ، أي ذات رضاع.
السؤال الثاني : ما معنى : {مُنفَطِرُا بِه } ؟
الجواب من وجوه : أحدها : قال الفراء : المعنى منفطر فيه وثانيها : أن الباء في (به) مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به ، يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله ، كما ينفطر الشيء بما ينفطر به وثالثها : يجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظم تلك الواقعة عليها وخشيتها منها كقوله : {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الأعراف : 187).
(1/4573)

أما قوله : {كَانَ وَعْدُه مَفْعُولا} فاعلم أن الضمير في قوله : {وَعْدُه } يحتمل أن يكون عائداً إلى المفعول وأن يكون عائداً إلى الفاعل ، أما الأول : فأن يكون المعنى وعد ذلك اليوم مفعول أي الوعد المضاف إلى ذلك اليوم واجب الوقوع ، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه ، وأما الثاني : فأن يكون المعنى وعد الله واقع لا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وههنا وإن لم يجر ذكر الله تعالى ولكنه حسن عود الضمير إليه لكونه معلوماً ، واعلم أنه تعالى بدأ في أول السورة بشرح أحوال السعداء ، ومعلوم أن أحوالهم قسمان أحدهما : ما يتعلق بالدين والطاعة للمولى فقدم ذلك والثاني : ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق وبين ذلك بقوله : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} (المزمل : 10) وأما الأشقياء فقد بدأ بتهديدهم على سبيل الإجمال ، وهو قوله تعالى : {وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ} (المزمل : 11) ثم ذكره بعده أنواع عذاب الآخرة ثم ذكر بعده عذاب الدنيا وهو الأخذ الوبيل في الدنيا ، ثم وصف بعده شدة يوم القيامة ، فعند هذا تم البيان بالكلية فلا جرم ختم ذلك الكلام بقوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 696
696
أي هذه الآيات تذكرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} واتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية.
جزء : 30 رقم الصفحة : 696
697
/ قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه وَطَآاـاِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } فيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد من قوله : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ} أقل منهما ، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك.
المسألة الثانية : قرىء {وَنِصْفَه وَثُلُثَه } بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف (والثلث) وقرىء {وَنِصْفَه وَثُلُثَه } بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث ، لكنا بينا في تفسير قوله : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا} (المزمل : 2) أنه لا يلزم من هذا أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركاً للواجب وقوله تعالى : {وَطَآاـاِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور.
قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ } يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى.
قوله تعالى : {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الضمير في {أَن لَّن تُحْصُوهُ} عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة ، ولا يمكنكم أيضاً تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة ، قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 697
المسألة الثانية : احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال : {لَّن تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوه ، ثم إنه كان قد كلفهم به ، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل : ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
وقوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ } هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُم فَالْـاَـانَ بَـاشِرُوهُنَّ} (البقرة : 187) والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب.
قوله تعالى : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } وفيه قولان : الأول : أن المراد من هذه القراءة / الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، أي فصلوا ما تيسر عليكم ، ثم ههنا قولان : الأول : قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء ، وقال آخرون : بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه ، ثم نسخ ذلك أيضاً بالصلوات الخمس القول الثاني : أن المراد من قوله : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل : يقرأ مائة آية ، وقيل : من قرأ مائة آية كتب من القانتين ، وقيل : خمسين آية ومنهم من قال : بل السورة القصيرة كافية ، لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعاً للحرج ، وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها. وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال : سقط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيام الليل وصارت تطوعاً وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
(1/4574)

ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى : {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُم فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِا عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى ا وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى} .
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل : لم نسخ الله ذلك ؟
فقال : لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله ، أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم ، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة ، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم ، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلّم ، كما قال تعالى : {إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} (المزمل : 7) فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخاً في حقه. ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود : "أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء" ثم أعاد مرة أخرى قوله : {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه } وذلك للتأكيد ثم قال : {وَإِذْ أَخَذْنَا} يعني المفروضة {وَإِذْ أَخَذْنَا} أي الواجبة وقيل : زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنياً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 697
قوله تعالى : {وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه يريد سائر الصدقات / وثانيها : يريد أداء الزكاة على أحسن وجه ، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعاً للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إلى المستحق وثالثها : يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال : {وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت ، وقال الزجاج : وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً لكم من متاع الدنيا ، والقول ما قاله ابن عباس.
المسألة الثانية : معنى الآية : وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً إلا أنه قال : هو خيراً للتأكيد والمبالغة ، وقرأ أبو السمال هو خير وأعظم أجراً بالرفع على الابتداء والخبر ، ثم قال : {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوب المؤمنين {رَّحِيمُ } بهم ، وفي الغفور قولان : أحدهما : أنه غفور لجميع الذنوب ، وهو قول مقاتل والثاني : أنه غفور لمن يصر على الذنب ، احتج مقاتل على قوله بوجهين الأول : أن قوله : {غَفُورٌ رَّحِيمُ } يتناول التائب والمصر ، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني : أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح/ والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 697
697
(1/4575)

سورة المدثر عليه السلام
خمسون وست آيات مكية ، وعند بعضهم
أنها أول ما نزل
جزء : 30 رقم الصفحة : 697
698
/ فيه مسائل :
المسألة الأولى : المدثر ، أصله المتدثر ، وهو الذي يتدثر بثيابه لينام ، أو ليستدفىء ، يقال : تدثر بثوبه ، والدثار اسم لما يتدثر به ، ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما.
المسألة الثانية : أجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثراً ، فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثراً بثوبه ، ومنهم من ترك هذا الظاهر ، أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن ، روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال : "كنت على جبل حراء ، فنوديت يا محمد إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساري ، فلم أر شيئاً ، فنظرت فوقي ، فرأيت الملك قاعداً على عرش بين السماء والأرض ، فخفت ورجعت إلى خديجة ، فقلت : دثروني دثروني ، وصبوا علي ماء بارداً ، فنزل جبريل عليه السلام بقوله : {رَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} " وثانيها : أن النفر الذين آذوا رسول الله ، وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا : إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد ، فكل واحد منا يجيب بجواب آخر ، فواحد يقول : مجنون ، وآخر يقول : كاهن ، وآخر يقول : شاعر ، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة ، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد ، فقال واحد : إنه شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام عبيد بن الأبرص ، وكلام أمية بن أبي الصلت ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، وقال آخرون كاهن ، قال الوليد : ومن الكاهن ؟
قالوا : الذي يصدق تارة ويكذب أخرى ، قال الوليد : ما كذب محمد قط ، فقال آخر : إنه مجنون فقال الوليد : ومن يكون المجنون ؟
قالوا : مخيف الناس ، فقال الوليد : ما أخيف بمحمد أحد قط ، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته ، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة ، / فدخل عليه أبو جهل ، وقال مالك : يا أبا عبد شمس ؟
هذه قريش تجمع لك شيئاً ، زعموا أنك احتججت وصبأت ، فقال : الوليد مالي إليه حاجة ، ولكني فكرت في محمد. فقلت : إنه ساحر ، لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين ، وبين المرأة وزوجها ، ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب ، ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون ، فقالوا : إن محمداً لساحر ، فوقعت الضجة في الناس أن محمداً ساحر ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك اشتد عليه ، ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه ، فأنزل الله تعالى : {رَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} وثالثها : أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً متدثراً بثيابه ، فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه ، وقال : {رَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} كأنه قال : له اترك التدثر بالثياب والنوم ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له.
جزء : 30 رقم الصفحة : 698
القول الثاني : أنه ليس المراد من المدثر ، المتدثر بالثياب ، وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه أحدها : أن المراد كونه متدثراً بدثار النبوة والرسالة من قولهم : ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم ، ويقال : تلبس فلان بأمر كذا ، فالمراد {رَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بدثار النبوة {قُمْ فَأَنذِرْ} (المدثر : 2) وثانيها : أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه ، وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء كان كالمختفي من الناس ، فكأنه قيل : يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء ، قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول/ واشتغل بإنذار الخلق ، والدعوة إلى معرفة الحق وثالثها : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين ، فكأنه قيل له : يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم ، والخلق الكريم ، والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك.
المسألة الثالثة : عن عكرمة أنه قرىء على لفظ اسم المفعول من دثره ، كأنه قيل له : دثرت هذا الأمر وعصيت به ، وقد سبق نظيره في المزمل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 698
699
في قوله : {قُمْ} وجهان أحدهما : قم من مضجعك والثاني : قم قيام عزم وتصميم ، وفي قوله : {فَأَنذِرْ} وجهان أحدهما : حذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. وقال ابن عباس : قم نذيراً للبشر ، احتج القائلون بالقول الأول بقوله تعالى : {وَأَنذِرِ} واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ : 28) وههنا قول ثالث ، وهو أن المراد فاشتغل بفعل الإنذار ، كأنه تعالى يقول له تهيأ لهذه الحرفة ، فإنه فرق بين أن يقال تعلم صنعة المناظرة ، وبين أن يقال : ناظر زيداً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 699
700
فيه مسألتان :
(1/4576)

المسألة الأولى : ذكروا في تفسير التكبير وجوهاً أحدها : قال الكلبي : عظم ربك / مما يقوله عبدة الأوثان وثانيها : قال مقاتل : هو أن يقول : الله أكبر ، روى أنه "لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : الله أكبر كبيراً ، فكبرت خديجة وفرحت ، وعلمت أنه أوحى إليه" وثالثها : المراد منه التكبير في الصلوات ، فإن قيل : هذه السورة نزلت في أول البعث وما كانت الصلاة واجبة في ذلك الوقت ؟
قلنا : لا يبعد أنه كانت له عليه السلام صلوات تطوعية ، فأمر أن يكبر ربه فيها ورابعها : يحتمل عندي أن يكون المراد أنه لما قيل له : {قُمْ فَأَنذِرْ} قيل بعد ذلك : {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عن اللغو والعبث.
واعلم أنه ما أمرك بهذا الإنذار إلا لحكمة بالغة ، ومهمات عظيمة ، لا يجوز لك الإخلال بها ، فقوله : {وَرَبَّكَ} كالتأكيد في تقرير قوله : {قُمْ فَأَنذِرْ} وخامسها : عندي فيه وجه آخر وهو أنه لما أمره بالإنذار ، فكأن سائلاً سأل وقال : بماذا ينذر ؟
فقال : أن يكبر ربه عن الشركاء والأضداد والأنداد ومشابهة الممكنات والمحدثات ، ونظير قوله في سورة النحل : {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل : 2) وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى معرفة الله ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات.
المسألة الثانية : الفاء في قوله : {فَكَبِّرْ} ذكروا فيه وجوهاً أحدها : قال أبو الفتح الموصلي : يقال : زيداً فاضرب ، وعمراً فاشكر ، وتقديره زيداً اضرب وعمراً اشكر ، فعنده أن الفاء زائدة وثانيها : قال الزجاج : دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية ، والمعنى : قم فكبر ربك وكذلك ما بعده على هذا التأويل وثالثها : قال صاحب "الكشاف" : الفاء لإفادة معنى الشرط ، والتقدير : وأي شيء كان فلا تدع تكبيره.
جزء : 30 رقم الصفحة : 700
702
اعلم أن تفسير هذه الآية يقع على أربعة أوجه أحدها : أن يترك لفظ الثياب والتطهير على ظاهره والثاني : أن يترك لفظ الثياب على حقيقته ، ويحمل لفظ التطهير على مجازه الثالث : أن يحمل لفظ الثياب على مجازه ، ويترك لفظ التطهير على حقيقته والرابع : أن يحمل اللفظان على المجاز أما الاحتمال الأول : وهو أن يترك لفظ الثياب ، ولفظ التطهير على حقيقته ، فهو أن نقول : المراد منه أنه عليه الصلاة والسلام ، أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير يظهر في الآية ثلاثة احتمالات أحدها : قال الشافعي : المقصود منه الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم سلى شاة ، فشق عليه ورجع إلى / بيته حزيناً وتدثر بثيابه ، فقيل : {رَّحِيمُ * يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} (المدثر : 1 ـ 2) ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر : 3) عن أن لا ينتقم منهم {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} عن تلك النجاسات والقاذورات ، الاحتمال الثاني : أن يبقى لفظ الثياب على حقيقته ، ويجعل لفظ التطهير على مجازه ، فهنا قولان : الأول : أن المراد من قوله : {فَطَهِّرْ} أي فقصر ، وذلك لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم فكانت ثيابهم تتنجس ، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والكبر ، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن ذلك القول الثاني : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي ينبغي أن تكون الثياب التي تلبسها مطهرة عن أن تكون مغصوبة أو محرمة ، بل تكون مكتسبة من وجه حلال ، الاحتمال الثالث : أن يبقى لفظ التطهير على حقيقته ، ويحمل لفظ الثياب على مجازه ، وذلك أن يحمل لفظ الثياب على الحقيقة وذلك لأن العرب ما كانوا يتنظفون وقت الاستنجاء ، فأمر عليه الصلاة والسلام بذلك التنظيف وقد يجعل لفظ الثياب كناية عن النفس.
قال عنترة :
فشككت بالرمح الأصم ثيابه (أي نفسه)
ولهذا قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 702
ليس الكريم على القنا بمحرم
(1/4577)

الاحتمال الرابع : وهو أن يحمل لفظ الثياب ، ولفظ التطهير على المجاز ، وذكروا على هذا الاحتمال وجوهاً الأول : وهو قول أكثر المفسرين : وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وعن الحسن : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال : وخلقك فحسن ، قال القفال : وهذا يحتمل وجوهاً أحدها : أن الكفار لما لقبوه بالساحر شق ذلك عليه جداً ، حتى رجع إلى بيته وتدثر بثيابه ، وكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر يقتضيه سوء الخلق ، فقيل له : {قُمْ فَأَنذِرْ} (المدثر : 2) ولا تحملنك سفاهتهم على ترك إنذارهم بل حسن خلقك والثاني : أنه زجر عن التخلق بأخلاقهم ، فقيل له : طهر ثيابك أي قلبك عن أخلاقهم ، في الافتراء والتقول والكذب وقطع الرحم والثالث : فطهر نفسك وقلبك عن أن تعزم على الانتقام منهم والإساءة إليهم ، ثم إذا فسرنا الآية بهذا الوجه ، ففي كيفية اتصالها بما قبلها وجهان الأول : أن يقال : إن الله تعالى لما ناداه في أول السورة ، فقال : {رَّحِيمُ * يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (المدثر : 1) وكان التدثر لباساً ، والدثار من الثياب ، قيل طهر ثيابك التي أنت متدثر بها عن أن تلبسها على هذا التفكر والجزع والضجر من افتراء المشركين الوجه الثاني : أن يفسر المدثر بكونه متدثراً بالنبوة ، كأنه قيل : يا أيها المتدثر بالنبوة طهر ما تدثرت به عن الجزع وقلة الصبر ، والغضب والحقد ، فإن ذلك لا يليق بهذا الدثار ، ثم أوضح ذلك بقوله : {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر : 7) واعلم أن حمل المدثر على المتصف ببعض الصفات جائز ، يقال : فلان طاهر الجيب نقي الذيل ، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، ويقال : فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة ، قال الشاعر :
فلا أب وابناً مثل مروان وابنه
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان ، فلهذا / السبب جعلوا الثواب كناية عن الإنسان ، يقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره والثاني : أن الغالب أن من طهر باطنه ، فإنه يطهر ظاهره الوجه الثاني : في تأويل الآية أن قوله : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أمر له بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة ، وهذا على تأويل من حمل قوله : {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} (الشرح : 2 ، 3) على أيام الجاهلية الوجه الثاني : في تأويل الآية قال محمد بن عرفة النحوي معناه : نساءك طهرهن ، وقد يكنى عن النساء بالثياب ، قال تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } (البقرة : 187) وهذا التأويل بعيد ، لأن على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها.
جزء : 30 رقم الصفحة : 702
702
فيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في الرجز وجوهاً الأول : قال العتبي : الرجز العذاب قال الله تعالى : {لَـاـاِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} (الأعراف : 134) أي العذاب ثم سمي كيد الشيطان رجزاً لأنه سبب للعذاب ، وسميت الأصنام رجزاً لهذا المعنى أيضاً ، فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي ، ثم على هذا القول احتمالان أحدهما : أن قوله : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} يعني كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره ، والتقدير وذا الزجر فاهجر أي ذا العذاب فيكون المضاف محذوفاً والثاني : أنه سمي إلى ما يؤدي إلى العذاب عذاباً تسمية للشيء ، باسم ما يجاوره ويتصل به القول الثاني : أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى الرجس ، فقوله : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل له : اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح ، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز ، وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر : 4) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح.
المسألة الثانية : احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية ، قال لولا أنه كان مشتغلاً بها وإلا لما زجر عنها بقوله : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والجواب المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران ، كما أن المسلم إذا قال : اهدنا فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا ، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية ، فكذا ههنا.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الراء في هذه السورة وفي سائر القرآن بكسر الراء ، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر وقرأ يعقوب بالضم ، ثم قال الفراء : هما لغتان والمعنى واحد ، وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسر الراء العذاب ، ووسواس الشيطان أيضاً رجز ، وقال أبو عبيدة : أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 702
703
فيه مسائل :
(1/4578)

المسألة الأولى : القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه أحدها : أن / يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع وثانيها : أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر وثالثها : أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدراً أن تستكثر قال أبو علي الفارسي : هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائداً به غدا أي مقدراً للصيد فكذا ههنا المعنى مقدراً الاستكثار ، قال : ويجوز أن يحكي به حالاً أتية ، إذا عرفت هذا فنقول ، ذكروا في تفسير الآية وجوهاً أحدها : أنه تعالى أمره قبل هذه الآية ، بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال : {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة ، كالمستكثر لما تفعله ، بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه. قال الحسن ، لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها وثانيها : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين ، والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام ، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال : {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر : 7) ، وثالثها : لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر ، أي لتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به مالك ورابعها : لا تمنن أي لا تضعف من قولهم : حبل منين أي ضعيف ، يقال : منه السير أي أضعفة. والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية ، ومن ذهب إلى هذا قال : هو مثل قوله : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ} (الزمر : 64) أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد الله (ولا تمتن تستكثر) وهذا يشهد لهذا التأويل ، وهذا القول اختيار مجاهد وخامسها : وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله : {وَلا تَمْنُن} أي لا تعط يقال : مننت فلاناً كذا أي أعطيته ، قال : {هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} (ص : 39) أي فأعط ، أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة ، فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه ، وعلى هذا التأويل سؤالات :
جزء : 30 رقم الصفحة : 703
السؤال الأول : ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل ؟
الجواب : الحكمة فيه من وجوه الأول : لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا ، فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (الحجر : 88) وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة ، ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة الثاني : أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له ، وذلك لا يليق بمنصب النبوة ، لأنه يوجب دناءة الآخذ ، ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه ، وتنفير المأخوذ منه ، ولهذا قال : {أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} (الطور : 40).
السؤال الثاني : هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام ، أم يتناول الأمة ؟
الجواب : ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة ، ومن الناس من قال / هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء ، والله تعالى منع الكل من ذلك.
(1/4579)

السؤال الثالث : بتقدير أن يكون هذا النهي مختصاً بالنبي صلى الله عليه وسلّم فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه ؟
والجواب : ظاهر النهي للتحريم الوجه السادس : في تأويل الآية قال القفال : يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعطي لأحد شيئاً لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائداً أو ناقصاً أو مساوياً ، ويكون معنى قوله : {تَسْتَكْثِرُ} أي طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء ، فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله ، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيباً ، ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلّم خالياً عن انتظار العوض والتفات الناس إليه ، فيكون ذلك خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى الوجه السابع : أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثاراً منك لتلك العطية ، بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام ، فإن الدنيا بأسرها قليلة ، فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا ، وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة فالوجه الأول : معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعاً من طلب الزيادة في العوض والوجه الثاني : معناه كونه ممنوعاً عن طلب مطلق العوض زائداً كان أو مساوياً أو ناقصاً والوجه الثالث : معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام الوجه الثامن : معناه إذا أعطيت شيئاً فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية ، فإن المن محبط لثواب العمل ، قال تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ} (البقرة : 264).
جزء : 30 رقم الصفحة : 703
المسألة الثانية : قرأ الحسن : {تَسْتَكْثِرُ} بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة ، ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه : أحدها : كأنه قيل : لا تمنن لا تستكثر وثانيها : أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات ، كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى : {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} بإسكان اللام وثالثها : أن يعتبر حال الوقف ، وقرأ الأعمش : {تَسْتَكْثِرُ} بالنصب بإضمار أن كقوله :
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
(وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى)
ويؤيده قراءة ابن مسعود : ولا تمنن أن تستكثر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 703
704
فيه وجوه : أحدها : إذا أعطيت المال فاصبر على ترك / المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك وثانيها : إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض ، وليكن هذا الترك لأجل ربك وثالثها : أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك ، فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك ، وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب ورابعها : أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى الله عليه وسلّم قام الوليد ودخل داره فقال القوم : إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل ، وقال : إن قريشاً جمعوا لك مالاً حتى لا تترك دين آبائك ، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره ، فقيل لمحمد : إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال ، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره وخامسها : أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له : {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر : 3) لا الأوثان {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر : 4) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر : 5) ولا تقربه كما تقربه الكفار {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر : 6) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدراً من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 704
704
اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ، عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : الفاء في قوله : {فَإِذَا نُقِرَ} للسبب كأنه قال : {اصْبِرْ عَلَى } فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم ، وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه.
(1/4580)

المسألة الثانية : اختلفوا في أن الوقت الذي ينقر في الناقور ، أهو النفخة الأولى أم النفخة الثانية ؟
فالقول الأول : أنه هو النفخة الأولى ، قال الحليمي في كتاب المنهاج : أنه تعالى سمى الصور بأسمين أحدهما الصور والآخر الناقور ، وقول المفسرين : إن الناقور هو الصور ، ثم لا شك أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً ، فإن نفخة الإصعاق تخالف نفخة الإحياء ، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها ، وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية ، فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى ، فيحتمل أن يكون الصور محتوياً على آلتين ينقر في إحداهما وينفخ في الأخرى فإذا نفخ فيه للإصعاق ، جمع بين النقر والنفخ ، لتكون الصيحة أهد وأعظم ، وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه ، واقتصر على النفخ ، لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها ، والنفخة الأولى للتنقير ، وهو نظير صوت الرعد ، فإنه إذا اشتد فربما مات سامعه ، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت ، هذا آخر كلام الحليمي رحمه الله / ولى فيه إشكال ، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق ، وذلك اليوم غير شديد على الكافرين ، لأنهم يموتون في تلك الساعة إنما اليوم الشديد على الكافرين عند صيحة الإحياء ، ولذلك يقولون : يا ليتها كانت القاضية ، أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى والقول الثاني : إنه النفخة الثانية ، وذلك لأن الناقور هو الذي ينقر فيه ، أي ينكت ، فيجوز أنه إذا أريد أن ينفخ في المرة الثانية ، نقر أولاً ، فسمى ناقوراً لهذا المعنى ، وأقول في هذا اللفظ بحث وهو أن الناقور فاعول من النقر ، كالهاضوم ما يهضم به ، والحاطوم ما يحطم به ، فكان ينبغي أن يكون الناقور ما ينقر به لا ما ينقر فيه.
المسألة الثالثة : العامل في قوله : {فَإِذَا نُقِرَ} هو المعنى الذي دل عليه قوله : {يَوْمٌ عَسِيرٌ} (المدثر : 9) والتقدير إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 704
704
فيه مسائل.
المسألة الأولى : قوله فذلك إشارة إلى اليوم الذي ينقر فيه في الناقور ، والتقدير فذلك اليوم {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، وأما {يَوْمَـاـاِذٍ} ففيه وجوه : الأول : أن يكون تفسيراً لقوله : {فَذَالِكَ} لأن قوله : {فَذَالِكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر ، وأن يكون إشارة إلى اليوم المضاف إلى النقر ، فكأنه قال : فذلك أعني اليوم المضاف إلى النقر {يَوْمٌ عَسِيرٌ} فيكون {يَوْمَـاـاِذٍ} في محل النصب والثاني : أن يكون {يَوْمَـاـاِذٍ} مرفوع المحل بدلاً من ذلك {يَوْمٌ عَسِيرٌ} خبر كأنه قيل : فيوم النقر {يَوْمٌ عَسِيرٌ} فعلى هذا يومئذ في محل الرفع لكونه بدلاً من ذلك إلا أنه لما أضيف اليوم إلى إذ وهو غير متمكن بني على الفتح الثالث : أن تقدير الآية فذلك النقر يومئذ نقر {يَوْمٌ عَسِيرٌ} على أن يكون العامل في {يَوْمَـاـاِذٍ} هو النقر.
المسألة الثانية : عسر ذلك اليوم على الكافرين لأنهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم ويحشرون زرقاً وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لأنهم لا يناقشون في الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين ، ويحتمل أن يكون إنما وصفه الله تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين على ما روى أن الأنبياء يومئذ يفزعون ، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد ، فعلى القول الأول لا يحسن الوقف على قوله : {يَوْمٌ عَسِيرٌ} فإن المعنى أنه : على الكافرين عسير وغير يسير ، وعلى القول الثاني يحسب الوقف لأن المعنى أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر مخصوص فيه بزيادة خاصة وهو أنه عليه غير يسير ، فإن قيل : فما فائدة قوله : {غَيْرُ يَسِيرٍ} وعسير مغن عنه ؟
الجواب : أما على القول الأول : فالتكرير للتأكيد كما / تقول أنا لك محب غير مبغض وولي غير عدو ، وأما على القول الثاني : فقوله : {عَسِيرٌ} يفيد أصل العسر الشامل للمؤمنين والكافرين وقوله : {غَيْرُ يَسِيرٍ} يفيد الزيادة التي يختص بها الكافر لأن العسر قد يكون عسراً ، قليلاً يسيراً ، وقد يكون عسراً كثيراً فأثبت أصل العسر للكل وأثبت العسر بصفة الكثرة والقوة للكافرين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 704
المسألة الثالثة : قال ابن عباس : لما قال إنه غير يسير على الكافرين ، كان يسيراً على المؤمنين فبعض من قال بدليل الخطاب قال لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا لما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافر كونه يسيراً على المؤمن.
جزء : 30 رقم الصفحة : 704
705
(1/4581)

أجمعوا على أن المراد ههنا الوليد بن المغيرة ، وفي نصب قوله وحيداً وجوه الأول : أنه نصب على الحال ، ثم يحتمل أن يكون حالاً من الخالق وأن يكون حالاً من المخلوق ، وكونه حالاً من الخالق على وجهين الأول : ذرني وحدي معه فإني كاف في الانتقام منه والثاني : خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، وأما كونه حالاً من المخلوق ، فعلى معنى أني خلقته حال ما كان وحيداً فريداً لا مال له ، ولا ولد كقوله : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الأنعام : 94) ، القول الثاني : أنه نصب على الذم ، وذلك لأن الآية نزلت في الوليد وكان يلقب بالوحيد ، وكان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي نظير. فالمراد {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ} أعني وحيداً. وطعن كثير من المتأخرين في هذا الوجه ، وقالوا : لا يجوز أن يصدقه الله في دعواه أنه وحيد لا نظير له ، وهذا السؤال ذكره الواحدي وصاحب الكشاف ، وهو ضعيف من وجوه الأول : أنا لما جعلنا الوحيد اسم علم فقد زال السؤال لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة الثاني : لم لا يجوز أن يحمل على كونه وحيداً في ظنه واعتقاده ؟
ونظيره قوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) الثالث : أن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف ، بل هو كان يدعى لنفسه أنه وحيد في هذه الأمور. فيمكن أن يقال : أنت وحيد لكن في الكفر والخبث والدناءة القول الثالث : أن وحيداً مفعول ثان لخلق ، قال أبو سعيد الضرير : الوحيد الذي لا أب له ، وهو إشارة إلى الطعن في نسبه كما في قوله : {عُتُلٍا بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ} (القلم : 13).
جزء : 30 رقم الصفحة : 705
705
في تفسير المال الممدود وجوه الأول : المال الذي يكون له مدد يأتي من الجزء بعد الجزء على الدوام ، فلذلك فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر شهر وثانيها : أنه المال الذي يمد بالزيادة ، كالضرع والزرع وأنواع التجارات وثالثها : أنه المال الذي امتد مكانه ، قال ابن عباس : كان ماله ممدوداً ما بين مكة إلى الطائف (من) الإبل والخيل والغنم / والبساتين الكثيرة بالطائف والأشجار والأنهار والنقد الكثير ، وقال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً ، فالممدود هنا كما في قوله : {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} (الواقعة : 30) أي لا ينقطع ورابعها : أنه المال الكثير وذلك لأن المال الكثير إذا عدد فإنه يمتد تعديده ، ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال بعضهم : ألف دينار ، وقال آخرون : أربعة آلاف وقال آخرون : ألف ألف ، وهذه التحكمات مما لا يميل إليها الطبع السليم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 705
705
فيه وجهان الأول : بنين حضوراً معه بمكة لا يفارقونه البتة لأنهم كانوا أغنياء فما كانوا محتاجين إلى مفارقته لطلب كسب ومعيشة وكان هو مستأنساً بهم طيب القلب بسبب حضورهم والثاني : يجوز أن يكون المراد من كونهم شهوداً أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل وعن مجاهد : كانوا عشرة ، وقيل : سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.
جزء : 30 رقم الصفحة : 705
705
أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه ، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ، ولهذا المعنى يدعى بهذا فيقال أدام الله تمهيده أي بسطته وتصرفه في الأمور ، ومن المفسرين من جعل هذا التمهيد البسطة في العيش وطول العمر ، وكان الوليد من أكابر قريش ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش.
جزء : 30 رقم الصفحة : 705
706
لفظ ثم ههنا معناه التعجب كما تقول لصاحبك : أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ، ونظيره قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَا ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام : 1) فمعنى (ثم) ههنا للإنكار والتعجب ثم تلك الزيادة التي كان يطمع فيها هل هي زيادة في الدنيا أو في الآخرة ؟
فيه قولان الأول : قال الكلبي ومقاتل : ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي الثاني : أن تلك الزيادة في الآخرة قيل : إنه كان يقول إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي ، ونظيره قوله تعالى : {أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِـاَايَـاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} (مريم : 77).
جزء : 30 رقم الصفحة : 706
706
ثم قال تعالى : {كَلا} وهو ردع له عن ذلك الطمع الفاسد قال المفسرون ولم يزل الوليد في نقصان بعد قوله : {كَلا} حتى افتقر ومات فقيراً.
(1/4582)

قوله تعالى : {إِنَّه كَانَ لايَـاتِنَا عَنِيدًا} إنه تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال : لم لا يزاد ؟
فقيل : لأنه كان لآياتنا عنيداً والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير ، وفي / هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته أحدها : أنه كان معانداً في جميع الدلائل الدالة على التوحيد والعدل والقدرة وصحة النبوة وصحة البعث ، وكان هو منازعاً في الكل منكراً للكل وثانيها : أن كفره كان كفر عناد كان يعرف هذه الأشياء بقلبه إلا أنه كان ينكرها بلسانه وكفر المعاند أفجش أنواع الكفر وثالثها : أن قوله : {إِنَّه كَانَ لايَـاتِنَا عَنِيدًا} يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة ورابعها : أن قوله : {إِنَّه كَانَ لايَـاتِنَا عَنِيدًا} يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصة بآيات الله تعالى وبيناته ، فإن تقديره : إنه كان لآياتنا عنيداً لا لآيات غيرنا ، فتخصيصه هذا العناد بآيات الله مع كونه تاركاً للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران.
جزء : 30 رقم الصفحة : 706
706
أي سأكلفه صعوداً وفي الصعود قولان : الأول : أنه مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق مثل قوله : {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (الجن : 17) وصعود من قولهم : عقبة صعود وكدود شاقة المصعد والثاني : أن صعوداً اسم لعقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت ، وعنه عليه الصلاة والسلام : "الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي كذلك فيه أبداً".
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 706
706
يقال : فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه وهو المراد من قوله : {فَقَدَرَ} .
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 706
706
وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام ، ومثله قولهم : قتله الله ما أشجعه ، وأخزاه الله ما أشعره ، ومعناه. أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك ، وإذا عرفت ذلك فنقول إنه يحتمل ههنا وجهين أحدهما : أنه تعجيب من قوة خاطره ، يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد عليه السلام بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل والثاني : الثناء عليه على طريقة الاستهزاء ، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 706
707
والمقصود من كلمه ، ثم ههنا الدلالة على أن الدعاء عليه في الكرة الثانية أبلغ من الأولى.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 707
707
والمعنى أنه أولاً : فكر وثانياً : قدر وثالثاً : نظر في ذلك المقدر ، فالنظر السابق للاستخراج ، والنظر اللاحق للتقدير ، وهذا هو الاحتياط. فهذه المراتب الثلاثة متعلقة بأحوال قلبه.
/ ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه ، فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 707
707
وفيه مسألتان :
(1/4583)

المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {عَبَسَ وَبَسَرَ} يدل على أنه كان عارفاً في قلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلّم إلا أنه كان يكفر به عناداً ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاماً عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقداً صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه ، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة ، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة ، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني : ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت : 13) أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت ، وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة ، ولما رجع الوليد قال لهم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، فقالت قريش : صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها. فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه ، ثم دخل عليه محزوناً فقال مالك : يا ابن الأخ ؟
فقال : إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالاً ليكون ذلك عوضاً مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد ، فقال : والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالاً ، ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئاً يليق به إلا أنه ساحر ، فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معانداً لأن السحر يتعلق بالجن والثالث : أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله ، والأفعال المنكرة ، وكان من الظاهر أن محمداً لا يدعو إلا إلى الله ، فكيف يليق به السحر ؟
فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما {عَبَسَ وَبَسَرَ} لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان.
المسألة الثانية : قال الليث : عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه ، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل : بسل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 707
707
أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان فقال : {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة ، وفي قوله : {يُؤْثَرُ} وجهان الأول : أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثراً إذا حدثت به عن قوم في آثارهم ، أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل ، ثم صار بمعنى / الرواية عمن كان والثاني : يؤثر على جميع السحر ، وعلى هذا يكون هو من الإيثار.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 707
708
والمعنى أن هذا قول البشر ، ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره ، ولو كان الأمر كما قال لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عناداً منه ، لأنه روي عنه أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلّم (حم السجدة) وخرج من عند الرسول عليه السلام قال : سمعت من محمد كلاماً ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه يعلو ولا يعلى عليه ، فلما أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ههنا من أنه قول البشر ، إنما ذكره على سبيل العناد والتمرد لا على سبيل الاعتقاد.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 708
708
قال ابن عباس : {سَقَرَ} اسم للطبقة السادسة من جهنم ، ولذلك لا ينصرف للتعريف والتأنيث.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 708
708
الغرض التهويل.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 708
709
واختلفوا فمنهم من قال : هما لفظان مترادفان معناهما واحد ، والغرض من التكرير التأكيد والمبالغة كما يقال : صد عني وأعرض عني. ومنهم من قال : لا بد من الفرق ، ثم ذكروا وجوهاً أحدها : أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئاً فإذا أعيدوا خلقاً جديداً فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبداً ، وهذا رواية عطاء عن ابن عباس وثانيها : لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم ، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئاً إلا أحرقته وثالثها : لا تبقي من أبدان المعذبين شيئاً ، ثم إن تلك النيران لا تذر من قوتها وشدتها شيئاً إلا وتستعمل تلك القوة والشدة في تعذيبهم.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 709
713
وفيه مسألتان :
(1/4584)

المسألة الأولى : في اللواحة قولان : الأول : قال الليث : لاحه العطش ولوحه إذا غيره ، فاللواحة هي المغيرة. قال الفراء : تسود البشرة بإحراقها والقول الثاني : وهو قول الحسن والأصك : أن معنى اللواحة أنها تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام ، وهو كقوله : {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } (النازعات : 36) ولواحة على هذا القول : من لاح الشيء يلوح إذا لمع نحو البرق ، وطعن القائلون بهذا الوجه في الوجه الأول ، وقالوا : إنه لا يجوز أن يصفها بتسويد البشرة مع قوله إنها : {لا تُبْقِى وَلا تَذَرُ} (المدثر : 28).
/ المسألة الثانية : قرىء : {لَوَّاحَةٌ} نصباً على الاختصاص للتهويل.
ثم قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
713
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى أنه يلي أمر تلك النار ، ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً ، وقيل : تسعة عشر صنفاً ، وقيل : تسعة عشر صفاً. وحكى الواحدي عن المفسرين : أن خزنة النار تسعة عشر مالك ، ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق ، وأنيابهم كالصياصي ، وأشعارهم تمس أقدامهم ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت منهم الرأفة والرحمة ، يأخذ أحدهم سبعين ألفاً في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم.
المسألة الثانية : ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً أحدها : وهو الوجه الذي تقوله أرباب الحكمة. أن سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية ، والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية.
أما القوى الحيوانية فهي : الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشهوة والغضب ، ومجموعهما اثنتا عشرة.
وأما القوى الطبيعة فهي : الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة ، وهذه سبعة ، فالمجموع تسعة عشر ، فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسعة عشر ، لا جرم كان عدد الزبانية هكذا وثانيها : أن أبواب جهنم سبعة ، فستة منها للكفار ، وواحد للفساق ، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة والمجموع ثمانية عشر ، وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول ، بل ليس إلا بسبب ترك العمل ، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة فالمجموع تسعة عشر وثالثها : أن الساعات أربعة وعشرون خمسة منها مشغولة بالصلوات الخمس فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
المسألة الثالثة : قراءة أبي جعفر ويزيد وطلحة بن سليمان {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} على تقطيع فاعلان ، قال ابن جني في المحتسب : والسبب أن الاسمين كاسم واحد ، فكثرت الحركات ، فأسكن أول الثاني للتخفيف ، وجعل ذلك أمارة القوة اتصال أحد الإسمين بصاحبه ، وقرأ أنس بن مالك {تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو حاتم : هذه القراءة لا تعرف لها وجهاً ، إلا أن يعني : تسعة أعشر جمع عشير مثل يمين وأيمن ، وعلى هذا يكون المجموع تسعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
713
قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا ملائكة } روي أنه لما نزل قوله تعالى : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر : 30) قال أبو جهل : لقريش ثكلتكم أمهاتكم ، قال ابن أبي كبشة : إن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الجمع / العظيم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين فلما قال أبو جهل وأبو الأشد ذلك ، قال المسلمون ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادين فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا يسوى بينهما ، والمعنى لا تقاس الملائكة بالسجانين والحداد ، السجان الذي يحبس النار ، فأنزل الله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا ملائكة } واعلم أنه تعالى إنما جعلهم ملائكة لوجوه أحدها : ليكونوا بخلاف جنس المعذبين ، لأن الجنسية مظنة الرأفة والرحمة ، ولذلك بعث الرسول المبعوث إلينا من جنسنا ليكون له رأفة ورحمة بنا وثانيها : أنهم أبعد الخلق عن معصية الله تعالى وأقواهم على الطاعات الشاقة وثالثها : أن قوتهم أعظم من قوة الجن والإنس ، فإن قيل : ثبت في الأخبار ، أن الملائكة مخلوقون من النور ، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار ؟
قلنا : مدار القول في إثبات القيامة على كونه تعالى قادراً على كل الممكنات ، فكما أنه لا استبعاد في أن يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت ، فكذا لا استبعاد في بقاء الملائكة هناك من غير ألم.
ثم قال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا ملائكة ا وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ} وفيه مسألتان :
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
(1/4585)

المسألة الأولى : هذا العدد إنما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين الأول : أن الكفار يستهزئون ، يقولون : لم لم يكونوا عشرين ، وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟
الثاني : أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله إلى قيام القيامة ؟
وأما أهل الإيمان فلا يلتفتون إلى هذين السؤالين.
أما السؤال الأول : فلأن جملة العالم متناهية ، فلا بد وأن يكون للجواهر الفردة التي منها تألفت جملة هذا العالم عدد معين ، وعند ذلك يجيء ذلك السؤال ، وهو أنه لم خصص ذلك العدد بالإيجاد ، ولم يزد على ذلك العدد جوهر آخر ولم ينقص ، وكذا القول في إيجاد العالم ، فإنه لما كان العالم محدثاً والإله قديماً ، فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية ، فلم لم يحدث / العالم قبل أن حدث بتقدير لحظة أو بعد أن وجد بتقدير لحظة ؟
وكذا القول في تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعين ، وكل واحد من الأجسام بأجزائه المحدودة المعدودة ، ولا جواب عن شيء من ذلك إلا بأنه قادر مختار ، والمختار له أن يرجح الشيء على مثله من غير علة/ وإذا كان هذا الجواب هو المعتمد في خلق جملة العالم ، فكذا في تخصيص زبانية النار بهذا العدد.
وأما السؤال الثاني : فضعيف أيضاً ، لأنه لا يبعد في قدرة الله تعالى أن يعطي هذا العدد من القدرة والقوة ما يصيرون به قادرين على تعذيب جملة الخلق ، ومتمكنين من ذلك من غير خلل ، وبالجملة فمدار هذين السؤالين على القدح في كمال قدرة الله ، فأما من اعترف بكونه تعالى قادراً على مالا نهاية له من المقدورات ، وعلم أنه أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذه الاستبعادات بالكلية.
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
المسألة الثانية : احتج من قال : إنه تعالى قد يريد الإضلال بهذه الآية ، قال لأن قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } يدل على أن المقصود الأصلي إنما هو فتنة الكافرين ، أجابت المعتزلة عنه من وجوه أحدها : قال الجبائي : المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء وثانيها : قال الكعبي : المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه ، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به وثالثها : أن المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة ، والمعنى إلا فتنة على الذين كفروا ليكذبوا به ، وليقولوا ما قالوا ، وذلك عقوبة لهم على كفرهم ، وحاصله راجع إلى ترك الألطاف والجواب : أنه لا نزاع في شيء مما ذكرتم ، إلا أنا نقول : هل لإنزال هذه المتشابهات أثر في تقوية داعية الكفر ، أم لا ؟
فإذا لم يكن له أثر في تقوية داعية الكفر ، كان إنزالها كسائر الأمور الأجنبية ، فلم يكن للقول بأن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا وجه ألبتة ، وإن كان له أثر في تقوية داعية الكفر ، فقد حصل المقصود ، لأنه إذا ترجحت داعية الفعل ، صارت داعية الترك مرجوحة ، والمرجوح يمتنع أن يؤثر ، فالترك يكون ممتنع الوقوع ، فيصير الفعل واجب الوقوع والله أعلم ، واعلم أنه تعالى بين أن المقصود من إنزال هذا المتشابه أمور أربعة. أولها : {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} وثانيها : {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَـانًا } وثالثها : {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } ورابعها : {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَـافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا } واعلم أن المقصود من تفسير هذه الآيات لا يتلخص إلا بسؤالات وجوابات :
السؤال الأول : لفظ القرآن يدل على أنه تعالى جعل افتتان الكفار بعدد الزبانية سبباً لهذه الأمور الأربعة ، فما الوجه في ذلك ؟
والجواب : أنه ما جعل افتتانهم بالعدد سبباً لهذه الأشياء وبيانه من وجهين الأول : التقدير : وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، وإلا ليستيقن الذين / أوتوا الكتاب ، كما يقال : فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك ، قالوا : والعاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة. وقد تحذف أخرى الثاني : أن المراد من قوله : {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } هو أنه وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر إلا أنه وضع فتنة للذين كفروا موضع تسعة عشر كأنه عبر عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر ، تنبيهاً على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
(1/4586)

السؤال الثاني : ما وجه تأثير إنزال هذا المتشابه في استيقان أهل الكتاب ؟
الجواب : من وجوه أحدها : أن هذا العدد لما كان موجوداً في كتابهم ، ثم إنه عليه السلام أخبر على وفق ذلك من غير سابقة دراسة وتعلم ، فظهر أن ذلك إنما حصل بسبب الوحي من السماء فالذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب يزدادون به إيماناً وثانيها : أن التوراة والإنجيل كانا محرفين ، فأهل الكتاب كانوا يقرأون فيهما أن عدد الزبانية هو هذا القدر ، ولكنهم ما كانوا يعولون على ذلك كل التعويل لعلمهم بتطرق التحريف إلى هذين الكتابين ، فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوي إيمانهم بذلك واستيقنوا أن ذلك العدد هو الحق والصدق وثالثها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب ، فإنهم يستهزئون به ويضحكون منه ، لأنهم كانوا يستهزئون به في إثبات التوحيد والقدرة والعلم ، مع أن تلك المسائل أوضح وأظهر فكيف في ذكر هذا العدد العجيب ؟
ثم إن استهزاءهم برسول الله وشدة سخريتهم به ما منعه من إظهار هذا الحق ، فعند هذا يعلم كل أحد أنه لو كان غرض محمد صلى الله عليه وسلّم طلب الدنيا والرياسة لاحترز عن ذكر هذا العدد العجيب ، فلما ذكره مع علمه بأنهم لا بد وأن يستهزئوا به علم كل عاقل أن مقصوده منه إنما هو تبليغ الوحي ، وأنه ما كان يبالي في ذلك لا بتصديق المصدقين ولا بتكذيب المكذبين.
السؤال الثالث : ما تأثير هذه الواقعة في ازدياد إيمان المؤمنين ؟
الجواب : أن المكلف مالم يستحضر كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحادثات منزهاً عن الكذب والحلف لا يمكنه أن ينقاد لهذه العدة ويعترف بحقيقتها ، فإذا اشتغل باستحضار تلك الدلائل ثم جعل العلم الإجمالي بأنه صادق لا يكذب حكيم لا يجهل دافعاً للتعجب الحاصل في الطبع من هذا العدد العجيب فحينئذ يمكنه أن يؤمن بحقيقة هذا العدد ، ولا شك أن المؤمن يصير عند اعتبار هذه المقامات أشد استحضاراً للدلائل وأكثر انقياداً للدين ، فالمراد بازدياد الإيمان هذا.
السؤال الرابع : حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان فما قولكم في هذه الآية ؟
الجواب : نحمله على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه.
السؤال الخامس : لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك : {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } ؟
الجواب : أن المطلوب إذا كان غامضاً دقيق الحجة كثير الشبهة ، فإذا اجتهد الإنسان فيه وحصل له اليقين فربما غفل عن / مقدمة من مقدمات ذلك الدليل الدقيق ، فيعود الشك والشبهة ، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك ، فالمقصود من إعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم ، بحيث لا يحصل عقيبه ألبتة شك ولا ريب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
السؤال السادس : جمهور المفسرين قالوا في تفسير قوله : {الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} إنهم الكافرون وذكر الحسين بن الفضل البجلي أن هذه السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق ، والجواب : قول المفسرين حق وذلك لأنه كان في معلوم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبر عما سيكون ، وعلى هذا تصير هذه الآية معجزة ، لأنه إخبار عن غيب سيقع ، وقد وقع على وفق الخبر فيكون معجزاً ، ويجوز أيضاً أن يراد بالمرض الشك لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب.
السؤال السابع : هب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا مقصودين من إنزال هذا المتشابه ، فكيف صح أن يكون قول الكافرين والمنافقين مقصوداً ؟
الجواب : أما على أصلنا فلا إشكال لأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وسيأتي مريد تقرير لهذا في الآية الآتية ، وأما عند المعتزلة فإن هذه الحالة لما وقعت أشبهت الغرض في كونه واقعاً ، فأدخل عليه حرف اللام وهو كقوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} .
السؤال الثامن : لم سموه مثلاً ؟
الجواب : أنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد الله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر/ لا جرم سموه مثلاً.
السؤال التاسع : القوم كانوا ينكرون كون القرآن من عند الله ، فكيف قالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلاً ؟
الجواب : أما الذين في قلوبهم مرض ، وهم المنافقون فكانوا في الظاهر معترفين بأن القرآن من عند الله فلا جرم قالوا ذلك باللسان ، وأما الكفار فقالوه على سبيل التهكم أو على سبيل الاستدلال بأن القرآن لو كان من عند الله لما قال مثل هذا الكلام.
(1/4587)

قوله تعالى : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } وجه الاستدلال بالآية للأصحاب ظاهر لأنه تعالى ذكر في أول الآية قوله : {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } ثم ذكر في آخر الآية : {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَـافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا } ثم قال : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } أما المعتزلة فقد ذكروا الوجوه المشهورة التي لهم أحدها : أن المراد من الإضلال منع الألطاف وثانيها : أنه لما اهتدى قوم باختيارهم عند نزول هذه الآيات وضل قوم باختيارهم عند نزولها أشبه ذلك أن المؤثر في ذلك الاهتداء وذلك الإضلال هو / هذه الآيات ، وهو كقوله : {فَزَادَتْهُمْ إِيمَـانًا} (التوبة : 124) وكقوله : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} (التوبة : 125) وثالثها : أن المراد من قوله : {يُضِلُّ} ومن قوله : {يَهْدِى } حكم الله بكونه ضالاً ويكون مهتدياً ورابعها : أنه تعالى يضلهم يوم القيامة عن دار الثواب ، وهذه الكلمات مع أجوبتها تقدمت في سورة البقرة في قوله : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا } (البقرة : 26).
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
قوله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } فيه وجوه : أحدها : وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد ، فقال تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود مالا يعلم عددهم إلا الله وثانيها : وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو ، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها وثالثها : أنه لا حاجة بالله سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة ، فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة ، وهو الذي يخلق الآلام فيهم ، ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة ، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب ، فجنود الله غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية.
قوله تعالى : {وَمَا هِىَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} الضمير في قوله : {وَمَا هِىَ} إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى سقر ، والمعنى وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر والثاني : أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات ، وهي ذكرى لجميع العالمية ، وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان.
جزء : 30 رقم الصفحة : 713
714
ثم قال تعالى : {كَلا} وفيه وجوه أحدها : أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون وثانيها : أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً وثالثها : أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه : إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ورابعها : أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.
ثم قال تعالى : {كَلا وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} وفيه قولان : الأول : قال الفراء والزجاج : دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ويدل على هذا قراءة من قرأ إذا دبر ، وروى أن مجاهداً سأل ابن عباس عن قوله : {دُبُرٍ} فسكت حتى إذا أدبر الليل قال : يا مجاهد هذا حين دبر الليل ، وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب هذه القراءة ويقول : إنما يدبر ظهر البعير ، قال الواحدي : والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا ، وأنشد أبو علي :
/ وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم
بصهاب هامدة كأمس الدابر
القول الثاني : قال أبو عبيدة وابن قتيبة : دبر أي جاء بعد النهار ، يقال : دبرني أي جاء خلفي ودبر الليل أي جاء بعد النهار ، قال قطرب : فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 714
714
أي أضاء ، وفي الحديث : "أسفروا بالفجر" ومنه قوله : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ} (عبس : 38) أي مضيئة.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 714
714
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الكلام هو جواب القسم أو تعليل لكلام والقسم معترض للتوكيد.
المسألة الثانية : قال الواحدي : ألف إحدى مقطوع ولا تذهب في الوصل. وروي عن ابن كثير أنه قرأ إنها لإحدى الكبر بحذف الهمزة كما يقال : ويلمه ، وليس هذا الحذف بقياس والقياس التخفيف وهو أن يجعل بين بين.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : الكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظير ذلك السوافي جمع السافياء وهو التراب الذي سفته الريح ، والقواصع في جميع القاصعاء كأنهما جمع فاعلة.
المسألة الرابعة : {إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ} يعني أن سقر التي جرى ذكرها لإحدى الكبر والمراد من الكبر دركات جهنم ، وهي سبعة : جهنم ، ولظى ، والحطمة ، والسعير ، وسقر ، والجحيم والهاوية ، أعاذنا الله منها.
(1/4588)

جزء : 30 رقم الصفحة : 714
715
نذيراً تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً ، وقيل : هو حال ، وفي قراءة أبي نذير بالرفع خبر أو بحذف المبتدأ.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 715
715
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسير الآية وجهان الأول : أن {يَتَقَدَّمَ} في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدم عليه كقولك : لمن توضأ أن يصلي ، ومعناه التقدم والتأخر مطلقان لمن شاءهما منكم ، والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه ، وهو في معنى قوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29) الثاني : لمن شاء بدل من قوله للبشر ، والتقدير : إنها نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، نظيره {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} (آل عمران : 97).
المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور / عليه وجوابه : أن هذه الآية دلت على أن فعل العبد معلق على مشيئته ، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله تعالى لقوله : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الإنسان : 3) وحينئذ تصير هذه الآية حجة لنا عليهم ، وذكر الأصحاب عن وجه الاستدلال بهذه الآية جوابين آخرين الأول : أن معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين التهديد ، كقوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29) الثاني : أن هذه المشيئة لله تعالى على معنى لمن شاء الله منكم أن يتقدم أو يتأخر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 715
716
قال صاحب "الكشاف" : رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله : {كُلُّ امْرِى ا بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور : 21) لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصيغة لقيل : رهين ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم ، كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه بيت الحماسة :
أبعد الذي بالنعف نعف كواكب
رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال : رهن رمس ، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إلا أصحاب اليمين ، فإنهم فكوا عن رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الحسنة ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق ، ثم ذكروا وجوهاً في أن أصحاب اليمين من هم ؟
أحدها : قال ابن عباس : هم المؤمنون وثانيها : قال الكلبي : هم الذين قال (فيهم) الله تعالى : "هؤلاء في الجنة ولا أبالي" وهم الذين كانوا على يمين آدم وثالثها : قال مقاتل : هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ورابعها : قال علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عمر : هم أطفال المسلمين ، قال الفراء : وهو أشبه بالصواب لوجهين : الأول : لأن الولدان لم يكتسبوا إثماً يرتهنون به والثاني : أنه تعالى ذكر في وصفهم ، فقال : {فِى جَنَّـاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} وهذا إنما يليق بالولدان ، لأنهم لم يعرفوا الذنوب ، فسألوا {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} (المدثر : 40 ـ 42) وخامسها : عن ابن عباس : هم الملائكة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 716
716
قوله تعالى : {فِي جَنَّـاتِ} أي هم في جنات لا يكتنه وصفها.
ثم قال تعالى : {فِى جَنَّـاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} وفيه وجهان الأول : أن تكون كلمة عن صلة زائدة ، والتقدير : يتساءلون المجرمين فيقولون لهم : ما سلككم في سقر ؟
فإنه يقال سألته كذا ، ويقال : سألته عن كذا الثاني : أن يكون المعنى أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين ، فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقولوا : ما سلكهم في سقر ؟
قلنا : أجاب صاحب "الكشاف" عنه فقال : المراد من هذا أن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، / فيقولون قلنا لهم : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم ؟
فلما رأوهم قالوا لهم : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} (المدثر : 42) والإضمارات كثيرة في القرآن.
جزء : 30 رقم الصفحة : 716
716
(1/4589)

المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل ، والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار ؟
فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة : أولها : {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} وثانيها : لم نك نطعم المسكين ، وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة ، والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب ، لا يجوز أن يعذبوا على تركه وثالثها : {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآا ِضِينَ} والمراد منه الأباطيل ورابعها : {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين ، أي الموت قال تعالى : {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت ، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفاً بهذه الخصال الأربعة ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع ، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه ، فإن قيل : لم أخر التكذيب ، وهو أفحش تلك الخصال الأربعة ، قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين ، والغرض تعظيم هذا الذنب ، كقوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17).
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 716
717
واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية ، وقالوا : إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 717
717
أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ ، ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائماً.
/ ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 717
717
قال ابن عباس : يريد الحمر الوحشية ، ومستنفرة أي نافرة. يقال : نفر واستنفر مثل سخر ، واستسخر ، وعجب واستعجب ، وقرىء بالفتح ، وهي المنفرة المحمولة على النفار ، قال أبو علي الفارسي : الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال : {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة } وهذا يدل على أنها هي استنفرت ، ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام. قال : سألت أبا سوار الغنوي ، وكان أعرابياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم حمر ماذا ؟
فقال : مستنفرة طردها قسورة ، قلت : إنما هو فرت من قسورة ، قال أفرت ؟
قلت : نعم ، قال فمستنفرة إذا.
ثم قال تعالى : {فَرَّتْ} يعني الحمر {مِن قَسْوَرَة } .
وذكروا في القسورة وجوهاً أحدها : أنها الأسد يقال : ليوث قساور ، وهي فعولة من القسر وهو القهر ، والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع ، قال ابن عباس : الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمداً صلى الله عليه وسلّم هربوا منه ، كما يهرب الحمار من الأسد ، ثم قال ابن عباس : القسورة ، هي الأسد بلسان الحبشة ، وخالف عكرمة فقال : الأسد بلسان الحبشة ، عنبسة وثانيها : القسورة ، جماعة الرماة الذين يتصيدونها ، قال الأزهري : هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه وثالثها : القسورة : ركز الناس وأصواتهم ورابعها : أنها ظلمة الليل. قال صاحب "الكشاف" : وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ، وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 717
717
أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، ونؤمر فيه باتباعك ، ونظيره {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُه } (الأسراء : 93) وقال : {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وقيل : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار ، وقيل : كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك ، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل ، إلا أن يراد بالصحف المنشرة ، الكتابات الظاهرة المكشوفة ، وقرأ سعيد بن جبير {صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد ، كأنزله ونزله.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 717
719
{كَلا} وهو ردع لهم عن تلك الإرادة ، وزجر عن اقتراح الآيات.
/ ثم قال تعالى : {بَل لا يَخَافُونَ الاخِرَةَ} فلذلك أعرضوا عن التأمل ، فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة ، كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 719
719
ثم قال تعالى : {كَلا} وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة.

ثم قال تعالى : {إِنَّه تَذْكِرَةٌ} يعني تذكرة بليغة كافية {فَمَن شَآءَ ذَكَرَه } أي جعله نصب عينه ، فإن نفع ذلك راجع إليه ، والضمير في {إِنَّه } للتذكرة في قوله : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر : 49) وإنما ذكر(ت) لأنها في معنى الذكر أو القرآن.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 719
721
{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } .
قالت المعتزلة : يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه والجواب : أنه تعالى نفى الذكر مطلقاً ، واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة ، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة ، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر ، وقرىء يذكرون بالياء والتاء مخففاً ومشدداً.
ثم قال تعالى : {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا ، والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 721
722
(1/4590)

سورة القيامة
أربعون آية مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 722
722
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : المفسرون ذكروا في لفظة {لا} في قوله : {لا أُقْسِمُ} ثلاثة أوجه : الأول : أنها صلة زائدة والمعنى أقسم بيوم القيامة ونظيره {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وقوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} (آل عمران : 159) وهذا القول عندي ضعيف من وجوه : أولها : أن تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن ، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفضي إلى أن لا يبقى الاعتماد على إثباته ولا على نفيه وثانيها : أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوله ، فإن قيل : (فالـ)ـكلام عليه من وجهين : الأول : لا نسلم أنها إنما تزاد في وسط الكلام ، ألا ترى إلى أمرىء القيس كيف زادها في مستهل قصيدته وهي قوله :
لا وأبيك ابنة العامري
لا يدعى القوم أني أفر
الثاني : هب أن هذا الحرف لا يزاد في أول الكلام إلا أن القرآن كله كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض ، والدليل عليه أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر : 6) ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله : {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} وإذا كان كذلك ، كان أول هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام والجواب عن الأول : أن قوله لا وأبيك قسم عن النفي ، وقوله : {لا أُقْسِمُ} نفي للقسم ، فتشبيه أحدهما بالآخر غير جائز ، وإنما قلنا : إن قوله لا أقسم نفي للقسم ، لأنه على وزان قولنا لا أقتل لا أضرب ، لا أنصر ، ومعلوم أن ذلك يفيد النفي. والدليل عليه أنه لو حلف لا يقسم كان البر بترك القسم ، والحنث بفعل القسم ، فظهر أن البيت المذكور ، ليس من هذا الباب وعن الثاني : أن القرآن كالسورة الواحدة في عدم التناقض ، فإما في أن يقرن بكل آية ما قرن بالآية الأخرى فذلك غير جائز ، لأنه يلزم جواز أن يقرن بكل إثبات حرف النفي في سائر الآيات ، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً ، وإنه لا يجوز وثالثها : أن المراد من قولنا : لا صلة أنه لغو باطل ، يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ، ومعلوم أن وصف كلام الله تعالى بذلك / لا يجوز القول الثاني : للمفسرين في هذه الآية ، ما نقل عن الحسن أنه قرأ ، لأقسم على أن اللام للابتداء ، وأقسم خبر مبتدأ محذوف ، معناه لأنا أقسم ويعضده أنه في مصحف عثمان بغير ألف واتفقوا في قوله ، ولا أقسم بالنفس اللوامة على لا أقسم ، قال الحسن معنى الآية أني أقسم بيوم القيامة لشرفها ، ولا أقسم بالنفس اللوامة لخساستها ، وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة وقال لو كان المراد هذا لقال : لأقسمن لأن العرب لا تقول : لأفعل كذا ، وإنما يقولون : لأفعلن كذا ، إلاأن الواحدي حكى جواز ذلك عن سيبويه والفراء ، واعلم أن هذا الوجه أيضاً ضعيف ، لأن هذه القراءة شاذة ، فهب أن هذا الشاذ استمر ، فما الوجه في القراءة المشهورة المتواترة ؟
ولا يمكن دفعها وإلا لكان ذلك قدحاً فيما ثبت بالتواتر ، وأيضاً فلا بد من إضمار قسم آخر لتكون هذه اللام جواباً عنه ، فيصير التقدير : والله لأقسم بيوم القيامة ، فيكون ذلك قسماً على قسم ، وإنه ركيك ولأنه يفضي إلى التسلسل القول الثالث : أن لفظة لا وردت للنفي ، ثم ههنا احتمالان الأول : أنها وردت نفياً لكلام ذكر قبل القسم ، كأنهم أنكروا البعث فقيل : لا ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثم قيل أقسم بيوم القيامة ، وهذا أيضاً فيه إشكال ، لأن إعادة حرف النفي مرة أخرى في قوه :
جزء : 30 رقم الصفحة : 722
(1/4591)

{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} مع أن المراد ما ذكروه تقدح في فصاحة الكلام.
الاحتمال الثاني : أن لا ههنا لنفي القسم كأنه قال : لا أقسم عليكم بذلك اليوم وتلك النفس ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك ، وهذا القول اختيار أبي مسلم وهو الأصح ، ويمكن تقدير هذا القول على وجوه أخر أحدها : كأنه تعالى يقول : {لا أُقْسِمُ} بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن هذا المطلوب أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه وثانيها : كأنه تعالى يقول : {لا أُقْسِمُ} بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب ، فإن إثباته أظهر وأجلى وأقوى وأحرى ، من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم ، ثم قال بعده : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } (القيامة : 3) أي كيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد مع ظهور فساده وثالثها : أن يكون الغرض منه الاستفهام على سبيل الإنكار والتقدير ألا أقسم بيوم القيامة. ألا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر والنشر حق.
المسألة الثانية : ذكروا في النفس اللوامة وجوهاً أحدها : قال ابن عباس : إن كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة سواء كانت برة أو فاجرة ، أما البرة فلأجل أنها لم لم تزد على طاعتها ، وأما الفاجرة فلأجل أنها لم لم تشتغل بالتقوى ، وطعن بعضهم في هذا الوجه من وجوه الأول : أن من يستحق الثواب لا يجوز أن يلوم نفسه على ترك الزيادة ، لأنه لو جاز منه لوم نفسه على ذلك لجاز من غيره أن يلومها عليه الثاني : أن الإنسان إنما يلوم نفسه عند الضجارة وصيق القلب ، وذلك لا يليق بأهل الجنة حال كونهم في الجنة ، ولأن المكلف يعلم أنه لا مقدار من / الطاعة إلا ويمكن الإتيان بما هو أزيد منه ، فلو كان ذلك موجباً للوم لامتنع الانفكاك عنه وما كان كذلك لا يكون مطلوب الحصول ، ولا يلام على ترك تحصيله والجواب : عن الكل أن يحمل اللوم على تمني الزيادة ، وحينئذ تسقط هذه الأسئلة وثانيها : أن النفس اللوامة هي النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى.
ثالثها : أنها هي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة ، وعن الحسن أن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه ، وأما الجاهل فإنه يكون راضياً بما هو فيه من الأحوال الخسيسة ورابعها : أنها نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة وخامسها : المراد نفوس الأشقياء حين شاهدت أحوال القيامة وأهوالها ، فإنها تلوم نفسها على ما صدر عنها من المعاصي ، ونظيره قوله تعالى : {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ} (الزمر : 56) وسادسها : أن الإنسان خلق ملولا ، فأي شيء طلبه إذا وجده مله ، فحينئذ يلوم نفسه على أني لم طلبته ، فلكثرة هذا العمل سمي بالنفس اللوامة ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج : 19 ـ 21) واعلم أن قوله لوامة ، ينبىء عن التكرار والإعادة ، وكذا القول في لوام وعذاب وضرار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 722
المسألة الثالثة : اعلم أن في الآية إشكالات أحدها : ما المناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة ، حتى جمع الله بينهما في القسم ؟
وثانيها : المقسم عليه ، هو وقوع القيامة فيصير حاصلة أنه تعالى أقسم بوقوع القيامة وثالثها : لم قال : {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} ولم يقل : والقيامة ، كما قال في سائر السور ، والطور والذاريات والضحى ؟
والجواب : عن الأول من وجوه أحدها : أن أحوال القيامة عجيبة جداً ، ثم المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفوس اللوامة. أعني سعادتها وشقاوتها ، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشدية وثانيها : أن القسم بالنفس اللوامة تنبيه على عجائب أحوال النفس على ما قال عليه الصلاة والسلام : "من عرف نفسه فقد عرف ربه" ومن أحوالها العجيبة ، قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) وقوله : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ} إلى قوله {وَحَمَلَهَا الانسَـانُ } (الأحزاب : 72) وقال قائلون : القسم وقع بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبداً تستحقر فعلها وجدها واجتهادها في طاعة الله ، وقال آخرون : إنه تعالى أقسم بالقيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوامة ، وهذا على القراءة الشاذة التي رويناها عن الحسن ، فكأنه تعالى قال : {أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} تعظيماً لها ، ولا أقسم بالنفس تحقيراً لها ، لأن النفس اللوامة إما أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها ، وإما أن تكون فاسقة مقصرة في العمل ، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
(1/4592)