الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
ثم قال تعالى : {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} أي كما يكشف العذاب عنكم تعودون في الاحال إلى ما كنتم عليه من الشرك ، والمقصود التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى ، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف.
ثم قال تعالى : {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ا إِنَّا مُنتَقِمُونَ} قال صاحب "الكشاف" وقرىء نبطش بضم الطاء/ وقرأ الحسن نبطش بضم النون كأنه تعالى يأمر الملائكة بأن يبطشوا بهم والبطش الأخذ بشدة ، وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتابع ثم صار بحيث يستعمل في إيصال الآلام المتتابعة ، وفي المراد بهذا اليوم قولان :
جزء : 27 رقم الصفحة : 663
القول الأول : أنه يوم بدر وهو قول ابن سمعود وابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبي لعالية رضي الله تعلى عنهم ، قالوا إن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى لتكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر.
والقول الثاني : أنه يوم القيامة روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال ابن معسود : البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول هي يوم القيامة ، وهذا لقول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم ، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (غفر : 17) ولأن هذه البطشة لما وصفت بكونها كبرى على الإطلاق وجب أن تكون أعظم أنواع البطش وذلك ليس إلا في القيامة ولفظ الانتقام في حق الله تعالى من المتشابهات كالغضب والحياء ولتعجب ، والمعنى معلوم والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 663
664
اعلم أنه تعالى لما بين أن كفار مكة مصرون على كفرهم ، بين أن كثيراً من المتقدمين أيضاً كانوا كذلك ، فبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون ، قال صاحب "الكشاف" قرىء ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا} بالتشديد للتأكيد قال ابن عباس ابتلينا ، وقال لازجاج بلونا ، والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} وهو موسى واختلفوا في معنى الكريم ههنا فقال الكلبي كريم على ربه يعني أنه استحق على ربه أنواعاً كثيرة من الإكرام ، وقال مقاتل حسن الخلق وقال الفراء يقل فلان كريم قومه لأنه قال ما بعث رسول ألا من أشراف قومه وكرامهم.
ثم قال : {أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّه } وفي أن قولان الأول : أنها أن المفسرة وذلك لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدواء ، وعبدا الله مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم إلى وأرسلوهم معي وهو كقوله {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل وَلا تُعَذِّبْهُمْ } (طه : 47) ويجوز أيضاً أن يكون نداء لهم والتقدير : أدوا إلى عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان ، وقبول دعوتي ، وأتباع سبيلي ، وعلل ذلك بأنه {رَسُولٌ أَمِينٌ} قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته وأن لا تعلوا أن هذه مثل الأول في وجيهيها أي لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسلوه {وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى} بحجة بينة يعترف بصحتها كل عاقل {وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} قيل المراد أن تقتلون وقيل {أَن تَرْجُمُونِ} بالقول فتقولوا ساحر كذاب {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى} أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة ، فاللام في لي لام الأجل {فَاعْتَزِلُونِ} أي اخلوا سبيلي لا لي ولا علي.
جزء : 27 رقم الصفحة : 664
قل مصنف الكتاب رحمه الله تعالى : إن المعتزلة يتصلفون ويقولون إن لفظ الاعتزال أينما جاء في القرآن كان المراد منه الاعتزال عن الباطل لا عن الحق ، فاتقف حضوري في بعض المحافل ، وذكر بعضهم هذا الكلام فأوردت عليه هذه الآية ، وقلت المراد الاعتزال في هذه الآية الاعتزال عن دين موسى عليه السلام وطريقته وذلك لا شك أنه اعتزال عن الحق فانقطع الرجل.
ثم قال تعالى : {فَدَعَا رَبَّه } الفاء في فدع تدل على أنه متصل بمحذوف قبله التأويل أنهم كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون ، فإن قالوا الكفر أعظم حال من الجرم ، فما السبب في أن جعل صفة الكفار كونهم مجرمين حل ما أراد المبالغة في ذمهم ؟
قلت لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون مجرماً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون أخس الناس/ قال صاحب "الكشاف" قرىء (إن هؤلاء) بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال : إن هؤلاء قوم مجرمون.
(1/4014)

ثم قال : {فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا} قرأ بن كثير ونافع {فَأَسْرِ} موصولة بالألف والباقون مقطوعة لألف سرى وأسرى لغتان أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون ، أي يتبعكم فرعون وقومه ذلك سبباً لهلاكهم {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا } وفي الرهو قولان أحدهما : أنه الساكن يقال عيش راه إذا كان خافضاً وادعاً ، وافعل ذلك سهواً رهواً أي ساكناً بغير تشدد ، أراد موسى عليه السلام لما جاوز لبحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما كان فأمره الله تعالى بأن يرتكه ساكناً على هيئته قاراً على حاله في انفلاق الماء وبقاء الطريق يبساً حتى تدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم والثاني : أن لرهو هو الفرجة الواسعة ، والمعنى ذا رهو أي ذا فرجة يعني الطريق الذي أظهره الله فيما بين لبحر أنهم جند مفرقون ، يعني اترك الطريق كما كان يدخلوا فيغرقوا ، وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم وإيذائهم.
ثم قال تعالى : {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} دلت هذه الآية على أنه تعالى أغرقهم ، ثم قال بعد غرقهم هذا الكلام ، وبيّن تعالى أنهم تركوا هذه لأشياء الخمسة ، وهي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والمراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة ، وقيل المنابر التي كانوا يمدحون فرعون عليها {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ} قال علماء اللغة نعمة العيش ، بفتح النون حسنه ونضارته ، ونعمة الله إحسانه وعطاؤه ، قال صاحب "الكشاف" النعمة بالفتح من لتنعم وبالكسر من ا لإنعام ، وقرىء فاكهين وفكهين كذلك الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وأورثناها أو في موضع الرفع على تقدير أن الأمر {كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ} ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل كانوا مستعبدين في أيديهم فأهلكهم الله على أيديهم وأورثهم ملكهم وديارهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 664
ثم قال تعالى : {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ} وفيه وجوه : الأول : قال الواحدي في "البسيط" روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه" وتلا هذه الآية ، قال وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فتبكي عليهم ، وهذا قول أكثر المفسرين.
القول الثاني : التقدير : فم بكت عليهم أهل السماء وأهل الأرض ، فحذف المضاف والمعنى ما بكت عليهم الملائكة ولا المؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
والقول الثالث : أن عادة النس جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأن : إنه أظلمت له الدنيا ، وكسفت الشمس والقمر لأجله وبكت الريح والسماء والأرض ، ويريدون المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكذب. ونقل صاحب "الكشاف" : عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض".
وقال جرير :
الشمس طالعة ليس بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وفيه ما يشبه السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ، وكانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض ، فما كانوا في هذا الحد ، بل كانوا دون ذلك ، وهذا إنما يذكر على سبيل التهكم.
ثم قال : {وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} أي لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك وتقصير.
جزء : 27 رقم الصفحة : 664
668
علم أنه تعالى لما بيّن كيفية إهلاك فرعون وقومه بيّن كيفية إحسانه إلى موسى وقومه. واعلم أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع فبدأ تعالى ببيان دفع الضرر عنهم فقال : {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسرائيل مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.
(1/4015)

ثم قال : {مِن فِرْعَوْنَ } وفيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير من العذاب المهين الصادر من فرعون الثاني : أن يكون فرعون بدلاً من لعذاب المهين كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم. قال صاحب "الكشاف" وقرىء {مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} وعلى هذه القراءة (فالمهين) هو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين. وفي قراءة ابن عباس {مِن فِرْعَوْنَ } وهو بمعنى الاستفهام وقوله {إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ} جوابه كأن التقدير أن يقال هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته ؟
ثم عرف حاله بقوله {إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ} أي كان عالي الدرجة في طبقة المفسرين ، ويجوز أن يكون المراد {فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا} لقوله {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ} (القصص : 4) وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه على حقارته وخسته ادعى الإلهية ، ولما بيّن الله تعالى أنه كيف دفع الضرر عن بني إسرائيل وبيّن أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال : {وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} وفيه بحثان :
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
البحث الأول : أن قوله {عَلَى عِلْمٍ} في موضع الحال ثم فيه وجهان أحدهما : أي عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم والثاني : أن يكون المعنى مع علمنا بأنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال.
البحث الثاني : ظاهر قوله {وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين فقيل المراد على عالمي زمانهم ، وقيل هذا عام دخله التخصيص كقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 110).
ثم قال تعالى : {وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ} مثل فلق البحر ، وتظليل الغعمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغيرها من الآيت القاهرة لتي ما أظهر الله مثلها على أحد سواهم {وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ} أي نعمة ظاهرة ، لأنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة اختباراً ظاهراً ليتميز لصديق عن الزنديق ، وههنا آخر الكلام في قصة موسى عليه السلام ثم رجع إلى ذكر كفار مكة ، وذلك لأن الكلام فيهم حيث قال : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي بل هم في شك من البعث والقيامة ، ثم بيّن كيفية إصرارهم على كفرهم ، ثم بيّن أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر على هذه القصة/ ثم بيّن كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل ، ثم رجع إلى الحديث الأول ، وهو كون كفار مكة منكرين للبعث ، فقال : {إِنَّ هَـا ؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} فإن قيل القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقهم أن يقولوا : إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين ؟
قلنا إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد تعقبها حياة ، وذلك قوله {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية ، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة لها إلا الموتة الأولى خاصة ، فلا فرق إذاً بين هذا الكلام وبين قوله {إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} هذا ما ذكره صاحب "الكشاف". ويمكن أن يذكر فيه وجه آخر ، فيقال قوله {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى } يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى ، نهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية ألبتة ، ثم صرحوا بهذا المزمور فقالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره صاحب "الكشاف".
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
(1/4016)

ثم قال تعالى : {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا بعثهم ، ثم إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا : إن كان البعث والنشور ممكنً معقولاً فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بأن نسألوا ربكم ذلك ، حتى يصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في النبوة والبعث في القيامة ، قيل طلبوا من الرسول لله أن يدعو الله حتى ينشر قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وفي صحة البعث ، ولما حكى عنهم ذلك قال : {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِم أَهْلَكْنَـاهُم إِنَّهُمْ كَانُوا } والمعنى أن كفار مكة لم يذكروا في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يحتاج إلى الجواب عنها ، ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار ، فلهذا السبب اقتصر لله تعالى على الوعيد ، فقال إن سائر الكفار كانوا أقوى من هؤلاء ، ثم إن الله تعالى أهلكهم فكذلك يهلك هؤلاء ، فقوله تعالى : {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} استفهام على سبيل الإنكار ، قال أبو عبيدة : ملوك اليمن كان كل واحد منهم يسمى تبعاً لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه ، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم من ملوك العرب قالت عائشة ، كان تبع رجلاً صالحاً ، وقال كعب : ذم الله قومه ولم يذمه ، قال الكلبي هو أبو كرب أسعد ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي" فإن قيل ما معنى قوله {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} مع أنه لا خير في الفريقين ؟
قلنا معناه أهم خير في القوة والشوكة ، كقوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوالَـا اـاِكُمْ} (القمر : 43) بعد ذكر آل فرعون ، ثم إنه تعالى ذكر الدليل القاطع على القول بالبعث والقيامة ، فقال : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} ولو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعباً وعبثاً ، وقد مرّ تقرير هذه لطريقة بالاستقصاء في أول سورة يونس ، وفي آخر سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حيث قال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون : 115) وفي سورة ص حيث قال : دوما خلقنا السماء والأرض وما بينهم باطلاً} (ص : 27).
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
ثم قال : (ص : 27).
ثم قال : {مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} والمراد أهل مكة ، وأما استدلال المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والفسق ولا يريدهما فهو مع جوابه معلوم ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
668
اعلم أن المقصود من قوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} (الدخان : 38) إثبات القول بالبعث والقيامة ، فلا جرم ذكر عقيبه قوله {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـاتُهُمْ} وفي تسمية يوم القيامة بيوم الفصل وجوه الأول : قال الحسن : يفصل الله فيه بين أهل الجنة وأهل النار الثاني : يفصل في الحكم والقضاء بين عباده الثالث : أنه في حق المؤمنين يوم الفصل ، بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يكرهه ، وفي حق الكفار ، بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يريده ، الرابع : أنه يظهر حال كل أحد كما هو ، فلا يبقى في حاله ريبة ولا شبهة ، فتنفصل الخيالات والشبهات ، وتبقى الحقائق والبينات ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المعنى أن يوم يفصل الرحمن بين عبداه ميقاتهم أجمعين البر والفاخر ، ثم وصف ذلك اليوم فقال : {أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْـاًا} يريد قريب عن قريب {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} أي ليس لهم ناصر ، والمعنى أن الذي يتوقع منه النصرة إما القريب في الدين أو في النسب أو المعتق ، وكل هؤلاء يسمون بالمولى ، فلما لم تحصل النصرة منهم فبأن لا تحصل ممن سواهم أولى ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} إلى قوله {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة : 123) قال الواحدي : والمراد بقوله {مَوْلًى عَن مَّوْلًى} الكفار ألا ترى أنه ذكر المؤمن فقال : {إِلا مَن رَّحِمَ اللَّه } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المؤمن فإنه تشفع له الأنبياء والملائكة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على أن القول بالقيامة حق ، ثم أردفه بوصف ذلك اليوم ذكر عقيبه وعيد الكفار ، ثم بعده وعد الأبرار ، أما وعيد الكفار فهو قوله {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" قرىء {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} بكسر الشين ، ثم قال وفيها ثلاث لغات : شجرة بفتح الشين وكسرها ، وشيرة بالياء ، وشبرة بالباء.
المسألة الثانية : لبحث عن اشتقاق لفظ الزقوم قد تقدم في سورة والصافات ، فلا فائدة في الإعدة.
(1/4017)

المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية تدل على حصول هذا الوعيد الشديد للأثيم ، والأثيم هو الذي صدر عنه الإثم ، فيكون هذا الوعيد حاصلاً للفساق والجواب : أنا بينا في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق ، ولا يفيد المعموم ، وههنا المذكور السابق هو الكافر ، فينصرف إليه.
المسألة الرابعة : مذهب أبي حنيفة أن قرأة القرآن بالمعنى جائز ، واحتج عليه بأنه نقل أن ابن مسعود كان يقرىء رجلاً هذه الآية فكان يقول : طعام اللئيم ، فقال قل طعام الفاجر ، وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه.
ثم قال : {كَالْمُهْلِ} قرىء بضم الميم وفتحها وسبق تفسيره في سورة الكهف ، وقد شبه الله تعالى هذا الطعام بالمهل/ وهو دردى الزيت وعكر القطران ومذاب النحاس وسائر الفلزات ، وتمّ الكلام ههنا ، هم أخبر عن غليانه في بطون الكفار فقال : {يَغْلِى فِى الْبُطُونِ} وقرىء بالتاء فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الشجرة ، ومن قرأ بالياء حمله على الطعام في قوله {طَعَامُ الاثِيمِ} لأن الطعام هو (ثمر) الشجرة في المعنى ، واختار أبو عبيد الياء لأن الاسم المذكور يعني المهل هو الذي بل الفعل فصار التذكير به أولى ، واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأن المهل مشبه به ، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم والماء إذا اشتد غليانه فهو حميم.
ثم قال : {خُذُوهُ} أي خذوا الأثيم {فَاعْتِلُوهُ} قرىء بكسر التاء ، قال الليث : العتل أن تأخذ بمنكث الرجل فتعتله أي تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو منحة ، وأخذ فلان بزمان النقة يعتلها وذلك إذا قبض على أصل الزمام عند الرأس وقادها قوداً عنيفاً ، وقال ابن السكيت عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دعته دفعاً عنيفاً ، هذا قول جميع أهل اللغة في العتل ، وذكروا في اللغتين ضم التاء وكسرها وهما صيحيان مثل يعكفون ويكعفون ، ويعرضون ويعرشون.
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
قوله تعالى : {إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} أي إلى وسط الجحيم {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِه مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} وكان الأصل أن يقال : ثم صبوا من فوق رأسه الحميم أو يصب من فوق رؤوسهم الحميم إلا أن هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول : صبوا عليه عذاب ذلك الحميم ، ونظيره قوله تعالى : {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} (البقرة : 25) و{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) وذكروا فيه وجوهاً الأول : أنه يخاطب بذلك على سبيل الاستهزاء ، والمراد إنك أنت بالضد منه والثاني : أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً والثالث : أنك كنت تعتز لا بالله فانظر ما وقعت فيه ، وقرىء أنك بمعنى لأنك.
ثم قال : {إِنَّ هَـاذَا مَا كُنتُم بِه تَمْتَرُونَ} أي أن هذا العذاب ما كنتم به تمترون أي تشكون ، ولمراد منه ما ذكره في أول السورة حيث قال : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ} (الدخان : 9).
جزء : 27 رقم الصفحة : 668
672
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في لآيات المتقدمة ذكر الوعد في هذه الآيات فقال : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} قال أصحابنا كل من اتقى الشرك فقد صدق عليه اسم المتقي فوجب أن يدخل الفاسق في هذا الوعد.
واعلم أنه تعالى ذكر من أسباب تنعمهم أربعة أشياء أولها : مساكنهم فقال : {فِى مَقَامٍ أَمِينٍ} .
واعلم أن المسكين إنما يطيب بشرطين أحدهما : أن يكون آمناً عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله {فِى مَقَامٍ أَمِينٍ} قرأ الجمهور في مقام بفتح الميم ، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم ، قال صاحب "الكشاف" المقام بفتح الميم هو موضع القيام ، والمراد المكان وهو من الخاص الذي جعل مستعملاً في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة ، والأمين من قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه والشرط الثاني : لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون ، فلما ذكر تعالى هذين الشرطين في مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة.
والقسم الثاني : من تنعماتهم الملبوسات فقال : {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} قيل السندس ما رقّ من الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، وهو تعريب استبرك ، فإن قالوا كيف جاز ورود الأعجمي في القرآن ؟
قلنا لما عرب فقد صار عربياً.
والقسم الثالث : فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض ، فإن قاوا الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعله الآخر ، وأيضاً فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه ، قلنا أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا.
جزء : 27 رقم الصفحة : 672
(1/4018)

والقسم الرابع : أزواجهم فقال : {كَذَالِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} الكاف فيه وجهان أن تكون مرفوعة والتقدير الأمر كذلك أو منصوبة والتقدير آتيناهم مثل ذلك ، قال أبو عبيدة : جعلناهم أزواجاً كما يزوج البعل بالبعل أي جلعناهم اثنين اثنين ، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا ؟
، قال يونس قوله {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي قرناهم بهن فليس من عقد التزويج ، والعرب لا تقول تزوجت بها وإنما تقول تزوجتها ، قال الواحدي رحمه لله والتنزيل يدل على ما قال يونس وذلك قوله {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (الأحزاب : 37) ولو كان المراد تزوجت بها زوجناك بها وأيضاً فقول القائل زوجته به معناه أنه كان فرداً فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر ، وأما الحور ، فقال الواحدي أصل الحور بياض والتحوير التبييض ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير الحوارين ، وعين حوراء إذا اشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها ، ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون حور عينهيا بياضاً في لون الجسد ، والدليل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض قراءة ابن مسعود بعيس عين والعيس البيض ، وأما العين فجمع عيناء وهي التي تكون عظيمة العينين في النساء ، فقال الجبائي رجل أعين إذا كان ضخم العين واسعها والأنثى عيناء والجمع عين/ ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين ، فقال الحسن هن عجائزكم الدرد ينشئهن الله خلقاً آخر ، وقال أبو هريرة إنهن ليسوا من نساء الدنيا.
والنوع الخامس : من تنعمات أهل الجنة المأكول فقال : {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ} قالوا إنهم يأكلون جميع أنواع الفاكهة لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض.
ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات ، بين أن حياتهم دائمة ، فقال : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى } وفيه سؤالان :
السؤال الأول : أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء ؟
وأجيب عنه من وجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله {إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى } موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها الثاني : أن إلا بمعنى لكن والتقدير لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها والثالث : أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضاً في الجنة ، وإذا كان لأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في لجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله ولمحبة ، فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب ، ولهذا السبب قال عليه السلام : "أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار" والرابع : أن من جرب شيئاً ووقف عليه صح أن يقال إنه ذاقه ، وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق فقوله {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى } يعني إلا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى.
جزء : 27 رقم الصفحة : 672
السؤال الثاني : أليس أن أهل النار أيضاً لا يموتون فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أهل النار يشاركونهم فيه ؟
والجواب : أن البشارة ما وقعت بدوام الحياة مع سابقة حصول تلك الخيرات والسعادات فظهر الفرق.
ثم قال تعالى : {وَوَقَا هُمْ عَذَابَ} قرىء ووقاهم بالتشديد ، فإن قالوا مقتضى الدليل أن يكون ذكر الوقاية عن عذاب الجحيم متقدمً على ذكر الفوز بالجنة لأن الذي وقى عن عذاب الجحيم قد يفوز وقد لا يفوز ، فإذا ذكر بعده أنه قاز بالجنة حصلت الفائدة ، أما الذي فاز بخيرات الجنة فقد تخلص عن عقاب الله لا محالة فلم يكن ذكر الفوم عن عذاب جهنم بعد الفوز بثواب الجنة مفيداً ، قلنا التقدير كأنه تعالى قال : ووقاهم في أول الأمر عن عذاب الجحيم.

ثم قال : {الْجَحِيمِ * فَضْلا مِّن رَّبِّكَ } يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص عن النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بتفضل الله ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الثواب يحصل تفضلاً من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق لأنه تعالى لما عدد أقسام ثواب المتقين بين أنها بأسرها إنما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من الله تعالى ، قال القاضي أكثر ههذ الأشياء وإن كانوا قد استحقوه بعملهم فهو بفضل الله لأنه تعالى تفضل بالتكليف ، وغرضه منه أن يصيرهم إلى هذه المنزلة فهو كمن أعطى غيره مالاً ليصل به إلى ملك ضيعة ، فإنه يقال في تلك الضيعة إنها من فضله ، قلنا مذهبك أن هذا الثواب حق لازم على الله ، وإنه تعالى لو أخل به لصار سفيهاً ولخرج به عن الإلهية فكيف يمكن وصف مثل هذا الشيء بأنه فضل من الله تعالى ؟
ثم قال تعالى ؛ {ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق/ فإنه تعالى وصفه بكونه فضلاً من الله ثم وصف الفضل من الله بكونه فوزاً عظيماً ، ويدل عليه أيضاً أن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة ، ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمعنى أنه تعالى وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتاباً مبيناً أي كثير البيان والفائدة وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال : إن ذلك الكتاب المبين ، الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك ، أي إنما أنزلنا عربياً بلغتك ، لعلّهم يتذكرون ، قال القاضي وهذا يدل على أنه أراد من الكل الإيمان والمعرفة وأنه ما أراد من أحد الكفر وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عائد إلى أقوام مخصوصين فنحن نحمل ذلك على المؤمنين.
جزء : 27 رقم الصفحة : 672
ثم قال : {فَارْتَقِبْ} أي فانتظر ما يحل بهم {إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} ما يحل بك ، متربصون بك الدوائر والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 672
673
(1/4019)

سورة الجاثية
ثلاثون وسبع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 27 رقم الصفحة : 673
674
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله دحم ، تنزيل الكتاب} وجوهاً الأول : أن يكون وجوهاً الأول : أن يكون {حم } مبتدأ و{تَنزِيلُ الْكِتَابِ} خبره وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف ، والتقدير تنزيل حم ، تنزيل الكتاب ، و{مِنَ اللَّهِ} صلة للتنزيل الثاني : أن يكون قوله {حم } في تقدير : هذه حم ثم نقول {تَنزِيلُ الْكِتَابِ} واقع من الله العزيز الحكيم الثالث : أن يكون {حم } قسماً {أُمُّ الْكِتَابِ} نعتاً له ، وجواب القسم {إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ} والتقدير : وحم الذي هو تنزيل الكتاب أن الأمر كذا وكذا.
المسألة الثانية : قوله {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} يجوز جعلهما صفة للكتاب ، ويجوز جعلهما صفة لله تعالى ، إلا أن هذا الثاني أولى ، ويدل عليه وجوه الأول : أنا إذا جعلناهما صفة لله تعالى كان ذلك حقيقة ، وإذا جعلناهما صفة للكتاب كان ذلك مجازاً والحقيقة أولى من المجاز الثاني : أن زيادة القرب توجب الرجحان الثالث : أنا إذا جعلنا العزيز الحكيم صفة لله كان ذلك إشارة إلى الدليل الدال على أن الفرآن حق ، لأن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على كل الممكنات وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات ، ويحصل لنا من مجموع كونه تعالى : عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع الممكنات ، عالماً بجميع المعلومات ، غنياً عن كل الحاجات ، وكل ما كان كذلك امتنع منه صدور العبث والباطل ، وإذا كان كذلك كان ظهور المعجز دليلاً على الصدق ، فثبت أنا إذا جعلنا كونه عزيزاً حكيماً صفتين لله تعالى يحصل منه هذه الفائدة ، وأما إذا جعلناهما صفتين للكتاب لم يحصل منه هذه الفائدة ، فكان الأول أولى والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 674
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ لايَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} وفيه مباحث :
البحث الأول : أن قوله {إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ لايَاتٍ} يجوز إجراؤه على ظاهره ، لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها ، وأيضاً الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار موجودة في السموات والأرض وهي آيات ، ويجوز أن يكون المعنى : إن في خلق السموات والأرض كما صرّح به في سورة البقرة في قوله {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} (البقرة : 164) وهو يدل على وجود القادر المختار في تفسير قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 1).
(1/4020)

البحث الثاني : قد ذكرنا الوجوه الكثيرة في دلالة السموات والأرض على وجود الإله القادر المختار في تفسير قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ولا بأس بإعادة بعضها فنقول إنها تدل على وجود الإله من وجوه : الأول : أنها أجسام لا تخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فهذه الأجسام حادثة وكل حادث فله محدث الثاني : أنها مركبة من الأجزاء وتلك الأجزاء متماثلة ، لما بينا أن الأجسام متماثلة ، وتلك الأجزاء وقع بعضها في العمق دون السطح وبعضها في السطح دون العمق فيكون وقوع كل جزء في الموضع الذي وقع فيه من الجائزات وكل جائز فلا بد له من مرجح ومخصص الثالث : أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في تمام الماهية الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية ، فيكون ذلك أمراً جائزاً ولا بد لها من مرجح الرابع : أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل ، وبياض المشتري ، وحمرة المريخ ، والضوء الباهر للشمس ، ودرية الزهرة ، وصفرة عطارد ، ومحو القمر ، وأيضاً فبعضها سعيدة ، وبعضها نحسة ، وبعضها نهاري ذكر ، وبعضها ليلي أنثى ، وقد بينا أن الأجسام في ذواتها متماثلة ، فوجب أن يكون اختلاف الصفات لأجل أن الإله القادر المختار خصص كل واحد منها بصفته المعينة الخامس : أن كل فلك فإنه مختص بالحركة إلى جهة معينة ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء ، وكل ذكل أيضاً من الجائزات ، فلا بد من الفاعل المختار السادس : أن كل فلك مختص بشيء معين وكل ذلك أيضاً من الجائزات ، فلا بد من الفاعل المختار ، وتمام الوجوه مذكور في تفسير تلك الآيات.
جزء : 27 رقم الصفحة : 674
البحث الثالث : قوله {لايَـاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} يقتضي كون هذه الآيات مختصة بالمؤمنين ، وقالت المعتزلة إنها آيات للمؤمن والكافر ، إلا أنه ملا انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آيات إلى المؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) فإنه هدىً لكل الناس كما قال تعالى : {هُدًى لِّلنَّاسِ} (البقرة : 185) إلا أنه لما انتفع بها المؤمن خاصة لا جرم قيل {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فكذا ههنا ، وقال الأصحاب الدليل والآية هو الذي يترتب على معرفته حصول العلم ، وذلك العلم إنما يحصل بخلق الله تعالى لا بإيجاب ذلك الدليل ، والله تعالى إنما خلق ذلك العلم للمؤمن لا للكافر فكان ذلك آية دليلاً في حق المؤمن لا في حق الكافر والله أعلم.
ثم قال تعالى ؛ {وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَـاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وفيه مباحث :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : قوله {وَمَا يَبُثُّ} عطف على الخلق المضاف لا على الضمير المضاف إليه ، لأن المضاف ضمير متصل مجرور والعطف عليه مستقبح ، فلا يقال مررت بك وزيد ، ولهذا طعنا في قراءة حمزة {تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } (النساء : 1) بالجر في قوله {وَالارْحَامَ } وكذلك إن الذيثن استقبحوا هذا العطف ، فلا يقولون مررت بك أنت وزيد.
البحث الثاني : قرأ حمزة الكسائي {ءَايَـاتِ} بكسر التاء وكذلك الذي بعده {وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ ءَايَـاتٌ} والباقون بالرفع فيهما ، أما الرفع فمن وجهين ذكرهما المبرد والزجاج وأبو علي : أحدهما : العطف على موضع إن وما عملت فيه ، لأن موضعهما رفع بالابتداء فيحمل الرفع فيه على الموضع ، كما تقول إن زيداً منطلق وعمر ، و{أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه } (التوبة : 3) لأن معنى قوله {أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ} أن يقول الله برىء من المشركين ورسوله ، والوجه الثاني : أن يكون قوله {وَفِى خَلْقِكُمْ} مستأنفاً ، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة أخرى كما تقول إن زيداً منطلق وعمرو كاتب ، جعلت قولك وعمرو كاتب كلاماً آخر ، كما تقول زيد في الدار وأخرج غداً إلى بلد كذا ، فإنما حدثت بحديثين ووصلت أحدهما بالآخر بالواو ، وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن والفراء ، وأما وجه القراءة بالنصب فهو بالعطف على قوله {إِنَّ فِى السَّمَـاوَاتِ} على معنى وإن في خلقكم لآيات ويقولون هذه القراءة إنها في قراءة أُبي وعبد الله {لايَـاتٍ} ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على إن.
جزء : 27 رقم الصفحة : 674
البحث الثالث : قوله {وَفِى خَلْقِكُمْ} معناه خلق الإنسان ، وقوله {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} إشارة إلى خلق سائر الحيوانات ، ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين ، لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار ، ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال آخر ، والاستقصاء في هذا الباب قد تقدم.
(1/4021)

ثم قال تعالى : {وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وهذا الاختلاف يقع على وجوه : أحدها : تبدل النهار بالليل وبالضد منه وثانيها : أنه تارة يزداد طول النهار على طول الليل وتارة بالعكس وبمقدار ما يزداد في النهار الصيفي يزداد في الليل الشتوي وثالثها : اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وهو يدل على القول بالفاعل المختار من وجوه أحدها : إنشاء السحاب وإنزال المطر منه وثانيها : تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض وثالثها : تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة وأغصانها وأوراقها وثمارها ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطاً باللب كالجوز واللوز ، ومنها ما يكون اللب محيطاً بالقشر كالمشمش والخوخ ، ومنها ما يكون خالياً من القشر كالتين ، فتولد أقسام النبات على كثرة أصنافها وتباين أقسامها يدل على صحة القول بالفاعل المختار الحكيم الرحيم.
ثم قال : {وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ} وهي تنقسم إلى إقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية ، ومنها الحارة والباردة ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة ، ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال إنها آيات لقوم يعقلون.
جزء : 27 رقم الصفحة : 674
واعلم أن الله تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ} (البقرة : 164) فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل والتفاوت بين الموضعين من وجوه الأول : أنه تعالى قال في سورة البقرة : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وقال ههنا : {إِنَّ فِى السَّمَـاوَاتِ} والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق ، وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيهاً على أنه لا يتفاوت بين أن يقال السموات وبين أن يقال خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق عين المخلوق الثاني : أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل وذكر ههنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب ، والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما والتفاوت الثالث : أنه جمع الكل وذكر لها مقطعاً واحداً وههنا رتبها على ثلاثة مقاطع والغرض التنبيه على أنه لا بد من إفرادكلواحد منها بنظر تام شاف الرابع : أنه تعالى ذكر في هذا الموضوع ثلاثة مقاطع أولها : يؤمنون وثانيها : يوقنون وثالثها : يعقلون ، وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن منتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، واعلم أن كثيراً من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون ، بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه/ وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة خصوصاً المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوّة والبعث والقيامة وكل ذلك من علوم الأصوليين ، ومن تأمل علم أنه ليس في يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال.
ثم قال تعالى : {تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } والمراد من قوله {بِالْحَقِّ } هو أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وذلك لأن العلم بأنها حقة صحيحة إما أن يكون مستفاداً من النقل أو العقل والأول باطل لأن صحة الدلائل النقلية موقوفة على سبق العلم بإثبات الإله العالم القادر الحكيم وبإثبات النبوّة وكيفية دلالة المعجزات على صحتها ، فلو أثبتنا هذه الأصول بالدلائل النقلية لزم الدور وهو باطل ، ولما بطل هذا ثبت أن العلم بحقيقة هذه الدلائل لا يمكن تحصيله إلا بمحض العقل ، وإذا كان كذلك كان قوله {تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } ومن أعظم الدلائل على الترغيب في علم الأصول وتقرير المباحث العقلية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 674
(1/4022)

ثم قال تعالى : {تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } يعني أن لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به ، وأبطل بهذا قول من يزعم أن التقليد كاف وبين أنه يجب على المكلف التأمل في دلائل دين الله ، وقوله {يُؤْمِنُونَ} قرىء بالياء والتاء ، واختار أبو عبيدة الياء لأن قبله غيبة وهو قوله {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن قيل إن في أول الكلام خطاباً وهو قوله {وَفِى خَلْقِكُمْ} قلنا الغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه والأقرب أولى ، ووجه قول من قرأ على الخطاب أن قل فيه مقدر أي قل لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون.
جزء : 27 رقم الصفحة : 674
677
اعلم أنه تعالى لما بيّن الآيات للكفار وبين أنهم بأي حديث يؤمنون إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها ، أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال : {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الأفاك الكذب والأثيم المبالغ في اقتراف الآثام ، واعلم ن هذا الأثيم له مقامان :
المقام الأول : أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار ، فقال تعالى : {يَسْمَعُ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ} أي يقيم على كفره إقاملاة بقوة وشدة عن الإيمان بالآيات معجباً بما عنده ، قيل نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن والآية عامة في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة ، فإن قالوا ما معنى ثم في قوله {عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا} ؟
، قلنا نظيره قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} إلى قوله {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام : 1) ومعناه أنه تعالى لما كان خالقاً للسموات والأرض كان من المستبعد أن يقابل بالإنكار والإعراض.
ثم قال تعالى : {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } الأصل كأنه لم يسمعها ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصير مثل غير السامع.
المقام الثاني : أن ينتقل من مقام الإصرار والاستكبار إلى مقام الاستهزاء فقال : {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شَيْـاًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا } وكان من حق الكلام أن يقال اتخذه خزواً أي اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال : {اتَّخَذَهَا} للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلّم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 677
ثم قال تعالى : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أولئك إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله جميع الأفاكين ، ثم وصف كيفية ذلك العذاب المهين فقال : {مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُ } أي من قدامهم جهنم ، قال صاحب "الكشاف" : الوراء اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام ، ثم بيّن أن ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال : {وَلا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْـاًا} .
ثم بيّن أن أصنامهم لا تنفعهم فقال : {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } .
ثم قال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإن قالوا إنه قال قبل هذه الآية {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فما الفائدة في قوله بعده {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قلنا كون العذاب مهيناً يدل على حصول الإهانة مع العذاب وكونه تظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في كونه ضرراً.
ثم قال : {هَـاذَا هُدًى } أي كامل في كونه هدىً {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} والرجز أشد العذاب بدلالة قوله تعالى : {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ} (القرة : 59) وقوله {لَـاـاِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} (الأعراف : 134) وقرىء {أَلِيمٍ} بالجر والرفع ، أما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم وإذاكان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليماً ، ومن رفع كان المعنى له عذاب أليم ويكون المراد من الرجز الرجس الذي هو النجاسة ومعنى النجاسة فيه قوله {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} (إبراهيم : 16) وكأن المعنى لهم عذاب من تجرع رجس أو شرب رجس فتكون من تبييناً للعذاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 677
680
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية جريان الفلك على وجه البحر وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشياء أحدها : الرياح التي تجري على وفق المراد ثانيها : خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك ثالثها : خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه.
وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر ، فلا بد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى ، وقوله {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه } معناه إما بسبب التجارة ، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان ، أو لأجل استخراج اللحم الطري.
(1/4023)

ثم قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مِّنْه } والمعنى لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السموات والأرض في مقارها وأحيازه لم حصل الانتفاع ، لأن بتقدير كون الأرض هابطة أو صاعدة لم يحصل الانتفاع بها ، وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الانتفاع ، وكل ذلك قد بيناه ، فإن قيل ما معنى {مِّنْه } في قوله {جَمِيعًا مِّنْه } ؟
قلنا معناه أنها وقعة موقع الحال ، والمعنى أنه سخّر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه ، قال صاحب "الكشاف" قرأ سلمة بن محارب منه على أن يكون منه فعل سخر على الإسناد المجازي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه أو هو منه.
واعلم أنه تعالى لم علم عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} والمراد بالذين لا يرجون أيام الله الكفار ، واختلفوا في سبب نزول الآية قال ابن عباس {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا } يعني عمر {يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} يعني عبد لله بن أُبي ، وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع ، فأرسل عبد الله غلامة ليستقي الماء فأبطأ عليه ، فلما أتاه قال له ما حبسك ؟
قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحد يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلّم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه ، فقال عبد الله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك ، فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال مقاتل شتم رجل من كفار قريش عمر بمكة فهم أن يبطش به فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 680
وروى ميمون بن مهران أن فنحاص اليهودي لما أنزل قوله {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (البقرة : 245) قال احتاج رب محمد ، فسمع بذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم في طلبه حتى رده ، وقوله {لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قال ابن عباس لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية ، وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّـاـامِ اللَّه } (إبراهيم : 5) وأكثر المفسرين يقولون إنه منسوخ ، وإنما قالوا ذلك لأنه يدخل تحت الغفران أو لا يقتلوا ، فما أمر الله بهذه المقاتلة كان نسخاً ، والأقرب أن يقل إنه محمول على ترك المنازعة في المحقرات على التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية والأفعال الموحشة.
ثم قال تعالى : {لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي لكي يجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير ، قإن قيل : ما الفائدة في التنكير في قوله {بَعْدَهَا قَوْمًا} مع أن المراد بهم هم المؤمنون المذكورون في قوله {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا } ؟
قلنا التنكير يدل على تعظيم شأنهم كأنه قيل : ليجزي قوماً وأي قوم من شأنهم الصفح عن السيئات والتجاوز عن المؤذيات وتحمل الوحشة وتجرع المكروه ، وقال آخرون معنى الآية قل للمؤمنين يتجاوزوا عن الكفار ، ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم ، كأنه قيل لهم لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن ، ثم ذكر الحكم العام فقال : {مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه } وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل ، فبيّن تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الردىء يعود بالضرر على فاعله ، وأنه تعالى أمر بهذا ونهى عن ذلك لحظ العبد لا لنفع يرجع إليه ، وهذ ترغيب منه في العمل الصالح وزجر عن العمل الباطل.
جزء : 27 رقم الصفحة : 680
681
اعلم أنه تعالى بيّن أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل ، مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد : والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم.
(1/4024)

واعلم أن النعم على قسمين : نعم الدين ، ونعم الدنيا ، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا ، فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين ، فقل {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكنن مغايراً لصاحبه ، أما الكتاب فهو التوراة ، وأما الحكم ففيه وجوه ، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة ، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات ، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه ، وأما النبوة فمعلومة ، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى : {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا ، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى ، ولما بيّن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً ، قال : {وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم ، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد : وفضلناهم عن عالمي زمانهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 681
ثم قال تعالى : {وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ مِّنَ الامْرِ } وفيه وجوه الأول : أنه آتاهم بينات من الأمر ، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني : قال ابن عباس : يعني بيّن لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلّم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث : المراد {وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ} أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم ، والمراد معجزات موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى : {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } وهذا مفسر في سورة {حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الشورى : 1 ، 2) والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة ، لأن حصول العم يوجب ارتفاع الخلاف ، وههنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف ، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم ، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم ، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا ، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم ، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع.
ثم قال تعالى : {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا/ فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها ، فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه ، وذلك كالزجر لهم ، ولما بيّن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن يعدل عن تلك الطريقة ، وأن يتمسك بالحق ، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق ، فقال تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ} أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين ، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات ، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل ، قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى : {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا } أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب ، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ، ثم بيّن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة ، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب ، وأما المتقون لامهتدون ، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه ، وما أبين الفرق بين الولايتين ، ولما بيّن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة ، قال : {هَـاذَا بَصَـا اـاِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف ، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية ، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب ، كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة ، وهو هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن ، ولم بيّن لله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم ، بيّن الفرق بينهما من وجه آخر ، فقال : {مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا} وفيه مباحث :
جزء : 27 رقم الصفحة : 681
البحث الأول : {أَمْ} كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر ، سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً ، والتقدير ههنا : أفيعلم المشركون هذا ، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين ؟
البحث الثاني : الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وفلان جارحة أهله ، أي كاسبهم ، قال تعالى : {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام : 60).
(1/4025)

البحث الثالث : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : وا ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنا أفضل حالاً منكم في الدنيا ، فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل السعادات.
واعلم أن لفظ {حَسِبَ} يستدعي مفعولين أحدهما : الضمير المذكور في قوله {أَن نَّجْعَلَهُمْ} والثاني : الكاف في قوله {كَالَّذِينَ ءَامَنُوا } والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ؟
ونظيره قوله تعالى : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُانَ} (السجدة : 18) وقوله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} (غافر : 51 ، 52) وقوله تعالى : {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم : 35 ، 36) وقوله {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28).
ثم قال تعلى : {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب ، والباقون بالرفع ، واختيار أبي عبيد النصب ، أما وجه القراءة بالرفع ، فهو أن قوله {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله {أَمْ نَجْعَلُ} وهو الكاف في قوله {كَالَّذِينَ ءَامَنُوا } ونظيره قوله : ظننت زيداً أبوه منطلق ، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب "الكشاف" أجرى سواء مجرى مستوياً ، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفرداً غير جملة ، ومن قرأ {وَمَمَاتُهُمْ } بالنصب جعل {مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } ظرفين كمقدم الحاج ، وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلاً من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله( محياهم ومماتهم سواء ، قال ويجوز أن نجعله حالاً ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله {كَالَّذِينَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 681
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله {مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدينا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه ، والكافر بالضد منه ، كما ذكره في قوله {وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } وعند القرب إلى الموت ، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَا يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} (النمل : 32) وحال الكافر ما ذكره في قوله : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } (النحل : 28) وأما في القيامة فقال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس : 38 ـ 41) فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني : في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث : في التأويل أن قوله {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } مستأنف على معنى أن نحيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المسحنين ومماتهم ، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} وهو ظاهر.
جزء : 27 رقم الصفحة : 681
5
(1/4026)

اعلم إنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات ، أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى ، فقال : {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ} ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل ، لأنه تعالى لما خلق الظالم وسلّطه على المظلوم الضعيف ، ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالماً ، ولو كان ظالماً لبطل أنه خلق السموات والأرض بالحق وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس ، قال القاضي هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلماً ، وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون لو فعل كحل شيء أراده لم يكن ظلماً ، وعلى قول من يقول إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم ، وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلماً كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاءً واختباراً ، وقوله تعالى : فيه وجهان : الأول : أنه معطوف على قوله {ءَادَمَ بِالْحَقِّ} فيكون التقدير وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس ، الثاني : أن يكون العطف على محذوف ، والتقدير : وخلق الله السموات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة ، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين ، ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم ، فقال : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه ، وقرىء {إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه ، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحداً منها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح ، ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية ، ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية ، فهو تعالى يقابل كلاً منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته ، وهو المراد من قوله {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} في حق المردودين وبقوله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } في حق المقبولين.
ثم قال : {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِه وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً} فقوله {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} هو المذكور في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } إلى قوله {لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6) وقوله {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِه وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِه غِشَـاوَةً} هو المراد من قوله {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى ا أَبْصَـارِهِمْ غِشَـاوَةٌ } (البقرة : 7) وكل ذلك قد مرّ تفسيره في سورة البقرة باللاستقصاء ، والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب ، وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع ، والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاماً فيقع في قلبه منه أثر ، مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلّم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه ، وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه ، ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئاً نافعاً ، ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال : {فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّه } أي من بعد أن أضله الله {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أيها الناس ، قال الواحدي وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة ، لأن الله تعالى صرّح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره ، وأقول هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4027)

واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر ، أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى : {وَقَالُوا مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدينا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت ، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟
قلنا فيه وجوه الأول : المراد بقوله {نَمُوتُ} حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وبقوله ما حصل بعد ذلك في الدينا الثاني : نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا الثالث : يموت بعض ويحيا بعض الرابع : وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال : {وَقَالُوا مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ثم قال بعده : {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ، ومنها ما لم يطرأ الموت عليها ، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد ، وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار ، فهو قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ } يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة ، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت ، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار ، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة.
ثم قال تعالى : دوما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة ، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل ، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً ، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً ، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة ، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد/ وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى.
ثم قال تعالى : والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة ، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضاً يحتمل ، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقاً ، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقاً ، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة ، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد ، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا بِـاَابَآاـاِنَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء حجتهم بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره.
المسألة الثانية : سمى قولهم حجة لوجوه الأول : أنه في زعمهم حجة الثاني : أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس ألبتة حجة كقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع
(أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية) الثالث : أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها.
المسألة الثالثة : أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهودوا لنا بصحة البعث.
واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جداً ، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول ، فإن حصول كل واحد منا كان معدوماً من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه ، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك ، وذلك باطل بالاتفاق.
ثم قال تعالى : {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول {مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ } فهذا القائل كان منكراً لوجود الإله ولوجود يوم القيامة ، فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل ، قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مراراً وأطواراً. فقوله ها هنا {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} إشارة إلى تلك الدلائل التي بيّنها وأوضحها مرارً ، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله ، بل المقصود منه التنبيه على ما الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.
(1/4028)

ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى ، وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول ، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله ، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة ، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها ، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة.
وأما قوله تعالى : {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة ، وهو أن كونه تعال ، عادلاً خالقاً بالحق منزّهاً عن الجور والظلم ، يقتضي صحة البعث والقيامة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم ، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الأولى ، وعلى كونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة ، عمم الدليل فقال : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السموات أو من الأرض ، وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات ، وثبت أن حصول الحياة في هذه الذات ممكن ، إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية.
ولما بيّن تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين ، ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها : قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : عامل النصب في يوم تقوم يخسر ، ويومئذ بدل من يوم تقوم.
البحث الثاني : قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال ، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح ، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وثانيها : قوله تعالى : {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } قال الليث الجثو الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم ، قال الزجاج ومثله جذا يجذو ، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء جاذية ، قال أهل اللغة والجذو أشد استيفازاً من الجثو ، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه ، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى ا إِلَى كِتَـابِهَا} على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة ، وقوله {إِلَى كِتَـابِهَا} أي إلى صحائف أعمالها ، فاكتفى باسم الجسني كقوله تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَـابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} (الكهف : 49) والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا } .
ثم قال تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } فإن قيل الجثو على الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة ، قلنا إن المحق الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً.
ثم قال تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} والتقدير يقال لهم اليوم تجزون ، فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى ؟
قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه {يَنطِقُ عَلَيْكُم} أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ} الملائكة {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نستكتبهم أعمالكم.
ثم بيّن أحوال المطيعين فقال : {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِه ا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات ، فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايراً للإيمان زائداً عليه.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة علق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والأعمال الصالحة ، والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عند عدم أحدهما ، فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا : أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.
المسألة الثالثة : سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة ، فوجب أن لا يكون الثواب واجباً على الله تعالى.
ثم قال تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} وفيه مسائل :
(1/4029)

جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الأولى : ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قسماً ثالثاً وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة إثبات المنزلتين باطل.
المسألة الثانية : أنه تعالى علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبولها ، وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع ، وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع ، خلافاً لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل.
المسألة الثالثة : جواب {أَمَّآ} محذوف والتقدير : وأما الذين كفروا فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم عن قبول الحق وكنتم قوماً مجرمين فإن قالوا كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرماً في معرض الطعن فيه والذم له ؟
قلنا معناه أنهم مع كونهم كفاراً ما كانوا عدولاً في أديان أنفسهم ، بل كانوا فساقاً في ذلك الدين والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء والساعة رفعاً ونصباً قال الزجاج من نصب عطف على الوعد ومن رفع فعلى معنى وقيل : الساعة لا ريب فيها قال الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب ، إذا جاء بعد خبر إن لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الكلام الأول بتمامه.
المسألة الثانية : حكى الله تعالى عن الكفار أنهم إذا قيل إن وعد الله بالثواب والعقاب حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها قالوا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.
أقول الأغلب على الظن أن القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة ، وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله {وَقَالُوا مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (الجاثية : 24) ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه ، لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحبته صاروا شاكين فيه وهم الذين أرادهم الله بهذه الآية ، والذي يدل عليه أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين ، ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.
ثم قال تعالى : {وَبَدَا لَهُمْ} أي في الآخرة {سَيِّاَاتُ مَا عَمِلُوا } وقد كانوا من قبل يعدونها حسنات فصار ذلك أول خسرانهم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا {إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا} إنما ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وعلى هذا الوجه فهذا الفريق شر من الفريق الأول ، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين ، وهذا الفريق ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَا كُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا} وفي تفسير هذا النسيان وجهان الأول : نترككم في العذاب كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد الثاني : نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به ، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تلتفتوا إليه بل جعلتموه كالشيء الذي يطرح نسياً منسياً ، فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة أشياء فأولها : قطع رحمة الله تعالى عنهم بالكلية وثانيها : أنه يصير مأواهم النار وثالثها : الاستغراق في حب الدنيا والإعراض بالكلية عن الآخرة ، وهو المراد من قوله تعالى : {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } .
ثم قال تعالى : {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} قرأ حمزة والكسائي {يُخْرَجُونَ} بفتح الياء ، والباقون بضمها {وَلا هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم ، أي يرضوه ، ولما تم الكلام في هذه المباحث الشريفة الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى/ فقال : {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الارْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرض ، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات ، فإنت هذه الربوبية توجب الحمد والثناء على كل أحد من المخلوقين والمربوبين.
ثم قال تعالى : {وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} وهذا مشعر بأمرين أحدهما : أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد ، والإشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يقرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقاً بإنعامه ، بل هو أكبر من حمد الحامدين ، وأياديه أعلى وأجل من شكر الشاكرين والثاني : أن هذا الكبرياء له لا لغيره ، لأن واجب الوجود لذاته ليس إلا هو.
ثم قال تعالى : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يعني أنه لكمال قدرته يقدر على خلق أي شيء أراد ، ولكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة والفضل والكرم ، وقوله {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يفيد الحصر ، فهذا يفيد ، أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلا هو ، وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو ، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.

جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4030)

سورة الأحقاف
وهي ثلاثون وخمس ايات مكية وقيل اربع وثلاثون اية
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
اعلم أن نظم أول هذه السورة كنظم أول سورة الجاثية ، وقد ذكرنا ما فيه.
وأما قوله {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} فهذا يدل على إثبات الإله بهذا العالم ، ويدل على أن ذلك الإله يجب أن يكون عادلاً رحيماً بعباده ، ناظراً لهم محسناً إليهم ، ويدل على أن القيامة حق.
أما المطلب الأول : وهو إثبات الإله بهذا العالم ، وذلك لأن الخلق عبارة عن التقدير ، وآثار التقدير ظاهرة في السموات والأرض من الوجوه العشرة المذكورة في سورة الأنعام ، وقد بينا أن تلك الوجوه تدل على وجود الإله القادر المختار.
/وأما المطلب الثاني : وهو إثبات أن إله العالم عادل رحيم فيدل عليه قوله تعالى : {إِلا بِالْحَقِّ } لأن قوله {إِلا بِالْحَقِّ } معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان ، وأن الإله يجب أن يكون فضله زائداً وأن يكون إحسانه راجحاً ، وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم ، قال الجبائي هذا يدل على أن كل ما بين السموات والأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده ، وإلا لزم أن يكون خالقاً لكل باطل ، وذلك ينافي قوله {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} (الدخان : 39) أجاب أصحابنا وقالوا : خلق الباطل غير ، والخلق بالباطل غير ، فنحن نقول إنه هو الذي خلق الباطل إلا أنه خلق ذلك الباطل بالحق لأن ذلك تصرف من الله تعالى في ملك نفسه وتصرف المالك في ملك نفسه يكون بالحق لا بالباطل ، قالوا والذي يقرر ما ذكرناه أن قوله تعالى : {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ} يدل على كونه تعالى خالقاً لكل أعمال العباد ، لأن أعمال العباد من جملة ما بين السموات والأرض ، فوجب كونها مخلوقة لله تعالى ووقوع التعارض في الآية الواحدة محال فلم يبق إلا أن يكون المراد ما ذكرناه فإن قالوا أفعال العباد أعراض ، والأعراض لا توصف بأنها حاصلة بين السماوات والأرض ، فنقول فعلى هذا التقدير سقط ما ذكرتموه من الاستدلال والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
وأما المطلب الثالث : فهو دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة ، وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السموات والأرض وما بينها لابالحق.
وأما قوله تعالى : {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء إلا بالحق وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلداً سرمداً ، بل إنما خلقه ليكون داراً للعمل ، ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده ، فيقع الجزاء في الدار الآخرة ، فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا.
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّآ أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} والمراد أن مع نصب الله تعالى هذه الدلائل ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب ومع مواظبة الرسل على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار/ بقي هؤلاء الكفار معرضين عن هذه الدلائل غير ملتفتين إليها ، وهذا يدل على وجوب النظر والاستدلال ، وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا.
واعلم أنه تعالى لما قرر هذا الأصل الدال على إثبات الإله ، وعلى إثبات كونه عادلاً رحيماً ، وعلى إثبات البعث والقيامة بنى عليه التفاريع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4031)

فالفرع الأول : الرد على عبدة الأصنام فقال : {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} وهي الأصنام {أَرُونِىَ} أي أخبروني {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ } والمراد أن /هذه الأصنام ، هل يعقل أن يضاف إليها خلق جزء من أجزاء هذا العالم ؟
فإن لم يصح ذلك فهل يجوز أن يقال إنها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء هذا العالم ، ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد خلق جزء من أجزاء هذا العالم إليها ، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء ، ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها ، فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو الله سبحانه ، وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو الله سبحانه ، والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم ، وذلك لا يليق إلا بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام ، فلما كان الخالق الحق والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى ، وجب أن لا يجوز الإتيان بالعبادة والعبودية إلا له ولأجله ، بقي أن يقال إنا لا نعبدها لأنها تستحق هذه العبادة ، بل إنما نعبدها لأجل أن الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها ، فعند هذا ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال ، فقال : {ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة ، فنقول هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان ، إما أن يكون على محمد أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء ، وإن لم يوجد ذلك في الكتب الإلهية لكنه من تقابل العلوم المنقولة عنهم والكل باطل ، أما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فهو معلوم البطلان ، وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه ، فهو أيضاً باطل ، لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلهية على المنع من عبادة الأصنام ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ} ، وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء سوى ما جاء في الكتب فهذا أيضاً باطل ، لأن العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام ، وهذا هو المراد من قوله {أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ولما بطل الكل ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل وقول فاسد وبقي في قوله تعالى : {أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} نوعان من البحث.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
النوع الأول : البحث اللغوي قال أبو عبيدة والفراء والزجاج {أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أي بقية وقال المبرد {أَثَـارَةٍ} ما يؤثر من علم أي بقية ، وقال المبرد {أَثَـارَةٍ} تؤثر {مِنْ عِلْمٍ} كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان ، ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار يقال جاء في الأثر كذا وكذا ، قال الواحدي : وكلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال : الأول : البقيةواشتقاقها من أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار الثاني : من الأثر الذي هو الرواية والثالث : هو الأثر بمعنى العلامة ، قال صاحب "الكشاف" وقرىء {أَثَـارَةٍ} أي من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم وقرىء {أَثَـارَةٍ} بالحركات الثلاث مع سكون الثاء فالإثرة بالكسر بمعنى الأثر/ وأما الإثر فالمرأة من مصدر أثر الحديث إذا رواه ، وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر كالخطبة اسم لما يخطب به ، وههنا قول آخر في تفسير قوله تعالى : {أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} /وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال : {أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه" وعلى هذا الوجه فمعنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام ، فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم والله تعالى أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
(1/4032)

اعلم أنه تعالى بيّن فيما سبق أن القول بعبادة الأصنام قول باطل ، من حيث إنها لا قدرة لها ألبتة على الخلق والفعل والإيجاد والإعدام والنفع والضر ، فأردفه بدليل آخر يدل على بطلان ذلك المذهب ، وهي أنها جمادات فلا تسمع دعاء الداعين ، ولا تعم حاجات المحتاجين ، وبالجملة فالدليل الأول كان إشارة إلى نفي العلم من كل الوجوه ، وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه لم تبق عبادة معلومة ببديهة العقل فقوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ} استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أنه لا أمراً أبعد عن الحق ، وأقرب إلى الجهل ممن يدعوا من دون الله الأصنام ، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ، ولا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة ، وإنما جعل ذلك غاية لأن يوم القيامة قد قيل إنه تعالى يحييها وتقع بينها وبين من /يعبدها مخاطبة فلذلك جعله تعالى حداً ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين ، واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يحيي هذه الأصنام يوم القيامة وهي تظهر عداوة هؤلاء العابدين وتتبرأ منهم ، وقال بعضهم بل المراد عبدة الملائكة وعيسى فإنهم في يوم القيامة يظهرون عداوة هؤلاء العابدين فإن قيل ما المراد بقوله تعالى : {وَهُمْ عَن دُعَآاـاِهِمْ غَـافِلُونَ} وكيف يعقل وصف الأصنام وهي جمادات بالغفلة ؟
وأيضاً كيف جاز وصف الأصنام بما لا يليق إلا بالعقلاء ؟
وهي لفظة من وقوله {هُمْ غَـافِلُونَ} قلنا إنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع صح أن يقال فيها إنها بمنزلة الغافل الذي لا يسمع ولا يجيب. وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله إن لفظة من ولفظة {هُمْ} كيف يليق بها ، وأيضاً يجوز أن يريد كل معبود من دون الله من الملائكة وعيسى وعزير والأصنام إلا أنه غلب غير الأوثان على الأوثان.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
واعلم أنه تعالى لما تكلم في تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد تكلم في النبوة وبيّن أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات زعموا أنه سحر فقال وإذا تتلى عليهم الآيات البينة وعرضت عليهم المعجزات الظاهرة سموها بالسحر ، ولما بيّن أنهم يسمون المعجزة بالسحر بيّن أنهم متى سمعوا القرآن قالوا إن محمداً افتراه واختلقه من عند نفسه ، ومعنى الهمزة في أم للإنكار والتعجب كأنه قيل دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ، ثم إنه تعالى بيّن بطلان شبهتهم فقال إن افتريته على سبيل الفرض ، فإن الله تعالى يعاجلني بعقوبة بطلان ذلك الافتراء وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معاجلتي بالعقوبة فكيف أقدم على هذه الفرية ، وأعرض نفسي لعقابه ؟
يقال فلان لا يملك نفسه إذا غضب ولا يملك عنانه إذا صمم ، ومثله {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (المائدة : 17) ، {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَه فَلَن تَمْلِكَ لَه مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا } (المائدة : 41) ومن قوله صلى الله عليه وسلّم : "لا أملك لكم من الله شيئاً".
ثم قال تعالى : {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيه } أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى {كَفَى بِه شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يشهد لي بالصدق ويشهد عليكم بالكذب والجحود ، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد لهم على إقامتهم في الطعن والشتم.
ثم قال : {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} بمن رجع عن الكفر وتاب واستعان بحكم الله عليهم مع عظم ما ارتكبوه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
(1/4033)

/اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم في كون القرآن معجزاً ، بأن قالوا إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله على سبيل الفرية ، حكى عنهم نوعاً آخر من الشبهات ، وهو أنهم كانوا يقترحون منه معجزات عجيبة قاهرة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجاب الله تعالى عنه بأن قال : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} والبدع والبديع من كل شيء المبدأ والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السنة ، وفيه وجوه الأول : {مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} أي ما كنت أولهم/ فلا ينبغي أن تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم ، ولا تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ، ونهيي عن عبادة الأصنام ، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق الوجه الثاني : أنهم طلبوا منه معجزات عظيمة وأخباراً عن الغيوب فقال : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} والمعنى أن الإتيان بهذه المعجزات القاهرة والإخبار عن هذه الغيوب ليس في وسع البشر ، وأنا من جنس الرسل واحد منهم لم يقدر على ما تريدونه فكيف أقدر عليه ؟
الوجه الثالث : أنهم كانوا يعيبونه أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأن أتباعه فقراء فقال : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} وكلهم كانوا على هذه الصفة وبهذه المثابة فهذه الأشياء لا تقدح في نبوتي كما لا تقدح في نبوتهم.
ثم قال : {وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ } وفيه مسائل :
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الأولى : في تفسير الآية وجهان أحدهما : أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني : أن يحمل على أحوال الآخرة أما الأول : ففيه وجوه الأول : لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم ، ومن الغالب منا والمغلوب والثاني : قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك ، ، فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى نهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام ؟
فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى : {وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ } وهو شيء رأيته في المنام ، وأنا لا أتبع إلا ما أوحاه الله إليّ الثالث : قال الضحاك لا أدري ما تؤمرون به ولا أؤمر به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان وإنما أنذركم بما أعلمني الله به من أحوال الآخرة في الثواب والعقاب والرابع : المراد أنه يقول لا أدري ما يفعل بي في الدنيا أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون ، أترمون بالحجارة من السماء ، أم يخسف بكم أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم ، أما الذين حملوا هذه الآية على أحوال الآخرة ، فروي عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به وبنا ؟
فأنزل الله تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ} إلى قوله {وَكَانَ ذَالِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (الفتح : 1 ـ 5) فبيّن تعالى ما يفعل به وبمن أتبعه ونسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف المنافقين والمشركين. وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا عليه بوجوهالأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا بد وأن يعلم من نفسه كونه نبياً ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر وأنه مغفور له ، وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا الثاني : لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء ، فلما قل في هذا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأحقاف : 17) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأتقياء وقدوة الأنبياء والأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أو من المعذبين ؟
الثالث : أنه تعالى قال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) والمراد منه كمال حاله ونهاية قربه من حضرة الله تعالى ، ومن هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكاً في أنه من المعذبين أو من المغفورين ؟
فثبت أن هذا القول ضعيف.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء {مَّا يَفْعَلُ} يفتح الياء أي يفعل الله عزّ وجلّ فإن قالوا {مَّا يَفْعَلُ} مثبت وغير منفي وكان وجه الكلام أن يقال : ما يفعل بي وبكم ؟
قلنا التقدير ما أدري ما يفعل بي وما أدري ما يفعل بكم.
(1/4034)

ثم قال تعالى : {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ا إِلَىَّ } يعني إني لا أقول قولاً ولا أعمل عملاً إلا بمقتضى الوحي واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا النبي صلى الله عليه وسلّم ما قال قولاً ولا عمل عملاً إلا بالنص الذي أوحاه الله إليه ، فوجب أن يكون حالنا كذلك بيان الأول : قوله تعالى : {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ا إِلَىَّ } بيان الثاني : قوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} (الأعراف : 158) وقوله تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه } (النور : 63).
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} كانوا يطالبونه بالمعجزات العجيبة وبالإخبار عن الغيوب فقال قل : {وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} والقادر على تلك الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بتلك الغيوب ليس إلا الله سبحانه.
ثم قال تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِه وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل عَلَى مِثْلِه فَـاَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُم إِنَّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جواب الشرط محذوف والتقدير أن يقال إن كان هذا الكتاب من عند الله ثم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين ثم حذف هذا الجواب ، ونظيره قولك إن أحسنت إليك وأسأت إليّ وأقبلت عليك وأعرضت عني فقد ظلمتني ، فكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وحصل أيضاً شهادة أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألستم أضل الناس وأظلمهم ، واعلم أن جواب الشرط قد يحذف في بعض الآيات وقد يذكر ، أما الحذف فكما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الارْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } (الرعد : 31) وأما المذكور ، فكما في قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ} (فصلت : 52) وقوله {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍ } (القصص : 71).
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل } على قولين الأول : وهو الذي قال به الأكثرون أن هذا الشاهد عبد الله بن سلاّم ، روى صاحب "الكشاف" أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب وتأمله وتحقق أنه هو النبي صلى الله عليه وسلّم المنتظر ، فقال له إني سائلك عن ثلاث ما يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعات ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم : "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له وإن سبق ماء المرأة نزع لها" فقال أشهد أنك لرسول الله حقاً ، ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك ، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلّم أي رجل عبد الله فيكم ؟
فقالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا فقال أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟
فقالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه فقال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقاص ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على الأرض /إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلاّم ، وفيه نزل {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل عَلَى مِثْلِه } .
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4035)

واعلم أن الشعبي ومسروقاً وجماعة آخرين أنكروا أن يكون الشاهد المذكور في هذه الآية هو عبد الله بن سلاّم قالوا لأن إسلامه كان بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعامين وهذه السورة مكية فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة ، وأجاب الكلبي بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية وكانت الآية تنزل فيؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن يضعها في سورة كذا فهذا الآية نزلت بالمدينة وإن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين ، ولقائل أن يقول إن الحديث الذي رويتم عن عبد الله بن سلاّم مشكل ، وذلك لأن ظاهر الحديث يوهم أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن المسائل الثلاثة ، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلّم بتلك الجوابات من عبد الله بن سلاّم لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلّم ذكر تلك الجوابات وهذا بعيد جداً لوجهين الأول : أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخبار عن وقوع شيء من الممكنات ، وما هذا سبيله فإنه لا يعرف كون ذلك الخبر صدقاً إلا إذا عرف أولاً كون المخبر صادقاً فلو أنا عرفنا صدق المخبر يكون ذلك الخبر صدقاً لزم الدور وإنه محال والثاني : أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حد الإعجاز ألبتة ، بل نقول الجوابات القاهرة عن المسائل الصعبة لما لم تبلغ إلى حد الإعجاز فأمثال هذه الجوابات عن هذه السؤالات كيف يمكن أن يقال إنها بلغت إلى حد الإعجاز والجواب : يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رسول آخر الزمان يسأل عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلّم وأجاب بتلك الأجوبة عرف بهذا الطريق كونه رسولاً حقاً من عند الله ، وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى أن نقول العلم بهذه الجوابات معجز والله أعلم.
القول الثاني : في تفسير قوله تعالى : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل } أنه ليس المراد منه شخصاً معيناً بل المراد منه أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلّم موجود في التوراة والبشارة بمقدمه حاصلة فيها فتقدير الكلام لو أن رجلاً منصفاً عارفاً بالتوراة أقر بذلك واعترف به ، ثم إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم وأنكرتم ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم ضالين عن الحق ؟
فهذا الكلام مقرر سواء كان المراد بذلك الشاهد شخصاً معيناً أو لم يكن كذلك لأن المقصود الأصلي من هذا الكلام أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب من عند الله وثبت أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم ومع هذين الأمرين كيف يليق بالعقل إنكار نبوته.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {عَلَى مِثْلِه } ذكروا فيه وجوهاً ، والأقرب أن نقول إنه صلى الله عليه وسلّم قال لهم أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند الله كما أقول وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما قلت فآمن واستكبرتم ألستم كنتم ظالمين أنفسكم.
/ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تهديد وهو قائم مقام الجواب المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما منعهم الهداية بناء على الفعل القبيح الذي صدر منهم أولاً ، فإن قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} صريح في أنه تعالى لا يهديهم لكونهم ظالمين أنفسهم فوجب أن يعتقدوا في جميع الآيات الواردة في المنع من الإيمان والهداية أن يكون الحال فيها كما ههنا والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه شبهة أخرى للقوم في إنكار نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفي سبب نزوله وجوه : الأول : أن هذا كلام كفار مكة قالوا إن عامة من يتبع محمداً الفقراء والأراذل مثل عمار وصهيب وابن مسعود ، ولو كان هذا الدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الثاني : قيل لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار ، قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لو كان هذا خيراً ما سبقنا إليه رعاء ألبهم الثالث : قيل إن أمة لعمر أسلمت وكان عمر يضربها حتى يفتر ، ويقول لولا أني فترت لزدتك ضرباً ، فكان كفار قريش يقولون لو كان ما يدعو محمد إليه حقاً ما سبقتنا إليه فلانة. الرابع : قيل كان اليهود يقولون هذا الكلام عند إسلام عبد الله بن سلاّم.
(1/4036)

المسألة الثانية : اللام في قوله تعالى : {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } ذكروا فيه وجهين : الأول : أن يكون المعنى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا ، على وجه الخطاب كما تقول قال زيد لعمرو ، ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة كقوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} (يونس : 22) الثاني : قال صاحب "الكشاف" {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } لأجلهم يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه ، وعندي فيه وجه الثالث : وهو أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين ، وقالوا لهم لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون الذين أسلموا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا الكلام أجاب عنه بقوله {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} والمعنى أنهم لما لم يقفوا على وجه كونه معجزاً ، فلا بد من عامل في الظرف في قوله {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه } ومن متعلق لقوله {فَسَيَقُولُونَ} وغير مستقيم أن يكون {فَسَيَقُولُونَ} هو العامل في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال ، فما وجه هذا الكلام ؟
وأجاب عنه بأن العامل في إذ محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه } ظهر عنادهم {فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} .
ثم قال تعالى : {وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى ا إِمَامًا وَرَحْمَةً } كتاب موسى مبتدأ ، ومن قبله ظرف /واقع خبراً مقدماً عليه ، وقوله {إِمَامًا} نصب على الحال كقولك في الدار زيد قائماً ، وقرىء {وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى } والتقدير : وآتينا الذي قبله التوراة ، ومعنى {إِمَامًا} أي قدوة {وَرَحْمَةً } يؤتم به في دين الله وشرائعه ، كما يؤتم بالإمام {وَرَحْمَةً } لمن آمن به وعمل بما فيه ، ووجه تعلق هذا الكلام بما قبله أن القوم طعنوا في صحة القرآن/ وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الصعاليك ، وكأنه تعالى قال : الذي يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام ، وجعل هذا الكتاب إماماً يقتدى به ، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا سلمتم كون التوراة إماماً يقتدى به ، فاقبلوا حكمه في كون محمد صلى الله عليه وسلّم حقاً من الله.
ثم قال تعالى : {وَهَـاذَا كِتَـابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا} أي هذا القرآن مصدق لكتاب موسى في أن محمداً رسول حقاً من عند الله وقوله تعالى : {لِّسَانًا عَرَبِيًّا} نصب على الحال ، ثم قال : {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } قال ابن عباس مشركي مكة ، وفي قوله {لِّتُنذِرَ} قراءتان التاء لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله تعالى : {لِتُنذِرَ بِه وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف : 2) والياء لتقدم ذكر الكتاب فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول ، وقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} إلى قوله {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} (الكهف : 1/ 2).
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} قال الزجاج الأجود أن يكون قوله {وَبُشْرَى } في موضع رفع ، والمعنى وهو بشرى للمحسنين ، قال ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} وحاصل الكلام أن المقصود من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها ، ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة السجدة والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } (فصلت : 30) وههنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ} فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة ، وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضاً من غير واسطة.
(1/4037)

واعلم أن هذه الآيات دالة على أن من آمن بالله وعمل صالحاً فإنهم بعد الحشر لا ينالهم خوف ولا حزن ، ولهذا قال أهل التحقيق إنهم يوم القيامة آمنون من الأهوال ، وقال بعضهم خوف العقاب زائل عنهم ، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول ألبتة عن العبد ، ألا ترى أن الملائكة مع علو درجاتهم وكمال عصمتهم لا يزول الخوف عنهم فقال تعالى : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل : 50) وهذه المسألة سبقت بالاستقصاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103).
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : { أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على مسائل أولها : قوله تعالى : { أولئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} وهذا يفيد الحصر ، وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها : قوله تعالى : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا يدل على فساد قول من يقول : الثواب فضل لا جزاء وثالثها : أن قوله تعالى : {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها : أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر ، أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها : كون العبد /مستحقاً على الله تعالى ، وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين ، لا جرم أردفه بهذا المعنى ، فقال تعالى : {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت ، وفي سورة لقمان ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي {بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا } والباقون {حَسَنًا} .
واعلم أن الإحسان خلاف الإساءة والحسن خلاف القبيح ، فمن قرأ {إِحْسَـانًا } فحجته قوله تعالى في سورة بني إسرائيل {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الإسراء : 43) والمعنى أمرناه بأن يوصل إليهما إحساناً ، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى في العنكبوت {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } (العنكبوت : 8) ولم يختلفوا فيه ، والمراد أيضاً أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسناً ، إلا أنه سمى ذلك الفعل الحسن بالحسن على سبيل المبالغة ، كما يقال : هذا الرجل علم وكرم ، وانتصب حسناً على المصدر ، لأن معنى {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ} أمرناه أن يحسن إليهما {إِحْسَـانًا } .
ثم قال تعالى : {حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } وفيه مسائل :
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {كَرْهًا} بضم الكاف ، والباقون بفتحها ، قيل هما لغتان : مثل الضعف والضعف ، والفقر والفقر ، ومن غير المصادر : الدف والدف ، والشهد والشهد ، قال الواحدي : الكره مصدر من كرهت الشيء أكرهه ، والكره الاسم كأنه الشيء المكروه قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } (البقرة : 216) فهذا بالضم ، وقال : {أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا } (النساء : 19) فهذا في موضع الحال ، ولم يقرأ الثانية بغير الفتح ، فما كان مصدراً أو في موضع الحال فالفتح فيه أحسن ، وما كان اسماً نحو ذهبت به على كره كان الضم فيه أحسن.
المسألة الثانية : قال المفسرون. حملته أمه على مشقة ووضعته في مشقة ، وليس يريد ابتداء الحمل ، فإن ذلك لا يكون مشقة ، وقد قال تعالى : {فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} (الأعراف : 189) يريد ابتداء الحمل ، فإن ذلك لا يكون مشقة ، فالحمل نطفة وعلقة ومضغة ، فإذا أثقلت فحينئذ {حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } يريد شدة الطلق.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن حق الأم أعظم ، لأنه تعالى قال أولاً : {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } فذكرهما معاً ، ثم خص الأم بالذكر ، فقال : {حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } وذلك يدل على أن حقها أعظم ، وأن وصول المشاق إليها بسبب الولد أكثر ، والأخبار مذكورة في هذا الباب.
ثم قال تعالى : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا من باب حذف المضاف ، والتقدير ومرة حمله وفصاله ثلاثون شهراً والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن ، فإن قيل المراد بيان مدة الرضاعة لا الفطام ، فكيف عبّر عنه بالفصال ؟
قلنا : لما كان الرضاع يليه الفصال ويلائمه ، لأنه ينتهي ويتم به سمي فصالاً.
(1/4038)

/المسألة الثانية : دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ، قال : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (البقرة : 233) فإذا أسقطت الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من الثلاثين ، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر. روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه ، وكانت قد ولدت لستة أشهر ، فأمر برجمها ، فقال علي : لا رجم عليها ، وذكر الطريق الذي ذكرناه ، وعن عثمان أنه هم بذلك ، فقرأ ابن عباس عليه ذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
واعلم أن العقل والتجربة يدلان أيضاً على أن الأمر كذلك ، قال أصحاب التجارب : إن لتكوين الجنين زماناً مقدراً ، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين ، فإذا انضاف إلى ذلك المجموع مثلاه انفصل الجنين عن الأم ، فلنفرض أنه يتم خلقه في ثلاثين يوماً ، فإذا تضاعف ذلك الزمان حتى صار ستين تحرك الجنين/ فإذا تضاعف إلى هذا المجموع مثلاه وهو مائة وعشرون حتى صار المجموع مائة وثمانين وهو ستة أشهر ، فحينئذ ينفصل الجنين ، فلنفرض أنه يتم خلقه في خمسة وثلاثين يوماً فيتحرك في سبعين يوماً ، فإذا انضاف إليه مثلاه وهو مائة وأربعون يوماً صار المجموع مائة وثمانين وعشرة أيام ، وهو سبعة أشهر انفصل الولد ، ولنفرض أنه يتم خلقه في أربعين يوماً ، فيتحرك في ثمانين يوماً ، فينفصل عند مائتين وأربعين يوماً ، وهو ثمانية أشهر ، ولنفرض أنه تمت الخلقة في خمسة وأربعين يوماً ، فيتحرك في تسعين يوماً ، فينفصل عند مائتين وسبعين يوماً ، وهو تسعة أشهر ، فهذا هو الضبط الذي ذكره أصحاب التجارب. قال جالينوس : إن كنت شديد التفحص عن مقادير أزمنة الحمل ، فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة ، وزعم أو علي بن سينا أنه شاهد ذلك ، فقد صار أقل مدة الحمل بحسب نص القرآن ، وبحسب التجارب الطيبة شيئاً واحداً ، وهو ستة أشهر ، وأما أكثر مدة الحمل ، فليس في القرآن ما يدل عليه ، قال أبو علي بن سينا : في الفصل السادس من المقالة التاسعة من عنوان الشفاء ، بلغني من حيث وثقت به كل الثقة ، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش. وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال : أزمنة الولادة ، وحبل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان ، فربما وضعت الحبلى لسبعة أشهر ، وربما وضعت في الثامن ، وقلما يعيش المولود في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر ، والغالب هو الولادة بعد التاسع. قال أهل التجارب : والذي قلناه من أنه إذا تضاعف زمان التكوين تحرك الجنين ، وإذا انضم إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين ، إنما قلناه بحسب التقريب لا بحسب التحديد ، فإنه ربما زاد أو نقص بحسب الأيام ، لأنه لم يقم على هذا الضبط برهان ، إنما هو تقريب ذكروه بحسب التجربة ، والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال المدة التي فيها تتم خلقة الجنين تنقسم إلى أقسام فأولها : أن الرحم إذا اشتملت على المني ولم تقذفه إلى الخارج استدار المني على نفسه منحصراً إلى ذاته وصار كالكرة ، ولما كان من شأن المني أن يفسده الحركات ، لا جرم يثخن في هذا الوقت وبالحري أن خلق المني من مادة تجف /بالحر إذا كان الغرض منه تكون الحيوان واستحصاف أجزائه ويصير المني زبداً في اليوم السادس وثانيها : ظهور النقط الثلاثة الدموية فيه إحداها : في الوسط وهو الموضع الذي إذا تمت خلقته كان قلباً والثاني : فوق وهو الدماغ والثالث : على اليمين وهو الكبد ، ثم إن تلك النقط تتباعد ويظهر فيما بينها خيوط حمر ، وذلك يحصل بعد ثلاثة أيام أخرى فيكون المجموع تسعة أيام وثالثها : أن تنفذ الدموية في الجميع فيصير علقة وذلك بعد ستة أيام أخرى حتى يصير المجموع خمسة عشر يوماً ورابعها : أن يصير لحماً وقد تميزت الأعضاء الثلاثة ، وامتدت رطوبة النخاع ، وذلك إنما يتم باثني عشر يوماً فيكون المجموع سبعة وعشرين يوماً وخامسها : أن ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن يميز الحس في بعض ويخفى في بعض وذلك يتم في تسعة أيام أخرى فيكون المجموع ستة وثلاثين يوماً وسادسها : أن يتم انفصال هذه الأعضاء بعضها عن بعض ويصير بحيث يظهر ذلك الحس ظهوراً بيناً ، وذلك يتم في أربعة أيام أخرى فيكون المجموع أربعين يوماً وقد يتأخر إلى خمسة وأربعين يوماً قال والأقل هو الثلاثون ، فصارت هذه التجارب الطبية مطابقة لما أخبر عنه الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلّم : "يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً" قال أصحاب التجارب إن السقط بعد الأربعين إذا شق عنه السلالة ووضع في الماء البارد ظهر شيء صغير متميز الأطراف.
(1/4039)

المسألة الثالثة : هذه الآية دلّت على أقل الحمل وعلى أكثر مدة الرضاع/ أما أنها تدل على أقل مدة الحمل فقد بيناه ، وأما أنها تدل على أكثر مدة الرضاع فلقوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِا لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (البقرة : 233) والفقهاء ربطوا بهذين الضابطين أحكاماً كثيرة في الفقه ، وأيضاً فإذا ثبت أن أقل مدة الحمل هو الأشهر الستة ، فبتقدير أن تأتي المرأة بالولد في هذه الأشهر يبقى جانبها مصوناً عن تهمة الزنا والفاحشة وبتقدير أن يكون أكثر مدة الرضاع ما ذكرناه ، فإذا حصل الرضاع بعد هذه المدة لا يترتب عليها أحكام الرضاع فتبقى المرأة مستورة عن الأجانب ، وعند هذا يظهر أن المقصود من تقدير أقل الحمل ستة أشهر وتقدير أكثر الرضاع حولين كاملين السعي في دفع المضار والفواحش وأنواع التهمة عن المرأة ، فسبحان من له تحت كل كلمة من هذا الكتاب الكريم أسرار عجيبة ونفائس لطيفة ، تعجز العقول عن الإحاطة بكمالها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
وروى الواحدي في "البسيط" عن عكرمة أنه قال إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً ، وإذا حملت ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهراً ، والصحيح ما قدمناه.
ثم قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف المفسرون في تفسير الأشد ، قال ابن عباس في رواية عطاء يريد ثماني عشرة سنة والأكثرون من المفسرين على أنه ثلاثة وثلاثون سنة ، واحتج الفراء عليه /بأن قال أن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمانية عشر ، ألا ترى أنك تقول أخذت عامة المال أو كله ، فيكون أحسن من قولك أخذت أقل المال أو كله ، ومثله قوله تعالى : {رَبِّه سَبِيلا * إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه } (المزمل : 20) فبعض هذه الأقسام قريب من بعض فكذا ههنا ، وقال الزجاج الأولى حمله على ثلاث وثلاثين سنة لأن هذا الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان ، وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن يقال إن مراتب سن الحيوان ثلاثة ، وذلك لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ، ولا شك أن الرطوبة الغريزية غالبة في أول العمر وناقصة في آخر العمر ، والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين ، فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام أولها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد في ذواتها وللزيادة بحسب الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشوء والنماء.
والمرتبة الثانية : وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان وهذا هو سن الوقوف وهو سن الشباب.
والمرتبة الثالثة : وهي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول : هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة والثاني : هو النقصان الظاهر وهو سن الشيخوخة ، فهذا ضبط معلوم. ثم ههنا مقدمة أخرى وهي أن دور القمر إنما يكمل في مدة ثمانية وعشرين يوماً وشيء ، فإذا قسمنا هذه المدة بأربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة فلهذا السبب قدروا الشهر بالأسابيع الأربعة ، ولهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم ، إذا عرفت هذا فنقول إن المحققين من أصحاب التجارب قسموا مدة سن النماء والنشوء إلى أربعة أسابيع ويحصل للآدمي بحسب انتهاء كل سابوع من هذه السوابيع الأربعة نوع من التغير يؤدي إلى كماله أما عند تمام السوابيع الأول من العمر فتصلب أعضاءه بعض الصلابة/ وتقوى أفعاله أيضاً بعض القوة ، وتتبدل أسنانه الضعيفة الواهية بأسنان قوية وتكون قوة الشهوة في هذا السابوع أقوى في الهضم مما كان قبل ذلك ، وأما في نهاية السابوع الثاني فتقوى الحرارة وتقل الرطوبات وتتسع المجاري وتقوى قوة الهضم وتقوى الأعضاء وتصلب قوة وصلابة كافية ويتولد فيه مادة الزرع ، وعند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ على قول الشافعي رضي الله عنه ، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، لأن هذا الوقت لما قويت الحرارة الغريزية قلت الرطوبات واعتدل الدماغ فتكمل القوى النفسانية التي هي الفكر والذكر ، فلا جرم يحكم عليه بكمال العقل ، فلا جرم حكمت الشريعة بالبلوغ وتوجه التكاليف الشرعية فما أحسن قول من ضبط البلوغ الشرعي بخمس عشرة سنة.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4040)

واعلم أنه يتفرع على حصول هذه الحالة أحوال في ظاهر البدن أحدها : انفراق طرف الأرنبة لأن الرطوبة الغريزية التي هناك تنتقص فيظهر الانفراق وثانيها : نتوء الحنجرة وغلظ الصوت لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فتنتوء ويغلظ الصوت وثالثها : تغير ريح الإبط وهي الفضلة العفينة التي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع وذلك لأن القلب لما قويت حرارته ، لا جرم قويت على إنضاج المادة ، ودفعها إلى اللحم الغددي الرخو الذي في الإبط ورابعها : نبات الشعر وحصول الاحتلام ، وكل ذلك لأن الحرارة قويت فقدرت على توليد الأبخرة المولدة للشعر وعلى توليد مادة الزرع ، وفي هذا الوقت تتحرك الشهوة في الصبايا وينهد ثديهن وينزل حيضهن وكل ذلك بسبب أن الحرارة الغريزية التي فيهن قويت في آخر هذا السابوع ، وأما في السابوع الثالث فيدخل في حد الكمال وينبت للذكر اللحية ويزداد حسنه وكماله ، وأما في السابوع الرابع فلا تزال هذه الأحوال فيه متكاملة متزايدة ، وعند انتهاء السابوع الرابع نهاية أن لا يظهر الازدياد ، أما مدة سن الشباب وهي مدة الوقوف السابوع واحد فيكون المجموع خمسة وثلاثين سنة. ولما كانت هذه المدة إما قد تزداد ، وإما قد تنقص بحسب الأمزجة جعل الغاية فيه مدة أربعين سنة. وهذا هو السن الذي يحصل فيه الكمال اللائق بالإنسان شرعاً وطباً ، فإن في هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعية بعض السكون وتنتهي له أفعال القوة الحيوانية غايتها ، وتبتدىء أفعال القوة النفسانية بالقوة والكمال ، وإذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك أن بلوغ الإنسان وقت الأشد شيء وبلوغه إلى الأربعين شيء آخر ، فإن بلوغه إلى وقت الأشد عبارة عن الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء ، وأن بلوغه إلى الأربعين عبارة عن الوصول إلى آخر مدة الشباب ، ومن ذلك الوقت تأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتقاص ، وتأخذ القوة العقلية والنطقية في الاستكمال وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ، فإن البدن عند الأربعين يأخذ في الانتقاص ، والنفس من وقت الأربعين تأخذ في الاستكمال ، ولو كانت النفس عين البدن لحصل للشيء الواحد في الوقت الواحد الكمال والنقصان وذلك محال ، وهذا الكلام الذي ذكرناه ولخصناه مذكور في صريح لفظ القرآن ، لأنا بينا أن عند الأربعين تنتهي الكمالات الحاصلة بسبب القوى الطبيعية والحيوانية ، وأما الكمالات الحاصلة بحسب القوى النطقية والعقلية فإنها تبتدىء بالاستكمال ، والدليل عليه قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ} فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت ، وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدىء بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة/ قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة ، وأقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال /الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين ، وهكذا كان الأمر في حق رسولنا صلى الله عليه وسلّم ويروى أن عمر بن عبد العزيز لما بلغ أربعين سنة كان يقول : اللّهم أوزعني أن أشكر نعمتك إليّ تمام الدعاء ، وروي أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ققال : "يؤمر الحافظان أن أرفقا بعبدي من حداثة سنه ، حتى إذا بلغ الأربعين قيل احفظا وحققا" فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته رواه القاضي في "التفسير".
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الثانية : اعلم أن قوله {حَتَّى ا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة ، وذلك لأن العقل كالناقص ، فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح ودفع الآفات ، وفيه تنبيه على أن نعم الوالدين على الولد بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة ، وذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء والذكر الجميل.
المسألة الثالثة : حكى الواحدي عن ابن عباس وقوم كثير من متأخري المفسرين ومتقدميهم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قالوا والدليل عليه أن الله تعالى قد وقت الحمل والفصال ههنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص وقد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصاً واحداً حتى يقال إن هذا التقدير آخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر.
(1/4041)

ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان {حَتَّى ا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّه وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ} ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنساناً معيناً قال هذا القول ، وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن ، لأنه كان أقل سناً من النبي صلى الله عليه وسلّم بسنتين وشيء ، والنبي صلى الله عليه وسلّم بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريباً من الأربعين وهو قد صدق النبي صلى الله عليه وسلّم وآمن به ، فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر ، وإذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول : ندعي أنه هو المراد من هذه الآية ، ويدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية { أولئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ } وهذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ويتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم ، وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إما أبو بكر وإما علي ، ولا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد وعند القرب من الأربعين ، وعلي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا ، فثبت أن المراد من هذه الآية هو أبو بكر والله أعلم.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {أَوْزِعْنِى } قال ابن عباس معناه ألهمني ، قال صاحب "الصحاح" أوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به أي مغرى به ، واستوزعت الله شكره ، فأوزعني أي استلهمته فألهمني.
المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى حكى عن هذا الداعي أنه طلب من الله تعالى ثلاثة أشياء : أحدها : أن يوفقه الله للشكر على نعمه والثاني : أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند الله الثالث : أن يصلح له في ذريته ، وفي ترتيب هذه الأشياء الثلاثة على الوجه المذكور وجهان : الأول : أنا بينا أن مراتب السعادات ثلاثة أكملها النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية والسعادات النفسانية هي اشتغال القلب بشكر آلاء الله ونعمائه ، والسعادات البدنية هي اشتغال البدن بالطاعة والخدمة ، والسعادات الخارجية هي سعادة الأهل والولد ، فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها الله تعالى على هذا الوجه.
والسبب الثاني : لرعاية هذا الترتيب أنه تعالى قدم الشكر على العمل ، لأن الشكر من أعمال القلوب ، والعمل من أعمال الجوارح ، وعمل القلب أشرف من عمل الجارحة ، وأيضاً المقصود من الأعمال الظاهرة أحوال القلب قال تعالى : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (طه : 14) بين أن الصلاة مطلوبة لأجل أنها تفيد الذكر ، فثبت أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، والأشرف يجب تقديمه في الذكر ، وأيضاً الاشتغال بالشكر اشتغال بقضاء حقوق النعم الماضية ، والاشتغال بالطاعة الظاهرة اشتغال بطلب النعم المستقبلة ، وقضاء الحقوق الماضية يجري مجرى قضاء الدين ، وطلب المنافع المستقبلة طلب للزوائد. ومعلوم أن قضاء الدين مقدم على سائر المهمات ، فلهذا السبب قدم الشكر على سائر الطاعات ، وأيضاً أنه قدم طلب التوفيق على الشكر ، وطلب التوفيق على الطاعة على طلب أن يصلح له ذريته ، وذلك لأن المطلوبين الأولين اشتغال بالتعظيم لأمر الله ، والمطلوب الثالث اشتغال بالشفقة على خلق الله ، ومعلوم أن التعظيم لأمر الله يجب تقديمه على الشفقة على خلق الله.
(1/4042)

المسألة السادسة : قال أصحابنا إن العبد طلب من الله تعالى أن يلهمه الشكر على نعم الله ، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى ، ولو كان العبد مستقلاً بأفعاله لكان هذا الطلب عبثاً ، وأيضاً المفسرون قالوا المراد من قوله {أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} هو الإيمان أو الإيمان يكون داخلاً فيه ، والدليل عليه قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة : 6 ، 7) والمراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا فنقول العبد يشكر الله على نعمة الإيمان ، فلو كان الإيمان من العبد لا من الله لكان ذلك شكراً لله تعالى على فعله لا على فعل غيره ، وذلك قبيح لقوله تعالى : {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } (آل عمران : 188) فإن قيل : فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم /بها على والديه ؟
وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم ، قلنا كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه ، فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه الله تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
وأما المطلوب الثاني : من المطالب المذكورة في هذا الدعاء ، فهو قوله {وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} .
واعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحاً على قسمين : أحدهما : الذي يكون صالحاً عنده ويكون صالحاً أيضاً عند الله تعالى والثاني : الذي يظنه صالحاً ولكنه لا يكون صالحاً عند الله تعالى ، فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من الله أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحاً عند الله ويكون مرضياً عند الله.
والمطلوب الثالث : من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى } لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد ، كما قال إبراهيم عليه السلام : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) فإن قيل ما معنى {فِى } في قوله {وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى } ؟
قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي ، أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة ، قال بعد ذلك {إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة ، وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح ، وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه.
واعلم أن الذين قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر ، قالوا إن أبا بكر أسلم والداه ، ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلا له ، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو ، وقوله {وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} قال ابن عباس فأجابه الله إليه فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يترك شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ، وقوله تعالى : {وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى } قال ابن عباس لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا ، ولم يتفق لأحد من الصحابة أن أسلم أبواه وجميع أولاده الذكور والإناث إلا لأبي بكر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : { أولئك } أي أهل هذا القول {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} قرىء بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرىء بالنون المفتوحة ، وكذلك نتجاوز وكلاهما في المعنى واحد ، لأن الفعل وإن كان مبنياً للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه وتعالى ، فهو كقوله {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38) فبيّن تعالى بقوله { أولئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء ، ويسلك هذه الطريقة التي تقدم ذكرها {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله ، /فإن قيل ولم قال تعالى : {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } والله يتقبل الأحسن وما دونه ؟
قلنا الجواب من وجوه الأول : المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} (الزمر : 55) كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان ، أي عادلا بني مروان الثاني : أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب والأحسن ما يغاير ذلك ، وهو وكل ما كان مندوباً واجباً.
(1/4043)

ثم قال تعالى : {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ} والمعنى أنه تعالى يتقبل طاعاتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. ثم قال : {فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ } قال صاحب "الكشاف" ومعنى هذا الكلام مثل قولك : أكرمني الأمير في مائتين من أصحابه ، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم وضمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين منهم ، وقوله {وَعْدَ الصِّدْقِ} مصدر مؤكد ، لأن قوله {نَتَقَبَّلُ} وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز ، والمقصود بيان أنه تعالى يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء ، وذلك وعد من الله تعالى فبيّن أنه صدق ولا شك فيه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة ، وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية ، فقال : {يُوعَدُونَ * وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} وفي هذه الآية قولان الأول : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وهو {أُفٍّ لَّكُمَآ} واحتج القائلون بهذا القول على صحته ، بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد ، قال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم ؟
فقال مروان : يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه {وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} . والقول الثاني : أنه ليس المراد من شخص معين ، بل المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة ، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحق فأباه وأنكره ، وهذا القول هو الصحيح عندنا ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني بقوله { أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إسلامه ، وكان من سادات المسلمين ، فبطل حمل الآية عليه ، فإن قالوا : روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت ، قال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
{أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} من القبر ، يعني أبعث بعد الموت {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى} يعني الأمم الخالية ، فلم أر أحداً منهم بعث فأين عبد الله بن جدعان ، وأين فلان وفلان ؟
إذا عرفت هذا فنقول قوله { أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله ، وهم الذين حق عليهم القول ، وبالجملة فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى} لا إلى المشار إليه بقوله {وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل ، وهو حسن والوجه الثاني : في إبطال ذلك القول ، ما روي أن مروان لما خطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه الوجه الثالث : وهو الأقوى ، أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة ، ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية ، وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق ، وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر ، وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية ، وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة ألبتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين/ قال صاحب "الكشاف" : قرىء {أُفٍّ} بالفتح والكسر بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال حس ، علم أنه متوجع ، واللام للبيان معناه هذا /التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غيركما ، وقرىء {أَتَعِدَانِنِى } بنونين ، وأتعداني بأحدهما وأتعداني بالإدغام ، وقرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين والياء ، ففتح الأولى تحرياً للتخفيف كما تحراه من أدغم ومن طرح أحدهما.
ثم قال : {أَنْ أَخْرِجْ} أي أن أبعث وأخرج من الأرض ، وقرىء {أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى} يعني ولم يبعث منهم أحد.
ثم قال : {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أي الوالدان يستغيثان الله ، فإن قالوا : كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله ؟
قلنا الجواب : من وجهين الأول : أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره ، فلما حذف الجار وصل الفعل الثاني : يجوز أن يقال الباء حذف ، لأنه أريد بالاستغاثة ههنا الدعاء على ما قاله المفسرون {عَبْدُ اللَّهِ} فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار ، لأن الدعاء لا يقتضيه ، وقوله {وَيْلَكَ} أي يقولان له ويلك {مِنْ} وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور ، والمراد به الحث ، والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4044)

ثم قال : {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبعث حق ، فيقول لهما ما هذا الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه {إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} .
ثم قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي حقت عليهم كلمة العذاب ، ثم ههنا قولان : فالذين يقولون المراد بنزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر ، قالوا المراد بهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب هم القرون الذين خلوا من قبله ، والذين قالوا المراد به ليس عبد الرحمن ، بل كل ولد كان موصوفاً بالصفة المذكورة ؛ قالوا هذا الوعيد مختص بهم ، وقوله {فِى أُمَمٍ} نظير لقوله {فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ } وقد ذكرنا أنه نظير لقوله : أكرمني الأمير في أناس من أصحابه ، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم.
ثم قال : {إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} وقرىء أن بالفتح على معنى آمن بأن وعد الله حق.
ثم قال : {وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } وفيه قولان الأول : أن الله تعالى ذكر الولد البار ، ثم أردفه بذكر الولد العاق ، فقوله {وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } خاص بالمؤمنين ، وذلك لأن المؤمن البار بوالديه له درجات متفاوتة ، ومراتب مختلفة في هذا الباب والقول الثاني : أن قوله {وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } عائد إلى الفريقين ، والمعنى ولكل واحد من الفريقين درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، فإن قالوا كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار ، وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات ، والنار دركات ؟
قلنا فيه وجوه الأول : يجوز أن يقال ذلك على جهة التغليب الثاني : قال ابن زيد : درج أهل الجنة يذهب علواً ، ودرج أهل النار ينزلوا هبوطاً. الثالث : أن المراد بالدرجات المراتب المتزايدة ، إلا أن زيادات أهل الجنة في الخيرات والطاعات ، وزيادات أهل النار في المعاصي والسيئات.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} وقرىء بالنون وهذا تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه كأنه وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات ، ولما بيّن الله تعالى أنه يوصل حق كل أحد إليه بين أحوال أهل العقاب أولاً ، فقال : {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} قيل يدخلون النار/ وقيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قرأ ابن كثير {أَذْهَبْتُمْ} استفهام بهمزة ومدة ، وابن عامر استفهام بهمزتين بلا مدة والباقون {أَذْهَبْتُمْ} بلفظ الخبر والمعنى أن كل ما قدر لكم من الطيبات والراحات فقد استوفيتموه في الدنيا وأخذتموه ، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها ، وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ، ولكني أستبقي طيباتي ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال : "أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة ، قالوا نحن يومئذ خير قال بل أنتم اليوم خير ؟
" ، رواه صاحب "الكشاف" قال الواحدي : إن الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل ، إلا أن هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم ، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر ، وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به ، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ، والدليل عليه قوله تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ } (الأعراف : 32) نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى ، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والإنقباض ، وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي ، وذلك مما يجر بعضه إلى بعض ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه.
(1/4045)

ثم قال تعالى : {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي الهوان ، وقرىء عذاب الهوان {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} فعلل تعالى ذلك العذاب بأمرين : أولهما : الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب الثاني : الفسق وهو ذنب الجوارح ، وقدم الأول على الثاني لأن أحوال القلوب أعظم وقعاً من أعمال الجوارح ، ويمكن أن يكون المراد من الاستكبار أنهم يتكبرون عن قبول الدين الحق ، ويستنكفون عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وأما الفسق فهو المعاصي واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع ، قالوا لأنه تعالى علل عذابهم بأمرين : أولهما : الكفر وثانيهما : الفسق ، وهذا الفسق لا بد وأن يكون مغايراً لذلك الكفر ، لأن العطف يوجب المغايرة ، فثبت أن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات ، والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
/اعلم أنه تعالى لما أورد أنواع الدلائل في إثبات التوحيد والنبوّة ، وكان أهل مكة بسبب /استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها أعرضوا عنها ، ولم يلتفتوا إليها ، ولهذا السبب قال تعالى في حقهم {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوة وجاهاً منهم ، ثم إن الله تعالى سلّط العذاب عليهم بسبب شؤم كفرهم فذكر هذه القصة ههنا ليعتبر بها أهل مكة ، فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ويقبلوا على طلب الدين ، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذه القصة في هذا الموضع ، وهو مناسب لما تقدم لأن من أراد تقبيح طريقة عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال ، وتقديره أن من واظب على تلك الطريقة نزل به من البلاء كذا وكذا ، وقوله تعالى : {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} أي واذكر يا محمد لقومك أهل مكة هوداً عليه السلام {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه } أي حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا ، وقوله {بِالاحْقَافِ} قال أبو عبيدة الحقف الرمل المعوج ، ومنه قيل للمعوج محقوف وقال الفراء الأحقاف واحدها حقف وهو الكثيب المكسر غير العظيم وفيه اعوجاج ، قال ابن عباس الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة والنذر جمع نذير بمعنى المنذر {مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبله {وَمِنْ خَلْفِه } من بعده والمعنى أن هوداً عليه السلام قد أنذرهم وقال لهم أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
واعلم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره.
ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} الإفك الصرف ، يقال أفكه عن رأيه أي صرفه ، وقيل بل المراد لتزيلنا بضرب من الكذب {عَنْ ءَالِهَتِنَا} وعن عبادتها {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} معاجلة العذاب على الشرك {إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} في وعدك ، فعند هذا قال هود {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} وإنما صلح هذا الكلام جواباً لقولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} لأن قولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} استعجال منهم لذلك العذاب فقال لهم هود لا علم عندي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب ، إنما علم ذلك عند الله تعالى {وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِه } وهو التحذير عن العذاب/ وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إليّ {وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} وهذا يحتمل وجوهاً الأول : المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا سائلين عن غير ما أذن لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين الثاني : أراكم قوماً تجهلون من حيث إنكم بقيتم مصرين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذ الجهل المفرط والوقاحة التامة الثالث : {وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيث تصرون على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ، ولكن لم يظهر أيضاً لكم كوني كاذباً فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
(1/4046)

ثم قال تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْهُ} ذكر المبرّد في الضمير في رأوه قولين أحدهما : أنه عائد إلى غير مذكور وبينه قوله {عَارِضًا} كما قال : {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} (فاطر : 45) ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا ههنا الضمير عائد إلى السحاب ، كأنه قيل : فلما رأوا السحاب عارضاً وهذا اختيار الزجاج /ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير والقول الثاني : أن يكون الضمير عائداً إلى ما في قوله {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} أي فلما رأوا ما يوعدون به عارضاً ، قال أبو زيد العارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبق ، وقوله {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} قال المفسرون كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ يقال له المغيث {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} استبشروا و{قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } والمعنى ممطر إيانا ، قيل كان هود قاعداً في قومه فجاء سحاب مكثر فقالوا {هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } فقال : {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِه } من العذاب ثم بيّن ماهيته فقال : {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ثم وصف تلك الريح فقال : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء } أي تهلك كل شيء من الناس والحيوان والنبات {بِأَمْرِ رَبِّهَا} والمعنى أن هذا ليس من باب تأثيرات الكواكب والقرانات ، بل هو أمر حدث ابتداء بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم {فَأَصْبَحُوا } يعني عاداً {لا يُرَى ا إِلا مَسَـاكِنُهُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روي أن الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة ، وقيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت ريحاً فيها كشهب النار ، وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم ، أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فعلقت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأحال الله عليهم الأحقاف ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر ، وروي أن هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحاً لينة هادئة طيبة ، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطيرهم إلى السماء وتضربهم على الأرض ، وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما أمر الله خازن الرياح أن يرسل على عاد إلا مثل مقدار الخاتم" ثم إن ذلك القدر أهلكهم بكليتهم ، والمقصود من هذا الكلام إظهار كمال قدرة الله تعالى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال : "اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما أرسلت به".
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة {لا يُرَى } بالياء وضمها {مَسْكَنِهِمْ} بضم النون ، قال الكسائي معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم/ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي {لا تَرَى } على الخطاب أي لا ترى أنت أيها المخاطب ، وفي بعض الروايات عن عاصم {لا تَرَى } بالتاء {مَسْكَنِهِمْ} بضم النون وهي قراءة الحسن والتأويل لا ترى من بقايا عاد أشياء إلا مساكنهم. وقال الجمهور هذه القراءة ليست بالقوية.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} والمقصود منه تخويف كفار مكة ، فإن قيل /لما قال الله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال : 33) فكيف يبقى التخويف حاصلاً ؟
قلنا : قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } إنما أنزل في آخر الأمر فكان التخويف حاصلاً قبل نزوله.
ثم إنه تعالى خوف كفار مكة ، وذكر فضل عاد بالقوة والجسم عليهم فقال : {وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ} قال المبرّد ما في قوله {فِيمَآ} بمنزلة الذي. و{ءَانٍ} بمنزلة ما والتقدير : ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه ، والمعنى أنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالاً ، وقال ابن قتيبة كلمة إن زائدة. والتقدير ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وهذا غلط لوجوه الأول : أن الحكم بأن حرفاً من كتاب الله عبث لا يقول به عاقل والثاني : أن المقصود من هذا الكلام أنهم كانوا أقوى منكم قوة ، ثم إنهم مع زيادة القوة ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم ، وهذا المقصود إنما يتم لو دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة من قوم مكة الثالث : أن سائر الآيات تفيد هذا المعنى ، قال تعالى : {هُمْ أَحْسَنُ أَثَـاثًا} (مريم : 74) وقال : {قَبْلِهِم كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ} (غافر : 82).
(1/4047)

ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً} والمعنى أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل ، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبر ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى ، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها ، فلا جرم ما أغنى سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله شيئاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم بيّن تعالى أنه إنما لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله ، وقوله {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ} بمنزلة التعليل ، ولفظ إذ قد يذكر لإفادة التعليل تقول : ضربته إذ أساء ، والمعنى ضربته لأنه أساء ، وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة فإن قوم عاد لما اغتروا بدنياهم وأعرضوا عن قبول الدليل والحجة نزل بهم عذاب الله ، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم ، فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا.
ثم قال تعالى : {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب وإنما كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
0
/اعلم أن المراد ولقد أهلكنا ما حولكم يا كفار مكة من القرى ، وهي قرى عاد وثمود باليمن والشام {وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ} بيناها لهم {لَعَلَّهُمْ} أي لعلّ أهل القرى يرجعون ، فالمراد بالتصريف الأحوال الهائلة التي وجدت قبل الإهلاك. قال الجبائي : قوله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} معناه لكي يرجعوا عن كفرهم ، دل بذلك على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم والجواب : أنه فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة ، وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات.
ثم قال تعالى : {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَا } القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى ، أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله حيث قالوا {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 18) وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) وفي إعراب الآية وجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" : أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين هو محذوف والثاني : آلهة وقرباناً حال ، وقيل عليه إن الفعل المتعدي إلى مفعولين لا يتم إلا بذكرهما لفظاً ، والحال مشعر بتمام الكلام ، ولا شك أن إتيان الحال بين المفعولين على خلاف الأصل الثاني : قال بعضهم {قُرْبَانًا} مفعول ثان قدم على المفعول الأول وهو آلهة ، فقيل عليه إنه يؤدي إلى خلو الكلام عن الراجع إلى الذين والثالث : قال بعض المحققين : يضمر أحد مفعولي اتخذوا وهو الراجع إلى الذين ، ويجعل قرباناً مفعولاً ثانياً ، وآلهة عطف بيان ، إذا عرفت الكلام في الإعراب ، فنقول المقصود أن يقال إن أولئك الذين أهلكهم الله هلا نصرهم الذين عبدوهم ، وزعموا أنهم متقربون بعبادتهم إلى الله ليشفعوا لهم {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } أي غابوا عن نصرتهم ، وذلك إشارة إلى أن كون آلهتهم ناصرين لهم أمر ممتنع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
ثم قال تعالى : {وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ} أي وذلك الامتناع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب في إثبات الشركاء له ، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء {إِفْكِهِمْ} والإفك والأفك كالحذر والحذر ، وقرىء {وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ} بفتح الفاء والكاف ، أي ذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق ، وقرىء {إِفْكِهِمْ} على التشديد للمبالغة أفكهم جعلهم آفكين وآفكهم ، أي قولهم الإفك ، أي ذو الإفك كما تقول قول كاذب.
ثم قال : {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} والتقدير وذلك إفكهم وافتراؤهم في إثبات الشركاء لله تعالى ، والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 5
32
/في الآية مسائل :
(1/4048)

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بيّن أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر ، بيّن أيضاً أن الجن فيهم من آمن وفيهم من كفر ، وأن مؤمنهم معرض للثواب ، وكافرهم معرض للعقاب ، وفي كيفية هذه الواقعة قولان الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب ، وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام ، فلما انصرف إلى مكة ، وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر ، فمرّ به نفر من أشراف جن نصيبين ، لأن إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم ، فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب والقول الثاني : أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفراً من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم.
ويتفرع على ما ذكرناه فروع الأول : نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال : إنهم كانوا يهوداً ، لأن في الجن "مللاً" كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام ، وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون ، سئل ابن عباس : هل للجن ثواب ؟
فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها الفرع الثاني : قال صاحب "الكشاف" : النفر دون العشرة ويجمع على أنفار ، ثم روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس : أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم رسلاً إلى قومهم ، وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة ، وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن ؟
والروايات فيه مختلفة ومشهورة الفرع /الرابع : روى القاضي في "تفسيره" عن أنس قال : "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكىء على عكازة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم مشية جني ونغمته ، فقال أجل ، فقال من أي الجن أنت ؟
فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس ، فقال لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك ؟
فقال أكلت عمر الدنيا إلا أقلها ، وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام ، وذكر كثيراً مما مرّ به ، وذكر في جملته أن قال : قال لي عيسى بن مريم إن لقيت محمداً فأقرئه مني السلام ، وقد بلغت سلامه وآمنت بك ، فقال عليه السلام ، وعلى عيسى السلام ، وعليك يا هامة ما حاجتك ؟
فقال إن موسى عليه السلام علمني التوراة ، وعيسى علمني الإنجيل ، فعلمني القرآن ، فعلمه عشر سور ، وقبض صلى الله عليه وسلّم ولم ينعه" قل عمر بن الخطاب ولا أراه إلا حياً واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير قوله {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} فقال بعضهم : لما لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلّم قراءة القرآن عليهم ، فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن ، فلهذا السبب قال : {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ} .
ثم قال تعالى : {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} الضمير للقرآن أو لرسول الله {قَالُوا } أي قال بعضهم لبعض {أَنصِتُوا } أي اسكتوا مستمعين ، يقال أنصت لكذا واستنصت له ، فلما فرغ من القراءة {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} ينذرونهم ، وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا ، فعنده {قَالُوا يَـاقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى } ووصفوه بوصفين الأول : كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه } أي مصدقاً لكتب الأنبياء ، والمعنى أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني الثاني : قوله {يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة ، والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها ، يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك ، سواء وردت الكتب الإلهية قبل ذلك بها أو لم ترد ، فإن قالوا كيف قالوا {مِنا بَعْدِ مُوسَى } ؟
قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية ، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى ، ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا {مُّسْتَقِيمٍ * يَـاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه ؟
والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف.
(1/4049)

واعلم أن قوله {أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} فيه مسألتان :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان مبعوثاً إلى الجن كما كان مبعوثاً إلى الإنس /قال مقاتل ، ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله.
المسألة الثانية : قوله {أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} أمر بإجابته في كل ما أمر به ، فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين ، لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها ، وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام ، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ} (البقرة : 98) وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} (الأحزاب : 70) ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال بعضهم كلمة {مِنْ} ههنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم ، وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة {مِنْ} ههنا لابتداء الغاية ، فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا ؟
فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم ، واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى : {وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف : 31) وهو قول أبي حنيفة ، والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية/ وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك ، وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة ، قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون ، والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن ، والفرق بين البابين بعيد جداً.
واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والإيمان به حذرهم من تلك تلك الإجابة فقال : {وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ} أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الارْضِ وَلَن نُّعْجِزَه هَرَبًا} (الجن : 12) ولا نجد له أيضاً ولياً ولا نصيراً ، ولا دافعاً من دون الله ثم بيّن أنهم في ضلال مبين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
/في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم المختار ، ثم فرع عليه فرعين : الأول : إبطال قول عبدة الأصنام والثاني : إثبات النبوّة وذكر شبهاتهم في الطعن في النبوة ، وأجاب عنها ، ولما كان أكثر إعراض كفار مكة عن قبول الدلائل بسبب اغترارهم بالدنيا واستغراقهم في استيفاء طيباتهم وشهواتها ، وبسبب أنه كان يثقل عليهم الانقياد لمحمد والاعتراف بتقدمه عليهم ضرب لذلك مثلاً وهم قوم عاد فإنهم كانوا أكمل في منافع الدنيا من قوم محمد فلما أصروا على الكفر أبادهم الله وأهلكهم ، فكان ذلك تخويفاً لأهل مكة بإصرارهم على إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم لما قرر نبوته على الإنس أردفه بإثبات نبوته في الجن ، وإلى ههنا قد تم الكلام في التوحيد وفي النبوة ، ثم ذكر عقيبهما تقرير مسألة المعاد ومن تأمل في هذا البيان الذي ذكرناه علم أن المقصود من كل القرآن تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد ، وأما القصص فالمراد من ذكرها ما يجري مجرى ضرب الأمثال في تقرير هذه الأصول.
المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على كونه تعالى قادراً على البعث ، والدليل عليه أنه تعالى أقام الدلائل في أول هذه السورة على أنه {هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ولا شك أن خلقها أعظم وأفخم من إعادة هذا الشخص حياً بعد أن صار ميتاً ، والقادر على الأقوى الأكمل لا بد وأن يكون قادراً على الأقل والأضعف ، ثم ختم الآية بقوله {إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} والمقصود منه أن تعلق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكناً في نفسه لما وقع أولاً ، والله تعالى قادر على كل الممكنات ، فوجب كونه قادراً على تلك الإعادة ، وهذه الدلائل يقينية ظاهرة.
المسألة الثالثة : في قوله تعالى : {بِقَـادِرٍ} إدخاله الباء على خبر إن ، وإنما جاز ذلك لدخول حرف النفي على أن وما يتعلق بها ، فكأنه قيل أليس الله بقادر ، قال الزجاج لو قلت ما ظننت أن زيداً بقائم جاز ، ولا يجوز ظننت أن زيداً بقائم والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الرابعة : يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه ومنه {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ } (ق : 15).
(1/4050)

واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على صحة القول بالحشر والنشر ذكر بعض أحوال الكفار فقال : {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فقوله {أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ } التقدير يقال لهم أليس هذا بالحق والمقصود التهكم بهم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده ، وقولهم {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (الصافات : 59).
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والمعاد ، وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره ، فقال تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أي أولو الجد والصبر والثبات ، وفي الآية قولان.
الأول : أن تكون كلمة {مِنْ} للتبعيض ويراد بأولو العزم بعض الأنبياء قيل هم نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحاق على الذبح ، ويعقوب على فقدان الولد وذهاب البصر ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر وموسى قال له قومه {قَالَ كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الشعراء : 61 ، 62) وداود بكى على زلته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ، وقال الله تعالى في آدم {وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115) وفي يونس {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48).
والقول الثاني : أن كل الرسل أولو عزم ولم يبعث الله رسولاً إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال وعقل ، ولفظة من في قوله {مِّنَ الرُّسُلِ} تبيين لا تبعيض كما يقال كسيته من الخز وكأنه قيل اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم ، ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم.
ثم قال : {وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } ومفعول الاستعجال محذوف ، والتقدير لا تستعجل لهم بالعذاب ، قيل إن النبي صلى الله عليه وسلّم ضجر من قومه بعض الضجر ، وأحب أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه فأمر بالصبر وترك الاستعجال ، ثم أخبر أن ذلك العذاب منهم قريب ، وأنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وعند نزول ذلك العذاب بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا ، حتى يحسبونها ساعة من نهار ، والمعنى أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ ، كأنه ساعة من النهار ، أو كأن لم يكن لهول ما عاينوا ، أو لأن الشيء إذا مضى صار كأنه لم يكن ، وإن كان طويلاً قال الشاعر :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
كأن شيئاً لم يكن إذا مضى
كأن شيئاً لم يزل إذا أنى
/ واعلم أنه ههنا ، ثم قال تعالى : أي هذا بلاغ ، ونظيره قوله تعالى : {هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ} (إبراهيم : 25) أي هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظ أو هذا تبليغ من الرسل ، فهل يهلك إلا الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
(1/4051)

سورة محمد صلى الله عليه وسلم
(ثلاثون وتسع آيات مكية
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
أول هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة ، فإن آخرها قوله تعالى : {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف : 35) فإن قال قائل كيف يهلك الفاسق وله أعمال صالحة كإطعام الطعام وصلة الأرحام وغير ذلك ؟
مما لا يخلو عنه الإنسان في طول عمره فيكون في إهلاكه إهدار عمله وقد قال تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزله : 7) وقال تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي لم يبق لهم عمل ولم يوجد فلم يمتنع الإهلاك ، وسنبين كيف إبطال الأعمال مع تحقيق القول فيه ، وتعالى الله عن الظلم ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : من المراد بقوله {الَّذِينَ كَفَرُوا } ؟
قلنا فيه وجوه الأول : هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحرث ابنا هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم الثاني : كفار قريش الثالث : أهل الكتاب الرابع : هو عام يدخل فيه كل كافر.
المسألة الثانية : في الصد وجهان أحدهما : صدوا أنفسهم معناه أنهم صدوا أنفسهم عن السبيل ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل وثانيهما : صدوا غيرهم ومنعوهم كما قال تعالى عن المستضعفين {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (سبأ : 31) وعلى هذا بحث : وهو أن إضلال الأعمال مرتب على الكفر والصد ، والمستضعفون لم يصدوا فلا يضل أعمالهم ، فنقول التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، ولا سيما إذا كان المذكور أولى بالذكر من غيره /وههنا الكافر الصاد أدخل في الفساد فصار هو أولى بالذكر أو نقول كل من كفر صار صاداً لغيره ، أما المستكبر فظاهر ، وأما المستضعف فلأنه بمتابعته أثبت للمستكبر ما يمنعه من اتباع الرسول فإنه بعد ما يكون متبوعاً يشق عليه بأن يصير تابعاً ، ولأن كل من كفر صار صاداً لمن بعده لأن عادة الكفار اتباع المتقدم كما قال عنهم {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى } (الزخرف : 22) أو مقتدون ، فإن قيل فعلى هذا كل كافر صاد فما الفائدة في ذكر الصد بعد الكفر نقول هو من باب ذكر السبب وعطف المسبب عليه تقول أكلت كثيراً وشبعت ، والكفر على هذا سبب الصد ، ثم إذا قلنا بأن المراد منه أنهم صدوا أنفسهم ففيه إشارة إلى أن ما في الأنفس من الفطرة كان داعياً إلى الإيمان ، والامتناع لمانع وهو الصد لنفسه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثالثة : في المصدود عنه وجوه الأول : عن الإنفاق على محمد عليه السلام وأصحابه الثاني : عن الجهاد الثالث : عن الإيمان الرابع : عن كل ما فيه طاعة الله تعالى وهو اتباع محمد عليه السلام ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم على الصراط المستقيم هاد إليه ، وهو صراط الله قال تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} (الشورى : 52 ، 53) فمن منع من اتباع محمد عليه السلام فقد صد عن سبيل الله.
المسألة الرابعة : في الإضلال وجوه الأول : المراد منه الإبطال ، ووجهه هو أن المراد أنه أضله بحيث لا يجده ، فالطالب إنما يطلبه في الوجود ، وما لا يوجد في الوجود فهو معدوم. فإن قيل كيف يبطل الله حسنة أوجدها ؟
نقول إن الابطال على وجوه أحدها : يوازن بسيئاتهم الحسنات التي صدرت منهم ويسقطها بالموازنة ويبقي لهم سيئات محضة ، لأن الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات والإيمان يترجح على غير الكفر من السيئات وثانيها : أبطلها لفقد شرط ثبوتها وإثباتها وهو الإيمان لأنه شرط قبول العمل قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (غافر : 40) وإذا لم يقبل الله العمل لا يكون له وجود لأن العمل لا بقاء له في نفسه بل هو يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أن الله تعالى يكتب عنده بفضله أن فلاناً عمل صالحاً وعندي جزاؤه فيبقى حكماً ، وهذا البقاء حكماً خير من البقاء الذي للأجسام التي هي محل الأعمال حقيقة ، فإن الأجسام وإن بقيت غير أن مآلها إلى الفناء والعمل الصالح من الباقيات عند الله أبداً ، وإذا ثبت هذا تبين أن الله بالقبول متفضل ، وقد أخبر أني لا أقبل إلا من مؤمن فمن عمل وتعب من غير سبق الإيمان فهو المضيع تعبه لا الله تعالى وثالثها : لم يعمل الكافر عمله لوجه الله تعالى فلم يأت بخير فلا يرد علينا قوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7) وبيانه هو أن العمل لا يتميز إلا بمن له العمل لا بالعامل ولا بنفس العمل ، وذلك لأن من قام ليقتل شخصاً ولم يتفق قتله ، ثم قال ليكرمه ولم يتفق الإكرام ولا القتل ، وأخبر عن نفسه أنه قام في اليوم الفلاني لقتله وفي اليوم الآخر لإكرامه يتميز القيامان لا بالنظر إلى القيام فإنه واحد ولا بالنظر إلى القائم /فإنه حقيقة واحدة ، وإنما يتميز بما كان لأجله القيام ، وكذلك من قام وقصد بقيامه إكرام الملك وقام وقصد بقيامه إكرام بعض العوام يتميز أحدهما عن الآخر بمنزلة العمل لكن نسبة الله الكريم إلى الأصنام فوق نسبة الملوك إلى العوام فالعمل للأصنام ليس بخير ثم إن اتفق أن يقصد واحد بعمله وجه الله تعالى ومع ذلك يعبد الأوثان لا يكون عمله خيراً ، لأن مثل ما أتى به لوجه الله أتى به للصنم المنحوت فلا تعظيم الوجه الثاني : الإضلال هو جعله مستهلكاً وحقيقته هو أنه إذا كفر وأتى للأحجار والأخشاب بالركوع والسجود فلم يبق لنفسه حرمة وفعله لا يبقى معتبراً بسبب كفره ، وهذا كمن يخدم عند الحارس والسايس إذا قام فالسلطان لا يعمل قيامه تعظيماً لخسته كذلك الكافر ، وأما المؤمن فبقدر ما يتكبر على غير الله يظهر تعظيمه لله ، كالملك الذي لا ينقاد لأحد إذا انقاد في وقت لملك من الملوك يتبين به عظمته الوجه الثالث : أي أهمله وتركه ، كما يقال أضل بعيره إذا تركه مسيباً فضاع.
ثم إن الله تعالى لما بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين فقال :
(1/4052)

جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثالثة : في المصدود عنه وجوه الأول : عن الإنفاق على محمد عليه السلام وأصحابه الثاني : عن الجهاد الثالث : عن الإيمان الرابع : عن كل ما فيه طاعة الله تعالى وهو اتباع محمد عليه السلام ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم على الصراط المستقيم هاد إليه ، وهو صراط الله قال تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} (الشورى : 52 ، 53) فمن منع من اتباع محمد عليه السلام فقد صد عن سبيل الله.
المسألة الرابعة : في الإضلال وجوه الأول : المراد منه الإبطال ، ووجهه هو أن المراد أنه أضله بحيث لا يجده ، فالطالب إنما يطلبه في الوجود ، وما لا يوجد في الوجود فهو معدوم. فإن قيل كيف يبطل الله حسنة أوجدها ؟
نقول إن الابطال على وجوه أحدها : يوازن بسيئاتهم الحسنات التي صدرت منهم ويسقطها بالموازنة ويبقي لهم سيئات محضة ، لأن الكفر يزيد على غير الإيمان من الحسنات والإيمان يترجح على غير الكفر من السيئات وثانيها : أبطلها لفقد شرط ثبوتها وإثباتها وهو الإيمان لأنه شرط قبول العمل قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (غافر : 40) وإذا لم يقبل الله العمل لا يكون له وجود لأن العمل لا بقاء له في نفسه بل هو يعدم عقيب ما يوجد في الحقيقة غير أن الله تعالى يكتب عنده بفضله أن فلاناً عمل صالحاً وعندي جزاؤه فيبقى حكماً ، وهذا البقاء حكماً خير من البقاء الذي للأجسام التي هي محل الأعمال حقيقة ، فإن الأجسام وإن بقيت غير أن مآلها إلى الفناء والعمل الصالح من الباقيات عند الله أبداً ، وإذا ثبت هذا تبين أن الله بالقبول متفضل ، وقد أخبر أني لا أقبل إلا من مؤمن فمن عمل وتعب من غير سبق الإيمان فهو المضيع تعبه لا الله تعالى وثالثها : لم يعمل الكافر عمله لوجه الله تعالى فلم يأت بخير فلا يرد علينا قوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7) وبيانه هو أن العمل لا يتميز إلا بمن له العمل لا بالعامل ولا بنفس العمل ، وذلك لأن من قام ليقتل شخصاً ولم يتفق قتله ، ثم قال ليكرمه ولم يتفق الإكرام ولا القتل ، وأخبر عن نفسه أنه قام في اليوم الفلاني لقتله وفي اليوم الآخر لإكرامه يتميز القيامان لا بالنظر إلى القيام فإنه واحد ولا بالنظر إلى القائم /فإنه حقيقة واحدة ، وإنما يتميز بما كان لأجله القيام ، وكذلك من قام وقصد بقيامه إكرام الملك وقام وقصد بقيامه إكرام بعض العوام يتميز أحدهما عن الآخر بمنزلة العمل لكن نسبة الله الكريم إلى الأصنام فوق نسبة الملوك إلى العوام فالعمل للأصنام ليس بخير ثم إن اتفق أن يقصد واحد بعمله وجه الله تعالى ومع ذلك يعبد الأوثان لا يكون عمله خيراً ، لأن مثل ما أتى به لوجه الله أتى به للصنم المنحوت فلا تعظيم الوجه الثاني : الإضلال هو جعله مستهلكاً وحقيقته هو أنه إذا كفر وأتى للأحجار والأخشاب بالركوع والسجود فلم يبق لنفسه حرمة وفعله لا يبقى معتبراً بسبب كفره ، وهذا كمن يخدم عند الحارس والسايس إذا قام فالسلطان لا يعمل قيامه تعظيماً لخسته كذلك الكافر ، وأما المؤمن فبقدر ما يتكبر على غير الله يظهر تعظيمه لله ، كالملك الذي لا ينقاد لأحد إذا انقاد في وقت لملك من الملوك يتبين به عظمته الوجه الثالث : أي أهمله وتركه ، كما يقال أضل بعيره إذا تركه مسيباً فضاع.
ثم إن الله تعالى لما بيّن حال الكفار بيّن حال المؤمنين فقال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا مراراً أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح ، رتب عليهما المغفرة والأجر كما قال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ جَنَّـاتُ النَّعِيمِ} (الحج : 50) وقال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} (العنكبوت : 70) وقلنا بأن المغفرة ثواب الإيمان والأجر على العمل الصالح واستوفينا البحث فيه في سورة العنكبوت فنقول ههنا جزاء ذلك قوله {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} إشارة إلى ما يثيب على الإيمان ، وقوله {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} إشارة إلى ما يثيب على العمل الصالح.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة تكفير السيئات مرتب على الإيمان والعمل الصالح فمن آمن ولم يفعل الصالحات يبقى في العذاب خالداً ، فنقول لو كان كما ذكرتم لكان الإضلال مرتباً على الكفر والضد ، فمن يكفر لا ينبغي أن تضل أعماله ، أو نقول قد ذكرنا أن الله رتب أمرين على أمرين فمن آمن كفر سيئاته ومن عمل صالحاً أصلح باله أو نقول أي مؤمن يتصور أنه غير آت بالصالحات بحيث لا يصدر عنه صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا إطعام ، وعلى هذا فقوله {وَعَمِلُوا } عطف المسبب على السبب ، كما قلنا في قول القائل أكلت كثيراً وشبعت.
/
(1/4053)

جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثالثة : قوله {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَءَامَنُوا } مع أن قوله آمنوا وعملوا الصالحات أفاد هذا المعنى فما الحكمة فيه وكيف وجهه ؟
فنقول : أما وجهه فبيانه من وجوه الأول : قوله {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } أي بالله ورسوله واليوم الآخر ، وقوله {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا } أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله تعميم بعد أمور خاصة وهو حسن ، تقول خلق الله السموات والأرض وكل شيء إما على معنى وكل شيء غير ما ذكرنا وإما على العموم بعد ذكر الخصوص الثاني : أن يكون المعنى آمنوا وآمنوا من قبل بما نزل على محمد وهو الحق المعجز الفارق بين الكاذب والصادق يعني آمنوا أولاً بالمعجز وأيقنوا بأن القرآن لا يأتي به غير الله ، فآمنوا وعملوا الصالحات والواو للجمع المطلق ، ويجوز أن يكون المتأخر ذكراً متقدماً وقوعاً ، وهذا كقول القائل آمن به ، وكان الإيمان به واجباً ، أو يكون بياناً لإيمانهم كأنهم {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَءَامَنُوا } أي آمنوا وآمنوا بالحق كما يقول القائل خرجت وخرجت مصيباً أي وكان خروجي جيداً حيث نجوت من كذا وربحت كذا فكذلك لما قال آمنوا بين أن إيمانهم كان أمر الله وأنزل الله لا بما كان باطلاً من عند غير الله الثالث : ما قاله أهل المعرفة ، وهو أن العلم العمل والعمل العلم ، فالعلم يحصل ليعمل به لما جاء : إذا عمل العالم العمل الصالح علم ما لم يكن يعلم ، فيعلم الإنسان مثلاً قدرة الله بالدليل وعلمه وأمره فيحمله الأمر على الفعل ويحثه عليه علمه فعلمه بحاله وقدرته على ثوابه وعقابه ، فإذا أتى بالعمل الصالح علم من أنواع مقدورات الله ومعلومات الله تعالى ما لم يعلمه أحد إلا باطلاع الله عليه وبكشفه ذلك له فيؤمن ، وهذا هو المعنى في قوله {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ } (الفتح : 4) فإذا آمن المكلف بمحمد بالبرهان وبالمعجزة وعمل صالحاً حمله علمه على أن يؤمن بكل ما قاله محمد ولم يجد في نفسه شكاً ، وللمؤمن في المرتبة الأولى أحوال وفي المرتبة الأخيرة أحوال ، أما في الإيمان بالله ففي الأول يجعل الله معبوداً ، وقد يقصد غيره في حوائجه فيطلب الرزق من زيد وعمر ويجعل أمراً سبباً لأمر ، وفي الأخيرة يجعل الله مقصوداً ولا يقصد غيره ، ولا يرى إلا منه سره وجهره ، فلا ينيب إلى شيء في شيء فهذا هو الإيمان الآخر بالله وذلك الإيمان الأول.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
وأما ما في النبي صلى الله عليه وسلّم فيقول أولاً هو صادق فيما ينطق ، ويقول آخر لا نطق له إلا بالله ، ولا كلام يسمع منه إلا وهو من الله ، فهو في الأول يقول بالصدق ووقوعه منه ، وفي الثاني يقول بعدم إمكان الكذب منه لأن حاكي كلام الغير لا ينسب إليه الكذب ولا يمكن إلا في نفس الحكاية ، وقد علم هو أنه حاك عنه كما قاله ، وأما في المرتبة الأولى فيجعل الحشر مستقبلاً والحياة العاجلة حالاً وفي المرتبة الأخيرة يجعل الحشر حالاً والحياة الدنيا ماضياً ، فيقسم حياة نفسه في كل لحظة ، ويجعل الدنيا كلها عدماً لا يلتفت إليها ولا يقبل عليها.
المسألة الرابعة : قوله {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَءَامَنُوا } هو في مقابلة قوله في حق الكافر {وَصُدُّوا } (محمد : 1) لأنا بينا في وجه أن المراد بهم صدوا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلّم ، وهذا حث على اتباع محمد / صلى الله عليه وسلّم ، فهم صدوا أنفسهم عن سبيل الله ، وهو محمد عليه السلام وما أنزل عليه ، وهؤلاء حثوا أنفسهم على اتباع سبيله ، لا جرم حصل لهؤلاء ضد ما حصل لأولئك ، فأضل الله حسنات أولئك وستر على سيئات هؤلاء.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } هل يمكن أن يكون من ربهم وصفاً فارقاً ، كما يقال رأيت رجلاً من بغداد ، فيصير وصفاً للرجل فارقاً بينه وبين من يكون من الموصل وغيره ؟
نقول لا ، لأن كل ما كان من الله فهو الحق ، فليس هذا هو الحق من ربهم ، بل قوله {مِّن رَّبِّهِمُ} خبر بعد خبر ، كأنه قال وهو الحق وهو من ربهم ، أو إن كان وصفاً فارقاً فهو على معنى أنه الحق النازل من ربهم لأن الحق قد يكون مشاهداً ، فإن كون الشمس مضيئة حق وهو ليس نازل من الرب ، بل هو علم حاصل بطريق يسره الله تعالى لنا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
(1/4054)

ثم قال تعالى : {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي سترها وفيه إشارة إلى بشارة ما كانت تحصل بقوله أعدمها ومحاها ، لأن محو الشيء لا ينبىء عن إثبات أمر آخر مكانه ، وأما الستر فينبىء عنه ، وذلك لأن من يريد ستر ثوب بال أو وسخ لا يستره بمثله ، وإنما يستره بثوب نفيس نظيف ، ولا سيما الملك الجواد إذا ستر على عبد من عبيده ثوبه البالي أمر بإحضار ثوب من الجنس العالي لا يحصل إلا بالثمن الغالي ، فيلبس هذا هو الستر بينه وبين المحبوبين ، وكذلك المغفرة ، فإن المغفرة والتكفير من باب واحد في المعنى ، وهذا هو المذكور في قوله تعالى : {فَ أولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ } (الفرقان : 70) وقوله {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} إشارة إلى ما ذكرنا من أنه يبدلها حسنة ، فإن قيل كيف تبدل السيئة حسنة ؟
نقول معناه أنه يجزيه بعد سيئاته ما يجزى المحسن على إحسانه ، فإن قال الإشكال باق وباد ، وما زال بل زاد ، فإن الله تعالى لو أثاب على السيئة كما يثيب عن الحسنة ، لكان ذلك حثاً على السيئة ، نقول ما قلنا إنه يثيب على السيئة وإنما قلنا إنه يثيب بعد السيئة بما يثيب على الحسنة ، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة ، ثم يتنبه ويندم ويقف بين يدي ربه معترفاً بذنبه مستحقراً لنفسه/ فيصير أقرب إلى الرحمة من الذي لم يذنب ، ودخل على ربه مفتخراً في نفسه ، فصار الذنب شرطاً للندم ، والثواب ليس على السيئة ، وإنما هو على الندم ، وكأن الله تعالى قال عبدي أذنب ورجع إليّ ، ففعله شيء لكن ظنه بي حسن حيث لم يجد ملجأ غيري فاتكل على فضلي ، والظن عمل القلب ، والفعل عمل البدن ، واعتبار عمل القلب أولى ، ألا ترى أن النائم والمغمى عليه لا يلتفت إلى عمل بدنه ، والمفلوج الذي لا حركة له يعتبر قصد قلبه ، ومثال الروح والبدن راكب دابة يركض فرسه بين يدي ملك يدفع عنه العدو بسيفه وسنانه ، والفرس يلطخ ثوب الملك بركضه في استنانه ، فهل يلتفت إلى فعل الدابة مع فعل الفارس ، بل لو كان الراكب فارغاً /الفرس يؤذي بالتلويث يخاطب الفارس به ، فكذلك الروح راكب والبدن مركوب ، فإن كانت الروح مشغولة بعبادة الله وذكره ، ويصدر من البدن شيء لا يلتفت إليه ، بل يستحسن منه ذلك ويزاد في تربية الفرس الراكض ويهجر الفرس الواقف ، وإن كان غير مشغول فهو مؤاخذ بأفعال البدن ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الباطل وجوه الأول : ما لا يجوز وجوده ، وذلك لأنهم اتبعوا إلهاً غير الله ، وإله غير الله محال الوجود ، وهو الباطل وغاية الباطل ، لأن الباطل هو المعدوم ، يقال بطل كذا ، أي عدم ، والمعدوم الذي لا يجوز وجوده ولا يمكن أن يوجد ، ولا يجوز أن يصير حقاً موجوداً ، فهو في غاية البطلان ، فعلى هذا فالحق هو الذي لا يمكن عدمه وهو الله تعالى ، وذلك لأن الحق هو الموجود ، يقال تحقق الأمر ، أي وجد وثبت ، والموجود الذي لا يجوز عدمه هو في غاية الثبوت الثاني : الباطل الشيطان بدليل قوله تعالى : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) فبيّن أن الشيطان متبوع وأتباعه هم الكفار والفجار ، وعلى هذا فالحق هو الله ، لأنه تعالى جعل في مقابلة حزب الشيطان حزب الله الثالث : الباطل ، هو قول كبرائهم ودين آبائهم ، كما قال تعالى عنهم : {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى } (الزحرف : 22) ومقتدون فعلى هذا الحق ما قاله النبي عليه السلام عن الله الرابع : الباطل كل ما سوى الله تعالى ، لأن الباطل والهالك بمعنى واحد. و{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) وعلى هذا فالحق هو الله تعالى أيضاً.
المسألة الثانية : لو قال قائل من ربهم لا يلائم إلا وجهاً واحداً من أربعة أوجه ، وهو قولنا المراد من الحق هو ما أنزل الله وما قال النبي عليه السلام من الله ، فأما على قولنا الحق هو الله فكيف يصح قوله {اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } نقول على هذا {مِّن رَّبِّهِمُ} لا يكون متعلقاً بالحق ، وإنما يكون تعلقه بقوله بقوله تعالى : {اتَّبَعُوا } أي اتبعوا أمر ربهم ، أي من فضل الله أو هداية ربهم اتبعوا الحق ، وهو الله سبحانه.
المسألة الثالثة : إذا كان الباطل هو المعدوم الذي لا يجوز وجوده ، فكيف يمكن اتباعه ؟
نقول لما كانوا يقولون إنما يفعلون للأصنام وهي آلهة وهي تؤجرهم بذلك كانوا متبعين في زعمهم ، ولا متبع هناك.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
(1/4055)

المسألة الرابعة : قال في حق المؤمنين {اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } وقال في حق الكفار {اتَّبَعُوا الْبَـاطِلَ} من آلهتهم أو الشيطان ، نقول أما آلهتهم فلأنهم لا كلام لهم ولا عقل ، وحيث ينطقهم الله ينكرون فعلهم ، كما قال تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } (فاطر : 14) وقال تعالى : {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَـافِرِينَ} (الأحقاف : 6) والله تعالى رضي بفعلهم وثبتهم عليه ، ويحتمل أن يقال قوله {مِّن رَّبِّهِمُ} عائد إلى الأمرين جميعاً ، أي من ربهم اتبع هؤلاء الباطل ، وهؤلاء الحق ، أي من حكم ربهم ، ومن عند ربهم.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} وفيه أيضاً مسائل :
المسألة الأولى : أي مثل ضربه الله تعالى حتى يقول {كَذَالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : إضلال أعمال الكفار وتكفير سيئات الأبرار الثاني : كون الكافر متبعاً للباطل ، وكون المؤمن متبعاً للحق ، ويحتمل وجهين آخرين أحدهما : على قولنا {مِّن رَّبِّهِمُ} أي من عند ربهم اتبع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق ، نقول هذا مثل يضرب عليه جميع الأمثال ، فإن الكل من عند الله الإضلال وغيره والاتباع وغيره وثانيهما : هو أن الله تعالى لما بيّن أن الكافر يضل الله عمله والمؤمن يكفر الله سيئاته ، وكان بين الكفر والإيمان مباينة ظاهرة فإنهما ضدان ، نبه على أن السبب كذا أي ليس الإضلال والتكفير بسبب المضادة والاختلاف بل بسبب اتباع الحق والباطل ، وإذا علم السبب فالفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الحق والآخر اتباع الباطل ، فإن من يؤمن ظاهراً وقلبه مملوء من الكفر ، ومن يؤمن بقلبه وقلبه مملوء من الإيمان اتحد فعلاهما في الظاهر ، وهما مختلفان بسبب اتباع الحق واتباع الباطل ، لا بدع من ذلك فإن من يؤمن ظاهراً وهو يسر الكفر ، ومن يكفر ظاهراً بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان اختلف الفعلان في الظاهر ، وإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب أن اتباع الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان وعلم سببه ، وهو اتباع الحق والباطل ، فكذلك اعلموا أن كل شيء اتبع فيه الحق كان مقبولاً مثاباً عليه ، وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردوداً معاقباً عليه فصار هذا عاماً في الأمثال ، على أنا نقول قوله {كَذَالِكَ} لا يستدعي أن يكون هناك مثل مضروب بل معناه أنه تعالى لما بيّن حال الكافر وإضلال أعماله وحال المؤمن وتكفير سيئاته وبيّن السبب فيهما ، كان ذلك غاية الإيضاح فقال : {كَذَالِكَ} أي مثل هذا البيان {يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} ويبين لهم أحوالهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثانية : الضمير في قوله {أَمْثَـالَهُمْ} عائد إلى من ؟
فيه وجهان : أحدهما : إلى الناس /كافة قال تعالى : {يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ} على أنفسهم وثانيهما : إلى الفريقين السابقين في الذكر معناه : يضرب الله للناس أمثال الفريقين السابقين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
ثم قال تعالى : {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى ا إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفاء في قوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ} يستدعي متعلقاً يتعلق به ويترتب عليه ، فما وجه التعلق بما قبله ؟
نقول هو من وجوه : الأول : لما بيّن أن الذين كفروا أضل الله أعمالهم واعتبار الإنسان بالعمل ، ومن لم يكن له عمل فهو همج فإن صار مع ذلك يؤذي حسن إعدامه {فَإِذَا لَقِيتُمُ} بعد ظهور أن لا حرمة لهم وبعد إبطال أعمالهم ، فاضربوا أعناقهم الثاني : إذا تبين تباين الفريقين وتباعد الطريقين ، وأن أحدهما يتبع الباطل وهو حزب الشيطان ، والآخر يتبع الحق وهو حزب الرحمن حق القتال عند التحزب ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم الثالث : أن من الناس من يقول لضعف قلبه وقصور نظره إيلام الحيوان من الظلم والطغيان ، ولا سيما القتل الذي هو تخريب بنيان ، فيقال رداً عليهم : لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل فمن يقتل في سبيل الله لتعظيم أمر الله لهم من الأجر ما للمصلي والصائم ، فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهما رأفة فإن ذلك اتباع للحق والاعتبار به لا بصورة الفعل.
المسألة الثانية : {فَضَرْبَ} منصوب على المصدر ، أي فاضربوا ضرب الرقاب.
(1/4056)

المسألة الثالثة : ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء نقول فيه : لما بيّن أن المؤمن ليس يدافع إنما هو دافع ، وذلك أن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولاً مقتله بل يتدرج ويضرب على غير المقتل ، فإن اندفع فذاك ولا يترقى إلى درجة الإهلاك ، فقال تعالى ليس المقصود إلا دفعهم عن وجه الأرض ، وتطهير الأرض منهم ، وكيف لا والأرض لكم مسجد ، والمشركون نجس ، والمسجد يطهر من النجاسة ، فإذاً ينبغي أن يكون قصدكمم أولاً إلى قتلهم بخلاف دفع الصائل ، والرقبة أظهر المقاتل لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك ، والرقبة ظاهرة في الحرب ففي ضربها حز العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع ، ولا سيما في الحرب ، وفي قوله {لَقِيتُمُ} ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل لأن قوله {لَقِيتُمُ} يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا لقيكم ، ولذلك قال في غير هذا الموضع {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة : 191).
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الرابعة : قال ههنا {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} بإظهار المصدر وترك الفعل ، وقال في الأنفال {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} (الأنفال : 12) بإظهار الفعل ، وترك المصدر ، فهل فيه فائدة ؟
نقول نعم ولنبينها بتقديم مقدمة ، وهي أن المقصود أولاً في بعض السور قد يكون صدور الفعل من فاعل ويتبعه المصدر /ضمناً ، إذ لا يمكن أن يفعل فاعل إلا ويقع منه المصدر في الوجود ، وقد يكون المقصود أولاً المصدر ولكنه لا يوجد إلا من فاعل فيطلب منه أن يفعل ، مثاله من قال : إني حلفت أن أخرج من المدينة. فيقال له : فاخرج ، صار المقصود منه صدور الفعل منه والخروج في نفسه غير مقصود الانتفاء ، ولو أمكن أن يخرج من غير تحقق الخروج منه لما كان عليه إلا أن يخرج لكن من ضرورات الخروج أن يخرج/ فإذا قال قائل ضاق بي المكان بسبب الأعداء فيقال له مثلاً الخروج يعني الخروج فاخرج فإن الخروج هو المطلوب حتى لو أمكن الخروج من غير فاعل لحصل الغرض لكنه محال فيتبعه الفعل ، إذا عرفت هذا فنقول في الأنفال الحكاية عن الحرب الكائنة وهم كانوا فيها والملائكة أنزلوا لنصرة من حضر في صف القتال فصدور الفعل منه مطلوب ، وههنا الأمر وارد وليس في وقت القتال بدليل قوله تعالى : {فَإِذَا لَقِيتُمُ} والمقصود بيان كون المصدر مطلوباً لتقدم المأمور على الفعل قال : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وفيما ذكرنا تبيين فائدة أخر وهي أن الله تعالى قال هناك {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال : 12) وذلك لأن الوقت وقت القتال فأرشدهم إلى المقتل وغيره إن لم يصيبوا المقتل ، وههنا ليس وقت القتال فبيّن أن المقصود القتل وغرض المسلم ذلك.
المسألة الخامسة : {حَتَّى } لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي حتى إذا اثخنتموهم لا يبقى الأمر بالقتل ، ويبقى الجواز ولو كان لبيان القتل لما جاز القتل ، والقتل جائز إذا التحق المثخن بالشيخ الهرم ، والمراد كما إذا قطعت يداه ورجلاه فنهى عن قتله.
ثم قال تعالى : {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أمر إرشاد.
ثم قال تعالى : {فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : (إما) وإنما للحصر وحالهم بعد الأسر غير منحصر في الأمرين ، بل يجوز القتل والاسترقاق والمن والفداء ، نقول هذا إرشاد فذكر الأمر العام الجائز في سائر الأجناس ، والاسترقاق غير جائز في أسر العرب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كان معهم فلم يذكر الاسترقاق ، وأما القتل فلأن الظاهر في المثخن الإزمان ، ولأن القتل ذكره بقوله {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} فلم يبق إلا الأمران.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثانية : مناً وفداءً منصوبان لكونهما مصدرين تقديره : فإما تمنون مناً وإما تفدون فداءً وتقديم المن على الفداء إشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال ، والفداء يجوز أن يكون مالاً يكون وأن يكون غيره من الأسرى أو شرطاً يشرط عليهم أو عليه وحده.
المسألة الثالثة : إذا قدرنا الفعل وهو تمنون أو تفدون على تقدير المفعول ، حتى نقول إما تمنون عليهم منا أو تفدونهم فداء ، نقول لا لأن المقصود المن والفداء لا عليهم وبهم كما يقول /القائل : فلان يعطي ويمنع ولا يقال يعطي زيداً ويمنع عمراً لأن غرضه ذكر كونه فاعلاً لا بيان المفعول ، وكذلك ههنا المقصود إرشاد المؤمنين إلى الفضل.
ثم قال تعالى : {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } .
وفي تعلق {حَتَّى } وجهان أحدهما : تعلقها بالقتل أي اقتلوهم حتى تضع وثانيهما : بالمن والفداء ، ويحتمل أن يقال متعلقة بشدوا الوثاق وتعلقها بالقتل أظهر وإن كان ذكره أبعد ، وفي الأوزار وجهان أحدهما : السلاح والثاني : الآثام وفيه مسائل :
(1/4057)

المسألة الأولى : إن كان المراد الإثم ، فكيف تضع الحرب الإثم والإثم على المحارب ؟
وكذلك السؤال في السلاح لكنه على الأول أشد توجهاً ، فيقول تضع الحرب الأوزار لا من نفسها ، بل تضع الأوزار التي على المحاربين والسلاح الذي عليهم.
المسألة الثانية : هل هذا كقوله تعالى : {وَسْـاَلِ} (يوسف : 82) حتى يكون كأنه قال حتى تضع أمة الحرب أو فرقة الحرب أوزارها ؟
نقول ذلك محتمل في النظر الأول ، لكن إذا أمعنت في المعنى تجد بينهما فرقاً ، وذلك لأن المقصود من قوله {فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزباً من أحزاب الإسلام/ ولو قلنا حتى تضع أمة الحرب جاز أن يضعوا الأسلحة ويتركوا الحرب وهي باقية بمادتها كما تقول خصومتي ما انفصلت ولكني تركتها في هذه الأيام ، وإذا أسندنا الوضع إلى الحرب يكون معناه إن الحرب لم يبق.
المسألة الثالثة : لو قال حتى لا يبقى حزب أو ينفر من الحرب هل يحصل معنى قوله {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } نقول لا والتفاوت بين العبارتين مع قطع النظر عن النظم ، بل النظر إلى نفس المعنى كالتفاوت بين قولك انقرضت دولة بني أُمية ، وقولك لم يبق من دولتهم أثر ، ولا شك أن الثاني أبلغ ، فكذلك ههنا قوله تعالى : {أَوْزَارَهَا } معناه آثارها فإن من أوزار الحرب آثارها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الرابعة : وقت وضع أوزار الحرب متى هو ؟
نقول فيه أقوال حاصلها راجع إلى أن ذلك الوقت هو الوقت الذي لا يبقى فيه حزب من أحزاب الإسلام وحزب من أحزاب الكفر وقيل ذلك عند قتال الدجال ونزول عيسى عليه السلام.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ انتَصَرَ مِنْهُمْ} .
في معنى ذلك وجهان أحدهما : الأمر ذلك والمبتدأ محذوف ويحتمل أن يقال ذلك واجب أو مقدم ، كما يقول القائل إن فعلت فذاك أي فذاك مقصود ومطلوب ، ثم بيّن أن قتالهم ليس طريقاً متعيناً بل الله لو أراد أهلكهم من غير جند.
/قوله تعالى : {وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } .
أي ولكن ليكلفكم فيحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر. فإن قيل ما التحقيق في قولنا التكليف ابتلاء وامتحان والله يعلم السر وأخفى ، وماذا يفهم من قوله {وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } ؟
نقول فيه وجوه الأول : أن المراد منه يفعل ذلك فعل المبتلين أي كما يفعل المبتلى المختبر ، ومنها أن الله تعالى يبلو ليظهر الأمر لغيره إما للملائكة وإما للناس ، والتحقيق هو أن الابتلاء والامتحان والاختبار فع يظهر بسببه أمر غيره متعين عند العقلاء بالنظر إليه قصداً إلى ظهوره ، وقولنا فعل يظهر بسببه أمر ظاهر الدخول في مفهوم الابتداء ، لأن ما لا يظهر بسببه شيء أصلاً لا يسمى ابتلاء ، أما قولنا أمر غير متعين عند العقلاء ، وذلك لأن من يضرب بسيفه على القثاء والخيار لا يقال إنه يمتحن ، لأن الأمر الذي يظهر منه متعين وهو القطع والقد بقسمين ، فإذا ضرب بسيفه سبعاً يقال يمتحن بسيفه ليدفع عن نفسه وقد يقده وقد لا يقده ، وأما قولنا ليظهر منه ذلك فلأن من يضرب سبعاً بسيفه ليدفعه عن نفسه لا يقال إنه ممتحن لأن ضربه ليس لظهور أمر متعين ، إذا علم هذا فنقول الله تعالى إذا أمرنا بفعل يظهر بسببه أمر غير متعين ، وهو إما الطاعة أو المعصية في العقول ليظهر ذلك يكون ممتحناً ، وإن كان عالماً به لكون عدم العلم مقارناً فينا لابتلائنا فإذا ابتلينا وعدم العلم فينا مستمر أمرنا وليس من ضرورات الابتلاء ، فإن قيل الابتلاء فائدته حصول العلم عند المبتلى ، فإذا كان الله تعالى عالماً فأية فائدة فيه ؟
نقول ليس هذا سؤال يختص بالابتلاء ، فإن قول القائل : لم ابتلى كقول القائل لم عاقب الكافر وهو مستغن ، ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضر ؟
وجوابه : لا يسأل عما يفعل ، ونقول حينئذ ما قاله المتقدمون إنه لظهور الأمر المتعين لإله ، وبعد هذا فنقول : المبتلى لا حاجة له إلى الأمر الذي يظهر من الابتلاء ، فإن الممتحن للسيف فيما ذكرنا من الصورة لا حاجة له إلى قطع ما يجرب السيف فيه حتى أنه لو كان محتاجاً ، كما ضربنا من مثال دفع السبع بالسيف لا يقال إنه يمتحن وقوله {لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } إشارة إلى عدم الحاجة تقريراً لقوله {ذَالِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ انتَصَرَ مِنْهُمْ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ} .
(1/4058)

قرىء قتلوا وقاتلوا والكل مناسب لما تقدم ، أما من قرأ قتلوا فلأنه لما قال : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ومعناه فاقتلوهم بين ما للقاتل بقوله {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ} رداً على من زعم أن القتل فساد محرم إذ هو إفناء من هو مكرم ، فقال عملهم ليس كحسنة الكافر يبطل بل هو فوق حسنات الكافر أضل الله أعمال الكفار ، ولن يضل القاتلين ، فكيف يكون القتل سيئة ، وأما من قرأ {قَـاتَلُوا } فهو أكثر فائدة وأعم تناولاً ، لأنه يدخل فيه من سعى في القتل سواء قتل أو لم يقتل ، وأما من قرأ {وَالَّذِينَ قُتِلُوا } على البناء للمفعول فنقول هي مناسبة لما تقدم من وجوه أحدها : هو أنه تعالى /لما قال : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي اقتلوا والقتل لا يتأتى إلا بالإقدام وخوف أن يقتل المقدم يمنعه من الإقدام ، فقال لا تخافوا القتل فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر والثواب ما لا يمنع المقاتل من القتال بل يحثه عليه وثانيها : هو أنه تعالى لما قال : {لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } والمبتلى بالشيء له على كل وجه من وجوه الأثر الظاهر بالابتلاء حال من الأحوال ، فإن السيف الممتحن تزيد قيمته على تقدير أن يقطع وتنقص على تقدير أن لا يقطع فحال المبتلين ماذا فقال إن قتل فله أن لا يضل عمله ويهدى ويكرم ويدخل الجنة ، وأما إن قتل فلا يخفى عاجلاً وآجلاً ، وترك بيانه على تقدير كونه قاتلاً لظهوره وبين حاله على تقدير كونه مقتولاً وثالثها : هو أنه تعالى لما قال : {لِيَبْلُوَكُمْ} ولا يبتلي الشيء النفيس بما يخاف منه هلاكه ، فإن السيف المهند العضب الكبير القيمة لا يجرب بالشيء الصلب الذي يخاف عليه منه الانكسار ، ولكن الآدمي مكرم كرمه الله وشرفه وعظمه ، فلماذا ابتلاه بالقتال وهو يفضي إلى القتل والهلاك إفضاء غير نادر ، فكيف يحسن هذا الابتلاء ؟
فنقول القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن فإنه يورث الحياة الأبدية فإذا ابتلاه بالقتال فهو على تقدير أن يقتل مكرم وعلى تقدير أن لا يقتل هذا إن قاتل وإن لم يقاتل ، فالموت لا بد منه وقد فوت على نفسه الأجر الكبير.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
وأما قوله تعالى : {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ} قد علم معنى الإضلال ، بقي الفرق بين العبارتين في حق الكافر والضال قال {أَضَلَّ} (محمد : 1) وقال في حق المؤمن الداعي {فَلَن يُضِلَّ} ، لأن المقاتل داع إلى الإيمان لأن قوله {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قد ذكر أن معناه حتى لم يبق إثم بسبب حرب ، وذلك حيث يسلم الكافر فالمقاتل يقول إما أن تسلم وإما أن تقتل ، فهو داع والكافر صاد وبينهما تباين وتضاد فقال في حق الكافر أضل بصيغة الماضي ، ولم يقل يضل إشارة إلى أن عمله حيث وجد عدم ، وكأنه لم يوجد من أصله ، وقال في حق المؤمن فلن يضل ، ولم يقل ما أضل إشارة إلى أن عمله كلما ثبت عليه أثبت له ، فلن يضل للتأبيد وبينهما غاية الخلاف ، كما أن بين الداعي والصاد غاية التباين والتضاد ، فإن قيل ما معنى الفاء في قوله {فَلَن يُضِلَّ} ؟
جوابه لأن في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ قُتِلُوا } معنى الشرط.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
إن قرىء {قَـاتِلُوا } أو {قَـاتَلُوا } فالهداية محمولة على الآجلة والعاجلة ، وإن قرىء {قَـاتِلُوا } فهو الآخرة {سَيَهْدِيهِمْ} طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم.
وقوله : {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} .
قد تقدم تفسيره في قوله تعالى : {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (محمد : 2) والماضي والمستقبل راجع إلى أن هناك وعدهم ما وعدهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ، وذلك كان واقعاً منهم فأخبر عن الجزاء بصيغة تدل على /الوقوع ، وههنا وعدهم بسبب القتال والقتل ، فكان في اللفظ ما يدل على الاستقبال ، لأن قوله تعالى : {فَإِذَا لَقِيتُمُ} (محمد : 4) يدل على الاستقبال فقال : {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
وكأن الله تعالى عند حشرهم يهديهم إلى طريق الجنة ويلبسهم في الطريق خلع الكرامة ، وهو إصلاح البال {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ} فهو على ترتيب الوقوع.
(1/4059)

وأما قوله {عَرَّفَهَا لَهُمْ} . ففيه وجوه : أحدها : هو أن كل أحد يعرف منزلته ومأواه ، حتى أن أهل الجنة يكونون أعرف بمنازلهم فيها من أهل الجمعة ينتشرون في الأرض كل أحد يأوي إلى منزله ، ومنهم من قال الملك الموكل بأعماله يهديه الوجه الثاني : {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي طيبها يقال طعام معرف الوجه الثالث : قال الزمخشري يحتمل أن يقال عرفها لهم حددها من عرف الدار وأرفها أي حددها ، وتحديدها في قوله {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (آل عمران : 133) ويحتمل أن يقال المراد هو قوله تعالى : {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا} (الزخرف : 72) مشيراً إليها معرفاً لهم بأنها هي تلك وفيه وجه آخر وهو أن يقال معناه {عَرَّفَهَا لَهُمْ} قبل القتل فإن الشهيد قبل وفاته تعرض عليه منزلته في الجنة فيشتاق إليها ووجه ثان : معناه {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ} ولا حاجة إلى وصفها فإنه تعالى : {عَرَّفَهَا لَهُمْ} مراراً ووصفها ووجه ثالث : وهو من باب تعريف الضالة فإن الله تعالى لما قال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة : 111) فكأنه تعالى قال من يأخذ الجنة ويطلبها بماله أو بنفسه فالذي قتل سمع التعريف وبذل ما طلب منه عليها فأدخلها ، ثم إنه تعالى لما بيّن ما على القتال من الثواب والأجر وعدهم بالنصر في الدنيا زيادة في الحث ليزداد منهم الإقدام فقال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
وفي نصر الله تعالى وجوه : الأول : إن تنصروا دين الله وطريقه والثاني : إن تنصروا حزب الله وفريقه الثالث : المراد نصرة الله حقيقة ، فنقول النصرة تحقيق مطلوب أحد المتعاديين عند الاجتهاد والأخذ في تحقيق علامته ، فالشيطان عدو الله يجتهد في تحقيق الكفر وغلبة أهل الإيمان ، والله يطلب قمع الكفر وإهلاك أهله وإفناء من اختار الإشراك بجهله ، فمن حقق نصرة الله حيث حقق مطلوبه لا تقول حقق مراده فإن مراد الله لا يحققه غيره ، ومطلوبه عند أهل السنة غير مراده فإنه طلب الإيمان من الكافر ولم يرده وإلا لوقع.
ثم قال : {يَنصُرْكُمُ} فإن قيل فعلام قلت إذا نصر المؤمنين الله تعالى ، فقد حقق ما طلبه ، فكيف /يحقق ما طلبه العبد وهو شيء واحد ، فنقول المؤمن ينصر الله بخروجه إلى القتال وإقدامه ، والله ينصره بتقويته وتثبيت أقدامه ، وإرسال الملائكة الحافظين له من خلفه وقدامه ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
هذا زيادة في تقوية قلوبهم ، لأنه تعالى لما قال : {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد : 7) جاز أن يتوهم أن الكافر أيضاً يصير ويثبت للقتال فيدوم القتال والحراب والطعان والضراب ، وفيه المشقة العظيمة فقال تعالى : لكم الثبات ولهم الزوال والتغير والهلاك فلا يكون الثبات ، وسببه ظاهر لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها ولا ثبات عند من له قدرة ، فهي غير صالحة لدفع ما قدره الله تعالى عليهم من الدمار ، وعند هذا لا بد عن زوال القدم والعثار ، وقال في حق المؤمنين {وَيُثَبِّتْ} بصيغة الوعد لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وقال في حقهم بصيغة الدعاء ، وهي أبلغ من صيغة الإخبار من الله لأن عثارهم واجب لأن عدم النصرة من آلهتهم واجب الوقوع إذ لا قدرة لها والتثبيت من الله ليس بواجب الوقوع ، لأنه قادر مختار يفعل ما يشاء.
وقوله {وَأَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ} إشارة إلى بيان مخالفة موتاهم لقتلى المسلمين ، حيث قال في حق قتلاهم {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ} (محمد : 4) وقال في موتى الكافرين {وَأَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ} ثم بيّن الله تعالى سبب ما اختلفوا فيه فقال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
وفيه وجوه الأول : المراد القرآن ، ووجهه هو أن كيفية العمل الصالح لا تعلم بالعقل وإنما تدرك بالشرع والشرع بالقرآن فلما أعرضوا لم يعرفوا العمل الصالح وكيفية الإتيان به ، فأتوا بالباطل فأحبط أعمالهم الثاني : {كَرِهُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من بيان التوحيد كما قال الله تعالى عنهم {اعْتَرَاـاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا} (الصافات : 36) وقال تعالى : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا } إلى أن قال : {إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ} (ص : 5 ـ 7) وقال تعالى : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ } (الزمر : 45) ووجهه أن الشرك محبط للعمل ، قال الله تعالى : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وكيف لا والعمل من المشرك لا يقع لوجه الله فلا بقاء له في نفسه ولا بقاء له ببقاء من له العمل ، لأن ما سوى وجه الله تعالى هالك محبط الثالث : {كَرِهُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من بيان أمر الآخرة فلم يعملوا لها ، والدنيا وما فيها ومآلها باطل ، فأحبط الله أعمالهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
(1/4060)

/فيه مناسبة للوجه الثالث يعني فينظروا إلى حالهم ويعلموا أن الدنيا فانية.
وقوله {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي أهلك عليهم متاع الدنيا من الأموال والأولاد والأزواج والأجساد.
وقوله تعالى : {وَلِلْكَـافِرِينَ أَمْثَـالُهَا} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد لهم أمثالها في الدنيا ، وحينئذ يكون المراد من الكافرين هم الكافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام وثانيهما : أن يكون المراد لهم أمثالها في الآخرة ، فيكون المراد من تقدم كأنه يقول : دمر الله عليهم في الدنيا ولهم في الآخرة أمثالها ، وفي العائد إليه ضمير المؤنث في قوله {أَمْثَـالُهَا} وجهان أحدهما : هو المذكور وهو العاقبة وثانيهما : هو المفهوم وهو العقوبة ، لأن التدمير كان عقوبة لهم ، فإن قيل على قولنا المراد للكافرين بمحمد عليه السلام أمثال ما كان لمن تقدمهم من العاقبة يرد سؤال ، وهو أن الأولين أهلكوا بوقائع شديدة كالزلازل والنيران وغيرهما من الرياح والطوفان ، ولا كذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلّم ، نقول جاز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين لكون دين محمد أظهر بسبب تقدم الأنبياء عليهم السلام عليه وإخبارهم عنه وإنذارهم به على أنهم قتلوا وأسروا بأيديهم من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم والقتل بيد المثل آلم من الهلاك بسبب عام وسؤال آخر : إذا كان الضمير عائداً إلى العاقبة فكيف يكون لها أمثال ؟
قلنا يجوز أن يقال المراد العذاب الذي هو مدلول العاقبة أو الألم الذي كانت العاقبة عليه ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
{ذَالِكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى النصر وهو اختيار جماعة ذكره الواحدي ، ويحتمل وجهاً آخر أغرب من حيث النقل ، وأقرب من حديث العقل ، وهو أنا لما بينا أن قوله تعالى : {وَلِلْكَـافِرِينَ أَمْثَـالُهَا} (محمد : 10) إشارة إلى أن قوم محمد عليه الصلاة والسلام أهكلوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وهو آلم من الهلاك بالسبب العام ، قال تعالى : {ذَالِكَ} أي الإهلاك والهوان بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين ، والكافرون اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر ، وتركوا الله فلا ناصر لهم ولا شك أن من ينصره الله تعالى يقدر على القتل والأسر وإن كان له ألف ناصر فضلاً عن أن يكون لا ناصر لهم ، فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى {لا مَوْلَى لَهُمْ} وبين قوله {مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } (الأنعام : 62) نقول المولى ورد بمعنى السيد والرب والناصر فحيث قال : {لا مَوْلَى لَهُمْ} أراد لا ناصر لهم ، وحيث قال : {مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } أي ربهم ومالكهم ، كما قال : {تُفْلِحُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (النساء : 1) وقال : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 26) /وفي الكلام تباين عظيم بين الكافر والمؤمن لأن المؤمن ينصره الله وهو خير الناصرين ، والكافر لا مولى له بصيغة نافية للجنس ، فليس له ناصر وإنه شر الناصرين ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
لما بيّن الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كثيراً ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم ، والنار سبب الإعدام ، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به ، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها.
المسألة الثانية : ذكرنا مراراً أن من في قوله {مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ، ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر ، فيقال هذا النهر منبعه من أين ؟
يقال من عين كذا من تحت جبل كذا.
(1/4061)

لمسألة الثالثة : قال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضاً له التمتع بالدنيا وطيباتها ، نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئاً يسيراً أيضاً لا يذكر إلا بالملك العظيم ، يقال في حق الملك العظيم صاحب الضيعة الفلانية ومن لا يملك إلا شيئاً يسيراً فلا يذكر إلا به ، فالمؤمن له ملك الجنة فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقه والكافر ليس له إلا الدنيا ، ووجه آخر : الدنيا للمؤمن سجن كيف كان ، ومن يأكل في السجن لا يقال إنه يتمتع ، فإن قيل كيف تكون الدنيا سجناً مع ما فيها من الطيبات ؟
نقول للمؤمن في الآخرة طيبات معدة وإخوان مكرمون نسبتها ونسبتهم إلى الدنيا ومن فيها تتبين بمثال ، وهو أن من يكون له بستان فيه من كل الثمرات الطيبة في غاية اللذة وأنهار جارية في غاية الصفاء ودور وغرف في غاية الرفعة وأولاده فيها ، وهو قد غاب عنهم سنين ثم توجه إليهم وهم فيها ، فلما قرب منهم عوق في أجمة فيها من بعض الثمار العفصة والمياه الكدرة ، وفيها سباع وحشرات كثيرة ، فهل يكون حاله فيها كحال مسجون في بئر مظلمة وفي بيت خراب أم لا ؟
وهل يجوز أن يقال له اترك ما هو لك وتعلل بهذه الثمار وهذه الأنهار أم لا ؟
. /كذلك حال المؤمن ، وأما الكافر فحاله كحال من يقدم إلى القتل فيصبر عليه أياماً في مثل تلك الأجمة التي ذكرناها يكون في جنة ، ونسبة الدنيا إلى الجنة والنار دون ما ذكرنا من المثال ، لكنه ينبىء ذا البال ، عن حقيقة الحال.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
وقوله تعالى : {كَمَا تَأْكُلُ الانْعَـامُ} يحتمل وجوهاً أحدها : أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحاً ويقوى عليه وثانيها : الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك وثالثها : الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر ، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك ، وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى : {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} .
المسألة الرابعة : قال في حق المؤمن {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ} بصيغة الوعد ، وقال في حق الكافر {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} بصيغة تنبىء عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق ، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم ، والمعذب من غير استحقاق ظالم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
لما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ} (محمد : 10) ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبي عليه السلام مثلاً تسلية له فقال : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـاهُمْ} وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم ، فاصبر كما صبر رسلهم ، وقوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} قال الزمخشري كيف قوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} مع أن الإهلاك ماض ، وقوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} للحال والاستقبال ؟
والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر ، ويحتمل أن يقال أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه ، ويحتمل أن يقال قوله {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
(1/4062)

اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن إهلاك الكفار ونصرة /النبي عليه السلام في الدنيا محقق ، وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن ، وقوله {عَلَى بَيِّنَةٍ} فرق فارق ، وقوله {مِّن رَّبِّه } مكمل له ، وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولاً لا دليل عليه ، فإذا كانت البينة منزلة من الله تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر ، ويحتمل أن يقال قوله {مِّن رَّبِّه } ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله {يَهْدِى مَن يَشَآءُ} (المدثر : 31) وقولنا الهداية من الله ، وكذلك قوله تعالى : {كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه } فرق فارق ، وقوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} تكملة وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله ، لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق ، فيكون أقرب إلى من هو على البرهان ، وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد ، فإذن حصل النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة ، والكافر له الشبهة وهو مع الله وأولئك مع الهوى وعلى قولنا {مِّن رَّبِّه } معناه الإضافة إلى الله ، كقولنا الهداية من الله ، فقوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى : {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } (النساء : 79) وقوله {كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه } بصيغة التوحيد محمول على لفظة من ، وقوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} محمول على معناه فإنها للجميع والعموم ، وذلك لأن التزيين للكل على حد واحد فحمل على اللفظ لقربه منه في الحس والذكر ، وعند اتباع الهوى كل أحد يتبع هوى نفسه ، فظهر التعدد فحمل على المعنى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
قوله تعالى : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } .
لما بيّن الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال بيّن الفرق بينهما في مرجعهما ومآلهما ، وكما قدم من على البينة في الذكر على من اتبع هواه ، قدم حاله في مآله على حال من هو بخلاف حاله ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} يستدعي أمراً يمثل به فما هو ؟
نقول فيه وجوه : الأول : قول سيبويه حيث قال المثل هو الوصف معناه وصف الجنة ، وذلك لا يقتضي ممثلاً به ، وعلى هذا ففيه احتمالان أحدهما : أن يكون الخبر محذوفاً ويكون {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} مبتدأ تقديره فيما قصصناه مثل الجنة ، ثم يستأنف ويقول {فِيهَآ أَنْهَـارٌ} ، وكذلك القول في سورة الرعد يكون قوله تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } (الرعد : 35) ابتداء بيان والاحتمال الثاني : أن يكون فيها أنهار وقوله {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} خبراً كما يقال صف لي زيداً ، فيقول القائل : زيد أحمر قصير ، والقول الثاني : أن المثل زيادة والتقدير : الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار. الوجه الثاني : ههنا الممثل به محذوف غير /مذكور وهو يحتمل قولين أحدهما : قال الزجاج حيث قال : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} جنة تجري {فِيهَآ أَنْهَـارٌ} كما يقال مثل زيد رجل طويل أسمر فيذكر عين صفات زيد في رجل منكر لا يكون هو في الحقيقة إلا زيداً الثاني : من القولين هو أن يقال معناه {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } مثل عجيب ، أو شيء عظيم أو مثل ذلك ، وعلى هذا يكون قوله {فِيهَآ أَنْهَـارٌ} كلاماً مستأنفاً محققاً لقولنا مثل عجيب الوجه الثالث : الممثل به مذكور وهو قول الزمخشري حيث قال : {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ} مشبه به على طريقة الإنكار ، وحينئذ فهذا كقول القائل حركات زيد أو أخلاقه كعمرو ، وكذلك على أحد التأويلين ، إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر ، وكذلك على أحد التأويلين ، إما على تأويل كحركات عمرو أو على تأويل زيد في حركاته كعمر ، وكذلك ههنا كأنه تعالى قال : مثل الجنة كمن هو خالد في النار ، وهذا أقصى ما يمكن أن يقرر به قول الزمخشري ، وعلى هذا فقوله تعالى : {فِيهَآ أَنْهَـارٌ} وما بعد هذا جمل اعتراضية وقعت بين المبتدأ والخبر كما يقال نظير زيد فيه مروءة وعنده علم وله أصل عمرو.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
ثم قال تعالى : {فِيهَآ أَنْهَـارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُه وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ وَأَنْهَـارٌ مِّنْ} .
(1/4063)

اختار الأنهار من الأجناس الأربعة ، وذلك لأن المشروب إما أن يشرب لطعمه ، وإما أن يشرب لأمر غير عائد إلى الطعم ، فإن كان للطعم فالطعوم تسعة : المر والمالح والحريف والحامض والعفص والقابض والتفه والحلو والدسم ألذها الحلو والدسم ، لكن أحلى الأشياء العسل فذكره وأما أدسم الأشياء فالدهن ، لكن الدسومة إذا تمحضت لا تطيب للأكل ولا للشرب ، فإن الدهن لا يؤكل ولا يشرب كما هو في الغالب/ وأما اللبن فيه الدسم الكائن في غيره وهو طيب للأكل وبه تغذية الحيوان أولاً فذكره الله تعالى ، وأما ما يشرب لا لأمر عائد إلى الطعم فالماء والخمر فإن الخمر فيها أمر يشربها الشارب لأجله ، هي كريهة الطعم باتفاق من يشربها وحصول التواتر به ثم عرى كل واحد من الأشياء الأربعة عن صفات النقص التي هي فيها وتتغير بها الدنيا فالماء يتغير يقال أسن الماء يأسن على وزن أمن يأمن فهو آسن وأسن اللبن إذا بقي زماناً تغير طعمه ، والخمر يكرهه الشارب عند الشرب ، والعسل يشوبه أجزاء من الشمع ومن النحل يموت فيه كثيراً ، ثم إن الله تعالى خلط الجنسين فذكر الماء الذي يشرب لا للطعم وهو عام الشرب ، وقرن به اللبن الذي يشرب لطعمه وهو عام الشرب إذ ما من أحد إلا وكان شربه اللبن ، ثم ذكر الخمر الذي يشرب لا للطعم وهو قليل الشرب ، وقرن به العسل الذي يشرب للطعم وهو قليل الشرب ، فإن قيل العسل /لا يشرب ، نقول شراب الجلاب لم يكن إلا من العسل والسكر قريب الزمان ، ألا ترى أن السكنجبين من "سركه وانكبين" وهو الخل والعسل بالفارسية كما أن استخراجه كان أولاً من الخل والعسل ولم يعرف السكر إلا في زمان متأخر ، ولأن العسل اسم يطلق على غير عسل النحل حتى يقال عسل النحل للتمييز والله أعلم.
المسألة الثانية : قال في الخمر {لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفى للناظرين لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر ، فقال : {لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} بأسرهم ولأن الخمر كريهة الطعم فقال : {لَذَّةٍ} أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم ، وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس ، فإن الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد كذلك ، لكنه قد يعافه بعض الناس ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أن له طعماً واحداً وكذلك اللون فلم يكن إلى التصريح بالتعميم حاجة ، وقوله {لَذَّةٍ} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون تأنيث لذ يقال طعام لذ ولذيذ وأطعمة لذة ولذيذة وثانيهما : أن يكون ذلك وصفاً بنفس المعنى لا بالمشتق منه كما يقال للحليم هو حلم كله وللعاقل كله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
ثم قال تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } .
بعد ذكر المشروب أشار إلى المأكول ، ولما كان في الجنة الأكل للذة لا للحاجة ذكر الثمار فإنها تؤكل للذة بخلاف الخبز واللحم ، وهذا كقوله تعالى في سورة الرعد {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُا أُكُلُهَا دَآاـاِمٌ وَظِلُّهَا } (الرعد : 35) حيث أشار إلى المأكول والمشروب ، وههنا لطيفة وهي أنه تعالى قال فيها {وَظِلُّهَا } ولم يقل ههنا ذلك ، نقول قال ههنا {وَمَغْفِرَةٌ} والظل فيه معنى الستر والمغفرة كذلك ، ولأن المغفور تحت نظر من رحمة الغافر يقال نحن تحت ظل الأمير ، وظلها هو رحمة الله ومغفرته حيث لا يمسهم حر ولا برد.
المسألة الثالثة : المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة فكيف يكون لهم فيها مغفرة ؟
فنقول الجواب عنه من وجهين : الأول : ليس بلازم أن يكون المعنى لهم مغفرة من ربهم فيها ، بل يكون عطفاً على قوله (لهم) كأنه تعالى قال لهم الثمرات فيها ولهم المغفرة قبل دخولها والثاني : هو أن يكون المعنى لهم فيها مغفرة أي رفع التكليف عنهم فيأكلون من غير حساب بخلاف الدنيا فإن الثمار فيها على حساب أو عقاب ، ووجه آخر وهو أن الآكل في الدنيا لا يخلو عن استنتاج قبيح أو مكروه كمرض أو حاجة إلى تبرز ، فقال : {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ} لا قبيح على الآكل بل مستور القبائح مغفور ، وهذا استفدته من المعلمين في بلادنا فإنهم يعودون الصبيان بأن يقولون /وقت حاجتهم إلى إراقة البول وغيره : يا معلم غفر الله لك ، فيفهم المعلم أنهم يطلبون الإذن في الخروج لقضاء الحاجة فيأذن لهم ، فقلت في نفسي معناه هو أن الله تعالى في الجنة غفر لمن أكل ، وأما في الدنيا ، فلأن للأكل توابع ولوازم لا بد منها فيفهم من قولهم حاجتهم.
ثم قال تعالى : {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} وفيه أيضاً مسائل :
(1/4064)

المسألة الأولى : على قول من قال : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} معناه وصف الجنة فقوله {كَمَنْ هُوَ} بماذا يتعلق ؟
نقول قوله {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يتضمن كونهم فيها فكأنه قال هو فيها كمن هو خالد في النار ، فالمشبه يكون محذوفاً مدلولاً عليه بما سبق ، ويحتمل أن يقال ما قيل في تقرير قول الزمخشري أن المراد هذه الجنة التي مثلها ما ذكرنا كمقام من هو خالد في النار.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثانية : قال الزجاج قوله تعالى : {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ} راجع إلى ما تقدم كأنه تعالى قال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار فهل هو صحيح أم لا ؟
نقول لنا نظر إلى اللفظ فيمكن تصحيحه بتعسف ونظر إلى المعنى لا يصح إلا بأن يعود إلى ما ذكرناه ، أما التصحيح فبحذف كمن في المرة الثانية أو جعله بدلاً عن المتقدم أو بإضمار عاطف يعطف {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ} على {كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه } أو {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ} ، وأما التعسف فبيّن نظراً إلى الحذف وإلى الإضمار مع الفاصل الطويل بين المشبه والمشبه به ، وأما طريقة البدل ففاسدة وإلا لكان الاعتماد على الثاني فيكون كأنه قال : أفمن كان على بينة كمن هو خالد ؟
وهو سمج في التشبيه تعالى كلام الله عن ذلك ، والقول في إضمار العاطف كذلك لأن المعطوف أيضاً يصير مستقلاً في التشبيه ، اللّهم إلا أن يقال المجموع بالمجموع كأنه يقول : أفمن كان على بينة من ربه ، وهو في الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار ، كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار ، وعلى هذا تقع المقابلة بين من هو على بينة من ربه ، وبين من زين له سوء عمله ، وبين من في الجنة وبين من هو خالد في النار ، وقد ذكرناه فلا حاجة إلى خلط الآية بالآية ، وكيف وعلى ما قاله تقع المقابلة بين من هو في النار وسقوا ماءً حميماً وبين من هو على بينة من ربه وأية مناسبة بينهما ، بخلاف ما ذكرناه من الوجوه الأخر فإن المقابلة بين الجنة التي فيها الأنهار وبين النار التي فيها الماء الحميم وذلك تشبيه إنكار مناسب.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الثالثة : قال : {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ} حملاً على اللفظ الواحد وقال : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا} على المعنى وهو جمع وكذلك قال من قبل {كَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه } (محمد : 14) على التوحيد والإفراد {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} على الجمع فما الوجه فيه ؟
نقول المسند إلى من إذا كان متصلاً فرعاية اللفظ أولى لأنه هو المسموع ، إذا كان مع انفصال فالعود إلى المعنى أولاً ، لأن اللفظ لا يبقى في السمع ، والمعنى يبقى في ذهن /السامع فالحمل في الثاني على المعنى أولى وحمل الأول على اللفظ أولى ، فإن قيل كيف قال في سائر المواضع {مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} (سبأ : 37) و{فَمَن تَابَ مِنا بَعْدِ ظُلْمِه وَأَصْلَحَ} (المائدة : 39) ؟
نقول إذا كان المعطوف مفرداً أو شبيهاً بالمعطوف عليه في المعنى فالأولى أن يختلفا كما ذكرت فإنه عطف مفرد على مفرد وكذلك لو قال : كمن هو خالد في النار ومعذب فيها لأن المشابهة تنافي المخالفة ، وأما إذا لم يكن كذلك كما في هذا الموضع ، فإن قوله {السَّمَآءِ مَآءَ } جملة غير مشابهة لقوله {هُوَ خَـالِدٌ} وقوله تعالى : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا} بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن/ ولهم ماء حميم ، فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت ، وقد ذكرت البعض وقلت بأن قوله {عَلَى بَيِّنَةٍ} في مقابلة {زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه } و{مِّن رَّبِّه } في مقابلة قوله {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} والجنة في مقابلة النار في قوله {خَـالِدٌ فِى النَّارِ} والماء الحميم في مقابلة الأنهار ، فأين ما يقابل قوله {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ} فنقول تقطع الأمعاء في مقابلة مغفرة لأنا بينا على أحد الوجوه أن المغفرة التي في الجنة هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة والأمراض وغيرها ، كأنه قال : للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة ، وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم ، وأما الثمار فلم يذكر مقابلها ، لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زايد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المسألة الرابعة : الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة ، وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة ، وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع ، فإن قيل قوله تعالى : {فَقَطَّعَ} بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر ، نقول نعم ، لكنه لا يقتضي أن يقال : يقطع ، لأنه ماء حميم فحسب ، بل ماء حميم مخصوص يقطع. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
(1/4065)

لما بيّن الله تعالى حال الكافر ذكر حال المنافق بأنه من الكفار ، وقوله {وَمِنْهُمُ} يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الناس ، كما قال تعالى في سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} (البقرة : 8) بعد ذكر الكفار ، ويحتمل أن يكون راجعاً إلى أهل مكة ، لأن ذكرهم سبق في قوله تعالى : {هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَـاهُمْ} (محمد : 13) ويحتمل أن يكون راجعاً إلى معنى قوله {كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا} (محمد : 15) يعني ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك ، وقوله {حَتَّى ا إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ} على ما ذكرنا حمل على المعنى الذي هو الجمع ، ويستمع حمل على اللفظ ، وقد سبق التحقيق فيه ، وقوله {حَتَّى } للعطف في قول المفسرين ، وعلى هذا فالعطف بحتى لا يحسن إلا إذا كان المعطوف جزءاً من المعطوف عليه إما أعلاه أو دونه ، كقول القائل : أكرمني الناس حتى الملك ، وجاء الحاج حتى المشاة ، وفي الجملة ينبغي أن يكون المعطوف عليه من حيث المعنى ، ولا يشترط في العطف بالواو ذلك ، فيجوز أن تقول في الواو : جاء الحاج وما علمت ، ولا يجوز مثل ذلك في حتى ، إذا علمت هذا فوجه التعلق ههنا هو أن قوله {حَتَّى ا إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ} يفيد معنى زائداً في الاستماع كأنه يقول : يستمعون استماعاً بالغاً جيداً ، لأنهم يستمعون وإذا خرجوا يستعيدون من العلماء كما يفعله المجتهد في التعلم الطالب للتفهم ، فإن قلت فعلى هذا يكون هذا صفة مدح لهم ، وهو ذكرهم في معرض الذم ، نقول يتميز بما بعده ، وهو أحد أمرين : إما كونهم بذلك مستهزئين ، كالذكي يقول للبليد : أعد كلامك حتى أفهمه ، ويرى في نفسه أنه مستمع إليه غاية الاستماع ، وكل أحد يعلم أنه مستهزىء غير مستفيد ولا مستعيد ، وإما كونهم لا يفهمون مع أنهم يستمعون ويستعيدون ، ويناسب هذا الثاني قوله تعالى : {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـافِرِينَ} (الأعراف : 101) ، والأول : يؤكده قوله تعالى : {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} (البقرة : 14).والثاني : يؤكده قوله تعالى : {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } (الحجرات : 14) وقوله {ءَانِفًا } قال بعض المفسرين : معناه الساعة ، ومنه الاستئناف وهو الابتداء ، فعلى هذا فالأولى أن يقال يقولون ماذا قال آنفاً بمعنى أنهم يستعيدون كلامه من الابتداء ، كما يقول المستعيد للمعيد : أعد كلامك من الابتداء حتى لا يفوتني شيء منه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
ثم قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ} .
أي تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم ، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة واتبعوا ضده ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
لما بيّن الله تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع ، ويستعيد ولا يستفيد ، بين أن حال المؤمن المهتدي بخلافه ، فإنه يستمع فيفهم ، ويعمل بما يعلم ، والمنافق يستعيد ، والمهتدي يفسر ويعيد ، وفيه فائدتان إحداهما : ما ذكرنا من بيان التباين بين الفريقين وثانيهما : قطع عذر المنافق وإيضاح كونه مذموم الطريقة ، فإنه لو قال ما فهمته لغموضه وكونه معمى ، يرد عليه ويقول ليس /كذلك ، فإن المهتدي فهم واستنبط لوازمه وتوابعه ، فذلك لعماء القلوب ، لا لخفاء المطلوب وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفاعل للزيادة في قوله {زَادَهُمْ} ؟
نقول فيه وجوه الأول : المسموع من النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الله وكلام الرسول يدل عليه قوله {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (محمد : 16) فإنه يدل على مسموع ، والمقصود بيان التباين بين الفريقين ، فكأنه قال : هم لم يفهموه ، وهؤلاء فهموه والثاني : أن الله تعالى زادهم ويدل عليه قوله تعالى : { أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (محمد : 16) وكأنه تعالى طبع على قلوبهم فزادهم عمى ، والمهتدين زاده هدىً والثالث : استهزاء المنافق زاد المهتدي هدى ، ووجهه أنه تعالى لما قال : {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم} قال : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ} اتباعهم الهدى هدى ، فإنهم استقبحوا فعلهم فاجتنبوه.
(1/4066)

المسألة الثانية : ما معنى قوله {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } ؟
نقول فيه وجوه منقولة ومستنبطة ، أما المنقولة فنقول : قيل فيه إن المراد آتاهم ثواب تقواهم ، وقيل آتاهم نفس تقواهم من غير إضمار ، يعني بيّن لهم التقوى ، وقيل آتاهم توفيق العمل بما علموا. وأما المستنبط فنقول : يحتمل أن يكون المراد به بيان حال المستمعين للقرآن الفاهمين لمعانيه المفسرين له بياناً لغاية الخلاف بين المنافق ، فإنه استمع ولم يفهمه ، وستعاد ولم يعلمه ، والمهتدي فإنه علمه وبينه لغيره ، ويدل عليه قوله تعالى : {زَادَهُمْ هُدًى} ولم يقل اهتداء ، والهدى مصدر من هدى ، قال الله تعالى : {فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) أي خذ بما هدوا واهتد كما هدوا ، وعلى هذا فقوله تعالى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } معناه جنبهم عن القول في القرآن بغير برهان ، وحملهم على الاتقاء من التفسير بالرأي ، وعلى هذا فقوله {زَادَهُمْ هُدًى} معناه كانوا مهتدين فزادهم على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين ويحتمل أن يقال قوله {زَادَهُمْ هُدًى} إشارة إلى العلم {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } إشارة إلى الأخذ بالاحتياط فيما لم يعلموه ، وهو مستنبط من قوله تعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا } (الزمر : 17 ، 18) وقوله { والراسخون فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه } (آل عمران : 7).
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
المعنى الثالث : يحتمل أن يكون المراد بيان أن المخلص على خطر فهو أخشى من غيره ، وتحقيقه هو أنه لما قال : {زَادَهُمْ هُدًى} أفاد أنهم ازداد علمهم ، وقال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) فقال آتاهم خشيتهم التي يفيدها العلم.
والمعنى الرابع : تقواهم من يوم القيامة كما قال تعالى : {كَفُورٍ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه } (لقمان : 33) ويدل عليه قوله تعالى : {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً } (محمد : 18) كأن ذكر الساعة عقيب التقوى يدل عليه.
المعنى الخامس : آتاهم تقواهم ، التقوى التي تليق بالمؤمن ، وهي التقوى التي لا يخاف معها لومة لائم.
/ثم قال تعالى : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ } (الأحزاب : 39) وكذلك قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (الأحزاب : 1) وهذا الوجه مناسب لأن الآية لبيان تباين الفريقين ، وهذا يحقق ذلك ، من حيث إن المنافق كان يخشى الناس وهم الفريقان ، المؤمنون والكافرون فكان يتردد بينهما ويرضي الفريقين ويسخط الله فقال الله تعالى المؤمن المهتدي بخلاف المنافق حيث علم ذاك ولم يعلم ذلك واتقى الله لا غير ، واتقى ذلك غير الله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
يعني الكافرون والمنافقون لا ينظرون إلا الساعة ، وذلك لأن البراهين قد صحت والأمور قد اتضحت وهم لم يؤمنوا فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة وهو من قبيل بدل الاشتمال على تقدير لا ينظرون إلا الساعة إتيانها بغتة ، وقرىء {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم} على الشرط وجزاؤه لا ينفعهم ذكراهم ، يدل عليه قوله تعالى : {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاـاهُمْ} ، وقد ذكرنا أن القيامة سميت بالساعة لساعة الأمور الواقعة فيها من البعث والحشر والحساب.
وقوله {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } يحتمل وجهين أحدهما : لبيان غاية عنادهم وتحقيقه هو أن الدلائل لما ظهرت ولم يؤمنوا لم يبق إلا إيمان اليأس وهو عند قيام الساعة لكن أشراطها بانت فكان ينبغي أن يؤمنوا ولم يؤمنوا فهم في لجة الفساد وغاية العناد ثانيهما : يكون لتسلية قلوب المؤمنين كأنه تعالى لما قال : {فَهَلْ يَنظُرُونَ} فهم منه تعذيبهم والساعة عند العوام مستبطأة فكأن قائلاً قال متى الساعة ؟
فقد جاء أشراطها كقوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} (القمر : 1) والأشراط العلامات ، قال المفسرون هي مثل انشقاق القمر ورسالة محمد عليه السلام ، ويحتمل أن يقال معنى الأشراط البينات الموضحة لجواز الحشر ، مثل خلق الإنسان ابتداء وخلق السموات والأرض ، كما قال تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81) والأول هو التفسير.
(1/4067)

ثم قال تعالى : {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاـاهُمْ} يعني لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان ، والمراد فكيف لهم الحال إذا جاءتهم ذكراهم ، ومعنى ذلك يحتمل أن يكون هو قوله تعالى : {هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء : 103) {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} (الصافات : 21) فيذكرون به للتحسر ، وكذلك قوله تعالى : {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ} (الزمر : 71).
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
/ولبيان المناسبة وجوه الأول : هو أنه تعالى لما قال : {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } (محمد : 18) قال : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} يأتي بالساعة ، كما قال تعالى : {أَزِفَتِ الازِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} ، وثانيها : {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } وهي آتية فكأن قائلاً قال متى هذا ؟
فقال : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} فلا تشتغل به واشتغل بما عليك من الاستغفار ، وكن في أي وقت مستعداً للقائها ويناسبه قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} ، الثالث : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} ينفعك ، فإن قيل النبي عليه الصلاة والسلام كان عالماً بذلك فما معنى الأمر ، نقول عنه من وجهين أحدهما : فاثبت على ما أنت عليه من العلم كقول القائل لجالس يريد القيام : اجلس أي لا تقم ثانيهما : الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام ، والمراد قومه والضمير في أنه للشأن ، وتقدير هذا هو أنه عليه السلام لما دعا القوم إلى الإيمان ولم يؤمنوا ولم يبق شيء يحملهم على الإيمان إلا ظهور الأمر بالبعث والنشور ، وكان ذلك مما يحزن النبي عليه الصلاة والسلام ، فسلى قلبه وقال أنت كامل في نفسك مكمل لغيرك فإن لم يكمل بك قوم لم يرد الله تعالى بهم خيراً فأنت في نفسك عامل بعلمك وعلمك حيث تعلم أن الله واحد وتستغفر وأنت بحمد الله مكمل وتكمل المؤمنين والمؤمنات وأنت تستغفر لهم ، فقد حصل لك الوصفان ، فاثبت على ما أنت عليه ، ولا يحزنك كفرهم ، وقوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون الخطاب معه والمراد المؤمنون وهو بعيد لإفراد المؤمنين والمؤمنات بالذكر. وقال بعض الناس {لِذَنابِكِ} أي لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات أي الذين ليسوا منك بأهل بيت وثالثهما : المراد هو النبي والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحاشاه من ذلك وثالثها : وجه حسن مستنبط وهو أن المراد توفيق العمل الحسن واجتناب العمل السيء ، ووجهه أن الاستغفار طلب الغفران ، والغفران هو الستر على القبيح ومن عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى ، ومعنى طلب الغفران أن لا تفضحنا وذلك قد يكون بالعصمة منه فلا يقع فيه كما كان للنبي صلى الله عليه وسلّم وقد يكون بالستر عليه بعد الوجود كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات ، وفي هذه الآية لطيفة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلّم له أحوال ثلاثة حال مع الله وحال مع نفسه وحال مع غيره ، فأما مع الله وحده ، وأما مع نفسك فاستغفر لذنبك واطلب العصمة من الله ، وأما مع المؤمنين فاستغفر لهم واطلب الغفران لهم من الله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاـاكُمْ} يعني حالكم في الدنيا وفي الآخرة وحالكم في الليل والنهار.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
/لما بيّن الله حال المنافق والكافر والمهتدي المؤمن عند استماع الآيات العلمية من التوحيد والحشر وغيرهما بقوله {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (محمد : 16) وقوله {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) بين حالهم في الآيات العملية ، فإن المؤمن كان ينتظر ورودها ويطلب تنزيلها وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها ، والمنافق إذا نزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ، ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل ، حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العمل ، والمؤمن يعلم ويحب العمل وقولهم {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } المراد منه سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق.
(1/4068)

ثم إنه تعالى أنزل سورة فيها القتال فإنه أشق تكليف وقوله {سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ} فيها وجوه : أحدها : سورة لم تنسخ ثانيها : سورة فيها ألفاظ أُريدت حقائقها بخلاف قوله {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) وقوله {فِى جَنابِ اللَّهِ} (الزمر : 56) فإن قوله تعالى : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد : 4) أراد القتل وهو أبلغ من قوله {فَاقْتُلُوهُمْ } (البقرة : 191) وقوله {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (النساء : 91) صريح وكذلك غير هذا من آيات القتال وعلى الوجهين فقوله {مُّحْكَمَةٌ} فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه ، أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل ، وقوله {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي المنافقين {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة ، فإنهم قيل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك {فَأَوْلَى لَهُمْ} دعاء كقول القائل فويلٌ لهم ، ويحتمل أن يكون هو خبر لمبتدأ محذوف سبق ذكره وهو الموت كأن الله تعالى لما قال : {نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } قال فالموت أولى لهم ، لأن الحياة التي لا في طاعة الله ورسوله الموت خير منها ، وقال الواحدي يجوز أن يكون المعنى فأولى لهم طاعة أي الطاعة أولى لهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
ثم قال تعالى : {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } .
كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خير لهم أي أحسن وأمثل ، لا يقال طاعة نكرة لا تصلح /للابتداء ، لأنا نقول هي موصوفة بدل عليه قوله {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } فإنه موصوف فكأنه تعالى قال : {طَاعَةٌ} مخلصة {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } خير ، وقيل معناه قالوا {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي قولهم أمرنا {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } ويدل عليه قراءة أُبي {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } .
وقوله {فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} .
جوابه محذوف تقديره {فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ} خالفوا وتخلفوا ، وهو مناسب لمعنى قراءة أُبي كأنه يقول في أول الأمر قالوا سمعاً وطاعة ، وعند آخر الأمر خالفوا وأخلفوا موعدهم ، ونسب العزم إلى الأمر والعزم لصاحب الأمر معناه : فإذا عزم صاحب الأمر. هذا قول الزمخشري ، ويحتمل أن يقال هو مجاز كقولنا جاء الأمر وولى فإن الأمر في الأول يتوقع أن لا يقع وعند إظلاله وعجز الكاره عن إبطاله فهو واقع فقال {عَزَمَ} والوجهان متقاربان ، وقوله تعالى : {فَلَوْ صَدَقُوا } فيه وجهان على قولنا المراد من قوله طاعة أنهم قالوا طاعة فمعناه لو صدقوا في ذلك القول وأطاعوا {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} وعلى قولنا {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } خير لهم وأحسن ، فمعناه {فَلَوْ صَدَقُوا } في إيمانهم واتباعهم الرسول {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
0
وهذه الآية فيها إشارة إلى فساد قول قالوه ، وهو أنهم كانوا يقولون كيف نقاتل والقتل إفساد والعرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا ؟
فقال تعالى : {إِن تَوَلَّيْتُمْ} لا يقع منكم إلا الفساد في الأرض فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنهبونه والقتال واقع بينكم ، أليس قتلكم البنات إفساداً وقطعاً للرحم ؟
فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله وهذا طاعة وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في استعمال عسى ثلاثة مذاهب أحدها : الإتيان بها على صورة فعل ماضٍ معه فاعل تقول عسى زيد وعسينا وعسوا وعسيت وعسيتما وعسيتم وعست وعستا والثاني : أن يؤتى بها على صورة فعل مع مفعول تقول عساه وعساهما وعساك وعساكما وعساي وعسانا. والثالث : الإتيان بها من غير أن يقرن بها شيء تقول عسى زيد يخرج وعسى أنت تخرج وعسى أنا أخرج والكل له وجه وما عليه كلام الله أوجه ، وذلك لأن عسى من الأفعال الجامدة واقتران الفاعل بالفعل أولى من اقتران المفعول لأن الفاعل كالجزء من الفعل ولهذا لم يجز فيه أربع متحركات في مثل قول القائل نصرت وجوز في مثل قولهم نصرك ولأن كل فعل له فاعل سواء كان لازماً أو متعدياً ولا كذلك المفعول به ، فعسيت وعساك كعصيت وعصاك في اقتران الفاعل بالفعل /والمفعول به ، وأما قول من قال عسى أنت تقوم وعسى أن أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه.
المسألة الثانية : الاستفهام للتقرير المؤكد ، فإنه لو قال على سبيل الإخبار {عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} لكان للمخاطب أن ينكره فإذا قال بصيغة الاستفهام كأنه يقول أنا أسألك عن هذا وأنت لا تقدر أن تجيب إلا بلا أو نعم ، فهو مقرر عندك وعندي.
(1/4069)

المسألة الثالثة : عسى للتوقيع والله تعالى عالم بكل شيء فنقول فيه ما قلنا في لعل ، وفي قوله {لِنَبْلُوَهُمْ} (الكهف : 7) إن بعض الناس قال يفعل بكم فعل المترجي والمبتلي والمتوقع ، وقال آخرون كل من ينظر إليهم يتوقع منهم ذلك ونحن قلنا محمول على الحقيقة وذلك لأن الفعل إذا كان ممكناً في نفسه فالنظر إليه غير مستلزم لأمر ، وإنما الأمر يجوز أن يحصل منه تارة ولا يحصل منه أخرى فيكون الفعل لذلك الأمر المطلوب على سبيل الترجي سواء كان الفاعل يعلم حصول الأمر منه وسواء أن لم يكن يعلم ، مثاله من نصب شبكة لاصطياد الصيد يقال هو متوقع لذلك فإن حصل له العلم بوقوعه فيه بإخبار صادق أنه سيقع فيه أو بطريق أخرى لا يخرج عن التوقع ، غاية ما في الباب أن في الشاهد لم يحصل لنا العلم فيما نتوقعه فيظن أن عدم العلم لازم للمتوقع ، وليس كذلك بل المتوقع هو المنتظر لأمر ليس بواجب الوقوع نظراً لذلك الأمر فحسب سواء كان له به علم أو لم يكن وقوله {إِن تَوَلَّيْتُمْ} فيه وجهان : أحدهما : أنه من الولاية يعني إن أخذتم الولاية وصار الناس بأمركم أفسدتم وقطعتم الأرحام وثانيهما : هو من التولي الذي هو الإعراض وهذا مناسب لما ذكرنا ، أي كنتم تتركون القتال وتقولون فيه الإفساد وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء كما كان عادة العرب الأول : يؤكده قراءة علي عليه السلام توليتم ، أي إن تولاكم ولاة ظلمة جفاة غشمة ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم معهم وقطعتم أرحامكم ، والنبي عليه السلام لا يأمركم إلا بالإصلاح وصلة الأرحام ، فلم تتقاعدون عن القتال وتتباعدون في الضلال.
جزء : 28 رقم الصفحة : 32
56
إشارة لمن سبق ذكرهم من المنافقين أبعدهم الله عنه أو عن الخير فأصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين وأعماهم فلا يتبعون الصراط المستقيم ، وفيه ترتيب حسن ، وذلك من حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم بالنسبة إليه صم أصمهم الله وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفساداً وقطعاً للرحم وهم كانوا يتعاطونه عند النهي عنه فلم يروا حالهم عليه وتركوا اتباع النبي الذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي أعماهم الله ، وفيه لطيفة : وهي أن الله تعالى قال أصمهم ولم يقل أصم آذانهم ، وقال : {وَأَعْمَى ا أَبْصَـارَهُمْ} ولم يقل أعماهم ، وذلك لأن العين آلة الرؤية ولو أصابها آفة لا يحصل الإبصار والأذن لو أصابها آفة من قطع أو قلع تسمع الكلام ، لأن الأذن خلقت وخلق فيها تعاريج ليكثر فيها الهواء المتموج ولا يقرع الصماخ بعنف فيؤذي كما يؤذي الصوت القوي فقال : من غير ذكر الأذن ، وقال : {وَأَعْمَى ا أَبْصَـارَهُمْ} مع ذكر العين لأن البصر ههنا بمعنى العين ، ولهذا جمعه بالأبصار ، ولو كان مصدراً لما جمع فلم يذكر الأذن إذ لا مدخل لها في الإصمام ، والعين لها مدخل في الرؤية بل هي الكل ، ويدل عليه أن الآفة في غير هذه المواضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً ، كما قال تعالى : {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى } (فصلت : 5) وقال : {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا } (لقمان : 7) والوقر دون الصم وكذلك الطرش.
جزء : 28 رقم الصفحة : 56
0
ولنذكر تفسيرها في مسائل :
المسألة الأولى : لما قال الله تعالى : {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى ا أَبْصَـارَهُمْ} (محمد : 23) كيف يمكنهم التدبر في القرآن قال تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} وهو كقول القائل للأعمى أبصر وللأصم اسمع ؟
فنقول الجواب : عنه من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من البعض الأول : تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم أنه لا يؤمن بأن يؤمن ، فكذلك جاز أن يعميهم ويذمهم على ترك التدبر الثاني : أن قوله {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} المراد منه الناس الثالث : أن نقول هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدمة ، فإنه تعالى قال : {أَوالَـا اـاِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} (محمد : 23) أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة {فَأَصَمَّهُمْ} لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام فإذن هم بين أمرين ، إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه ، لأن الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق ، والقرآن منهما الصنف الأعلى بل النوع الأشرف ، وأما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة ، تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعودين ، أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون ، وعلى هذا لا نحتاج أن نقول أم بمعنى بل ، بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة في وسط الكلام والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر ، وأم دخلت على القلوب التي في وسط الكلام.
(1/4070)

المسألة الثانية : قوله {عَلَى قُلُوبٍ} على التنكير ما الفائدة فيه ؟
نقول قال الزمخشري يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة الثاني : أن يكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأن النكرة لا تعم ، تقول جاءني رجال فيفهم البعض وجاءني الرجال فيفهم الكل ، ونحن نقول التنكير للقلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب ، وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان /معروفاً لأن القلب خلق للمعرفة ، فإذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف ، وهذا كما يقول القائل في الإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان هذا سبع ، ولذلك يقال هذا ليس بقلب هذا حجر. إذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة ، واللام لتعريف الجنس أو للعهد ، ولم يمكن إرادة الجنس إذ ليس على قلب قفل ، ولا تعريف العهد لأن ذلك القلب ليس ينبغي أن يقال له قلب ، وأما بالإضافة بأن نقول على قلوب أقفالها وهي لعدم عود فائدة إليهم ، كأنها ليست لهم. فإن قيل فقد قال : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة : 7) وقال : {فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم} (الزمر : 22) فنقول الأقفال أبلغ من الختم فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 56
المسألة الثالثة : في قوله {أَقْفَالُهَآ} بالإضافة ولم يقل أقفال كما قال : {قُلُوبٍ} لأن الأقفال كانت من شأنها فأضافها إليها كأنها ليست إلا لها ، وفي الجملة لم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها ، ونقول أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 56
0
إشارة إلى أهل الكتاب الذي تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلى الله عليه وسلّم وبعثه وارتدوا ، أو إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن ، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع محمد عليه السلام وكانوا يعلمون أنه الحق {الشَّيْطَـانُ سَوَّلَ لَهُمْ} سهل لهم {وَأَمْلَى لَهُمْ} يعني قالوا نعيش أياماً ثم نؤمن به ، وقرىء {وَأَمْلَى لَهُمْ} فإن قيل الإملاء والإمهال وحد الآجال لا يكون إلا من الله ، فكيف يصح قراءة من قرأ {وَأَمْلَى لَهُمْ} فإن المملي حينئذ يكون هو الشيطان نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : جاز أن يكون المراد {وَأَمْلَى لَهُمْ} الله فيقف على {سَوَّلَ لَهُمْ} وثانيها : هو أن المسول أيضاً ليس هو الشيطان ، وإنما أسند إليه من حيث إن الله قدر على يده ولسانه ذلك ، فذلك الشيطان يمليهم ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا برياستكم ثم في آخر الأمر تؤمنون ، وقرىء {وَأَمْلَى لَهُمْ} بفتح الياء وضم الهمزة على البناء للمفعول.
جزء : 28 رقم الصفحة : 56
58
(1/4071)

قال بعض المفسرين ذلك إشارة إلى الإملاء ، أي ذلك الإملاء بسبب أنهم {قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا } وهو اختيار الواحدي ، وقال بعضهم {ذَالِكَ} إشارة إلى التسويل ، ويحتمل أن يقال ذلك الارتداد بسبب أنهم قالوا {سَنُطِيعُكُمْ} وذلك لأنا نبين أن قوله {سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامْرِ } هو أنهم قالوا : نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل ، وإنما هو كاذب ، ولكن لا نوافقكم في إنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ، ومن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم فهو كافر ، وإن آمن بغيره. لا بل من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، لا يؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر ، لأن الله كما أخبر عن الحشر وهو جائز ، أخبر عن نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، وهي جائزة فإذا لم يصدق الله في شيء لا ينفي الكذب بقول الله في غيره ، فلا يكون مصدقاً موقناً بالحشر ، ولا برسالة أحد من الأنبياء ، لأن طريق معرفتهم واحد ، والمراد من الذين كرهوا ما نزل الله هم المشركون والمنافقون ، وقيل المراد اليهود ، فإن أهل مكة قالوا لهم : نوافقكم في إخراج محمد وقتله وقتال أصحابه ، والأول أصح ، لأن قوله {كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} لو كان مسنداً إلى أهل الكتاب لكان مخصوصاً ببعض ما أنزل الله ، وإن قلنا بأنه مسند إلى المشركين يكون عاماً ، لأنهم كرهوا ما نزل الله وكذبوا الرسل بأسرهم ، وأنكروا الرسالة رأساً ، وقوله {سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامْرِ } يعني فيما يتعلق بمحمد من الإيمان به فلا نؤمن ، والتكذيب به فنكذبه كما تكذبونه والقتال معه ، وأما الإشراك بالله ، واتخاذ الأنداد له من الأصنام ، وإنكار الحشر والنبوة فلا ، وقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} قال أكثرهم : المراد منه هو أنهم قالوا ذلك سراً ، فأفشاه الله وأظهره لنبيه عليه الصلاة والسلام ، والأظهر أن يقال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} وهو ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه الصلاة والسلام ، فإنهم كانوا مكابرين معاندين ، وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ، وقرىء {إِسْرَارَهُمْ} بكسر الهمزة على المصدر ، وما ذكرنا من المعنى ظاهر على هذه القراءة ، فإنهم كانوا يسرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وعلى قولنا المراد من الذين ارتدوا المنافقون ، فكانوا يقولون للمجاهدين من الكفار {سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامْرِ } (محمد : 26) وكانوا يسرون أنهم إن غلبوا انقلبوا ، كما قال الله تعالى ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} وقال تعالى : وقال تعالى : {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (الأحزاب : 15).
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
اعلم أنه لما قال الله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (محمد : 26) قال فهب أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم ، أو نقول كأنه تعالى قال : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} وهب أنهم /يختارون القتال لما فيه الضراب والطعان ، مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً ، إن غلبوا فالمال في الحال والثواب في المآل ، وإن غلبوا فالشهادة والسعادة ، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم ، وعلى هذا فيه لطيفة ، وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارزة فربما يهزم الخصم ويسلم وجهه وقفاه ، وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن صبر وثبت وإن لم يثبت وانهزم ، فإن فات القرن فقد سلم وجهه وقفاه وإن لم يفته فالضرب على قفاه لا غير ، ويوم الوفاة لا نصرة له ولا مفر ، فوجهه وظهره مضروب مطعون ، فكيف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
(1/4072)

قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه } وفيه لطيفة ، وهي أن الله تعالى ذكر أمرين : ضرب الوجه ، وضرب الأدبار ، وذكر بعدهما أمرين آخرين : اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه ، فكأنه تعالى قابل الأمرين فقال : يضربون وجوههم حيث أقبلوا على سخط الله ، فإن المتسع للشيء متوجه إليه ، ويضربون أدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله ، فإن الكاره للشيء يتولى عنه ، وما أسخط الله يحتمل وجوهاً الأول : إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام ورضوانه الإقرار به والإسلام الثاني : الكفر هو ما أسخط الله والإيمان يرضيه يدل عليه قوله تعالى : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُم وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَا وَإِن تَشْكُرُوا } (الزمر : 7) وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} إلى أن قال : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } (البينة : 7 ، 8) الثالث : ما أسخط الله تسويل الشيطان ، ورضوان الله التعويل على البرهان والقرآن ، فإن قيل هم ما كانوا يكرهون رضوان الله ، بل كانوا يقولون : إن ما نحن عليه فيه رضوان الله ، ولا نطلب إلا رضاء الله ، وكيف لا والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون : إنا نطلب رضاء الله. كما قالوا {لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) وقالوا {فَيَشْفَعُوا لَنَآ} (الأعراف : 53) فنقول معناه كرهوا ما فيه رضاء الله تعالى.
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال : {مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} ولم يقل : ما أرضى الله وذلك لأن رحمة الله سابقة ، فله رحمة ثابتة وهي منشأ الرضوان ، وغضب الله متأخر فهو يكون على ذنب ، فقال : {رِضْوَانَه } لأنه وصف ثابت لله سابق ، ولم يقل سخط الله ، بل {مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ، ولهذا المعنى قال في اللعان في حق المرأة {وَالْخَـامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} (النور : 9) يقال : غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق مظهر الزنا بقوله وأيمانه ، وقبله لم يكن لله غضب ، ورضوان الله أمر يكون منه الفعل ، وغضب الله أمر يكون من فعله ، ولنضرب له مثالاً : الكريم الذي رسخ الكرم في نفسه يحمله الكرم على الأفعال الحسنة ، فإذا كثر من السيء الإساءة فغضبه لا لأمر يعود إليه ، بل غضبه عليه يكون لإصلاح /حالة ، وزجراً لأمثاله عن مثل فعاله ، فيقال هو كان الكريم فكرمه لما فيه من الغريزة الحسنة ، لكن فلاناً أغضبه وظهر منه الغضب ، فيجعل الغضب ظاهراً من الفعل ، والفعل الحسن ظاهراً من الكرم ، فالغضب في الكريم بعد فعل ، والفعل منه بعد كرم ، ومن هذا يعرف لطف قوله {مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَه } .
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
ثم قال تعالى : {فَأَحْبَطَ أَعْمَـالَهُمْ} حيث لم يطلبوا إرضاء الله ، وإنما طلبوا إرضاء الشيطان والأصنام.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَـانَهُمْ} .
هذا إشارة إلى المنافقين و{أَمْ} تستدعي جملة أخرى استفهامية إذا كانت للاستفهام ، لأن كلمة {أَمْ} إذا كانت متصلة استفهامية تستدعي سبق جملة أخرى استفهامية ، يقال أزيد في الدار أم عمرو ، وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك ، يقال إن هذا لزيد أم عمرو ، وكما يقال بل عمرو ، والمفسرون على أنها منقطعة ، ويحتمل أن يقال إنها استفهامية ، والسابق مفهوم من قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} فكأنه تعالى قال : أحسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها والكل قاصر ، وإنما يعلمها ويظهرها ، ويؤيد هذا أن المتقطعة لا تكاد تقع في صدر الكلام فلا يقال ابتداء ، بل جاء زيد ، ولا أم جاء عمرو ، والإخراج بمعنى الإظهار فإنه إبراز ، والأضغان هي الحقود والأمراض ، واحدها ضغن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
ثم قال تعالى : {وَلَوْ نَشَآءُ لارَيْنَـاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـاهُم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـالَكُمْ} .
(1/4073)

لما كان مفهوم قوله {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَـانَهُمْ} (محمد : 29) أن الله يظهر ضمائرهم ويبرز سرائرهم كأن قائلاً قال فلم لم يظهر فقال أخرناه لمحض المشيئة لا لخوف منهم ، كما لا تفشى أسرار الأكابر خوفاً منهم {وَلَوْ نَشَآءُ لارَيْنَـاكَهُمْ} أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف ، وقوله لزيادة فائدة ، وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزمه المعرفة ، يقال عرفته ولم يعرف وفهمته ولم يفهم فقال ههنا {لارَيْنَـاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم} يعني عرفناهم تعريفاً تعرفهم به ، إشارة إلى قوة التعريف ، واللام في قوله {فَلَعَرَفْتَهُم} هي التي تقع في جزاء لو كما في قوله {لارَيْنَـاكَهُمْ} أدخلت على المعرفة إشارة إلى أن المعرفة كالمرتبة على المشيئة كأنه قال : ولو نشاء لعرفتهم ، ليفهم أن المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف ، أي لو نشاء لعرفناك تعريفاً معه المعرفة /لا بعده ، وأما اللام في قوله تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ} جواب لقسم محذوف كأنه قال ولتعرفنهم والله ، وقوله {فِى لَحْنِ الْقَوْلِ } فيه وجوه أحدها : في معنى القول وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد من القول قولهم أي لتعرفنهم في معنى قولهم حيث يقولون ما معناه النفاق كقولهم حين مجيء النصر إنا كنا معكم ، وقولهم {لَـاـاِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ} (المنافقون : 8) وقولهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} (الأحزاب : 13) وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد قول الله عزّ وجل أي لتعرفنهم في معنى قول الله تعالى حيث قال ما تعلم منه حال المنافقين كقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَإِذَا كَانُوا مَعَه عَلَى ا أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا } (
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
النور : 62) وقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال : 2) إلى غير ذلك ، وثانيها : في ميل القول عن الصواب حيث قالوا ما لم يعتقدوا ، فأمالوا كلامهم حيث قالوا {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} وقالوا {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } (الأحزاب : 13) ، {وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ } (الأحزاب : 15) إلى غير ذلك وثالثها : في لحن القول أي في الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عليه السلام ولا يفهمه غيره ، وهذا يحتمل أمرين أيضاً والنبي عليه السلام كان يعرف المنافق ولم يكن يظهر أمره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم ومنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم ، وأما قوله {بِسِيمَـاهُمْ} فالظاهر أن المراد أن الله تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يمسخهم كما قال تعالى : {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ} (يس : 67) وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافق ، وقوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـالَكُمْ} وعد للمؤمنين ، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافق/ فإن المنافق كان له قول بلا عمل ، والمؤمن كان له عمل ولا يقول به ، وإنما قوله التسبيح ويدل عليه قوله تعالى : {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } (البقرة : 286) وقوله {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} (آل عمران : 193) وكانوا يعملون الصالحات ويتكلمون في السيئات مستغفرين مشفقين ، والمنافق كان يتكلم في الصالحات كقوله {إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة : 14) {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا } (الحجرات : 14) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا} (البقرة : 8) ويعمل السيء فقال تعالى الله يسمع أقوالهم الفارغة ويعلم أعمالكم الصالحة فلا يضيع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
(1/4074)

أي لنأمرنكم بما لا يكون متعيناً للوقوع ، بل بما يحتمل الوقوع ويحتمل عدم الوقوع كما يفعل المختبر ، وقوله تعالى : {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ} أي نعلم المجاهدين من غير المجاهدين ويدخل في علم الشهادة فإنه تعالى قد علمه علم الغيب وقد ذكرنا ما هو التحقيق في الابتلاء ، وفي قوله {حَتَّى نَعْلَمَ} وقوله {الْمُجَـاهِدِينَ} أي المقدمين على الجهاد {وَالصَّـابِرِينَ} أي الثابتين الذين لا يولون الأدبار وقوله {وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} يحتمل وجوهاً أحدها : قوله {مِنْ} (البقرة : 8) لأن المنافق وجد منه هذا الخبر /والمؤمن وجد منه ذلك أيضاً ، وبالجهاد يعلم الصادق من الكاذب ، كما قال تعالى : { أولئك هُمُ الصَّـادِقُونَ} ، (الحجرات : 15) وثانيها : إخبارهم من عدم التولية في قوله {وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ } (الأحزاب : 15) إلى غير ذلك ، فالمؤمن وفى بعهده وقاتل مع أصحابه في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص والمنافق كان كالهباء ينزعج بأدنى صيحة وثالثها : المؤمن كان له أخبار صادقة مسموعة من النبي عليه السلام كقوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (الفتح : 27) ، {لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21) ، و{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الصافات : 173) وللمنافق أخبار أراجيف كما قال تعالى في حقهم {وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ} (الأحزاب : 60) فعند تحقق الإيجاف ، يتبين الصدق من الإرجاف.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
فيه وجهان أحدهما : هم أهل الكتاب قريظة والنضير والثاني : كفار قريش يدل على الأول قوله تعالى : {مِّنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } قيل أهل الكتاب تبين لهم صدق محمد عليه السلام ، وقوله {لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا} تهديد معناه هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول وهم به يشاقونه وليس كذلك ، بل الشقاق مع الله فإن محمداً رسول الله ما عليه إلا البلاغ فإن ضروا يضروا الرسل لكن الله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق ، وقوله {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَـالَهُمْ} قد علم معناه. فإن قيل قد تقدم في أول السورة أن الله تعالى أحبط أعمالهم فكيف يحبط في المستقبل ؟
فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المراد من قوله {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (محمد : 1) في أول السورة المشركون ، ومن أول الأمر كانوا مبطلين ، وأعمالهم كانت على غير شريعة ، والمراد من الذين كفروا ههنا أهل الكتاب وكانت لهم أعمال قبل الرسول فأحبطها الله تعالى بسبب تكذيبهم الرسول ولا ينفعهم إيمانهم بالحشر والرسل والتوحيد ، والكافر المشرك أحبط عمله حيث لم يكن على شرع أصلاً ولا كان معترفاً بالحشر الثاني : هو أن المراد بالأعمال ههنا مكايدهم في القتال وذلك في تحقق منهم والله سيبطله حيث يكون النصر للمؤمنين ، والمراد بالأعمال في أول السورة هو ما ظنوه حسنة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
العطف ههنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش لأن طاعة /الله تحمل على طاعة الرسول ، وهذا إشارة إلى العمل بعد حصول العلم ، كأنه تعالى قال : يا أيها الذين آمنوا علمتم الحق فافعلوا الخير ، وقوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ} يحتمل وجوهاً أحدها : دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم ، قال تعالى : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) الوجه الثاني : {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ} بترك طاعة الرسول كما أبطل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه ، ويؤيده قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى أن قال : {أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الحجرات : 2) الثالث : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى } (البقرة : 264) كما قال تعالى : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ا قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُمْ } (الحجرات : 17) وذلك أن من يمن بالطاعة على الرسول كأنه يقول هذا فعلته لأجل قلبك ، ولولا رضاك به لما فعلت ، وهو مناف للاخلاص ، والله لا يقبل إلا العمل الخالص.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
بيّن أن الله لا يغفر الشرك وما دون ذلك يغفره إن شاء حتى لا يظن ظان أن أعمالهم وإن بطلت لكن فضل الله باق يغفر لهم بفضله ، وإن لم يغفر لهم بعملهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
0
لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط ، وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور ، بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله
(1/4075)

لما بيّن أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط ، وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور ، بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (النساء : 59) وأمر بالقتال بقوله {فَلا تَهِنُوا } أي لا تضعفوا بعد ما وجد السبب في الجد في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقاله {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} وفي الآيات ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن قوله {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } (التغابن : 120) يقتضي السعي في القتال لأن أمر الله وأمر الرسول ورد بالجهاد وقد أمروا بالطاعة ، فذلك يقتضي أن لا يضعف المكلف ولا يكسل ولا يهن ولا يتهاون ، ثم إن بعد المقتضي قد يتحقق مانع ولا يتحقق المسبب ، والمانع من القتال إما أخروي وإما دنيوي ، فذكر الأخروي وهو أن الكافر لا حرمة له في الدنيا والآخرة ، لأنه لا عمل له في الدنيا ولا مغفرة له في الآخرة ، فإذا وجد السبب ولم يوجد المانع ينبغي أن يتحقق المسبب ، ولم يقدم المانع الدنيوي على قوله {فَلا تَهِنُوا } إشارة إلى أن الأمور الدنيوية لا ينبغي أن تكون /مانعة من الإتيان ، فلا تهنوا فإن لكم النصر ، أو عليكم بالعزيمة على تقدير الاعتزام للهزيمة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
ثم قال تعالى بعد ذلك المانع الدنيوي مع أنه لا ينبغي أن يكون مانعاً ليس بموجود أيضاً حيث {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} والأعلون والمصطفون في الجمع حالة الرفع معلوم الأصل ، ومعلوم أن الأمر كيف آل إلى هذه الصيغة في التصريف ، وذلك لأن أصله في الجمع الموافق أعليون ومصطفيون فسكنت الياء لكونها حرف علة فتحرك ما قبلها والواو كانت ساكنة فالتقى ساكنان ولم يكن بد من حذف أحدهما أو تحريكه والتحريك كان يوقع في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف ، والواو كانت فيه لمعنى لا يستفاد إلا منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أعلون ، وبهذا الدليل صار في الجر أعلين ومصطفين ، وقوله تعالى : {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} هداية وإرشاد يمنع الملكف من الإعجاب بنفسه ، وذلك لأنه تعالى لما قال : {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} كان ذلك سبب الافتخار فقال : {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} يعني ليس ذلك من أنفسكم بل من الله ، أو نقول لما قال : {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} فكان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم مع كثرة الكفار وشوكتهم وكان يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال إن الله معكم لا يبقى لكم شك ولا ارتياب في أن الغلبة لكم وهذا كقوله تعالى : {لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21) وقوله {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الصافات : 273) وقوله {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ} وعد آخر وذلك لأن الله لما قال إن الله معكم ، كان فيه أن النصرة بالله لا بكم فكان القائل يقول لم يصدر مني عمل له اعتبار فلا أستحق تعظيماً ، فقال هو ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئاً ، ويجعل كأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك ويعطيكم أجر المستبد ، والترة النقص ، ومنه الموتر كأنه نقص منه ما يشفعه ، ويقول عند القتال إن قتل من الكافرين أحد فقد وتروا في أهلهم وعملهم حيث نقص عددهم وضاع عملهم ، والمؤمن إن قتل فإنما ينقص من عدده ولم ينقص من عمله/ وكيف ولم ينقص من عدده أيضاً ، فإنه حي مرزوق ، فرح بما هو إليه مسوق.
جزء : 28 رقم الصفحة : 58
65
(1/4076)

زيادة في التسلية يعني كيف تمنعك الدنيا من طلب الآخرة بالجهاد ، وهي لا تفوتك لكونك منصوراً غالباً ، وإن فاتتك فعملك غير موتر ، فكيف وما يفوتك ، فإن فات فائت ولم يعوض لا ينبغي لك أن تلتفت إليها لكونها لعباً ولهواً ، وقد ذكرنا في اللعب واللهو مراراً أن اللعب /ما تشتغل به ولا يكون فيه ضرورة في الحال ولا منفعة في المآل ، ثم إن استعمله الإنسان ولم يشتغله عن غيره ، ولم يثنه عن أشغاله المهمة فهو لعب وإن شغله ودهشه عن مهماته فهو لهو ، ولهذا يقال ملاهي لآلات الملاهي لأنها مشغلة عن الغير ، ويقال لما دونه لعب كاللعب بالشطرنج والحمام ، وقد ذكرنا ذلك غير مرة ، وقوله {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} إعادة للوعد والإضافة للتعريف ، أي الأجر الذي وعدكم بقوله {أَجْرٌ كَرِيمٌ} (يس : 11) {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (هود : 11) {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران : 172) وقوله {وَلا يَسْاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} يحتمل وجوهاً أحدها : أن الجهاد لا بد له من إنفاق ، فلو قال قائل أنا لا أنفق مالي ، فيقال له الله لا يسئلكم ظمالكم في الجهات المعينة من الزكاة والغنيمة وأموال المصالح فيها تحتاجون إليه من المال لا تراعون بإخراجه وثانيها : الأموال لله وهي في أيديكم عارية وقد طلب منكم أو أجاز لكم في صرفها في جهة الجهاد فلا معنى لبخلكم بماله ، وإلى هذا إشارة بقوله تعالى : {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ } (الحديد : 10) أي الكل لله وثالثها : لا يسألكم أموالكم كلها ، وإنما يسألكم شيئاً يسيراً منها وهو ربع العشر ، وهو قليل جداً لأن العشر هو الجزء الأقل إذ ليس دونه جزء وليس اسماً مفرداً ، وأما الجزء من أحد عشر ومن إثنى عشر و(إلى) مائة جزء لما لم يكن ملتفتاً إليه لم يوضع له اسم مفرد.
ثم إن الله تعالى لم يوجب ذلك في رأس المال بل أوجب ذلك في الربح الذي هو من فضل الله وعطائه ، وإن كان رأس المال أيضاً كذلك لكن هذا المعنى في الربح أظهر ، ولما كان المال منه ما ينفق للتجارة فيه ومنه ما لا ينفق ، وما أنفق منه للتجارة أحد قسميه وهو يحتمل أن تكون التجارة فيه رابحة ، ويحتمل أن لا تكون رابحة فصار القسم الواحد قسمين فصار في التقدير كان الربح في ربعه فأوجب (ربع) عشر الذي فيه الربح وهو عشر فهو ربع العشر وهو الواجب ، فعلم أن الله لا يسألكم أموالكم ولا الكثير منه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
الفاء في قوله {فَيُحْفِكُمْ} للإشارة إلى أن الإحفاء يتبع السؤال بياناً لشح الأنفس ، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون للمثلين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى بيّن أن الإحفاء يقع عقيب السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً وقوله {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم ، كيف وأنتم تبخلون باليسير لا تبخلون بالكثير وقوله {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يعني بسببه فإن الطالب وهو النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يطلبونكم وأنتم لمحبة المال وشح الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
/(يعني) قد طلبت منكم اليسير فبخلتم فكيف لو طلبت منكم الكل وقوله {هَا ؤُلاءِ} يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله وثانيهما : {هَا ؤُلاءِ} وحدها خبر {أَنتُمْ} كما يقال أنت هذا تحقيقاً للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدىء {تَدْعُونَ} وقوله {تَدْعُونَ} أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد ، وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم ، وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } ، ثم بيّن أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه ، ثم حقق ذلك بقوله {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ} غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله {وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } حتى لا تقولوا إنا أيضاً أغنياء عن القتال ، ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا ، فإن الكافر إن يغز يغز ، والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده ، لا سيما أباح الشارع للمضطر ذلك ، وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيراً وهو موقوف مسؤول يوم لا ينفع مال ولا بنون.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65

ثم قال تعالى : {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} بيان الترتيب من وجهين : أحدهما : أنه ذكره بياناً للاستغناء ، كما قال تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (إبراهيم : 19) وقد ذكر أن هذا تقرير بعد التسليم ، كأنه تعالى يقول : الله غني عن العالم بأسره فلا حاجة له إليكم. فإن كان ذاهب يذهب إلى أن ملكه بالعالم وجبروته يظهر به وعظمته بعباده ، فنقول هب أن هذا الباطل حق لكنكم غير متعينين له ، بل الله قادر على أن يخلق خلقاً غيركم يفتخرون بعبادته ، وعالماً غير هذا يشهد بعظمته وكبريائه وثانيهما : أنه تعالى لما بيّن الأمور وأقام عليها البراهين وأوضحها بالأمثلة قال إن أطعتم فلكم أجوركم وزيادة وإن تتولوا لم يبق لكم إلا الإهلاك فإن ما من نبي أنذر قومه وأصروا على تكذيبه إلا وقد حق عليهم القول بالإهلاك وطهر الله الأرض منهم وأتى بقوم آخرين طاهرين ، وقوله {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} فيه مسألة نحوية يتبين منها فوائد عزيزة وهي : /أن النحاة قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم ، الجزم والرفع جميعاً ، قال الله تعالى ههنا {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} بالجزم ، وقال في موضع آخر {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} (آل عمران : 111) بالرفع بإثبات النون وهو مع الجواز ، ففيه تدقيق : وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين ، كون من يأتي بهم مطيعين ، وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون ، فلم يكن للتعليق هناك وجه فرفع بالابتداء ، وههنا جزم للتعليق.
وقوله {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} في الوصف ولا في الجنس وهو لائق الوجه الثاني : وفيه وجوه أحدها : قوم من العجم ثانيها : قوم من فارس روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عمن يستبدل بهم إن تولوا وسلمان إلى جنبه فقال : "هذا وقومه" ثم قال : "لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لناله رجال من فارس" وثالثها : قوم من الأنصار والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4077)

سورة الفتح
وهي عشرون وتسع آيات مدنية
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
/فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفتح وجوه : أحدها : فتح مكة وهو ظاهر وثانيها : فتح الروم وغيرها وثالثها : المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها : فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان وخامسها : المراد منه الحكم كقوله {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} (الأعراف : 89) وقوله {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} (سبأ : 26) والمختار من الكل وجوه : أحدها : فتح مكة ، والثاني : فتح الحديبية ، والثالث : فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان. والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه أحدها : أنه تعالى لما قال : {هَا أَنتُمْ هَا ؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} . إلى أن قال : {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِه } (محمد : 38) بيّن تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ثانيها : لما قال : {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} وقال : {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} (محمد : 35) بيّن برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعلون ثالثها : لما قال تعالى : {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} (محمد : 35) وكان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم ، بل اصبروا فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه ، وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ، فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة ، فمكة لم تكن قد فتحت ، فكيف قال تعالى : {فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} بلفظ الماضي ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين : أحدهما : فتحنا في حكمنا وتقديرنا ثانيهما : ما قدره الله تعالى فهو كائن ، فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له ، واقع لا رافع له.
(1/4078)

/المسألة الثانية : قوله {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ينبىء عن كون الفتح سبباً للمغفرة ، والفتح لا يصلح سبباً للمغفرة ، فما الجواب عنه ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه : الأول : ما قيل إن الفتح لم يجعله سبباً للمغفرة وحدها ، بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة والهداية والنصرة ، كأنه تعالى قال : ليغفر للك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك ، ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح ، فإن النعمة به تمت ، والنصرة بعده قد عمت الثاني : هو أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان ، وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده الثالث : هو أن بالفتح يحصل الحج ، ثم بالحج تحصل المغفرة ، ألا ترى إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال في الحج : "اللّهم اجعله حجاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً" الرابع : المراد منه التعريف تقديره إنا فتحنا لك ليعرف أنك مغفور ، معصوم ، فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه ، وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
المسألة الثالثة : لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلّم ذنب ، فماذا يغفر له ؟
قلنا الجواب عنه قد تقدم مراراً من وجوه أحدها : المراد ذنب المؤمنين ثانيها : المراد ترك الأفضل ثالثها : الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد ، وهو يصونهم عن العجب رابعها : المراد العصمة/ وقد بينا وجهه في سورة القتال.
المسألة الرابعة : ما معنى قوله {وَمَا تَأَخَّرَ} ؟
نقول فيه وجوه أحدها : أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ثانيها : ما تقدم على الفتح ، وما تأخر عن الفتح ثالثها : العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه ، مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم رابعها : من قبل النبوة ومن بعدها ، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة ، وفيه وجوه أُخر ساقطة ، منها قول بعضهم : ما تقدم من أمر مارية ، وما تأخر من أمر زينب ، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام ، وقوله تعالى : {وَيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ} يحتمل وجوهاً : أحدها : هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج ، وهو آخر التكاليف ، والتكاليف نعم ثانيها : يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك ، فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار ، فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح ثالثها : ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح ، وفي الآخرة بقول شفاعتك في الذنوب ولو كانت في غاية القبح ، وقوله تعالى : {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} يحتمل وجوهاً أظهرها : يديمك على الصراط المستقيم حتى لا يبقى من يلتفت إلى قوله من المضلين ، أو ممن يقدر على الإكراه على الكفر ، وهذا يوافق قوله تعالى : {وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا } (المائدة : 3) حيث أهلكت المجادلين فيه ، وحملتهم على الإيمان وثانيها : أن يقال جعل الفتح سبباً للهداية إلى /الصراط المستقيم ، لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بالفوائد العاجلة بالفتح والآجلة بالوعد ، والجهاد سلوك سبيل الله ، ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهد وثالثها : ما ذكرنا أن المراد التعريف ، أي ليعرف أنك على صراط مستقيم ، من حيث إن الفتح لا يكون إلا على يد من يكون على صراط الله بدليل حكاية الفيل ، وقوله {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} ظاهر ، لأن بالفتح ظهر النصر واشتهر الأمر ، وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية :
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
أما المسألة اللفظية : فهي أن الله وصف النصر بكونه عزيزاً ، والعزيز من له النصر والجواب : من وجهين أحدهما : ما قاله الزمخشري أنه يحتمل وجوهاً ثلاثة الأول : معناه نصر إذ عز ، كقوله {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) أي ذات رضى الثاني : وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له كلام صادق ، كما يقال له متكلم صادق الثالث : المراد نصراً عزيزاً صاحبه الوجه الثاني من الجواب أن نقول : إنما يلزمنا ما ذكره الزمخشري من التقديرات إذا قلنا : العزة من الغلبة ، والعزيز الغالب وأما إذا قلنا : العزيز هو النفيس القليل النظير ، أو المحتاج إليه القليل الوجود ، يقال عز الشيء إذا قل وجوده مع أنه محتاج إليه ، فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه من غير عدد.
(1/4079)

أما المسألة المعنوية : وهي أن الله تعالى لما قال : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ} أبرز الفاعل وهو الله ، ثم عطف عليه بقوله {وَيُتِمَّ} وبقوله {وَيَهْدِيَكَ} ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام ، وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل الأول ، ولا يظهر فيما بعده تقول : جاء زيد وتكلم ، وقام وراح ، ولا تقول : جاء زيد ، وقعد زيد اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأول ، وههنا لم يقل وينصرك نصراً ، بل أعاد لفظ الله ، فنقول هذا إرشاد إلى طريق النصر ، ولهذا قلما ذكر الله النصر من غير إضافة ، فقال تعالى : {بِنَصْرِ اللَّه يَنصُرُ} (الروم : 5) ولم يقل بالنصر ينصر/ وقال : {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِه } (الأنفال : 62) ولم يقل بالنصر ، وقال : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر : 1) وقال : {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } (الصف : 13) ولم يقل نصر وفتح ، وقال : {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ} (الأنفا : 10) وهذا أدل الآيات على مطلوبنا ، وتحقيقه هو أن النصر بالصبر ، والصبر بالله ، قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّه } (النحل : 127) وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه ، وذلك بذكر الله ، كما قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) فلما قال ههنا وينصرك الله ، أظهر لفظ الله ذكراً للتعليم أن بذكر الله يحصل اطمئنان القلوب ، وبه يحصل الصبر ، وبه يتحقق النصر ، وههنا مسألة أخرى وهو أن الله تعالى قال : {إِنَّا فَتَحْنَا} ثم قال : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ولم يقل إنا فتحنا لنغفر لك تعظيماً لأمر الفتح ، وذلك لأن المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } (الزمر : 53) وقال : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) ولئن قلنا بأن المراد من المغفرة في حق النبي عليه السلام العصمة ، فذلك لم يختص بنبينا ، بل غيره من الرسل كان معصوماً ، وإتمام /النعمة كذلك ، قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} (المائدة : 3) وقال : {يَـابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} (البقرة : 47) وكذلك الهداية قال الله تعالى : {إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} فعمم ، وكذلك النصر قال الله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} (الصافات : 171 ، 172) وأما الفتح فلم يكن لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلّم ، فعظمه بقوله تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} وفيه التعظيم من وجهين أحدهما : إنا وثانيهما : لك أي لأجلك على وجه المنة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
لما قال تعالى : {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ} (الفتح : 3) بين وجه النصر ، وذلك لأن الله تعالى قد ينصر رسله بصيحة يهلك بها أعداءهم ، أو رجفة تحكم عليهم بالفناء ، أو جند يرسله من السماء ، أو نصر وقوة وثبات قلب يرزق المؤمنين به ، ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل فقال : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} أي تحقيقاً للنصر ، وفي السكينة وجوه أحدها : هو السكون الثاني : الوقار لله ولرسول الله وهو من السكون الثالث : اليقين والكل من السكون وفيه مسائل :
المسألة الأولى : السكينة هنا غير السكينة في قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِه أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ} (البقرة : 248) في قول أكثر المفسرين ويحتمل هي تلك المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلوب.
المسألة الثانية : السكينة المنزّلة عليهم هي سبب ذكرهم الله كما قال تعالى : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28).
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
(1/4080)

المسألة الثالثة : قال الله تعالى في حق الكافرين {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ} (الأحزاب : 26) بلفظ القذف المزعج وقال في حق المؤمنين {أَنزَلَ السَّكِينَةَ} بلفظ الإنزال المثبت ، وفيه معنى حكمي وهو أن من علم شيئاً من قبل وتذكره واستدام تذكره فإذا وقع لا يتغير ، ومن كان غافلاً عن شيء فيقع دفعة يرجف فؤاده ، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صيحة وقيل له لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يرجف ، ومن لم يخبر به وأخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت ، فكذلك الكافر أتاه الله من حيث لا يحتسب وقذف في قلبه فارتجف ، والمؤمن أتاه من حيث كان يذكره فسكن ، وقوله تعالى : {لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ } فيه وجوه أحدها : أمرهم بتكاليف شيئاً بعد شيء فآمنوا بكل وحد منها ، مثلاً أمروا بالتوحيد فآمنوا وأطاعوا ، ثم أمروا بالقتال والحج فآمنوا وأطاعوا ، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم /ثانيها : أنزل السكينة عليهم فصبروا فرأوا عين اليقين بما علموا من النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مستفاداً من الشهادة مع إيمانهم المستفاد من الغيب ثالثها : ازدادوا بالفروع مع إيمانهم بالأصول ، فإنهم آمنوا بأن محمداً رسول الله وأن الله واحد والحشر كائن وآمنوا بأن كل ما يقول النبي صلى الله عليه وسلّم صدق وكل ما يأمر الله تعالى به واجب رابعها : ازدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري ، وعلى هذا الوجه نبين لطيفة وهي أن الله تعالى قال في حق الكافر {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } (آل عمران : 178) ولم يقل مع كفرهم لأن كفرهم عنادي وليس في الوجود كفر فطري لينضم إليه الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عنادياً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد فقال : {لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ } وقوله {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فكان قادراً على إهلاك عدوه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب ، وفي جنود السموات والأرض وجوه أحدها : ملائكة السموات والأرض ثانيها : من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الحيوانات والجن وثالثها : الأسباب السماوية والأرضية حتى يكون سقوط كسف من السماء والخسف من جنوده ، وقوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} لما قال : {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وعددهم غير محصور ، أثبت العلم إشارة إلى أنه {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ} (سبأ : 3) وأيضاً لما ذكر أمر القلوب بقوله {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} والإيمان من عمل القلوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يعلم السر وأخفى ، وقوله {حَكِيمًا} بعد قوله {عَلِيمًا} إشارة إلى أنه يفعل على وفق العلم فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً ويعلمه ، فإن من يقع منه صنع عجيب اتفاقاً لا يقال له حكيم ومن يعلم ويعمل على خلاف العلم لا يقال له حكيم. وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4081)

يستدعي فعلاً سابقاً {لِّيُدْخِلَ} فإن من قال ابتداء لتكرمني لا يصح ما لم يقل قبله جئتك أو ما يقوم مقامه وفي ذلك الفعل وجوه وضبط الأحوال فيه بأن تقول ذلك الفعل إما أن يكون مذكوراً بصريحه أو لا يكون ، وحينئذ ينبغي أن يكون مفهوماً ، فإما أن يكون مفهوماً من لفظ يدل عليه بل فهم بقرينة حالية فإن كان مذكوراً فهو يحتمل وجوهاً أحدها : قوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا} (الفتح : 4) كأنه تعالى أنزل السكينة /ليزدادوا إيماناً بسبب الإنزال ليدخلهم بسبب الإيمان جنّات ، فإن قيل فقوله {وَيُعَذِّبَ} (الفتح : 6) عطف على قوله {لِّيُدْخِلَ} وازدياد إيمانهم لا يصلح سبباً لتعذيبهم ، نقول بلى وذلك من وجهين أحدهما : أن التعذيب مذكور لكونه مقصوداً للمؤمنين ، كأنه تعالى يقول بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم في الآخرة جنّات ويعذب بأيديكم في الدنيا الكفار والمنافقين الثاني : تقديره ويعذب بسبب ما لكم من الازدياد ، يقال فعلته لأجرب به العدو والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو فكذلك ليزداد المؤمن إيماناً فيدخله الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه به ووجه آخر ثالث : وهو أن سبب زيادة إيمان المؤمنين بكثرة صبرهم وثباتهم فيعيى المنافق والكافر معه ويتعذب وهو قريب مما ذكرنا الثاني : قوله {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ} (الفتح : 3) كأنه تعالى قال وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنّات الثالث : قوله {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ} (الفتح : 2) على قولنا المراد ذنب المؤمن كأنه تعالى قال ليغفر لك ذنب المؤمنين ، ليدخل المؤمنين جنات ، وأما إن قلنا هو مفهوم من لفظ غير صريح فيحتمل وجوهاً أيضاً أحدها : قوله {حَكِيمًا} (الفتح : 4) يدل على ذلك كأنه تعالى قال : الله حكيم ، فعل ما فعل ليدخل المؤمنين جنات وثانيها : قوله تعالى : {وَيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ} (الفتح : 2) في الدنيا والآخرة ، فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العقبى {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ} ثالثها : قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} (الفتح : 1) ووجهه هو أنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم هنيئاً لك إن الله غفر لك فماذا لنا ؟
فنزلت هذه الآية كأنه تعالى قال : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليدخلهم جنّات ، وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم من غير مقال بل من قرينة الحال ، فنقول هو الأمر بالقتال لأن من ذكر الفتح والنصر علم أن الحال حال القتال ، فكأنه تعالى قال إن الله تعالى أمر بالقتال ليدخل المؤمنين ، أو نقول عرف من قرينة الحال أن الله اختار المؤمنين ليدخلهم جنّات.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
المسألة الرابعة : قال ههنا وفي بعض المواضع {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} وفي بعض المواضع اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كما في قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب : 47) وقوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1) فما الحكمة فيه ؟
نقول في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به مع كون المؤمنات يشتركن معهم ذكرهن الله صريحاً ، وفي المواضع التي ليس فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين فقوله {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} مع أنه علم من قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ : 28) العموم لا يوهم خروج المؤمنات عن البشارة ، وأما ههنا فلما كان قوله تعالى : {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ} لفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه أو النصر للمؤمنين أو الفتح بأيديهم على ما كان يتوهم لأن إدخال المؤمنين كان للقتال ، والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها صرح الله بذكرهن ، وكذلك في المنافقات والمشركات ، والمنافقة والمشركة لم تقاتل فلا تعذب فصرّح الله تعالى بذكرهن ، وكذلك في قوله تعالى : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} (الأحزاب : 35) لأن الموضع موضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى ا وَأَقِمْنَ الصَّلَواةَ وَءَاتِينَ الزَّكَواةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ} (الأحزاب : 33) وقوله {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ} (الأحزاب : 34) فكان ذكرهن هناك أصلاً ، لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأجر العظيم ذكرهم وذكرهن بلفظ مفرد من غير تبعية لما بينا أن الأصل ذكرهن في ذلك الموضع.
(1/4082)

المسألة الخامسة : قال الله تعالى : {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ } بعد ذكر الإدخال مع أن تكفير السيئات قبل الإدخال ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : الواو لا تقتضي الترتيب الثاني : تكفر السيئات والمغفرة وغيرهما من توابع كون المكلف من أهل الجنة ، فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة الثالث : وهو أن التكفير يكون بإلباس خلع الكرامة وهي في الجنة ، وكان الإنسان في الجنة تزال عنه قبائح البشرية الجرمية كالفضلات ، والمعنوية كالغضب والشهوة وهو التكفير وتثبت فيه الصفات الملكية وهي أشرف أنواع الخلع ، وقوله تعالى : {وَكَانَ ذَالِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} فيه وجهان أحدهما : مشهور وهو أن الإدخال والتكفير في الله فوز عظيم ، يقال عندي هذا الأمر على هذا الوجه ، أي في اعتقادي وثانيهما : أغرب منه وأقرب منه عقلاً ، وهو أن يجعل عند الله كالوصف لذلك كأنه تعالى يقول ذلك عند الله ، أي بشرط أن يكون عند الله تعالى ويوصف أن يكون عند الله فوز عظيم حتى أن دخول الجنة لو لم يكن فيه قرب من الله بالعندية لما كان فوزاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
واعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في الذكر في كثير من المواضع لأمور أحدها : أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر وكان يخالط المنافق لظنه بإيمانه ، وهو كان يفشي أسراره ، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله : "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" والمنافق على صورة الشيطان فإنه لا يأتي الإنسان على أني عدوك ، وإنما /يأتيه على أني صديقك ، والمجاهر على خلاف الشيطان من وجه ، ولأن المنافق كان يظن أن يتخلص للمخادعة ، والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلب يفديه ، فأول ما أخبر الله أخبر عن المنافق وقول {الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } هذا الظن يحتمل وجوهاً أحدها : هو الظن الذي ذكره الله في هذه السورة بقوله {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ} (الفتح : 12) ثانيها : ظن المشركين بالله في الإشراك كما قال تعالى : {إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ} إلى أن قال : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّا وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـاًا} (النجم : 23 ـ 28) ثالثها : ظنهم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال : {وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت : 22) والأول أصح أو نقول المراد جميع ظنونهم حتى يدخل فيه ظنهم الذي ظنوا أن الله لا يحيي الموتى ، وأن العالم خلقه باطل ، كما قال تعالى : {ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (ص : 27) ويؤيد هذا الوجه الألف واللام الذي في السوء وسنذكره في قوله {ظَنَّ السَّوْءِ } وفيه وجوه أحدها : ما اختاره المحققون من الأدباء ، وهو أن السوء صار عبارة عن الفساد ، والصدق عبارة عن الصلاح يقال مررت برجل سوء أي فاسد ، وسئلت عن رجل صدق أي صالح ، فإذا كان مجموع قولنا رجل سوء يؤدي معنى قولنا فاسد ، فالسوء وحده يكون بمعنى الفساد ، وهذا ما اتفق عليه الخليل والزجاج واختاره الزمخشري ، وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد ، يقال ساء مزاجه ، وساء خلقه ، وساء ظنه ، كما يقال فسد اللحم وفسد الهواء ، بل كان ما ساء فقد فسد وكل ما فسد فقد ساء غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال الله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الروم : 41) وقال : {سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (التوبة : 9) هذا ما يظهر لي من تحقيق كلامهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
ثم قال تعالى : {عَلَيْهِمْ دَآاـاِرَةُ السَّوْءِ } أي دائرة الفساد وحاق بهم الفساد بحيث لا خروج لهم منه.
ثم قال تعالى : {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} زيادة في الإفادة لأن من كان به بلاء فقد يكون مبتلى به على وجه الامتحان فيكون مصاباً لكي يصير مثاباً ، وقد يكون مصاباً على وجه التعذيب فقوله {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} إشارة إلى أن الذي حاق بهم على وجه التعذيب وقوله {وَلَعَنَهُمْ} زيادة إفادة لأن المغضوب عليه قد يكون بحيث يقنع الغاضب بالعتب والشتم أو الضرب ، ولا يفضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه وطرده من بابه ، وقد يكون بحيث يفضي إلى الطرد والإبعاد/ فقال : {وَلَعَنَهُمْ} لكون الغضب شديداً ، ثم لما بيّن حالهم في الدنيا بيّن مآلهم في العقبى قال : {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَا وَسَآءَتْ مَصِيرًا} وقوله {سَآءَتْ} إشارة لمكان التأنيث في جهنم يقال هذه الدار نعم المكان ، وقوله تعالى : {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الفتح : 4) قد تقدم تفسيره ، وبقي فيه مسائل :
(1/4083)

المسألة الأولى : ما الفائدة في الإعادة ؟
نقول لله جنود الرحمة وجنود العذاب أو جنود الله إنزالهم قد يكون للرحمة ، وقد يكون للعذاب فذكرهم أولى لبيان الرحمة بالمؤمنين قال تعالى : {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (الأحزاب : 43) وثانياً لبيان إنزال العذاب على الكافرين.
المسألة الثانية : قال هناك {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الفتح : 4) وهنا {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} لأن قوله {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الفتح : 4) قد بينا أن المقصود من ذكرهم الإشارة إلى شدة العذاب فذكر العزة كما قال تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ} (الزمر : 37) وقال تعالى : {فَأَخَذْنَـاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر : 42) وقال تعالى : {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
المسألة الثالثة : ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ، وذكرهم ههنا بعد ذكر تعذيب الكفار وإعداد جنهم ، نقول فيه ترتيب حسن لأن الله تعالى ينزل جنود الرحمة فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة ثم يلبسهم خلع الكرامة بقوله {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ } (الفتح : 5) كما بينا ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله {وَكَانَ ذَالِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} وبعد حصول القرب والعندية لا تبقى واسطة الجنود فالجنود في الرحمة أولاً ينزلون ويقربون آخراً وأما في الكافر فيغضب عليه أولاً فيبعد ويطرد إلى البلاد النائية عن ناحية الرحمة وهي جهنم ويسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى : {عَلَيْهَا مَلَـا اـاِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} (التحريم : 6) ولذلك ذكر جنود الرحمة أولاً والقربة بقوله عند الله آخراً ، وقال ههنا {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهو الإبعاد أولاً وجنود السموات والأرض آخراً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
قال المفسرون : {شَـاهِدًا} على أمتك بما يفعلون كما قال تعالى : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) والأولى أن يقال إن الله تعالى قال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} وعليه يشهد أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} (آل عمران : 18) وهم الأنبياء عليهم السلام ، الذين آتاهم الله علماً من عنده وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ولذلك قال تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) أي فاشهد وقوله {وَمُبَشِّرًا} لمن قبل شهادته وعمل بها ويوافقه فيها {وَنَذِيرًا} لمن رد شهادته ويخالفه فيها ثم بيّن فائدة الإرسال على الوجه الذي ذكره فقال : {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} وهذا يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون الأمور الأربعة المذكورة مرتبة على الأمور المذكورة من قبل فقوله {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه } مرتب على قوله {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ} /لأن كونه مرسلاً من الله يقتضي أن يؤمن المكلف بالله والمرسل وبالمرسل وقوله {شَـاهِدًا} يقتضي أن يعزر الله ويقوي دينه لأن قوله {شَـاهِدًا} على ما بينا معناه أنه يشهد أنه لا إله إلا هو فدينه هو الحق وأحق ن يتبع وقوله {مُبَشِّرًا} يقتضي أن يوقر الله لأن تعظيم الله عنده على شبه تعظيم الله إياه. وقوله {نَذِيرًا} يقتضي أن ينزه عن السوء والفحشاء مخافة عذابه الأليم وعقابه الشديد ، وأصل الإرسال مرتب على أصل الإيمان ووصف الرسول يترتب عليه وصف المؤمن وثانيهما : أن يكون كل واحد مقتضياً للأمور الأربعة فكونه مرسلاً يقتضي أن يؤمن المكلف بالله ورسوله ويعزره ويوقره ويسبحه ، وكذلك كونه {شَـاهِدًا} بالوحدانية يقتضي الأمور المذكورة ، وكذلك كونه {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} لا يقال إن اقتران اللام بالفعل يستدعي فعلاً مقدماً يتعلق به ولا يتعلق بالوصف وقوله {لِّتُؤْمِنُوا } يستدعي فعلاً وهو قوله {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ} فكيف تترتب الأمور على كونه {شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا} لأنا نقول يجوز الترتيب عليه معنى لا لفظاً ، كما أن القائل إذا قال بعثت إليك عالماً لتكرمه فاللفظ ينبىء عن كون البعث سبب الإكرام ، وفي المعنى كونه عالماً هو السبب للإكرام ، ولهذا لو قال بعثت إليك جاهلاً لتكرمه كان حسناً ، وإذا أردنا الجمع بين اللفظ والمعنى نقول : الإرسال الذي هو إرسال حال كونه شاهداً كما تقول بعث العالم سبب جعله سبباً لا مجرد البعث ، ولا مجرد العالم ، في الآية مسائل :
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
(1/4084)

المسألة الأولى : قال في الأحزاب { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (الأحزاب : 45 ، 46) وههنا اقتصر على الثلاثة من الخمسة فما الحكمة فيه ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن ذلك المقام كان مقام ذكره لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد والدخول ففصل هنالك ، ولم يفصل ههنا ثانيهما : أن نقول الكلام مذكور ههنا لأن قوله {شَـاهِدًا} لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ، ولا يدعو الناس قال هناك وداعياً لذلك/ وههنا لما لم يكن كونه {شَـاهِدًا} منبئاً عن كونه داعياً قال : {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} دليل على كونه سراجاً لأنه أتى بما يجب من التعظيم والاجتناب عما يحرم من السوء والفحشاء بالتنزيه وهو التسبيح.
المسألة الثانية : قد ذكرنا مراراً أن اختيار البكرة والأصيل يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة ، ويحتمل أن يكون أمراً بخلاف ما كان المشركون يعملونه فإنهم كانوا يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرةً وعشية فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر.
المسألة الثالثة : الكنايات المذكور في قوله تعالى : {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} راجعة إلى الله تعالى أو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
والأصح هو الأول.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
/لما بيّن أنه مرسل ذكر أن من بايعه فقد بايع الله ، وقوله تعالى : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يحتمل وجوهاً ، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد ، وإما أن تكون بمعنيين ، فإن قلنا إنها بمعنى واحد ، ففيه وجهان أحدهما : {يَدُ اللَّهِ} بمعنى نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله كما قال تعالى : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} (الحجرات : 17) وثانيهما : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي نصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه ، يقال : اليد لفلان ، أي الغلبة والنصرة والقهر. وأما إن قلنا إنها بمعنيين ، فنقول في حق الله تعالى بمعنى الحفظ ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة ، واليد كناية عن الحفظ مأخوذ من حال المتبايعين إذا مد كل واحد منهما يده إلى صاحبه في البيع والشراء ، وبينهما ثالث متوسط لا يريد أن يتفاسخا العقد من غير إتمام البيع ، فيضع يده على يديهما ، ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ، ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر ، فوضع اليد فوق الأيدي صار سبباً للحفظ على البيعة ، فقال تعالى : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يحفظهم على البيعة كما يحفظ ذلك المتوسط أيدي المتبايعين ، وقوله تعالى : {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه } أما على قولنا المراد من اليد النعمة أو الغلبة والقوة ، فلأن من نكث فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل ، فقد خسر ونكثه على نفسه ، وأما على قولنا المراد الحفظ ، فهو عائد إلى قوله {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} يعني من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائداً إليك ، لأن البيعة مع الله ولا إلى الله ، لأنه لا يتضرر بشيء ، فضرره لا يعود إلا إليه. قال : {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَـاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقد ذكرنا أن العظم في الأجرام ، لا يقال إلا إذا اجتمع فيه الطول البالغ والعرض الواسع والسمك الغليظ ، فيقال في الجبل الذي هو مرتفع ، ولا اتساع لعرضه جبل عال أو مرتفع أو شاهق ، فإذا انضم إليه الاتساع في الجوانب يقال عظيم ، والأجر كذلك ، لأن مآكل الجنة تكون من أرفع الأجناس ، وتكون في غاية الكثرة ، وتكون ممتدة إلى الأبد لا انقطاع لها ، فحصل فيه ما يناسب أن يقال له عظيم والعظيم في حق الله تعالى إشارة إلى كماله في صفاته ، كما أنه في الجسم إشارة إلى كماله في جهاته.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4085)

/لما بيّن حال المنافقين ذكر المتخلفين ، فإن قوماً من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لظنهم أنه يهزم ، فإنهم قالوا أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة ، فكيف يكون حالهم إذا دخلوا بلادهم وأحاط بهم العدو فاعتذروا ، وقولهم {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} فيه أمران يفيدان وضوح العذر أحدهما : (قولهم) {أَمْوَالُنَا} ولم يقولوا شغلتنا الأموال ، وذلك لأن جمع المال لا يصلح عذراً (لأنه) لا نهاية له ، وأما حفظ ما جمع من الشتات ومنع الحاصل من الفواتت يصلح عذراً ، فقالوا {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا} أي ما صار مالاً لنا لا مطلق الأموال وثانيهما : قوله تعالى : {وَأَهْلُونَا} وذلك لو أن قائلاً قال لهم : المال لا ينبغي أن يبلغ إلى درجة يمنعكم حفظه من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلّم لكان لهم أن يقولوا : فالأهل يمنع الاشتغال بهم وحفظهم عن أهم الأمور ، ثم إنهم مع العذر تضرعوا وقالوا {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة ، فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج ، فكذبهم الله تعالى فقال : {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } وهذا يحتمل أمرين أحدهما : أن يكون التكذيب راجعاً إلى قولهم {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } وتحقيقه هو أنهم أظهروا أنهم يعتقدون أنهم مسيئون بالتخلف حتى استغفروا ، ولم يكن في اعتقادهم ذلك ، بل كانوا يعتقدون أنهم بالتخلف محسنون ثانيهما : قالوا {شَغَلَتْنَآ} إشارة إلى أن امتناعنا لهذا لا غير ، ولم يكن ذلك في اعتقادهم ، بل كانوا يعتقدون امتناعهم لاعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون يقهرون ويغلبون ، كما قال بعده {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى ا أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} (
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
الفتح : 12) وقوله {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا } معناه أنكم تحترزون عن الضر. وتتركون أمر الله ورسوله ، وتقعدون طلباً للسلامة ، ولو أراد بكم الضرر لا ينفعكم قعودكم من الله شيئاً ، أو معناه أنكم تحترزون عن ضرر القتال والمقاتلين وتعتقدون أن أهليكم وبلادكم تحفظكم من العدو ، فهب أنكم حفظتم أنفسكم عن ذلك ، فمن يدفع عنكم عذاب الله في الآخرة ، مع أن ذلك أولى بالاحتراز ، وقد ذكرنا في سورة يس في قوله تعالى : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ} (يس : 23) أنه في /صورة كون الكلام مع المؤمن أدخل الباء على الضر ، فقال : {إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ} (الزمر : 38) وقال : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} (الأنعام : 17) وفي صورة كون الكلام مع الكافر أدخل الباء عل الكافر ، فقال ههنا {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} وقال : {مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُواءًا} (الأحزاب : 17) وقد ذكرنا الفرق الفائق هناك ، ولا نعيده ليكون هذا باعثاً على مطالعة تفسير سورة يّس ، فإنها درج الدرر اليتيمة ، {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا } أي بما تعملون من إظهار الحرب وإضمار غيره.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
يعني لم يكن تخلفكم لما ذكرتم {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ} وأن مخففة من الثقيلة ، أي ظننتم أولاً ، فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به ، وذلك لأن الشبهة قد يزينها الشيطان ، ويضم إليها مخايلة يقطع بها الغافل ، وإن كان لا يشك فيها العاقل ، وقوله تعالى : {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون هذا العطف عطفاً يفيد المغايرة ، فقوله {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} غير الذي في قوله {بَلْ ظَنَنتُمْ} وحينئذ يحتمل أن يكون الظن الثاني معناه : وظننتم أن الله يخلف وعده ، أو ظننتم أن الرسول كاذب في قوله وثانيهما : أن يكون قوله {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} هو ما تقدم من ظن أن لا ينقلبوا ، ويكون على حد قول القائل : علمت هذه المسألة وعلمت كذا ، أي هذه المسألة لا غيرها ، وذلك كأنه قال : بل ظننتم ظن أن لن ينقلب. وظنكم ذلك فاسد ، وقد بينا التحقيق في ظن السوء ، وقوله تعالى : {وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا} يحتمل وجهين أحدهما : وصرتم بذلك الظن بائرين هالكين وثانيهما : أنتم في الأصل بائرون وظننتم ذلك الظن الفاسد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4086)

على قولنا : {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} (الفتح : 12) ظن آخر غير ما في قوله {بَلْ ظَنَنتُمْ} ظاهر ، لأنا بينا أن ذلك ظنهم بأن الله يخلف وعده أو ظنهم بأن الرسول كاذب فقال : {وَمَن لَّمْ يُؤْمِنا بِاللَّهِ وَرَسُولِه } ويظن به خلفاً وبرسوله كذباً فإنا أعتدنا له سعيراً ، وفي قوله {لِلْكَـافِرِينَ} بدلاً عن أن يقول فإنا أعتدنا له /فائدة وهي التعميم كأنه تعالى قال : ومن لم يؤمن بالله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا للكافرين سعيراً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
بعد ما ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له عذاب أليم من الظانين الضالين ، أشار إلى أنه يغفر للأولين بمشيئته ويعذب الآخرين بمشيئته ، وغفرانه ورحمته أعم وأشمل وأتم وأكمل ، وقوله تعالى : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } يفيد عظمة الأمرين جميعاً لأن من عظم ملكه يكون أجره وهبته في غاية العظم وعذابه وعقوبته كذلك في غاية النكال والألم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
ثم قال تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } .
أوضح الله كذبهم بهذا حيث كانوا عندما يكون السير إلى مغانم يتوقعونها يقولون من تلقاء أنفسهم {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة ، فما بالهم لا يشتغلون بأموالهم يوم الغنيمة ، والمراد من المغانم مغانم أهل خيبر وفتحها وغنم المسلمون ولم يكن معهم إلا من كان معه في المدينة ، وفي قوله {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} وعد المبايعين الموافقين بالغنيمة والمتخلفين المخالفين بالحرمان.
وقوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّه قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } .
يحتمل وجوهاً أحدها : هو ما قال الله إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية وعاهد بها لا غير وهو الأشهر عند المفسرين ، والأظهر نظراً إلى قوله تعالى : {كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } ، ثانيها : يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (الفتح : 6) وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة فيكونون من الذين رضي الله عنهم كما قال تعالى : {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح : 18) فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم فيلزم تبديل كلام الله ثالثها : هو أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما تخلف القوم أطلعه الله على باطنهم وأظهر له نفاقهم وأنه يريد أن يعاقبهم وقال للنبي صلى الله عليه وسلّم {فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا } (التوبة : 83) فأرادوا أن يبدلوا ذلك الكلام بالخروج معه ، لا يقال فالآية /التي ذكرتم واردة في غزوة تبوك لا في هذه الواقعة ، لأنا نقول قد وجد ههنا بقوله {لَّن تَتَّبِعُونَا} على صيغة النفي بدلاً عن قوله : لا تتبعونا ، على صيغة النهي معنى لطيف وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم بنى على إخبار الله تعالى عنهم النفي لوثوقه وقطعه بصدقه فجزم وقال : {لَّن تَتَّبِعُونَا} يعني لو أذنتكم ولو أردتم واخترتم لا يتم لكم ذلك لما أخبر الله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
ثم قال تعالى : {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } .
رداً على قوله تعالى : {كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } كأنهم قالوا : ما قال الله كذلك من قبل ، بل تحسدوننا ، وبل للاضراب والمضروب عنه محذوف في الموضعين ، أما ههنا فهو بتقدير ما قال الله وكذلك ، فإن قيل بماذا كان الحسد في اعتقادهم ؟
نقول كأنهم قالوا نحن كنا مصيبين في عدم الخروج حيث رجعوا من الحديبية من غير حاصل ونحن استرحنا ، فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا.
ثم قال تعالى رداً عليهم كما ردوا {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا} أي لم يفقهوا من قولك لا تخرجوا إلا ظاهر النهي ولم يفهموا من حكمه إلا قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4087)

لما قال النبي صلى الله عليه وسلّم : {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} (الفتح : 15) وقال : {فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} (التوبة : 83) فكان المخلفون جمعاً كثيراً ، من قبائل متشعبة ، دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم فإنهم لم يبقوا على ذلك ولم يكونوا من الذين مردوا على النفاق ، بل منهم من حسن حاله وصلح باله فجعل لقبول توبتهم علامة ، وهو أنهم يدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ويطيعون بخلاف حال ثعلبة حيث امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلّم واستمر عليه الحال ولم يقبل منه أحد من الصحابة ، كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أنه تعالى بيّن أنهم يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجرر الحسن وما كان أحد من الصحابة يتركهم يتبعونه ، والفرق بين حال ثعلبة /وبين حال هؤلاء من وجهين أحدهما : أن ثعلبة جاز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله ، فلم يبين لتوبته علامة ، والأعراب تغيرت ، فإن بعد النبي صلى الله عليه وسلّم لم يبق من المنافقين على النفاق أحد على مذهب أهل السنة وثانيهما : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير والجم الغفير أمس ، لأنه لولا البيان لكان يفضي الأمر إلى قيام الفتنة بين فرق المسلمين ، وفي قوله {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} وجوه أشهرها وأظهرها أنهم بنو حنيفة حيث تابعوا مسيلمة وغزاهم أبو بكر وثانيها : هم فارس والروم غزاهم عمر ثالثها : هوازن وثقيف غزاهم النبي صلى الله عليه وسلّم ، وأقوى الوجوه هو أن الدعاء كان من النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان الأظهر غيره ، أما الدليل على قوة هذا الوجه هو أن أهل السنة اتفقوا على أن أمر العرب في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم ظهر ولم يبق إلا كافر مجاهر ، أو مؤمن تقي طاهر ، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلّم من الصلاة على موتى المنافقين ، وترك المؤمنون مخالطتهم حتى إن عبادة بن كعب مع كونه بين المؤمنين لم يكلمه المؤمنون مدة ، وما ذكره الله علامة لظهور حال من كان منافقاً ، فإن كان ظهر حالهم بغير هذا ، فلا معنى لجعل هذا علامة وإن ظهر بهذا الظهور كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو امتنع من قبولهم لاتباعه لامتنع أبو بكر وعمر لقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
{وَاتَّبِعُوهُ} (الأعراف : 158) وقوله {فَاتَّبِعُونِى} (مريم : 43) فإن قيل هذا ضعيف لوجهين أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : {لَّن تَتَّبِعُونَا} (الفتح : 15) وقال : {لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} (التوبة : 83) فكيف كانوا يتبعونه مع النفي ؟
الثاني : قوله تعالى : {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} ولم يبق بعد ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام حرب قوم أولي بأسٍ شديد فإن الرعب استولى على قلوب الناس ولم يبق الكفار بعده شدة وبأس ، واتفاق الجمهور يدل على القوة والظهور ، نقول أما الجواب عن الأول فمن وجهين أحدهما : أن يكون ذلك مقيداً ، تقديره : لن تخرجوا معي أبداً وأنتم على ما أنتم عليه ، ويجب هذا التقييد لأنا أجمعنا على أن منهم من أسلم وحسن إسلامه بل الأكثر ذلك ، وما كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يقول لهم لستم مسلمين لقوله تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء : 94) ومع القول بإسلامهم ما كان يجوز أن يمنعهم ما كان من الجهاد في سبيل الله مع وجوبه عليهم وكان ذلك مقيداً ، وقد تبيّن حسن حالهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم دعاهم إلى جهاد فأطاعه قوم وامتنع آخرون ، وظهر أمرهم وعلم من استمر على الكفر ممن استقر قلبه على الإيمان الثاني : المراد من قوله {لَّن تَتَّبِعُونَا} (الفتح : 15) في هذا القتال فحسب وقوله {لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ} (التوبة : 83) كان في غير هذا وهم المنافقون الذين تخلفوا في غزوة تبوك ، وأما اتفاق الجمهور فنقول لا مخالفة بيننا وبينهم لأنا نقول النبي صلى الله عليه وسلّم دعاهم أولاً ، وأبو بكر رضي الله عنه أيضاً دعاهم بعد معرفته جواز ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلّم ، إنما نحن نثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم دعاهم فإن قالوا أبو بكر رضي الله عنه دعاهم لم يكن بين القولين تناف ، وإن قالوا لم يدعهم النبي صلى الله عليه وسلّم فالنفي والجزم به في غاية البعد لجواز أن يكون ذلك قد وقع ، وكيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام قال من كلام /الله {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى} (آل عمران : 31) وقال : {وَاتَّبِعُونِا هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف : 61) ومنهم من أحب الله واختار اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلّم لأن بقاء جمعهم على النفاق والكفر بعد ما اتسعت دائرة الإسلام واجتمعت العرب على الإيمان بعيد ، ويوم قوله صلى الله عليه وسلّم {لَّن تَتَّبِعُونَا} كان أكثر العرب على الكفر والنفاق ، لأنه كان قبل فتح مكة وقبل أخذ حصون كثيرة.
(1/4088)

جزء : 28 رقم الصفحة : 65
وأما قوله لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلّم حرب مع أولي بأس شديد ، قلنا لا نسلم ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم عام الحديبية دعاهم إلى الحرب لأنه خرج محرماً ومعه الهدى ليعلم قريش أنه لا يطلب القتال وامتنعوا فقال ستدعون إلى الحرب ولا شك أن من يكون خصمه مسلحاً محارباً أكثر بأساً ممن يكون على خلاف ذلك فكان قد علم من حال مكة أنهم لا يوقرون حاجاً ولا معتمراً فقوله {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} يعني أولي سلاح من آلة الحديد فيه بأس شديد ، ومن قال بأن الداعي أبو بكر وعمر تمسك بالآية على خلافتهما ودلالتها ظاهرة ، وحينئذ {تُقَـاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } إشارة إلى أن أحدهما يقع ، وقرىء {أَوْ} بالنصب بإضمار أن على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا ، والتحقيق فيه هو أن {لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ} لا تجيء إلا بين المتغايرين وتنبىء عن الحصر فيقال العدد زوج أو فرد ، ولهذا لا يصح أن يقال هو زيد أو عمرو ، ولهذا يقال العدد زوج أو خمسة أو غيرهما ، إذا علم هذا فقال القائل لألزمنك أو تقضيني حقي يفهم منه أن الزمان انحصر في قسمين : قسم يكون فيه الملازمة ، وقسم يكون فيه قضاء الحق ، فلا يكون بين الملازمة وقضاء الحق زمان لا يوجد فيه الملازمة ولا قضاء الحق ، فيكون في قوله لألزمنك أو تقضيني ، كما حكي في قول القائل ، لألزمنك إلى أن تقضيني ، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء ، وهذا ما يضعف قول القائل الداعي هو عمر والقوم فارس والروم لأن الفريقين يقران بالجزية ، فالقتال معهم لا يمتد إلى الإسلام لجواز أن يؤدوا الجزية ، وقوله تعالى : {فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ} فيه فائدة لأن التولي إذا كان بعذر كما قال تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ} (النور : 61) لا يكون للمتولي عذاب أليم ، فقال : {وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم} يعني إن كان توليكم بناء على الظن الفاسد والاعتقاد الباطل كما كان حيث قلتم بألسنتكم لا بقلوبكم {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا} (الفتح : 11) فالله يعذبكم عذاباً أليماً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
بين من يجوز له التخلف وترك الجهاد وما بسببه يجوز ترك الجهاد وهو ما يمنع من الكر والفر وبين ذلك ببيان ثلاثة أصناف الأول : {الاعْمَى } فإنه لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب ولا يمكنه الاحتراز والهرب ، والأعرج كذلك والمريض كذلك ، وفي معنى الأعرج الأقطع /والمقعد ، بل ذلك أولى بأن يعذر ، ومن به عرج لا يمنعه من الكر والفر لا يعذر ، وكذلك المرض القليل الذي لا يمنع من الكر والفر كالطحال والسعال إذ به يضعف وبعض أوجاع المفاصل لا يكون عذراً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن هذه أعذار تكون في نفس المجاهد ولنا أعذار خارجة كالفقر الذي لا يتمكن صاحبه من استصحاب ما يحتاج إليه والاشتغال بمن لولاه لضاع كطفل أو مريض ، والأعذار تعلم من الفقه ونحن نبحث فيما يتعلق بالتفسير في بيان مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الأعذار التي في السفر ، لأن غيرها ممكن الإزالة بخلاف العرج والعمى.
المسألة الثانية : اقتصر منها على الأصناف الثلاثة ، لأن العذر إما أن يكون بإخلال في عضو أو بإخلال في القوة ، والذي بسبب إخلال العضو ، فإما أن يكون بسبب اختلال في العضو الذي به الوصول إلى العدو والانتقال في مواضع القتال ، أو في العضو الذي تتم به فائدة الحصول في المعركة والوصول ، والأول : هو الرجل ، والثاني : هو العين ، لأن بالرجل يحصل الانتقال ، وبالعين يحصل الانتفاع في الطلب والهرب. وأما الأذن والأنف واللسان وغيرها من الأعضاء ، فلا مدخل لها في شيء من الأمرين ، بقيت اليد ، فإن المقطوع اليدين لا يقدر على شيء ، وهو عذر واضح ولم يذكره ، نقول : لأن فائدة الرجل وهي الانتقال تبطل بالخلل في إحداهما ، وفائدة اليد وهي الضراب والبطش لا تبطل إلا ببطلان اليدين جميعاً ، ومقطوع اليدين لا يوجد إلا نادراً ، ولعل في جماعة النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن أحد مقطوع اليدين فلم يذكره ، أو لأن المقطوع ينتفع به في الجهاد ، فإنه ينظر ولولاه لاستقل به مقاتل فيمكن أن يقاتل ، وهو غير معذور في التخلف ، لأن المجاهدين ينتفعون به بخلاف الأعمى ، فإن قيل كما أن مقطوع اليد الواحدة لا تبطل منفعة بطشه كذلك الأعور لا تبطل منفعة رؤيته ، وقد ذكر الأعمى ، وما ذكر الأشل وأقطع اليدين ، قلنا لما بينا أن مقطوع اليدين نادر الوجود والآفة النازلة بإحدى اليدين لا تعمهما والآفة النازلة بالعين الواحدة تعم العينين لأن منبع النور واحد وهما متجاذبان والوجود يفرق بينهما ، فإن الأعمى كثير الوجود ومقطوع اليدين نادر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
(1/4089)

المسألة الثالثة : قدم الآفة في الآلة على الآفة في القوة ، لأن الآفة في القوة تزول وتطرأ ، والآفة في الآلة إذ طرأت لا تزول ، فإن الأعمى لا يعود بصيراً فالعذر في محل الآلة أتم.
المسألة الرابعة : قدم الأعمى على الأعرج ، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال ، والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق آخر يقدر على القتال بالرمي وغيره.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
/اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فجمع بينهما بياناً لطاعة الله ، فإن الله تعالى لو قال : ومن يطع الله ، كان لبعض الناس أن يقول : نحن لا نرى الله ولا نسمع كلامه ، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه ؟
فقال طاعته في طاعة رسوله وكلامه يسمع من رسوله.
ثم قال : {وَمَن يَتَوَلَّ} أي بقلبه ، ثم لما بيّن حال المخلفين بعد قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح : 10) عاد إلى بيان حالهم وقال : {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} حتى بايعوا على الموت ، وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه يُدْخِلْه جَنَّـاتٍ} (الفتح : 17) فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية ، وفي هذه الآية بيّن أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان ، أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} وأما طاعة الرسول فبقوله {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى : {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى : {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} (المجادلة : 22).
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
ثم قال تعالى : {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} والفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا لأنه علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم ؟
نقول قوله {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} متعلق بقوله {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} كما يقول القائل فرحت أمس إذ كلمت زيداً فقام إليّ ، أو إذ دخلت عليه فأكرمني ، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيباً كذلك ، ههنا قال تعالى : {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من الصدق إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب ، بل عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم ، والفاء في قوله {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} /للتعقيب الذي ذكرته فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم ، وفي علم بيان وصف المبايعة بكونها معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم وهذا توفيق لا يتأتى إلا لمن هداه الله تعالى إلى معاني كتابه الكريم وقوله تعالى : {وَأَثَـابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } مغانمها وقيل مغانم هجر {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه {حَكِيمًا} حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه أو لأن في ذلك إعزاز قوم وإذلال آخرين ، فإنه يذل من يشاء بعزته ويعز من يشاء بحكمته.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4090)

إشارة إلى أن ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب بل الجزاء قدامهم ، وإنما هي لعاجلة عجل بها ، وفي المغانم الموعود بها أقوال ، أصحها أنه وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين وكل ما غنموه كان منها والله كان عالماً بها ، وهذا كما يقول الملك الجواد لمن يخدمه : يكون لك مني على ما فعلته الجزاء إن شاء الله ، ولا يريد شيئاً بعينه ، ثم كل ما يأتي به ويؤتيه يكون داخلاً تحت ذلك الوعد ، غير أن الملك لا يعلم تفاصيل ما يصل إليه وقت الوعد ، ولله عالم بها ، وقوله تعالى : {وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ} لإتمام المنة ، كأنه قال رزقتكم غنيمة باردة من غير مس حر القتال ولو تعبتم فيه لقلتم هذا جزاء تعبنا ، وقوله تعالى : {وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} عطف على مفهوم لأنه لما قال الله تعالى : {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِه } واللام ينبىء عن النفع كما أن علي ينبىء عن الضر القائل لا علي ولا ليا بمعنى لا ما أتضرر به ولا ما أنتفع به ولا أضر به ولا أنفع ، فكذلك قوله {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِه } لتنفعكم {وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} وفيه معنى لطيف وهو أن المغانم الموعود بها كل ما يأخذه المسلمون فقوله {وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} يعني لينفعكم بها وليجعلها لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وعدهم الله يصل إليهم كما وصل إليكم ، أو نقول : معناه لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في إخباره عن الغيوب فتجمل أخباركم ويكمل اعتقادكم ، وقوله {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} وهو التوكل عليه والتفويض إليه والاعتزاز به.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
/قيل غنيمة هوازن ، وقيل غنائم فارس والروم وذكر الزمخشري في أخرى ثلاثة أوجه أن تكون منصوبة بفعل مضمرر يفسره {قَدْ أَحَاطَ} و{لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} صفة لأخرى كأنه يقول وغنيمة أخرى غير مقدورة {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } ثانيها : أن تكون مرفوعة ، وخبرها {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } وحسن جعلها مبتدأ مع كونه نكرة لكونها موصوفة بلم تقدروا وثالثها : الجر بإضمار رب ويحتمل أن يقال منصوبة بالعطف على منصوب وفيه وجهان أحدهما : كأنه تعالى قال : {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِه } وأخرى ما قدرتم عليها وهذا ضعيف لأن أخرى لم يعجل بها وثانيهما : على مغانم كثيرة تأخذونها ، وأخرى أي وعدكم الله أخرى ، وحينئذ كأنه قال : وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها ، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين وعلى هذا تبين لقول الفرّاء حسن ، وذلك لأنه فسر قوله تعالى : {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } أي حفظها للمؤمنين لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
وهو يصلح جواباً لمن يقول : كف الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً ، ولو اجتمع عليهم العرب كما عزموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها ، فقال ليس كذلك ، بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون ، والغلبة واقعة للمسلمين ، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً ، بل هو إلهي محكوم به محتوم.
وقوله تعالى : {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} .
قد ذكرنا مراراً أن دفع الضرر عن الشخص إما أن يكون بولي ينفع باللطف ، أو بنصير يدفع بالعنف ، وليس للذين كفروا شيء من ذلك ، وفي قوله تعالى : {ثُمَّ} لطيفة وهي أن من يولي دبره يطلب الخلاص من القتل بالالتحاق بما ينجيه ، فقال وليس إذا ولوا الأدبار يتخلصون ، بل بعد التولي الهلاك لاحق بهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
جواب عن سؤال آخر يقوم مقام الجهاد وهو أن الطوالع لها تأثيرات ، والاتصالات لها تغيرات ، فقال ليس كذلك (بل) سنة الله نصرة رسوله ، وإهلاك عدوه.
وقوله تعالى : {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} .
بشارة ودفع وهن يقع بسبب وهم ، وهو أنه إذا قال الله تعالى ليس هذا بالتأثيرات فلا يجب وقوعه ، بل الله فاعل مختار ، ولو أراد أن يهلك العباد لأهلكهم ، بخلاف قول المنجم بأن الغلب لمن /له طالع وشواهد تقتضي غلبته قطعاً ، فقال الله تعالى : {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} يعني أن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أصدقائه ، ولكن لا يبدل سنته ولا يغير عادته.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
(1/4091)

تبييناً لما تقدم من قوله {وَلَوْ قَـاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُوا لَوَلَّوُا الادْبَـارَ} (الفتح : 22) أي هو بتقدير الله ، لأنه كف أيديهم عنكم بالفرار ، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم ، وقوله تعالى : {بِبَطْنِ مَكَّةَ} إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف ، ومع ذاك وجد كف الأيدي ، وذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة ، فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو دخل دارهم طالبين ثأرهم ، وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم ، ويقتضي أن يبالغ المسلمون في الاجتهاد في الجهاد لكونهم لو قصروا لكسروا وأسروا لبعد مأمنهم ، فقوله {بِبَطْنِ مَكَّةَ} إشارة إلى بعد الكف ، ومع ذلك وجد بمشيئة الله تعالى ، وقوله تعالى : {مِنا بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } صالح لأمرين أحدهما : أن يكون منة على المؤمنين بأن الظفر كان لكم ، مع أن الظاهر كان يستدعي كون الظفر لهم لكون البلاد لهم ، ولكثرة عددهم الثاني : أن يكون ذكر أمرين مانعين من الأمرين الأولين ، مع أن الله حققهما مع المنافقين ، أما كف أيدي الكفار ، فكان بعيداً لكونهم في بلادهم ذابين عن أهليهم وأولادهم ، وإليه أشار بقوله {بِبَطْنِ مَكَّةَ} وأما كف أيدي المسلمين ، فلأنه كان بعد أن ظفروا بهم ، ومتى ظفر الإنسان بعدوه الذي لو ظفر هو به لاستأصله يبعد انكفافه عنه ، مع أن الله كف اليدين.
وقوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} .
يعني كان الله يرى فيه من المصلحة ، وإن كنتم لا ترون ذلك ، وبينه بقوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا} إلى أن قال : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ} (الفتح : 25) يعني كان الكف محافظة على ما في مكة من المسلمين ليخرجوا منها ، ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات ، واختلف المفسرون في ذلك الكف منهم من قال المراد ما كان عام الفتح ، ومنهم من قال ما كان عام الحديبية ، فإن المسلمين هزموا جيش الكفار حتى أدخلوهم بيوتهم ، وقيل إن الحرب كان بالحجارة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
0
/وقوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّه } .
إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا ، وكل ذلك يقتضي قتالهم ، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا ، ولم يبق بينهما خلاف واصطلحوا ، ولم يبق بينهما نزاع ، بل الاختلاف باق والنزاع مستمر ، لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا فازدادوا كفراً وعداوة ، وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات ، وقوله {وَالْهَدْىَ} منصوب على العطف على كم في {صَدُّوكُمْ} ويجوز الجر عطفاً على المسجد ، أي وعن الهدي. و{مَعْكُوفًا} حال و{أَن يَبْلُغَ} تقديره على أن يبلغ ، ويحتمل أن يقال {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّه } رفع ، تقديره معكوفاً بلوغه محله ، كما يقال : رأيت زيداً شديداً بأسه ، ومعكوفاً ، أي ممنوعاً ، ولا يحتاج إلى تقدير عن على هذا الوجه.
وقوله تعالى : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـاُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّة بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
(1/4092)

وصف الرجال والنساء ، يعني لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين ، وقوله تعالى : {أَن تَطَـاُوهُمْ} بدل اشتمال ، كأنه قال : رجال غير معلومي الوطء فتصيبكم منهم معرة عيب أو إثم ، وذلك لأنكم ربما تقتلونهم فتلزمكم الكفارة وهي دليل الإثم ، أو يعيبكم الكفار بأنهم فعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم ، وقوله تعالى : {بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال الزمخشري : هو متعلق بقوله {أَن تَطَـاُوهُمْ} يعني تطئوهم بغير علم ، وجاز أن يكون بدلاً عن الضمير المنصوب في قوله {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} ولقائل أن يقول : يكون هذا تكراراً ، لأن على قولنا هو بدل من الضمير يكون التقدير : لم تعلموا أن تطئوهم بغير علم ، فيلزم تكرار بغير علم الحصول بقوله {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} فالأولى أن يقال {بِغَيْرِ عِلْمٍ } هو في موضعه تقديره : لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ، من يعركم ويعيب عليكم ، يعني إن وطأتموهم غير عالمين يصبكم مسبة الكفار {بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بجهل لا يعلمون أنكم معذورون فيه ، أو نقول تقديره : لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ، أي فتقتلوهم بغير علم ، أو تؤذوهم بغير علم ، فيكون الوطء سبب القتل ، والوطء غير معلوم لكم ، والقتل الذي هو بسبب المعرة وهو الوطء الذي يحصل بغير علم. أو نقول : المعرة قسمان أحدهما : ما يحصل من القتل العمد ممن هو غير العالم بحال المحل والثاني : ما يحصل من القتل خطأ ، وهو /غير عدم العلم ، فقال : تصيبكم منهم معرة غير معلومة ، لا التي تكون عن العلم وجواب : لولا محذوف تقديره : لولا ذلك لما كف أيديكم عنهم ، هذا ما قاله الزمخشري وهو حسن ، ويحتمل أن يقال جوابه : ما يدل عليه قوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني قد استحقوا لأن لا يهملوا ، ولولا رجال مؤمنون لوقع ما استحقوه ، كما يقول القائل : هو سارق ولولا فلان لقطعت يده ، وذلك لأن لولا لا تستعمل إلا لامتناع الشيء لوجود غيره/ وامتناع الشيء لا يكون إلا إذا وجد المقتضي له فمنعه الغير فذكر الله تعالى أولاً المقتضي التام البالغ وهو الكفر والصد والمنع ، وذكر ما امتنع لأجله مقتضاه وهو وجود الرجال المؤمنين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
وقوله تعالى : {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِه مَن يَشَآءُا لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فيه أبحاث :
الأول : في الفعل الذي يستدعي اللام الذي بسببه يكون الإدخال وفيه وجوه أحدها : أن يقال هو قوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} ليدخل ، لا يقال بأنك ذكرت أن المانع وجود رجال مؤمنين فيكون كأنه قال : كف أيديكم لئلا تطئوا فكيف يكون لشيء آخر ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن نقول كف أيديكم لئلا تطئوا لتدخلوا كما يقال أطعمته ليشبع ليغفر الله لي أي الإطعام للشابع كان ليغفر الثاني : هو أنا بينا أن لولا جوابه ما دل عليه قوله {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فيكون كأنه قال هم الذين كفروا واستحقوا التعجل في إهلاكهم ، ولولا رجال لعجل بهم ولكن كف أيديكم ليدخل ثانيها : أن يقال فعل ما فعل ليدخل لأن هناك أفعالاً من الألطاف والهداية وغيرهما ، وقوله {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِه مَن يَشَآءُ } ليؤمن منهم من علم الله تعالى أنه يؤمن في تلك السنة أو ليخرج من مكة ويهاجر فيدخلهم في رحمته وقوله تعالى : {لَوْ تَزَيَّلُوا } أي لو تميزوا ، والضمير يحتمل أن يقال هو ضمير الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات ، فإن قيل كيف يصح هذا وقد قلتم بأن جواب لولا محذوف وهو قوله لما كف أو لعجل ولو كان {لَوْ تَزَيَّلُوا } راجعاً إلى الرجال لكان لعذبنا جواب لولا ؟
نقول وقد قال به الزمخشري فقال : {لَوْ تَزَيَّلُوا } يتضمن ذكر لولا فيحتمل أن يكون لعذبنا جواب لولا ، ويحتمل أن يقال هو ضمير من يشاء ، كأنه قال ليدخل من يشاء في رحمته لو تزيلوا هم وتميزوا وآمنوا لعذبنا الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون ، وفيه أبحاث :
البحث الأول : وهو على تقدير نفرضه فالكلام يفيد أن العذاب الأليم اندفع عنهم ، إما بسبب عدم التزييل ، أو بسبب وجود الرجال وعلم تقدير وجود الرجال والعذاب الأليم لا يندفع /عن الكافر ، نقول المراد عذاباً عاجلاً بأيديكم يبتدىء بالجنس إذ كانوا غير مقرنين ولا منقلبين إليهم فيظهرون ويقتدرون يكون أليماً.
(1/4093)

البحث الثاني : ما الحكمة في ذكر المؤمنين والمؤمنات مع أن المؤنث يدخل في ذكر المذكر عند الاجتماع ؟
قلنا الجواب عنه من وجهين أحدهما : ما تقدم يعني أن الموضع موضع وهم اختصاص الرجال بالحكم لأن قوله {تَطَـاُوهُمْ فَتُصِيبَكُم} معناه تهلكوهم والمراد لا تقاتل ولا تقتل فكان المانع وهو وجود الرجال المؤمنين فقال : والنساء المؤمنات أيضاً لأن تخريب بيوتهن ويتم أولادهن بسبب رجالهن وطأة شديدة وثانيهما : أن في محل الشفقة تعد المواضع لترقيق القلب ، يقال لمن يعذب شخصاً لا تعذبه وارحم ذله وفقره وضعفه ، ويقال أولاده وصغاره وأهله الضعفاء العاجزين ، فكذلك ههنا قال : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ} لترقيق قلوب المؤمنات ورضاهم بما جرى من الكف بعد الظفر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 65
91
{إِذْ} يحتمل أن يكون ظرفاً فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له ، ويحتمل أن يكون مفعولاً به ، فإن قلنا إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يقال هو مذكور ، ويحتمل أن يقال هو مفهوم غير مذكور ، فإن قلنا هو مذكور ففيه وجهان أحدهما : هو قوله تعالى : {وَصَدُّوكُمْ} (الفتح : 25) أي وصدوكم حين جعلوا في قلوبهم الحمية وثانيها : قوله تعالى : {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} (الفتح : 25) أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم الحمية والثاني : أقرب لقربه لفظاً وشدة مناسبته معنى لأنهم إذا جعلوا في قلوبهم الحمية لا يرجعون إلى الاستسلام والانقياد ، والمؤمنون لما أنزل الله عليهم السكينة لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المؤمنين فيعذبونهم عذاباً أليماً أو غير المؤمنين ، وأما إن قلنا إن ذلك مفهوم غير مذكور ففيه وجهان أحدهما : حفظ الله المؤمنين عن أن يطئوهم وهم الذين كفروا الذين جعل في قلوبهم الحمية وثانيها : أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، وعلى هذا فقوله تعالى : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه } تفسير لذلك الإحسان ، وأما إن قلنا إنه مفعول به ، فالعامل مقدر تقديره أذكر ، أي : أذكر ذلك الوقت ، كما تقول أتذكر إذ قام زيد ، أي أتذكر وقت قيامه /كما تقول أتذكر زيداً ، وعلى هذا يكون الظرف للفعل المضاف إليه عاملاً فيه ، وفي. لطائف معنوية ولفظية : الأولى : هو أن الله تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن ، فأشار إلى ثلاثة أشياء أحدها : جعل ما للكافرين بجعلهم فقال : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا } وجعل ما للمؤمنين بجعل الله ، فقال : {فَأَنزَلَ اللَّهُ} وبين الفاعلين ما لا يخفى ثانيها : جعل للكافرين الحمية وللمؤمنين السكينة وبين المفعولين تفاوت على ما سنذكره ثالثها : أضاف الحمية إلى الجاهلية وأضاف السكينة إلى نفسه حيث قال : حمية الجاهلية ، وقال : سكينته ، وبين الإضافتين ما لا يذكر الثانية : زاد المؤمنين خيراً بعد حصول مقابلة شيء بشيء فعلهم بفعل الله والحمية بالسكينة والإضافة إلى الجاهلية بالإضافة إلى الله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4094)

{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } وسنذكر معناه ، وأما اللفظية فثلاث لطائف الأولى : قال في حق الكافر (جعل) وقال في حق المؤمن (أنزل) ولم يقل خلق ولا جعل سكينته إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى ، وأما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزانة الرحمة معدة لعباده فأنزلها الثانية : قال الحمية ثم أضافها بقوله {حَمِيَّةَ الْجَـاهِلِيَّةِ} لأن الحمية في نفسها صفة مذمومة وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحاً ، وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية. وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لحسن اعتبار ، فقال {سَكِينَتَه } اكتفاه بحسن الإضافة الثالثة : قوله {فَأَنزَلَ} بالفاء لا بالواو إشارة إلى أن ذلك كالمقابلة تقول أكرمني فأكرمته للمجازاة والمقابلة ولو قلت أكرمني وأكرمكته لا ينبىء عن ذلك ، وحينئذ يكون فيه لطيفة : وهي أن عند اشتداد غضب أحد العدوين فالعدو الآخر إما أن يكون ضعيفاً أو قوياً ، فإن كان ضعيفاً ينهزم وينقهر/ وإن كان قوياً فيورث غضبه فيه غضباً ، وهذا سبب قيام الفتن والقتال فقال في نفس الحركة عند حركتهم ما أقدمنا وما انهزمنا ، وقوله تعالى : {فَأَنزَلَ اللَّهُ} بالفاء يدل تعلق الإنزال بالفاء على ترتيبه على شيء ، نقول فيه وجهان : أحدهما : ما ذكرنا من أن إذ ظرف كأنه قال أحسن الله {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقوله {فَأَنزَلَ} تفسير لذلك الإحسان كما يقال أكرمني فأعطاني لتفسير الإكرام وثانيهما : أن تكون الفاء للدلالة على أن تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة ، تقول أكرمني فأثنيت عليه ، ويجوز أن يكونا فعلين واقعين من غير مقابلة ، كما تقول جاءني زيد وخرج عمرو ، وهو هنا كذلك لأنهم لما جعلوا في قلوبهم الحمية فالمسلمون على مجرى العادة لو نظرت إليهم لزم أن يوجد منهم أحد الأمرين : إما إقدام ، وإما انهزام لأن أحد العدوين إذا اشتد غضبه فالعدو الآخر إن كان مثله في القوة يغضب أيضاً وهذا يثير الفتن ، وإن كان أضعف منه ينهزم أو ينقاد له فالله تعالى أنزل في مقابلة حمية الكافرين على المؤمنين سكينته حتى لم يغضبوا ولم ينهزموا بل يصبروا ، وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى ، قوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
{عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فإنه هو الذي أجاب الكافرين إلى الصلح ، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر ، وأبوا أن /لا يكتبوا محمداً رسول الله وبسم الله ، فلما سكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سكن المؤمنون ، وقوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } فيه وجوه أظهرها أنه قول لا إله إلا الله فإن بها يقع الاتقاء عن الشرك ، وقيل هو بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله فإن الكافرين أبوا ذلك والمؤمنون التزموه ، وقيل هي الوفاء بالعهد إلى غير ذلك ونحن نوضح فيه ما يترجح بالدليل فنقول {وَأَلْزَمَهُمْ} يحتمل أن يكون عائداً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين جميعاً يعني ألزم النبي والمؤمنين كلمة التقوى ، ويحتمل أن يكون عائداً إلى المؤمنين فحسب ، فإن قلنا إنه عائد إليهما جميعاً نقول هو الأمر بالتقوى فإن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلّم : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ} (الأحزاب : 1) وقال للمؤمنين {مُّسْتَقِيمٍ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } (آل عمران : 102) والأمر بتقوى الله حتى تذهله تقواه عن الالتفات إلى ما سوى الله ، كما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلّم {اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ} وقال تعالى : {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه } (الأحزاب : 77) ثم بيّن له حال من صدقه بقوله {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ } (الأحزاب : 39) أما في حق المؤمنين فقال : {مُّسْتَقِيمٍ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } وقال : {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى} (البقرة : 150) وإن قلنا بأنه راجع إلى المؤمنين فهو قوله تعالى : {وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (الحشر : 7) ألا ترى إلى قوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} (
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4095)

الحجرات : 1) وهو قوله تعالى : {عَظِيمَا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه } وفي معنى قوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } على هذا معنى لطيف وهو أنه تعالى إذا قال : (اتقوا) يكون الأمر وارداً ثم إن من الناس من يقبله بتوفيق الله ويلتزمه ومنهم من لا يلتزمه/ ومن التزمه فقد التزمه بإلزام الله إياه فكأنه قال تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } وفي هذا المعنى رجحان من حيث إن التقوى وإن كان كاملاً ولكنه أقرب إلى الكلمة ، وعلى هذا فقوله {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } معناه أنهم كانوا عند الله أكرم الناس فألزموا تقواه ، وذلك لأن قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } (الحجرات : 13) يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون معناه أن من يكون تقواه أكثر يكرمه الله أكثر والثاني : أن يكون معناه أن من سيكون أكرم عند الله وأقرب إليه كان أتقى ، كما في قوله "والمخلصون على خطر عظيم" وقوله تعالى : {هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} (المؤمنون : 57) وعلى الوجه الثاني يكون معنى قوله {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} لأنهم كانوا أعلم بالله لقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) وقوله {وَأَهْلَهَا } يحتمل وجهين أحدهما : أنه يفهم من معنى الأحق أنه يثبت رجحاناً على الكافرين إن لم يثبت الأهلية ، كما لو اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فقال في الأقرب إلى الاستحقاق إذا كان ولا بد فهذا أحق ، كما يقال الحبس أهون من القتل مع أنه لاهين هناك فقال : {وَأَهْلَهَا } دفعاً لذلك الثاني : وهو أقوى وهو أن يقال قوله تعالى : {وَأَهْلَهَا } فيه وجوه نبينها بعد ما نبين معنى الأحق ، فنقول هو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون الأحق بمعنى الحق لا للتفضيل كما في قوله تعالى : {خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (مريم : 73) إذ لا خير في غيره والثاني : أن يكون للتفضيل وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون /بالنسبة إلى غيرهم أي المؤمنون أحق من الكافرين والثاني : أن يكون بالنسبة إلى كلمة التقوى من كلمة أخرى غير تقوى ، تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة ، كما إذا سأل شخص عن زيد إنه بالطب أعلم أو بالفقه ، نقول هو بالفقه أعلم أي من الطب.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
بيان لفساد ما قاله المنافقون بعد إنزال الله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين ووقوفهم عند ما أمروا به من عدم الإقبال على القتال وذلك قولهم ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا ولا قصرنا حيث كان النبي صلى الله عليه وسلّم رأى في منامه أن المؤمنين يدخلون مكة ويتمون الحج ولم يعين له وقتاً فقص رؤياه على المؤمنين ، فقطعوا بأن الأمر كما رأى لنبي صلى الله عليه وسلّم في منامه وظنوا أن الدخول يكون عام الحديبية ، والله أعلم أنه لا يكون إلا عام الفتح فلما صالحوا ورجعوا قال المنافقون استهزاء ما دخلنا ولا حلقنا فقال تعالى : {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ } وتعدية صدق إلى مفعولين يحتمل أن يكون بنفسه ، وكونه من الأفعال التي تتعدى إلى المفعولين ككلمة جعل وخلق ، ويحتمل أن يقال عدى إلى الرؤيا بحرف تقديره صدق الله رسوله في الرؤيا ، وعلى الأول معناه جعلها واقعة بين صدق وعده إذ وقع الموعود به وأتى به ، وعلى الثاني معناه ما أراه الله لم يكذب فيه ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون رأى في منامه أن الله تعالى يقول ستدخلون المسجد الحرام فيكون قوله {صَدَقَ} ظاهراً لأن استعمال الصدق في الكلام ظاهر ، ويحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رأى أنه يدخل المسجد فيكون قوله {صَدَقَ اللَّهُ} معناه أنه أتى بما يحقق المنام ويدل على كونه صادقاً يقال صدقني سن بكره مثلاً وفيما إذا حقق الأمر الذي يريه من نفسه ، مأخوذ من الإبل إذا قيل له هدع سكن فحقق كونه من صغار الإبل ، فإن هدع كلمة يسكن بها صغار الإبل وقوله تعالى : {بِالْحَقِّ } قال الزمخشري هو حال أو قسم أو صفة صدق ، وعلى كونه حال تقديره صدقه الرؤيا ملتبسة بالحق وعلى تقدير كونه صفة تقديره صدقه صدقاً ملتبساً بالحق وعلى تقدير كونه قسماً ، إما أن يكون قسماً بالله فإن الحق من أسمائه ، وإما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل هذا ما قاله ، ويحتمل أن يقال (إن) فيه وجهين آخرين : أحدهما : أن يقال فيه تقديم /تأخير تقديره : صدق الله رسوله بالحق الرؤيا ، أي الرسول الذي هو رسول بالحق وفيه إشارة إلى امتناع الكذب في الرؤيا لأنه لما كان رسولاً بالحق فلا يرى في منامه الباطل والثاني : أن يقال بأن قوله
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4096)

{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} إن قلنا بأن الحق قسم فأمر اللام ظاهر ، وإن لم يقل به فتقديره : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ، والله لتدخلن ، وقوله : والله لتدخلن ، جاز أن يكون تفسيراً للرؤيا يعني الرؤيا هي : والله لتدخلن ، وعلى هذا تبين أن قوله {صَدَقَ اللَّهُ} كان في الكلام لأن الرؤيا كانت كلاماً ، ويحتمل أن يكون تحقيقاً لقوله تعالى : {صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ} يعني والله ليقعن الدخول وليظهرن الصدق فلتدخلن ابتداء كلام وقوله تعالى : {إِن شَآءَ اللَّهُ} فيه وجوه أحدها : أنه ذكره تعليماً للعباد الأدب وتأكيداً لقوله تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الكهف : 23 ، 24) الثاني : هو أن الدخول لما لم يقع عام الحديبية ، وكان المؤمنون يريدون الدخول ويأبون الصلح قال : {لَتَدْخُلُنَّ} ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم ، إنما تدخلون بمشيئة الله تعالى الثالث : هو أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلّم {لَتَدْخُلُنَّ} ذكر أنه بمشيئة الله تعالى/ لأن ذلك من الله وعد ليس عليه دين ، ولا حق واجب ، ومن وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله تعالى وإلا فلا يلزمه به أحد ، وإذا كان هذا حال الموعود به في الوحي المنزّل صريحاً في اليقظة فما ظنكم بالوحي بالمنام وهو يحتمل التأويل أكثر مما يحتمله الكلام ، فإذا تأخر الدخول لم يستهزئون ؟
الرابع : هو أن ذلك تحقيقاً للدخول وذلك لأن أهل مكة قالوا لا تدخلوها إلا بإرادتنا ولا نريد دخولكم في هذه السنة ، ونختار دخولكم في السنة القابلة ، والمؤمنون أرادوا الدخول في عامهم ولم يقع. فكان لقائل أن يقول بقي الأمر موقوفاً على مشيئة أهل مكة إن أرادوا في السنة الآتية يتركوننا ندخلها وإن كرهوا لا ندخلها فقال لا تشترط إرادتهم ومشيئتهم ، بل تمام الشرط بمشيئة الله ، وقوله {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ } إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره ، فقوله {لَتَدْخُلُنَّ} إشارة إلى الأول وقوله {مُحَلِّقِينَ} إشارة إلى الآخر ، وفيه مسألتان :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الأولى : {مُحَلِّقِينَ} حال الداخلين والداخل لا يكون الآن محرماً ، والمحرم لا يكون محلقاً ، فقوله {ءَامِنِينَ} ينبىء عن الدوام فيه إلى الحلق فكأنه قال : تدخلونها آمنين متمكنين من أن تتموا الحج محلقين.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {لا تَخَافُونَ } أيضاً حال معناه غير خائفين ، وذلك حصل بقوله تعالى : {ءَامِنِينَ} فما الفائدة في إعادتها ؟
نقول : فيه بيان كمال الأمن ، وذلك لأن بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم فقال : تدخلون آمنين ، وتحلقون ، ويبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام ، وقوله تعالى : {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } أي من المصلحة وكون دخولكم في سنتكم سبباً لوطء المؤمنين والمؤمنات /أو {فَعَلِمَ} للتعقيب ، {فَعَلِمَ} وقع عقيب ماذا ؟
نقول إن قلنا المراد من {فَعَلِمَ} وقت الدخول فهو عقيب صدق ، وإن قلنا المراد {فَعَلِمَ} المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب ، والتقدير يعني حصلت المصلحة في العام القابل {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } من المصلحة المتجددة {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَالِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} إما صلح الحديبية ، وإما فتح خيبر ، وقد ذكرناه وقوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} يدفع وهم حدوث علمه من قوله {فَعَلِمَ} وذلك لأن قوله {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} يفيد سبق علمه العام لكل علم محدث.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
ثم قال تعالى : {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّه وَالَّذِينَ مَعَه ا أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُم تَرَاـاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } .
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4097)

تأكيداً لبيان صدق الله في رسوله الرؤيا ، وذلك لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي ، لا يريد ما لا يكون مهدياً للناس فيظهر خلافه ، فيقع ذلك سبباً للضلال ، ويحتمل وجوهاً أقوى من ذلك ، وهو أن الرؤيا بحيث توافق الواقع تقع لغير الرسل ، لكن رؤية الأشياء قبل وقوعها في اليقظة لا تقع لكل أحد فقال تعالى : {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَه بِالْهُدَى } وحكى له ما سيكون في اليقظة ، ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه ، وفيها أيضاً بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له و(الهدى) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى : {أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (البقرة : 185) وعلى هذا {دِينَ الْحَقِّ} هو ما فيه من الأصول والفروع ، ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع ، ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و{دِينَ الْحَقِّ} هو الأحكام ، وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب ، والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى ، ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى : {ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ} (الزمر : 23) وهو إما القرآن لقوله تعالى : {كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} إلى أن قال : {ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ} (الزمر : 23) وإما ما اتفق عليه الرسل لقوله تعالى : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) والكل من باب واحد لأن ما في القرآن موافق لما اتفق /عليه الأنبياء وقوله تعالى : {وَدِينِ الْحَقِّ} يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون الحق اسم الله تعالى فيكون كأنه قال : بالهدى ودين الله ، وثانيها : أن يكون الحق نقيض الباطل فيكون كأنه قال : ودين الأمر الحق وثالثها : أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه {لِيُظْهِرَه } أي أرسله بالهدى وهو المعجز على أحد الوجوه
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
{لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } أي جنس الدين ، فينسخ الأديان دون دينه ، وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله {لِيُظْهِرَه } راجعة إلى الرسول ، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق أي أرسل الرسول بالدين الحق ليظهره أي ليظهر الدين الحق على الأديان/ وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للاظهار هو الله ، ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق ، وقوله تعالى : {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي في أنه رسول الله وهذا مما يسلي قلب المؤمنين فإنهم تأذوا من رد الكفار عليهم العهد المكتوب ، وقالوا لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله بل اكتبوا محمد بن عبد الله ، فقال تعالى : {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} في أنه رسول الله ، وفيه معنى لطيف وهو أن قول الله مع أنه كاف في كل شيء ، لكنه في الرسالة أظهر كفاية ، لأن الرسول لا يكون إلا بقول المرسل ، فإذا قال ملك هذا رسولي ، لو أنكر كل من في الدنيا أنه رسول فلا يفيد إنكارهم فقال تعالى أي خلل في رسالته بإنكارهم مع تصديقي إياه بأنه رسولي ، وقوله {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّه } فيه وجوه أحدها : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو محمد الذي سبق ذكره بقوله {أَرْسَلَ رَسُولَه } ورسول الله عطف بيان وثانيها : أن محمداً مبتدأ خبره رسول الله وهذا تأكيد لما تقدم لأنه لما قال : {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَه } ولا تتوقف رسالته إلا على شهادته ، وقد شهد له بها محمد رسول اللهمن غير نكير وثالثها : وهو مستنبط وهو أن يقال {مُّحَمَّدٌ} مبتدأ و{رَّسُولُ اللَّه } عطف بيان سيق للمدح لا للتمييز {وَالَّذِينَ مَعَه } عطف على محمد ، وقوله {أَشِدَّآءُ} خبره ، كأنه تعالى قال : {وَالَّذِينَ مَعَه } جميعهم {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم ، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى : {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (المائدة : 54) وأما في حق النبي صلى الله عليه وسلّم فكما في قوله
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4098)

{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } (التوبة : 73) وقال في حقه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 128) وعلى هذا قوله {تَرَا هُمْ} لا يكون خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم بل يكون عاماً أخرج مخرج الخطاب تقديره أيها السامع كائناً من كان ، كما قلنا إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ولا يريد به واحداً بعينه ، وقوله تعالى : {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم ، وركوع المرائي وسجوده ، فإنه لا يبتغي به ذلك. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه } (فاطر : 30) وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلاً ، وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم ، لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك ، والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافاً /بالتقصير فقال : {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ} ولم يقل أجراً.
وقوله تعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } فيه وجهان أحدهما : أن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} (آل عمران : 106) وقال تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى } (التحريم : 8) وعلى هذا فنقول نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق كما قال إبراهيم عليه السلام : {وَتِلْكَ الامْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِا وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَالِمُونَ * خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الأنعام : 79) ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه ، فيتبين على وجهه النور منبسطاً ، مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال ، والله نور السموات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار وثانيهما : أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان أحدهما : أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود والثاني : ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلاً من الحسن نهاراً ، وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب ، وبين الساهر في الذكر والشكر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
وقوله تعالى : {ذَالِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِ } فيه ثلاثة أوجه مذكورة أحدها : أن يكون {ذَالِكَ} مبتدأ ، و{مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِا وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ} خبراً له ، وقوله تعالى : {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَه } خبراً مبتدأ محذوف تقديره ومثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع وثانيها : أن يكون خبر ذلك هو قوله {مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِ } وقوله {وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ} مبتدأ وخبره كزرع وثالثها : أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت بقوله تعالى : {كَزَرْعٍ} كقوله {ذَالِكَ الامْرَ أَنَّ دَابِرَ هَا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر : 66) وفيه وجه رابع : وهو أن يكون ذلك خبراً له مبتدأ محذوف تقديره هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب ، فنقول أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر ، أو الظاهر الذي تقوله ذلك.
وقوله تعالى : {وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَه فَاَازَرَه فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} .
أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفاً وله نمو إلى حد الكمال ، فكذلك المؤمنون ، والشطء الفرخ و{فَاَازَرَه } يحتمل أن يكون المراد أخرج /الشطء وآزر الشطء ، وهو أقوى وأظهر والكلام يتم عند قوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} .
وقوله تعالى : {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو.
وقوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد ليغيظ بهم الكفار يقال رغماً لأنفك أنعم عليه.

وقوله تعالى : {مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا } لبيان الجنس لا للتبعيض ، ويحتمل أن يقال هو للتبعيض ، ومعناه : ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم ، والعظيم والمغفرة قد تقدم مراراً والله تعالى أعلم ، وههنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ} وقال : لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتد به ، فقال لا أبتغي إلا فضلك ، فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجراً إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزراً لا يستحق عليه المؤمن أجراً ، وقد علم بما ذكرنا مراراً أن قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) والأجر العظيم على العمل الصالح والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
(1/4099)

سورة الحجرات
ثماني عشرة آية مدنية
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
في بيان حسن الترتيب وجوه : أحدها : أن في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميل إلى الامتناع مما أجاز النبي صلى الله عليه وسلّم من الصلح وترك آية التسمية والرسالة وألزمهم كلمة التقوى كأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لهم على سبيل العموم : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا تتجاوزوا ما يأمر الله تعالى ورسوله الثاني : هو أن الله تعالى لما بيّن محل النبي عليه الصلاة والسلام وعلو درجته بكونه رسوله الذي يظهر دينه وذكره بأنه رحيم بالمؤمنين بقوله {رَّحِيمٌ} (التوبة : 128) قال لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول ، ولا تغتروا برأفته ، وانظروا إلى رفعة درجته الثالث : هو أن الله تعالى وصف المؤمنين بكونهم أشداء ورحماء فيما بينهم راكعين ساجدين نظراً إلى جانب الله تعالى ، وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ما أورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة بقوله {ذَالِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَا ةِا وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ} (الفتح : 29) فإن الملك العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم ، فقال في هذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انحطاط درجتكم وإحباط حسناتكم ولا تقدموا. فقال وقيل في سبب نزول الآية وجوه : قيل نزلت في صوم يوم الشك ، وقيل نزلت في التضحية قبل صلاة العيد ، وقيل نزلت في ثلاثة قتلوا اثنين من سليم ظنوهما من بني عامر ، وقيل نزلت في جماعة أكثروا من السؤال وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلّم وفود والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل إثبات وتقدم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة وفي التفسير مسائل :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4100)

المسألة الأولى : قوله تعالى : {لا تُقَدِّمُوا } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من التقديم الذي هو متعد ، وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما : ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى : /{لا إِلَـاهَ} وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعاً وإعطاء كذلك ههنا ، كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلاً والثاني : أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول {لا تُقَدِّمُوا } يعني فعلاً {بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه } أو لا تقدموا أمراً الثاني : أن يكون المراد {لا تُقَدِّمُوا } بمعنى لا تتقدموا ، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً عند النبي صلى الله عليه وسلّم يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه ، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدماً في الدخول في الأمور العظام ، وفي الذكر عند ذكر الكرام ، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً ، فالمعنى واحد لأن قوله {لا تُقَدِّمُوا } إذا جعلناه متعدياً أو لازماً لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيداً ، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلّم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدماً ورأياً عنده ، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمراً وفعلاً ، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى ، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال ، وقوله تعالى : {بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه } أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله {بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه } فوائد : أحدها : أن قول القائل فلان بين يدي فلان ، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضراً عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان ، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر ، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ، ولأن اليدين تنبىء عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان ، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه ، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم ، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم وثانيها : ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره ، وذلك لأن احترام الرسول صلى الله عليه وسلّم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
{بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ} أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم ، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله وثالثها : هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله {وَاتَّقُوا } لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديراً بأن يتقيه ، وقوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} يحتمل أن يكون ذلك عطفاً يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل ، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر ، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان ، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى ، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك ، وهي التي في قول القائل احترم زيداً واخدمه ، أي ائت بأتم الاحترام ، فكذلك ههنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا /بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا ، لأن الخطاب يفهم بقوله {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة ، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم ، بل ينبغي أن يتم مما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر ، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
{لا تُقَدِّمُوا } (الحجرات : 1) نهي عن فعل ينبىء عن كونهم جاعلين لأنفسهم عند الله ورسوله بالنسبة إليهما وزناً ومقداراً ومدخلاً في أمر من أوامرهما ونواهيهما ، وقوله {لا تَرْفَعُوا } نهي عن قول ينبىء عن ذلك الأمر ، لأن من يرفع صوته عند غيره يجعل لنفسه اعتباراً وعظمة وفيه مباحث :
(1/4101)

البحث الأول : ما الفائدة في إعادة النداء ، وما هذا النمط من الكلامين على قول القائل {عَظِيمَا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ} (الحجرات : 1) ، و{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} ؟
نقول في إعادة النداء فوائد خمسة : منها أن يكون في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كما في قول لقمان لابنه {يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّه } (لقمان : 13) {تَعْمَلُونَ * يَـابُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} (لقمان : 16) ، {لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا * أَقِمِ الصَّلَواةَ} (لقمان : 17) لأن النداء لتنبيه المنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه ، فإعادته تفيد ذلك ، ومنها أن لا يتوهم متوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً : فإن من الجائز أن يقول القائل يا زيد افعل كذا وقل كذا يا عمرو ، فإذا أعاده مرة أخرى ، وقال يا زيد قل كذا ، يعلم من أول الكلام أنه هو المخاطب ثانياً أيضاً ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ، وليس الثاني تأكيداً للأول كما تقول يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق فإنه لا يحسن أن يقال يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم كما يحسن عند اختلاف المطلوبين ، وقوله تعالى : {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون المراد حقيقته ، وذلك لأن رفع الصوت دليل قلة الاحتشام وترك الاحترام ، وهذا من مسألة حكمية وهي أن الصوت بالمخارج ومن خشي قلبه ارتجف وتضعف حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة ، ومن لم يخف ثبت قلبه وقوي ، فرفع الهواء دليل عدم الخشية ثانيها : أن يكون المراد المنع من كثر الكلام لأن من يكثر الكلام يكون متكلماً عن سكوت الغير فيكون في وقت سكوت الغير لصوته ارتفاع وإن كان خائفاً إذا نظرت إلى حال غيره فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي صلى الله عليه وسلّم كلام كثير بالنسبة إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلّم /لأن النبي عليه الصلاة والسلام مبلغ ، فالمتكلم عنده إن أراد الإخبار لا يجوز ، وإن استخبر النبي عليه السلام عما وجب عليه البيان ، فهو لا يسكت عما يسأل وإن لم يسأل ، وربما يكون في السؤال حقيدة برد جواب لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورطة العقاب ثالثها : أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي صلى الله عليه وسلّم في الخطاب كما يقول القائل لغيره أمرتك مراراً بكذا عندما يقول له صاحبه مرني بأمر مثله ، فيكون أحد الكلامين أعلى وأرفع من الآخر ، والأول أصح والكل يدخل في حكم المراد ، لأن المنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام ، ومن بلغ احترامه إلى حيث تنخفض الأصوات عنده من هيبته وعلو مرتبته لا يكثر عنده الكلام ، ولا يرجع المتكلم مع في الخطاب ، وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
{وَلا تَجْهَرُوا لَه بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} فيه فوائد :
إحداها : أن بالأول حصل المنع من أن يجعل الإنسان كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي صلى الله عليه وسلّم وصوته/ ولقائل أن يقول فما منعت من المساواة فقال تعالى : ولا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم ونظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا.
والثانية : أن هذا أفاد أنه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي عليه السلام كما يتكلم العبد عند سيده ، لأن العبد داخل تحت قوله {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلّم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض ، لا يقال المفهوم من هذا النمط أن لا تجعلوه كما يتفق بينكم ، بل تميزوه بأن لا تجهروا عنده أبداً وفيما بينكم لا تحافظون على الاحترام ، لأنا نقول ما ذكرنا أقرب إلى الحقيقة ، وفيه ما ذكرتم من المعنى وزيادة ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } (الأحزاب : 6) والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلّم ، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقى نفسه في التهلكة لإنجاء سيده ، ويجب لإنجاء النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد ذكرنا حقيقته عند تفسير الآية ، وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره ، لأن عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي عليه الصلاة والسلام لهلك هو أيضاً بخلاف العبد والسيد.
(1/4102)

الفائدة الثانية : أن قوله تعالى : {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} لما كان من جنس {وَلا تَجْهَرُوا } لم يستأنف النداء ، ولما كان هو يخالف التقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كما في قول لقمان {يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ} (لقمان : 13) وقوله {لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا * أَقِمِ الصَّلَواةَ} (لقمان : 17) لكون الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح ، وقوله {لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَـابُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَواةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ} من غير استئناف النداء لأن الكل من عمل الجوارح.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
واعلم أنا إن قلنا المراد من قوله {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} أي لا تكثروا الكلام فقوله {وَلا تَجْهَرُوا } يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم بقدر ما يؤتى به عند غيره ، أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل ، وكذلك إن قلنا المراد بالرفع الخطاب فالمراد بقوله {وَلا تَجْهَرُوا } أي لا تخاطبوه كما تخاطبون غيره وقوله تعالى : {أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ} فيه وجهان مشهوران : أحدهما : لئلا تحبط والثاني : كراهة أن تحبط ، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } (النساء : 176) وأمثاله ، ويحتمل ههنا وجهاً آخر وهو أن يقال معناه : واتقوا الله واجتنبوا أن تحبط أعمالكم ، والدليل على هذا أن الإضمار لما لم يكن منه بد فما دل عليه الكلام الذي هو فيه أولى أن يضمر والأمر بالتقوى قد سبق في قوله تعالى : {وَاتَّقُوا } (الحجرات : 1) وأما المعنى فنقول قوله {أَن تَحْبَطَ} إشارة إلى أنكم إن رفعتم أصوتكم وتقدمتكم تتمكن منكم هذه الرذائل وتؤدي إلى الاستحقار ، وإنه يفضي إلى الانفراد والارتداد المحبط وقوله تعالى : {وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} إشارة إلى أن الردة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان ، فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نادماً غاية الندامة خائفاً غاية الخوف فإذا ارتكبه مراراً يقل الخوف والندامة ويصير عادة من حيث لا يعلم أنه لا يتمكن ، وهذا كان للتمكن في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها ، وهذا كما أن من بلغه خبر فإنه لا يقطع بقول المخبر في المرة الأولى/ فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ حد التواتر يحصل له اليقين ويتمكن الاعتقاد ، ولا يدري متى كان ذلك ، وعند أي خبر حصل هذا اليقين ، فقوله {وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تعفي ولا توجب رده ، لأن الأمر غير معلوم فاحسموا الباب ، وفيه بيان آخر وهو أن المكلف إذا لم يحترم النبي صلى الله عليه وسلّم ويجعل نفسه مثله فيما يأتي به بناء على أمره يكون كما يأتي به بناء على أمر نفسه ، لكن ما تأمر به النفس لا يوجب الثواب وهو محبط حابط ، كذلك ما يأتي به بغير أمر النبي صلى الله عليه وسلّم حينئذ حابط محبط والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
واعلم أن الله تعالى لما أمر المؤمنين باحترام النبي صلى الله عليه وسلّم وإكرامه وتقديمه على أنفسهم وعلى كل من خلقه الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالرأفة والرحمة ، وأن يكون أرأف بهم من الوالد ، كما قال : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر : 88) وقال تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} (الكهف : 28) وقال : {وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) إلى غير ذلك لئلا تكون خدمته خدمة الجبارين الذين يستعبدون الأحرار بالقهر فيكون انقيادهم لوجه الله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
(1/4103)

/وفيه الحث على ما أرشدهم إليه من وجهين أحدهما : ظاهر لكل أحد وذلك في قوله تعالى : {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } وبيانه هو أن من يقدم نفسه ويرفع صوته يريد إكرام نفسه واحترام شخصه ، فقال تعالى ترك هذا الاحترام يحصل به حقيقة الاحترام ، وبالإعراض عن هذا الإكرام يكمل الإكرام ، لأن به تتبين تقواكم ، و{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } (الحجرات : 13) ومن القبيح أن يدخل الإنسان حماماً فيتخير لنفسه فيه منصباً ويفوت بسببه منصبه عند السلطان ، ويعظم نفسه في الخلاء والمستراح وبسببه يهون في الجمع العظيم ، وقوله تعالى : {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } فيه وجوه : أحدها : امتحنها ليعلم منه التقوى فإن من يعظم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسول مرسل يكون تعظيمه للمرسل أعظم وخوفه منه أقوى ، وهذا كما في قوله تعالى : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـا اـاِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج : 32) أي تعظيم أوامر الله من تقوى الله فكذلك تعظيم رسول الله من تقواه الثاني : امتحن أي علم وعرف ، لأن الامتحان تعرف الشيء فيجوز استعماله في معناه ، وعلى هذا فاللام تتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة ، أي كائنة للتقوى ، كما يقول القائل أنت لكذا أي صالح أو كائن الثالث : امتحن : أي أخلص يقال للذهب ممتحن ، أي مخلص في النار وهذه الوجوه كلها مذكورة ويحتمل أن يقال معناه امتحنها للتقوى اللام للتعليل ، وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان السبب المتقدم ، كما يقول القائل : جئتك لإكرامك لي أمس ، أي صار ذلك الإكرام السابق سبب المجيء وثانيها : أن يكون تعليلاً يجري مجرى بيان غاية المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً كما يقول القائل جئتك لأداء الواجب ، فإن قلنا بالأول فتحقيقه هو أن الله علم ما في قلوبهم من تقواه ، وامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها ، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه على أنفسهم ، بل كان يقول لهم آمنوا برسولي ولا تؤذوه ولا تكذبوه ، فإن الكافر أول ما يؤمن يؤمن بالاعتراف بكون النبي صلى الله عليه وسلّم صادقاً ، وبين من قيل له لا تستهزىء برسول الله ولا تكذبه ولا تؤذه ، وبين من قيل له لا ترفع صوتك عنده ولا تجعل لنفسك وزناً بين يديه ولا تجهر بكلامك الصادق بين يديه ، بون عظيم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
واعلم أن بقدر تقديمك للنبي عليه الصلاة والسلام على نفسك في الدنيا يكون تقديم النبي عليه الصلاة والسلام إياك في العقبى ، فإنه لن يدخل أحد الجنة ما لم يدخل الله أمته المتقين الجنة ، فإن قلنا بالثاني فتحقيقه هو أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته ومعرفة رسوله بالتقوى ، أي ليرزقهم الله التقوى التي هي حق التقاة ، وهي التي لا تخشى مع خشية الله أحداً فتراه آمناً من كل مخيف لا يخاف /في الدنيا بخساً ، ولا يخاف في الآخرة نحساً ، والناظر العاقل إذا علم أن بالخوف من السلطان يأمن جور الغلمان ، وبتجنب الأراذل ينجو من بأس السلطان فيجعل خوف السلطان جنة فكذلك العالم لو أمعن النظر لعلم أن بخشية الله النجاة في الدارين وبالخوف من غيره الهلاك فيهما فيجعل خشية الله جنته التي يحس بها نفسه في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى : {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وقد ذكرنا أن المغفرة إزالة السيئات التي هي في الدنيا لازمة للنفس والأجر العظيم إشارة إلى الحياة التي هي بعد مفارقة الدنيا عن النفس/ فيزيل الله عنه القبائح البهيمية ويلبسه المحاسن الملكية.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
(1/4104)

بياناً لحال من كان في مقابلة من تقدم فإن الأول غض صوته والآخر رفعه ، وفيه إشارة إلى أنه ترك لأدب الحضور بين يديه وعرض الحاجة عليه ، وأما قول القائل للملك يا فلان من سوء الأدب ، فإن قلت كل أحد يقول يا الله مع أن الله أكبر ، نقول النداء على قسمين أحدهما : لتنبيه المنادى وثانيهما : لإظهار حاجة المنادي مثال الأول : قول القائل لرفيقه أو غلامه : يا فلان ومثال الثاني : قول القائل في الندبة : يا أمير المؤمنين أو يا زيداه ، ولقائل أن يقول : إن كان زيد بالمشرق لا تنبيه فإنه محال ، فكيف يناديه وهو ميت ؟
فنقول قولنا يا الله لإظهار حاجة الأنفس لا لتنبيه المنادى ، وإنما كان في النداء الأمران جميعاً لأن المنادي لا ينادي إلا لحاجة في نفسه يعرضها ولا ينادي في الأكثر إلا معرضاً أو غافلاً ، فحصل في النداء الأمران ونداؤهم كان للتنبيه وهو سوء أدب وأما قول أحدنا للكبير يا سيدي ويا مولاي فهو جار مجرى الوصف والإخبار الثاني : النداء من وراء الحجرات فإن من ينادي غيره ولا حائل بينهما لا يكلفه المشي والمجيء بل يجيبه من مكانه ويكلمه ولا يطلب المنادي إلا لالتفات المنادى إليه ومن ينادي غيره من وراء الحائل فكأنه يريد منه حضوره كمن ينادي صاحب البستان من خارج البستان الثالث : قوله {الْحُجُرَاتِ} إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلّم في خلوته التي لا يحسن في الأدب إتيان المحتاج إليه في حاجته في ذلك الوقت ، بل الأحسن التأخير وإن كان في ورطة الحاجة ، وقوله تعالى : {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فيه بيان المعايب بقدر ما في سوء أدبهم من القبائح ، وذلك لأن الكلام من خواص الإنسان ، وهو أعلى مرتبة من غيره ، وليس لمن دونه كلام ، لكن النداء في المعنى كالتنبيه ، وقد يحصل بصوت ، يضرب شيء على شي /وفي الحيوانات العجم ما يظهر لكل أحد كالنداء ، فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات ، والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي ، فقال الله تعالى في حقهم {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقروناً بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان ، وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
{أَكْثَرُهُمْ} فيه وجهان أحدهما : أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل ، وإنما تأتي بالأكثر احترازاً عن الكذب واحتياطاً في الكلام ، لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ، ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم ، وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول : أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها ، واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضائي بذلك وثانيهما : أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون ، وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني ، مثاله الإنسان يكون جاهلاً وفقيراً فيصير عالماً وغنياً فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال ، فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا. إذا علم هذا فهم ، في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة ، مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى : {أَكْثَرُهُمْ} إشارة إلى ما ذكرناه ، وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء ، ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
ثم قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء ، وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك ، فإن للنفس حقاً وللأهل حقاً ، وقوله تعالى : {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى : {خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} (الفرقان : 24) ، وثانيهما : أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال وهو مطلوب ، ولكن المحافظة على النبي صلى الله عليه وسلّم وتعظيمه خير من ذلك ، لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة وحاجات الدنيا فضلية ، والمرفوع الذي يقتضيه كلمة كان إما الصبر وتقديره لو أنهم صبروا لكان الصبر خيراً ، أو الخروج من غير نداء وتقديره لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيراً لهم ، وذلك مناسب للحكاية ، لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم ، فخرج /وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم ، ولو صبروا لكان يعتق كلهم والأول أصح.
(1/4105)

ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تحقيقاً لأمرين أحدهما : لسوء صنيعهم في التعجل ، فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه ، بل لبيان عظيم جناية العبد وثانيهما : لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير ، يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة لكثير من السيئات ، كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم ، أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي صلى الله عليه وسلّم على الصفح ، وقوله تعالى : {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} كالعذر لهم ، وقد ذكرنا أن الله تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة ، كما في هذه السورة وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} (سبأ : 2) فحيث قال : غفور رحيم أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عارياً محتاجاً فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة وقد يراه مغموراً في السيئات فيغفر سيئاته ، ثم يرحمه بعد المغفرة ، فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة ، وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها ، ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما مع الله تعالى أو مع الرسول صلى الله عليه وسلّم أو مع غيرهم من أبناء الجنس ، وهم على صنفين ، لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها وهو الفاسق والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم فهذه خمسة أقسام أحدها : يتعلق بجانب الله وثانيها : بجانب الرسول وثالثها : بجانب الفساق ورابعها : بالمؤمن الحاضر وخامسها : بالمؤمن الغائب فذكرهم الله تعالى في هذه السورة خمس مرات {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة فقال أولاً : {عَظِيمَا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه } (الحجرات : 1) وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله ، وقال ثانياً : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ} (الحجرات : 2) لبيان وجوب احترم النبي صلى الله عليه وسلّم وقال ثالثاً : {رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ} لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم ، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة /بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (الحجرات : 9) وقال رابعاً : {تُرْحَمُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} (الحجرات : 11) وقال : {وَلا تَنَابَزُوا } (الحجرات : 11) لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم ، وقال خامساً : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحجرات : 12) وقال : {وَلا تَجَسَّسُوا } (الحجرات : 12) وقال : {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته ، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى ، وهو في غاية الحسن من الترتيب ، فإن قيل : لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء بالله ورسوله ، ثم بالمؤمن الحاضر ، ثم بالمؤمن الغائب ، ثم بالفاسق ؟
نقول : قدم الله ما هو الأهم على ما دونه ، فذكر جانب الله ، ثم ذكر جانب الرسول ، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه ، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور ، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل ، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال ، فقال : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } وفي التفسير مسائل :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4106)

المسألة الأولى : في سبب نزول هذه الآية ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث الوليد بن عقبة ، وهو أخو عثمان لأمه إلى بني المصطلق ولياً ومصدقاً فالتقوه ، فظنهم مقاتلين ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : إنهم امتنعوا ومنعوا ، فهم الرسول صلى الله عليه وسلّم بالإيقاع بهم ، فنزلت هذه الآية ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم بأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئاً ، وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت ، وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصراً عليه ومتعدياً إلى غيره فلا/ بل نقول هو نزل عاماً لبيان التثبت ، وترك الاعتماد على قول الفاسق ، ويدل على ضعف قول من يقول : إنها نزلت لكذا ، أن الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا ، والنبي صلى الله عليه وسلّم لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب ، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت ، وهو مثل التاريخ لنزول الآية ، ونحن نصدق ذلك ، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد ، لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطىء لا يسمى فاسقاً ، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} (المنافقون : 6) وقوله تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه } (الكهف : 50) وقوله تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُا كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} (السجدة : 20) إلى غير ذلك.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ} إشارة إلى لطيفة ، وهي أن المؤمن كان موصوفاً بأنه شديد على الكافر غليظ عليه ، فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ ، فإن تمكن منه يكون نادراً ، فقال : {أَن جَآءَكُمْ} بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع ، إذ لا يحسن أن يقال : إن احمر البسر ، وإن طلعت الشمس.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الثالثة : النكرة في معرض الشرط تعم إذا كانت في جانب الثبوت ، كما أنها تعم في /الإخبار إذا كانت في جانب النفي ، وتخص في معرض الشرط إذ كانت في جانب النفي ، كما تخص في الإخبار إذا كانت في جانب الثبوت ، فلنذكر بيانه بالمثال ودليله ، أما بيانه بالمثال فنقول : إذا قال قائل لعبده : إن كلمت رجلاً فأنت حر ، فيكون كأنه قال : لا أكلم رجلاً حتى يعتق بتكلم كل رجل ، وإذا قال : إن لم أكلم اليوم رجلاً فأنت حر ، يكون كأنه قال : لا أكلم اليوم رجلاً حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل ، كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد ، وأما الدليل فلأن النظر أولاً إلى جانب الإثبات ، ألا ترى أنه من غير حرف لما أن الوضع للاثبات والنفي بحرف ، فقول القائل : زيد قائم ، وضع أولاً ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد ، وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول : زيد ليس بقائم ، ولو كان الوضع والتركيب أولاً للنفي ، لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصاراً أو اختصاراً ، وإذا كان كذلك فقول القائل : رأيت رجلاً ، يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد ، فإذا قلت : ما رأيت رجلاً ، وهو وضع لمقابلة قوله : رأيت رجلاً ، وركب لتلك المقابلة ، والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا ، فقول القائل : ما رأيت رجلاً ، لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا : رأيت رجلاً ، وما رأيت رجلاً ، فلا يكونان متقابلين ، فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني ، ولزم منه العموم في جانب النفي ، إذا علم هذا فنقول : الشرطية وضعت أولاً ، ثم ركبت بعد الجزمية بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية ، وكان قول القائل : إذا لم تكن أنت حراً ما كلمت رجلاً يرجع إلى معنى النفي ، وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ فمعناه : أي فاسق جاءكم بأي نبأ ، فالتثبت فيه واجب.
المسألة الرابعة : متمسك أصحابنا في أن خبر الواحد حجة ، وشهادة الفاسق لا تقبل ، أما في المسألة الأولى فقالوا علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ، ولو كان خبر الوحد العدل لا يقبل ، لما كان للترتيب على الفاسق فائدة ، وهو من باب التمسك بالمفهوم. وأما في الثانية فلوجهين : أحدهما : أمر بالتبين ، فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأموراً بالتبين ، فلم يكن قول الفاسق مقبولاً ، ثم إن الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ/ وباب الشهادة أضيف من باب الخبر والثاني : هو أنه تعالى قال : {أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ} والجهل فوق الخطأ ، لأن المجتهد إذ أخطأ لا يسمى جاهلاً ، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4107)

المسألة الخامسة : {ءَانٍ} ذكرنا فيها وجهين أحدهما : مذهب الكوفيين ، وهو أن المراد لئلا تصيبوا ، وثانيها : مذهب البصريين ، وهو أن المراد كراهة أن تصيبوا ، ويحتمل أن يقال : المراد فتبينوا واتقوا ، وقوله تعالى : {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا} يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق : تظهر الفتن بين أقوام ، ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه ، والغيبة الصادرة من المؤمنين ، لأن المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش ، وقوله {بِجَهَـالَةٍ} في تقدير حال ، أي أن /تصيبوهم جاهلين وفيه لطيفة ، وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة ، كما في قوله تعالى : {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه } (النساء : 79) لكن الأكثر أنها تستعمل فيما يسوء ، لكن الظن السوء يذكر معه ، كما في قوله تعالى : {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ } (النساء : 78) ثم حقق ذلك بقوله {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ} بياناً لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادماً ، وقوله {فَتُصْبِحُوا } معناه تصيروا ، قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه أحدها : بمعنى دخول الرجل في الصباح ، كما يقول القائل : أصبحنا نقضي عليه وثانيها : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا ، كما يقول : أصبح اليوم مريضنا خيراً مما كان ، غير أنه تغير ضحوة النهار ، ويريد كونه في الصبح على حاله ، كأنه يقول : كان المريض وقت الصبح خيراً وتغير ضحوة النهار وثالثها : بمعنى صار يقول القائل أصبح زيد غنياً ويريد به صار من غير إرادة وقت دون وقت ، والمراد ههنا هو المعنى الثالث وكذلك أمسى وأضحى ، ولكن لهذا تحقيق وهو أن نقول لا بد في اختلاف الألفاظ من اختلاف المعاني واختلاف الفوائد ، فنقول الصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم ، وقد تكون في آخر بمعنى آل الأمر إليه ، وقد تكون متوسطة.
مثال الأول : قول القائل صار الطفل فاهماً أي أخذ فيه وهو في الزيادة.
مثال الثاني : قول القائل صار الحق بيناً واجباً أي انتهى حده وأخذ حقه.
مثال الثالث : قول القائل صار زيد عالماً وقوياً إذا لم يرد أخذه فيه ، ولا بلوغه نهايته بل كونه متلبساً به متصفاً به ، إذا علمت هذا فأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء آخذاً في وصف ومبتدئاً في أمر ، وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته ، وأصل أضحى التوسط لا يقال أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد ، نقول إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال ، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل ، وكثير من الألفاظ أصله مضى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما لا يشاركه ، إذا علم هذا فنقول قوله تعالى : {فَتُصْبِحُوا } أي فتصيروا آخذين في الندم متلبسين به ثم تستديمونه وكذلك في قوله تعالى : {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا} أي أخذتم في الأخوة وأنتم فيها زائدون ومستمرون ، وفي الجملة اختار في القرآن هذه اللفظة لأن الأمر المقرون به هذه اللفظة ، إما في الثواب أو في العقاب وكلاهما في الزيادة ، ولا نهاية للأمور الإلهية وقوله تعالى : {نَـادِمِينَ} الندم هم دائم والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام ، كما في قول القائل : أدمن في الشرب ومدمن أي أقام ، ومنه المدينة. وقوله تعالى : {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ} فيه فائدتان :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
إحداهما : تقرير التحذير وتأكيده ، ووجهه هو أنه تعالى لما قال : {أَن تُصِيبُوا قَوْمَا بِجَهَـالَةٍ} قال بعده وليس ذلك مما لا يلتفت إليه ، ولا يجوز للعاقل أن يقول : هب أني أصبت قوماً فماذا علي ؟
بل عليكم منه الهم الدائم والحزن المقيم ، ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
/والثانية : مدح المؤمنين ، أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها بل تصبحون نادمين عليها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
ولنذكر في تفسير هذه الآية ما قيل وما يجوز أن يقال ، أما ما قيل فلنختر أحسنه وهو ما اختاره الزمخشري فإنه بحث في تفسير هذه الآية بحثاً طويلاً ، فقال قوله تعالى : {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ} ليس كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم ، إذ لا تبقى مناسبة بين قوله {وَاعْلَمُوا } وبين قوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ} ثم وجه التعلق هو أن قوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ} في تقدير حال من الضمير المرفوع في قوله {فِيكُمْ} كان التقدير كائن فيكم ، أو موجود فيكم ، على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم ، ولا ينبغي أن يكون في تلك الحال ، لأنه لو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ} أو لوقعتم في شدة أو أولمتم به.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4108)

ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} خطاباً مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ} قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان ، وقال أيضاً بأن قوله تعالى : {لَوْ يُطِيعُكُمْ} دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ، ودوام النبي صلى الله عليه وسلّم على العمل باستصوابهم ، ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها ، وههنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولاً بقوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ} هم الذين أرادوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم يعمل بمرادهم ، والمخاطبين بقوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي صلى الله عليه وسلّم ، هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن ، والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال : {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (الحجرات : 6) أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه } أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه فيكم مبين مرشد ، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة : هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده ، وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه ، وذلك لأن المراد منه أنه /لا يطيعكم في كثير من الأمر ، وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه ، أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح ، ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد ، فكذلك ههنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف ، والذي يدل على أن المراد من قوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ} بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) وقوله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82) فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله {فَتَبَيَّنُوا } وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا/ فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد ، بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين ، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق ، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان ، فكأنه تعالى قال : توقفوا فيما يكون مشكوكاً فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله ، وعلى قولنا المخاطب بقوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} هو المخاطب بقوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ} إذا علمت معنى الآية جملة ، فاسمعه مفصلاً ولنفصله في مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل إذا كان المراد بقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه } الرجوع إليه والاعتماد على قوله ، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلّم ؟
وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز ؟
نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم ، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقاً عليه ، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده ، فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ ، وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته ، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته ، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي ، بخلاف ما لو قال راجعوه ، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق ، وبين الكلامين بون بعيد ، فكذلك قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه } يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته ، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم ، فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم ، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح.
(1/4109)

المسألة الثانية : إذا كان المراد من قوله {لَوْ يُطِيعُكُمْ} بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو /متبع للوحي فلم لم يصرح به ؟
نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل ، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله (ليس فيهما آلهة) لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) فكذلك ههنا لو قال لا يطيعكم ، وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم ، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم ، كما قال تعالى : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة : 128) فإن طاعتكم لا تفيده شيئاً فلا يطيعكم ، فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الثالثة : قال {فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ} ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لفائدة قوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } .
المسألة الرابعة : إذا كان المراد بقوله تعالى {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} ، فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به ؟
قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين ، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوماً متفقاً عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان ، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني.
المسألة الخامسة : ما المعنى في قوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} نقول قوله تعالى : {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم ، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئاً منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسناً ، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم ، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ، ولهذا قال في الأول : {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} وقال ثانياً : {وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
المسألة السادسة : ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان ؟
فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين ، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان أحدها : قوله تعالى : {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب وثانيها : هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى : {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ} (الحجرات : 6) سمي من كذب فاسقاً فيكون الكذب فسوقاً ثالثها : ما ذكره بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : {بِئْسَ ا سْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ } (الحجرات : 11) فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم ، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى ورابعها : وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل : فسقت الرطبة إذا خرجت ، وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة ، لكن الخروج لا يكون /له ظهور بالأمر القلبي ، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى ، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو ، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطىء أو متعمد ، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم ، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب ، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق ، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن ، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13).
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {وَالْفُسُوقَ} يعني ما يظهر لسانكم أيضاً ، ثم قال : {وَالْعِصْيَانَ } وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان ، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة ، والعصيان هو الصغيرة ، وما ذكرناه أقوى.
ثم قال تعالى : { أولئك هُمُ الراَّشِدُونَ} .
خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم وفيه معنى لطيف : وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه } أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين ، فقال في الأول كفى النبي مرشداً لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم ، وعلى هذا قوله {الراَّشِدُونَ} أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
فيه مسائل :
(1/4110)

المسألة الأولى : نصب فضلاً لأجل أمور ، إما لكونه مفعولاً له ، وفيه وجهان أحدهما : أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله {الراَّشِدُونَ} فإن قيل : كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد ؟
نقول لما كان الرشد توفيقاً من الله كان كأنه فعل الله فكأنه تعالى أرشدهم فضلاً ، أي يكون متفضلاً عليهم منعماً في حقهم والوجه الثاني : هو أن العامل فيه هو قوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} (الحجرات : 7) فضلاً وقوله { أولئك هُمُ الراَّشِدُونَ} (الحجرات : 7) جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلاً مقدراً ، فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلاً من الله ، وإما لكونه مصدراً ، وفيه وجهان أحدهما : أن يكون مصدراً من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشداً وثانيهما : هو أن يكون مصدراً لفعل مضمر ، كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلاً وأنعم نعمة ، والقول بكونه منصوباً على أنه مفعول مطلق وهو المصدر ، أو مفعول له قول الزمخشري ، وإما أن يكون فضلاً مفعولاً به ، والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى : { أولئك هُمُ الراَّشِدُونَ} أي يبتغون فضلاً من الله ونعمة.
/المسألة الثانية : ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية ؟
نقول فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه ، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه ، لأن الفضل في الأصل ينبىء عن الزيادة ، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها ، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه ، والنعمة تنبىء عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد ، وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء ، وذلك لأن المحتاج يقول للغني : أعطني ما فضل عنك وعندك ، وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي ، فإذن قوله {فَضْلا مِّنَ اللَّهِ} إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني ، والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة ، وهذا مما يؤكد قولنا فضلاً منصوب بفعل مضمر ، وهو الابتغاء والطلب.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الثالثة : ختم الآية بقوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيه مناسبات عدة منها أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق ، قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور ، فإن الله عليم ، ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول ، فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته وثانيها : لما قال الله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه لَوْ يُطِيعُكُمْ} (الحجرات : 7) بمعنى لا يطيعكم ، بل يتبع الوحي ، قال فإن الله من كونه عليماً يعلمه ، ومن كونه حكيماً يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه ثالثها : المناسبة التي بين قوله تعالى : {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وبين قوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان ، واختار له من يشاء بحكمته رابعها : وهو الأقرب ، وهو أنه سبحانه وتعالى قال : {فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } ولما كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغني عنه ، قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير ، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد ، قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق ، أشار إلى ما يلزم منه استدراكاً لما يفوت ، فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم ، وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين ، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما {فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى} أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه ، ثم إن الظالم إن كان هو الرعية ، فالواجب على الأمير دفعهم ، وإن كان هو الأمير ، فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها ، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي /في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَإِنَّ} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين ، فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم ؟
نقول قوله تعالى : {وَإِنَّ} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادراً ، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي ، وكذلك {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ} (الحجرات : 6) إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلاً ، مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير ، وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولاً من قول الصادق الصالح.
المسألة الثانية : قال تعالى : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ} ولم يقل وإن فرقتان تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل ، لأن الطائفة دون الفرقة ، ولهذا قال تعالى : {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} (التوبة : 122).
(1/4111)

المسألة الثالثة : قال تعالى : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يقل منكم ، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى : {رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ} (الحجرات : 6) تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنهم ، كما يقول السيد لعبده : إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه ، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن ، كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك ، فإن فعل غيرك فامنعه ، كذلك ههنا قال : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الرابعة : قال تعالى : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } ولم يقل : وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين ، مع أن كلمة {ءَانٍ} اتصالها بالفعل أولى ، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال ، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة {ءَانٍ} وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما ، فإن قيل فلم لم يقل : يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم ، أو إن أحد من الفساق جاءكم ، ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه ، وهو كونه فاسقاً ؟
نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقاً ، أو يزداد بسببه فسقه ، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه. وأما الاقتتال فلا يقع سبباً للإيمان أو الزيادة ، فقال : {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ } أي سواء كان فاسقاً أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به ، ولو قال : وإن أحد من الفساق جاءكم ، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ.
المسألة الخامسة : قال تعالى : {اقْتَتَلُوا } ولم يقل : يقتتلوا ، لأن صيغة الاستقبال تنبىء عن الدوام والاستمرار ، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا ، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبىء عن ذلك ، يقال فلان يتهجد ويصوم.
المسألة السادسة : قال : {اقْتَتَلُوا } ولم يقل اقتتلا ، وقال : {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ولم يقل بينهم ، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة ، وكل أحد برأسه يكون فاعلاً فعلاً ، فقال : {اقْتَتَلُوا } وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة ، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال : {بَيْنَهُمَآ} لكون /الطائفتين حينئذ كنفسين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا} إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي ، لأنه غير متوقع ، فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة {ءَانٍ} مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه ، وبغي أحدهما عند الاقتتال لا بد منه ، إذ كل واحد منهما لا يكون محسناً ، فقوله {ءَانٍ} تكون من قبيل قول القائل : إن طلعت الشمس ، نقول فيه معنى لطيف ، وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع ، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد ، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة ، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد ، وهو خطأ ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلا كذا ، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر ، وعند ذلك يكون قد بغى فقال : {فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى } يعني بعد استبانة الأمر ، وحينئذ فقوله {فَإِنا بَغَتْ} في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع ، وفيه أيضاً مباحث الأول : قال : {فَإِنا بَغَتْ} ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى : {اقْتَتَلُوا } ولم يقل يقتتلوا الثاني : قال : {حَتَّى تَفِى ءَ} إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب ، بل القتال إلى حد الفيئة ، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث : هذا القتال لدفع الصائل ، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما ، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حلَّ القتال الرابع : هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمناً لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس : قوله تعالى : {إِلَى ا أَمْرِ اللَّه } يحتمل وجوهاً أحدها : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ } (النساء : 59). وثانيها : إلى أمر الله ، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى : {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } ، ثالثها : إلى أمر الله بالتقوى ، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4112)

{إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (فاطر : 6) ، السادس : لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر ، فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال : {فَإِن فَآءَتْ} ؟
نقول قول القائل لعبده : إن مت فأنت حر ، مع أن الموت لا بد من وقوعه ، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلاً للعتق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك ههنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى : {فَإِن فَآءَتْ} بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا ، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبراً السابع : قال ههنا : {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} ولم يذكر العدل في قوله {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا } نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه/ وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب ، والإصلاح ههنا بإزالة آثار القتل /بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال : {بِالْعَدْلِ } فكأنه قال : واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما ، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن : إذا قال : {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فأية فائدة في قوله {وَأَقْسِطُوا } نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله {وَأَقْسِطُوا } أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله ، والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر ، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضاً غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } تتميماً للإرشاد وذلك لأنه لما قال : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (الحجرات : 9) كان لظان أن يظن أو لمتوهم أن يتوهم أن ذلك عند اختلاف قوم ، فأما إذا كان الاقتتال بين اثنين فلا تعم المفسدة فلا يؤمر بالإصلاح ، وكذلك الأمر بالإصلاح هناك عند الاقتتال ، وأما إذا كان دون الاقتتال كالتشاتم والتسافه فلا يجب الإصلاح فقال : {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } وإن لم تكن الفتنة عامة وإن لم يكن الأمر عظيماً كالقتال بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف فاسعوا في الإصلاح.
وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} قال بعض أهل اللغة الأخوة جمع الأخ من النسب والإخوان جمع الأخ من الصداقة ، فالله تعالى قال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} تأكيداً للأمر وإشارة إلى أن ما بينهم ما بين الأخوة من النسب والإسلام كالأب ، قال قائلهم :
أبي الإسلام لا أب (لي) سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
المسألة الثانية : عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل اتقوا ، وقال ههنا اتقوا مع أن ذلك أهم ؟
نقول الفائدة هو أن الاقتتال بين طائفتين يفضي إلى أن تعم المفسدة ويلحق كل مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى ، وأما عند تخاصم رجلين لا يخاف الناس ذلك وربما يزيد بعضهم تأكد الخصام بين الخصوم لغرض فاسد فقال : {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ} أو نقول قوله {فَأَصْلِحُوا } إشارة إلى الصلح ، وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} /إشارة إلى ما يصونهم عن التشاجر ، لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "المسلم من سلم الناس من لسانه و(يده)" لأن المسلم يكون منقاداً لأمر الله مقبلاً على عباد الله فيشغله عيبه عن عيوب الناس ويمنعه أن يرهب الأخ المؤمن ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلّم : "المؤمن من يأمن جاره بوائقه" يعني اتق الله فلا تتفرغ لغيره.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4113)

المسألة الثالثة : {إِنَّمَا} للحصر أي لا أخوة إلا بين المؤمنين ، وأما بين المؤمن والكافر فلا ، لأن الإسلام هو الجامع ولهذا إذا مات المسلم وله أخ كافر يكون ماله للمسلمين ولا يكون لأخيه الكافر ، وأما الكافر فكذلك لأن في النسب المعتبر الأب الذي هو أب شرعاً ، حتى أن ولدي الزنا من رجل واحد لا يرث أحدهما الآخر ، فكذلك الكفر كالجامع الفاسد فهو كالجامع العاجز لا يفيد الأخوة ، ولهذا من مات من الكفر وله أخ مسلم ولا وارث له من النسب لا يجعل ماله للكفار ، ولو كان الدين يجمعهم لكان مال الكافر للكفار ، كما أن مال المسلم للمسلمين عند عدم الوارث ، فإن قيل قد ثبت أن الأخوة للإسلام أقوى من الأخوة النسبية ، بدليل أن المسلم يرثه المسلمون ولا يرثه الأخ الكافر من النسب ، فلم لم يقدموا الأخوة الإسلامية على الأخوة النسبية مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوته من النسب ؟
نقول هذا سؤال فاسد ، وذلك لأن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أخوتان فصار أقوى والعصوبة لمن له القوة/ ألا ترى أن الأخ من الأبوين يرث ولا يرث الأخ من الأب معه فكذلك الأخ المسلم من النسب له أخوتان فيقدم على سائر المسلمين والله أعلم.
المسألة الرابعة : قال النحاة (ما) في هذا الموضع كافة تكف إن عن العمل ، ولولا ذلك لقيل : إنما المؤمنين إخوة ، وفي قوله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} (آل عمران : 159) وقوله {عَمَّا قَلِيلٍ} (المؤمنون : 4) ليست كافة. والسؤال الأقوى هو أن رب من حروف الجر والباء وعن كذلك ، وما في رب كافة وفي عما وبما ليست كافة ، والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد ربما وإنما يكون تاماً ، ويمكن جعله مستقلاً ولو حذف ربما وإنما لم ضر ، فنقول ربما قام الأمير وربما زيد في الدار ، ولو حذفت ربما وقلت زيد في الدار وقام الأمير لصح ، وكذلك في إنما ولكيما ، وأما عما وبما فليست كذلك ، لأن قوله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } لو أذهبت بما وقلت رحمة من الله لنت لهم ، لما كان كلاماً فالباء يعد تعلقها بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقة ، ولكنما وإنما وربما لما استغنى عنها فكأنها لم يبق حكمها ولا عمل للمعدوم ، فإن قيل إن إذا لم تكف بما فما بعده كلام تام ، فوجب أن لا يكون له عمل تقول إن زيداً قائم ولو قلت زيد قائم لكفى وتم ؟
نقول : ليس كذلك لأن ما بعد إن جاز أن يكون نكرة ، تقول إن رجلاً جاءني وأخبرني بكذا وأخبرني بعكسه ، وتقول جاءني رجل وأخبرني ، ولا يحسن إنما رجل جاءني كما لو لم تكن هناك إنما ، وكذلك القول في بينما وأينما فإنك لو حذفتهما واقتصرت على ما يكون بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف ، والكلام في لعل قد تقدم مراراً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
/وقد بينا أن السورة للإرشاد بعد إرشاد فبعد الإرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي صلى الله عليه وسلّم ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق ، بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ، وقد ذكرنا أن المؤمن إما أن يكون حاضراً وإما أن يكون غائباً ، فإن كان حاضراً فلا ينبغي أن يسخر منه ولا يلتفت إليه بما ينافي التعظيم ، وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز ، فالسخرية هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته ، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب ، وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر ، وأقل من أن يلتفت إليه ، فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم الثاني : هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول ، لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه الثالث : هو النبز وهو دون الثاني ، لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفاً ثابتاً فيه يوجب بغضه وحط منزلته ، وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من يسمى سعداً وسعيداً قد لا يكون كذلك ، وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة ، وكذلك النبز بالمروان ومروان الحمار لم يكن كذلك وإنما كان ذلك سمة ونسبة ، ولا يكون اللفظ مراداً إذا لم يرد به الوصف كما أن الأعلام كذلك ، فإنك إذا قلت لمن سمي بعبد الله أنت عبد الله فلا تعبد غيره ، وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة ، فقال لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلاً وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبو (هم) طالبين حط درجتهم والغض عن منزلتهم ، وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم فلا تسموهم بما يكرهونه ولا تهولوا هذا ليس بعيب يذكر فيه إنما هو اسم يتلفظ به من غير قصد إلى بيان صفة وذكر في الآية مسائل :
(1/4114)

جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الأولى : قوله {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع /على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم ، والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء فائدة : وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسة إلى الرجال ، لأن المرأة في نفسها ضعيفة ، فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه" وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها (إليه) ، وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فيوجد فيهم هذا النوع من القبح وهذا أشهر.
المسألة الثانية : قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر {عَسَى ا أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} كسراً له وبغضاً لنكره ، وقال في المرتبة الثانية {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم الله درجة وفي الأول جعل المسخور منه خيراً/ وفي الثاني جعل المسخور منه مثلاً ، وفي قوله {عَسَى ا أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى الإهمال وجعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال : {أَنَا خَيْرٌ مِّنْه } (الأعراف : 12) فصار هو خيراً ، ويمكن أن يقال المراد من قوله {أَن يَكُونُوا } يصيروا فإن من استحقر إنساناً لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ، ويضعف هو ويقوى الضعيف.
المسألة الثالثة : قال تعالى : {قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} ولم يقل نفس من نفس ، وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى منع التكبر والمتكبر في أكثر الأمر يرى جبروته على رؤوس الأشهاد ، وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعاً ، فذكرهم بلفظ القوم منعاً لهم عما يفعلونه.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} فيه وجهان أحدهما : أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا عاب عائب نفساً فكأنما عاب نفسه وثانيهما : هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملاً للغير على عيبه وكأنه هو العائب نفسه وعلى هذا يحمل قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } (النساء : 29) أي إنكم إذا قتلتم نفساً قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ويحتمل وجهاً آخر ثالثاً وهو أن تقول لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم ، أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه ، وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } .
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الخامسة : إن قيل قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته ، لكن قوله تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا } قيل فيه بأنه العيب خلف الإنسان والهمز هو العيب في وجه الإنسان ، نقول ليس كذلك بل العكس أولى ، وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس ، لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم ، والأول : يدل على القرب ، والثاني : على البعد ، فإن قيل اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد /قيل بمعنى واحد.
المسألة السادسة : قال تعالى : {وَلا تَنَابَزُوا } ولم يقل لا تنبزوا ، وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يلمزه به ، وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز من جانب ، وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به ، فإن من نبز غيره بالحمار وهو ينبزه بالثور وغيره ، فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز.
وقوله تعالى : {بِئْسَ ا سْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ } .
قيل فيه إن المراد {بِئْسَ} أن يقول للمسلم يا يهودي بعد الإيمان أي بعد ما آمن فبئس تسميته بالكافر ، ويحتمل وجهاً أحسن من هذا : وهو أن يقال هذا تمام للزجر ، كأنه تعالى قال : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ولا تلمزوا ولا تنابزوا فإنه إن فعل يفسق بعد ما آمن ، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق فيكون قوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام : 82) ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإيمان ، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعد ما سميتموهم مؤمنين.
(1/4115)

قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} وهذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالماً فاسقاً وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق فقال ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم وثانيهما : أن يقال قوله تعالى : {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ} {وَلا تَلْمِزُوا } {وَلا تَنَابَزُوا } منع لهم عن ذلك في المستقبل ، وقوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديداً في الزجر ، والأصل في قوله تعالى : {وَلا تَنَابَزُوا } لا تتنابزوا أسقطت إحدى التاءين ، كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ} (البقرة : 6) والحذف ههنا أولى لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها وهمزة أنذرتهم أخرى واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة ، ولهذا وجب الإدغام في قولنا : مد ، ولم يجب في قولنا امدد ، و(في) قولنا : مر ، (دون) قوله : أمر ربنا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
/لأن الظن هو السبب فيما تقدم وعليه تبنى القبائح ، ومنه يظهر العدو المكاشح والقائل إذا أوقف أموره على اليقين فقلما يتيقن في أحد عيباً فيلمزه به ، فإن الفعل في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك ، لجواز أن يكون فاعله ساهياً أو يكون الرائي مخطئاً ، وقوله {خَيْرًا كَثِيرًا} إخراج للظنون التي عليها تبنى الخيرات قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "ظنوا بالمؤمن خيراً" وبالجملة كل أمر لا يكون بناؤه على اليقين ، فالظن فيه غير مجتنب مثاله حكم الحاكم على قول الشهود وبراءة الذمة عند عدم الشهود إلى غير ذلك فقوله {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا} وقوله تعالى : {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق ، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين ، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ.
ثم قال تعالى : {وَلا تَجَسَّسُوا } إتماماً لما سبق لأنه تعالى لما قال : {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} فهم منه أن المعتبر اليقين فيقول القائل أنا أكشف فلاناً يعني أعلمه يقيناً وأطلع على عيبه مشاهدة فأعيب فأكون قد اجتنبت الظن فقال تعالى : ولا تتبعوا الظن ، ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4116)

ثم قال تعالى : {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان أحدها : في قوله تعالى : {بَّعْضُكُم بَعْضًا } فإنه للعموم في الحقيقة كقوله {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} (الحجرات : 11) وأما من اغتاب فالمغتاب أولاً يعلم عيبه فلا يحمل فعله على أن يغتابه فلم يقل ولا تغتابوا أنفسكم لما أن الغيبة ليست حاملة للعائب على عيبه من اغتابه ، والعيب حامل على العيب ثانيها : لو قال قائل هذا المعنى كان حاصلاً بقوله تعالى : لا تغتابوا ، مع الاقتصار عليه نقول لا ، وذلك لأن الممنوع اغتياب المؤمن فقال : {بَّعْضُكُم بَعْضًا } وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة ثالثها : قوله تعالى : {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر ، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ ، وقال من قبل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) فلا أخوة إلا بين المؤمنين ، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر رابعها : ما الحكمة في هذا التشبيه ؟
نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه ، وهذا من باب القياس الظاهر ، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه ، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم ، وقوله {لَحْمَ أَخِيهِ} آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو ، فقال أصدق الأصدقاء من ولدته أمك ، فأكل لحمه أقبح /ما يكون ، وقوله تعالى : {مَيْتًا} إشارة إلى دفع وهم ، وهو أن يقال القول في الوجه يؤلم فيحرم ، وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم ، فقال أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ، ومع هذا هو في غاية القبح لما أنه لو اطلع عليه لتألم/ كما أن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه ، وفيه معنى : وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتاً ، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة ، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي ، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب ، وقوله تعالى : {مَيْتًا} حال عن اللحم أو عن الأخ ، فإن قيل اللحم لا يكون ميتاً ، قلنا بلى قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "ما أبين من حي فهو ميت" فسمى الغلفة ميتاً ، فإن قيل إذا جعلناه حال عن الأخ ، لا يكون هو الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حال ، كما يقول القائل : مررت بأخي زيد قائماً ، ويريد كون زيداً قائماً ، قلنا يجوز أن يقال من أكل لحمة فقد أكل ، فصار الأخ مأكولاً مفعولاً ، بخلاف المرور بأخي زيد ، فيجوز أن تقول ضربت وجهه آثماً أي وهو آثم ، أي صاحب الوجه ، كما أنك إذا ضربت وجهه فقد ضربته ، ولا يجوز أن تقول مزقت ثوبه آثماً ، فتجعل الآثم حالاً من غيرك ، وقوله تعالى : {فَكَرِهْتُمُوه } فيه مسألتان :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الأولى : العائد إليه الضمير يحتمل وجوهاً الأول : وهو الظاهر أن يكون هو الأكل ، لأن قوله تعالى : {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ} معناه أيحب أحدكم الأكل ، لأن أن مع الفعل تكون للمصدر ، يعني فكرهتم الأكل الثاني : أن يكون هو اللحم ، أي فكرهتم اللحم الثالث : أن يكون هو الميت في قوله {مَيْتًا} وتقديره : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه ، فكأنه صفة لقوله {مَيْتًا} ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير ، يعني الميتة إن أكلت في الندرة لسبب كان نادراً ، ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً ، فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة.
المسألة الثانية : الفاء في قوله تعالى : {فَكَرِهْتُمُوه } تقتضي وجود تعلق ، فما ذلك ؟
نقول فيه وجوه أحدها : أن يكون ذلك تقدير جواب كلام ، كأنه تعالى لما قال : {أَيُحِبُّ} قيل في جوابه ذلك وثانيها : أن يكون الاستفهام في قوله {أَيُحِبُّ} للانكار كأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه إذاً ولا يحتاج إلى إضمار وثالثها : أن يكون ذلك التعلق هو تعلق المسبب بالسبب ، وترتبه عليه كما تقول : جاء فلان ماشياً فتعب ، لأن المشي يورث التعب ، فكذا قوله {مَيْتًا} لأن الموت يورث النفرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت ، فكيف يقربه بحيث يأكل منه ، ففيه إذاً كراهة شديدة ، فكذلك ينبغي أن يكون حال الغيبة.
(1/4117)

ثم قال تعالى : {وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} عطف على ما تقدم من الأوامر والنواهي ، /أي اجتنبوا واتقوا ، وفي الآية لطائف : منها أن الله تعالى ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة مرتبة بيانها ، هو أنه تعالى قال : {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا} أي لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم بناء على الظن ، ثم إذا سئلتم على المظنونات ، فلا تقولوا نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها ، ثم إن علمتم منها شيئاً من غير تجسس ، فلا تقولوه ولا تفشوه عنهم ولا تعيبوا ، ففي الأول نهى عما لم أن يعلم ، ثم نهى عن طلب ذلك العلم ، ثم نهى عن ذكر ما علم ، ومنها أن الله تعالى لم يقل اجتنبوا تقولوا أمراً على خلاف ما تعلمونه ، ولا قال اجتنبوا الشك ، بل أول ما نهى عنه هو القول بالظن ، وذلك لأن القول على خلاف العلم كذب وافتراء ، والقول بالشك ، والرجم بالغيب سفه وهزء ، وهما في غاية القبح ، فلم ينه عنه اكتفاء بقوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } لأن وصفهم بالإيمان يمنعهم من الافتراء والارتياب الذي هو دأب الكافر. وإنما منعهم عما يكثر وجوده في المسلمين ، وذلك قال في الآية {لا يَسْخَرْ} ومنها أنه ختم الآيتين بذكر التوبة/ فقال في الأولى : {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} (الحجرات : 11) وقال في الأخرى {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} (الحجرات : 12) لكن في الآية الأولى لما كان الابتداء بالنهي في قوله {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي ، وفي الآية الثانية لما كان الابتداء بالأمر في قوله {اجْتَنَبُوا } ذكر الارتياب الذي هو قريب من الأمر. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
تبييناً لما تقدم وتقريراً له ، وذلك لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان ، فهو جائز لما بينا أن قوله {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } (الحجرات : 12) وقوله {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} (الحجرات : 11) منع من عيب المؤمن وغيبته ، وإن لم يكن لذلك السبب فلا يجوز ، لأن الناس بعمومهم كفاراً كانوا أو مؤمنين يشتركون فيما يفتخر به المفتخر غير الإيمان والكفر ، والافتخار إن كان بسبب الغنى ، فالكافر قد يكون غنياً ، والمؤمن فقيراً وبالعكس ، وإن كان بسبب النسب ، فالكافر قد يكون نسيباً ، والمؤمن قد يكون عبداً أسود وبالعكس ، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون متقاربون ، وشيء من ذلك لا يؤثر مع عدم التقوى ، فإن كل من يتدين بدين يعرف أن من يوافقه في دينه أشرف ممن يخالفه فيه ، وإن كان أرفع نسباً أو أكثر نشباً ، فكيف من له الدين الحق وهو فيه راسخ ، وكيف يرجح عليه من دونه فيه بسبب غيره ، وقوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } فيه وجهان أحدهما : من آدم وحواء ثانيهما : كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم ، فإن قلنا إن المراد هو الأول ، فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على البعض لكونهم أبناء رجل واحد ، وامرأة واحدة ، وإن قلنا إن المراد هو الثاني ، فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد ، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين ، فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب ، لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ، لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام ، بل أضل ، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه ، والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس إذ كلهم من ذكر وأنثى ، فلا يبقى لذلك عند هذ اعتبار ، وفيه مباحث :
البحث الأول : فإن قيل هذا مبني على عدم اعتبار النسب ، وليس كذلك فإن للنسب اعتباراً عرفاً وشرعاً ، حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنبطي ، فنقول إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً ، وذلك في الحس والشرع والعرف ، أما الحس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس ، ولجناح الذباب دوي ولا يسمع عندما يكون رعد قوي ، وأما في العرف ، فلأن من جاء مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا إليه التفات ، إذا علمت هذا فيهما ففي الشرع كذلك ، إذا جاء الشرف الديني الإلهي ، لا يبقى الأمر هناك اعتبار ، لا لنسب ولا لنشب ، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسباً ، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسباً ، لا يقاس أحدهما بالآخر ، وكذلك ما هو من الدين مع غيره ، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً صالحاً ، ولا يصلح لشيء منها فاسق ، وإن كان قرشي النسب ، وقاروني النشب ، ولكن إذا اجتمع في اثنين الدين المتين ، وأحدهما نسيب ترجح بالنسب عند الناس لا عند الله لأن الله تعالى يقول {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } (النجم : 39) وشرف النسب ليس مكتسباً ولا يحصل بسعي.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4118)

البحث الثاني : ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ، ولم يذكر المال ؟
نقول الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها/ لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به ، والحسن والسن ، وغير ذلك غير ثابت دائم ، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى.
البحث الثالث : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاكُم} فائدة ؟
نقول نعم ، وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره ، فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه ، ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله ، والذي بعده /كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء ، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد ، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد ، كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة ، ويقال هذا عمل فلان ، وهذا عمل فلان ، فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله ، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآاـاِلَ} وفيه وجهان : أحدهما : {جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم ، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما : {وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا} داخلين في قبائل ، فإن القبيلة تحتها الشعوب ، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ ، وتحت الأفخاذ الفصائل ، وتحت الفضائل الأقارب ، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار ، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة ، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة ، ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان : أحدهما : أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما : أن فائدته التعارف لا التناكر ، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى : قال تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاكُم} وقال : {وَجَعَلْنَـاكُمْ} لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل {شُعُوبًا} فإن الأول هو الخلق والإيجاد ، ثم الاتصاف بما اتصفوا به ، لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع ، فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوباً يتحقق بعد ما يتحقق الخلق ، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية : قوله تعالى : {خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا} إشارة إلى عدم جواز الافتخاز لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك ، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه ؟
فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} (الإنسان : 3) {نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ} (الشورى : 52) فنقول أثبت الله لنا فيه كسباً مبنياً على فعل ، كم قال الله تعالى : {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4119)

ثم قال تعالى : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } وأما في النسب فلا الثالثة : قوله تعالى : {لِتَعَارَفُوا } إشارة إلى قياس خفي ، وبيانه هو أنه تعالى قال : إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم ، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة : فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب ، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفاً صح الافتخار في ظنكم ، وإن لم يكن شريفاً لم يصح ، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة/ فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء ، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر ، فكيف /يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد ؟
اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فإن أحداً لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك ، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب ، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب ، فقال : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". وقال : "العلماء ورثة الأنبياء" أي لا نورث بالانتساب ، وإنما نورث بالاكتساب ، سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقاً ، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ، ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوماً من بيته يقصد المسجد ، فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران ، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه ، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر ، يا كافر ابن كافر ، أنا ابن رسول الله ، أذل وتجل وأذم وتكرم وأهان وتعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا هذا محتمل منه لجده ، وضربه معدود لحده ، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك ، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت ، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي ، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي ، فعملوا معك ما يعمل مع أبي ، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك/
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } وفيه وجهان : أحدهما : أن المراد من يكون أتقى يكون عند الله أكرم أي التقوى تفيد الإكرام ثانيهما : أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما يقال : المخلصون على خطر عظيم ، والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانياً ينبغي أن يكون محمولاً على المذكور أولاً في الظاهر فيقال الإكرام للتقي ، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول ، يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة ، وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة ، فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" نقول التقوى ثمرة العلم قال الله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه ، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب ، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم ، وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له ، وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ، ولعله يعبده مخافة الإلقاء في النار ، فهو كالمكره ، أو لدخول الجنة ، فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته ، والمتقي هو العالم بالله ، المواظب لبابه ، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت. وفيه مباحث :
(1/4120)

البحث الأول : الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة /للكافر ، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام. نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) لأن كل من خلق فقد اعترف بربه ، كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته ، ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة الثاني : ما حد التقوى ومن الأتقى ؟
تقول أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما فإن اتفق أن ارتكب منهياً لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة/ ومتى ارتكب منهياً وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل فليس بمتق ، أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهى عنه ، وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله ، فينور الله قلبه ، فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه ، وللأولين النجاة لقوله تعالى : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا } (مريم : 72) وللآخرين السوق إلى الجنة لقوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } فبين من أعطاه السلطان بستاناً وأسكنه فيه ، وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب من بساتين وضياعاً بون عظيم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ } أي عليم بظواهركم ، يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم ، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى كما زادكم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
لما قال تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } (الحجرات : 13) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى ، وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك ، قالت الأعراب لنا النسب الشريف ، وإنما يكون لنا الشرف ، قال الله تعالى : ليس الإيمان بالقول ، إنما هو بالقلب فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور ، {وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي انقدنا واستسلمنا ، قيل إن الآية نزلت في بني أسد ، أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئناً بالإيمان ، وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم ، لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك ، لأن التقوى من عمل القلب ، وقوله تعالى : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } في تفسيره مسائل :
/المسألة الأولى : قال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء : 94) وقال ههنا {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } مع أنهم ألقوا إليهم السلام ، نقول إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب ، وإنما يحكم بالظاهر فلا يقال لمن يفعل فعلاً هو مرائي ، ولا لمن أسلم هو منافق ، ولكن الله خبير بما في الصدور ، إذا قال فلان ليس بمؤمن حصل الجزم ، وقوله تعالى : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } فهو الذي جوز لنا ذلك القول ، وكان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلّم حيث أطلعه الله على الغيب وضمير قلوبهم ، فقال لنا : أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً لعدم علمكم بما في قلبه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
البحث الثاني : ما الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر ، ولم يذكر المال ؟
نقول الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لكن النسب أعلاها/ لأن المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار المفتخر به ، والحسن والسن ، وغير ذلك غير ثابت دائم ، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بالطريق الأولى.
البحث الثالث : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فهل لقوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاكُم} فائدة ؟
نقول نعم ، وذلك لأن كل شيء يترجح على غيره ، فإما أن يترجح بأمر فيه يلحقه ، ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله ، والذي بعده /كالحسن والقوة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء ، والذي قبله فإما راجع إلى الأصل الذي منه وجد ، أو إلى الفاعل الذي هو له أوجد ، كم يقال في إناءين هذا من النحاس وهذا من الفضة ، ويقال هذا عمل فلان ، وهذا عمل فلان ، فقال تعالى لا ترجيح فيما خلقتم منه لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بالنظر إلى جاعلين لأنكم كلكم خلقكم الله ، فإن كان بينكم تفاوت يكون بأمور تلحقكم وتحصل بعد وجودكم وأشرفها التقوى والقرب من الله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4121)

ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآاـاِلَ} وفيه وجهان : أحدهما : {جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } متفرقة لا يدري من يجمعكم كالعجم ، وقبائل يجمعكم واحد معلوم كالعرب وبني إسرائيل وثانيهما : {وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا} داخلين في قبائل ، فإن القبيلة تحتها الشعوب ، وتحت الشعوب البطون وتحت البطون الأفخاذ ، وتحت الأفخاذ الفصائل ، وتحت الفضائل الأقارب ، وذكر الأعم لأنه أذهب للافتخار ، لأن لأمر الأعم منها يدخله فقراء وأغنياء كثيرة غير محصورة ، وضعفاء وأقوياء كثيرة غير معدودة ، ثم بيّن فائدة ذلك وهي التعارف وفيه وجهان : أحدهما : أن فائدة ذلك التناصر لا التفاخر وثانيهما : أن فائدته التعارف لا التناكر ، واللمز والسخرية والغيبة تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف وفيه معان لطيفة الأولى : قال تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاكُم} وقال : {وَجَعَلْنَـاكُمْ} لأن الخلق أصل تفرع عليه الجعل {شُعُوبًا} فإن الأول هو الخلق والإيجاد ، ثم الاتصاف بما اتصفوا به ، لكن الجعل شعوباً للتعارف والخلق للعبادة كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) واعتبار الأصل متقدم على اعتبار الفرع ، فاعلم أن النسب يعتبر بعد اعتبار العبادة كما أن الجعل شعوباً يتحقق بعد ما يتحقق الخلق ، فإن كان فيكم عبادة تعتبر فيكم أنسابكم وإلا فلا الثانية : قوله تعالى : {خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا} إشارة إلى عدم جواز الافتخاز لأن ذلك ليس لسعيكم ولا قدرة لكم على شيء من ذلك ، فكيف تفتخرون بما لا مدخل لكم فيه ؟
فإن قيل الهداية والضلال كذلك لقوله تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} (الإنسان : 3) {نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ} (الشورى : 52) فنقول أثبت الله لنا فيه كسباً مبنياً على فعل ، كم قال الله تعالى : {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } وأما في النسب فلا الثالثة : قوله تعالى : {لِتَعَارَفُوا } إشارة إلى قياس خفي ، وبيانه هو أنه تعالى قال : إنكم جعلتم قبائل لتعارفوا وأنتم إذا كنتم أقرب إلى شريف تفتخرون به فخلقكم لتعرفوا ربكم ، فإذا كنتم أقرب منه وهو أشرف الموجودات كان الأحق بالافتخار هناك من الكل الافتخار بذلك الرابعة : فيه إرشاد إلى برهان يدل على أن الافتخار ليس بالأنساب ، وذلك لأن القبائل للتعارف بسبب الانتساب إلى شخص فإن كان ذلك الشخص شريفاً صح الافتخار في ظنكم ، وإن لم يكن شريفاً لم يصح ، فشرف ذلك الرجل الذي تفتخرون به هو بانتسابه إلى فصيلة أو باكتساب فضيلة/ فإن كان بالانتساب لزم الانتهاء ، وإن كان بالاكتساب فالدين الفقيه الكريم المحسن صار مثل من يفتخر به المفتخر ، فكيف /يفتخر بالأب وأب الأب على من حصل له من الحظ والخير ما فضل به نفسه عن ذلك الأب والجد ؟
اللّهم إلا أن يجوز شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فإن أحداً لا يقرب من الرسول في الفضيلة حتى يقول أنا مثل أبيك ، ولكن في هذا النسب أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الشرف لمن انتسب إليه بالاكتساب ، ونفاه لمن أراد الشرف بالانتساب ، فقال : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". وقال : "العلماء ورثة الأنبياء" أي لا نورث بالانتساب ، وإنما نورث بالاكتساب ، سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي عليه السلام غير أنه كان فاسقاً ، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل ، ومال الناس إلى التبرك به فاتفق أنه خرج يوماً من بيته يقصد المسجد ، فأتبعه خلق فلقيه الشريف سكران ، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه ، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال له : يا أسود الحوافر والشوافر ، يا كافر ابن كافر ، أنا ابن رسول الله ، أذل وتجل وأذم وتكرم وأهان وتعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ : لا هذا محتمل منه لجده ، وضربه معدود لحده ، ولكن يا أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك ، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت ، وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي ، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي ، فعملوا معك ما يعمل مع أبي ، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك/
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4122)

ثم قال تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } وفيه وجهان : أحدهما : أن المراد من يكون أتقى يكون عند الله أكرم أي التقوى تفيد الإكرام ثانيهما : أن المراد أن من يكون أكرم عند الله يكون أتقى أي الإكرام يورث التقوى كما يقال : المخلصون على خطر عظيم ، والأول أشهر والثاني أظهر لأن المذكور ثانياً ينبغي أن يكون محمولاً على المذكور أولاً في الظاهر فيقال الإكرام للتقي ، لكن ذوا العموم في المشهور هو الأول ، يقال ألذ الأطعمة أحلاها أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة ، وهي إثبات لكون التقوى متقدمة على كل فضيلة ، فإن قيل التقوى من الأعمال والعلم أشرف ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" نقول التقوى ثمرة العلم قال الله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) فلا تقوى إلا للعالم فالمتقي العالم أتم علمه ، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمرة لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب ، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم ، وأما العابد الذي يفضل الله عليه الفقيه فهو الذي لا علم له ، وحينئذ لا يكون عنده من خشية الله نصاب كامل ، ولعله يعبده مخافة الإلقاء في النار ، فهو كالمكره ، أو لدخول الجنة ، فهو يعمل كالفاعل له أجرة ويرجع إلى بيته ، والمتقي هو العالم بالله ، المواظب لبابه ، أي المقرب إلى جنابه عنده يبيت. وفيه مباحث :
البحث الأول : الخطاب مع الناس والأكرم يقتضي اشتراك الكل في الكرامة ولا كرامة /للكافر ، فإنه أضل من الأنعام وأذل من الهوام. نقول ذلك غير لازم مع أنه حاصل بدليل قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) لأن كل من خلق فقد اعترف بربه ، كأنه تعالى قال من استمر عليه لو زاد زيد في كرامته ، ومن رجع عنه أزيل عنه أثر الكرامة الثاني : ما حد التقوى ومن الأتقى ؟
تقول أدنى مراتب التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر ولا يقر ولا يأمن إلا عندهما فإن اتفق أن ارتكب منهياً لا يأمن ولا يتكل له بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه ندامة وتوبة/ ومتى ارتكب منهياً وما تاب في الحال واتكل على المهلة في الأجل ومنعه عن التذاكر طول الأمل فليس بمتق ، أما الأتقى فهو الذي يأتي بما أمر به ويترك ما نهى عنه ، وهو مع ذلك خاش ربه لا يشتغل بغير الله ، فينور الله قلبه ، فإن التفت لحظة إلى نفسه أو ولده جعل ذلك ذنبه ، وللأولين النجاة لقوله تعالى : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا } (مريم : 72) وللآخرين السوق إلى الجنة لقوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } فبين من أعطاه السلطان بستاناً وأسكنه فيه ، وبين من استخلصه لنفسه يستفيد كل يوم بسبب القرب من بساتين وضياعاً بون عظيم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ } أي عليم بظواهركم ، يعلم أنسابكم خبير ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم ، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى كما زادكم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
لما قال تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } (الحجرات : 13) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى ، وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك ، قالت الأعراب لنا النسب الشريف ، وإنما يكون لنا الشرف ، قال الله تعالى : ليس الإيمان بالقول ، إنما هو بالقلب فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور ، {وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي انقدنا واستسلمنا ، قيل إن الآية نزلت في بني أسد ، أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئناً بالإيمان ، وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم ، لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك ، لأن التقوى من عمل القلب ، وقوله تعالى : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } في تفسيره مسائل :
/المسألة الأولى : قال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء : 94) وقال ههنا {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } مع أنهم ألقوا إليهم السلام ، نقول إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم واجتناب الظن واجب ، وإنما يحكم بالظاهر فلا يقال لمن يفعل فعلاً هو مرائي ، ولا لمن أسلم هو منافق ، ولكن الله خبير بما في الصدور ، إذا قال فلان ليس بمؤمن حصل الجزم ، وقوله تعالى : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } فهو الذي جوز لنا ذلك القول ، وكان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلّم حيث أطلعه الله على الغيب وضمير قلوبهم ، فقال لنا : أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً لعدم علمكم بما في قلبه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
(1/4123)

المسألة الثانية : لم ولما حرفا نفي ، وما وإن ولا كذلك من حروف النفي ، ولم ولما يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم ، فما الفرق بينهما ؟
نقول لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما ، فإنهما يغيران معناه من الاستقبال إلى المضي ، تقول لم يؤمن أمس وآمن اليوم ، ولا تقول لا يؤمن أمس ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما ، فإن قيل مع هذا لم جزم بهما غاية ما في الباب أن الفرق حصل ، ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما ؟
نقول لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية ، فإن من قال قام حصل القطع بقيامه ، ولا يجوز أن يكون ما قام والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة غير متوقعة ، ولا يحصل القطع والجزم فيه ، فإذا كان لم ولما يقلبان اللفظ من الاستقبال إلى المضي كانا يفيدان الجزم والقطع في المعنى فجعل لهما تناسباً بالمعنى وهو الجزم لفظاً ، وعلى هذا نقول السبب في الجزم ما ذكرنا ، وهذا في الأمر يجزم كأنه جزم على المأمور أنه يفعله ولا يتركه ، فأي فائدة في أن اللفظ يجزم مع أن الفعل فيه لا بد من وقوعه وأن في الشرط تغير ، وذلك لأن إن تغير معنى الفعل من المضي إلى الاستقبال إن لم تغيره من الاستقبال إلى المضي ، تقول : إن جئتني جئتك ، وإن أكرمتني أكرمتك ، فلما كان إن مثل لم في كونه حرفاً ، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييره معنى الفعل صار جازماً لشبه لفظي ، أما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى ، فإن الجزاء يجزم بوقوعه عند وجود الشرط ، فالجزم إذاً إما لمعنى أو لشبه لفظي ، كما أن الجزاء كذلك في الإضافة وفي الجر بحرف.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَلَـاكِن قُولُوا } يقتضي قولاً سابقاً مخالفاً لما بعده/ كقولنا لا تقدموا آمنا ولكن قولوا أسلمنا وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم {مَنِ} فلم يقل لا تقولوا آمنا وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال : {لَّمْ تُؤْمِنُوا } فإن كنتم تقولون شيئاً فقولوا أمراً عاماً ، لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم {أَسْلَمْنَا} فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل.
المسألة الرابعة : المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة ، فكيف يفهم ذلك مع هذا ؟
نقول بين العام والخاص فرق ، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان ، والإسلام أعم /لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره ، مثاله الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمراً ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً ، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود ، فكذلك المؤمن والمسلم ، وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذاريات : 363) إن شاء الله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } هل فيه معنى قوله تعالى : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } ؟
نقول نعم وبيانه من وجوه الأول : هو أنهم لما قالوا آمنا وقيل لهم {لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} قالوا إذا أسلمنا فقد آمنا ، قيل لا فإن الإيمان من عمل القلب لا غير والإسلام قد يكون عمل اللسان ، وإذا كان ذلك عمل القلب ولم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا الثاني : لما قالوا آمنا وقيل لهم لم تؤمنوا قالوا جدلاً قد آمنا عن صدق نية مؤكدين لما أخبروا فقال : {وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } لأن لما يفعل يقال في مقابلة قد فعل ، ويحتمل أن يقال بأن الآية فيها إشارة إلى حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم بعده ضعيفاً قال لهم {لَّمْ تُؤْمِنُوا } لأن الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطلاعكم على محاسن الإسلام {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } يكمل لكم الأجر ، والذي يدل على هذا هو أن لما فيها معنى التوقع والانتظار ، والإيمان إما أن يكون بفعل المؤمن واكتسابه ونظره في الدلائل ، وإما أن يكون إلهاماً يقع في قلب المؤمن فقوله {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } أي ما فعلتم ذلك ، وقوله تعالى : {وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } أي ولا دخل الإيمان في قلبكم إلهاماً من غير فعلكم فلا إيمان لكم حينئذ. ثم إنه تعالى عند فعلهم قال : {لَّمْ تُؤْمِنُوا } بحرف ليس فيه معنى الانتظار لقصور نظرهم وفتور فكرهم ، وعند فعل الإيمان قال لما يدخل بحرف فيه معنى التوقع لظهور قوة الإيمان ، كأنه يكاد يغشي القلوب بأسرها.
(1/4124)

ثم إنه تعالى قال : {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه لا يَلِتْكُم} أي لا ينقصكم والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء ، وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهماً ، وأعطاه الملك درهماً أو ديناراً ينسب الملك إلى قلة العطاء بل البخل ، فليس معناه أنه يعطي مثل ذلك من غير نقص ، بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص. وفيه تحريض على الإيمان الصادق ، لأن من أتى بفعل من غير صدق نية يضيع عمله ولا يعطي عليه أجراً فقال : وإن تطيعوا وتصدقوا لا ينقص عليكم ، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص ، وفيه أيضاً تسلية لقلوب من تأخر إيمانه ، كأنه يقول غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيداً وآواه حين كان ضعيفاً/ ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته ، فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر ، فقال تعالى إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون ، غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم ، وماذا عليكم إذا أرضاكم الله أن يعطي غيركم من خزائن رحمته /رحمة واسعة ، وما حالكم في ذلك إلا حال ملك أعطى واحداً شيئاً وقال لغيره ماذا تتمنى ؟
فتمنى عليه بلدة واسعة وأموالاً فأعطاه ووفاه ، ثم زاد ذلك الأول أشياء أخرى من خزائنه فإن تأذى من ذلك يكون بخلاً وحسداً ، وذلك في الآخرة لا يكون ، وفي الدنيا هو من صفة الأرازل ، وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
0
إرشاداً للأعراب الذين قالوا آمنا إلى حقيقة الإيمان فقال إن كنتم تريدون الإيمان فالمؤمنون من آمن بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، يعني أيقنوا بأن الإيمان إيقان ، وثم للتراخي في الحكاية ، كأنه يقول آمنوا ، ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ، ويحتمل أن يقال هو للتراخي في الفعل تقديره آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صلى الله عليه وسلّم من الحشر والنشر ، وقوله تعالى : {وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} يحقق ذلك ، أي أيقنوا أن بعد هذه الدار داراً فجاهدوا طالبين العقبى ، وقوله { أولئك هُمُ الصَّـادِقُونَ} في إيمانهم ، لا الأعراب الذين قالوا قولاً ولم يخلصوا عملاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 91
119
فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء ، وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله ، فلا يقبل منكم ذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
119
يقرر ذلك ويبين أن إسلامهم لمن يكن لله ، وفيه لطائف الأولى : في قوله تعالى : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ} /زيادة بيان لقبيح فعلهم ، وذلك لأن الإيمان له شرفان أحدهما : بالنسبة إلى الله تعالى وهو تنزيه الله عن الشرك وتوحيده في العظمة ، وثانيهما : بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق ، فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب الله ولا يطلبون شرف أنفسهم بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا.
اللطيفة الثانية : قال : {قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُمْ } أي الذي عندكم إسلام ، ولهذا قال تعالى : {وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} ولم يقل : لم تؤمنوا ولكن أسلمتم لئلا يكون تصديقاً لهم في الإسلام أيضاً كما لم يصدقوا في الإيمان ، فإن قيل لم لم يجز أن يصدقوا في إسلامهم ، والإسلام هو الانقياد ، وقد وجد منهم قولاً وفعلاً وإن لم يوجد اعتقاداً وعلماً وذلك القدر كاف في صدقهم ؟
نقول التكذيب يقع على وجهين أحدهما : أن لا يوجد نفس المخبر عنه وثانيهما : أن لا يوجد كما أخبر في نفسه فقد يقول ما جئتنا بل جاءت بك الحاجة ، فالله تعالى كذبهم في قولهم آمنا على الوجه الأول ، أي ما آمنتم أصلاً ولم يصدقوا في الإسلام على الوجه الثاني فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة.
اللطيفة الثالثة : قال : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} يعني لا منة لكم ومع ذلك لا تسلمون رأساً برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة ، بل المنة عليكم ، وقوله تعالى : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم حيث بينت لكم الطريق المستقيم ، ثم في مقابلة هذا الأدب قال الله تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى : 52).
(1/4125)

اللطيفة الرابعة : لم يقل يمن عليكم أن أسلمتم بل قال : {أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} لأن إسلامهم كان ضلالاً حيث كان نفاقاً فما منّ به عليهم ، فإن قيل كيف من عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه بيّن أنهم لم يؤمنوا ؟
نقول الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها : أنه تعالى لم يقل : بل الله يمن عليكم أن رزقكم الإيمان ، بل قال : {أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} وإرسال الرسل بالآيات البينات هداية ثانيها : هو أنه تعالى يمن عليهم بما زعموا ، فكأنه قال أنتم قلتم آمنا ، فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار ، فقال هداكم في زعمكم ثالثها : وهو الأصح ، هو أن الله تعالى بيّن بعد ذلك شرطاً فقال : {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
إشارة إلى أنه لا يخفى عليه أسراركم ، وأعمال قلوبكم الخفية ، وقال : {بَصِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة ، وآخر السورة مع التئامه بما قبله فيه تقرير ما في أول السورة ، وهو قوله تعالى : {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه ا وَاتَّقُوا اللَّهَ } (الحجرات : 1) فإنه لا يخفى عليه سر ، فلا تتركوا خوفه في السر ولا يخفى عليه علن فلا تأمنوه في العلانية ، والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
(1/4126)

سورة ق
أربعون وخمس آيات مكية
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
{قا وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور :
الأول : أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد ، لقوله تعالى فيها {ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق : 42) وقوله تعالى : {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} (ق : 11) وقوله تعالى : {ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (ق : 44) فإن العيد يوم الزينة ، فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب ، ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ، ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالتذكير بقوله في آخر السورة {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق : 45) ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله {قا وَالْقُرْءَانِ} .
الثاني : هذه السورة ، وسورة { } تشتركان في افتتاح أولهما بالحروف المعجم والقسم بالقرآن وقوله {بَلْ} والتعجب ، ويشتركان في شيء آخر ، وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان ، وذلك لأن في { } قال في أولها {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} (ص : 1) وقال في آخرها {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} (ص : 87) وفي {قا } قال في أولها {قا وَالْقُرْءَانِ} وقال في آخرها {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق : 45) فافتتح بما اختتم به.
والثالث : وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد ، بقوله تعالى : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَاهًا وَاحِدًا } (ص : 5) وقوله تعالى : {وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } (ص : 6) وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر ، بقوله تعالى : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) ولما كان افتتاح السورة في { } في تقرير المبدأ ، قال في آخرها {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّى خَالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} (ص : 71) وختمه بحكاية بدء (خلق) آدم ، لأنه دليل الوحدانية. ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر ، قال في آخرها {يَوْمَ تَشَقَّقُ الارْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (ق : 44) وأما التفسير ، ففيه مسائل :
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
المسألة الأولى : قيل {قا } اسم جبل محيط بالعالم ، وقيل معناه حكمة ، هي قولنا : قضى /الأمر. وفي ص : صدق الله ، وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ، ليبقى السامع مقبلاً على استماع ما يرد عليه ، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق.
وذكرنا أيضاً أن العبادة منها قلبية ، ومنها لسانية ، ومنها جارجية ظاهرة ، ووجد في الجارحية ما عقل معناه ، ووجد منها ما لم يعقل معناه ، كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ، ووجد في القلبية ما عقل بدليل ، كعلم التوحيد ، وإمكان الحشر ، وصفات الله تعالى ، وصدق الرسل ، ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق ، والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر ، والميزان الذي يوزن به الأعمال ، فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه ، ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر ، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض ، كقولنا {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} بل يكون النطق به تعبداً محضاً ، ويؤيد هذا وجه آخر ، وهو أن هذه الحروف مقسم بها ، وذلك لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما ، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة/ وآلة التعريف كان أولى ، وإذا عرفت هذا فنقول على هذا فيه مباحث :
(1/4127)

الأول : القسم من الله وقع بأمر واحد ، كما في قوله تعالى : {وَالْعَصْرِ} وقوله تعالى : {وَالنَّجْمِ} وبحرف واحد ، كما في قوله تعالى : { } و{ } ووقع بأمرين ، كما في قوله تعالى : {وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى } وفي قوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ} وبحرفين ، كما في قوله تعالى : {طه} و{طسا } و{يس } و{حم } وبثلاثة أمور ، كما في قوله تعالى : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا * فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} وبثلاثة أحرف ، كما في { الر } وفي {طسام } وبأربعة أمور ، كما في {وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا} وفي {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} وفي {وَالتِّينِ} وبأربعة أحرف ، كما في { المص } وبخمسة أمور ، كما في {يُوعَدُونَ * وَالطُّورِ} وفي {وَالْمُرْسَلَـاتِ} وفي {وَالنَّـازِعَـاتِ} وفي {وَالْفَجْرِ} وبخمسة أحرف ، كما في {كاهيعاص } ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي {وَالشَّمْسِ وَضُحَـاـاهَا} ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول ، لأنه يجمع كلمة الاستثقال ، ولما استثقل حين ركب لمعنى ، كان استثقالها حين ركب من غير إحاطة العلم بالمعنى أو لا لمعنى كان أشد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
البحث الثاني : عند القسم بالأشياء المعهودة ، ذكر حرف القسم وهي الواو ، فقال : {وَالطُّورِ} {وَالنَّجْمِ} {وَالشَّمْسُ} وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم ، فلم يقل و{قا } لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به ، فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف.
البحث الثالث : أقسم الله بالأشياء : كالتين والطور ، ولم يقسم بأصولها ، وهي الجواهر /الفردة والماء والتراب. وأقسم بالحروف من غير تركيب ، لأن الأشياء عنده يركبها على أحسن حالها ، وأما الحروف إن ركبت بمعنى ، يقع الحلف بمعناه لا باللفظ ، كقولنا (والسماء والأرض) وإن ركبت لا بمعنى ، كان المفرد أشرف ، فأقسم بمفردات الحروف.
البحث الرابع : أقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة ، وبالأشياء التي عددها عدد الحروف ، وهي غير {مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ} في أربع عشرة سورة ، لأن القسم بالأمور غير الحروف وقع في أوائل السور وفي أثنائها ، كقوله تعالى : {كَلا وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} (المدثر : 32 ، 33) وقوله تعالى : {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (الانشقاق : 17) وقوله {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (التكوير : 17) والقسم بالحروف لم يوجد ولم يحسن إلا في أوائل السور ، لأن ذكر ما لا يفهم معناه في أثناء الكلام المنظوم المفهوم يخل بالفهم ، ولما كان القسم بالأشياء له موضعان والقسم بالحروف له موضع واحد جعل القسم بالأشياء في أوائل السور على نصف القسم بالحروف في أوائلها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
(1/4128)

البحث الخامس : القسم بالحروف وقع في النصفين جميعاً بل في كل سبع وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير بل لم يوجد إلا في السبع الأخير غير والصافات ، وذلك لأنا بينا أن القسم بالحروف لم ينفك عن ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل بعده إلا نادراً فقال تعالى : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ} ولما كان جميع القرآن معجزة مؤداة بالحروف وجد ذلك عاماً في جميع المواضع ولا كذلك القسم بالأشياء المعدودة ، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في سورة العنكبوت ، ولنذكر ما يختص بقاف قيل إنه اسم جبل محيط بالأرض عليه أطراف السماء وهو ضعيف لوجوه : أحدها : أن القراءة الكثيرة الوقف ، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج ، لأن من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به وثانيها : أنه لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كما في قوله تعالى : {وَالطُّورِ} وذلك لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأن يقسم به ، كقولنا الله لأفعلن كذا ، واستحقاقه لهذا غني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال زيد لأفعلن ثالثها : هو أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب {عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية : 12) ويكتب {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه } (الزمر : 36) وفي جميع المصاحف يكتب حرف {قا } ، رابعها : هو أن الظاهر أن الأمر فيه ك.الأمر في {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} وهي حروف لا كلمات وكذلك في {قا } فإن قيل هو منقول عن ابن عباس ، نقول المنقول عنه أن قاف اسم جبل ، وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا ، وقيل إن معناه قضى الأمر ، وفي { } صدق الله ، وقيل هو اسم الفاعل من قفا يقفو وص من صاد من المصاداة ، وهي المعارضة ، معناه هذا قاف جميع الأشياء بالكشف ، ومعناه حينئذ هو قوله تعالى : {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 59) إذا قلنا إن الكتاب هناك القرآن. هذا ما قيل في {قا } وأما القراءة فيه فكثيرة وحصرها بيان معناها ، فنقول إن قلنا هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف إذ لا عامل فيها فيشبه /بناء الأصوات ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين ، ويجوز الفتح اختياراً للأخف ، فإن قيل كيف جاز اختيار الفتح ههنا ، ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول أخرى كما في قوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
(1/4129)

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } (البينة : 1) {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ} (الأنعام : 52) ؟
نقول لأن هناك إنما وجب التحريك وعين الكسر في الفعل للشبهة تحرك الإعراب ، لأن الفعل محل يرد عليه الرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر فاختيرت الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر ، لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ولو لاشتبه بالنصب ، وأما في أواخر الأسماء فلا اشتباه ، لأن الأسماء محل ترد عليه الحركات الثلاث فلم يكن يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف ، وأما إن قلنا إنها حرف مقسم به فحقها الجر ويجوز النصب بجعله مفعولاً باقسم على وجه الاتصال ، وتقدير الباء كأن لم يوجد ، وإن قلنا هي اسم السورة ، فإن قلنا مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ ففتح في موضع الجر كما تقول وإبراهيم وأحمد في القسم بهما ، وإن قلنا إنه ليس مقسماً بها وقلنا اسم السورة ، فحقها الرفع إن جعلناها خبراً تقديره : هذه ق ، وإن قلنا هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا هذا داع وراع ، وإن قلنا اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسماً ، ولنعد إلى التفسير فنقول الوصف قد يكون للتمييز وهو الأكثر كقولنا الكلام القديم ليتميز عن الحادث والرجل الكريم ليمتاز عن اللئيم ، وقد يكون لمجرد المدح كقولنا الله الكريم إذ ليس في الوجود إله آخر حتى نميزه عنه بالكريم ، وفي هذا الموضع يحتمل الوجهين ، والظاهر أنه لمجرد المدح ، وأما التمييز فبأن نجعل القرآن اسماً للمقروء ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرعد : 31) والمجيد العظيم ، وقيل المجيد هو كثير الكرم وعلى الوجهين القرآن مجيد ، أما على قولنا المجيد هو العظيم ، فلأن القرآن عظيم الفائدة ، ولأنه ذكر الله العظيم ، وذكر العظيم عظيم ، ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق ، وهو آية العظمة يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ} (الحجر : 87) أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 21 ، 22) أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و{لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه } (فصلت : 42) فهو غير مقدور عليه فهو عظيم ، وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده ، وإنه مغن كل من لاذبه ، وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد ، فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم ، وفيه مباحث :
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
(1/4130)

الأول : القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا ؟
نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول ، ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية ، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة ، فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظاً إلا {قا } فيكون التقدير : هذا {قا وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} أو {قا } أنزلها الله تعالى : {وَالْقُرْءَانِ} كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور /بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله ، وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة ، فنقول ذلك أمران : أحدهما : المنذر والثاني : الرجع ، فيكون التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر ، أو : والقرآن المجيد إن الرجع لكائن ، لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهراً ، أما الأول : فيدل عليه قوله تعالى : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى أن قال : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} (يس : 1 ـ 6). وأما الثاني : فدل عليه قوله تعالى : {وَالطُّورِ * وَكِتَـابٍ مُّسْطُورٍ} إلى أن قال : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (الطور : 1 ـ 7) وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال {قا } اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن ، وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن ، فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك ؟
قلت الأول : لأن المنذر أقرب من الرجع ، ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه مرسلاً ومنذراً ، وما رأينا الحروف ذكرت ويعدها الحشر ، واعتبر ذلك في سورة منها قوله تعالى : {الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ} (السجدة : 1 ـ 3) ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول الله ، فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم ، وليس هو بنفسه دليلاً على الحشر ، بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول ، وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية ، فهو كون محمد صلى الله عليه وسلّم على الحق ولكلامه صفة الصدق ، فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه والثاني : {بَلْ عَجِبُوا } (ق : 2) يقتضي أن يكون هناك أمر مضرب عنه فما ذلك ؟
نقول قال الواحدي ووافقه الزمخشري إنه تقدير قوله ما الأمر كما يقولون ونزيده وضوحاً ، فنقول على ما اخترناه : فإن التقدير والله أعلم ق والقرآن والقرآن المجيد إنك لتنذر ، فكأنه قال بعده وإنهم شكوا فيه فأضرب عنه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
وقال : {بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ} .
يعني لم يقتنعوا بالشك في صدق الأمر وطرحه بالترك وبعد الإمكان ، بل جزموا بخلافه حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة ، فإن قيل فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمضرب عنه ، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوفيق العزيز ؟
فنقول إنما حذف المقسم عليه لأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر ، وذلك لأن من ذكر الملك العظيم في مجلس وأثنى عليه يكون قد عظمه ، فإذا قال له غيره هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاً على عظمته فوق ما يستفيد صاحبه بذكره فالله تعالى يقول لبيان رسالتك أظهر من أن يذكر ، وأما حذف المضرب عنه ، فلأن المضرب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمر آخر إنما يحسن إذا كان بين المذكورين تفاوت ما ، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب ، مثاله يحسن أن يقال /الوزير يعظم فلاناً بل الملك يعظمه ، ولا يحسن أن يقال البواب يعظم فلاناً بل الملك يعظمه لكون البون بينهما بعيداً ، إذ الإضراب للتدرج ، فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران أحدهما : أنه يشير إلى أمر آخر قبله وثانيهما : أنه يجعل الثاني تفاوتاً عظيماً مثل ما يكون ومما لا يذكر ، وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد.
المبحث الثالث : أن مع الفعل يكون بمثابة ذكر المصدر ، تقول أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام ، وتقول ما كان جوابه إلا أن قال وما كان جوابه إلا قوله كذا وكذا ، وإذا كان كذلك فلم ينزل عن الإتيان بالمصدر حيث جاز أن يقال أمرت أن أقوم من غير حرف الإلصاق ، ولا يجوز أن يقال أمرت القيام بل لا بد من الباء ، ولذلك قالوا أي عجبوا من مجيئه ، نقول {أَن جَآءَهُم} وإن كان في المعنى قائماً مقام المصدر لكنه في الصورة فعل وحرف ، وحروف التعدية كلها حروف جارة والجار لا يدخل على الفعل ، فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقل من أن يجوز عدم الدخول ، فجاز أن يقال {عَجِبُوا أَن جَآءَهُم} ولا يجوز عجبوا مجيئهم لعدم المانع من إدخال الحروف عليه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
(1/4131)

وقوله تعالى : {مِنْهُم} يصلح أن يكون مذكوراً كالمقرر لتعجبهم ، ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تعجبهم ، أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه } (القمر : 24) و{قَالُوا مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} (يس : 15) إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم ، وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا ، فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه ، فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية ، فإن خاصية النعامة بلع النار ، والطيور الطير في الهواء ، وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلاً ، ولكن تقرير الباطل كيف يجوز ، نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله ، فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم ، وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب ، فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلّم كان بشيراً ونذيراً والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيراً على كونه نذيراً/ فلم لم يذكر : عجبوا أن جاءهم بشير منهم ؟
نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعاً كان في حقهم منذراً لا غير.
ثم قال تعالى : {فَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) فعجبوا من كونه منذراً من وقوع الحشر ، ويدل عليه النظر في أول /سورة ص حيث قال فيه {وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ } (ص : 4) وقال : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} (ص : 5) ذكر تعجبهم من أمرين والظاهر أن قولهم {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ويدل عليه وجوه الأول : هو أن هناك ذكر {إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} بعد الاستفهام الإنكاري فقال : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} وقال ههنا {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر. ثم قالوا : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} الثاني : ههنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار ، فإن قيل التكرار الصريح يلزم من جعل قولك {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} عائداً إلى مجيء المنذر ، فإن تعجبهم منه علم من قوله {عَجِبُوا أَن جَآءَهُم} فقوله {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} يكون تكراراً ، نقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير ، وذلك لأنه لما قال : {بَلْ عَجِبُوا } بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيباً كما قال تعالى : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه } (هود : 73) ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لفعلكم وعجبكم فقالوا {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} فكيف لا نعجب منه ، ويدل عليه أنه تعالى قال ههنا {فَقَالَ الْكَـافِرُونَ} بحرف الفاء ، وقال في ص {وَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص : 4) لأن قولهم {سَـاحِرٌ كَذَّابٌ} كان تعنتاً غير مرتب على ما تقدم ، و{هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك ، فقالوا {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} فكيف لا نعجب منه ، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) بلفظ الإشارة إلى البعد ، وقوله هذا إشارة إلى الحاضر القريب ، فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا ، وذلك لا يصح إلا على قولنا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
فإنهم لما أظهروا العجب من رسالته أظهروا استبعاد كلامه ، وهذا كما قال تعالى عنهم {قَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ} (سبأ : 43) ، {وَقَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى } (سبأ : 43) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فقوله {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا } إنكار منهم بقول أو بمفهوم دل عليه قوله تعالى : {جَآءَهُم مُّنذِرٌ} (ق : 2) لأن الإنذار لما لم يكن إلا بالعذاب المقيم والعقاب الأليم ، كان فيه الإشارة للحشر ، فقالوا {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا } .
(1/4132)

المسألة الثانية : ذلك إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار ، وقوله {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} (ق : 2) إشارة إلى المجيء على ما قلنا ، فلما اختلفت الصفتان نقول المجيء والجائي كل واحد حاضر. وأما الإنذار وإن كان حاضراً لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك ، الرجع مصدر رجع يرجع إذا /كان متعدياً ، والرجوع مصدره إذا كان لازماً ، وكذلك الرجعي مصدر عند لزومه ، والرجع أيضاً يصح مصدراً للازم ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} أي رجوع بعيد ، ويحتمل أن يكون المراد الرجع المتعدي ، ويدل على الأول قوله تعالى : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } (العلق : 8) وعلى الثاني قوله تعالى : {أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ} (النازعات : 10) أي مرجعون فإنه من الرجع المتعدي ، فإن قلنا هو من المتعدي ، فقد أنكروا كونه مقدوراً في نفسه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
إشارة إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه ، وذلك لأن الله تعالى بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف ، فليس الرجوع منه ببعد ، وهذا كقوله تعالى : {وَهُوَ الْخَلَّـاقُ الْعَلِيمُ} (يس : 11) حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة ، وقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارْضُ} يعني لا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في تخوم الأرضين ، وهذا جواب لما كانوا يقولون {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ} (السجدة : 10) يعني أن ذلك إشارة إلى أنه تعالى كما يعلم أجزاؤهم يعلم أعمالهم من ظلمهم ، وتعديهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون ، ويحتمل أن يقال معنى قوله تعالى : {وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ } هو أنه عالم بتفاصيل الأشياء ، وذلك لأن العلم إجمالي وتفصيلي ، فالإجمالي كما يكون عند الإنسان الذي يحفظ كتاباً ويفهمه ، ويعلم أنه إذا سئل عن أية مسألة تكون في الكتاب يحضر عنده الجواب ، ولكن ذلك لا يكون نصب عينيه حرفاً بحرف ، ولا يخطر بباله في حالة باباً باباً ، أو فصلاً فصلاً ، ولكن عند العرض على الذهن لا يحتاج إلى تجديد فكر وتحديد نظر ، والتفصيلي مثل الذي يعبر عن الأشياء ، والكتاب الذي كتب فيه تلك المسائل ، وهذا لا يوجد عند الإنسان إلا في مسألة أو مسألتين. أما بالنسبة إلى كتاب فلا يقال : {وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ } يعني العلم عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءاً جزءاً وشيئاً شيئاً ، والحفيظ يحتمل أن يكون بمعنى المحفوظ ، أي محفوظ من التغيير والتبديل ، ويحتمل أن يكون بمعنى الحافظ ، أي حافظ أجزاءهم وأعمالهم بحيث لا ينسى شيئاً منها ، والثاني هو الأصح لوجهين أحدهما : أن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن ، قال تعالى : {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام : 104) وقال تعالى : {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} ولأن الكتاب على ما ذكرنا للتمثيل فهو يحفظ الأشياء ، وهو مستغن عن أن يحفظ.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
وقوله تعالى : {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} .
رد عليهم ، فإن قيل ما المضروب عنه ، نقول فيه وجهان أحدهما : تقديره لم يكذب المنذر ، بل كذبوا هم ، وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا {هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} (ق : 2) كان في معنى قولهم : /إن المنذر كاذب ، فقال تعالى : لم يكذب المنذر ، بل هم كذبوا ، فإن قيل : ما الحق ؟
نقول يحتمل وجوهاً الأول : البرهان القائم على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم الثاني : الفرقان المنزل وهو قريب من الأول ، لأنه برهان الثالث : النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق ، فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى : {بِالْحَقِّ } وأية حاجة إليها ، يعني أن التكذيب متعد بنفسه ، فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة ، كما في قوله تعالى : {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} ؟
(القلم : 5 ، 6) نقول فيه بحث وتحقيق ، وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية ، وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب ، لكن النسبة تارة توجد في القائل ، وأخرى في القول ، تقول : كذبني فلان وكنت صادقاً ، وتقول : كذب فلان قول فلان ، ويقال كذبه ، أي جعله كاذباً ، وتقول : قلت لفلان زيد يجيء غداً ، فتأخر عمداً حتى كذبني وكذب قولي ، والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها ، قال تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} (الشعراء : 141) وقال تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} (القمر : 23) وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر ، قال تعالى : {فَكَذَّبُوهُ} (الأعراف : 64) وقال : {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } (فاطر : 4) إلى غير ذلك ، وفي القول الاستعمال بالباء أكثر ، قال الله تعالى : {كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كُلِّهَا} (القمر : 42) وقال : {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} وقال تعالى : {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَه ا } (
(1/4133)

جزء : 28 رقم الصفحة : 119
الزمر : 32) والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر ، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل ، فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب ، غير أن له محلاً يقع فيه فيسمى مضروباً ، ثم إذا كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف ، يقال ضربت عمراً ، وشربت خمراً ، للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به ، والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه ، وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف ، ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه ، لأن من قال : مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به ، ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضرب والشرب ، وفي الخفاء دون المرور ، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور ، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضربت بعمرو ، إلا إذا جعلته آلة الضرب. أما إذا ضربته بسوط أو غيره ، فلا يجوز فيه زيادة الباء ، ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك ، وتقول مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له ، لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور ، والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن ، فالأصل في الشكر ، الفعل الجميل ، وكونه واقعاً بغيره كالبيع بخلاف الضرب ، فإنه إمساس جسم بجسم بعنف ، فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولاً ، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً ، إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر لأنه هو الذي يصدق أو يكذب ، وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية.
/وقوله {لَمَّا جَآءَهُمْ} في الجائي وجهان : أحدهما : أنه هو المكذب تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم الحق ، أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر ثانيهما : الجائي ههنا هو الجائي في قوله تعالى : {بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} (ق : 2) تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر ، والأول لا يصح على قولنا الحق وهو الرجع ، لأنهم لا يكذبون به وقت المجيء بل يقولون {هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ} (يس : 52).
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
وقوله {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي مختلف مختلط قال الزجاج وغيره : لأنهم تارة يقولون ساحر وأخرى شاعر ، وطوراً ينسبونه إلى الكهانة ، وأخرى إلى الجنون ، والأصح أن يقال : هذا بيان الاختلاف المذكور في الآيات ، وذلك لأن قوله تعالى : {بَلْ عَجِبُوا } يدل على أمر سابق أضرب عنه ، وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره : والقرآن المجيد ، إنك لمنذر ، وإنهم شكوا فيك ، بل عجبوا ، بل كذبوا. وهذه مراتب ثلاث الأولى : الشك وفوقها التعجب ، لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين ، والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب لكنه لا يقطع به والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك ، فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين فقال : {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} ويدل عليه الفاء في قوله {فَهُمْ} لأنه حينئذ يصير كونهم {فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} مرتباً على ما تقدم وفيما ذكروه لا يكون مرتباً. فإن قيل : المريج ، المختلط ، وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل ، لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن ، والظان ينتهي إلى درجة القطع ، وعند القطع لا يبقى الظن ، وعند لظن لا يبقى الشك ، وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب ، بل تارة كانوا يقولون كاهن وأخرى مجنون ، ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون وكذا إلى الشعر بعد السحر وإلى السحر بعد الشعر فهذا هو المريج. نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بين أظهرهم ، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرة على يديه ولسانه ، فلما غيروا الترتيب حصل عليه المرج ووقع الدرك مع المرج ، وأما ما ذكروه فاللائق به تفسير قوله تعالى : {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} (الذاريات : 8) لأن ما كان يصدر منهم في حقه كان قولاً مختلفاً ، وأما الشك والظن والجزم فأمور مختلفة ، وفيه لطيفة وهي أن إطلاق لفظ المريج على ظنهم وقطعهم ينبىء عن عدم كون ذلك الجزم صحيحاً لأن الجزم الصحيح لا يتغير ، وكان ذلك منهم واجب التغير فكان أمرهم مضطرباً ، بخلاف المؤمن الموفق فإنه لا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
/إشارة إلى الدليل الذي يدفع قولهم {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) وهذا كما في قوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 80) وقوله تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر : 57) وقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى ا بَلَى } (الأحقاف : 33) وفيه مسائل :
(1/4134)

المسألة الأولى : همزة الاستفهام تارة تدخل على الكلام ولا واو فيه ، وتارة تدخل عليه وبعدها واو ، فهل بين الحالتين فرق ؟
نقول فرق أدق مما على الفرق ، وهو أن يقول القائل : أزيد في الدار بعد ، وقد طلعت الشمس ؟
يذكره للإنكار ، فإذا قال : أو زيداً في الدار بعد ، وقد طلعت الشمس ؟
يشير بالواو إشارة خفية إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين ، كأنه يقول بعد ما سمع ممن صدر عن زيد هو في الدار ، أغفل وهو في الدار بعد ، لأن الواو تنبىء عن ضيف أمر مغاير لما بعدها وإن لم يكن هناك سابق لكنه يومىء بالواو إليه زيادة في الإنكار ، فإن قيل قال في موضع {أَوَلَمْ يَنظُرُوا } (الأعراف : 185) وقال ههنا {أَفَلَمْ يَنظُرُوا } بالفاء فما الفرق ؟
نقول ههنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب بمخالفه ، فإن قيل ففي يس سبق ذلك بقوله قال : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ} (يس : 78) نقول هناك الاستدلال بالسموات لما لم يعقب الإنكار على عقيب الإنكار استدل بدليل آخر ، وهو قوله تعالى : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) ثم ذكر الدليل الآخر ، وههنا الدليل كان عقيب الإنكار فذكر بالفاء ، وأما قوله ههنا بلفظ النظر ، وفي الأحقاف بلفظ الرؤية ، ففيه لطيفة وهي أنهم ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} استبعد استبعادهم ، وقال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ} لأن النظر دون الرؤية فكأن النظر كان في حصول العلم بإنكار الرجع ولا حاجة إلى الرؤية ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستعباد ، وهناك لم يوجد منهم بإنكار مذكور فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتم من النظر ، ثم إنه تعالى كمل ذلك وجمله بقوله {إِلَى السَّمَآءِ} ولم يقل في السماء لأن النظر في الشيء ينبىء عن التأمل والمبالغة والنظر إلى الشيء ينبىء عنه ، لأن إلى للغاية فينتهي النظر عنده في الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى الظرفية وقوله تعالى : {فَوْقَهُمْ} تأكيد آخر أي وهو ظاهر فوق رؤوسهم غير غائب عنهم ، وقوله تعالى : {كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا وَزَيَّنَّـاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} إشارة إلى وجه الدلالة وأولوية الوقوع وهي للرجع ، أما وجه الدلالة فإن الإنسان له أساس هي العظام التي هي كالدعامة وقوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن ، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم. وأما الأولوية فإن السماء ما لها من فروج فتأليفها أشد ، وللإنسان فروج ومسام ، ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف ، والأول أصعب عند الناس وأعجب ، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى ؟
قالت الفلاسفة الآية دالة على أن السماء لا تقبل الخرق/ وكذلك قالوا في قوله {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} وقوله {سَبْعًا} (النبأ : 12) وتعسفوا فيه لأن /قوله تعالى : {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} صريح في عدم ذلك ، والإخبار عن عدم الشيء لا يكون إخباراً عن عدم إمكانه فإن من قال : ما لفلان قال ؟
لا يدل على نفي إمكانه ، ثم إنه تعالى بيّنن خلاف قولهم بقوله {وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} (المرسلات : 9) وقال : {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار : 1) وقال : {فَهِىَ يَوْمَـاـاِذٍ وَاهِيَةٌ} (الحاقة : 16) في مقابلة قوله {سَبْعًا شِدَادًا} وقال : {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن : 37) إلى غير ذلك والكل في الرد عليهم صريح وما ذكروه في الدلالة ليس بظاهر ، بل وليس له دلالة خفية أيضاً ، وأما دليلهم المعقول فأضعف وأسخف من تمسكهم بالمنقول.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
(1/4135)

إشارة إلى دليل آخر ووجه دلالة الأرض هو أنهم قالوا : الإنسان إذا مات وفارقته القوة الغاذية والنامية لا تعود إليه تلك القوة ، فنقول الأرض أشد جموداً وأكثر خموداً والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات وينمو ويزيد ، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر في الأرض ثلاثة أمور كما ذكر في السماء ثلاثة أمور في الأرض المد وإلقاء الرواسي والإنبات فيها ، وفي السماء البناء والتزيين وسد الفروج ، وكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء ، لأن المد وضع والبناء رفع ، والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزينة لها والإنبات في الأرض شقها كما قال تعالى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا} (عبس : 25 ، 26) وهو على خلاف سد الفروج وإعدامها ، وإذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة وأشياء ثابتة كالأنف والأذن وأشياء متحركة كالمقلة واللسان ، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس والأغشية المنسوجة نسجاً ضعيفاً كالصفاق ، وأشياء لها فروج وشقوق كالمناخر والصماخ والفم وغيرها ، فالقادر على الأضداد في هذا المهاد ، في السبع الشداد ، غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. (و) تفسير الرواسي قد ذكرناه في سورة لقمان ، والبهيج الحسن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى الأمرين المذكورين وهما السماء والأرض ، على أن خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ، ويدل عليه أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدة في كل عام فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان ، وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فذكر السماء تبصرة والأرض تذكرة ، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين ، فالسماء تبصرة والأرض كذلك ، والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات /مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ، وقوله {لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي راجع إلى التفكر والتذكر والنظر في الدلائل.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
إشارة إلى دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض ، فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما ، وذلك إنزال (الماء من) السماء من فوق ، وإخراج النبات من تحت وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الاستدلال قد تقدم بقوله تعالى : {وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجا بَهِيجٍ} (ق : 7) فما الفائدة في إعادته بقوله {فَأَنابَتْنَا بِه جَنَّـاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ؟
نقول قوله {فَأَنابَتْنَا} استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد ، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد بأن يرجع الله تعالى إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} فيه حذف تقديره وحب الزرع الحصيد وهو المحصود أي أنشأنا جنات يقطف ثمارها وأصولها باقية وزرعاً يحصد كل سنة ويزرع في كل عام أو عامين ، ويحتمل أن يقال التقدير وننبت الحب الحصيد والأول هو المختار ، وقوله تعالى : {وَالنَّخْلَ بَاسِقَـاتٍ} إشارة إلى المختلط من جنسين ، لأن الجنات تقطف ثمارها وتثمر من غير زراعة كل سنة ، لكن النخل يؤبر ولولا التأبير لم يثمر ، فهو جنس مختلط من الزرع والشجر ، فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع وخلق ما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلها وخلق المركب من جنسين في الأثمار ، لأن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه ، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت ، والباسقات الطوال من النخيل.
وقوله تعالى : {بَاسِقَـاتٍ} يؤكد كمال القدرة والاختيار ، وذلك من حيث إن الزرع إن قيل فيه إنه يمكن أن يقطف من ثمرته لضعفه وضعف حجمه ، فكذلك يحتاج إلى إعادته كل سنة والجنات لكبرها وقوتها تبقى وتثمر سنة بعد سنة فيقال : أليس النخل الباسقات أكثر وأقوى من الكرم الضعيف والنخل محتاجة كل سنة إلى عمل عامل والكرم غير محتاج ، فالله تعالى هو الذي قدر ذلك لذلك لا للكبر والصغر والطول والقصر.
قوله تعالى : {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أي منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبله الزرع وهو عجيب ، فإن الأشجار الطوال أثمارها بارزها متميز بعضها من بعض لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز وغيرهما والطلع كالسنبلة الواحدة يكون على أصل واحد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
ثم قال تعالى : {رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ } وفيه وجهان أحدهما نصب على المصدر لأن الإنبات رزق /فكأنه تعالى قال : أنبتناها إنباتاً للعباد ، والثاني نصب على كونه مفعولاً له كأنه قال : أنبتناها لرزق العباد ، وههنا مسائل :
(1/4136)

المسألة الأولى : قال في خلق السماء والأرض {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى } (ق : 8) وفي الثمار قال : {رِّزْقًا} والثمار أيضاً فيها تبصرة ، وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة ، فما الحكمة في اختيار الأمرين ؟
نقول فيه وجوه أحدها : أن نقول الاستدلال وقع لوجود أمرين أحدهما الإعادة والثاني البقاء بعد الإعادة فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعد الثواب الدائم والعقاب الدائم ، وأنكروا ذلك ، فأما الأول فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء ، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر ، قادر على أن يرزق العبد في الجنة ويبقى ، فكأن الأول تبصرة وتذكرة بالخلق ، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى } حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنباته النبات ثانيها : أن منفعة الثمار الظاهرة هي الرزق فذكرها ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم ، حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ، ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى ، لأن السماء سبب الأرزاق بتقدير الله ، وفيها غير ذلك من المنافع ، والثمار وإن لم تكن (ما) كان العيش ، كما أنزل الله على قوم المن والسلوى وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا الموضع ثالثها : قوله {رِّزْقًا} إشارة إلى كونه منعماً لكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة (للتكذيب) بالمنعم وهو أقبح ما يكون.
المسألة الثانية : قال : {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} (ق : 8) فقيد العبد بكونه منيباً وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال : {رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ } مطلقاً لأن الرزق حصل لكل أحد ، غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام ، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
المسألة الثالثة : ذكر في هذه الآية أمور ثلاثة أيضاً وهي إنبات الجنات والحب والنخل كما ذكر في السماء والأرض في كل واحدة أموراً ثلاثة ، وقد ثبت أن الأمور الثلاثة في الآيتين المتقدمين متناسبة ، فهل هي كذلك في هذه الآية ؟
نقول قد بينا أن الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة ، وهي التي يبقى أصلها سنين ، ولا تحتاج إلى عمل عامل والتي لا يبقى أصلها وتحتاج كل سنة إلى عمل عامل ، والتي يجتمع فيها الأمران وليس شيء من الثمار والزروع خارجاً عنه أصلاً كما أن أمور الأرض منحصرة في ثلاثة : ابتداء وهو المد ، ووسط وهو النبات بالجبال الراسية ، وثالثها هو غاية الكمال وهو الإنبات والتزيين بالزخارف.
ثم قال تعالى : {وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا } عطفاً على {أَنابَتْنَا فِيهَا} (ق : 9) وفيه بحثان :
/الأول : إن قلنا إن الاستدلال بإنبات الزرع وإنزال الماء كان لإمكان البقاء بالرزق فقوله {وَأَحْيَيْنَا بِه } إشارة إلى أنه دليل على الإعادة كما أنه دليل على البقاء ، ويدل عليه قوله تعالى : {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} فإن قيل كيف يصح قولك استدلالاً/ وإنزال الماء كان لبيان البقاء مع أنه تعالى قال بعد ذلك {وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا } .
وقال : {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} فيكون الاستدلال على البقاء قبل الاستدلال على الإحياء والإحياء سابق على الإبقاء ، فينبغي أن يبين أولاً أنه يحيي الموتى ، ثم يبين أنه يبقيهم ، نقول لما كان الاستدلال بالسموات والأرض على الإعادة كافياً بعد ذكر دليل الإحياء ذكر دليل الإبقاء ، ثم عاد واستدرك فقال هذا الدليل الدال على الإبقاء دال على الإحياء ، وهو غير محتاج إليه لسبق دليلين قاطعين فبدأ ببيان البقاء وقال : {فَأَنابَتْنَا بِه جَنَّـاتٍ} ثم ثنى بإعادة ذكر الإحياء فقال : {وَأَحْيَيْنَا بِه } وإن قلنا إن الاستدلال بإنزال الماء وإنبات الزرع لا لبيان إمكان الحشر فقوله {وَأَحْيَيْنَا بِه } ينبغي أن يكون مغايراً لقوله {فَأَنابَتْنَا بِه } بخلاف ما لو قلنا بالقول الأول لأن الإحياء ، وإن كان غير الإنبات لكن الاستدلال لما كان به على أمرين متغايرين جاز العطف ، تقول خرج للتجارة وخرج للزيارة ، ولا يجوز أن يقال خرج للتجارة وذهب للتجارة إلا إذا كان الذهاب غير الخروج فنقول الإحياء غير إنبات الرزق لأن بإنزال الماء من السماء يخضر وجه الأرض ويخرج منها أنواع من الأزهار ولا يتغذى به ولا يقتات ، وإنما يكون به زينة وجه الأرض وهو أعم من الزرع والشجر لأنه يوجد في كل مكان والزرع والثمر لا يوجدان في كل مكان ، فكذلك هذا الإحياء ، فإن قيل فكان ينبغي أن يقدم في الذكر لأن اخضرار وجه الأرض يكون قبل حصول الزرع والثمر ، ولأنه يوجد في كل مكان بخلاف الزرع والثمر ، نقول لما كان إنبات الزرع والثمر أكمل نعمة قدمه في الذكر.
(1/4137)

جزء : 28 رقم الصفحة : 119
الثاني : في قوله {بَلْدَةً مَّيْتًا } نقول جاز إثبات التاء في الميت وحذفها عند وصف المؤنث بها ، لأن الميت تخفيف للميت ، والميت فيعل بمعنى فاعل فيجوز فيه إثبات التاء لأن التسوية في الفعيل بمعنى المفعول كقوله {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} (الأعراف : 56) فإن قيل لم سوى بين المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول ؟
قلنا لأن الحاجة إلى التمييز بين الفاعل والمفعول أشد من الحاجة إلى التمييز المفعول المذكر والمفعول المؤنث نظراً إلى المعنى ونظراً إلى اللفظ ، فأما المعنى فظاهر ، وأما اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول والمفعول له ، إذا علم هذا فنقول في الفعيل لم يتميز الفاعل بحرف فإن فعيلاً جاء بمعنى الفاعل كالنصير والبصير وبمعنى المفعول كالكسير والأسير ، ولا يتميز بحرف عند المخالفة إلا الأقوى فلا يتميز عند المخالفة /الأدنى ، والتحقيق فيه أن فعيلاً وضع لمعنى لفظي ، والمفعول وضع لمعنى حقيقي فكأن القائل قال استعملوا لفظ المفعول للمعنى الفلاني ، واستعملوا لفظ الفعيل مكان لفظ المفعول فصار فعيل كالموضوع للمفعول ، والمفعول كالموضوع للمعنى ، ولما كان تغير اللفظ تابعاً لتغير المعنى تغير المفعول لكونه بإزاء المعنى ، ولم يتغير الفعيل لكونه بإزاء اللفظ في أول الأمر ، فإن قيل فما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا} (يس : 33) حيث أثبت التاء هناك ؟
نقول الأرض أراد بها الوصف فقال : {الارْضُ الْمَيْتَةُ} لأن معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة ، لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة ، وأقام بها الناس وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأن معنى الفاعلية ثبت فيها والذي بمعنى الفاعل لا يثبت فيه التاء ، وتحقيق هذا قوله {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} (سبأ : 15) حيث أثبت التاء حيث ظهر بمعنى الفاعل ، ولم يثبت حيث لم يظهر وهذا بحث عزيز.
قوله تعالى : {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} أي كالإحياء {الْخُرُوجُ} فإن قيل الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج فنقول تقديره {وَأَحْيَيْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا } فتشققت وخرج منها النبات كذلك تشقق ويخرج منها الأموات ، وهذا يؤكد قولنا الرجع بمعنى الرجوع في قوله {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) لأنه تعالى بيّن لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسب أن يقول ، كذلك الإخراج ، ولما قال : {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال : {كَذَالِكَ الْخُرُوجُ} نقول فيه معنى لطيف على القول الآخر ، وذلك لأنهم استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي بمعنى الإخراج والله تعالى أثبت الخروج وفيهما مبالغة تنبيهاً على بلاغة القرآن مع أنها مستغنية عن البيان ، ووجهها هو أن الرجع والإخراج كالسبب للرجوع والخروج ، والسبب إذا انتفى ينتفي المسبب جزماً ، وإذا وجد قد يتخلف عنه المسبب لمانع تقول كسرته فلم ينكسر وإن كان مجازاً والمسبب إذا وجد فقد وجد سببه وإذا انتفى لا ينتفي السبب لما تقدم ، إذا علم هذا فهم أنكروا وجود السبب ونفوه وينتفي المسبب عند انتفائه جزماً فبالغوا وأنكروا الأمر جميعاً ، لأن نفي السبب نفي المسبب ، فأثبت الله الأمرين بالخروج كما نفوا الأمرين جميعاً بنفي الإخراج.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
ذكر المكذبين تذكيراً لهم بحالهم ووبالهم وأنذرهم بإهلاكهم واستئصالهم ، وتفسيره ظاهر وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم وتنبيه بأن حاله كحال من تقدمه من الرسل ، كذبوا وصبروا فأهلك الله /مكذبيهم ونصرهم {وَأَصْحَـابُ الرَّسِّ} فيهم وجوه من المفسرين من قال هم قوم شعيب ومنهم من قال هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى وهم قوم عيسى عليه السلام ، ومنهم من قال هم أصحاب الأخدود ، والرس موضع نسبوا إليه أو فعل وهو حفر البئر يقال رس إذا حفر بئراً وقد تقدم في سورة الفرقان ذلك ، وقال ههنا {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} وقال : {قَوْمُ نُوحٍ} لأن لوطاً كان مرسلاً إلى طائفة من قوم إبراهيم عليه السلام معارف لوط ، ونوح كان مرسلاً إلى خلق عظيم ، وقال : {فِرْعَوْنُ} ولم يقل قوم فرعون ، وقال : {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه المستبد بأمره ، وتبع كان معتمداً بقومه فجعل الاعتبار لفرعون ، ولم يقل إلى قوم فرعون.
وقوله تعالى : {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} .
يحتمل وجهين أحدهما : أن كل واحد كذب رسوله فهم كذبوا الرسل واللام حينئذ لتعريف العهد وثانيهما : وهو الأصح هو أن كل واحد كذب جميع الرسل واللام حينئذ لتعريف الجنس وهو على وجهين أحدهما : أن المكذب للرسول مكذب لكل رسول وثانيهما : وهو الأصح أن المذكورين كانوا منكرين للرسالة والحشر بالكلية ، وقوله {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي ما وعد الله من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم.
(1/4138)

جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
وفيه وجهان أحدهما : أنه استدلال بدلائل الأنفس ، لأنا ذكرنا مراراً أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال : {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} (الحجر : 19) وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي ، وعلى هذا فيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال : {وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا} وقال : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا} (ق : 9) ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس ، وهذا من جنس ، فلم يجعل هذا تبعاً لذلك ، ومثل هذا مراعى في أواخر يس ، حيث قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ} (يس : 77) ثم لم يعطف الدليل الآفاقي ههنا ؟
نقول والله أعلم ههنا وجد منهم الاستبعاد بقول {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات ، ثم نزل كأنه قال لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك ، وفي سورة يس لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
والوجه الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو خلق السموات ، لأنه هو الخلق الأول وكأنه تعالى قال : {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ} (ق : 6) ثم قال : {أَفَعَيِينَا} بهذا الخلق ويدل على هذا قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} (الأحقاف : 33) ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه } (ق : 16) فهو كالاستدلال بخلق الإنسان وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق وهو بناء السماء ومد الأرض وتنزيل الماء وإنبات الجنّات ، وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان أحدهما : ما عليه الأمران لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه ، والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد والوجه الثاني : أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه ، كأنهم قالوا أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية ؟
وقوله تعالى : {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ} تقديره ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد ، يعني لا مانع من جهة الفاعل ، فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد ، لأنهم كانوا يقولون ذلك محال وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزاً فيه ، ويقال للمشكوك فيه ملتبس كما يقل لليقين إنه ظاهر وواضح ، ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كم قلنا : إنه يقال إن هذا أمر ظهر ، وهذا أمر ملتبس وههنا أسند الأمر إليهم حيث قال : {هُمْ فِى لَبْسٍ} وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير فيختفي الأمر من جانب الرائي فقال ههنا {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ} ومن في قوله {مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} يفيد فائدة وهي ابتداء الغاية كأن اللبس كان حاصلاً لهم من ذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ} فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون ابتداء استدلال بخلق الإنسان ، وهذا على قولنا {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ } (ق : 15) معناه خلق السموات وثانيهما : أن يكون تتميم بيان خلق الإنسان ، وعلى هذا قولنا الخلق الأول هو خلق الإنسان أول مرة ، ويحتمل أن يقال هو تنبيه على أمر يوجب عودهم عن مقالهم ، وبيانه أنه تعالى لما قال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِه نَفْسُه } كان ذلك إشارة إلى أنه لا يخفى عليه خافية ويعلم ذوات صدورهم.
وقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} .
بيان لكمال علمه ، والوريد العرق الذي هو مجرى الدم يجري فيه ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن والله أقرب من ذلك بعلمه ، لأن العرق تحجبه أجزاء اللحم ويخفى عنه ، وعلم الله تعالى /لا يحجب عنه شيء ، ويحتمل أن يقال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} بتفرد قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
(1/4139)

{إِذْ} ظرف والعامل فيه ما في قوله تعالى : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وفيه إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى ، وذلك لأن الملك إذا أقام كتاباً على أمر اتكل عليهم ، فإن كان له غفلة عنه فيكون في ذلك الوقت يتكل عليهم ، وإذا كان عند إقامة الكتاب لا يبعد عن ذلك الأمر ولا يغفل عنه فهو عند عدم ذلك أقرب إليه وأشد إقبالاً عليه ، فنقول : الله في وقت أخذ الملكين منه فعله وقوله أقرب إليه من عرقه المخالط له ، فعندما يخفى عليهما شيء يكون حفظنا بحاله أكمل وأتم ، ويحتمل أن يقال التلقي من الاستقبال يقال فلان يتلقى الركب وعلى هذا الوجه فيكون معناه وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد ، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والحبور إلى يوم النشور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم الحشر من القبور ، فقال تعالى وقت تلقيهما وسؤالهما إنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ، يعني الملكان ينزلان وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله يسألانهما من أي القيلين كان ، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ، ويرجع إلى الملك الآخر مسروراً حيث لم يكن مسروراً ممن يأخذها هو ، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزوناً حيث لم يكن ممن يأخذها هو ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : {سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق : 21) فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى أخذ روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة. وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم ، وقول القائل جلست عن يمين فلان فيه إنباء عن تنح ما عنه احتراماً له واجتناباً منه ، وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق : 16) المخالط لأجزائه المداخل في أعضائه والملك متنح عنه فيكون علناً به أكمل من علم الكاتب لكن من أجلس عنده أحداً ليكتب أفعاله وأقواله ويكون الكاتب ناهضاً خبيراً والملك الذي أجلس الرقيب يكون جباراً عظيماً فنفسه أقرب إليه من الكاتب بكثير ، والقعيد هو الجليس كما أن قعد بمعنى جلس.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
/أي شدته التي تذهب العقول وتذهل الفطن ، وقوله {بِالْحَقِّ } يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون المراد منه الموت فإنه حق ، كأن شدة الموت تحضر الموت والباء حينئذ للتعدية ، يقال جاء فلان بكذا أي أحضره ، وثانيهما : أن يكون المراد من الحق ما أتى به من الدين لأنه حق وهو يظهر عند شدة الموت وما من أحد إلا وهو في تلك الحالة يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلا ممن سبق منه ذلك وآمن بالغيب ، ومعنى المجيء به هو أنه يظهره ، كما يقال الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم أي أظهره ، ولما كانت شدة الموت مظهرة له قيل فيه جاء به ، والباء حينئذ يحتمل أن يكون المراد منها ملبسة يقال جئتك بأمل فسيح وقلب خاشع ، وقوله {ذَالِكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى الموت ويحتمل أن يكون إشارة إلى الحق ، وحاد عن الطريق أي مال عنه ، والخطاب قيل مع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو منكر ، وقيل مع الكافرين وهو أقرب ، والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع كأنه يقول {ذَالِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أيها السامع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
عطف على قوله {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} (ق : 19) والمراد منه إما النفخة الأولى فيكون بياناً لما يكون عند مجيء سكرة الموت أو النفخة الثانية وهو أظهر لأن قوله تعالى : {ذَالِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} بالنفخة الثانية أليق ويكون قوله {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} إشارة إلى الإماتة ، وقوله {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } إشارة إلى الإعادة والإحياء ، وقوله تعالى : {ذَالِكَ} ذكر الزمخشري أنه إشارة إلى المصدر الذي من قوله {وَنُفِخَ} أي وقت ذلك النفخ يوم الوعيد وهو ضعيف لأن يوم لو كان منصوباً لكان ما ذكرنا ظاهراً وأما رفع يوم فيفيد أن ذلك نفس اليوم ، والمصدر لا يكون نفس الزمان وإنما يكون في الزمان فالأولى أن يقال ذلك إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله {وَنُفِخَ} لأن الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان يوم الوعيد ، والوعيد هو الذي أوعد به من الحشر والإيتاء والمجازاة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
قد بينا من قبل أن السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده والشهيد هو الكاتب ، والسائق لازم للبر والفاجر أما البر فيساق /إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار ، وقال تعالى : {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الزمر : 71) {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} (الزمر : 73).
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
(1/4140)

وقوله تعالى : {لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا} إما على تقدير يقال له أو قيل له {لَّقَدْ كُنتَ} كما قال تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ} (الزمر : 73) وقال تعالى : {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} (الزمر : 72) والخطاب عام أما الكافر فمعلوم الدخول في هذا الحكم وأما المؤمن فإنه يزداد علماً ويظهر له ما كان مخفياً عنه ويرى علمه يقيناً رأى المعتبر يقيناً فيكون بالنسبة إلى تلك الأحوال وشدة الأهوال كالغافل وفيه الوجهان اللذان ذكرناهما في قوله تعالى : {مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق : 19) والغفلة شيء من الغطاء كاللبس وأكثر منه لأن الشاك يلتبس الأمر عليه والغافل يكون الأمر بالكلية محجوباً قلبه عنه وهو الغلف.
وقوله تعالى : {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} أي أزلنا عنك غفلتك {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وكان من قبل كليلا ، وقرينك حديداً ، وكان في الدنيا خليلاً ، وإليه الإشارة بقوله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
0
وفي القرين وجهان أحدهما الشيطان الذي زين الكفر له والعصيان وهو الذي قال تعالى فيه {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} (فصلت : 25) وقال تعالى : {نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} (الزخرف : 36) وقال تعالى : {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (الزخرف : 38) فالإشارة بهذا المسوق إلى المرتكب الفجور والفسوق ، والعتيد معناه المعد للنار وجملة الآية معناها أن الشيطان يقول هذا العاصي شيء هو عندي معد لجهنم أعددته بالإغواء والإضلال ، والوجه الثاني {وَقَالَ قَرِينُه } أي القعيد الشهيد الذي سبق ذكره وهو الملك وهذا إشارة إلى كتاب أعماله ، وذلك لأن الشيطان في ذلك الوقت لا يكون له من المكانة أن يقول ذلك القول ، ولأن قوله {هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} فيكون عتيد صفته ، وثانيهما أن تكون موصولة ، فيكون عتيد محتملاً الثلاثة أوجه أحدها : أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأول {مَا لَدَىَّ} معناه هذا الذي هو لدي وهو عتيد وثانيها : أن يكون عتيد هو الخبر لا غير ، و{مَا لَدَىَّ} يقع كالوصف المميز للعتيد عن غيره كما تقول هذا الذي عند زيد وهذا الذي يجيئني عمرو فيكون الذي عندي والذي يجيئني لتمييز المشار إليه عن غيره ثم يخبر عنه بما بعده ثم يقال للسائق أو الشهيد {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} فيكون هو أمراً لواحد ، وفيه وجهان أحدهما أنه ثنى تكرار الأمر كما ألق ألق ، وثانيهما عادة العرب ذلك.
وقوله {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} الكفار يحتمل أن يكون من الكفران فيكون بمعنى كثير /الكفران ، ويحتمل أن يكون من الكفر ، فيكون بمعنى شديد الكفر ، والتشديد في لفظة فعال يدل على شدة في المعنى ، والعنيد فعيل بمعنى فاعل من عند عنوداً ومنه العناد ، فإن كان الكفار من الكفران ، فهو أنكر نعم الله مع كثرتها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 119
139
وقوله تعالى : {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} .
فيه وجهان أحدهما : كثير المنع للمال الواجب ، وإن كان من الكفر ، فهو أنكر دلائل وحدانية الله مع قوتها وظهورها ، فكان شديد الكفر عنيداً حيث أنكر الأمر اللائح والحق الواضح ، وكان كثير الكفران لوجود الكفران منه عند كل نعمة عنيد ينكرها مع كثرتها عن المستحق الطالب ، والخير هو المال ، فيكون كقوله تعالى : {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} (فصلت : 6 ، 7) حيث بدأ ببيان الشرك ، وثنى بالامتناع من إيتاء الزكاة ، وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفران ، كأنه يقول : كفر أنعم الله تعالى ، ولم يؤد منها شيئاً لشكر أنعمه وثانيهما : شديد المنع من الإيمان فهو مناع للخير وهو الإيمان الذي هو خير محض من أن يدخل في قلوب العباد ، وعلى هذا ففيه مناسبة شديدة إذا جعلنا الكفار من الكفر ، كأنه يقول : كفر بالله ، ولم يقتنع بكفره حتى منع الخير من الغير.
وقوله تعالى : {مُعْتَدٍ} .
فيه وجهان أحدهما : أن يكون قوله {مُعْتَدٍ} مرتباً على {مَّنَّاعٍ} بمعنى مناع الزكاة ، فيكون معناه لم يؤد الواجب ، وتعدى ذلك حتى أخذ الحرام أيضاً بالربا والسرقة ، كما كان عادة المشركين وثانيهما : أن يكون قوله {مُعْتَدٍ} مرتباً على {مَّنَّاعٍ} بمعنى منع الإيمان ، كأنه يقول : منع الإيمان ولم يقنع به حتى تعداه ، وأهان من آمن وآذاه ، وأعان من كفر وآواه.
وقوله تعالى : {مُّرِيبٍ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 139
(1/4141)

فيه وجهان أحدهما : ذو ريب ، وهذا على قولنا : الكفار كثير الكفران ، والمناع مانع الزكاة ، كأنه يقول : لا يعطي الزكاة لأنه في ريب من الآخرة ، والثواب فيقول : لا أقرب مالاً من غير عوض وثانيهما : {مُّرِيبٍ} يوقع الغير في الريب بإلقاء الشبهة ، والإرابة جاءت بالمعنيين جميعاً ، وفي الآية ترتيب آخر غير ما ذكرناه ، وهو أن يقال : هذا بيان أحوال الكفر بالنسبة إلى الله ، وإلى رسول الله ، وإلى اليوم الآخر ، فقوله {كَفَّارٍ عَنِيدٍ} إشارة إلى حاله مع الله يكفر بعد ويعاند آياته ، وقوله {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} إشارة إلى حاله مع رسول الله ، فيمنع الناس من اتباعه ، ومن الإنفاق على من عنده ، ويتعدى بالإيذاء وكثرة الهذاء ، وقوله {مُّرِيبٍ} إشارة إلى حاله بالنسبة إلى اليوم الآخر يريب فيه ويرتاب ، ولا يظن أن الساعة قائمة ، فإن قيل قوله تعالى : {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} إلى غير ذلك يوجب أن يكون الإلقاء خاصاً بمن اجتمع فيه هذه الصفات بأسرها ، والكفر كاف في إيراث الإلقاء في جهنم والأمر به ، فنقول قوله تعالى : {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ليس المراد منه الوصف المميز ، كما يقال : أعط العالم الزاهد ، بل المراد الوصف المبين بكون الموصوف موصوفاً به إما على سبيل المدح ، أو على سبيل الذم ، كما يقال : هذا حاتم السخي ، فقوله {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} يفيد أن الكفار عنيد ومناع ، فالكفار كافر ، لأن آيات الوحدانية ظاهرة ، ونعم الله تعالى على عبده وافرة ، وعنيد ومناع للخير ، لأنه يمدح دينه ويذم دين الحق فهو يمنع ، ومريب لأنه شاك في الحشر ، فكل كافر فهو موصوف بهذه الصفات.
جزء : 28 رقم الصفحة : 139
0
فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه بدل من قوله {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} (ق : 24) ثانيها : أنه عطف على {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ثالثها : أن يكون عطفاً على قوله {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} كأنه قال : {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أي والذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه بعد ما ألقيتموه في جهنم في عذاب شديد من عذاب جهنم. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 139
143
وهو جواب لكلام مقدر ، كأن الكافر حينما يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني ، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته ، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} (ق : 28) لأن الاختصام يستدعي كلاماً من الجانبين وحينئذ هذا ، كما قال الله تعالى في هذه السورة وفي ص {قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ } (ص : 60) وقوله تعالى : {قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ} إلى أن قال : {إِنَّ ذَالِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} (ص : 61 ، 64) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزمخشري : المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد ، واستدل عليه بهذا. وقال غيره ، المراد الملك لا الشيطان ، وهذا يصلح دليلاً لمن قال ذلك ، وبيانه هو أنه في الأول لو كان المراد الشيطان ، فيكون قوله {هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} (ق : 23) معناه هذا الشخص عندي عتيد متعد للنار اعتدته بإغوائي ، فإن الزمخشري صرّح في تفسير تلك بهذه ، وعلى هذا فيكون قوله {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه } مناقضاً لقوله اعتدته وللزمخشري أن يقول الجواب : عنه من وجهين أحدهما : أن يقول إن الشيطان يقول اعتدته بمعنى زينت له الأمر وما ألجأته فيصح القولان من الشيطان وثانيهما : أن تكون الإشارة إلى حالين : ففي الحالة /الأولى إنما فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام من بني آدم ، وتصحيحاً لما قال : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 82) ثم إذا رأى العذاب وأنه معه مشترك وله على الإغواء عذاب ، كما قال تعالى : {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} (ص : 84 ، 85) فيقول {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه } فيرجع عن مقالته عند ظهور العذاب.
المسألة الثانية : قال ههنا {قَالَ قَرِينُه } من غير واو ، وقال في الآية الأولى {وَقَالَ قَرِينُه } (ق : 23) بالواو العاطفة ، وذلك لأن في الأول الإشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين ، وأن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق ، ويقول الشهيد ذلك القول ، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو ، والفاء في قوله {فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ} (ق : 26) لا يناسب قوله تعالى : {قَالَ قَرِينُه رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه } مناسبة مقتضية للعطف بالواو.
جزء : 28 رقم الصفحة : 143
(1/4142)

المسألة الثالثة : القائل ههنا واحد ، وقال {رَبَّنَا} ولم يقل رب ، وفي كثير من المواضع مع كون القائل واحداً ، قال رب ، كما في قوله {قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } (الأعراف : 143) وقول نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِى} (نوح : 28) وقوله تعالى : {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ} (يوسف : 33) وقوله {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ} (التحريم : 11) إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (ص : 79) نقول في جميع تلك المواضع القائل طالب ، ولا يحسن أن يقول الطالب : يا رب عمرني واخصصني وأعطني كذا ، وإنما يقول : أعطنا لأن كونه رباً لا يناسب تخصيص الطالب ، وأما هذا الموضع فموضع الهيبة والعظمة وعرض الحال دون الطلب فقال : {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه } .
وقوله تعالى : {وَلَـاكِن كَانَ فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} .
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه ، وإنما كان ضالاً متغلغلاً في الضلال فطغى ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد ؟
نقول الضال يكون أكثر ضلالاً عن الطريق ، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيراً ، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيراً ، فقوله {ضَلَـالا بَعِيدٍ} وصف المصدر بما يوصف به الفاعل ، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد ، والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بيناً ويظهر الضلال ، لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق ، وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلاً ، فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال : {فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} .
المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَلَـاكِن كَانَ فِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} إشارة إلى قوله {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر : 40) وقوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) أي لم يكونوا من العباد ، فجعلهم أهل العناد ، ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد ، والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 143
المسألة الثالثة : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال : {لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ؟
(الحجر : 39) قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه وجهان : قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري والثالث : هو أن يكون المراد من قوله {لاغْوِيَنَّهُمْ} أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة ، فلا تتركها ، يقال أنه يضله كذلك ههنا ، وقوله {مَآ أَطْغَيْتُه } أي ما كان ابتداء الإطغاء مني.
جزء : 28 رقم الصفحة : 143
143
ثم قال تعالى : {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} .
قد ذكرنا أن هذا دليل على أن هناك كلاماً قبل قوله {قَالَ قَرِينُه رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه } (ق : 27) وهو قول الملقى في النار ربنا أطغاني وقوله {لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يدي.
وقوله تعالى : {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} .
تقرير للمنع من الاختصام وبيان لعدم فائدته ، كأنه يقول قد قلت إنكم إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه ، فإن قيل ما حكم الباء في قوله تعالى : {بِالْوَعِيدِ} ؟
قلنا فيها وجوه أحدها : أنها مزيدة كما في قوله تعالى {تَنابُتُ بِالدُّهْنِ} (المؤمنون : 20) ، على قول من قال إنها هناك زائدة ، وقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ} (النساء : 6) وثانيها : معدية فقدمت بمعنى تقدمت كما في قوله تعالى : {عَظِيمَا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ} (الحجرات : 1) ثالثها : في الكلام إضمار تقديره ، وقد قدمت إليكم مقترناً بالوعيد {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} (ق : 29) فيكون المقدم هو قوله ، ما يبدل القول لدي ، رابعها : هي المصاحبة يقول القائل : اشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معه فيكون كأنه تعالى قال : قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه بالإنذار.
جزء : 28 رقم الصفحة : 143
145
وقوله تعالى : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} يحتمل وجهين :
(1/4143)

أحدهما : أن يكون قوله {لَدَىَّ} متعلقاً بالقول أي {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} وثانيهما : أن يكون ذلك متعلقاً بقوله {مَا يُبَدَّلُ} أي لا يقع التبديل عندي ، وعلى الوجه الأول في القول الذي لديه وجوه أحدها : هو أنهم لما قالوا حتى يبدل ما قيل في حقهم {أَلْقِيَا} (ق : 24) بقول الله بعد اعتذارهم لا تلقياه فقال تعالى : ما يبدل هذا القول لدي ، وكذلك قوله {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} (الزمر : 72) لا تبديل له ثانيها : هو قوله {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} (السجدة : 13) أي لا تبديل لهذا القول ثالثها : لا خلف في إيعاد الله تعالى كما لا إخلاف في ميعاد الله ، وهذا يرد على المرجئة حيث قالو ما ورد في القرآن من الوعيد ، فهو تخويف لا يحقق الله شيئاً منه ، وقالوا الكريم إذا وعد أنجز ووفى ، وإذا أوعد أخلف وعفا رابعها : لا يبدل القول السابق أن هذا شقي ، وهذا سعيد ، حين خلقت العباد ، قلت هذا شقي ويعمل عمل الأشقياء ، وهذا تقي ويعمل عمل الأتقياء ، وذلك القول عندي لا تبديل له بسعي ساع ولا سعادة إلا بتوفيق الله تعالى ، وأما على الوجه الثاني ففي {مَا يُبَدَّلُ} وجوه أيضاً أحدها : لا يكذب لدي ولا يفتري بين يدي ، فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى ، ومن كان طاغياً ومن كان أطغى ، فلا يفيدكم قولكم أطغاني شيطاني ، ولا قول الشيطان {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُه } (ق : 27) ثانيها : إشارة إلى معنى قوله تعالى : {ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} (الحديد : 13) كأنه تعالى قال لو أردتم أن لا أقول فألقياه في العذاب الشديد كنتم بدلتم هذا من قبل بتبديل الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي ، وأما الآن فما يبدل القول لدي كما قلنا في قوله تعالى : {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} (ق : 28) المراد أن اختصامكم كان يجب أن يكون قبل هذا حيث قلت
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
{إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (فاطر : 6) ثالثها : معناه لا يبدل الكفر بالإيمان لدي ، فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله ربنا ما أشركنا وقوله ربنا آمنا وقوله تعالى : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ} إشارة إلى نفي الحال كأنه تعالى يقول ما يبدل اليوم لدي القول ، لأن ما ينفي بها الحال إذا دخلت على الفعل المضارع ، يقول القائل ماذا تفعل غداً ؟
يقال ما أفعل شيئاً أي في الحال ، وإذا قال القائل ماذا يفعل غداً ، يقال لا يفعل شيئاً أو لن يفعل شيئاً إذا أُريد زيادة بيان النفي ، فإن قيل هل فيه بيان معنوي يفيد افتراق ما ولا في المعنى نقول : نعم ، وذلك لأن كلمة لا أدل على النفي لكونها موضوعة للنفي وما في معناه كالنهي خاصة لا يفيد الإثبات إلا بطريق الحذف أو الإضمار وبالجملة فبطريق المجاز كما في قوله {لا أُقْسِمُ} (البلد : 1) وأما ما فغير متمحضة للنفي لأنها واردة لغيره من المعاني حيث تكون اسماً والنفي في الحال لا يفيد النفي المطلق لجواز أن يكون مع النفي في الحال الإثبات في الاستقبال ، كما يقال ما يفعل الآن شيئاً وسيفعل إن شاء الله ، فاختص بما لم يتمحض نفياً حيث لم تكن متمحضة للنفي لا يقال إن لا للنفي في الاستقبال والإثبات في الحال فاكتفى في استقبال بما لم يتمحض نفياً لأنا نقول ليس كذلك إذ لا يجوز أن يقال لا يفعل زيد ويفعل الآن نعم يجوز أن يقال لا يفعل غداً ويفعل الآن لكون قولك غداً يجعل الزمان مميزاً فلم يكن قولك لا يفعل للنفي في الاستقبال بل كان للنفي في بعض أزمنة الاستقبال/ وفي مثالنا قلنا ما يفعل وسيفعل وما قلنا سيفعل غداً وبعد غد ، بل ههنا نفينا في الحال وأثبتنا في الاستقبال من غير تمييز زمان من أزمة الاستقبال عن زمان ، ومثاله في العكس أن يقال لا يفعل زيد وهو يفعل من غير تعيين وتمييز ومعلوم أن ذلك غير جائز.
/ وقوله تعالى {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} مناسب لما تقدم على الوجهين جميعاً ، أما إذا قلنا بأن المراد من قوله {لَدَىَّ} أن قوله {فَأَلْقِيَاهُ} (ق : 26) وقول القائل في قوله : {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} (الزمر : 72) لا تبديل له فظاهر ، لأن الله تعالى بيّن أن قوله : {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} (ق : 24) لا يكون إلا للكافر العنيد فلا يكون هو ظلاماً للعبيد. وأما إذا قلنا بأن المراد {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} بل كان الواجب التبديل قبل الوقوف بين يدي فكذلك لأنه أنذر من قبل ، وما عذب إلا بعد أن أرسل وبيّن السبل ، وفيه مباحث لفظية ومعنوية.
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
(1/4144)

أما اللفظية فهي من الباء من قوله ليس {بِظَلَّـامٍ} وفي اللام من قوله {لِّلْعَبِيدِ} أما الباء فنقول الباء تدخل في المفعول به حيث لا يكون تعلق الفعل به ظاهراً ولا يجوز إدخالها فيه حيث يكون في غاية الظهور ، ويجوز الإدخال والترك حيث لا يكون في غاية الظهور ولا في غاية الخفاء ، فلا يقال ضربت بزيد لظهور تعلق الفعل يزيد ، ولا يقال خرجت وذهبت زيداً بدل قولنا خرجت وذهبت بزيد لخفاه تعلق الفعل بزيد فيهما ، ويقال شكرته وشكرت له للتوسط فكذلك خبر ما لما كان مشبهاً بالمفعول ، وليس في كونه فعلاً غير ظاهر غاية الظهور ، لأن إلحاق الضمائر التي تلحق بالأفعال الماضية كالتاء والنون في قولك : لست ولستم ولستن ولسنا يصحح كونها فعلاً كما في قولك كنت وكنا ، لكن في الاستقبال يبين الفرق حيث نقول يكون وتكون ، وكن ، ولا نقول ذلك في ليس وما يشبه بها فصارتا كالفعل الذي لا يظهر تعلقه بالمفعول غاية الظهور ، فجاز أن يقال ليس زيد جاهلاً وليس زيد بجاهل ، كما يقال مسحته ومسحت به وغير ذلك مما يعدى بنفسه وبالباء ، ولم يجز أن يقال كان زيد بخارج وصار عمرو بدارج لأن صار وكان فعل ظاهر غاية الظهور بخلاف ليس وما النافية ، وهذا يؤيد قول من قال : (ما هذا بشر) وهذا ظاهر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
البحث الثاني : لو قال قائل : كان ينبغي أن لا يجوز إخلاء خبر ما عن الباء ، كما لا يجوز إدخال الباء في خبر كان وخبر ليس يجوز فيه الأمران وتقرير هذا السؤال هو أن كان لما كان فعلاً ظاهراً جعلناه بمنزلة ضرب حيث منعنا دخول الباء في خبره كما منعناه في مفعوله ، وليس لما كان فعلاً من وجه نظراً إلى قولنا لست ولسنا ولستم ، ولم يكن فعلاً ظاهراً نظراً إلى صيغ الاستقبال والأمر جعلناه متوسطاً وجوزنا إدخال الباء في خبره وتركه ، كما قلنا في مفعول شكرته وشكرت له ، وما لما لم يكن فعلاً بوجه كان ينبغي أن يكون بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى إلى المفعول إلا بالحرف وكان ينبغي أن لا يجيء خبره إلا مع الباء كما لا يجيء مفعول ذهب إلا مع الباء ، ويؤيد هذا أنا فرقنا بين ما وليس وكان ، وجعلنا لكل واحدة مرتبة ليست للأخرى فجوزنا تأخير كان في اللفظ حيث جوزنا أن يقول القائل زيد خارجاً كان وما جوزنا زيد خارجاً ليس ، لأن كان فعل ظاهر وليس / دونه في الظهور ، وما جوزنا تأخير ما عن أحد شطري الكلام أيضاً بخلاف ليس ، حيث لا يجوز أن يقول القائل : زيد ما بظلام ، إلا أن يعيد ما يرجع إليه فيقول زيد ما هو بظلام فصار بينهما ترتيب ما يوجه ، وليس يؤخر عن أحد الشطرين ولا يؤخر في الكلام بالكلية ، وكان يؤخر بالكلية لما ذكرنا من الظهور والخفاء ، فكذلك القول في إلحاق الباء كان ينبغي أن لا يصح إخلاء خبر ما عن الباء/ وفي ليس يجوز الأمران ، وفي كان لا يجوز الإدخال ، وهذا هو المعتمد عليه في لغة بني تميم حيث قالوا : إن ما بعد ما إذا جعل خبراً يجب إدخال الباء عليه فإن لم تدخل عليه يكون ذلك معرباً على الابتداء أو على وجه آخر ولا يكون خبراً ، والجواب عن السؤال هو أن نقول الأكثر إدخال الباء في خبر ما ولا سيما في القرآن قال الله تعالى : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ } (الروم : 53) ، {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ} (فاطر : 22) ، {وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ} (البقرة : 167) ، {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ} وأما الوجوب فلا لأن ما أشبه ليس في المعنى في الحقيقة وخالفها في العوارض وهو لحوق التاء والنون ، وأما في المعنى فهما لنفي الحال فالشبه مقتض لجواز الإخلاء والمخالفة مقتضية لوجوب الإدخال ، لكن ذلك المقتضي أقوى لأنه راجع إلى الأمر الحقيقي ، وهذا راجع إلى الأمر العارضي وما بالنفس أقوى مما بالعارض ، وأما التقديم والتأخير فلا يلزم منه وجوب إدخال الباء ، وأما الكلام في اللام فنقول اللام لتحقيق معنى الإضافة يقال غلام زيد وغلام لزيد ، وهذا في الإضافات الحقيقية بإثبات التنوين فيه ، وأما في الإضافات اللفظية كقولنا : ضارب زيد وقاتل عمرو ، فإن الإضافة فيه غير معنوية فإذا خرج الضارب عن كونه مضافاً بإثبات التنوين فقد كان يجب أن يعاد الأصل وينصب ما كان مضافاً إليه الفاعل بالمفعول به ولا يؤتى باللام لأنه حينئذ لم تبق الإضافة في اللفظ ، ولم تكن الإضافة في المعنى ، غير أن اسم الفاعل منحط الدرجة عن الفعل فصار تعلقه بالمفعول أضعف من تعلق الفعل بالمفعول ، وصار من باب الأفعال الضعيفة التعلق حيث بينا جواز تعديتها إلى المفعول بحرف وغير حرف ، فلذلك جاز أن يقال : ضارب زيد أو ضارب لزيد ، كما جاز : مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له ، وذلك إذا تقدم المفعول كما في قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} (يوسف : 43) للضعف ، وأما المعنوية فمباحث :
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
(1/4145)

الأول : الظلام مبالغة في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم إذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كاذباً كثر كذبه ، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب لجواز أن يقال فلان ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً ففي قوله تعالى : {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ} لا يفهم منه نفي أصل الظلم والله ليس بظالم فما الوجه فيه ؟
نقول : الجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر وحينئذ يكون اللام في قوله : {لِّلْعَبِيدِ} لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم ، وهذا وجه جيد مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده. والثاني : ما ذكره الزمخشري وهو أن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول : لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم ، وأما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ، ويحقق هذا الوجه / إظهار لفظ العبيد حيث يقول : {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} أي في ذلك اليوم الذي امتلأت جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق لي طاقة بهم ، ولم يبق في موضع لهم فهل من مزيد استفهام استكثار ، فذلك اليوم مع أني ألقي فيها عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم وهذا مناسب ، وذلك لأنه تعالى خصص النفي بالزمان حيث قال : ما أنا بظلام يوم نقول : أي وما أنا بظلام في جميع الأزمان أيضاً ، وخصص بالعبيد حيث قال : {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} ولم يطلق ، فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق ، فلم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت ، وفي حق غير العبيد وإن خصص والفائدة في التخصيص أنه أقرب إلى التصديق من التعميم. والثالث : هذا يدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه/ لأنه نفى كونه ظلاماً ولم يلزم منه نفي كونه ظالماً ، ونفي كونه ظلاماً للعبيد ، ولم يلزم منه نفي كونه ظلاماً لغيرهم ، كما قال في حق الآدمي : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه } (فاطر : 32).
البحث الثاني : قال ههنا : {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} من غير إضافة ، وقال : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ} (النمل : 81) ، {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} (فاطر : 22) على وجه الإضافة ، فما الفرق بينهما ؟
نقول الكلام قد يخرج أولاً مخرج العموم ، ثم يخصص لأمر ما لا لغرض التخصيص ، يقول القائل : فلان يعطي ويمنع ويكون غرضه التعميم ، فإن سأل سائل : يعطي من ، ويمنع من ؟
يقول : زيداً وعمراً ، ويأتي بالمخصص لا لغرض التخصيص ، وقد يخرج أولاً مخرج الخصوص ، فيقول فلان يعطي زيداً ماله إذا علمت هذا فقوله : {وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ} كلام لو اقتصر عليه لكان للعموم ، فأتى بلفظ العبيد لا لكون عدم الظلم مختصاً بهم ، بل لكونهم أقرب إلى كونهم محل الظلم من نفسه تعالى ، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فكان في نفسه هادياً ، وإنما أراد نفي ذلك الخاص فقال : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ} وما قال : ما أنت بهاد ، وكذلك قوله تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه } (الزمر : 36).
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
البحث الثالث : العبيد يحتمل أن يكون المراد منه الكفار ، كما في قوله تعالى : {يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِا مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ} (يس : 30) يعني أعذبهم وما أنا بظلام لهم ، ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين ووجهه هو أن الله تعالى يقول : لو أبدلت القول ورحمت الكافر ، لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين ، لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم ، فإن كان ينال من لم يأت بما أتى المؤمن ما يناله المؤمن ، لكان إتيانه بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد فائدة ، وهذا معنى قوله تعالى : {لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} (الحشر : 20) ، ومعنى قوله تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } (الزمر : 9) ، وقوله تعالى : {لا يَسْتَوِى الْقَـاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} (النساء : 95) ويحتمل أن يكون المراد التعميم. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
145
(1/4146)

العامل في {يَوْمَ} ماذا ؟
فيه وجوه : الأول : ما أنا بظلام مطلقاً. والثاني : الوقت ، حيث قال ما أنا يوم كذا ، / ولم يقل : ما أن بظلام في سائر الأزمان ، وقد تقدم بيانه ، فإن قيل فما فائدة التخصيص ؟
نقول النفي الخاص أقرب إلى التصديق من النفي العام لأن المتوهم ذلك ، فإن قاصر النظر يقول : يوم يدخل الله عبده الضعيف جهنم يكون ظالماً له ، ولا يقول : بأنه يوم خلقه يرزقه ويربيه يكون ظالماً ، ويتوهم أنه يظلم عبده بإدخاله النار ، ولا يتوهم أنه يظلم نفسه أو غير عبيده المذكورين ، ويتوهم أنه من يدخل خلقاً كثيراً لا يجوزه حد ، ولا يدركه عد النار ، ويتركهم فيه زماناً لا نهاية له كثير الظلم ، فنفى ما يتوهم دون ما لا يتوهم ، وقوله : {هَلِ امْتَاتِ} بيان لتصديق قوله تعالى : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} ، وقوله : {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} فيه وجهان : أحدهما : أنه لبيان استكثارها الداخلين ، كما أن من يضرب غيره ضرباً مبرحاً ، أو يشتمه شتماً قبيحاً فاحشاً ، ويقول المضروب : هل بقي شيء آخر ، ويدل عليه قوله تعالى : {لامْلَأَنَّ} لأن الامتلاء لا بد من أن يحصل ، فلا يبقى في جهنم موضع خال حتى تطلب المزيد. والثاني : هو أنها تطلب الزيادة ، وحينئذ لو قال قائل فكيف يفهم مع هذا معنى قوله تعالى : {لامْلَأَنَّ} ؟
نقول : الجواب : عنه من وجوه : أحدها : أن هذا الكلام ربما يقع قبل إدخال الكل ، وفيه لطيفة ، وهي أن جهنم تتغيظ على الكفار فتطلبهم ، ثم يبقى فيها موضع لعصاة المؤمنين ، فتطلب جهنم امتلاءها لظنها بقاء أحد من الكفار خارجاً ، فيدخل العاصي من المؤمنين ، فيبرد إيمانه حرارتها ، ويسكن إيقانه غيظها فتسكن ، وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار ، أن جهنم تطلب الزيادة حتى يضع الجبار قدمه ، والمؤمن جبار متكبر على ما سوى الله تعالى ذليل متواضع لله. الثاني : أن تكون جهنم تطلب أولاً سعة في نفسها ، ثم مزيداً في الداخلين لظنها بقاء أحد من الكفار. الثالث : أن الملء له درجات ، فإن الكيل إذا ملىء من غير كبس صح أن يقال : ملىء وامتلأ ، فإذا كبس يسع غيره ولا ينافي كونه ملآن أو لا ، فكذلك في جهنم ملأها الله ثم تطلب زيادة تضييقاً للمكان عليهم وزيادة في التعذيب ، والمزيد جار أن يكون بمعنى المفعول ، أي هل بقي أحد تزيد به ، ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 145
148
بمعنى قريباً أو بمعنى قريب ، والأول أظهر وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه التقريب ، مع أن الجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب ؟
نقول : الجواب : عنه من وجوه : الأول : أن الجنة لا تزال ولا تنقل ، ولا المؤمن يؤمر في ذلك اليوم بالانتقال إليها مع بعدها ، لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب. فإن قيل : فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة ، فما الفائدة في / قوله : أزلفت الجنة ؟
نقول إكراماً للمؤمن ، كأنه تعالى أراد بيان شرف المؤمن المتقي أنه ممن يمشي إليه ويدني منه. الثاني : قربت من الحصول في الدخول ، لا بمعنى القرب المكاني ، يقال يطلب من الملك أمراً خطيراً ، والملك بعيد عن ذلك ، ثم إذا رأى منه مخايل إنجاز حاجته ، يقال قرب الملك وما زلت أنهي إليه حالك حتى قربته ، فكذلك الجنة كانت بعيدة الحصول ، لأنها بما فيها لا قيمة لها ، ولا قدرة للمكلف على تحصيلها لولا فضل الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلّم : "ما من أحد يدخل الجنة إلا بفضل الله تعالى ، فقيل : ولا أنت يا رسول الله ، فقال : ولا أنا" وعلى هذا فقوله غير نصب على الحال ، تقديره قربت من الحصول ، ولم تكن بعيدة في المسافة حتى يقال كيف قربت. الثالث : هو أن الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. وأما إن قلنا إنها قربت ، فمعناه جمعت محاسنها ، كما قال تعالى : {وَالصُّلْحُ خَيْرٌا وَأُحْضِرَتِ الانفُسُ} (الزخرف : 71).
المسألة الثانية : على هذا الوجه وعلى قولنا قربت تقريب حصول ودخول ، فهو يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون قوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ} أي في ذلك اليوم ولم يكن قبل ذلك ، وأما في جمع المحاسن قربما يزيد الله فيها زينة وقت الدخول ، وأما في الحصول فلأن الدخول قبل ذلك كان مستبعداً إذا لم يقدر الله دخول المؤمنين الجنة في الدنيا ووعد به في الآخرة فقربت في ذلك اليوم. وثانيهما : أن يكون معنى قوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} أي أزلفت في الدنيا ، إما بمعنى جمع المحاسن فلأنها مخلوقة وخلق فيها كل شيء ، وإما بمعنى تقريب الحصول فلأنها تحصل بكلمة حسنة وإما على تفسير الإزلاف بالتقريب المكاني فلا يكون ذلك محمولاً إلا على ذلك الوقت أي أزلفت في ذلك اليوم للمتقين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 148
(1/4147)

المسألة الثانية : إن حمل على القرب المكاني ، فما الفائدة في الاختصاص بالمتقين مع أن المؤمن والكافر في عرصة واحدة ؟
فنقول قد يكون شخصان في مكان واحد وهناك مكان آخر هو إلى أحدهما في غاية القرب ، وعن الآخر في غاية البعد ، مثاله مقطوع الرجلين والسليم الشديد العدو إذا اجتمعا في موضع وبحضرتهما شيء لا تصل إليه اليد بالمد فذلك بعيد عن المقطوع وهو في غاية القرب من العادي ، أو نقول : إذا اجتمع شخصان في مكان وأحدهما أحيط به سد من حديد ووضع بقربه شيء لا تناله يده بالمد والآخر لم يحط به ذلك السد يصح أن يقال هو بعيد عن المسدود وقريب من المحظوظ والمجدود ، وقوله تعالى : {غَيْرَ بَعِيدٍ} يحتمل أن يكون نصباً على الظرف يقال اجلس غير بعيد مني أي مكاناً غير بعيد ، وعلى هذا فقوله غير بعيد يفيد التأكيد وذلك لأن القريب قد يكون بعيداً بالنسبة إلى شيء ، فإن المكان الذي هو على مسيرة يوم قريب بالنسبة إلى البلاد النائية وبعيد بالنسبة إلى متنزهات المدينة ، فإذا قال قائل أيما أقرب المسجد الأقصى أو البلد الذي هو بأقصى المغرب أو المشرق ؟
يقال له المسجد الأقصى قريب ، وإن قال أيهما أقرب هو أو البلد ؟
يقل له هو بعيد. فقوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي قربت قرباً حقيقياً لا نسبياً حيث لا يقال فيها إنها بعيدة عنه مقايسة أو مناسبة ، ويحتمل أن يكون نصباً على / الحال تقديره : قربت حال كون ذلك غاية التقريب أو نقول على هذا الوجه يكون معنى أزلفت قربت وهي غير بعيد ، فيحصل المعنيان جميعاً الإقراب والاقتراب أو يكون المراد القرب والحصول لا للمكان فيحصل معنيان القرب المكاني بقوله غير بعيد والحصول بقوله : {أُزْلِفَتْ} وقوله : {غَيْرَ بَعِيدٍ} مع قوله : {أُزْلِفَتْ} على التأنيث يحتمل وجوهاً : الأول : إذا قلنا إن {غَيْرَ} نصب على المصدر تقديره مكاناً غير. الثاني : التذكير فيه كما في قوله تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} (الأعراف : 56) إجراء لفعيل بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول. الثالث : أن يقال {غَيْرَ} منصوب نصباً على المصدر على أنه صفة مصدر محذوف تقديره : أزلفت الجنة إزلافاً غير بعيد ، أي عن قدرتنا فإنا قد ذكرنا أن الجنة مكان ، والمكان لا يقرب وإنما يقرب منه ، فقال : الإزلاف غير بعيد عن قدرتنا فإنا نطوي المسافة بينهما.
جزء : 28 رقم الصفحة : 148
148
ثم قال تعالى : {هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ} قال الزمخشري : هي جملة معترضة بين كلامين وذلك لأن قوله تعالى : {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدل عن المتقين كأنه تعالى قال : (أزلفت الجنة للمتقين لكل أواب) كما في قوله تعالى : {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ} (الزخرف : 33) غير أن ذلك بدل الاشتمال وهذا بدل الكل وقال : {هَـاذَا} إشارة إلى الثواب أي هذا الثواب ما توعدون أو إلى الإزلاف المدلول عليه بقوله : {أُزْلِفَتْ} (ق : 31) أي هذا الإزلاف ما وعدتم به ، ويحتمل أن يقال هو كلام مستقل ووجهه أن ذلك محمول على المعنى لا ما يوعد به يقال للموعود هذا لك وكأنه تعالى قال هذا ما قلت إنه لكم.
ثم قال تعالى : {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} بدلاً عن الضمير في {تُوعَدُونَ} ، وكذلك إن قرىء بالياء يكون تقديره هذا لكل أواب بدلاً عن الضمير ، والأواب الرجاع ، قيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر ، والحفيظ الحافظ للذي يحفظ توبته من النقض. ويحتمل أن يقال الأواب هو الرجاع إلى الله بفكره ، والحفيظ الذي يحفظ الله في ذكره أي رجع إليه بالفكر فيرى كل شيء واقعاً به وموجداً منه ثم إذا انتهى إليه حفظه بحيث لا ينساه عند الرخاء والنعماء ، والأواب الحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ ، وفيه وجوه أخر أدق ، وهو أن الأواب هو الذي رجع عن متابعة هواه في الإقبال على ما سواه ، والحفيظ هو الذي إذا أدركه بأشرف قواه لا يتركه فيكمل بها تقواه ويكون هذا تفسيراً للمتقي ، لأن المتقي هو الذي أتقى الشرك والتعطيل ولم ينكره ولم يعترف بغيره ، والأواب هو الذي لا يعترف بغيره ويرجع عن كل شيء غير الله تعالى ، والحفيظ هو الذي لم يرجع عنه إلى شيء مما عداه. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 148
149
(1/4148)

وفي {مِنَ} وجوه. أحدها : / وهو أغربها أنه منادى كأنه تعالى قال : يا من خشيء الرحمن أدخلوها بسلام وحذف حرف النداء شائع. وثانيها : {مِنَ} بدل عن كل في قوله تعالى : {لِكُلِّ أَوَّابٍ} (ق : 32) من غير إعادة حرف الجر تقديره أزلفت الجنة لمن خشي الرحمن بالغيب ، ثالثها : في قوله تعالى : {أَوَّابٍ حَفِيظٍ} (ق : 32) موصوف معلوم غير مذكور كأنه يقول لكل شخص أواب أو عبد أو غير ذلك ، فقوله تعالى : {مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ} بدل عن ذلك الموصوف هذه وجوه ثلاثة ذكرها الزمخشري ، وقال لا يجوز أن يكون بدلاً عن أواب أو حفيظ لأن أواب وحفيظ قد وصف به موصوف معلوم غير مذكور كما بيناه والبدل في حكم المبدل منه ، فتكون {مِنَ} موصوفاً بها ومن لا يوصف بها لا يقال : الرجل من جاءني جالسني ، كم يقال الرجل الذي جاءني جالسني ، هذا تمام كلام الزمخشري ، فإن قال قائل إذا كان {مِنَ} والذي يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما ؟
نقول : الأمر معقول نبينه في ما ، ومنه يتبين الأمر فيه فنقول : ما اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء لكن الشيء هو أعم الأشياء فإن الجوهر شيء والعرض شيء والواجب شيء والممكن شيء والأعم قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت من البعد شبحاً تقول أولاًإنه شيء ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول إنسان فإذا بان ذلك أنه ذكر قلت هو رجل فإذا وجدته ذا قوة تقول شجاع إلى غير ذلك ، فالأعم أعرف وهو قبل الأخص في الفهم فمفهوم ما قبل كل شيء فلا يجوز أن يكون صفة لأن الصفة بعد الموصوف هذا من حيث المعقول ، وأما من حيث النحو فلأن الحقائق لا يوصف بها ، فلا يقال جسم رجل جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني كما يقال جسم ناطق جاءني لأن الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها وكل ما يقع وصفاً للغير يكون معناه شيء له كذا ، فقولنا عالم معناه شيء له علم أو عالمية فيدخل في مفهوم الوصف شيء مع أمر آخر وهو له كذا لكن ما لمجرد شيء فلا يوجد فيه ما يتم به الوصف وهو الأمر الآخر الذي معناه ذو كذا فلم يجز أن يكون صفة وإذا بان القول فمن في العقلاء كما في غيرهم وفيهم فمن معناه إنسان أو ملك أو غيرهما من الحقائق العاقلة ، والحقائق لا تقع صفات ، وأما الذي يقع على الحقائق والأوصاف ويدخل في مفهومه تعريف أكثر مما يدخل في مجاز الوصف بما دون من.
جزء : 28 رقم الصفحة : 149
وفي الآية لطائف معنوية. الأول : الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة ، لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي ، وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعاً مهيبان ، والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ وف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأنعام : 63) و{تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأعراف : 205) والمخفي فيه ضعف كالخائف إذا علمت هذا تبين لك اللطيفة وهي أن الله تعالى في كثير من المواضع ذكر لفظ الخشية حيث كان الخوف من عظمة المخشي قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) ، وقال : {لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه } (الحشر : 21) فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي {هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} (المؤمنون : 57) مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى : {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه } (الأحزاب : 33) أي تخافهم إعظاماً لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم ، وقال تعالى : {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ } (العنكبوت : 33) أي لا تخف ضعفاً فإنهم لا عظمة لهم وقال : {يَخَافُونَ يَوْمًا} (الإنسان : 7) حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال : {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } (فصلت : 30) أي بسبب مروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم ، وقال تعالى : {خَآاـاِفًا يَتَرَقَّبُ} (القصص : 21) وقال : {إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (القصص : 33) لوحدته وضعفه وقال هارون : {إِنِّى خَشِيتُ} (طه : 94) لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال : {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـانًا وَكُفْرًا} (الكهف : 80) حيث لم يكن لضعف فيه ، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي ، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملاً لخشية من ضعف الخائف ، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية. الثانية : قال الله تعالى ههنا :
جزء : 28 رقم الصفحة : 149
(1/4149)

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُم أولئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ * لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه } (الحشر : 21) إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبىء عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) لأن {إِنَّمَآ} للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة ، وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد ههنا شيئاً آخر ، وهو أن نقول لفظة : {الرَّحْمَـانَ} إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع ، وذلك لأن الرحمن معناه واهب الوجود بالخلق ، والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة ، ورحيم حيث أبقى بالرزق ، ولا يقال لغيره رحيم لأن البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر ، فيقال فلان هو الذي أبقى فلاناً ، وهو في الآخرة أيضاً رحمان حيث يوجدنا ، ورحيم حيث يرزقنا ، وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى كونه رحماناً في الدنيا حيث خلقنا ، رحيماً في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} أي هو رحمن مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانياً ، واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك : {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) أي يخلقنا ثانياً ، ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم ، إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره ، فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي ، فإذا كان الله تعالى رحماناً منه الوجود ينبغي أن يخشى ، فإن من بيده الوجود بيده العدم ، وقال صلى الله عليه وسلّم : "خشية الله رأس كل حكمة" وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير الله وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين ، وربما يقدر الله عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار ، لأن غير الله إن / لم يقدر الله أن يضر لا يقدر على الضرر وإن قدر عليه بتقدير الله فسيزول الضرر بموت المعذب أو المعذب ، وأما الله تعالى فلا راد لما أراد ولا آخر لعذابه/ وقال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 149
{بِالْغَيْبِ} أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأي العين ، وقوله تعالى : {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} إشارة إلى صفة مدح أخرى ، وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع ، وإذا علم المخشي أنه تحت حكمه تعالى علم أنه لا ينفعه الهرب ، فيأتي المخشي وهو (غير) خاش فقال : {وَجَآءَ} ولم يذهب كما يذهب الآبق ، وقوله تعالى : {بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} الباء فيه يحتمل وجوهاً ذكرناها في قوله تعالى : {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } (ق : 19). أحدها : التعدية أي أحضر قلباً سليماً ، كما يقال ذهب به إذا أذهبه. ثانيها : المصاحبة يقال : اشترى فلان الفرس بسرجه أي مع سرجه ، وجاء فلان بأهله أي مع أهله. ثالثها : وهو أعرفها الباء للسبب يقال : ما أخذ فلان إلا بقول فلان وجاء بالرجاء له فكأنه تعالى قال : جاء وما جاء إلا بسبب إنابة في قلبه علم أنه لا مرجع إلا إلى الله فجاء بسبب قلبه المنيب ، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى : {إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الصافات : 84) أي سليم من الشرك ، ومن سلم من الشرك يترك غير الله ويرجع إلى الله فكان منيباً ، ومن أناب إلى الله برىء من الشرك فكان سليماً :
جزء : 28 رقم الصفحة : 149
150
ثم قال تعالى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ } .
فالضمير عائد إلى الجنة التي في {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} (ق : 31) أي لما تكامل حسنها وقربها وقيل لهم إنها منزلكم بقوله : {هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ} (ق : 32) أذن لهم في دخولها وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الخطاب مع من ؟
نقول : إن قرىء {مَا تُوعَدُونَ} بالتاء فهو ظاهر إذ لا يخفى أن الخطاب مع الموعودين ، وإن قرىء بالياء فالخطاب مع المتقين أي يقال للمتقين أدخلوها.
(1/4150)

المسألة الثانية : هذا يدل على أن ذلك يتوقف على الإذن ، وفيه من الانتظار ما لا يليق بالإكرام ، نقول ليس كذلك ، فإن من دعا مكرماً إلى بستانه يفتح له الباب ويجلس في موضعه ، ولا يقف على الباب من يرحبه ، ويقول إذا بلغت بستاني فادخله ، وإن لم يكن هناك أحد يكون قد أخل بإكرامه بخلاف من يقف على باب قوم يقولون : أدخل باسم الله ، يدل على الإكرام قوله تعالى : {بِسَلَـامٍ } كما يقول المضيف : أدخل مصاحباً بالسلامة والسعادة والكرامة ، والباء للمصاحبة في معنى الحال ، أي سالمين مقرونين بالسلامة ، أو معناه أدخلوها مسلماً عليكم ، ويسلم الله وملائكته عليكم ، ويحتمل عندي وجهاً آخر ، وهو أن يكون ذلك إرشاداً للمؤمنين إلى مكارم الاْخلاق في ذلك اليوم كما أرشدوا إليها في الدنيا ، حيث قال تعالى : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى ا أَهْلِهَا } (النور : 27) فكأنه تعالى قال : هذه داركم ومنزلكم ، ولكن لا تتركوا حسن / عادتكم ، ولا تخلوا بمكارم أخلاقكم ، فادخلوها بسلام ، ويصيحون سلاماً على من فيها ، ويسلم ممن فيها عليهم ، ويقولون السلام عليكم ، ويدل عليه قوله تعالى : {إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا} (الواقعة : 26) أي يسلمون على من فيها ، ويسلم من فيها عليهم ، وهذا الوجه إن كان منقولاً فنعم ، وإن لم يكن منقولاً فهو مناسب معقول أيده دليل منقول.
قوله تعالى : {ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} .
حتى لا يدخل في قلبهم أن ذلك ربما ينقطع عنهم فتبقى في قلبهم حسرته ، فإن قيل المؤمن قد علم أنه إذا دخل الجنة خلد فيها ، فما الفائدة في التذكير ؟
والجواب : عنه من وجهين. أحدهما : أن قوله : {ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} قول قاله الله في الدنيا إعلاماً وإخباراً ، وليس ذلك قولاً يقوله عند قوله : {ادْخُلُوهَا} فكأنه تعالى أخبرنا في يومنا أن ذلك اليوم يوم الخلود. ثانيهما : اطمئنان القلب بالقول أكثر ، قال الزمخشري في قوله : {يَوْمُ الْخُلُودِ} إضمار تقديره : ذلك يوم تقدير الخلود ، ويحتمل أن يقال اليوم يذكر ، ويراد الزمان المطلق سواء كان يوماً أو ليلاً ، نقول : يوم ولد لفلان ابن يكون السرور العظيم ، ولو ولد له بالليل لكان السرور حاصلاً ، فتريد به الزمان ، فكأنه تعالى قال : ذلك زمان الإقامة الدائمة. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 150
151
وفي الآية ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأنه تعالى بدأ ببيان إكرامهم حيث قال : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الشعراء : 90) ولم يقل : قرب المتقون من الجنة بياناً للإكرام حيث جعلهم ممن تنقل إليهم الجنان بما فيها من الحسان ، ثم قال لهم هذا لكم ، بقوله : {هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ} (ق : 32) ثم بيّن أنه أجر أعمالهم الصالحة بقوله : {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَـانَ} (ق : 33) فإن تصرف المالك الذي ملك شيئاً بعوض أتم فيه من تصرف من ملك بغير عوض ، لإمكان الرجوع في التمليك بغير عوض ، ثم زاد في الإكرام بقوله : {ادْخُلُوهَا} (ق : 34) كما بينا أن ذلك إكرام ، لأن من فتح بابه للناس ، ولم يقف ببابه من يرحب الداخلين ، لا يكون قد أتى بالإكرام التام ، ثم قال : {ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق : 34) أي لا تخافوا ما لحقكم من قبل حيث أخرج أبويكم منها ، فهذا دخول لا خروج بعده منها.
ثم لما بيّن أنهم فيها خالدون قال : لا تخافوا انقطاع أرزاقكم وبقاءكم في حاجة ، كما كنتم في الدنيا من كان يعمر ينكس ويحتاج ، بل لكم الخلود ، ولا ينفد ما تمتعون به فلكم ما تشاءون في أي وقت تشاءون ، وإلى الله المنتهى ، وعند الوصول إليه ، والمثول بين يديه ، فلا يوصف ما لديه ، ولا يطلع أحد عليه ، وعظمة من عنده تدلك على فضيلة ما عنده ، هذا هو الترتيب ، وأما التفسير ، ففيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : قال تعالى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ } (ق : 34) على سبيل المخاطبة ، ثم قال : {لَهُم} ولم يقل لكم ما الحكمة فيه ؟
الجواب : عنه من وجوه. الأول : هو أن قوله تعالى : {ادْخُلُوهَا} مقدر فيه يقال لهم ، أي يقال لهم {ادْخُلُوهَا} فلا يكون على هذا التفاتاً. الثاني : هو أنه من باب الالتفات والحكمة الجمع بين الطرفين ، كأنه تعالى يقول : أكرمهم به في حضورهم ، ففي حضورهم الحبور ، وفي غيبتهم الحور والقصور. والثالث : هو أن يقال قوله تعالى : {لَهُم} جاز أن يكون كلاماً مع الملائكة ، يقول للملائكة : توكلوا بخدمتهم ، واعلموا أن لهم ما يشاءون فيها ، فأحضروا بين أيديهم ما يشاءون ، وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ، ولا تقدرون أنتم عليه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 151
المسألة الثانية : قد ذكرنا أن لفظ {مَّزِيدٍ} (ق : 30) يحتمل أن يكون معناه الزيادة ، فيكون كما في قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 26) ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول ، أي عندنا ما نزيده على ما يرجون وما يكون مما يشتهون :
(1/4151)

جزء : 28 رقم الصفحة : 151
152
ثم قال تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} .
لما أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم ، أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المهلك والإهلاك المدرك ، وبين لهم حال من تقدمهم ، وقد تقدم تفسيره في مواضع ، والذي يختص بهذا الموضع أمور. أحدها : إذا كان ذلك للجمع بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل ، فلم توسطهما قوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} إلى قوله : {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق : 31 ـ 35) نقول ليكون ذلك دعاء بالخوف والطمع ، فذكر حال الكفور المعاند ، وحال الشكور العابد في الآخرة ترهيباً وترغيباً ، ثم قال تعالى : إن كنتم في شك من العذاب الأبدي الدائم ، فما أنتم في ريب من العذاب العاجل المهلك الذي أهلك أمثالكم ، فإن قيل : فلم لم يجمع بين الترهيب والترغيب في العاجلة ، كما جمع بينهما في الآجلة ، ولم يذكر حال من أسلم من قبل وأنعم عليه ، كما ذكر حال من أشرك به فأهلكه نقول لأن النعمة كانت قد وصلت إليهم ، وكانوا متقلبين في النعم ، فلم يذكرهم به ، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به ، وأما في الآخرة ، فكانوا غافلين عن الأمرين جميعاً ، فأخبرهم بهما.
الثاني : قوله تعالى : {فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ} .
في معناه وجوه. أحدها : هو ما قاله تعالى في حق ثمود : {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (الفجر : 9) من قوتهم خرق الطرق ونقبوها ، وقطعوا الصخور وثقبوها. ثانيها : نقبوا ، أي ساروا في الأسفار ولم يجدوا ملجأً ومهرباً ، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد أهل مكة ، أي هم ساروا في الأسفار ، ورأوا ما فيها من الآثار. ثالثها : {فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـادِ} أي صاروا نقباء في الأرض أراد ما أفادهم / بطشهم وقوتهم ، ويدل على هذا الفاء ، لأنها تصير حينئذ مفيدة ترتب الأمر على مقتضاه ، تقول كان زيد أقوى من عمرو فغلبه ، وكان عمرو مريضاً فغلبه زيد ، كذلك ههنا قال تعالى : {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} فصاروا نقباء في الأرض ، وقرىء : {فَنَقَّبُوا } بالتشديد ، وهو أيضاً يدل على ما ذكرنا في الوجه الثالث ، لأن التنقيب البحث ، وهو من نقب بمعنى صار نقيباً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 152
الثالث : قوله تعالى : {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} .
يحتمل وجوهاً ثلاثة. الأول : على قراءة من قرأ بالتشديد يحتمل أن يقال هو مفعول ، أي بحثوا عن المحيص {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} . الثاني : على القراءات جميعاً استفهام بمعنى الإنكار أي لم يكن لهم محيص. الثالث : هو كلام مستأنف كأنه تعالى يقول لقوم محمد صلى الله عليه وسلّم هم أهلكوا مع قوة بطشهم فهل من محيص لكم تعتمدون عليه والمحيص كالمحيد غير أن المحيص معدل ومهرب عن الشدة ، يدلك عليه قولهم وقعوا في حيص بيص أي في شدة وضيق ، والمحيد معدل وإن كان لهم بالاختيار يقال حاد عن الطريق نظراً ، ولا يقال حاص عن الأمر نظراً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 152
152
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} .
الإشارة إلى الإهلاك ويحتمل أن يقال هو إشارة إلى ما قاله من إزلاف الجنة وملء جهنم وغيرهما ، والذكرى اسم مصدر هو التذكر والتذكرة وهي في نفسها مصدر ذكره يذكره ذكراً وذكرى وقوله لمن {كَانَ لَه قَلْبٌ} قيل : المراد قلب موصوف بالوعي ، أي لمن كان له قلب واع يقال لفلان مال أي كثير فالتنكير يدل على معنى في الكمال ، والأولى أن يقال هو لبيان وضوح الأمر بعد الذكر وأن لا خفاء فيه لمن كان له قلب ما ولو كان غير كامل ، كما يقال أعطه شيئاً ولو كان درهماً ، ونقول الجنة لمن عمل خيراً ولو حسنة ، فكأنه تعالى قال : إن في ذلك لذكرى لمن يصح أن يقال له قلب وحينئذ فمن لا يتذكر لا قلب له أصلاً كما في قوله تعالى : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} (البقرة : 18) حيث لم تكن آذانهم وألسنتهم وأعينهم مفيدة لما يطلب منها كذلك من لا يتذكر كأنه لا قلب له ، ومنه قوله تعالى : {كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } (الأعراف : 179) أي هم كالجماد وقوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } (المنافقون : 4) أي لهم صور وليس لهم قلب للذكر ولا لسان للشكر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 152
(1/4152)

وقوله تعالى : {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي استمع وإلقاء السمع كناية في الاستماع ، لأن من لا يسمع فكأنه حفظ سمعه وأمسكه فإذا أرسله حصل الاستماع ، فإن قيل على قول من قال التنكير في القلب للتكثير يظهر حسن ترتيب في قوله : {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} وذلك لأنه يصير كأنه / تعالى يقول : إن في ذلك لذكرى لمن كان ذا قلب واع ذكي يستخرج الأمور بذكائه أو ألقى السمع ويستمع من المنذر فيتذكر ، وأما على قولك المراد من صح أن يقال له قلب ولو كان غير واع لا يظهر هذا الحسن ، نقول على ما ذكرنا ربما يكون الترتيب أحسن وذلك لأن التقدير يصير كأنه تعالى قال : فيه ذكرى لكل واحد كيف كان له قلب لظهور الأمر ، فإن كان لا يحصل لكل أحد فلمن يستمع حاصل ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} حيث لم يكل أو استمع لأن الاستماع ينبىء عن طلب زائد ، وأما إلقاء السمع فمعناه أن الذكرى حاصلة لمن لا يمسك سمعه بل يرسله إرسالاً ، وإن لم يقصد السماع كالسامع في الصوت الهائل فإنه يحصل عند مجرد فتح الأذن وإن لم يقصد السماع والصوت الخفي لا يسمع إلا باستماع وتطلب ، فنقول الذكرى حاصلة لمن كان له قلب كيف كان قلبه لظهورها فإن لم تحصل فلمن له أذن غير مسدودة كيف كان حاله سواء استمع باجتهاده أو لم يجتهد في سماعه ، فإن قيل فقوله تعالى : {وَهُوَ شَهِيدٌ} للحال وهو يدل على أن إلقاء السمع بمجرده غير كاف ، نقول هذا يصحح ما ذكرناه لأنا قلنا بأن الذكرى حاصلة لمن له قلب ما ، فإن لم تحصل له فتحصل له إذا ألقى السمع وهو حاضر بباله من القلب ، وأما على الأول فمعناه من ليسه له قلب واع ، يحصل له الذكر إذا ألقى السمع وهو حاضر بقلبه فيكون عند الحضور بقلبه يكون له قلب واع ، وقد فرض عدمه هذا إذا قلنا بأن قوله : {وَهُوَ شَهِيدٌ} بمعنى الحال ، وإذا لم نقل به فلا يرد ما ذكر وهو يحتمل غير ذلك بيانه هو أن يقال ذلك إشارة إلى القرآن وتقريره هو أن الله تعالى لما قال في أول السورة : {قا وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} (ق : 1 ، 2) وذكر ما يدفع تعجبهم وبين كونه منذراً صادقاً وكون الحشر أمراً واقعاً ورغب وأرهب بالثواب والعذاب آجلاً وعاجلاً وأتم الكلام قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي القرآن الذي سبق ذكره {لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} أو لمن يستمع ، ثم قال : {وَهُوَ شَهِيدٌ} أي المنذر الذي تعجبتم منه شهيد كما قال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} (الفتح : 8) وقال تعالى : {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} (الحج : 78) . ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 152
154
(1/4153)

أعاد الدليل مرة أخرى ، وقد ذكرنا تفسير ذلك في الم السجدة ، وقلنا : إن الأجسام ثلاثة أجناس. أحدها : السموات ، ثم حركها وخصصها بأمور ومواضع وكذلك الأرض خلقها ، ثم دحاها وكذلك ما بينهما خلق أعيانها وأصنافها {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} إشارة إلى ستة أطوار ، والذي يدل عليه / ويقرره هو أن المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم في وضع اللغة ، لأن اليوم عبارة في اللغة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب ، وقبل السموات لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت يقال يوم يولد للملك ابن يكون سرور عظيم ويوم يموت فلان يكون حزن شديد ، وإن اتفقت الولادة أو الموت ليلاً ولا يتعين ذلك ويدخل في مراد العاقل لأنه أراد باليوم مجرد الحين والوقت ، إذا علمت الحال من إضافة اليوم إلى الأفعال فافهم ما عند إطلاق اليوم في قوله : {سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقال بعض المفسرين : المراد من الآية الرد على اليهود ، حيث قالوا : بدأ الله تعالى خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه في ستة أيام آخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه فقال تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} رداً عليهم ، والظاهر أن المراد الرد على المشرك والاستدلال بخلق السموات والأرض ومما بينهما وقوله تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة. ثانياً : والخلق الجديد كما قال تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ } (ق : 15) وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله ، وذلك لأن الأحد والاثنين أزمنة متميز بعضها عن بعض ، فلو كان خلق السموات ابتدىء يوم الأحد لكان الزمان متحققاً قبل الأجسام والزمان لا ينفك عن الأجسام فيكون قبل خلق الأجسام أجسام أُخر فيلزم القول بقدم العالم وهو مذهب الفلاسفة ، ومن العجيب أن بين الفلاسفة والمشبهة غاية الخلاف ، فإن الفلسفي لا يثبت لله تعالى صفة أصلاً ويقول بأن الله تعالى لا يقبل صفة بل هو واحد من جميع الوجوه ، فعلمه وقدرته وحياته هو حقيقته وعينه وذاته ، والمشبهي يثبت لله صفة الأجسام من الحركة والسكون والاستواء والجلوس والصعود والنزول فبينهما منافاة ، ثم إن اليهود في هذا الكلام جمعوا بين المسألتين فأخذوا بمذهب الفلاسفة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي القدم حيث أثبتوا قبل خلق الأجسام أياماً معدودة وأزمنة محدودة ، وأخذوا بمذهب المشبهة في المسألة التي هي أخص المسائل بهم وهي الاستواء على العرش فأخطوا (وضلوا) وأضلوا في الزمان والمكان جميعاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 154
155
ثم قال تعالى : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} قال من تقدم ذكرهم من المفسرين إن معناه اصبر على ما يقولون من حديث التعب بالاستلقاء ، وعلى ما قلناه معناه اصبر على ما يقولون إن هذا لشيء عجيب ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وما ذكرناه أقرب لأنه مذكور ، وذكر اليهود وكلامهم لم يجر.
وقوله : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يحتمل وجوهاً. أحدها : أن يكون الله أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالصلاة ، فيكون كقوله تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } (هود : 114).
وقوله تعالى : {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} إشارة إلى طرفي النهار.
جزء : 28 رقم الصفحة : 155
156
(1/4154)

/ وقوله : {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} إشارة إلى زلفاً من الليل ، ووجه هذا أن النبي صلى الله عليه وسلّم له شغلان. أحدهما : عبادة الله. وثانيهما : هداية الخلق فإذا هداهم ولم يهتدوا ، قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الحق. ثانيها : سبح بحمد ربك ، أي نزهه عما يقولون ولا تسأم من امتناعهم بل ذكرهم بعظمة الله تعالى ونزهه عن الشرك والعجز عن الممكن الذي هو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب ، فإنهما وقت اجتماعهم {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أي أوائل الليل ، فإنه أيضاً وقت اجتماع العرب ، ووجه هذا أنه لا ينبغي أن تسأم من تكذيبهم فإن الرسل من قبلك أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا وأوذوا ، وعلى هذا فلقوله تعالى : {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} فائدة جليلة وهي الإشارة إلى ما ذكرنا أن شغل الرسول أمر أن العبادة والهداية فقوله : {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} أي عقب ما سجدت وعبدت نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود. ثالثها : أن يكون المراد قل سبحان الله ، وذلك لأن ألفاظاً معدودة جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم ، فقولنا كبر يطلق ويراد به قول القائل الله أكبر ، وسلم يراد به قوله السلام عليكم ، وحمد يقال لمن قال الحمد لله ، ويقال هلل لمن قال لا إله إلا الله ، وسبح لمن قال سبحان الله ، ووجه هذا أن هذه أمور تتكرر من الإنسان في الكلام والحاجة تدعو إلى الإخبار عنها ، فلو قال القائل فلان قال لا إله إلا الله أو قال الله أكبر طول الكلام ، فمست الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة لذلك لعدم تكرر ما في الأول ، وأما مناسبة هذا الوجه للكلام الذي هو فيه ، فهي أن تكذيبهم الرسول وتعجبهم من قوله أو استهزاءهم كان يوجب في العادة أن يشتغل النبي صلى الله عليه وسلّم بلعنهم وسبهم والدعاء عليهم فقال : فاصبر على ما يقولون واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له ولا تكن كصاحب الحوت أو كنوح عليه السلام حيث قال : {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) بل ادع إلى ربك فإذا ضجرت عن ذلك بسبب إصرارهم فاشتغل بذكر ربك في نفسك ، وفيه مباحث :
جزء : 28 رقم الصفحة : 156
البحث الأول : استعمل الله التسبيح تارة مع اللام في قوله تعالى : {يُسَبِّحُ لَه } (الجمعة : 1) ، و{يُسَبِّحُونَ لَه } (فصلت : 38) وأخرى مع الباء في قوله تعالى : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة : 74) و{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (طه : 42) وقوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) فما الفرق بينهما ؟
نقول : أما الباء فهي الأهم وبالتقديم أولى في هذا الموضع كقوله تعالى : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فنقول أما على قولنا المراد من سبح قل سبحان الله ، فالباء للمصاحبة أي مقترناً بحمد الله ، فيكون كأنه تعالى قال قل سبحان الله والحمد لله ، وعلى قولنا المراد التنزيه لذلك أي نزهه وأقرنه بحمده أي سبحه واشكره حيث وفقك الله لتسبيحه فإن السعادة الأبدية لمن سبحه ، وعلى هذا فيكون المفعول / غير مذكور لحصول العلم به من غير ذكر تقديره : سبح الله بحمد ربك ، أي ملتبساً ومقترناً بحمد ربك ، وعلى قولنا صل ، نقول يحتمل أن يكون ذلك أمراً بقراءة الفاتحة في الصلاة يقال : صلّى فلان بسورة كذا أو صلّى بقل هو الله أحد ، فكأنه يقول صلّى بحمد الله أي مقروءاً فيها : الحمد لله ربّ العالمين ، وهو أبعد الوجوه ، وأما التعدية من غير حرف فنقول هو الأصل لأن التسبيح يتعدى بنفسه لأن معناه تبعيد من السوء/ وأما اللام فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون كما في قول القائل نصحته ونصحت له ، وشكرته وشكرت له. وثانيهما : أن يكون لبيان الأظهر أي يسبحون الله وقلوبهم لوجه الله خالصة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 156
(1/4155)

البحث الثاني : قال ههنا : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ثم قال تعالى : {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} من غير باء فما الفرق بين الموضعين ؟
نقول الأمر في الموضعين واحد على قولنا التقدير سبح الله مقترناً بحمد ربك ، وذلك لأن سبح الله كقول القائل فسبحه غير أن المفعول لم يدكر. أولاً : لدلالة قوله بحمد ربك عليه. وثانياً : لدلالة ما سبق عليه لم يذكر بحمد ربك ، الجواب الثاني على قولنا سبح بمعنى صل يكون الأول أمراً بالصلاة ، والثاني أمراً بالتنزيه ، أي وصل بحمد ربك في الوقت وبالليل نزهه عما لا يليق ، وحينئذ يكون هذا إشارة إلى العمل والذكر والفكر. فقوله : {سَبِّحِ} إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة ، وقوله : {بِحَمْدِ رَبِّكَ} إشارة إلى الذكر ، وقوله : {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} إشارة إلى خير الأعمال وهو الصلاة ، وقوله : {بِحَمْدِ رَبِّكَ} إشارة إلى الذكر ، وقوله : {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} إشارة إلى الفكر حين هدوا الأصواب ، وصفاء الباطن أي نزهه عن كل سوء بفكرك ، واعلم أنه لا يتصف إلا بصفات الكمال ونعوت الجلال ، وقوله تعالى : {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} قد تقدم بعض ما يقال في تفسيره ، ووجه آخر هو أنه إشارة إلى الأمر بإدامة التسبيح ، فقوله : {بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} إشارة إلى أوقات الصلاة ، وقوله : {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} يعني بعدما فرغت من السجود وهو الصلاة فلا تترك تسبيح الله وتنزيهه بل داوم أدبار السجود ليكون جميع أوقاتك في التسبيح فيفيد فائدة قوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف : 24) وقوله : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} (الشرح : 7 ، 8) وقرىء : {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
البحث الثالث : الفاء في قوله تعالى : {فَسَبِّحْهُ} ما وجهها ؟
نقول هي تفيد تأكيد الأمر بالتسبيح من الليل ، وذلك لأنه يتضمن الشرط كأنه يقول : وأما من الليل فسبحه ، وذلك لأن الشرط يفيد أن عند وجوده يجب وجود الجزاء ، وكأنه تعالى يقول النهار محل الاشتغال وكثرة الشواغل ، فأما الليل فمحل السكون والانقطاع فهو وقت التسبيح ، أو نقول بالعكس الليل محل النوم والثبات والغفلة ، فقال : أما الليل فلا تجعله للغفلة بل اذكر فيه ربك ونزهه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 156
البحث الرابع : {مِنَ} في قوله : {وَمِنَ الَّيْلِ} يحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون لابتداء الغاية أي من أول الليل فسبحه ، وعلى هذا فلم يذكر له غاية لاختلاف ذلك بغلبة النوم وعدمها ، يقال أنا من الليل أنتظرك. ثانيهما : أن يكون للتبعيض أي اصرف من الليل طرفاً إلى التسبيح يقال : من مالك منع ومن الليل انتبه ، أي بعضه.
/ البحث الخامس : قوله : {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} عطف على ماذا ؟
نقول : يحتمل أن يكون عطفاً على ما قبل الغروب كأنه تعالى قال : (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وأدبار السجود) وذكر بينهما قوله : {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} وعلى هذا ففيه ما ذكرنا من الفائدة وهي الأمر بالمداومة ، كأنه قال : سبح قبل طلوع الشمس ، وإذا جاء وقت الفراغ من السجود قبل الطلوع فسبح وسبح قبل الغروب ، وبعد الفراغ من السجود قبل الغروب سبحه فيكون ذلك إشارة إلى صرف الليل إلى التسبيح ، ويحتمل أن يكون عطفاً على {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} وعلى هذا يكون عطفاً على الجار والمجرور جميعاً ، تقديره وبعض الليل (فسبحه وأدبار السجود). ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 156
156
هذا إشارة إلى بيان غاية التسبيح ، يعني اشتغل بتنزيه الله وانتظر المنادي كقوله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الذي يستمعه ؟
قلنا : يحتمل وجوهاً ثلاثة. أحدها : أن يترك مفعوله رأساً ويكون المقصود كن مستمعاً ولا تكن مثل هؤلاء المعرضين الغافلين ، يقال هو رجل سميع مطيع ولا يراد مسموع بعينه كما يقال فلان وكاس ، وفلان يعطي ويمنع. ثانيهما : استمع لما يوحي إليك. ثالثها : استمع نداء المنادي.
(1/4156)

المسألة الثانية : {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} منصوب بأي فعل ؟
نقول : هو مبني على المسألة الأولى ، إن قلنا استمع لا مفعول له فعامله ما يدل عليه قوله تعالى : {يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق : 42) تقديره : يخرجون يوم ينادي المنادي ، وإن قلنا مفعوله لما يوحى فتقديره (واستمع) لما يوحى (يوم ينادي) ويحتمل ما ذكرنا وجهاً آخر ، وهو ما يوحي أي ما يوحى {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} اسمعه ، فإن قيل : استمع عطف على فاصبر وسبح وهو في الدنيا ، والاستماع يكون في الدنيا ، وما يوحى {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} لا يستمع في الدنيا ، نقول ليس بلازم ذلك لجواز أن يقال صل وادخل الجنة أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العقبى ، فكذلك ههنا ، ويحتمل أن يقال بأن استمع بمعنى انتظر فيحتمل الجمع في الدنيا ، وإن قلنا استمع الصيحة وهو نداء المنادي : يا عظام انتشري ، والسؤال الي ذكره علم الجواب منه ، وجواب آخر نقوله حينئذ وهو أن الله تعالى قال : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه } (الزمر : 68) قلنا : إن من شاء الله هم الذين علموا وقوع الصيحة ، واستيقظوا لها فلم تزعجهم كمن يرى برقاً أومض ، وعلم أن عقبيه يكون رعد قوي فينظره ويستمع له ، وآخر غافل فإذا رعد بقوة ربما يغشى على الغافل ولا يتأثر منه المستمع ، فقال : استمع ذلك كي لا تكون ممن يصعق في ذلك اليوم.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 156
المسألة الثانية : ما الذي ينادي المنادي ؟
فيه وجوه محتملة منقولة معقولة وحصرها بأن نقول المنادي إما أن يكون هو الله تعالى أو الملائكة أو غيرهما وهم المكلفون من الإنس والجن في الظاهر ، وغيرهم لا ينادي ، فإن قلنا هو تعالى فيه وجوه. أحدها : ينادي : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات : 22). ثانيها : ينادي {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} (ق : 24) مع قوله : أدخلوها بسلام} (ق : 34) ومثله قوله تعالى : (ق : 34) ومثله قوله تعالى : {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة : 30) يدل على هذا قوله تعالى : {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (ق : 41) وقال : {وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ : 51). ثالثها : غيرهما لقوله تعالى : {يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى} وغير ذلك ، وأما على قولنا المنادي غير الله ففيه وجوه أيضاً. أحدها : قول إسرافيل : أيتها العظام البالية اجتمعوا للوصل واستمعوا للفصل. ثانيها : النداء مع النفس يقال للنفس ارجعي إلى ربك لتدخلي مكانك من الجنة أو النار. ثالثها : ينادي مناد هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ، كما قال تعالى : {فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} (الشورى : 7) وعلى قولنا المنادي هو المكلف فيحتمل أن يقال هو ما بين الله تعالى في قوله : {وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ} (الزخرف : 77) أو غير ذلك إلا أن الظاهر أن المراد أحد الوجهين الأولين ، لأن قوله المنادي للتعريف وكون الملك في ذلك اليوم منادياً معروف عرف حاله وإن لم يجر ذكره/ فيقال : قال صلى الله عليه وسلّم وإن لم يكن قد سبق ذكره ، وأما أن الله تعالى مناد فقد سبق في هذه السورة في قوله : {أَلْقِيَا} (ق : 24) وهذا نداء ، وقوله : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} (ق : 30) وهو نداء ، وأما المكلف ليس كذلك ، وقوله تعالى : {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد بل يستوي في استماعه كل أحد وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على الله تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب نفس المكان بل ظهور النداء وهو من الله تعالى أقرب ، وهذا كما قال في هذه السورة : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق : 16) وليس ذلك بالمكان. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 156
157
(1/4157)

هذا تحقيق ما بينا من الفائدة في قوله : {وَاسْتَمِعْ} (ق : 41) أي لا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة ، وبيانه هو أنه قال استمع أي كن قبل أن تستمع مستيقظاً لوقوعه ، فإن السمع لا بد منه أنت وهم فيه سواء فهم يسمعون لكن من غير استماع فيصعقون وأنت تسمع بعد الاستماع فلا يؤثر فيك إلا ما لا بد منه و{يَوْمَ} يحتمل وجوهاً. أحدها : ما قاله الزمخشري أنه بدل من يوم في قوله : {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} والعامل فيهما الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى : {ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق : 42) أي يخرجون يوم يسمعون. ثانيها : أن {يَوْمَ يَسْمَعُونَ} العامل فيه مما في قوله ذلك {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} العامل فيه ما ذكرنا. ثالثها : أن يقال استمع عامل في يوم ينادي كما ذكرنا وينادي عامل في يسمعون ، وذلك لأن يوم ينادي وإن لم يجز أن يكون منصوباً بالمضاف إليه وهو ينادي لكن غيره يجوز أن يكون منصوباً به ، يقال : اذكر حال زيد ومذلته يوم ضربه عمرو ، ويوم كان عمرو والياً ، إذا كان القائل يريد / بيان مذلة زيد عندما صار زيد يكرم بسبب من الأسباب ، فلا يكون يوم كان عمرو والياً منصوباً بقوله اذكر لأن غرض القائل التذكير بحال زيد ومذلته وذلك يوم الضرب ، لكن يوم كان عمرو منصوب بقوله ضربه عمرو يوم كان والياً ، فكذلك ههنا قال : {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} لئلا تكون ممن يفزع ويصعق ، ثم بين هذا النداء بقوله : {يُنَادِ الْمُنَادِ} يوم يسمعون أي لا يكون نداءً خفياً بحيث لا يسمعه بعض الناس بل يكون نداؤه بحيث تكون نسبته إلى من في أقصى المغرب كنسبته إلى من في المشرق ، وكلكم تسمعون ، ولا شك أن مثل هذا الصوت يجب أن يكون الإنسان متهيئاً لاستماعه ، وذلك يشغل النفس بعبادة الله تعالى وذكره والتفكير فيه فظهر فائدة جليلة من قوله : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ} واللام في الصيحة للتعريف ، وقد عرف حالها وذكرها الله مراراً كما في قوله تعالى : {إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (يس : 29) وقوله} (فإنما هي زجرة واحدة} (الصافات : 19) وقوله : (فإنما هي زجرة واحدة} (الصافات : 19) وقوله : (الصافات : 19) وقوله : {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (الحاقة : 13) وقوله : {بِالْحَقِّ } جاز أن يكون متعلقاً بالصيحة أي الصحة بالحق يسمعونها ، وعلى هذا ففيه وجوه :
جزء : 28 رقم الصفحة : 157
الأول : الحق الحشر أي الصيحة بالحشر وهو حق يسمعونها يقال صاح زيد بيا قوم اجتمعوا على حد استعمال تكلم بهذا الكلام وتقديره حينئذ يسمعون الصيحة بيا عظام اجتمعي وهو المراد بالحق. الثاني : الصيحة بالحق أي باليقين والحق هو اليقين ، يقل صاح فلان بيقين لا بظن وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصدى وغيره وهو يجري مجرى الصفة للصيحة ، يقال استمع سماعاً بطلب ، وصاح صيحة بقوة أي قوية فكأنه قال الصيحة المحققة. الثالث : أن يكون معناه الصيحة المقترنة بالحق وهو الوجود ، يقال كن فيتحقق ويكون ، ويقال اذهب بالسلام وارجع بالسعادة أي مقروناً ومصحوباً ، فإن قيل زد بياناً فإن الباء في الحقيقة للإلصاق فكيف يفهم معنى الإلصاق في هذه المواضع ؟
نقول التعدية قد تتحقق بالباء يقال ذهب بزيد على معنى ألصق الذهاب بزيد فوجد قائماً به فصار مفعولاً ، فعلى قولنا المراد يسمعون صيحة من صاح بيا عظام اجتمعي هو تعدية المصدر بالباء يقال أعجبني ذهاب زيد بعمرو ، وكذلك قوله : {الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } أي ارفع الصوت على الحق وهو الحشر/ وله موعد نبينه في موضع آخر إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني : أن يكون الحق متعلقاً بقوله : {يَسْمَعُونَ} أي يسمعون الصيحة بالحق وفيه وجهان. الأول : هو قول القائل سمعته بيقين. الثاني : الباء في يسمعون بالحق قسم أي يسمعون الصيحة بالله الحق وهو ضعيف وقوله تعالى : {ذَالِكَ يَوْمُ} فيه وجهان. أحدهما : ذلك إشارة إلى يوم أي ذلك اليوم يوم الخروج. ثانيهما : ذلك إشارة إلى نداء المنادي. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 157
159
/ قد ذكرنا في سورة يس ما يتعلق بقوله : {كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ} ، وأما قوله : {إِنَّا نَحْنُ} فالمراد من الإحياء الإحياء أولاً {وَنُمِيتُ} إشارة إلى الموتة الأولى وقوله : {وَإِلَيْنَا} بيان للحشر فقدم {إِنَّا نَحْنُ} لتعريف عظمته يقول القائل أنا أنا أي مشهور و{إِنَّا نَحْنُ} أمور مؤكدة معنى العظمة {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} بيان للمقصود.
جزء : 28 رقم الصفحة : 159
159
(1/4158)

وقوله تعالى : {يَوْمَ تَشَقَّقُ الارْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا } العامل فيه هو ما في قوله {يَوْمُ الْخُرُوجِ} (ق : 42) من الفعل أي يخرجون يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً وقوله : {سِرَاعًا } حال للخارجين لأن قوله تعالى : {عَنْهُمْ} يفيد كونهم مفعولين بالتشقق فكان التشقق عند الخروج من القبر كما يقال كشف عنه فهو مكشوف عنه فيصير سراعاً هيئة المفعول كأنه قال مسرعين والسراع جمع سريع كالكرام جمع كريم.
قوله : {ذَالِكَ حَشْرٌ} يحتمل أن يكون إشارة إلى التشقق عنهم ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الإخراج المدلول عليه بقوله سراعاً ، ويحتمل أن يكون معناه ذلك الحشر حشر يسير ، لأن الحشر علم مما تقدم من الألفاظ.
وقوله تعالى : {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} بتقديم الظرف يدل على الاختصاص ، أي هو علينا هين لا على غيرنا وهو إعادة جواب قولهم : {ذَالِكَ رَجْعُا بَعِيدٌ} (ق : 3) والحشر الجمع ويوم القيامة جمع الأجزاء بعضها إلى بعض وجمع الأرواح مع الأشباح أي يجمع بين كل روح وجسدها وجمع الأمم المتفرقة والرمم المتمزقة والكل واحد في الجمع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 159
162
فيه وجوه. أحدها : تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين وتحريض لهم على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم من الصبر والتسبيح ، أي اشتغل بما قلناه ولا يشغلك الشكوى إلينا فإنا نعلم أقوالهم ونرى أعمالهم ، وعلى هذا فقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } مناسب له أي لا تقل بأني أرسلت إليهم لأهديهم ، فكيف أشتغل بما يشغلني عن الهداية وهو الصلاة والتسبيح ، فإنك ما بعثت مسلطاً على دواعيهم وقدرهم ، وإنما أمرت بالتبليغ ، وقد بلغت فاصبر وسبح وانتظر اليوم الذي يفصل فيه بينكم. ثانيها : هي كلمة تهديد وتخويف لأن قوله : {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} (ق : 43) ظاهر في التهديد بالعلم بعملكم لأن من يعلم أن مرجعه إلى الملك ولكنه يعتقد أن الملك لا يعلم ما يفعله لا يمتنع من القبائح ، أما إذا علم أنه يعلمه وعنده غيبه وإليه عوده يمتنع فقال تعالى : {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} و{نَّحْنُ أَعْلَمُ} / وهو ظاهر في التهديد ، وهذا حينئذ كقوله تعالى : {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الزمر : 7). ثالثهاُّ تقرير الحشر وذلك لأنه لما بيّن أن الحشر عليه يسير لكمال قدرته ونفوذ إرادته ولكن تمام ذلك بالعلم الشامل حتى يميز بين جزء بدنين جزء بدن زيد وجزء بدن عمرو فقال : {ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} لكمال قدرتنا ، ولا يخفى علينا الأجزاء لمكان علمنا ، وعلى هذا فقوله : {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } معناه نحن نعلم عين ما يقولون في قولهم {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا } (المؤمنون : 82) {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ} (السجدة : 10) فيقول : نحن نعلم الأجزاء التي يقولون فيها إنها ضالة وخفية ولا يكون المراد نحن نعلم وقولهم في الأول جاز أن تكون ما مصدرية فيكون المراد من قوله : {بِمَا يَقُولُونَ } أي قولهم ، وفي الوجه الآخر تكون خبرية ، وعلى هذا الدليل فلا يصح قوله : {نَّحْنُ أَعْلَمُ} إذ لا عالم بتلك الأجزاء سواه حتى يقول : {نَّحْنُ أَعْلَمُ} نقول قد علم الجواب عنه مراراً من وجوه :
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
أحدها : أن أفعل لا يقتضي الاشتراك في أصل الفعل كما في قوله تعالى : {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه } (الأحزاب : 37) وفي قوله تعالى : {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (مريم : 77) ، وفي قوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) (.
(1/4159)

ثانيها : معناه نحن أعلم بما يقولون من كل عالم بما يعلمه ، والأول أصح وأظهر وأوضح وأشهر وقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } فيه وجوه : أحدها : أن للتسلية أيضاً ، وذلك لأنه لما من عليه بالإقبال على الشغل الأخروي وهو العبادة أخبر بأنه لم يصرف عن الشغل الآخر وهو البعث ، كما أن الملك إذا أمر بعض عبيده بشغلين فظهر عجزه في أحدهما : يقول له أقبل على الشغل الآخر ومنهما ونحن نبعث من يقدر على الذي عجزت عن منهما ، فقال : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ} أي فما كان امتناعهم بسبب تجبر منك أو تكبر فاشمأزوا من سوء خلقك ، بل كنت بهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً وبالغت وبلغت وامتنعوا فأقبل على الصبر والتسبيح غير مصروف عن الشغل الأول بسبب جبروتك ، وهذا في معنى قوله تعالى : {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} إلى أن قال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 2 ـ 4) ، ثانيها : هو بيان أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى بما عليه من الهداية/ وذلك لأنه أرسله منذراً وهادياً لا ملجأ ومجبراً ، وهذا كما في قوله تعالى : {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (الشورى : 18) أي تحفظهم من الكفر والنار ، وقوله : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم} في معنى قول القائل : اليوم فلان علينا ، في جواب من يقول : من عليكم اليوم ؟
أي من الوالي عليكم. ثالثها : هو بيان لعدم وقت نزول العذاب بعد ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أنذر وأعذر وأظهر لم يؤمنوا كان يقول إن هذا وقت العذاب ، فقال : نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بمسلط فذكر بعذابي إن لم يؤمنوا من بقي منهم ممن تعلم أنه يؤمن ثم تسلط ، ويؤيد هذا قول المفسرين أن الآية نزلت قبل نزول آية القتال ، وعلى هذا فقوله : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
أي من بقي منهم ممن يخاف يوم الوعيد ، وفيه وجوه أُخر. أحدها : أنا بينا في أحد الوجوه أن قوله تعالى : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ} (ق : 39) معناه أقبل على العبادة ، ثم قال : ولا تترك الهداية بالكلية بل وذكر المؤمنين {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات : 55) {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف : 199) / وقوله : {بِالْقُرْءَانِ} فيه وجوه. الأول : فذكر بما في القرآن واتل عليهم القرآن يحصل لهم بسبب ما فيه المنفعة. الثاني : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ} أي بيّن به أنك رسول لكونه معجزاً ، وإذا ثبت كونك رسولاً لزمهم قبول قولك في جميع ما تقول به. الثالث : المراد فذكر بمقتضى ما في القرآن من الأوامر الواردة بالتبليغ والتذكير ، وحينئذ يكون ذكر القرآن لانتفاع النبي صلى الله عليه وسلّم به أي اجعل القرآن إمامك ، وذكرهم بما أخبرت فيه بأن تذكرهم ، وعلى الأول معناه اتل عليهم القرآن ليتذكروا بسببه ، وقوله تعالى : {مَن يَخَافُ وَعِيدِ} من جملة ما يبين كون الخشية دالة على عظمة المخشي أكثر مما يدل عليه الخوف ، حيث قال : {يَخَافُ} عندما جعل المخوف عذاب ووعيده ، وقال : (البقرة : 150) عندما جعل المخوف نفسه العظيم ، وفي هذه الآية إشارة إلى الأصول الثلاثة ، وقوله : {تَزَكَّى * وَذَكَرَ} إشارة إلى أنه مرسل مأمور بالتذكير منزل عليه القرآن حيث قال : {بِالْقُرْءَانِ} وقوله : {وَعِيدِ} إشارة إلى اليوم الآخر وضمير المتكلم في قوله : {وَعِيدِ} يدل على الوحدانية ، فإنه لو قال من يخاف وعيد الله كان يذهب وهم الله إلى كل صوب فلذا قال : {وَعِيدِ} والمتكلم أعرف المعارف وأبعد عن الإشراك به وقبول الاشتراك فيه ، وقد بينا في أول السورة أن أول السورة وآخرها متقاربان في المعنى حيث قال في الأول : {قا وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} (ق : 1) وقال في آخرها : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ} .
وهذا آخر تفسير هذه السورة والحمد لله ربّ العالمين ، وصلاته على خاتم النبيّين وسيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وذريته أجمعين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
162
(1/4160)

سورة الذاريات
ستون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم /
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
162
أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، وذلك لأنه تعالى لما بيّن الحشر بدلائله وقال : {ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (ق : 44) وقال : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } (ق : 45) أي تجبرهم وتلجئهم إلى الإيمان إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن عليهم لم يبق إلا اليمين فقال : {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ} وأول هذه السورة وآخرها متناسبان حيث قال في أولها : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} (الذاريات : 5) وقال في آخرها : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} (الذاريات : 60) وفي تفسير الآيات مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا الحكمة وهي في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات ، ونيدها ههنا وفيها وجوه. الأول : أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي صلى الله عليه وسلّم غالباً في إقامة الدليل وكانوا ينسبونه إلى المجادلة وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله ، وإنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال ، كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل وعجزي عن ذلك ، وهو في نفسه يعلم أن الحق بيدي فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين ، فيقول : والله إن الأمر كما أقول ، ولا أجادلك بالباطل ، وذلك لأنه لو سلك طريقاً آخر من ذكر دليل آخر ، فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالإيمان وترك إقامة البرهان. الثاني : هو أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلافع ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم أكثر من الأيمان بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتاً ، وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذباً ، وإلا لأصابه شؤم الإيمان ولناله / المكروه في بعض الأزمان. الثالث : وهو أن الأيمان التي حلف الله تعالى بها كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان مثاله قول القائل لمنعمه : وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك فيذكر النعم وهي سبب مفيد لدوام الشكر ويسلك مسلك القسم ، كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة ، فإن قيل فلم أخرجها مخرج الإيمان ؟
نقول لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف بعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى أقبل القوم على سماعه فخرج لهم البرهان المبين ، والتبيان المتين في صورة اليمين ، وقد استوفينا الكلام في سورة الصافات.
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
المسألة الثانية : في جميع السور التي أقسم الله في ابتدائها بغير الحروف كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي : الوحدانية والرسالة والحشر ، وهي التي يتم بها الإيمان ، ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي {وَالصَّا فَّاتِ} حيث قال فيها : {إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ} (الصافات : 4) وذلك لأنهم وإنن كانوا يقولون : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَاهًا وَاحِدًا } } (ص : 50) على سبيل الإنكار ، وكانوا يبالغون في الشرك ، لكنهم في تضاعيف أقوالهم ، وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد ، وكانوا يقولون : (ص : 50) على سبيل الإنكار ، وكانوا يبالغون في الشرك ، لكنهم في تضاعيف أقوالهم/ وتصاريف أحوالهم كانوا يصرحون بالتوحيد ، وكانوا يقولون : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) وقال تعالى : {وَلَا ِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (الزمر : 38) فلم يبالغوا في الحقيقة في إنكار المطلوب الأول ، فاكتفى بالبرهان ، ولم يكثر من الأيمان ، وفي سورتين منها أقسم لإثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ، وكونه رسولاً في إحداهما بأمر واحد ، وهو قوله تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} (النجم : 1 ، 2) وفي الثانية بأمرين وهو قوله تعالى : {وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } (الضحى : 1 ـ 3) وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن ، كما في قوله تعالى : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس : 1 ـ 3) وقد ذكرنا الحكم فيه أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن ، فأقسم به ليكون في القسم الإشارة واقعة إلى البرهان ، وفي باقي السور كان المقسم عليه الحشر والجزاء وما يتعلق به لكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد ، وعدم استيفاء ذلك في صورة القسم بالحروف.
(1/4161)

المسألة الثالثة : أقسم الله تعالى بجموع السلامة المؤنثة في سور خمس ، ولم يقسم بجموع السلامة المذكورة في سورة أصلاً ، فلم يقل : والصالحين من عبادي ، ولا المقربين إلى غير ذلك ، مع أن المذكر أشرف ، وذلك لأن جموع السلام بالواو والنون في الأمر الغالب لمن يعقل ، وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهور الأمر فيه ، وحصول الاعتراف منهم به ، ولا للرسالة لحصول ذلك في صور القسم بالحروف والقرآن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء ، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح ، وعذاب / الصالح ، ففائدة ذلك راجع إلى من يعقل ، فكان الأمر يقتضي أن يكون القسم بغيرهم ، والله أعلم.
المسألة الرابعة : في السورة التي أقسم لإثبات الوحدانية ، أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال : {وَالصَّـا فَّـاتِ} (الصافات : 1) وفي السور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات ، فقال : {وَالذَّارِيَـاتِ} وقال : {وَالْمُرْسَلَـاتِ} (المرسلات : 1) وقال : {وَالنَّـازِعَـاتِ} (النازعات : 1) ويؤيده قوله تعالى : {وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا * فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا} (النازعات : 3 ، 4) وقال : {وَالْعَـادِيَـاتِ} (العاديات : 1) وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق ، وذلك بالحركة أليق ، أو أن نقول في جميع السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين وهي التي تجمع وتفرق ، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة ، قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تعالى.
المسألة الخامسة : في الذاريات أقوال. الأول : هي الرياح تذور التراب وغيره ، كما قال تعالى : {تَذْرُوهُ الرِّيَـاحُ } (الكهف : 45). الثاني : هي الكواكب من ذرا يذرو إذا أسرع. الثالث : هي الملائكة. الرابع : رب الذاريات ، والأول أصح.
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
المسألة السادسة : الأمور الأربعة جاز أن تكون أموراً متباينة ، وجاز أن تكون أمراً له أربع اعتبارات. الأول : هي ما روي عن علي عليه السلام ، أن الذاريات هي الرياح والحاملات هي السحاب ، والجاريات هي السفن ، والمقسمات هي الملائكة الذين يقسمون الأرزاق. والثاني : وهو الأقرب أن هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات هي الرياح التي تنشىء السحاب أولاً ، والحاملات هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه التي إذا سحت جرت السيول العظيمة ، وهي أوقار أثقال من جبال ، والجاريات هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها ، والمقسمات هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار/ ويحتمل أن يقال هذه أمور أربعة مذكورة في مقابلة أمور أربعة بها تتم الإعادة ، وذلك لأن الأجزاء التي تفرقت بعضها في تخوم الأرضين ، وبعضها في قعور البحور ، وبعضها في جو الهواء ، وهي الأجزاء اللطيفة البخارية التي تنفصل عن الأبدان ، فقوله تعالى : {وَالذَّارِيَـاتِ} يعني الجامع للذاريات من الأرض ، على أن الذارية هي التي تذرو التراب عن وجه الأرض ، وقوله تعالى : {فَالْحَـامِلَـاتِ وِقْرًا} هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً ، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً ، بل تنقله من موضع ، وترميه في موضع بخلاف السحاب ، فإنه يحمله وينقله في الجو حملاً لا يقع منه شيء ، وقوله : {فَالْجَـارِيَـاتِ يُسْرًا} إشارة إلى الجامع من الماء ، فإن من يجري السفن الثقيلة من تيار البحار إلى السواحل يقدر على نقل الأجزاء من البحر إلى البر ، فإذا تبين أن الجمع من الأرض ، وجو الهواء ووسط البحار ممكن ، وإذا اجتمع يبقى نفخ الروح لكن الروح من أمر الله ، كما قال تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) فقال : {فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا} الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأمر الله ، وإنما ذكرهم بالمقسمات ، لأن الإنسان في الأجزاء الجسمية غير مخالف تخالفاً بيناً ، فإن لكل أحد رأساً ورجلاً ، والناس متقاربة في الأعداد والأقدار ، لكن التفاوت الكثير في / النفوس ، فإن الشريفة والخسيسة بينهما غاية الخلاف ، وتلك القسمة المتفاوتة تنقسم بمقسم مختار ومأمور مختار فقال : {فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
(1/4162)

المسألة الخامسة : ما هذه المنصوبات من حيث النحو ؟
فنقول أما {ذَرْوًا} فلا شك في كونه منصوباً على أنه مصدر ، وأما {وِقْرًا} فهو مفعول به ، كما يقال : حمل فلان عدلاً ثقيلاً ، ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر ، كما يقال : ضربه سوطاً يؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو. وأما {يُسْرًا} فهو أيضاً منصوب على أنه صفة مصدر ، تقديره جرياً ذا يسر ، وأما {لَكَ أَمْرًا} فهو إما مفعول به ، كما يقال : فلان قسم الرزق أو المال وإما حال أتى على صورة المصدر ، كما يقال : قتلته صبراً ، أي مصبوراً كذلك ههنا {لَكَ أَمْرًا} أي مأمورة ، فإن قيل : إن كان {وِقْرًا} مفعوله به فلم لم يجمع ، ومما قيل : والحاملات أوقاراً ؟
نقول : لأن الحاملات على ما ذكرنا صفة الرياح ، وهي تتوارد على وقر واحد ، فإن ريحاً تهب وتسوق السحابة فتسبق السحاب ، فتهب أخرى وتسوقها ، وربما تتحول عنه يمنة ويسرة بسبب اختلاف الرياح ، وكذلك القول في المقسمات أمراً ، إذا قلنا هو مفعول به ، لأن جماعة يكونون مأمورين تنقسم أمراً واحداً ، أو نقول هو في تقدير التكرير كأنه قال : فالحاملات وقراً وقراً ، والمقسمات أمراً أمراً.
المسألة الثامنة : ما فائدة الفاء ؟
نقول : إن قلنا إنها صفات الرياح فلبيان ترتيب الأمور في الوجود ، فإن الذاريات تنشىء السحاب فتقسم الأمطار على الأمطار ، وإن قلنا إنها أمور أربعة فالفاء للترتيب في القسم لا للترتيب في القسم لا للترتيب في المقسم به ، كأنه يقول : أقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحب الحاملات ثم بالسفن الجاريات ثم بالملائكة المقسمات ، وقوله : {فَالْحَـامِلَـاتِ} وقوله : {فَالْجَـارِيَـاتِ} إشارة إلى بيان ما في الرياح من الفوائد ، أما في البر فإنشاء السحب ، وأما في البحر فإجراء السفن ، ثم المقسمات إشارة إلى ما يترتب على حمل السحب وجري السفن من الأرزاق ، والأرياح التي تكون بقسمة الله تعالى فتجري سفن بعض الناس كما يشتهي ولا تربح وبعضهم تربح وهو غافل عنه ، كما قال تعالى : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} (الزخرف : 32). ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 162
163
(ما) يحتمل أن يكون مصدرية معناه الإيعاد صادق و(إن) تكون موصولة أي الذي توعدون صادق ، والصادق معناه ذو صدق كعيشة راضية ووصف المصدر بما يوصف به الفاعل بالمصدر فيه إفادة مبالغة ، فكما أن من قال فلان لطف محض وحلم يجب أن يكون قد بالغ كذلك من قال كلام صادق وبرهان قاهر للخصم أو غير ذلك يكون قد بالغ ، والوجه فيه هو أنه إذا قال هو لطف بدل قوله لطيف فكأنه قال اللطيف شيء له لطف ففي اللطيف لطف وشيء آخر ، فأراد أن يبين كثرة اللطف فجعله كله لطفاً ، وفي الثاني لما كان / الصدق يقوم بالمتكلم بسبب كلامه ، فكأنه قال هذا الكلام لا يحوج إلى شيء آخر حتى يصح إطلاق الصادق عليه ، بل هو كاف في إطلاق الصادق لكونه سبباً قوياً وقوله تعالى : {تُوعَدُونَ} يحتمل أن يكون من وعد ويحتمل أن يكون من أوعد ، والثاني هو الحق لأن اليمين مع المنكر بوعيد لا بوعد. وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 163
163
أي الجزاء كائن ، وعلى هذا فالإبعاد بالحشر في الموعد هو الحساب والجزاء هو العقاب ، فكأنه بيّن بقوله : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} أن الحساب يستوفي والعقاب يوفى ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 163
163
وفي تفسيره مباحث :
الأول : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قيل : الطرائق ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون المراد طرائق الكواكب وممراتها كما يقال في المحابك ، ويحتمل أن يكون المراد ما في السماء من الأشكال بسبب النجوم ، فإن في سمت كواكبها طريق التنين والعقرب والنسر الذي يقول به أصحاب الصور ومنطقة الجوزاء وغير ذلك كالطرائق ، وعلى هذا فالمراد به السماء المزينة بزينة الكواكب ، ومثله قوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج : 1) وقيل : حبكها صفاقها يقال في الثوب الصفيق حسن الحبك وعلى هذا فهو كقوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} (الطارق : 11) لشدتها وقوتها وهذا ما قيل فيه.
(1/4163)

البحث الثاني : في المقسم عليه وهو قوله تعالى : {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} وفي تفسيره أقوال مختلفة كلها محكمة. الأول : إنكم لفي قول مختلف ، في حق محمد صلى الله عليه وسلّم ، تارة يقولون إنه أمين وأخرى إنه كاذب ، وتارة تنسبونه إلى الجنون ، وتارة تقولون إنه كاهن وشاعر وساحر ، وهذا محتمل لكنه ضعيف إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا ، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤكد بيمين. الثاني : {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} أي غير ثابتين على أمر ومن لا يثبت على قول لا يكون متيقناً في اعتقاده فيكون كأنه قال تعالى ، والسماء إنكم غير جازمين في اعتقادكم وإنما تظهرون الجزم لشدة عنادكم وعلى هذا القول فيه فائدة وهي أنهم لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم إنك تعلم أنك غير صادق في قولك ، وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل قال : {وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا} أي أنك صادق ولست معانداً ، ثم قال تعالى : بل أنتم والله جازمون بأني صادق فعكس الأمر عليهم. الثالث : إنك لفي قول مختلف ، أي متناقض ، أما في الحشر فلأنكم تقولون لا حشر ولا حياة بعد الموت ثم تقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة ، فإذا كان لا حياة بعد الموت ولا شعور للميت ، فماذا يصيب آباءكم إذا خالفتموهم ؟
وإنما يصح هذا ممن يقولون بأن بعد الموت عذاباً فلو / علمنا شيئاً يكرهه الميت يبدي فلا معنى لقولكم إنا لا ننسب آباءنا بعد موتهم إلى الضلال ، وكيف وأنتم تربطون الركائب على قبور الأكابر ، وأما في التوحيد فتقولون خالق السموات والأرض هو الله تعالى لا غيره ثم تقولون هو إله الآلهة وترجعون إلى الشرك ، وأما في قول النبي صلى الله عليه وسلّم فتقولون إنه مجنون ثم تقولون له إنك تغلبنا بقوة جدلك ، والمجنون كيف يقدر على الكلام المنتظم المعجز ، إلى غير ذلك من الأمور المتناقضة. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 163
164
وفيه وجوه. أحدها : أنه مدح للمؤمنين ، أي يؤفك عن القول المختلف ويصرف من صرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي. وثانيها : أنه ذم معناه يؤفك عن الرسول. ثالثها : يؤفك عن القول بالحشر. رابعها : يؤفك عن القرآن ، وقرىء يؤفن عنه من أفن ، أي يحرم ، وقرىء يؤفك عنه من أفك ، أي كذب. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 164
164
وهذا يدل على أن المراد من قوله : {لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} (الذاريات : 8) أنهم غير ثابتين على أمر وغير جازمين بل هم يظنون ويخرصون ، ومعناه لعن الخراصون دعاء عليهم بمكروه. ثم وصفهم فقال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 164
164
وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية.
أما اللفظية : فقوله : {سَاهُونَ} يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر ، والمبتدأ هو قوله : {هُمْ} وتقديره هم كائنون في غمرة ساهون ، كما يقال زيد جاهل جائز لا على قصد وصف الجاهل بالجائز ، بل الإخبار بالوصفين عن زيد ، ويحتمل أن يكون {سَاهُونَ} خبراً و{فِى غَمْرَةٍ} ظرف له كما يقال : زيد في بيته قاعد يكون الخبر هو القاعد لا غير وفي بيته لبيان ظرف القعود كذلك {فِى غَمْرَةٍ} لبيان ظرف السهو الذي يصحح وصف المعرفة بالجملة ، ولولاها لما جاز وصف المعرفة بالجملة.
وأما المعنوية : فهي أن وصف الخراص بالسهو والانهماك في الباطل ، يحقق ذلك كون الخراص صفة ذم ، وذلك لأن ما لا سبيل إليه إلا الظن إذا خرص الخارص وأطلق عليه الخراص لا يكون ذلك مفيد نقص ، كما يقال في خراص الفواكه والعساكر وغير ذلك ، وأما الخرص في محل المعرفة واليقين فهو ذم فقال : قتل الخراصون الذين هم جاهلون ساهلون لا الذين تعين طريقهم في التخمين والحزر وقوله تعالى : {سَاهُونَ} بعد قوله : {فِى غَمْرَةٍ} يفيد أنهم وقعوا في جهل وباطل ونسوا أنفسهم يه فلم يرجعوا عنه. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 164
165
فإن قيل : الزمان يجعل ظرف الأفعال ولا يمكن / أن يكون الزمان ظرفاً لظرف آخر ، وههنا جعل أيان ظرف اليوم فقال : {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} ويقال متى يقدم زيد ، فيقال : يوم الجمعة ولا يقال : متى يوم الجمعة ، فالجواب : التقدير متى يكون يوم الجمعة وأيان يكون يوم الدين ، وأيان من المركبات ركب من أي التي يقع بها الاستفهان وآن التي هي الزمان أو من أي وأوان فكأنه قال أي أوان فلما ركب بني وهذا منهم جواب لقوله : {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فكأنهم قالوا أيان يقع استهزاء وترك المسؤول في قوله : {يَسْـاَلُونَ} حيث لم يقل يسألون من ، يدل على أن غرضهم ليس بالجواب وإنما يسألون استهزاء. وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 165
165
(1/4164)

يحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون جواباً عن قولهم {أَيَّانَ} يقع وحينئذ كما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لحصول العلم كذلك لم يجبهم جواب مجيب معلم مبين حيث قال : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} وجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأول ، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى ، فإذا قال قائل متى يقدم زيد فلو قال المجيب يوم يقدم رفيقه ولا يعلم يوم قدوم الرفيق ، لا يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة جواب ، ولا يكون جواباً كما أن القائل إذا قال كم تعد عداتي تخلفها إلى متى هذا الإخلاف فيغضب ويقول إلى أشأم يوم عليك ، الكلامان في صورة سؤال وجواب ولا الأول يريد به السؤال ، ولا الثاني يريد به الجواب ، فكذلك ههنا قال : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} مقابلة استهزائهم بالإيعاد لا على وجه الإتيان. والثاني : أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه. في قوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 165
166
فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار ، نقول الإضمار لا بد منه لأن قوله : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} غير متصل بما قبله إلا بإضمار ، يقال : ويفتنون قيل معناه : يحرقون ، والأولى أن يقال معناه يعرضون على النار عرض المجرب الذهب على النار كلمة على تناسب ذلك ، ولو كان المراد يحرقون لكان بالنار أو في النار أليق لأن الفتنة هي التجربة ، وأما ما يقال من اختبره ومن أنه تجربة الحجارة فعنى بذلك المعنى مصدر الفتن ، وههنا يقال : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} والفتنة الامتحان ، فإن قيل : فإذا جعلت {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} مقولاً لهم {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} فما قوله : {هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ} ؟
قلنا : يحتمل أن يكون المراد كنتم تستعجلون بصريح القول كما في قوله تعالى حكاية عنهم : {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} (ص : 16) وقوله : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} (الأعراف : 70) إلى غير ذلك يدله عليه ههنا قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} (الذاريات : 12) فإنه نوع استعجال ، ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو الإصرار على العنار وإظهار الفساد فإنه يعجل العقوبة. / ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 166
168
بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك ، وأعلاها أن يتقي ما سوى الله ، وأدنى درجات المتقي الجنة ، فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها.
المسألة الثانية : الجنة تارة وحدها كما قال تعالى : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } (الرعد : 35) وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ} وتارة ثناها فقال تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) فما الحكمة فيه ؟
نقول : أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد ، وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول ههنا الله تعالى عند الوعد وحَّد الجنة ، وكذلك عند الشراء حيث قال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة : 111) وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة والخلاف ما لو وعد بجنات ، ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود. الثالثة : قوله تعالى : {وَعُيُونٍ} يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات ، نقول معناه في خلال العيون ، وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى : {فِي جَنَّـاتِ} ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار ، وإنما يكون بينها كذلك القول في العيون والتنكير ، مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية.
جزء : 28 رقم الصفحة : 168
169
.
وقوله تعالى : {ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه مسائل ولطائف ، أما المسائل :
(1/4165)

فالأولى منها : ما معنى آخذين ؟
نقول فيه وجهان. أحدهما : قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. ثانيها : آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى : {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ} (التوبة : 104) أي يقبلها ، وهذا ذكره الزمخشري وفيه وجه ثالث : وهو أن قوله : {فِي جَنَّـاتِ} يدل على السكنى فحسب وقوله : {ءَاخِذِينَ} يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكاً لها ، وكذلك يقال لمن اشترى داراً أو بستاناً أخذه بثمن قليل أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبض حساً ولا قبول برضا ، وحينئذ فائته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك ، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله : {ءَاتَـاـاهُمْ} يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحاً ، وإنما كان بإعطاء الله تعالى ، وعلى هذا الوجه {مَآ} راجعة إلى الجنّات والعيون.
/ وقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُحْسِنِينَ} إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان ، كما قال تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } (يونس : 26) بلام الملك وهي الجنة.
المسألة الثانية : {ءَاخِذِينَ} حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان ، ويوافق المعنى لأن قوله : {ءَاتَـاـاهُمْ} ينبىء عن الانقراض وقوله : {يُؤْتِيهِمْ} تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له ، ولا سيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول ، كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس ؟
نقول : أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم ، وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملكاليوم ، وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيراً مما أتاه ، ولا ينافي ذلك كونه داخلاً على تلك الهيئة ، يقول القائل : جئتك خائفاً فإذا أنا آمن وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصراً على ما آتاهم من قبل ، وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم ، وقوله تعالى : {إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ} هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة يس (55).
جزء : 28 رقم الصفحة : 169
المسألة الثالثة : {ذَالِكَ} إشارة إلى ماذا ؟
نقول : يحتمل وجهين. أحدهما : قبل دخولهم لأن قولهتعالى : {فِي جَنَّـاتِ} فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا. ثانيهما : قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها ، وفيه وجوه أُخر ، وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم. وأما اللطائف فقد سبق بعضها ، ومنها أن قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنا لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين ، ولذلك دلالة أتم من قول القائل أنهم أحسنوا. اللطيفة الثانية : أما التقوى فلأنه لما قال لا إله فقد اتقى الشرك ، وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان ، ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي الإحسان قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} (فصلت : 33) وقيل في تفسير : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} (الرحمن : 60) إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان. وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 169
171
كالتفسير لكونهم محسنين ، تقول حاتم كان سخياً كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده ، وفيه مباحث :
(1/4166)

الأول : منصوب على الظرف تقديره يهجعون قليلاً تقول قام بعض الليل فتنصب بعض على الظرف وخبر كان هو قوله : {مَا يَهْجَعُونَ} و(ما) زائدة هذا هو المشهور وفيه وجه آخر وهو / أن يقال كانوا قليلاً ، معناه نفي النوم عنهم وهذا منقول عن الضحاك ومقاتل ، وأنكر الزمخشري كون ما نافية ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية لأن بعد ما لا يعمل فيما قبلها لا تقول زيداً ما ضربت ويجوز أن يعمل ما بعد لم فيما تقول زيداً لم أضرب ، وسبب ذلك هو أن الفعل المتعدي إنما يفعل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت ضرب زيد عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو فإذا قلت ما ضربه لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه لكن المنفي محمول على الإثبات ، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عمل الفعل ، لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل ، فلا تقول زيد ضارب عمراً أمس ، وتقول : زيد ضارب عمراً غداً واليوم والآن ، لأن الماضي لم يبق موجوداً ولا متوقع الوجود فلا يتعلق بالمفعول حقيقة لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يعمل ، إذا عرفت هذا فنقول ما ضرب للنفي في المضي فاجتمع فيه النفي والمضي فضعف ، وأما لم أضرب وإن كان يقلب المستقبل إلى الماضي لكن الصيغة صيغة المستقبل فوجد فيه ما يوجد في قول القائل زيد ضارب عمراً غداً فاعمل هذا بيان قوله غير أن القائل بذلك القول يقول : {قَلِيلا} ليس منصوباً بقوله : {يَهْجَعُونَ} وإنما ذلك خبر كانوا أي كانوا قليلين ، ثم قال : {مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي ما يهجعون أصلاً بل يحيون الليل جميعه ومن يكون لبيان الجنس لا للتبعيض ، وهذا الوجه حينئذ فيه معنى قوله تعالى : {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه ا وَإِنَّ} (ص : 24) وذلك لأنا ذكرنا أن قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} (الذاريات : 16) فيه معنى الذين آمنوا ، وقوله : {مُحْسِنِينَ} فيه معئنى الذين عملوا الصالحات ، وقوله : {كَانُوا قَلِيلا} فيه معنى قوله تعالى : {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } .
جزء : 28 رقم الصفحة : 171
البحث الثاني : على القول المشهور وهو أن ما زائدة يحتمل أن يكون قليلاً صفة مصدر تقديره يهجعون هجوعاً قليلاً.
البحث الثالث : يمكن أن يقال : {قَلِيلا} منصوب على أنه خبر كان و(ما) مصدرية تقديره كان هجوعهم من الليل قليلاً كما يقال : كان زيد خلقه حسناً ، فلا يحتاج إلى القول بزيادة ، واعلم أن النحاة لا يقولون فيه إنه بدل فيفرقون بين قول القائل زيد حسن وجهه أو الوجه وبين قوله زيد وجهه حسن فيقولون في الأول صفة وفي الثاني بدل ونحن حيث قلنا إنه من باب بدل الاشتمال أردنا به معنى لا اصطلاحاً ، وإلا فقليلاً عند التقديم ليس في النحو مثله عند التأخير حتى قولك فلان قليل هجوعه ليس ببدل ، وفلان هجوعه قليل بدل ، وعلى هذا يمكن أن تكون ما موصولة معناه كان ما يهجعون فيه قليلاً من الليل ، هذا ما يتعلق باللفظ ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في أواخر الآيات ، بل فيه فائدتان. الأولى : هي أن الهجوع راحة لهم ، وكان المقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله / تعالى فلو قال كانوا يهجعون كان المذكور أولاً راحتهم ثم يصفه بالقلة وربما يغفل الإنسان السامع عما بعد الكلام فيقول إحسانهم وكونهم محسنين بسبب أنهم يهجعون وإذا قدم قوله : {قَلِيلا} يكون السابق إلى الفهم قلة الهجوع ، وهذه الفائدة من يراعيها يقول فلان قليل الهجوع ولا يقول هجوعه قليل ، لأن الغرض بيان قلة الهجوع لا بيان الهجوع بوصف القلة أو الكثرة ، فإن الهجوع لو لم يكن لكان نفي القلة أولى ولا كذلك قلة الهجوع لأنها لو لم تكن لكان بدلها الكثرة في الظاهر.
الفائدة الثانية : في قوله تعالى : {مِّن الَّيْلِ} وذلك لأن النوم القليل بالنهار قد يوجد من كل أحد ، وأما الليل فهو زمان النوم لا يسهره في الطاعة إلا متعبد مقبل ، فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً ، لا يقال له الهجوع قلنا ذكر الأمر العام وإرادة التخصيص حسن فنقول : رأيت حيواناً ناطقاً فصيحاً ، وذكر الخاص وإرادة العام لا يحسن إلا في بعض المواضع فلا نقول رأيت فصيحاً ناطقاً حيواناً ، إذا عرفت هذا فنقول في قوله تعالى : {كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ} ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كانوا من الليل يسبحون ويستغفرون أو يسهرون أو غير ذلك ، فإذا قال يهجعون فكأنه خصص ذلك العام المحتمل له ولغيره فلا إشكال فيه. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 171
172
إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به.
(1/4167)

وفيه وجه آخر ألطف منه ، وهو أنه تعالى لما بيّن أنهم يهجعون قليلاً ، والهجوع مقتضى الطبع ، قال : {يَسْتَغْفِرُونَ} أي من ذلك القدر من النوم القليل ، وفيه لطيفة أخرى تنبيهاً في جواب سؤال ، وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ، ولم يمدحهم بكثرة السهر ، وما قال : كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون ، فما الحكمة فيه ، مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع ؟
نقول : إشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً ، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار. وفيه مباحث :
البحث الأول : في الباء فإنها استعملت للظرف ههنا ، وهي ليست للظرف ، نقول : قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض ، يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان ، فيستعمل اللام والباء وفي ، وكذلك في المكان ، نقول : أقمت بالمدينة كذا وفيها ، ورأيته ببلدة كذا وفيها ، فإن قيل ما التحقيق فيه ؟
نقول : الحروف لها معاني مختلفة ، كما أن الأسماء والأفعال كذلك ، غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى ، والاسم والفعل / مستقلان ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد ، كما في الأسماء والأفعال ، فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان ، وكذلك سكن ومكث ، ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد ، إذا عرفت هذا فنقول : بين الباء واللام وفي مشاركة ، أما الباء فإنها للإلصاق ، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان ، فإذا قال : سار بالنهار معناه ذهب ذهاباً متصلاً بالنهار ، وكذا قوله تعالى : {وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي استغفاراً متصلاً بالأسحار مقترناً بها ، لأن الكائن فيها مقترناً بها ، فإن قيل : فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت ؟
نقول : نعم ، وذلك لأن من قال : قمت بالليل واستغفر بالأسحار أخبر عن الأمرين ، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله : قمت في الليل ، لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمت ببلد كذا ، لا يفيد أنه كان محاطاً بالبلد ، وقوله : أقمت فيها يدل على إحاطتها به ، فإذن قول القائل : أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار ، أعم من قوله : قمت فيه ، لأن القائم فيه قائم به ، والقائم به ليس قائماً فيه من كل بد ، إذا علمت هذا فقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 172
(1/4168)

{وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتاً عن العبادة ، فإنهم بالليل لا يهجعون ، ومع أول جزء من السحر يستغفرون ، فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب ، لأنهم وقت الانتباه في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب ، فإن قيل : زدنا بياناً فإن من الأزمان أزماناً لا تجعل ظروفاً بالباء ، فلا يقال خرجت بيوم الجمعة ويقال بفي ، نقول : إن كل فعل جار في زمان فهو متصل به ، فالخروج يوم الجمعة متصل مقترن بذلك الزمان ، ولم يستعمل خرجت بيوم الجمعة ، نقول الفارق بينهما الإطلاق والتقييد ، بدليل أنك إن قلت : خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة لم يحسن ، ولو قلت : خرجت بيوم سعد ، وخرج هو بيوم نحس حسن ، فالنهار والليل لما لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما ، فإذا قيدتهما وخصصتهما زال ذلك الجواز ، ويوم الجمعة لما كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء/ وحيث زال الخصوص بالتنكير ، وقلت خرت بيوم كذا عاد الجواز ، والسر فيه أن مثل يوم الجمعة ، وهذه الساعة ، وتلك الليلة وجد فيها أمر غير الزمان وهو خصوصيات ، وخصوصية الشيء في الحقيقة أمور كثيرة غير محصورة عند العاقل على وجه التفصيل لكنها محصورة على الإجمال ، مثاله إذا قلت هذا الرجل فالعام فيه هو الرجل ، ثم إنك لو قلت الرجل الطويل ، ما كان يصير مخصصاً ، لكنه يقرب من الخصوص ، ويخرج من القصار ، فإن قلت العالم لم يصر مخصصاً لكنه يخرج عن الجهال ، فإذا قلت الزاهد فكذلك ، فإذا قلت ابن عمرو خرج عن أبناء زيد وبكر وخالد وغيرهم ، فإذا قلت هذا يتناول تلك المخصصات التي بأجمعها لا تجتمع إلا في ذلك ، فإذن الزمان المتعين فيه أمور غير الزمان ، والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشىء عن الزمان ، وأما في فصحيح ، لأن ما حصل في العام فهو في الخاص ، لأن العام أمر داخل في الخاص ، وأما في فيدخل في الذي فيه الشيء ، فصح أن يقال : في يوم الجمعة ، وفي / هذه الساعة ، وأما بحث اللام فنؤخره إلى موضعه ، وقد تقدم بعضه في تفسير قوله تعالى : {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } (يس : 38) وقوله : {هُمْ} غير خال عن فائدة ، قال الزمخشري : فائدته انحصار المستغفرين ، أي لكمالهم في الاستغفار ، كأن غيرهم ليس بمستغفر ، فهم المستغفرون لا غير ، يقال فلان هو العالم لكماله في العلم كأنه تفرد به وهو جيد ، ولكن فيه فائدة أخرى ، وهي أن الله تعالى لما عطف {وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} على قوله : {كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (الذاريات : 17) فلو لم يؤكد معنى الإثبات بكلمة {هُمْ} لصلح أن يكون معناه : وبالأسحار قليلاً ما يستغفرون ، تقول فلان قليلاً ما يؤذي وإلى الناس يحسن قد يفهم أنه قليل الإيذاء قليل الإحسان ، فإذا قلت قليلاً ما يؤذي وهو يحسن زال ذلك الفهم وظهر فيه معنى قوله : قليل الإيذاء كثير الإحسان ، والاستغفار يحتمل وجوهاً. أحدها : طلب المغفرة بالذكر بقولهم ربنا اغفر لنا. الثاني : طلب المغفرة بالفعل ، أي بالأسحار يأتون بفعل آخر طلباً للغفران ، وهو الصلاة أو غيرها من العبادات. الثالث : وهو أغربها الاستغفار من باب استحصد الزرع إذا جاء أوان حصاده ، فكأنهم بالأسحار يستحقون المغفرة ويأتيهم أوان المغفرة ، فإن قيل : فالله لم يؤخر مغفرتهم إلى السحر ؟
نقول وقت السحر تجتمع ملائكة الليل والنهار ، وهو الوقت المشهود ، فيقول الله على ملأ منهم : إني غفرت لعبدي ، والأول أظهر ، والثاني عند المفسرين أشهر. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 172
172
وقد ذكرنا مراراً أن الله تعالى بعد ذكر تعظيم نفسه يذكر الشفقة على خلقه ، ولا شك أن قليل الهجوع المستغفر في وجوه الأسحار وجد منه التعظيم العظيم ، فأشار إلى الشفقة بقوله : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أضاف المال إليهم ، وقال في مواضع : {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (يس : 47) وقال : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى : 38) نقول سببه أن في تلك المواضع كان الذكر للحث ، فذكر معه ما يدفع الحث ويرفع المانع ، فقال : هو رزق الله والله يزرقكم فلا تخافوا الفقر وأعطوا ، وأما ههنا فمدح على ما فعلوه فلم يكن إلى الحرص حاجة.
(1/4169)

المسألة الثانية : المشهور في الحق أنه هو القدر الذي علم شرعاً وهو الزكاة وحينئذ لا يبقى هذا صفة مدح ، لأن كون المسلم في ماله حق وهو الزكاة ليس صفة مدح لأن كل مسلم كذلك ، بل الكافر إذا قلنا إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم غير أنه إذا أسلم سقط عنه وإن مات عوقب على تركه ، وإن أدى من غير الإسلام لا يقع الموقع ، فكيف يفهم كونه مدحاً ؟
نقول الجواب عنه من وجوه. أحدها : أنا نفسر بمن يطلب شرعاً ، والمحروم الذي لا مكنة له / من الطلب ومنعه الشارع من المطالبة ، ثم إن المنع قد يكون لكون الطالب غير مستحق ، وقد يكون لكون المطلوب منه لم يبق عليه حق فلا يطالب فقال تعالى في ماله حق للطالب وهو الزكاة ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها فإن ذلك المالك لا يطالب بها ويحرم الطالب منه طلباً على سبيل الجزية والزكاة ، بل يسأل سؤالاً اختيارياً فيكون حينئذ كأنه قال في ماله زكاة وصدقة والصدقة في المال لا تكون إلا بفرضه هو ذلك وتقديره وإفرازه للفقراء والمساكين ، الجواب الثاني : هو أن قوله : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ} أي مالهم ظرف لحقوقهم فإن كلمة في للظرفية لكن الظرف لا يطلب إلا للمظروف فكأنه تعالى قال هم لا يطلبون المال ولا يجمعونه إلا ويجعلونه ظرفاً للحق ، ولا شك أن المطلوب من الظرف هو المظروف والظرف مالهم فجعل مالهم ظرفاً للحقوق ولا يكون فوق هذا مدح فإن قيل فلو قيل مالهم للسائل هل كان أبلغ ؟
قلنا : لا وذلك لأن من يكون له أربعون ديناراً فتصدق بها لا تكون صدقته دائمة لكن إذا اجتهد واتجر وعاش سنين وأدى الزكاة والصدقة يكون مقدار المؤدى أكثر وهذا كما في الصلاة والصوم ولو أضعف واحد نفسه بهما حتى عجز عنهما لا يكون مثل من اقتصد فيهما ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم : "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" وفي السائل والمحروم وجوه. أحدها : أن السائل هو الناطق وهو الآدمي والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحرومة قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "لكل كبد حرى أجر". وثانيها : وهو الأظهر والأشهر ، أن السائل هو الذي يسأل ، والمحروم المتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنياً فلا يعطيه شيئاً. والأول : كقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 172
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } (طه : 54). والثاني : كقوله : {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } (الحج : 36) فالقانع كالمحروم فإن قيل على الوجه الأول الترتيب في غاية الحسن ، فإن دفع حاجة الناطق مقدم على دفع حاجة البهائم ، فما وجه الترتيب في الوجه الثاني ؟
نقول فيه وجهان. أحدهما : أن السائل اندفاع حاجته قبل اندفاع حاجة المحروم في الوجود لأنه يعرف حاله بمقاله ويطلب لقلة ماله فيقدم بدفع حاجته ، والمحروم غير معلوم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاطلاع عليه/ فكان الذكر على الترتيب الواقع. وثانيهما : هو أن ذلك إشارة إلى كثرة العطاء فيقول يعطي السائل فإذا لم يجدهم يسأل هو عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً. الثالث : هو أن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي ، فإن قول القائل إن رجوعهم إلينا وعلينا حسابهم ليس كقوله تعالى : {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} (الغاشية : 26) والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى ، وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه الظاهر بالنظافة ، كذلك الكلام ورب كلمة حكمية لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها ، إذا عرفت هذا فقوله : {وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ} أحسن من حيث اللفظ من قولنا وبالأسحار هم يستغفرون ، وفي أموالهم حق للمحروم والسائل ، فإن قيل قدم السائل على المحروم ههنا لما ذكرت من الوجوه ، ولم قدم المحروم على السائل في قوله : {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } لأن القانع / هو الذي لا يسأل {وَالْمُعْتَرَّ } السائل ؟
نقول قد قيل إن القانع هو السائل والمعتر الذي لا يسأل ، فلا فرق بين الموضعين ، وقيل بأن القانع والمعتر كلاهما لا يسأل لكن القانع لا يتعرض ولا يخرج من بيته والمعتر يتعرض للأخذ بالسلام والتردد ولا يسأل ، وقيل بأن القانع لا يسأل والمعتر يسأل ، فعلى هذا فلحم البدنة يفرق من غير مطالبة ساع أو مستحق مطالبة جزية ، والزكاة لها طالب وسائل هو الساعي والإمام ، فقوله : {لِّلسَّآاـاِلِ} إشارة إلى الزكاة وقوله : {وَالْمَحْرُومِ} أي الممنوع إشارة إلى الصدقة المتطوع بها واحدهما قبل الأخرى بخلاف إعطاء اللحم. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 172
172
(1/4170)

وهو يحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون متعلقاً بقوله : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَراَّصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْـاَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُم إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِى} تدلهم على أن الحشر كائن كما قال تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً} إلى أن قال : {إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا} (فصلت : 39) . وثانيهما : أن يكون متعلقاً بأفعال المتقين ، فإنهم خافوا الله فعظموه فأظهروا الشفقة على عباده ، وكان لهم آيات في الأرض ، وفي أنفسهم على إصابتهم الحق في ذلك ، فإن من يكون له في الأرض الآيات العجيبة يكون له القدرة التامة فيخشى ويتقى ، ومن له من أنفس الناس حكم بالغة ونعم سابغة يستحق أن يعبد ويترك الهجوع لعبادته ، وإذا قابل العبد العبادة بالنعمة يجدها دون حد الشكر فيستغفر على التقصير ، وإذا علم أن الرزق من السماء لا يبخل بماله ، فالآيات الثلاثة المتأخرة فيها تقرير ما تقدم ، وعلى هذا فقوله تعالى : {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (الذاريات : 23) يكون عود الكلام بعد اعتراض الكلام الأول أقوى وأظهر ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كيف خصص الموقنين بكون الآيات لهم مع أن الآيات حاصلة للكل قال تعالى : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا} (يس : 33) نقول قد ذكرنا أن اليمين آخر ما يأتي به المبرهن وذلك لأنه أولاً يأتي بالبرهان ، فإن صدق فذلك وإن لم يصدق لا بد له من أن ينسبه الخصم إلى إصرار على الباطل لأنه إذا لم يقدر على قدح فيه ولم يصدقه يعترف له بقوة الجدل وينسبه إلى المكابرة فيتعين طريقه في اليمين ، فإذا آيات الأرض لم تفدهم لأن اليمين بقوله : {وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا} (الذاريات : 1) دلت على سبق إقامة البينات وذكر الآيات ولم يفد فقال فيها : {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} وإن لم يحصل للمصر المعاند منها فائدة ، وأما في سورة يس وغيرها من الموانع التي جعل فيها آيات الأرض للعامة لم يحصل فيها اليمين وذكر الآيات قبله فجاز أن يقال إن الأرض آيات لمن ينظر فيها. الجواب الثاني : وهو الأصح أن هنا الآيات بالفعل والاعتبار للمؤمنين أي حصل ذلك لهم وحيث قال لكل معناه إن فيها آيات لهم إن نظروا وتأملوا.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 172
المسألة الثانية : ههنا قال : {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ} وقال هناك : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ} (يس : 33) نقول لما جعل الآية {لِّلْمُوقِنِينَ} ذكر بلفظ الجمع لأن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال ويرى في كل شيء آيات دالة ، وأما الغافل فلا يتنبه إلا بأمور كثيرة فيكون الكل له كالآية الواحدة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 172
173
إشارة إلى دليل الأنفس ، وهو كقوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) وإنما اختار من دلائل الآفاق ما في الأرض لظهورها لمن على ظهورها فإن في أطرافها وأكنافها ما لا يمكن عد أصنافها فدليل الأنفس في قوله : {وَفِى أَنفُسِكُمْ } عام ويحتمل أن يكون مع المؤمنين ، وإنما أتى بصيغة الخطاب لأنها أظهر لكون علم الإنسان بما في نفسه أتم وقوله تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُمْ } يحتمل أن يكون المراد وفيكم ، يقال الحجارة في نفسها صلبة ولا يراد بها النفس التي هي منبع الحياة والحس والحركات ، ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله : {أَفَلا تُبْصِرُونَ} بالاستفهام إشارة إلى ظهورها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 173
174
(1/4171)

وقوله تعالى : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} فيه وجوه. أحدها : في السحاب المطر. ثانيها : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} مكتوب. ثالثها : تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت ، وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن وذلك لأن الإنسان له أمور يحتاج إليها لا بد من سبقها حتى يوجد هو في نفسه وأمور تقارنه في الوجود وأمور تلحقه وتوجد بعده ليبقى بها ، فالأرض هي المكان وإليه يحتاج الإنسان ولا بد من سبقها فقال : {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ} ثم في نفس الإنسان أمور من الأجسام والأعراض فقال : {وَفِى أَنفُسِكُمْ } ثم بقاؤه بالرزق فقال : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} ولولا السماء لما كان للناس البقاء.
وقوله تعالى : {وَمَا تُوعَدُونَ} فيه وجوه. أحدها : الجنة الموعود بها لأنها في السماء. ثانيها : هو من الإيعاد لأن البناء للمفعول من أوعد يوعد أي وما توعدون إما من الجنة والنار في قوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ} (الذاريات : 13) وقوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ} (الذاريات : 15) فيكون إيعاداً عاماً ، وأما من العذاب وحينئذ يكون الخطاب مع الكفار فيكون كأنه تعالى قال : وفي الأرض آيات للموقنين كافية ، وأما أنتم أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات هي أظهر الآيات وتكفرون لها لحطام الدنيا وحب الرياسة ، وفي السماء الأرزاق ، فلو نظرتم وتأملتم حق التأمل ، لما تركتم الحق لأجل الرزق ، فإنه واصل بكل طريق ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 174
176
وفي المقسم عليه وجوه. / أحدها : {مَّا تُوعَدُونَ} أي ما توعدون لحق يؤيده قوله تعالى : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} (الذاريات : 5) وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه {مَّا تُوعَدُونَ} إن قلنا إن ذلك هو الجنة فالمقسم عليه هو هي. ثانيها : الضمير راجع إلى القرآن أي أن القرآن حق وفيما ذكرناه في قوله تعالى : {يُؤْفَكُ عَنْهُ} (الذاريات : 9) دليل هذه وعلى هذا فقوله : {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} معناه تكلم به الملك النازل من عند الله به مثل ما أنكم تتكلمون وسندكره. ثالثها : أنه راجع إلى الدين كما في قوله تعالى : {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (الذاريات : 6). رابعها : أنه راجع إلى اليوم المذكور في قوله : {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} (الذاريات : 12) يدل عليه وصف الله اليوم بالحق في قوله تعالى : {ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } (النبأ : 39). خامسها : أنه راجع إلى القول الذي يقال : {هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تَسْتَعْجِلُونَ} (الذاريات : 14) وفي التفسير مباحث :
الأول : الفاء تستدعي تعقيب أمر لأمر فما الأمر المتقدم ؟
نقول فيه وجهان. أحدهما : الدليل المتقدم كأنه تعالى يقول : إن ما توعدون لحق بالبرهان المبين ، ثم بالقسم واليمين. ثانيهما : القسم المتقدم كأنه تعالى يقول : {وَالذَّارِيَـاتِ} ثم {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ} وعلى هذا يكون الفاء حرف عطف أعيد معه حرف القسم كما يعاد الفعل إذ يصح أن يقال ومررت بعمرو ، فقوله : {وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا * فَالْحَـامِلَـاتِ وِقْرًا} (الذاريات : 1 ، 2) عطف من غير إعادة حرف القسم ، وقوله : {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ} مع إعادة حرفه ، والسبب فيه وقوع الفصل بين القسمين ، ويحتمل أن يقال الأمر المتقدم هو بيان الثواب في قوله : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات : 13) وقوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ} (الذاريات : 15) وفيه فائدة ، وهو أن الفاء تكون تنبيهاً على أن لا حاجة إلى اليمين مع ما تقدم من الكشف المبين ، فكأنه يقول ورب السماء والأرض إنه لحق ، كما يقول القائل بعدما يظهر دعواه هذا والله إن الأمر كما ذكرت فيؤكد قوله باليمين ، ويشير إلى ثبوته من غير يمين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 176
البحث الثاني : أقسم من قبل بالأمور الأرضية وهي الرياح وبالسماء في قوله : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} (الذاريات : 7) ولم يقسم بربها ، وههنا أقسم بربها نقول كذلك الترتيب يقسم المتكلم أولاً بالأدنى فإن لم يصدق به يرتقي إلى الأعلى ، ولهذا قال بعض الناس إذا قال قائل وحياتك ، والله لا يكفر وإذا قال : والله وحياتك لا شك يكفر وهذا استشهاد ، وإن كان الأمر على خلاف ما قاله ذلك القائل لأن الكفر إما بالقلب ، أو باللفظ الظاهر في أمر القلب ، أو بالفعل الظاهر ، وما ذكره ليس بظاهر في تعظيم جانب غير الله ، والعجب من ذلك القائل أنه لا يجعل التأخير في الذكر مفيداً للترتيب في الوضوء وغيره.
(1/4172)

البحث الثالث : قرىء مثل بالرفع وحينئذ يكون وصفاً لقوله لحق ومثل وإن أضيف إلى المعرفة لا يخرجه عن جواز وصف المنكر به ، تقول رأيت رجلاً مثل عمرو ، لأنه لا يفيده تعريفاً لأنه في غاية الإبهام وقرىء : {مِّثْلَ} بالنصب ، ويحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى ما هو ضعيف وإلا جاز أن يقال زيد قاتل من يعرفه أو ضارب من يشتمه. ثانيهما : أن يكون / منصوباً على البيان تقديره لحق حقاً مثل ، ويحتمل أن يقال إنه منصوب على أنه صفة مصدر معلوم غير مذكور ، ووجهه أنا دللنا أن المراد من الضمير في قوله : {إِنَّه } هو القرآن فكأنه قال إن القرآن لحق نطق به الملك نطقاً {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} وما مجرور لا شك فيه.
ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 176
177
إشارة إلى تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله ، واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين كون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته في بعض الأشياء ، وإنذار لقومه بما جرى من الضيف ، ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذا كان المراد ما ذكرت من التسلية والإنذار فأي فائدة في حكاية الضيافة ؟
نقول ليكون ذلك إشارة إلى الفرج في حق الأنبياء ، والبلاء على الجهلة والأغبياء ، إذا جاءهم من حيث لا يحتسب. قال الله تعالى : {فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } (الحشر : 2) فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع مكانته.
المسألة الثانية : كيف سماهم ضيفاً ولم يكونوا ؟
نقول لما حسبهم إبراهيم عليه السلام ضيفاً لم يكذبه الله تعالى في حسابه إكراماً له ، يقال في كلمات المحققين الصادق يكون ما يقول ، والصديق يقول ما يكون.
المسألة الثالثة : ضيف لفظ واحد والمكرمين جمع ، فكيف وصف الواحد بالجمع ؟
نقول الضيف يقع على القوم ، يقال قوم ضيف ولأنه مصدر فيكون كلفظ الرزق مصدراً ، وإنما وصفهم بالمكرمين إما لكونهم عباداً مكرمين كما قال تعالى : {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} (الأنبياء : 26) وإما لإكرام إبراهيم عليه السلام إياهم ، فإن قيل : بماذا أكرمهم ؟
قلنا ببشاشة الوجه أولاً ، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانياً ، وتعجيل القرى ثالثاً ، وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس وكانوا عدة من الملائكة في قول ثلاثة جبريل وميكائيل وثالث ، وفي قول عشرة ، وفي آخر اثنا عشرة.
المسألة الرابعة : هم أرسلوا للعذاب بدليل قولهم : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} (الذاريات : 32) وهم لم يكونوا من قوم إبراهيم عليه السلام ، وإنما كانوا من قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام ؟
نقول فيه حكمة بالغة ، وبيانها من وجهين. أحدهما : أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين وكان لوط من قومه ومن إكرام الملك للذي في عهدته وتحت طاعته إذا كان يرسل رسول إلى غيره يقول له اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. وثانيهما : هو أن / الله تعالى لما قدر أن يهلك قوماً كثيراً وجماً غفيراً ، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على عباده قال لهم بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف ما يهلك ، ويكون من صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 177
177
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما العامل في إذ ؟
فيه وجوه. أحدها : ما في المكرمين من الإشارة إلى الفعل إن قلنا وصفهم بكونهم مكرمين بناء على أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم فيكون كأنه تعالى يقول : أكرموا إذ دخلوا ، وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول. ثانيها : ما في الضيف من الدلالة على الفعل ، لأنا قلنا إن الضيف مصدر فيكون كأنه يقول : أضافهم إذ دخلوا. وثالثها : يحتمل أن يكون العامل فيه أتاك تقديره ما أتاك حديثهم وقت دخولهم ، فاسمع الآن ذلك ، لأن هل ليس للاستفهام في هذا الموضع حقيقة بل للإعلام ، وهذا أولى لأنه فعل مصرّح به ، ويحتمل أن يقال اذكر إذ دخلوا.
المسألة الثانية : لماذا اختلف إعراب السلامين في القراءة المشهورة ؟
نقول : نبين أولاً وجوه النصب والرفع ، ثم نبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب ، أما النصب فيحتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون المراد من السلام هو التحية وهو المشهور ، ونصبه حينئذ على المصدر تقديره نسلم سلاماً. ثانيها : هو أن يكون السلام نوعاً من أنواع الكلام وهو كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم فكأنهم لما دخلوا عليه فقالوا حسناً سلموا من الإثم ، وحينئذ يكون مفعولاً للقول لأن مفعول القول هو الكلام ، يقال قال فلان كلاماً ، ولا يكون هذا من باب ضربه سوطاً لأن المضروب هناك ليس هو السوط ، وههنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} (الفرقان : 63) وقوله تعالى : {قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا} (الواقعة : 21).
(1/4173)

ثالثها : أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره نبلغك سلاماً ، لا يقال على هذا إن المراد لو كان ذلك لعلم كونهم رسل الله عند السلام فما كان يقول : {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ولا كان يقرب إليهم الطعام ، ولما قال : {نَكِرَهُمْ} (هود : 70) لأنا نقول جاز أن يقال إنهم قالوا : نبلغك سلاماً ولم يقولوا من الله تعالى إلى أن سألهم إبراهيم عليه السلام ممن تبلغون لي السلام ، وذلك لأن الحكيم لا يأتي بالأمر العظيم إلا بالتدريج فلما كانت هيبتهم عظيمة ، فلو ضموا إليه الأمر العظيم الذي هو السلام من الله تعالى لانزعج إبراهيم عليه السلام ، ثم إن إبراهيم عليه السلام اشتغل بإكرامهم عن سؤالهم وآخر السؤال إلى حين الفراغ فنكرهم بين السلام والسؤال عمن منه السلام هذا وجه النصب ، وأما الرفع فنقول يحتمل أن المراد منه السلام الذي هو التحية وهو المشهور أيضاً ، وحينئذ يكون مبتدأ / خبره محذوف تقديره سلام عليكم ، وكون المبتدأ نكرة يحتمل في قول القائل سلام عليكم وويل له ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره قال جوابه سلام ، ويحتمل أن يكون المراد قولاً يسلم به أو ينبىء عن السلامة فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره أمي سلام بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم لأني لا أعرفكم ، أو يكون المبتدأ قولكم ، وتقديره قولكم سلام ينبىء عن السلامة وأنتم قوم منكرون فما خطبكم فإن الأمر أشكل عليَّ وهذا ما يحتمل أن يقال في النصب والرفع ، وأما الفرق فنقول أما على التفسير المشهور وهو أن السلام في الموضعين بمعنى التحية فنقول الفرق بينهما من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 177
أما من حيث اللفظ : فنقول سلام عليك إنما جوز واستحسن لكونه مبتدأ وهو نكرة ، من حيث إنه كالمتروك على أصله لأن الأصل أن يكون منصوباً على تقدير أسلم سلاماً وعليك يكون لبيان من أريد بالسلام ، ولا يكون لعليك حظ من المعنى غير ذلك البيان فيكون كالخارج عن الكلام ، والكلام التام أسلم سلاماً/ كما أنك تقول ضربت زيداً على السطح يكون على السطح خارجاً عن الفعل والفاعل والمفعول لبيان مجرد الظرفية ، فإذا كان الأمر كذلك وكان السلام والأدعية كثير الوقوع ، قالوا نعدل عن الجملة الفعلية إلى الإسمية ونجعل لعليك حظاً في الكلام ، فنقول سلام عليك ، فتصير عليك لفائدة لا بد منها ، وهي الخبرية ، ويترك السلام نكرة كما كان حال النصب ، إذا علم هذا فالنصب أصل والرفع مأخوذ منه ، والأصل مقدم على المأخوذ منه ، فقال : {بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ } قدم الأصل على المتفرع منه.
وأما من حيث المعنى : فذلك لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن ، فأتى بالجملة الإسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار ، فإن قولنا جلس زيد لا ينبىء عنه لأن الفعل لا بد فيه من الإنباء عن التجدد والحدوث ولهذا لو قلت : الله موجود الآن لأثبت العقل الدوام إذ لا ينبىء عن التجدد ، ولو قال قائل : وجد الله الآن لكاد ينكره العاقل لما بينا فلما قالوا : سلاماً قال : سلام عليكم مستمر دائم ، وأما على قولنا المراد القول ذو السلامة فظاهر الفرق ، فإنهم قالوا قولاً ذا سلام ، وقال لهم إبراهيم عليه السلام : سلام أي قولكم ذو سلام وأنتم قوم منكرون فالتبس الأمر عليّ ، وإن قلنا المراد أمر مسالمة ومتاركة وهم سلموا عليه تسليماً ، فنقول فيه جمع بين أمرين : تعظيم جانب الله ، ورعاية قلب عباد الله ، فإنه لو قال : سلام عليكم وهو لم يعلم كونهم من عباد الله الصالحين كان يجوز أن يكونوا على غير ذلك ، فيكون الرسول قد أمنهم ، فإن السلام أمان وأمان الرسول أمان المرسل فيكون فاعلاً للأمر من غير إذن الله نيابة عن الله فقال : أنتم سلمتم عليّ وأنا متوقف أمري متاركة لا تعلق بيننا إلى أن يتبين الحال ويدل على هذا هو أن الله تعالى قال : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} (الفرقان : 63) وقال في مثل هذا المعنى للنبي صلى الله عليه وسلّم : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌ } (الزخرف : 89) ولم يقل قل سلاماً ، وذلك لأن الأخيار المذكورين في القرآن لو / سلموا على الجاهلين لا يكون ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم ، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم لو سلم عليهم لصار ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم ، فقال : قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر ، وأما على قولنا بمعنى نبلغ سلاماً فنقول هم لما قالوا نبلغك سلاماً ولم يعلم إبراهيم عليه السلام أنه ممن قال سلام أي إن كان من الله فإن هذا منه قد ازداد به شرفي وإلا فقد بلغني منه سلام وبه شرفي ولا أتشرف بسلام غيره ، وهذا ما يمكن أن يقال فيه والله أعلم بمراده الأول والثاني عليهما الاعتماد فإنهما أقوى وقد قيل بهما.
جزء : 28 رقم الصفحة : 177
(1/4174)

المسألة الثالثة : قال في سورة هود : {فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} (هود : 70) فدل على أن إنكارهم كان حاصلاً بعد تقريبه العجل منهم وقال ههنا : {قَالَ سَلَـامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} . ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 177
178
بفاء التعقيب فدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول الإنكار لهم ، فما الوجه فيه ؟
نقول : جاز أن يحصل أولاً عنده منهم نكر ثم زاد عند إمساكهم ، والذي يدل على هذا هو أنهم كانوا على شكل وهيئة غير ما يكون عليه الناس وكانوا في أنفسهم عند كل أحد منكرين ، واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتكم بل قال : أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا ، ثم إن إبراهيم عليه السلام تفرد بمشاهدة أمر منهم هو الإمساك فنكرهم فوق ما كان منهم بالنسبة إلى الكل لكن الحالة في سورة هود محكية على وجه أبسط مما ذكره ههنا ، فإن ههنا لم يبين المبشر به ، وهناك ذكر باسمه وهو إسحاق ، ولم يقل ههنا إن القوم قوم من وهناك قال قوم لوط ، وفي الجملة من يتأمل السورتين يعلم أن الحكاية محكية هناك على وجه الإضافة أبسط ، فذكر فيها النكتة الزائدة ، ولم يذكر ههنا ولنعد إلى بيان ما أتى به من آداب الإضافة وما أتوا به من آداب الضيافة ، فالإكرام أولاً ممن جاءه ضيف قبل أن يجتمع به ويسلم أحدهما على الآخر أنواع من الإكرام وهي اللقاء الحسن والخروج إليه والتهيؤ له ثم السلام من الضيف على الوجه الحسن الذي دل عليه النصب في قوله : {سَلَـامًا } إما لكونه مؤكداً بالمصدر أو لكونه مبلغاً ممن هو أعظم منه ، ثم الرد الحسن الذي دل عليه الرفع والإمساك عن الكلام لا يكون فيه وفاء إن إبراهيم عليه السلام لم يقل سلام عليكم بل قال أمري مسالمة أو قولكم سلام وسلامكم منكر فإن ذلك وإن كان مخلاً بالإكرام ، لكن العذر ليس من شيم الكرام ومودة أعداء الله لا تليق بالأنبياء عليهم السلام ثم تعجيل القرى الذي دل عليه قوله تعالى : {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ} (هود : 69) وقوله ههنا : {فَرَاغَ} فإن الروغان يدل على السرعة والروغ الذي بمعنى النظر الخفي أو الرواح المخفي أيضاً كذلك ، ثم الإخفاء فإن المضيف إذا أحضر شيئاً ينبغي أن يخفيه عن الضيف كي لا يمنعه من الإحضار بنفسه حيث راغ هو ولم يقل هاتوا ، وغيبة المضيف لحظة / من الضيف مستحسن ليستريح ويأتي بدفع ما يحتاج إليه ويمنعه الحياء منه ثم اختيار الأجود بقوله : {سَمِينٍ} ثم تقديم الطعام إليهم لا نقلهم إلى الطعام بقوله : {فَقَرَّبَه ا إِلَيْهِمْ} لأن من قدم الطعام إلى قوم يكون كل واحد مستقراً في مقره لا يختلف عليه المكان فإن نقلهم إلى مكان الطعام ربما يحصل هناك اختلاف جلوس فيقرب الأدنى ويضيق على الأعلى ثم العرض لا الأمر حيث قال : {أَلا تَأْكُلُونَ} ولم يقل كلوا ثم كون المضيف مسروراً بأكلهم غير مسرور بتركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاماً كثيراً ويكون نظره ونظر أهل بيته في الطعام متى يمسك الضيف يده عنه يدل عليه قوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 178
179
ثم أدب الضيف أنه إذا أكل حفظ حق المؤاكلة ، يدل عليه أنه خافهم حيث لم يأكلوا ، ثم وجوب إظهار العدر عند الإمساك يدل عليه قوله : {لا تَخَفْ } ثم تحسين العبارة في العذر وذلك لأن من يكون محتمياً وأحضر لديه الطعام فهناك أمران. أحدهما : أن الطعام لا يصلح له لكونه مضراً به. الثاني : كونه ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام فينبغي أن لا يقول الضيف هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل الحسن أن يأتي بالعبارة الأخرى ويقول : لي مانع من أكل الطعام وفي بيتي لا آكل أيضاً شيئاً ، يدل عليه قوله : {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـامٍ} حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ولم يقولوا لا يصلح لنا الطعام والشراب ، ثم أدب آخر في البشارة أن لا يخبر الإنسان بما يسره دفعة فإنه يورث مرضاً يدل عليه أنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم عليه السلام ثم قالوا نبشرك ثم ذكروا أشرف النوعين وهو الذكر ولم يقتنعوا به حتى وصفوه بأحسن الأوصاف فإن الابن يكون دون البنت إذا كانت البنت كاملة الخلقة حسنة الخلق والابن بالضد ، ثم إنهم تركوا سائر الأوصاف من الحسن والجمال والقوة والسلامة واختاروا العلم إشارة إلى أن العلم رأس الأوصاف ورئيس النعوت ، وقد ذكرنا فائدة تقديم البشارة على الإخبار عن إهلاكهم قوم لوط ، ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ، ويأتي ببدلهم خيراً منهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 179
179
ثم قال تعالى : {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُه فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} .
(1/4175)

أي أقبلت على أهلها ، وذلك لأنها كانت في خدمتهم ، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم ، فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ، ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة ، وقوله تعالى : {فِى صَرَّةٍ} أي صيحة ، كما جرت عادة النساء حيث يسمعن شيئاً من أحوالهن يصحن صيحة معتادة لهن عند الاستحياء أو التعجب ، ويحتمل أن يقال تلك الصيحة / كانت بقولها يا ويلتا ، تدل عليه الآية التي في سورة هود ، وصك الوجه أيضاً من عادتهن ، واستبعدت ذلك لوصفين من اجتماعهما. أحدهما : كبر السن. والثاني : العقم ، لأنها كانت لا تلد في صغر سنها ، وعنفوان شبابها ، ثم عجزت وأيست فاستبعدت ، فكأنها قالت : يا ليتكم دعوتم دعاءً قريباً من الإجابة ، ظناً منها أن ذلك منهم ، كما يصدر من الضيف على سبيل الأخبار من الأدعية كقول الداعي : الله يعطيك مالاً ويرزقك ولداً ، فقالوا : هذا منا ليس بدعاء. وإنما ذلك قول الله تعالى : {قَالُوا كَذَالِكِ قَالَ رَبُّكِ } ثم دفعوا استبعادها بقولهم : {إِنَّه هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} .
وقد ذكرنا تفسيرهما مراراً ، فإن قيل لم قال ههنا {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} وقال في هود : {حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود : 73) نقول لما بينا أن الحكاية هناك أبسط ، فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقولهم : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه } (هود : 73) ثم لما صدقت أرشدوهم إلى القيام بشكر نعم الله ، وذكروهم بنعمته بقولهم : {حَمِيدٌ} فإن الحميد هو الذي يتحقق منه الأفعال الحسنة ، وقولهم : {مَّجِيدٌ} إشارة إلى أن الفائق العالي الهمة لا يحمده لفعله الجميل ، وإنما يحمده ويسبح له لنفسه ، وههنا لما لم يقولوا : {أَتَعْجَبِينَ} إشارة إلى ما يدفع تعجبها من التنبيه على حكمه وعلمه ، وفيه لطيفة وهي أن هذا الترتيب مراعى في السورتين ، فالحميد يتعلق بالفعل ، والمجيد يتعلق بالقول ، وكذلك الحكيم هو الذي فعله ، كما ينبغي لعلمه قاصداً لذلك الوجه بخلاف من يتفق فعله موافقاً للمقصود اتفاقاً ، كمن ينقلب على جنبه فيقتل حية وهو نائم ، فائدة لا يقال له حكيم ، وأما إذا فعل فعلاً قاصداً لقتلها بحيث يسلم عن نهشها ، يقال له حكيم فيه ، والعليم راجع إلى الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد بمجده ، وإن لم يفعل فعلاً وهو قاصد لعلمه ، وإن لم يفعل على وفق القاصد. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 179
180
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لما علم حالهم بدليل قوله : {مُّنكَرُونَ} (الذاريات : 25) لِم لَم يقنع بما بشروه لجواز أن يكون نزولهم للبشارة لا غير ؟
نقول إبراهيم عليه السلام أتى بما هو من آداب المضيف حيق يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج ما هذه العجلة ، وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ، ولا يسكت عند خروجهم مخافة أن يكون سكوته يوهم استثقالهم ، ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسر عن الصديق الصدوق ، لا سيما وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه السلام على إهلاكهم ، وجبر قلبه بتقديم البشارة بخير البدل ، وهو أبو الأنبياء إسحاق عليه السلام على الصحيح ، فإن قيل فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ، ولو كان كما ذكرتم لقال ماهذا / الاستعجال ، وما خطبكم المعجل لكم ؟
نقول : لو كان أوجس منهم خيفة وخرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً ، فلما آنسوه قال : ما خطبكم ، أي بعد هذا الأنس العظيم ، ما هذا الإيحاش الأليم.
المسألة الثانية : هل في الخطب فائدة لا توجد في غيره من الألفاظ ؟
نقول : نعم ، وذلك من حيث إن الألفاظ المفردة التي يقرب منها الشغل والأمر والفعل وأمثالها ، وكل ذلك لا يدل على عظم الأمر ، وأما الخطب فهو الأمر العظيم ، وعظم الشأن يدل على عظم من على يده ينقضي ، فقال : {مَا خَطْبُكُمَا } أي لعظمتكم لا ترسلون إلا في عظيم ، ولو قال بلفظ مركب بأن يقول ما شغلكم الخطير وأمركم العظيم للزم التطويل ، فالخطب أفاد التعظيم مع الإيجاز.
المسألة الثالثة : من أين عرف كونهم مرسلين ، فنقول قالوا له بدليل قوله تعالى : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (هود : 70) وإنما لم يذكر ههنا لما بينا أن الحكاية ببسطها مذكورة في سورة هود ، أو نقول لما قالوا لامرأته : {كَذَالِكِ قَالَ رَبُّكِ } (الذاريات : 30) علم كونهم منزلين من عند الله حيث كانوا يحكون قول الله تعالى ، يدل على هذا أن قولهم : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} كان جواب سؤاله منهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 180
181
(1/4176)

المسألة الرابعة : هذه الحكاية بعينها هي المحكية في هود ، وهناك قالوا : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ} (هود : 70) بعد ما زال عنه الروع وبشروه ، وهنا قالوا : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ} بعدما سألهم عن الخطب ، وأيضاً قالوا هناك : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (هود : 70) وقالوا ههنا : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} والحكاية من قولهم ، فإن لم يقولوا ذلك ورد السؤال أيضاً ، فنقول إذا قال قائل حاكياً عن زيد : قال زيد عمرو خرج ، ثم يقول مرة أخرى : قال زيد إن بكراً خرج ، فإما أن يكون صدر من زيد قولان ، وإما أن لا يكون حاكياً مما قاله زيد ، والجواب عن الأول : هو أنه لما خاف جاز أنهم ما قالوا له {لا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} فلما قال لهم ماذا تفعلون بهم ، كان لهم أن يقولوا : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} لنهلكهم ، كما يقول القائل : خرجت من البيت ، فيقال : لماذا خرجت ؟
فيقول : خرجت لأتجر ، لكن ههنا فائدة معنوية ، وهي أنهم إنما قالوا في جواب ما خطبكم نهلكهم ؟
بأمر الله ، لتعلم براءتهم عن إيلام البريء ، وإهمال الرديء فأعادوا لفظ الإرسال ، وأما عن الثاني : نقول الحكاية قد تكون حكاية اللفظ ، كما تقول : قال زيد بعمرو مررت ، فيحكي لفظه المحكي ، وقد يكون حكاية لكلامه بمعناه تقول : زيد قال عمرو خرج ، ولك أن تبدل مرة أخرى في غير تلك الحكاية بلفظة أخرى ، فتقول لما قال زيد بكر خرج ، قلت كيت وكيت ، كذلك ههنا القرآن لفظ معجز ، وما صدر ممن تقدم نبينا عليه السلام سوا كان منهم ، وسواء كان منزلاً عليهم لم يكن لفظه معجزاً ، فيلزم أن لا تكون هذه الحكايات بتلك الألفاظ ، فكأنهم قالوا له : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} وقالوا : / {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} وله أن يقول ، إنا أرسلنا إلى قوم من آمن بك ، لأنه لا يحكي لفظهم حتى يكون ذلك واحداً ، بل يحكي كلامهم بمعناه وله عبارات كثيرة. ألا ترى أنه تعالى لما حكى لفظهم في السلام على أحد الوجوه في التفسير ، قال في الموضعين : سلاماً وسلام ثم بيّن ما لأجله أرسلوا بقوله :
جزء : 28 رقم الصفحة : 181
181
وقد فسرنا ذلك في العنكبوت ، وقلنا : إن ذلك دليل على وجوب الرمي بالحجارة على اللائط وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أي حاجة إلى قوم من الملائكة ، وواحد منهم كان يقلب المدائن بريشة من جناحه ؟
نقول الملك القادر قد يأمر الحقير بإهلاك الرجل الخطير ، ويأمر الرجل الخطير بخدمة الشخص الحقير ، إظهاراً لنفاذ أمره ، فحيث أهلك الخلق الكثير بالقمل والجراد والبعوض بل بالريح التي بها الحياة ، كان أظهر في القدرة وحيث أمر آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم كان أظهر في نفاذ الأمر وفيه فائدة أخرى ، وهي أن من يكون تحت طاعة ملك عظيم ، ويظهر له عدو ويستعين بالملك فيعينه بأكابر عسكره ، يكون ذلك تعظيماً منه له وكلما كان العدو أكثر والمدد أوفر كان التعظيم أتم ، لكن الله تعالى أعان لوطاً بعشرة ونبينا عليه السلام بخمسة آلاف ، وبين العددين من التفاوت ما لا يخفى وقد ذكرنا نبذاً منه في تفسير قوله تعالى : {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ} (يس : 28).
المسألة الثانية : ما الفائدة في تأكيد الحجارة بكونها من طين ؟
نقول : لأن بعض الناس يسمي البرد حجارة فقوله : {مِّن طِينٍ} يدفع ذلك التوهم ، واعلم أن بعض من يدعي النظر يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدورات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة ، قالوا : وسبب ذلك هو أن الإعصار يصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ، ويتفق وصول ذلك إلى هواء ندي ، فيصير طيناً رطباً ، والرطب إذا نزل وتفرق واستدار ، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات مدورات كاللآلىء الكبار ، ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو ، جعلته حجارة كالآجر المطبوخ ، فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه ، وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به ، ولهذا قال : {مِّن طِينٍ} لأن ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف ، ومن يكون كامل العقل يسند الفكر إلى مما قاله ذلك القائل ، فيقول ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر يلزم التسلسل ولا بد من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث ، فذلك المحدث لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً ، والمختار له أن يفعل ما ذكر وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار ، لكن العقل لا طريق له إلى الجزم / بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه يجب أخذه بالنقل ، والنص ورد به فأخذنا به ولا نعلم الكيفية وإنما المعلوم أن الحجارة التي من طين نزولها من السماء أغرب وأعجب من غيرها ، لأنها في العادة لا بد لها من مكث في النار.
(1/4177)

جزء : 28 رقم الصفحة : 181
181
فيه وجوه. أحدها : مكتوب على كل واحد اسم واحد يقتل به. ثانيها : أنها خلقت باسمهم ولتعذيبهم بخلاف سائر الأحجار فإنها مخلوقة للانتفاع في الأبنية وغيرها. ثالثها : مرسلة للمجرمين لأن الإرسال يقال في السوائم يقال أرسلها لترعى فيجوز أن يقول سومها بمعنى أرسلها وبهذا يفسر قوله تعالى : {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} (آل عمران : 14) إشارة إلى الاستغناء عنها وأنها ليست للركوب ليكون أدل على الغنى ، كما قال : {وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} (آل عمران : 14) وقوله تعالى : {لِلْمُسْرِفِينَ} إشارة إلى خلاف ما يقول الطبيعيون إن الحجارة إذا أصابت واحداً من الناس فذلك نوع من الاتفاق فإنها تنزل بطبعها يتفق شخص لها فتصيبه فقوله : {مُّسَوَّمَةً} أي في أول ما خلق وأرسل إذا علم هذا فإنما كان ذلك على قصد إهلاك المسرفين ، فإن قيل : إذا كانت الحجارة مسومة للمسرفين فكيف قالوا : {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} (الذاريات : 32 ، 33) مع أن المسرف غير المجرم في اللغة ؟
نقول : المجرم هو الآتي بالذنب العظيم لأن الجرم فيه دلالة على العظم ومنه جرم الشيء لعظمة مقداره ، والمسرف هو الآتي بالكبيرة ، ومن أسرف ولو في الصغائر يصير مجرماً لأن الصغير إلى الصغير إذا انضم صار كبيراً ، ومن أجرم فقد أسرف لأنه أتى بالكبيرة ولو دفعة واحدة فالوصفان اجتمعا فيهم. لكن فيه لطيفة معنوية ، وهي أن الله تعالى سومها للمسرف المصر الذي لا يترك الجرم والعلم بالأمور المستقبلة عند الله تعالى ، يعلم أنهم مسرفون فأمر الملائكة بإرسالها عليهم ، وأما الملائكة فعلمهم تعلق بالحاضر وهم كانوا مجرمون فقالوا : إنا أرسلنا إلى قوم نعلمهم مجرمين لنرسل عليهم حجارة خلقت لمن لا يؤمن ويصر ويسرف ولزم من هذا علمنا بأنهم لو عاشوا سنين لتمادوا في الإجرام ، فإن قيل اللام لتعريف الجنس أو لتعريف العهد ؟
نقول لتعريف العهد أي مسومة لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسومة ، فإن قيل ما إسرافهم ؟
نقول ما دل عليه قوله تعالى : {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ} (العنكبوت : 28) أي لم يبلغ مبلغكم أحد وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 181
182
فيه فائدتان :
إحداهما : بيان القدرة والاختيار فإن من يقول بالاتفاق يقول يصيب البر والفاجر فلما ميز الله المجرم عن المحسن دل على الاختيار.
/ ثانيها : بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك ، والضمير عائد إلى القرية معلومة وإن لم تكن مذكورة وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 182
182
فيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين ، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ، وقيل في مثاله إن العالم كبدن ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والكفار والفساق كالسموم الواردة عليه الضارة ، ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه المضار هلك وإن خلا عن المضار وفيه المنافع طاب عيشه ونما ، وإن وجد فيه كلاهما فالحكم للغالب فكذلك البلاد والعباد والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة ، والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه ، فإذا سمي المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما ، فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين ، وهذا كما لو قال قائل لغيره : من في البيت من الناس ؟
فيكول له : ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد ، فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 182
182
(1/4178)

وفي الآية خلاف. قيل : هو ماء أسود منتن انشقت أرضهم وخرج منها ذلك ، وقيل : حجارة مرمية في ديارهم وهي بين الشام والحجاز ، وقوله : {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الالِيمَ} أي المنتفع بها هو الخائف ، كما قال تعالى : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (العنكبوت : 45) في سورة العنكبوت ، وبينهما في اللفظ فرق قال ههنا : {ءَايَةً} وقال هناك : {بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ} وقال هناك : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال ههنا : {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ} فهل في المعنى فرق ؟
نقول هناك مذكور بأبلغ وجه يدل عليه قوله تعالى : {بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ} حيث وصفها بالظهور ، وكذلك منها وفيها فإن من للتبعيض ، فكأنه تعالى قال : من نفسها لكم آية باقية ، وكذلك قال : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن العاقل أعم من الخائف ، فكانت الآية هناك أظهر ، وسببه ما ذكرنا أن القصد هناك تخويف القوم ، وههنا تسلية القلب ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذاريات : 35 ، 36) وقال هناك : {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} (العنكبوت : 33) من غير بيان وافٍ بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم. / ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 182
183
قوله : {وَفِى مُوسَى } يحتمل أن يكون معطوفاً على معلوم ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على مذكور ، أما الأول ففيه وجوه. الأول : أن يكون المراد ذلك في إبراهيم وفي موسى ، لأن من ذكر إبراهيم يعلم ذلك. الثاني : لقوم في لوط وقومه عبرة ، وفي موسى وفرعون. الثالث : أن يكون هناك معنى قوله تعالى : تفكروا في إبراهيم ولوط وقومهما ، وفي موسى وفرعون ، والكل قريب بعضه من بعض ، وأما الثاني ففيه أيضاً وجوه. أحدها : أنه عطف على قوله : {وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} (الذاريات : 20) ، {وَفِى مُوسَى } وهو بعيد لبعده في الذكر ، ولعدم المناسبة بينهما. ثانيها : أنه عطف على قوله : {وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ} (الذاريات : 37) ، {وَفِى مُوسَى } أي وجعلنا في موسى على طريقة قولهم : علفتها تبناً وماءً بارداً ، وتقلدت سيفاً ورمحاً ، وهو أقرب ، ولا يخلو عن تعسف إذا قلنا بما قال به بعض المفسرين إن الضمير في قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا فِيهَآ} عائد إلى القرية. ثالثها : أن نقول فيها راجع إلى الحكاية ، فيكون التقدير : وتركنا في حكايتهم آية أو في قصتهم ، فيكون : وفي قصة موسى آية ، وهو قريب من الاحتمال الأول ، وهو العطف على المعلوم. رابعها : أن يكون عطفاً على {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} (الذاريات : 24) وتقديره : وفي موسى حديث إذ أرسلناه ، وهو مناسب إذ جمع الله كثيراً من ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام ، كما قال تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى } (النجم : 36) وقال تعالى : {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (الأعلى : 19) والسلطان القوة بالحجة والبرهان ، والمبين الفارق ، وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون المراد منه ما كان معه من البراهين القاطعة التي حاج بها فرعون ، ويحتمل أن يكون المراد المعجز الفارق بين سحر الساحر وأمر المسلمين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 183
184
قوله تعالى : {فَتَوَلَّى بِرُكْنِه } فيه وجوه. الأول : الباء للمصاحبة ، والركن إشارة إلى القوم كأنه تعالى يقول : أعرض مع قومه ، يقال نزل فلان بعسكره على كذا ، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى : {فَأَرَاـاهُ الايَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } (النازعات : 20 ـ 22) قال : {أَدْبَرَ} وهو بمعنى تولى وقوله : {فَحَشَرَ فَنَادَى } (النازعات : 23) وفي معنى قوله تعالى : {بِرُكْنِه } . الثاني : {فَتَوَلَّى } أي اتخذ ولياً ، والباء للتعدية حينئذ يعني تقوى بجنده. والثالث : تولى أمر موسى بقوته ، كأنه قال : أقتل موسى لئلا يبدل دينكم ، ولا يظهر في الأرض الفساد ، فتولى أمره بنفسه ، وحينئذ يكون المفعول غير مذكور ، وركنه هو نفسه القوية ، ويحتمل أن يكون المراد من ركنه هامان ، فإنه كان وزيره ، وعلى هذا الوجه الثاني أظهر.
{وَقَالَ سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي هذا ساحر أو مجنون ، وقوله : {سَـاحِرٌ} أي يأتي الجن بسحره / أو يقرب منهم ، والجن يقربون منه ويقصدونه إن كان هو لا يقصدهم ، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن ، غير أن الساحر يأتيهم باختياره ، والمجنون يأتونه من غير اختياره ، فكأنه أراد صيانة كلامه عن الكذب فقال هو يسحر الجن أو يسحر ، فإن كان ليس عنده منه خبر ، ولا يقصد ذلك فالجن يأتونه ، ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 184
185
(1/4179)

وهو إشارة إلى بعض ما أتى به ، كأنه يقول : واتخذ الأولياء فلم ينفعوه ، وأخذه الله وأخذ أركانه وألقاهم جميعاً في اليم وهو البحر ، والحكاية مشهورة ، وقوله تعالى : }وهو مليم} نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين ، أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله : إني أُريد هلاك أعدائك يا إله العالمين ، فلم يكن له سبب إلا هذا ، أما فرعون فقال : وهو مليم} نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين ، أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله : إني أُريد هلاك أعدائك يا إله العالمين ، فلم يكن له سبب إلا هذا ، أما فرعون فقال : نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين ، أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله : إني أُريد هلاك أعدائك يا إله العالمين ، فلم يكن له سبب إلا هذا ، أما فرعون فقال : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } (النازعات : 24) فكان سببه تلك ، وهذا كما قال القائل : فلان عيبه أنه سارق ، أو قاتل ، أو يعاشر الناس يؤذيهم ، وفلان عيبه أنه مشغول بنفسه لا يعاشر ، فتكون نسبة العيبين بعضهما إلى بعض سبباً لمدح أحدهما وذم الآخر. وأما بشارة المؤمنين فهو بسبب أن من التقمه الحوت وهو مليم نجاه الله تعالى بتسبيحه ، ومن أهلكه الله بتعذيبه لم ينفعه إيمانه حين قال : {وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه بَغْيًا وَعَدْوًا } (يونس : 90). ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 185
185
وفيه ما ذكرنا من الوجوه التي ذكرناها في عطف موسى عليه السلام ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر أن المقصود ههنا تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم وتذكيره بحال الأنبياء ، ولم يذكر في عاد وثمود أنبياءهم ، كما ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام ، نقول في ذكر الآيات ست حكايات : حكاية إبراهيم عليه السلام وبشارته ، وحكاية قوم لوط ونجاة من كان فيها من المؤمنين ، وحكاية موسى عليه السلام ، وفي هذه الحكايات الثلاث ذكر الرسل والمؤمنين ، لأن الناجين فيهم كانوا كثيرين ، أما في حق إبراهيم وموسى عليهما السلام فظاهر ، وأما في قوم لوط فلأن الناجين ، وإن كانوا أهل بيت واحد ، ولكن المهلكين كانوا أيضاً أهل بقعة واحدة.
وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين أضعاف ما كان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين من قوم لوط عليه السلام.
فذكر الحكايات الثلاثَ الأول للتسلية بالنجاة ، وذكر الثلاث المتأخرة للتسلية بإهلاك العدو ، والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات : {كَذَالِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} إلى أن قال : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات : 54/ 55).
وفي هود قال بعد الحكايات : {ذَالِكَ مِنْ أَنابَآءِ الْقُرَى نَقُصُّه عَلَيْكَ } إلى أن قال : {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌا إِنَّ أَخْذَه ا أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود : 100 ـ 102) فذكر بعدها ما يؤكد التهديد ، وذكر بعد الحكايات ههنا ما يفيد التسلي ، وقوله : {الْعَقِيمَ} أي ليست من اللواقح لأنها كانت تكسر وتقلع فكيف كانت تلقح والفعيل لا يلحق به تاء التأنيث إذا كان بمعنى مفعول وكذلك إذا كان بمعنى فاعل في بعض الصور ، وقد ذكرنا سببه أن فعيل لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه لو تميز لتميز الفاعل عن المفعول قبل تميز المؤنث والمذكر لأن الفاعل جزء من الكلام محتاج إليه فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل والمفعول ، تقول فاعل وفاعلة ومفعول ومفعولة ، ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل فاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة ، وقيل مفعول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة فالمميز فيهما غير نظم الكلمة لشدة الحاجة وفي التأنيث لم يؤثر ، ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كل واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف عند وجوده يميز المؤنث وعند عدمه يبقى اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن فعيل يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بحرف ير متصل به وقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 185
185
وفيه مباحث :
(1/4180)

الأول : في إعرابه وفيه وجهان. أحدهما : نصب على أنه صفة الريح بعد صفة العقيم ذكر الواحدي أنه وصف فإن قيل كيف يكون وصفاً والمعرفة لا توصف بالجمل وما تذر جملة ولا يوصف بها إلا النكرات ؟
نقول الجواب فيه من وجهين. أحدهما : أنه يكون بإعادة الريح تقديراً كأنه يقول : وأرسلنا عليهم الريح العقيم ريحاً ما تذر. ثانيهما : هو أن المعرف نكرة لأن تلك الريح منكرة كأنه يقول : وأرسلنا الريح التي لم تكن من الرياح التي تقع ولا وقع مثلها فهي لشدتها منكرة ، ولهذا أكثر ما ذكرها في القرآن ذكرها منكرة ووصفها بالجملة من جملتها قوله تعالى : {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِه ا رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأحقاف : 24) وقوله : {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الحاقة : 6 ، 6) إلى غير ذلك. الوجه الثاني : وهو الأصح أنه نصب على الحال تقول جاءني ما يفهم شيئاً فعلمته وفهمته أي حاله كذا ، فإن قيل لم تكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذي الحال وقت الفعل / فلا يجوز أن يقال جاءني زيد أمس راكباً غداً ، والريح بعدما أرست بزمان صارت ما تذر شيئاً نقول المراد به البيان بالصلاحية أي أرسلناها وهي على قوة وصلاحية أن لا تذر ، نقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً ، جئتني سائلاً أي قبل السؤال بالصلاحية والإمكان ، هذا إن قلنا إنه نصب وهو المشهور ، ويحتمل أنه رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ما تذر.
البحث الثاني : {مَا تَذَرُ} للنفي حال التكلم يقال ما يخرج زيد أي الآن ، وإذا أردت المستقبل تقول لا يخرج أو لن يخرج ، وأما الماضي تقول ما خرج ولم يخرج ، والريح حالة الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلّم كانت ما تركت شيئاً إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحالة {مَا تَذَرُ} نقول الحكاية مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ، ولهذا قال تعالى : {وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } (الكهف : 18) مع أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما يعمل ما كان منه بمعنى الحال والاستقبال.
جزء : 28 رقم الصفحة : 185
البحث الثالث : هل في قوله تعالى : {مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} مبالغة ودخول تخصيص كما في قوله تعالى : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءا بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف : 25) نقول هو كما وقع لأن قوله : {أَتَتْ عَلَيْهِ} وصف لقوله : {شَىْءٍ} كأنه قال كل شيء أتت عليه أو كل شيء تأتي عليه جعلته كالرميم ولا يدخل فيه السموات لأنها ما أتت عليها وإنما يدخل فيه الأجسام التي تهب عليها الرياح ، فإن قيل فالجبال والصخور أتت عليها وما جعلتها كالرميم ؟
نقول المراد أتت عليه قصداً وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم وذلك لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة إياهم فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم مع أن الصر الريح الباردة والمكرر لا ينفك عن المعنى الذي في اللفظ من غير تكرير ، تقول حث وحثحث وفيه ما في حث نقول فيه قولان. أحدهما : أنها كانت باردة فكانت في أيام العجوز وهي ثمانية أيام من آخر شباط وأول آذار ، والريح الباردة من شدة بردها تحرق الأشجار والثمار وغيرهما وتسودهما. والثاني : أنها كانت حارة والصر هو الشديد لا البارد وبالشدة فسّر قوله تعالى : {فِى صَرَّةٍ} (الذاريات : 29) أي في شدة من الحر.
البحث الرابع : في قوله تعالى : {مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} لأن في قوله تعالى : {مَا تَذَرُ} نفي الترك مع إثبات الإتيان فكأنه تعالى قال تأتي على أشياء وما تتركها غير محرقة وقول القائل : ما أتى على شيء إلا جعله كذا يكون نفي الإتيان عما لم يجعله كذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 185
186
قوله تعالى : {وَفِى ثَمُودَ} والبحث فيه وفي عاد هو ما تقدم في قوله تعالى : {وَفِى مُوسَى } (الذاريات : 38).
وقوله تعالى : {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} قال بعض المفسرين : المراد منه هو ما أمهلهم الله ثلاثة أيام بعد قتلهم الناقة وكانت في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتصفر وجوههم وتسود ، وهو ضعيف لأن قوله تعالى : {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} (الذاريات : 44) بحرف الفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله : / {تَمَتَّعُوا } فإن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال ، فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل يقول له تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب. وقوله :
جزء : 28 رقم الصفحة : 186
186
(1/4181)

فيه بحث وهو أن عتا يستعمل بعلى قال تعالى : }أيهم أشد على الرحمن عتياً} (مريم : 69) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى : أيهم أشد على الرحمن عتياً} (مريم : 69) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى : (مريم : 69) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى : {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} كان كقوله : {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأعراف : 206) وحيث قال على كان كقول القائل فلان يتكبر علينا ، والصاعقة فيه وجهان ذكرناهما هنا. أحدها : أنها الواقعة. والثاني : الصوت الشديد وقوله : {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إشارة إلى أحد معنيين إما بمعنى تسليمهم وعدم قدرتهم على الدفع كما يقول القائل للمضروب يضربك فلان وأنت تنظر إشارة إلى أنه لا يدفع ، وإما بمعنى أن العذاب أتاهم لا على غفلة بل أنذروا به من قبل بثلاثة أيام وانتظروه ، ولو كان على غفلة لكان لمتوهم أن يتوهم أنهم أخذوا على غفلة أخذ العاجل المحتاج ، كما يقول المبارز الشجاع أخبرتك بقصدي إياك فانتظرني.
جزء : 28 رقم الصفحة : 186
188
وقوله تعالى : {فَمَا اسْتَطَـاعُوا مِن قِيَامٍ} يحتمل وجهين. أحدهما : أنه لبيان عجزهم عن الهرب والفرار على سبيل المبالغة ، فإن من لا يقدر على قيام كيف يمشي فضلاً عن أن يهرب ، وعلى هذا فيه لطائف لفظية. إحداها : قوله تعالى : {فَمَا اسْتَطَـاعُوا } فإن الاستطاعة دون القدرة ، لأن في الاستطاعة دلالة الطلب وهو ينبىء عن عدم القدرة والاستقلال ، فمن استطاع شيئاً كان دون من يقدر عليه ، ولهذا يقول المتكلمون الاستطاعة مع الفعل أو قبل الفعل إشارة إلى قدرة مطلوبه من الله تعالى مأخوذة منه وإليه الإشارة بقوله تعالى : {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} (المائدة : 112) على قراءة من قرأ بالتاء وقوله : {فَمَا اسْتَطَـاعُوا } أبلغ من قول القائل ما قدروا على قيام. ثانيها : قوله تعالى : {مِن قِيَامٍ} بزيادة من ، وقد عرفت ما فيه من التأكيد. ثالثها : قوله : {قِيَامٍ} بدل قوله هرب لما بينا أن العاجز عن القيام أولى أن يعجز عن الهرب. الوجه الثاني : هو أن المراد من قيام القيام بالأمر ، أي ما استطاعوا من قيام به.
وقوله تعالى : {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} أي ما استطاعوا الهزيمة والهرب ، ومن لا يقدر عليه يقاتل وينتصر بكل ما يمكنه لأنه يدفع عن الروح وهم مع ذلك ما كانوا منتصرين ، وقد عرفت أن قول القائل ما هو بمنتصر أبلغ من قوله ما انتصر ولا ينتصر والجواب ترك مع كونه يجب تقديره وقوله : / {وَلَمَنِ انتَصَرَ} أي لشيء من شأنه ذلك ، كما تقول فلان لا ينصر أو فلان ليس ينصر. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
188
قرىء : {قَوْمٌ} بالجر والنصب فما وجههما ؟
نقول : أما الجر فظاهر عطفاً على ما تقدم في قوله تعالى : {وَفِى عَادٍ} (الذاريات : 41) {وَفِى مُوسَى } (الذاريات : 38) ، تقول لك في فلان عبرة وفي فلان وفلان ، وأما النصب فعلى تقدير : وأهلكنا قوم نوح من قبل ، لأن ما تقدم دلّ على الهلاك فهو عطف على المحل ، وعلى هذا فقوله : {مِّن قَبْلُ } معناه ظاهر كأنه يقول : {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَـالِحٍا وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} وأما على الوجه الأول فتقديره : وفي قوم نوح لكم عبرة من قبل ثمود وعاد وغيرهم. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
188
وهو بيان للوحدانية ، وما تقدم كان بياناً للحشر.
وأما قوله ههنا : {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا بِأَى يْدٍ} وأنتم تعرفون أن ما تعبدون من دون الله ما خلقوا منها شيئاً فلا يصح الإشراك ، ويمكن أن يقال هذا عود بعد التهديد إلى إقامة الدليل ، وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانياً ، كما قال تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : النصب على شريطة التفسير يختار في مواضع ، وإذا كان العطف على جملة فعليه فما تلك الجملة ؟
نقول في بعض الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى : {وَفِى عَادٍ} (الذاريات : 41) {وَفِى ثَمُودَ} (الذاريات : 43) تقديره وهل أتاك حديث عاد وهل أتاك حديث ثمود ، عطفاً على قوله : {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (الذاريات : 24) وعلى هذا يكون ما تقدم جملة فعلية لا خفاء فيه ، وعلى غير ذلك الوجه فالجار والمجرور النصب أقرب منه إلى الرفع فكان عطفاً على ما بالنصب أولى ، ولأن قوله تعالى : {فَنَبَذْنَـاهُمْ} (الذاريات : 40) وقوله : {أُرْسِلْنَآ} (الذاريات : 32) وقوله تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ} (الذاريات : 44) و{فَمَا اسْتَطَـاعُوا } (الذاريات : 45) كلها فعليات فصار النصب مختاراً.
(1/4182)

المسألة الثانية : كرر ذكر البناء في السموات ، قال تعالى : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} (الشمس : 5) وقال تعالى : {أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا} (النازعات : 27) وقال تعالى : {جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} (غافر : 65) فما الحكمة فيه ؟
نقول فيه وجوه. أحدها : أن البناء باق إلى قيام القيامة لم يسقط منه شيء ولم يعدم منه جزء ، وأما الأرض فهي في التبدل والتغير فهي كالفرش الذي يبسط ويطوي وينقل ، والسماء كالبناء المبني الثابت ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {سَبْعًا شِدَادًا} (النبأ : 12) وأما الأراضي فكم منها ما صار بحراً وعاد أرضاً من وقت / حدوثها. ثانيها : أن السماء ترى كالقبة المبنية فوق الرؤوس ، والأرض مبسوطة مدحوة والبناء بالمرفوع أليق ، كما قال تعالى : {رَفَعَ سَمْكَهَا} (النازعات : 28). ثالثها : قال بعض الحكماء : السماء مسكن الأرواح والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناء والله أعلم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
المسألة الثالثة : الأصل تقديم العامل على المعمول والفعل هو العامل فقوله : {بُنْيَـانًا } عامل في السماء ، فما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال : وبنينا السماء بأيد ، كان أوجز ؟
نقول الصانع قبل الصنع عند الناظر في المعرفة ، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع ، قدم الدليل فقال والسماء المزينة التي لا تشكون فيها بنيناها فاعرفونا بها إن كنتم لا تعرفوننا.
المسألة الرابعة : إذا كان المقصود إثبات التوحيد ، فكيف قال : {بَنَيْنَـاهَا} ولم يقل بنيتها أو بناها الله ؟
نقول قوله : {بُنْيَـانًا } أدل على عدم الشريك في التصرف والاستبداد وقوله بنيتها يمكن أن يكون فيه تشريك ، وتمام التقرير هو أن قوله تعالى : {بَنَيْنَـاهَا} لا يورث إيهاماً بأن الآلها التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير في {بَنَيْنَـاهَا} لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صورها وطبائعها ، فأما الأصنام المنحوتة فلا يشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً ، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها/ وإنما يمكن أن يقال إنما بنيت لها وجعلت أماكنها ، فلما لم يتوهم ما قالوا قال بنينا نحن ونحن غير ما يقولون ويدعون فلا يصلحون لنا شركاء لأن كل ما هو غير السماء ودون السماء في المرتبة فلا يكون خالق السماء وبانيها فإذن علم أن المراد جمع التعظيم وأفاد النص عظمته ، فالعظمة أنفى للشريك فثبت أن قوله : {بَنَيْنَـاهَا} أدل على نفي الشريك من بنيتها وبناها الله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
فإن قيل : لم قلت : إن الجمع يدل على التعظيم ؟
قلنا الجواب من الوجهين. الأول : أن الكلام على قدر فهم السامع ، والسامع هو الإنسان ، والإنسان يقيس الشاهد على الغائب ، فإن الكبير عندهم من يفعل الشيء بجنده وخدمه ولا يباشر بنفسه ، فيقول الملك فعلنا أي فعله عبادنا بأمرنا ويكون في ذلك تعظيم ، فكذلك في حق الغائب. الوجه الآخر : هو أن القول إذا وقع من واحد وكان الغير به راضياً يقول القائل فعلنا كلنا كذا وإذا اجتمع جمع على فعل لا يقع إلا بالبعض ، كما إذا خرج جم غفير وجمع كثير لقتل سبع وقتلوه يقال قتله أهل بلدة كذا لرضا الكل به وقصد الكل إليه ، إذا عرفت هذا فالله تعالى كيفما أمر بفعل شيء لا يكون لأحد رده وكان كل واحد منقاداً له ، يقول بدل فعلت فعلنا ، ولهذا الملك العظيم أجمعنا بحيث لا ينكره أحد ولا يرده نفس ، وقوله تعالى : {بِأَى يْدٍ} أي قوة والأيد القوة هذا هو المشهور وبه فسّر قوله تعالى : {ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ} (ص : 17) يحتمل أن يقال إن المراد جمع اليد ، ودليله أنه قال تعالى : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } (ص : 75) وقال تعالى : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا} (يس : 71) وهو راجع في الحقيقة إلى المعنى الأول وعلى هذا فحيث قال : {خَلَقْتُ} قال : {بِيَدَىَّ } وحيث قال : {بِأَى يْدٍ} لمقابلة الجمع بالجمع ، فإن قيل فلم لم يقل بنيناها بأيدينا وقال : {وَمَا عَلَّمْتُم} ؟
نقول لفائدة / جليلة ، وهي أن السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة لغير الله والأنعام ليست كذلك ، فقال هناك : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة وكذلك {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } وفي السماء {بِأَى يْدٍ} من غير إضافة للاستغناء عنها وفيه لطيفة أخرى وهي أن هناك لما أثبت الإضافة بعد حذف الضمير العائد إلى المفعول ، فلم يقل خلقته بيدي ولا قال عملته أيدينا وقال ههنا : {بَنَيْنَـاهَا} لأن هناك لم يخطر ببال أحد أن الإنسان غير مخلوق وأن الحيوان غير معمول فلم يقل خلقته ولا عملته وأما السماء فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة فقال : {بَنَيْنَـاهَا} بعود الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
(1/4183)

وقوله تعالى : {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فيه وجوه. أحدها : أنه من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط به من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة ، والبناء الواسع الفضاء عجيب فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. ثانيها : قوله : }وإنا لموسعون} أي لقادرون ومنه قوله تعالى : وإنا لموسعون} أي لقادرون ومنه قوله تعالى : أي لقادرون ومنه قوله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) أي قدرتها والمناسبة حينئذ ظاهرة ، ويحتمل أن يقال بأن ذلك حينئذ إشارة إلى المقصود الآخر وهو الحشر كأنه يقول : بنينا السماء ، وإنا لقادرون على أن نخلق أمثالها ، كما في قوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81). ثالثها : {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الرزق على الخلق. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
استدلالاً بالأرض وقد علم ما في قوله : {وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا} وفيه دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش ، وقوله تعالى : {فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ} أي نحن أو فنعم الماهدون ماهدوها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
ثم قال تعالى : {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} استدلالاً بما بينهما والزوجان إما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك ، وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند ، قال المنطقيون المراد بالشيء الجنس وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان فمن كل جنس خلق نوعين من الجوهر مثلاً المادي والمجرد ، ومن المادي النامي والجامد ومن النامي المدرك والنبات من المدرك للناطق والصامت ، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه.
وقوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لعلّكم تذكرون أن خالق الأزواج لا يكون له زوج وإلا لكان ممكناً فيكون مخلوقاً ولا يكون خالقاً ، أو {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أن خالق الأزواج لا يعجز عن حشر الأجسام وجمع الأرواح. / ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
أمر بالتوحيد ، وفيه لطائف. الأولى : قوله تعالى : {فَفِرُّوا } ينبىء عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع ، فافزعوا إلى الله سريعاً وفروا. الثانية : قوله تعالى : {إِلَى اللَّه } بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين ، إما لكونه معلوماً وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (فاطر : 6) وإما ليكون عاماً كأنه يقول : كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه ، وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر ، ويفوت عليكم ما هو الحق والخير ، ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو ، وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه. والثالثة : الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركاً مؤبداً. الرابعة : في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال : {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا} (الذاريات : 47) {وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا} (الذاريات : 48) {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا} (الذاريات : 49) ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ولم يقل ففروا إلينا ، وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيراً ، وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيراً ، ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة ، ويجعل الكلام مختلفاً ، نوعاً ترغيباً ونوعاً ترهيباً ، وتنبيهاً بالحكاية ، ثم يقول لغيره تكلم معه لعلّ كلامك ينفع ، لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر ، والله تعالى ذكر أنواعاً من الكلام وكثيراً من الاستدلالات والآيات وذكر طرفاً صالحاً من الحكايات ، ثم ذكر كلاماً من متكلم آخر هو النبي صلى الله عليه وسلّم ، ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله : {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ} إشارة إلى الرسالة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
(1/4184)

وفيه أيضاً لطائف. إحداها : أن الله تعالى بيّن عظمته بقوله : {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا} {وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا} وهيبته بقوله : {فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ} (القصص : 40) وقوله تعالى : {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات : 48) وقوله : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ} (النسا : 153) وفيه إشارة إلى أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار ، فحكايات لوط تدل على أن التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء والماء كذلك في قوم فرعون والهواء في عاد والنار في ثمود ، ولعلّ ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئاً منه ، ثم إذا أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة. ثانيها : في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وههنا ذكر الكل ، فقوله : {لَكُم} إشارة إلى المرسل إليهم وقوله : {مِّنْهُ} إشارة إلى المرسل وقوله : {نَذِيرٌ} بيان للرسول ، وقدم المرسل إليه في الذكر ، لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة / لأن عنده يتم الأمر ، والملك لو لم يكن هناك من يخالفه أو يوافقه فيرسل إليه نذيراً أو بشيراً لا يرسل وإن كان ملكاً عظيماً ، وإذا حصل المخالف أو الموافق يرسل وإن كان غير عظيم/ ثم المرسل لأنه متعين وهو الباعث ، وأما الرسول فباختياره ، ولولا المرسل المتعين لما تمت الرسالة ، وأما الرسول فلا يتعين ، لأن للملك اختيار من يشاء من عباده ، فقال : {مِّنْهُ} ثم قال : {نَذِيرٌ} تأخيراً للرسول عن المرسل. ثالثها : قوله : {مُّبِينٍ} إشارة إلى ما به تعرف الرسالة ، لأن كل حادث له سبب وعلامة ، فالرسول هو الذي به تتم الرسالة ، ولا بد له من علامة يعرف به ، فقوله : فقوله : {مُّبِينٍ} إشارة إليها وهي إما البرهان والمعجزة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
ثم قال تعالى : {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } إتماماً للتوحيد ، وذلك لأن التوحيد بين التعطيل والتشريك ، وطريقة التوحيد هي الطريقة ، فالمعطل يقول لا إله أصلاً ، والمشرك يقول في الوجود آلهة ، والموحد يقول قوله الاثنين باطل ، نفي الواحد باطل ، فقوله تعالى : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50) أثبت وجود الله ، ولما قال : {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين ، ولهذا قال مرتين : {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي في المقامين والموضعين ، وقد ذكرنا مراراً أن المعطل إذا قال لا واجب يجعل الكل ممكناً ، فإن كل موجود ممكن ، ولكن الله في الحقيقة موجود ، فقد جعله في تضاعيف قوله كالممكنات فقد أشرك ، وجعل الله كغيره ، والمشرك لما قال بأن غيره إله يلزم من قوله نفي كون الإله إلهاً لما ذكرنا في تقرير دلالة التمانع مع أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله للزم عجز كل واحد ، فلا يكون في الوجود إله أصلاً ، فيكون ناقياً للإلهية ، فيكون معطلاً ، فالمعطل مشرك ، والمشرك معطل ، وكل واحد من الفريقين معترف بأن اسمه مبطل ، لكنه هو على مذهب خصمه يقول إنه نفسه مبطل وهو لا يعلم ، والحمد لله الذي هدانا ، وقوله {وَلا تَجْعَلُوا } فيه لطيفة ، وهي أنه إشارة إلى أن الآلهة مجعولة ، لا يقال فالله متخذ لقوله {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} (المزمل : 9) قلنا الجواب : عنه الظاهر ، وقد سبق في قوله تعالى : {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً} (مريم : 81).
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
(1/4185)

والتفسير معلوم مما سبق ، وقد ذكرنا أنه يدل على أن ذكر الحكايات للتسلية ، غير أن فيه لطيفة واحدة لا نتركها ، وهي أن هذه الآية دليل على أن كل رسول كذب ، وحينئذ يرد عليه أسئلة الأول : هو أنه من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله ، وبقي القوم على ما كانوا عليه /كأنبياء بني إسرائيل مدة ، وكيف وآدم لما أرسل لم يكذب الثاني : ما الحكمة في تقدير الله تكذيب الرسل ، ولم يرسل رسولاً مع كثرتهم واختلاف معجزاتهم بحيث يصدقه أهل زمانه ؟
الثالث : قوله {مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا } دليل على أنهم كلهم قالوا ساحر ، وليس كذلك لأنه ما من رسول إلا وآمن به قوم ، وهم ما قالوا ذلك والجواب عن الأول : هو أن نقول ، أما المقرر فلا نسلم أنه رسول ، بل هو نبي على دين رسول ، ومن كذب رسوله فهو مكذبه أيضاً ضرورة. وعن الثاني : هو أن الله لا يرسل إلا عند حاجة الخلق ، وذلك عند ظهور الكفار في العلم ، ولا يظهر الكفر إلا عند كثرة الجهل ، ثم إن الله تعالى لا يرسل رسولاً مع كون الإيمان به ضرورياً ، وإلا لكان الإيمان به إيمان اليأس فلا يقبل ، والجاهل إذا لم يكن المبين له في غاية الوضوح لا يقبله فيبقى في ورطة الضلالة ، فهذا قدر لزم بقضاء الله على الخلق على هذا الوجه ، وقد ذكرنا مرة أخرى أن بعض الناس يقول : كل ما هو قضاء الله فهو خير ، والشر في القدر ، فالله قضى بأن النار فيها مصلحة للناس لأنها نور ، ويجعلونها متاعاً في الأسفار وغيرها كما ذكر الله ، والماء فيه مصلحة الشرب ، لكن النار إنما تتم مصلحتها بالحرارة البالغة والماء بالسيلان القوي ، وكونهما كذلك يلزمهما بإجراء الله عادته عليهما أن يحرق ثوب الفقير ، ويغرق شاة المسكين ، فالمنفعة في القضاء والمضرة في القدر ، وهذا الكلام له غور ، والسنة أن نقول (يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد) وعن الثالث : أن ذلك ليس بعام ، فإنه لم يقل إلا قال كلهم ، وإنما قال : {إِلا قَالُوا } ولما كان كثير منهم ، بل أكثرهم قائلين به ، قال الله تعالى : {إِلا قَالُوا } فإن قيل : فلم لم يذكر المصدقين ، كما ذكر المكذبين ، وقال إلا قال بعضهم صدقت ، وبعضهم كذبت ؟
نقول لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب ، فكأنه تعالى قال : لا تأس على تكذيب قومك ، فإن أقواماً قبلك كذبوا ، ورسلاً كذبوا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
ثم قال تعالى : {أَتَوَاصَوْا بِه ا بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي بذلك القول ، وهو قولهم {سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ومعناه التعجيب ، أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤا عليه ، وقال بعضهم لبعض : لا تقولوا إلا هذا ، ثم قال : لم يكن ذلك على التواطؤ ، وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل أترفوا فاستغنوا فنسوا الله وطغوا فكذبوا رسله ، كما أن الملك إذا أمهل أهل بقعة ، ولم يكلفهم بشيء ، ثم قعد بعد مدة وطلبهم إلى بابه يصعب عليهم لاتخاذهم القصور والجنان ، وتحسين بلادهم من الوجوه الحسان ، فيحملهم ذلك على العصيان ، والقول بطاعة ملك آخر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
هذه تسلية أخرى ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان من كرم الأخلاق ينسب نفسه إلى تقصير ، ويقول إن عدم إيمانهم لتقصيري في التبليغ /فيجتهد في الإنذار والتبليغ ، فقال تعالى : قد أتيت بما عليك ، ولا يضرك التولي عنهم ، وكفرهم ليس لتقصير منك ، فلا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير ، وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
(1/4186)

يعني ليس التولي مطلقاً ، بل تول وأقبل وأعرض وادع ، فلا التولي يضرك إذا كان عنهم ، ولا التذكير ينفع إلا إذا كان مع المؤمنين ، وفيه معنى آخر ألطف منه ، وهو أن الهادي إذا كانت هدايته نافعة يكون ثوابه أكثر ، فلما قال تعالى : {فَتَوَلَّ} كان يقع لمتوهم أن يقول ، فحينئذ لا يكون للنبي صلى الله عليه وسلّم ثواب عظيم ، فقل بلى وذلك لأن في المؤمنين كثرة ، فإذا ذكرتهم زاد هداهم ، وزيادة الهدى من قوله كزيادة القوم ، فإن قوماً كثيراً إذا صلّى كل واحد ركعة أو ركعتين ، وقوماً قليلاً إذا صلّى كل واحد ألف ركعة تكون العبادة في الكثرة كالعبادة عن زيادة العدد ، فالهادي له على عبادة كل مهتد أجر ، ولا ينقص أجر المهتدي ، قال تعالى : {وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا} (القلم : 3) أي وإن توليت بسبب انتفاع المؤمنين بل وحالة إعراضك عن المعاندين ، وقوله تعالى : {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يراد قوة يقينهم كما قال تعالى : {لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا} (الفتح : 4) وقال تعالى : {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم} (التوبة : 124) وقال تعالى : {زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَـاـاهُمْ تَقُوَاـاهُمْ} (محمد : 17) ثانيها : تنفع المؤمنين الذين بعدك فكأنك إذا أكثرت التذكير بالتكرير نقل عنك ذلك بالتواتر فينتفع به من يجيء بعدك من المؤمنين ثالثها : هو أن الذكرى إن أفاد إيمان كافر فقد نفع مؤمناً لأنه صار مؤمناً ، وإن لم يفد يوجد حسنة ويزاد في حسنة المؤمنين فينتفعوا ، وهذا هو الذي قيل في قوله تعالى : {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ} (الزخرف : 72).
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
0
وهذه الآية فيها فوائد كثيرة ، ولنذكرها على وجه الاستقصاء ، فنقول أما تعلقها بما قبلها فلوجوه أحدها : أنه تعالى لما قال : {وَذَكِّرْ} (الذاريات : 55) يعني أقصى غاية التذكير وهو أن الخلق ليس إلا للعبادة ، فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة فذكرهم به وأعلمهم أن كل ما عداه تضييع للزمان الثاني : هو أنا ذكرنا مراراً أن شغل الأنبياء منحصر في أمرين عبادة الله وهداية الخلق ، فلما قال تعالى : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} (الذاريات : 54) بين أن الهداية قد تسقط عند اليأس وعدم المهتدي ، وأما العبادة فهي لازمة والخلق المطلق لها وليس الخلق المطلق للهداية ، فما أنت بملوم إذا أتيت بالعبادة التي هي أصل إذا تركت الهداية بعد بذل الجهد فيها الثالث : هو أنه لما بيّن حال من قبله من التكذيب ، ذكر هذه الآية ليبين سوء /صنيعهم حيث تركوا عبادة الله فما كان خلقهم إلا للعبادة ، وأما التفسير ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الملائكة أيضاً من أصناف المكلفين ولم يذكرهم الله مع أن المنفعة الكبرى في إيجاده لهم هي العبادة ولهذا قال : {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} (الأنبياء : 26) وقال تعالى : {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأعراف : 206) فما الحكمة فيه ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : قد ذكرنا في بعض الوجوه أن تعلق الآية بما قبلها بيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له ، وهذا مختص بالجن والإنس لأن الكفر في الجن أكثر ، والكافر منهم أكثر من المؤمن لما بينا أن المقصود بيان قبحهم وسوء صنيعهم الثاني : هو أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مبعوثاً إلى الجن ، فلما قال وذكرهم ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة خص أمته بالذكر أي ذكر الجن والإنس الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون بأن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله ، فقال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً بين القوم فذكر المتنازع فيه الرابع : قيل الجن يتناول الملائكة لأن الجن أصله من الاستتار وهم مستترون عن الخلق ، وعلى هذا فتقديم الجن لدخول الملائكة فيهم وكونهم أكثر عبادة وأخصلها الخامس : قال بعض الناس كلما ذكر الله الخلق كان فيه التقدير في الجرم والزمان قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
(1/4187)

{خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الفرقان : 59) وقال تعالى : {خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} (فصلت : 9) وقال : {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } (ص : 75) إلى غير ذلك ، وما لم يكن ذكره بلفظ الأمر قال تعالى : {إِنَّمَآ أَمْرُه ا إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (يس : 82) وقال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) وقال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } (الأعراف : 54) والملائكة كالأرواح من عالم الأمر أوجدهم من غير مرور زمان فقوله {وَمَا خَلَقْتُ} إشارة إلى من هو من عالم الخلق فلا يدخل فيه الملائكة ، وهو باطل لقوله تعالى : {خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (غافر : 62) فالملك من عالم الخلق.
المسألة الثانية : تقديم الجن على الإنس لأية حكمة ؟
نقول فيه وجوه الأول : بعضها مر في المسألة الأولى الثاني : هو أن العبادة سرية وجهرية ، وللسرية فضل على الجهرية لكن عبادة الجن سرية لا يدخلها الرياء العظيم/ وأما عبادة الإنس فيدخلها الرياء فإنه قد يعبد الله لأبناء جنسه ، وقد يعبد الله ليستخبر من الجن أو مخافة منهم ولا كذلك الجن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
المسألة الثالثة : فعل الله تعالى ليس لغرض وإلا لكان بالغرض مستكملاً وهو في نفسه كامل فكيف يفهم لأمر الله الغرض والعلة ؟
نقول المعتزلة تمسكوا به ، وقالوا أفعال الله تعالى لأغراض وبالغوا في الإنكار على منكري ذلك ، ونحن نقول فيه وجوه الأول : أن التعليل لفظي ومعنوي ، واللفظي ما يطلق الناظر إليه اللفظ عليه وإن لم يكن له في الحقيقة ، مثاله إذا خرج ملك من بلاده ودخل بلاد العدو وكان في قلبه أن يتعب عسكر نفسه لا غير ، ففي المعنى المقصود ذلك ، وفي اللفظ لا يصح ولو قال هو أنا ما سافرت إلا لابتغاء أجر أو لأستفيد حسنة يقال /هذا ليس بشيء ولا يصح عليه ، ولو قال قائل في مثل هذه الصورة خرج ليأخذ بلاد العدو وليرهبه لصدق ، فالتعليل اللفظي هو جعل المنفعة المعتبرة علة للفعل الذي فيه المنفعة ، يقال إتجر للربح ، وإن لم يكن في الحقيقة له ، إذا عرفت هذا ، فنقول الحقائق غير معلومة عند الناس ، والمفهوم من النصوص معانيها اللفظية لكن الشيء إذا كان فيه منفعة يصح التعليل بها لفظاً والنزاع في الحقيقة في اللفظ الثاني : هو أن ذلك تقدير كالتمني والترجي في كلام الله تعالى وكأنه يقول العبادة عند الخلق شيء لو كان ذلك من أفعالكم لقلتم إنه لها ، كما قلنا في قوله تعالى : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ} (طه : 44) أي بحيث يصير تذكرة عندكم مرجواً وقوله {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} (الأعراف : 129) أي يصير إهلاكه عندكم مرجواً تقولون إنه قرب الثاني : هو أن اللام قد تثبت فيما لا يصح غرضاً كما في الوقت قال تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (الإسراء : 78) وقوله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1) والمراد المقارنة ، وكذلك في جميع الصور ، وحينئذ يكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي بفرض العبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة ، والذي يدل على عدم جواز التعليل الحقيقي هو أن الله تعالى مستغن عن المنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره ، لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل فيكون توسط ذلك لا ليكون علة ، وإذا لزم القول بأن الله تعالى يفعل فعلاً هو لمتوسط لا لعلة لزمهم المسألة ، وأما النصوص فأكثر من أن تعد وهي على أنواع ، منها ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى : {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} (الرعد : 27) وأمثاله ومنها ما يدل على أن الأشياء كلها بخلق الله كقوله تعالى : {خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الرعد : 16) ومنها الصرايح التي تدل على عدم ذلك ، كقوله تعالى : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء : 23) وقوله تعالى : {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} (إبراهيم : 27) {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (المائدة : 1) والاستقصاء مفوض فيه إلى المتكلم الأصولي لا إلى المفسر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
(1/4188)

المسألة الرابعة : قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآاـاِلَ لِتَعَارَفُوا } (الحجرات : 13) وقال : {لِيَعْبُدُونِ} فهل بينها اختلاف ؟
نقول ليس كذلك فإن الله تعالى علل جعلهم شعوباً بالتعارف ، وههنا علل خلقهم بالعبادة وقوله هناك {أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } (الحجرات : 13) دليل على ما ذكره ههنا وموافق له ، لأنه إذا كان أتقى كان أعبد وأخلص عملاً ، فيكون المطلوب منه أتم في الوجود فيكون أكرم وأعز ، كالشيء الذي منفعته فائدة ، وبعض أفراده يكون أنفع في تلك الفائدة ، مثاله الماء إذا كان مخلوقاً للتطهير والشرب فالصافي منه أكثر فائدة في تلك المنفعة فيكون أشرف من ماء آخر/ فكذلك العبد الذي وجد فيه ما هو المطلوب منه على وجه أبلغ.
المسألة الخامسة : ما العبادة التي خلق الجن والإنس لها ؟
قلنا : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما ، وأما خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها بالوضع والهيئة والقلة والكثرة والزمان والمكان والشرائط والأركان ، ولما كان التعظيم اللائق بذي الجلال والإكرام لا يعلم عقلاً لزم اتباع الشرائع فيها والأخذ بقول الرسل عليهم السلام فقد أنعم /الله على عباده بإرسال الرسل وإيضاح السبل في نوعي العبادة ، وقيل إن معناه ليعرفوني ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال عن ربه "كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف".
جزء : 28 رقم الصفحة : 188
198
فيه جواب سؤال وهو أن الخلق للغرض ينبىء عن الحاجة ، فقال ما خلقتهم ليطعمون والنفع فيه لهم لا لي ، وذلك لأن منفعة العبد في حق السيد أن يكتسب له ، إما بتحصيل المال له أو بحفظ المال عليه ، وذلك لأن العبد إن كان للكسب فغرض التحصيل فيه ظاهر ، وإن كان للشغل فلولا العبد لاحتاج السيد إلى استئجار من يفعل الشغل له فيحتاج إلى إخراج مال ، والعبد يحفظ ماله عليه ويغنيه عن الإخراج فهو نوع كسب فقال تعالى : {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم ، وفيه وجه آخر وهو أن يقال هذا تقرير لكونهم مخلوقين للعبادة ، وذلك لأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة ، لكن العبيد على قسمين قسم منهم يكون للعظمة والجمال كمماليك الملوك يطعمهم الملك ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ويؤتيهم الطراف بعد التلاد ، والمراد منهم التعظيم والمثول بين يديه ، ووضع اليمين على الشمال لديه ، وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها فقال تعالى إني خلقتهم فلا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك ، فما أُريد منهم من رزق ، أو هل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا كذلك فما أُريد أن يطعمون ، فإذن هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم ، وفيه لطائف نذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في تكرار الإرادتين ، ومن لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه ؟
نقول هو لما ذكرناه من قبل ، وهو أن السيد قد يطلب من العبد الكسب له ، وهو طلب الرزق منه ، وقد يكون للسيد مال وافر يستغني عن الكسب لكنه يطلب منه قضاء حوائجه بماله من المال وإحضار الطعام بين يديه من ماله ، فالسيد قال لا أُريد ذلك ولا هذا.
المسألة الثانية : لم قدم طلب الرزق على طلب الإطعام ؟
نقول ذلك من باب الارتقاء كقول القائل لا أطلب منك الإعانة ولا ممن هو أقوى ولا يعكس ، ويقل فلان يكرمه الأمراء بل السلاطين ولا يعكس ، فقال ههنا لا أطلب منكم رزقاً ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم طعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثير الطلب من العباد وإن كان الكسب لا يطلب منهم.
المسألة الثالثة : لو قال ما أريد منهم أن يرزقون وما أريد منهم من الطعام هل تحصل هذه الفائدة ؟
نقول على ما فصل لا وذلك لأن بالتكسب يطلب الغنى لا الفعل فإن اشتغل بشغل /ولم يحصل له غنى لا يكون كمن حصل له غنى ، وإن لم يشتغل ، كالعبد المتكسب إذا ترك الشغل لحاجته ووجد مطلباً يرضى منه السيد إذا كان شغله التكسب ، وأما من يراد منه الفعل لذات الفعل ، كالجائع إذا بعث عبده لإحضار الطعام فاشتغل بأخذ المال من مطلب فربما لا يرضى به السيد فالمقصود من الرزق الغنى ، فلم يقل بلفظ الفعل والمقصود من الإطعام الفعل نفسه فذكر بلفظ الفعل ، ولم يقل وما أريد منهم من طعام هذا مع ما في اللفظين من الفصاحة والجزالة للتنويع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
(1/4189)

المسألة الرابعة : إذا كان المعنى به ما ذكرت ، فما فائدة الإطعام وتخصيصه بالذكر مع أن المقصود عدم طلب فعل منهم غير التعظيم ؟
نقول لما عمم في المطلب الأول اكتفى بقوله {مِّن رِّزْقٍ} فإنه يفيد العموم ، وأشار إلى التعظيم فذكر الإطعام ، وذلك لأن أدنى درجات الأفعال أن تستعين السيد بعبده أو جاريته في تهيئة أمر الطعام ، ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فصار كأنه تعالى قال : ما أريد منهم من عين ولا عمل.
المسألة الخامسة : على ما ذكرت لا تنحصر المطالب فيما ذكره ، لأن السيد قد يشتري لعبد لا لطلب عمل منه ولا لطلب رزق ولا للتعظيم ، بل تشتريه للتجارة والربح فيه ، نقول عموم قوله {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} يتناول ذلك فإن من اشترى عبداً ليتجر فيه فقد طلب منه رزقاً.
المسألة السادسة : ما أريد في العربية يفيد النفي في الحال ، والتخصيص بالذكر يوهم نفي ما عدا المذكور ، لكن الله تعالى لا يريد منهم رزقاً لا في الحال ولا في الاستقبال ، فلم لم يقل لا أريد منهم من رزق ولا أريد ؟
نقول ما للنفي في الحال ، ولا للنفي في الاستقبال ، فالقائل إذا قال فلان لا يفعل هذا الفعل وهو في الفعل لا يصدق ، لكنه إذا ترك مع فراغه من قوله يصدق القائل ، ولو قال ما يفعل لما صدق فيما ذكرنا من الصورة ، مثاله إذا كان الإنسان في الصلاة وقال قائل إنه ما يصلي فانظر إليه فإذا كان نظر إليه الناظر وقد قطع صلاة نفسه صح أن يقول إنك لا تصلي ، ولو قال القائل إنه ما يصلي في تلك الحالة لما صدق ، فإذا علمت هذا فكل واحد من اللفظين للنافية فيه خصوص لكن النفي في الحال أولى لأن المراد من الحال الدنيا والاستقبال هو في أمر الآخرة فالدنيا وأمورها كلها حالية فقوله {مَآ أُرِيدُ} أي في هذه الحالة الراهنة التي هي ساعة الدنيا ، ومن المعلوم أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو عمل فكان قوله {مَآ أُرِيدُ} مفيداً للنفي العام ، ولو قال لا أريد لما أفاد ذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} تعليلاً لما تقدم من الأمرين ، فقوله هو الرزاق تعليل لعدم طلب الرزق وقوله تعالى : {ذُو الْقُوَّةِ} تعليل لعدم طلب العمل ، لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً ومن يطلب عملاً من غيره يكون عاجزاً لا قوة له ، فصار كأنه يقول ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزاق ولا عمل فإني قوي وفيه مباحث الأول : قال : {مَآ أُرِيدُ} ولم يقل إني /رزاق بل قال على الحكاية عن الغائب {إِنَّ اللَّهَ} فما الحكمة فيه ؟
نقول قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} على ما ذكرت وأما القراءة المشهورة ففيها وجوه الأول : أن يكون المعنى قل يا محمد {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} الثاني : أن يكون ذلك من باب الالتفات والرجوع من التكلم عن النفس إلى التكلم عن الغائب ، وفيه ههنا فائدة وهي أن اسم الله يفيد كونه رزاقاً وذلك لأن الإله بمعنى المعبود كما ذكرنا مراراً وتمسكنا بقوله تعالى : {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } (الأعراف : 127) أي معبوديك وإذ كان الله هو المعبود ورزق العبد استعمله من غير الكسب إذ رزقه على السيد وههنا لما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فقد بيّن أنه استخلصهم لنفسه وعبادته وكان عليه رزقهم فقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} بلفظ الله الدال على كونه رزاقاً ، ولو قال إني أنا الرزاق لحصلت المناسبة التي ذكرت ولكن لا يحصل ما ذكرنا الثالث : أن يكون قل مضمراً عند قوله تعالى : {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم} تقديره قل يا محمد {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} فيكون بمعنى قوله {قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الفرقان : 57) ويكون على هذا قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} من قول النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يقل القوي ، بل قال :
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
(1/4190)

{ذُو الْقُوَّةِ} وذلك لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير ، ولكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وغيره ويسترزق والملك يرزق الجند ويسترزق ، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب ، لأن المسترزق ممن يكثر الرزق لا يسترزق من رزقه ، فلم يكن ذلك المقصود يحصل له إلا بالمبالغة في وصف الرزق ، فقال : {الرَّزَّاقُ} وأما ما يغني عن الاستعانة بالغير فدون ذلك : وذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به ، وإذا كان دون ذلك يستعين استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك ، ولما قال : {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} كفاه بيان نفس القوة فقال : {ذُو الْقُوَّةِ} إفادة معنى القوة دون القوى لأن ذا لا يقال في الوصف اللازم البين فيقال في الآدمي ذو مال ومتمول وذو جمال وجميل وذو خلق حسن وخليق إلى غير ذلك مما لا يلزمه لزوماً بيناً ، ولا يقال في الثلاثة ذات فردية ولا في الأربعة ذات زوجية ، ولهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية التي ليست مأخوذة من الأفعال ولذا لم يسمع ذو الوجود وذو الحياة ولا ذو العلم ويقال في الإنسان ذو علم وذو حياة لأنها عرض فيه عارض لا لازم بين ، وفي صفات الفعل يقال الله تعالى ذو الفضل كثيراً وذو الخلق قليلاً لأن ذا كذا بمعنى صاحبه وربه والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين ، والذي يؤيد هذا هو أنه تعالى قال : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف : 76) فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقوي ، ويؤيده أيضاً أنه تعالى قال : {فَأَخَذَهُمُ اللَّه إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (غافر : 22) وقال تعالى : {اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِه يَرْزُقُ مَن يَشَآءُا وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} (الشورى : 19) وقال تعالى : {لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ا إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة : 21) لأن في هذه الصور كان المراد بيان القيام بالأفعال العظيمة والمراد ههنا عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ما ، ومن يقوم مستبداً /بالفعل لا بد له من قوة عظيمة ، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عنه ، ولو بين هذا البحث في معرض الجواب عن سؤال سائل عن الفرق بين قوله
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
{ذُو الْقُوَّةِ} ههنا وبين قوله {قَوِىٌّ} في تلك المواضع لكان أحسن ، فإن قيل فقد قال تعالى : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُه وَرُسُلَه بِالْغَيْبِا إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (الحديد : 25) وفيه ما ذكرت من المعنى وذلك لأن قوله {قَوِىٌّ} لبيان أنه غير محتاج إلى النصرة وإنما يريد أن يعلم ليثيب الناصر ، لكن عدم الاحتياج إلى النصرة يكفي فيه قوة ما ، فلم لم يقل إن الله ذو القوة ؟
نقول فيه إنه تعالى قال من ينصره ورسله ، ومعناه أنه يغني رسله عن الحاجة ولا يطلب نصرتهم من خلقه ليعجزهم وإنما يطلبها لثواب الناصرين لا لاحتياج المستنصرين وإلا فالله تعالى وعدهم بالنصر حيث قال : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} (الصافات : 171 ، 172) ولما ذكر الرسل قال قوي يكون ذلك تقوية تقارب رسله المؤمنين ، وتسلية لصدورهم وصدور المؤمنين.
البحث الثاني : قال : {الْمَتِينُ} وذلك لأن {ذُو الْقُوَّةِ} كما بينا لا يدل إلا على أن له قوة ما فزاد في الوصف بياناً وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى فإن متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته ، والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن ، والمتانة مع القوة كالعزة مع القوة حيث ذكر الله تعالى في مواضع ذكر القوة والعزة فقال : {قَوِىٌّ عَزِيزٌ} (الحديد : 25) وقال {الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} (هود : 66).
وفيه لطيفة تؤيد ما ذكرنا من البحث في القوي وذي القوة ، وذلك لأن المتين هو الثابت الذي لا يتزلزل والعزيز هو الغالب ، ففي المتين أنه لا يغلب ولا يقهر ولا يهزم ، وفي العزيز أنه يغلب ويقهر ويزل الأقدام ، والعزة أكمل من المتانة ، كما أن القوي أكمل من ذي القوة ، فقرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه ، ولو نظرت حق النظر وتأملت حق التأمل لرأيت في كتاب الله تعالى لطائف تنبهك على عناد المنكرين وقبح إنكار المعاندين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0

وهو مناسب لما قبله وذلك لأنه تعالى بيّن أن من يضع نفسه في موضع عبادة غير الله يكون وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظالماً ، فقال إذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة فإن الذين ظلموا بعبادة الغير لهم هلاك مثل هلاك من تقدم ، وذلك لأن الشيء إذا خرج عن الانتفاع المطلوب منه ، لا يحفظ وإن كان في موضع يخلي المكان عنه ، ألا ترى أن الدابة التي لا يبقى منتفعاً بها بالموت أو بمرض يخلي عنها الإصطبل ، والطعام الذي يتعفن يبدد ويفرغ منه الإناء ، فكذلك الكافر /إذا ظلم ، ووضع نفسه في غير موضعه ، خرج عن الانتفاع فحسن إخلاء المكان عنه وحق نزول الهلاك به ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : فيما يتعلق به الفاء ، وقد ذكرنا لك في وجه التعلق.
المسألة الثانية : ما مناسبة الذنوب ؟
نقول العذاب مصبوب عليهم ، كأنه قال تعالى نصب من فوق رؤوسهم ذنوباً كذنوب صب فوق رؤوس أولئك ، ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النوبة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيشهم الطيب ، فكأنه تعالى قال : {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } من الدنيا وطيباتها {ذَنُوبًا} أي ملاء ، ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب ، كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذبوباً وتركوها ، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك ، وإنما هو رغد العيش وهو أليق بالعربية ، وقوله تعالى : {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} فإن الرزق ما لم يفرغ لا يأتي الأجل.
ثم أعاد ما ذكر في أول السورة فقال : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} .
والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
(1/4191)

سورة الطور
أربعون وتسع آيات مكية
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
/هذه السورة مناسبة للسورة المتقدمة من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما ، وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ، لأن في آخرها قوله تعالى : {فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } (الذاريات : 60) وهذه السورة ددفي أولها {فَوَيْلٌ يَوْمَا ِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} (الطور : 11) وفي آخر تلك السورة قال : {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} (الذاريات : 59) إشارة إلى العذاب وقال هنا {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (الطور : 7) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الطور ، وما الكتاب المسطور ؟
نقول فيه وجوه : الأول : الطور هو جبل معروف كلم الله تعالى موسى عليه السلام الثاني : هو الجبل الذي قال الله تعالى : {وَطُورِ سِينِينَ} (التين : 2) الثالث : هو اسم الجنس والمراد القسم بالجبل غير أن الطور الجبل العظيم كالطود ، وأما الكتاب ففيه أيضاً وجوه : أحدها : كتاب موسى عليه السلام ثانيها : الكتاب الذي في السماء ثالثها : صحائف أعمال الخلق رابعها : القرآن وكيفما كان فهي في رقوق ، وسنبين فائدة قوله تعالى : {فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ} وأما البيت المعمور ففيه وجوه : الأول : هو بيت في السماء العليا عند العرش ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة الثاني : هو بيت الله الحرام وهو معمور بالحاج الطائفين به العاكفين الثالث : البيت المعمور اللام فيه لتعريف الجنس كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة ، والسقف المرفوع السماء ، والبحر المسجور ، قيل الموقد يقال سجرت التنور ، وقيل هو البحر المملوء ماء المتموج ، وقيل هو بحر معروف في السماء يسمى بحر الحيوان.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
(1/4192)

المسألة الثانية : ما الحكمة في اختيار هذه الأشياء ؟
نقول هي تحتمل وجوهاً : أحدها : إن الأماكن الثلاثة وهي : الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور ، أماكن كانت لثلاثة أنبياء ينفردون فيها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله ، أما الطور فانتقل إليه موسى /عليه السلام ، والبيت محمد صلى الله عليه وسلّم ، والبحر المسجور يونس عليه السلام ، والكل خاطبوا الله هناك فقال موسى : {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآا إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ } (الأعراف : 155) وقال : {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } (الأعراف : 143) وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فقال : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك" وأما يونس فقال : {لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، فحلف الله تعالى بها ، وأما ذكر الكتاب فإن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدل على ذلك ، لأن موسى عليه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بالطور ، وأما ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلى الله عليه وسلّم ثانيها : وهو أن القسم لما كان على وقوع العذاب وعلى أنه لا دافع له ، وذلك لأن لا مهرب من عذاب الله لأن من يريد دفع العذاب عن نفسه ، ففي بعض الأوقات يتحصن بمثل الجبال الشاهقة التي ليس لها طرف وهي متضايقة بين أنه لا ينفع التحصن بها من أمر الله تعالى كما قال ابن نوح عليه السلام {سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِا قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } (هود : 43) حكاية عن نوح عليه السلام.
المسألة الثالثة : ما الحكمة في تنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء ؟
نقول ما يحتمل الخفاء من الأمور الملتبسة بأمثالها من الأجناس يعرف باللام ، فيقال رأيت الأمير ودخلت على الوزير ، فإذا بلغ الأمير الشهرة بحيث يؤمن الالتباس مع شهرته ، ويريد الواصف وصفه بالعظمة ، يقول : اليوم رأيت أميراً ما له نظير جالساً وعليه سيما الملوك وأنت تريد ذلك الأمير المعلوم ، والسبب فيه أنك بالتنكير تشير إلى أنه خرج عن أن يعلم ويعرف بكنه عظمته ، فيكون كقوله تعالى : {الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْحَآقَّةُ} (الحاقة : 1 ، 3) فاللام وإن كانت معرفة لكن أخرجها عن المعرفة كون شدة هولها غير معروف ، فكذلك ههنا الطور ليس في الشهرة بحيث يؤمن اللبس عند التنكير ، وكذلك البيت المعمور ، وأما الكتاب الكريم فقد تميز عن سائر الكتب ، بحيث لا يسبق إلى أفهام السامعين من النبي صلى الله عليه وسلّم لفظ الكتاب إلا ذلك ، فلما أمن اللبس وحصلت فائدة التعريف سواء ذكر باللام أو لم يذكر قصداً للفائدة الأخرى وهي في الذكر بالتنكير ، وفي تلك الأشياء لما لم تحصل فائدة التعريف إلا بآلة التعريف استعملها ، وهذا يؤيد كون المراد منه القرآن وكذلك اللوح المحفوظ مشهور.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المسألة الرابعة : ما الفائدة في قوله تعالى : {فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ} وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه ورقه ؟
نقول هو إشارة إلى الوضوح ، وذلك لأن الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه فقال هو في رق منشور وليس كالكتب المطوية وعلى هذا المراد اللوح المحفوظ فمعناه هو منشور لكم لا يمنعكم أحد من مطالعته ، وإن قلنا بأن المراد كتاب أعمال كل أحد فالتنكير لعدم المعرفة بعينه وفي رق منشور لبيان وصفه كما قال تعالى : {كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا} (الإسراء : 13) وذلك لأن غير المعروف إذا /وصف كان إلى المعرفة أقرب شبهاً.
المسألة الخامسة : في بعض السور أقسم بجموع كما في قوله تعالى : {وَالذَّارِيَـاتِ} وقوله {وَالْمُرْسَلَـاتِ} وقوله {وَالنَّـازِعَـاتِ} وفي بعضها بأفراد كما في هذه السورة حيث قال : {وَالطُّورِ} ولم يقل والأطوار والبحار ، ولا سيما إذا قلنا المراد من الطور الجبل العظيم كالطود ، كما في قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} (النساء : 154) أي الجبل فما الحكمة فيه ؟
نقول في الجموع في أكثرها أقسم بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حتى يقع القسم بها ، بل هي متبدلة بأفرادها مستمرة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال : {وَالذَّارِيَـاتِ} إشارة إلى النوع المستمر إلى الفرد المعين المستقر ، وأما الجبل فهو ثابت قليل التغير والواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً ، فأقسم في ذلك بالواحد وكذلك قوله {وَالنَّجْمِ} والريح ما علم القسم به وفي الطور علم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
(1/4193)

إشارة إلى المقسم عليه وفيه مباحث الأول : في حرف {ءَانٍ} وفيه مقامات الأول : هي تنصب الاسم وترفع الخبر والسبب فيه هو أنها شبهت بالفعل من حيث اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلكون الفتح لازماً فيها واختصاصها بالدخول على الأسماء والمنصوب منها على وزن إن أنيناً ، وأما المعنى ، فنقول اعلم أن الجملة الإثباتية قبل الجملة الانتفائية ، ولهذا استغنوا عن حرف يدل على الإثبات ، فإذا قالوا زيد منطلق فهم منه إرادة إثبات الانطلاق لزيد ، والانتفائية لما كانت بعد المثبتة زيد فيها حرف يغيرها عن الأصل وهو الإثبات فقيل ليس زيد منطلقاً ، فصار ليس زيد منطلقاً بعد قول القائل زيد منطلق ، ثم إن قول القائل إن زيداً منطلق مستنبط من قوله ليس زيد منطلقاً ، كأن الواضع لما وضع أولاً زيد منطلق للاثبات وعند النفي يحتاج إلى ما يغيره أتى بلفظ مغير وهو فعل من وجه لأنك قد تبقى مكانه ما النافية ولهذا قيل لست وليسوا ، فألحق به ضمير الفاعل ، ولولا أنه فعل لما جاز ذلك ، ثم أراد أن يضع في مقابلة ليس زيد منطلقاً جملة إثباتية فيها لفظ الإثبات ، كما أن في النافية لفظ النفي فقال إن ولم يقصد أن إن فعل لأن ليس يشبه بالفعل لما فيه من معنى الفعل وهو التغيير ، فإنها غيرت الجملة من أصلها الذي هو الإثبات وأما إن فلم تغيره فالجملة على ما كانت عليه إثباتية فصارت مشبهة بالمشبهة بالفعل وهي ليس ، وهذا ما يقوله النحويون في إن وأن وكأن وليت ولعلّ إنها حروف مشبهة بالأفعال إذا علمت هذا ، فنقول كما إن ليس لها اسم كالفاعل وخبر كالمفعول ، تقول ليس زيد لئيماً بالرفع والنصب كما تقول بات زيد كريماً ، فكذلك إن لها اسم وخبر ، لكن اسمها يخالف اسم ليس وخبرها خبرها فإن اسم إن منصوب وخبرها مرفوع ، لأن إن لما كانت زيادة على خلاف الأصل لأنها لا تفيد إلا الإثبات الذي كان مستفاداً من غير حرف ، وليس لما كانت زيادة على الأصل لأنها تغير الأصل /ولولاها لما حصل المقصود جعل المرفوع والمنصوب في ليس على الأصل ، لأن الأصل تقديم الفاعل ، وفي إن جعل ذلك على خلاف الأصل وقدم المشبه بالمفعول على المشبه بالفاعل تقديماً لازماً فلا يجوز أن يقال إن منطلق زيداً وهو في ليس منطلقاً زيد جائز كما في الفعل لأنها فعل.
المقام الثاني : هي لم تكسر تارة وتفتح أخرى ؟
نقول الأصل فيها الكسرة والعارض وإن كان هذا في الظاهر يخالف قول النحاة لكن في الحقيقة هي كذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المقام الثالث : لم تدخل اللام على خبر إن المكسورة دون المفتوحة ؟
قلنا قد خرج مما سبق أن قول القائل زيد منطلق أصل ، لأن المثبتات هي المحتاجة إلى الإخبار عنها فإن التغير في ذلك ، وأما العدميات فعلى أصولها مستمرة ، ولهذا يقال الأصل في الأشياء البقاء ثم إن السامع له قد يحتاج إلى الرد عليه فيقول ليس زيد منطلقاً فيقول هو إن زيداً منطلق فيقول هو رداً عليه ليس زيد بمنطلق فيقول رداً عليه إن زيداً لمنطلق وأن ليست في مقابلة ليس وإنما هي متفرعة عن المكسورة.
المبحث الثاني : قوله تعالى : {عَذَابَ رَبِّكَ} فيه لطيفة عزيزة وهي أنه تعالى لو قال إن عذاب الله لواقع ، والله اسم منبىء عن العظمة والهيبة كان يخاف المؤمن بل النبي صلى الله عليه وسلّم من أن يلحقه ذلك لكونه تعالى مستغنياً عن العالم بأسره ، فضلاً عن واحد فيه فآمنه بقوله {رَبِّكَ} فإنه حين يسمع لفظ الرب يأمن.
المبحث الثالث : قوله {لَوَاقِعٌ} فيه إشارة إلى الشدة ، فإن الواقع والوقوع من باب واحد فالواقع أدل على الشدة من الكائن. ثم قال تعالى : {مَّا لَه مِن دَافِعٍ} والبحث فيه قد تقدم في قوله تعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت : 46) وقد ذكرنا أن قوله {وَالطُّورِ * وَكِتَـابٍ مُّسْطُورٍ * فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ} فيه دلالة على عدم الدافع فإن من يدفع عن نفسه عذاباً قد يدفع بالتحصن بقلل الجبال ولجج البحار ولا ينفع ذلك بل الوصول إلى السقف المرفوع ودخول البيت المعمور لا يدفع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
فيه مسائل :
(1/4194)

المسألة الأولى : ما الناصب ليوم ؟
نقول المشهور أن ذلك هو الفعل الذي يدل عليه واقع أي يقع العذاب {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْرًا} والذي أظنه أنه هو الفعل المدلول عليه بقوله {مَّا لَه مِن دَافِعٍ} (الطور : 8) وإنما قلت ذلك لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم ، لكن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحشر ، ومور السماء قبل الحشر ، وأما إذا قلنا معناه {لَيْسَ لَه دَافِعٌ} يوم تمور فيكون في معنى قوله {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) كأنه تعالى يقول : ما له من دافع في ذلك اليوم وهو ما إذا صارت السماء تمور في أعينكم والجبال تسير ، وتتحققون أن الأمر لا ينفع شيئاً ولا يدفع.
/المسألة الثانية : ما مور السماء ؟
نقول خروجها عن مكانها تتردد وتموج ، والذي تقوله الفلاسفة قد علمت ضعفه مراراً وقوله تعالى : {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} يدل على خلاف قولهم ، وذلك لأنهم وفقوا على أن خروج الجبل العظيم من مكانه جائز وكيف لا وهم يقولون بأن زلزلة الأرض مع ما فيها من الجبال ببخار يجتمع تحت الأرض فيحركها ، وإذا كان كذلك فنقول السماء قابلة للحركة بإخراجها خارجة عن السمتيات والجبل ساكن يقتضي طبعه السكون ، وإذا قبل جسم الحركة مع أنها على خلاف طبعه ، فلأن يقبلها جرم آخر مع أنها على موافقته أولى ، وقولهم القابل للحركة المستديرة لا يقبل الحركة المستقيمة في غاية الضعف ، وقوله {مَوْرًا} يفيد فائدة جليلة وهي أن قوله تعالى : {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء ، وذلك لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر أن السماء كالسيارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة فإنه يرى الجبل الساكن متحركاً ، فكان لقائل أن يقول السماء تمور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يرى القمر سائراً راكب السفينة ، والسماء إذا مارت كذلك فلا يبقى مهرب ولا مفزع لا في السماء ولا في الأرض.
المسألة الثالثة : ما السبب في مورها وسيرها ؟
قلنا قدرة الله تعالى ، وأما الحكمة فالإيذان والإعلام بأن لا عود إلى الدنيا ، وذلك لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها ، فإن لم يتفق لهم عود لم يبق فيها نفع فأعدمها الله تعالى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المسألة الرابعة : لو قال قائل كنت وعدت ببحث في الزمان يستفيد العاقل منه فوائد في اللفظ والمعنى وهذا موضعه ، فإن الفعل لا يضاف إليه شيء غير الزمان فيقال يوم يخرج فلان وحين يدخل فلان ، وقال الله تعالى : {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ} (المائدة : 119) وقال : {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ} وقال : {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (التوبة : 36) وكذلك يضاف إلى الجملة فما السبب في ذلك ؟
(1/4195)

فنقول الزمان ظرف الأفعال كما أن المكان ظرف الأعيان ، وكما أن جوهراً من الجواهر لا يوجد إلا في مكان ، فكذلك عرض من الأعراض لا يتجدد إلا في زمان ، وفيهما تحير خلق عظيم ، فقالوا إن كان المكان جوهراً فله مكان آخر ويتسلسل الأمر ، وإن كان عرضاً فالعرض لا بد له من جوهر ، والجوهر لا بد له من مكان فيدور الأمر أو يتسلسل ، وإن لم يكن جوهراً ولا عرضاً ، فالجوهر يكون حاصلاً فيما لا وجود له أو فيما لا إشارة إليه ، وليس كذلك ، وقالوا في الزمان إن كان الزمان غير متجدد فيكون كالأمور المستمرة فلا يثبت فيه المضي والاستقبال/ وإن كان متجدداً وكل متجدد فهو في زمان ، فللزمان زمان آخر فيتسلسل الأمر ، ثم إن الفلاسفة التزموا التسلسل في الأزمنة ، ووقعوا بسبب هذا في القول بقدم العالم ولم يلتزموا التسلسل في الأمكنة وفرقوا بينهما من غير فارق وقوم التزموا التسلسل فيهما جميعاً ، وقالوا بالقدم وأزمان لا نهاية لها وبالامتداد وأبعاد لا نهاية لها ، وهم وإن خالفونا في المسألتين جميعاً والفلاسفة وافقونا في إحداهما دون /الأخرى لكنهم سلكوا جادة الوهم ولم يتركوا على أنفسهم سبيل الإلتزام في الأزمان ، فإن قيل فالمتجدد الأول قبله ماذا ؟
نقول ليس قبله شيء ، فإن قيل فعدمه قبله أو قبله عدمه ؟
نقول قولنا ليس قبله شيء أعم من قولك قبله عدمه ، لأنا إذا قلنا ليس قبل آدم حيوان بألف رأس ، صدقنا ولا يستلزم ذلك صدق قولنا آدم قبل حيوان بألف رأس أو حيوان بألف رأس بعد آدم ، لانتفاء ذلك الحيوان أولاً وآخراً وعدم دخوله في الوجود أزلاً وأبداً ، فكذلك ما قلنا ، فإن قيل هذا لا يصح ، لأن الله تعالى شيء موجود وهو قبل العالم ، نقول قولنا ليس قبل المتجدد الأول شيء معناه ليس قبله شيء بالزمان ، وأما الله تعالى فليس قبله بالزمان إذ كان الله ولا زمان ، والزمان وجد مع المتجدد الأول ، فإن قيل فما معنى وجود الله قبل كل شيء غيره ؟
نقول معناه كان الله ولم يكن شيء غيره لا يقال ما ذكرتم إثبات شيء بشيء ولا يثبت ذلك الشيء إلا بما ترومون إثباته ، فإن بداية الزمان غرضكم وهو مبني على المتجدد الأول والنزاع في المتجدد ، فإن عند الخصم ليس في الوجود متجدد أول بل قبل كل متجدد ، لأنا نقول نحن ما ذكرنا ذلك دليلاً ، وإنما ذكرناه بياناً لعدم الإلزام ، وأنه لا يرد علينا شيء إذا قلنا بالحدوث ونهاية الأبعاد واللزم والإلزام ، فيسلم الكلام الأول ، ثم يلزم ويقول : ألست تقول إن لنا متجدداً أولاً فكذلك قل له عدم ، فنقول لا بل ليس قبله أمر بالزمان ، فيكون ذلك نفياً عاماً ، وإنما يكون ذلك لانتفاء الزمان ، كما ذكرنا في المثال ، إذا علمت هذا فصار الزمان تارة موجوداً مع عرض وأخرى موجوداً بعد عرض ، لأن يومنا هذا وغيره من الأيام كلها صارت متميزة بالمتجدد الأول ، والمتجدد الأول له زمان هو معه ، إذا عرفت أن الزمان والمكان أمرهما مشكل بالنسبة إلى بعض الأفهام والأمر الخفي يعرف بالوصف والإضافة ، فإنك إذا قلت غلام لم يعرف ، فإذا وصفته أو أضفته وقلت غلام صغير أو كبير ، وأبيض أو أسود قرب من الفهم ، وكذلك إذا قلت غلام زيد قرب ، ولم يكن بد من معرفة الزمان ، ولا يعرف الشيء إلا بما يختص به ، فإنك إذا قلت في الإنسان حيوان موجود بعدته عن الفهم ، وإذا قلت حيوان طويل القامة قربته منه ، ففي الزمان كان يجب أن يعرف بما يختص به لأن الفعل الماضي والمستقبل والحال يختص بأزمنة ، والمصدر له زمان مطلق ، فلو قلت زمان الخروج تميز عن زمان الدخول وغيره ، فإذا قلت يوم خرج أفاد ما أفاد قولك يوم الخروج مع زيادة هو أنه تميز عن يوم يخرج والإضافة إلى ما هو أشد تمييزاً أولى ، كما أنك إذا قلت غلام رجل ميزته عن غلام امرأة ، وإذا قلت غلام زيد زدت عليه في الإفادة وكان أحسن ، كذلك قولنا يوم خرج لتعريف ذلك اليوم خير من قولك يوم الخروج ، فظهر من هذا البحث أن الزمان يضاف إلى الفعل وغيره لا يضاف لاختصاص الفعل بالزمان دون غيره إلا المكان في قوله اجلس حيث يجلس ، فإن حيث يضاف إلى الجمل لمشابهة ظرف المكان لظرف الزمان ، وأما الجمل فهي إنما يصح بواسطة تضمنها الفعل ، فلا يقال يوم زيد أخوك ، ويقال يوم زيد فيه خارج.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
(1/4196)

ومن جملة الفوائد اللفظية أن لات يختص استعمالها بالزمان قال الله تعالى : {وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (ص : 3) ولا يقال لات الرجل سوء/ وذلك لأن الزمان تجدد بعد تجدد ولا يبقى بعد الفناء حياة أخرى وبعد كل حركة حركة أخرى وبعد كل زمان زمان وإليه الإشارة بقوله تعالى : {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} (الرحمن : 29) أي قبل الخلق لم يخلق شيئاً ، لكنه يعد ما خلق فهو أبداً دائماً يخلق شيئاً بعد شيء فبعد حياتنا موت وبعد موتنا حياة وبعد حياتنا حساب وبعد الحساب ثواب دائم أو عقاب لازم ولا يترك الله الفعل فلما بعد الزمان عن النفي زيد في الحروف النافية زيادة ، فإن قيل فالله تعالى أبعد عن الانتفاء فكان ينبغي أن لا تقرب التاء بكلمة لا هناك ، نقول {وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} تأويل وعليه لا يرد ما ذكرتم وهو أن لا هي المشبهة بليس تقديره ليس الحين حين مناص ، وهو المشهور ، ولذلك اختص بالحين دون اليوم والليل لأن الحين أدوم من الليل والنهار فالليل والنهار قد لا يكون والحين يكون.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع فويل إذاً للمكذبين ، فالفاء لاتصال المعنى ، وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان ، وذلك لأنه لما قال : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (الطور : 7) لم يبين بأن موقعه بمن ، فلما قال : {فَوَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} علم المخصوص به وهو المكذب ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذا قلت بأن قوله {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} بيان لمن يقع به العذاب وينزل عليه فمن لا يكذب لا يعذب ، فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يكذبون ، نقول ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر وهذا كما في قوله تعالى : {كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} (الملك : 8 ، 9) فنقول المؤمن لا يلقى فيها إلقاء بهوان ، وإنما يدخل فيها ليظهر إدخال مع نوع إكرام ، فكذلك الويل للمكذبين ، والويل ينبىء عن الشدة وتركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن نوع شدة ، منه لوى إذا دفع ولوى يلوي إذا كان قوياً والولي فيه القوة على المولى عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : {يُدَعُّونَ} (الطور : 13) فإن المكذب يدع والمصدق لا يدع ، وقد ذكرنا جواز التنكير في قوله {وَيْلٌ} مع كونه مبتدأ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء ومضى ، وجهه في قوله تعالى : {قَالَ سَلَـامٌ} (الذاريات : 25) والخوض نفسه خص في استعمال القرآن بالاندفاع في الأباطيل ، ولهذا قال تعالى : {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } (التوبة : 69) وقال تعالى : {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآاـاِضِينَ} (المدثر : 45) وتنكير الخوض يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون للتكثير أي في خوض كامل عظيم ثانيهما : أن يكون التنوين تعويضاً عن المضاف إليه ، كما في قوله تعالى : {إِلا} (التوبة : 8) وقوله {وَإِنَّ كُلا} (هود : 111) و{بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (البقرة : 251). والأصل في خوضهم المعروف منهم وقوله {الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ} ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم ، وإنما هو للذم كما أنك تقول الشيطان الرجيم /ولا تريد فصله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك أكرم الرجل العالم ، فالوصف بالرجيم للذم به لا للتعريف وتقول في المدح : الله الذي خلق ، والله العظيم للمدح لا للتمييز ولا للتعريف عن إله لم يخلق أو إله ليس بعظيم ، فإن الله واحد لا غير.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
فيه مباحث لفظية ومعنوية. أما اللفظية ففيها مسائل :
المسألة الأولى : يوم منصوب بماذا ؟
نقول الظاهر أنه منصوب بما بعده وهو ما يدل عليه قوله تعالى : {هَـاذِهِ النَّارُ} (الطور : 14) تقديره يوم يدعون يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون ، ويحتمل غير هذا وهو أن يكون يوم بدلاً عن يوم في يومئذ تقريره فويل يومئذ للمكذبين ويوم يوعدون أي المكذبون وذلك أن قوله {يَوْمَـاـاِذٍ} (الطور : 11) معناه يوم يقع العذاب وذلك اليوم هو يوم يوعدون فيه إلى النار.
المسألة الثانية : قوله {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } يدل على هول نار جهنم ، لأن خزنتها لا يقربون منها وإنما يدفعون أهلها إليها من بعيد ويلقونهم فيها وهم لا يقربونها.
المسألة الثالثة : {دَعًّا} مصدر ، وقد ذكرت فائدة ذكر المصادر وهي الإيذان بأن الدع دع معتبر يقال له دع ولا يقال فيه ليس بدع ، كما يقول القائل في الضرب الخفيف مستحقراً له : هذا ليس بضرب والعدو المهين : هذا ليس بعدو في غير المصادر ، والرجل الحقير ليس برجل إلا على قراءة من قرأ {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} فإن دعاء حينئذ يكون منصوباً على الحال تقديره يقال لهم هلموا إلى النار مدعوين إليها.
(1/4197)

أما المعنوية فنقول قوله تعالى : {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ} يدل على أن خزنتها يقذفونهم فيها وهم بعداء عنها ، وقال تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ} (القمر : 48) نقول الجواب عنه من وجوه أحدها : أن الملائكة يسحبونهم في النار ثم إذا قربوا من نار مخصوصة هي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في النار والدفع في نار أشد وأقوى ، ويدل عليه قوله تعالى : {يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} (غافر : 71 ، 72) أي يكون لهم سحب في حموة النار ثم بعد ذلك يكون لهم إدخال الثاني : جاز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة ، فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يسحبهم آخر.
الثالث : جاز أن يكون السحب بسلاسل يسحبون في النار والساحب خارج النار.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
الرابع : يحتمل أن يكون الملائكة يدفعون أهل النار إلى النار إهانة واستخفافاً بهم ، ثم يدخلون معهم النار ويسحبونهم فيها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
ثم قال تعالى : {هَـاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} على تقدير قال.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
/ثم قال تعالى : {أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} تحقيقاً للأمر ، وذلك لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه ، فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين إما لأمر عائد إلى المرئي وإما لأمر عائد إلى الرائي فقوله {أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ} أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل ؟
استفهام إنكار ، أي لا واحد منها ثابت ، فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق ، وإنما قال : {أَفَسِحْرٌ} وذلك أنهم كانوا ينسبون المرئيات إلى السحر فكانوا يقولون بأن انشقاق لقمر وأمثاله سحر وفي ذلك اليوم لما تعلق بهم مع البصر الألم المدرك بحس اللمس وبلغ الإيلام الغاية لم يمكنهم أن يقولوا هذا سحر ، وإلا لما صح منهم طلب الخلاص من النار.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
ثم قال تعالى : {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَآءٌ عَلَيْكُم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إذا لم يمكنكم إنكارها وتحقق أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فاصلوها. وقوله تعالى : {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا } فيه فائدتان إحداهما : بيان عدم الخلاص وانتفاء المناص فإن من لا يصبر يدفع الشيء عن نفسه إما بأن يدفع المعذب فيمنعه وإما بأن يغضبه فيقتله ويريحه ولا شيء من ذلك يفيد في عذاب الآخرة فإن من لا يغلب المعذب فيدفعه ولا يتلخص بالإعدام فإنه لا يقضي عليه فيموت ، فإذن الصبر كعدمه ، لأن من يصبر يدوم فيه ، ومن لا يصبر يدوم فيه الثانية : بيان ما يتفاوت به عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا ، فإن المعذب في الدنيا إن صبر ربما انتفع بالصبر إما بالجزاء في الآخرة ، وإما بالحمد في الدنيا ، فيقال له ما أشجعه وما أقوى قلبه ، وإن جزع يذم ، فيقال يجزع كالصبيان والنسوان ، وأما في الآخرة لا مدح ولا ثواب على الصبر ، وقوله تعالى : {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } {سَوَآءٌ} خبر ، ومبتدأه مدلول عليه بقوله {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا } كأنه يقول : الصبر وعدمه سواء ، فإن قيل يلزم الزيادة في التعذيب ، ويلزم التعذيب على المنوي الذي لم يفعله ، نقول فيه لطيفة ، وهي أن المؤمن بإيمانه استفاد أن الخير الذي ينويه يثاب عليه ، والشر الذي ينويه ولا يحققه لا يعاقب عليه ، والكافر بكفره صار على الضد ، فالخير الذي ينويه ولا يعمله لا يثاب عليه ، والشر الذي يقصده ولا يقع منه يعاقب عليه ولا ظلم ، فإن الله تعالى أخبره به ، وهو اختار ذلك ودخل فيه باختياره ، كأن الله تعالى قال : فإن من كفر ومات كافراً أعذبه أبداً فاحذروا ، ومن آمن أثيبه دائماً ، فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما سمع ذلك ، فإذا عاقبه المعاقب دائماً تحقيقاً لما أوعده به لا يكون ظالماً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
ثم قال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَعِيمٍ} على ما هو عادة القرآن من بيان حال المؤمن /بعد بيان حال الكافر ، وذكر الثواب عقيب ذكر العقاب ليتم أمر الترهيب والترغيب ، وقد ذكرنا تفسير المتقين في مواضع ، والجنة وإن كانت موضع السرور ، لكن الناطور قد يكون في البستان الذي هو غاية الطيبة وهو غير متنعم ، فقوله {وَنَعِيمٍ} يفيد أنهم فيها يتنعمون ، كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطور.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
(1/4198)

وقوله {فَـاكِهِينَ} يزيد في ذلك لأن المتنعم قد يكون آثار التنعم على ظاهره وقلبه مشغول ، فلما قال : {فَـاكِهِينَ} يدل على غاية الطيبة ، وقوله {بِمَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ} يفيد زيادة في ذلك ، لأن الفكه قد يكون خسيس النفس فيسره أدنى شيء ، ويفرح بأقل سبب ، فقال : {فَـاكِهِينَ} لا لدنو هممهم بل لعلو نعمهم حيث هي من عند ربهم.
وقوله تعالى : {وَوَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد أنهم فاكهون بأمرين أحدهما : بما آتاهم ، والثاني : بأنه وقاهم وثانيهما : أن يكون ذلك جملة أخرى منسوقة على الجملة الأولى ، كأنه بيّن أنه أدخلهم جنّات ونعيماً ووقاهم عذاب الجحيم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
فيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المسكن وهو الجنّات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله قوله {جَنَّـاتٍ} إشارة إلى المسكن والمسكن للجسم ضروري وهو المكان ، فقال : {فَـاكِهِينَ} لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله ، وقد ذكرنا هذا ، وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما ، وقوله تعالى : {هَنِى ئَا } إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا ، منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام ، ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع ، فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه ، ولا إثم ولا تعب في تحصيله ، فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه ، فلا يتهنأ ، وكل ذلك في الجنة منتف. وقوله تعالى : {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إشارة إلى أنه تعالى يقول /أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة ، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى : {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} (الحجرات : 17). وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد فإن قيل قال في حق الكفار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم : 7) وقال في حق المؤمنين {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهل بينهما فرق ؟
قلت بينهما بون عظيم من وجوه الأول : كلمة {إِنَّمَا} للحصر أي لا تجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله ، وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب الثاني : قال هنا {بِمَا كُنتُمْ}
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
(1/4199)

وقال هناك {مَا كُنتُمْ} أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة كما تقول هذا عين ما عملت وقد تقدم بيان هذا وقال في حق المؤمن {بِمَا كُنتُمْ} كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا الثالث : ذكر الجزاء هناك وقال ههنا {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لأن الجزاء ينبىء عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئاً آخر. فإن قيل فالله تعالى قال في مواضع {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأحقاف : 14) في الثواب ، نقول في تلك المواضع لما لم يخاطب المجزي لم يقل تجزى وإنما أتى بما يفيد العالم بالدوام وعدم الانقطاع. وأما في السرر فذكر أموراً أيضاً أحدها : الاتكاء فإنه هيئة تختص بالمنعم ، والفارغ الذي لا كلفة عليه ولا تكلف لديه فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس له ولا يتكىء عنده ، ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فالهيئة دليل خير. ثم الجمع يحتمل أمرين أحدهما : أن يكون لكل واحد سرر وهو الظاهر لأن قوله {مَّصْفُوفَةٍ } يدل على أنها لواحد لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفة ولفظ السرير فيه حروف السرور بخلاف التخت وغيره ، وقوله {مَّصْفُوفَةٍ } دليل على أنه لمجرد العظم فإنها لو كات متفرقة لقيل في كل موضع واحد ليتكىء عليه صاحبه إذا حضر في هذا الموضع ، وقوله تعالى : {وَزَوَّجْنَـاهُم} إشارة إلى النعمة الرابعة وفيها أيضاً ما يدل على كمال الحال من وجوه أحدها : أنه تعالى هو المزوج وهو يتولى الطرفين يزوج عباده بأمانه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء ثانيها : قال : {وَزَوَّجْنَـاهُم بِحُورٍ} ولم يقل وزوجناهم حوراً مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف يقال زوجتكها قال تعالى : {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا} (الأحزاب : 37) وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم وذلك لأن المفعول بغير حرف يعلق الفعل به كذلك التزويج تعلق بهم ثم بالحور ، لأن ذلك بمعنى جعلنا ازدواجهم بهذا الطريق وهو الحور ثالثها : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن ، فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه وأحسن ما في الوجه العين ، ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح ، أما حسن المزاج فعلامته الحور ، وأما وفرة الروح فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها ، فإن قيل قوله ذكره بفعل ماض و{تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِـاِينَ} حال ولم يسبق ذكر فعل ماض /يعطف عليه ذلك وعطف الماضي على الماضي والمستقبل على المستقبل أحسن ، نقول الجواب من وجوه اثنان لفظيان ومعنوي أحدها : أن ذلك حسن في كثير من المواضع ، تقول جاء زيد ويجيء عمراً وخرج زيد ثانيها : أن قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَعِيمٍ} تقديره أدخلناهم في جنات ، وذلك لأن الكلام على تقدير أن في اليوم الذي يدع الكافر في النار في ذلك الوقت يكون المؤمن قد أدخل مكانه ، فكأنه تعالى يقول في يوم يدعون إلى نار جهنم إن المتقين كائنون في جنّات والثالث : المعنوي وهو أنه تعالى ذكر مجزاة الحكم ، فهو في هذا اليوم زوج عباده حوراً عيناً ، وهن منتظرات الزفاف يوم الآزفة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
(1/4200)

ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وفيه لطائف الأولى : أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة ، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولههم بأولادهم بل يجمع بينهم ، فإن قيل قد ذكرت في تفسير بعض الآيات أن الله تعالى يسلي الآباء عن الأبناء وبالعكس ، ولا يتذكر الأب الذي هو من أهل الجنة الابن الذي هو من أهل النار ، نقول الولد الصغير وجد في والده الأبوة الحسنة ولم يوجد لها معارض ولهذا ألحق الله الولد بالوالد في الإسلام في دار الدنيا عند الصغر وإذا كبر استقل ، فإن كفر ينسب إلى غير أبيه ، وذلك لأن الإسلام للمسلمين كالأب ولهذا قال تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) جمع أخ بمعنى أخوة الولادة والإخوان جمعه بمعنى أخوة الصداقة والمحبة فإذن الكفر من حيث الحس والعرف أب ، فإن خالف دينه دين أبيه صار له من حيث الشرع أب آخر ، وفيه أرشاد الآباء إلى أن لا يشغلهم شيء عن الشفقة على الولد فيكون من القبيح الفاحش أن يشتغل الإنسان بالتفرج في البستان مع الأحبة الإخوان وعن تحصيل قوت الولدان ، وكيف لا يشتغل أهل الجنة بما في الجنة من الحور العين عن أولادهم حتى ذكروهم فأراح الله قلوبهم بقوله {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} وإذا كان كذلك فما ظنك بالفاسق الذي يبذر ماله في الحرام ويترك أولاده يتكففون وجوه اللئام والكرام ، نعوذ بالله منه وهذا يدل على أن من يورث أولاده مالاً حلالاً يكتب له به صدقة ، ولهذا لم يجوز للمريض التصرف في أكثر من الثلث.
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : {ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} فهذا ينبغي أن يكون دليلاً على أنا في الآخرة نلحق بهم لأن في دار الدنيا مراعاة الأسباب أكثر. ولهذا لم يجر الله عادته على أن يقدم بين يدي الإنسان طعاماً من السماء ، فما يتسبب له بالزراعة والطحن والعجن لا يأكله ، وفي الآخرة /يؤتيه ذلك من غير سعي جزاء له على ما سعى له من قبل فينبغي أن يجعل ذلك دليلاً ظاهراً على أن الله تعالى يلحق به ولده وإن لم يعمل عملاً صالحاً كما أتبعه ، وإن لم يشهد ولم يعتقد شيئاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : {بِإِيمَـانٍ} فإن الله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده ، ومن ارتد من المسلمين والعياذ بالله لا يحكم بكفر ولده.
اللطيفة الرابعة : قال في الدنيا وقال في الآخرة {بِإِيمَـانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ} وذلك لأن في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات المتبوع ، وإنما يكون هو تبعاً والأب أصلاً لفضل الساعي على غير الساعي ، وأما في الآخرة فإذا ألحق الله بفضله ولده به جعل له من الدرجة مثل ما لأبيه.
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى : {وَمَآ أَلَتْنَـاهُم} تطييب لقلبهم وإزالة وهم المتوهم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوالد والولد بل للوالد أجر عمله بفضل السعي ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة.
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى : {مِّنْ عَمَلِهِم} ولم يقل من أجرهم ، وذلك لأن قوله تعالى : {وَمَآ أَلَتْنَـاهُم مِّنْ عَمَلِهِم} دليل على بقاء عملهم كما كان والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه الإشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إليه ، ولو قال : ما ألتناهم من أجرهم/ لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ولأنه لو قال تعالى ما ألتناهم من أجرهم ، كان مع ذلك يحتمل أن يقال إن الله تعالى تفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص ، وأعطاه الأجر الجزيل ، مع أن عمله كان له ولولده جميعاً ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } عطف على ماذا ؟
نقول على قوله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} (الطور : 17).
المسألة الثانية : إذا كان كذلك فلم أعاد لفظ {الَّذِينَ كَفَرُوا } وكان المقصود يحصل بقوله تعالى : بعد قوله {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَـاهُم} (الطور : 20) وكان يصير التقدير وزوجناهم وألحقنا بهم ؟
نقول فيه فائدة وهو أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال ههنا {الَّذِينَ كَفَرُوا } أي بوجود الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ، ثم إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة على صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد وربما يدخل الجنة الابن قبل الأب ، وفيه لطيفة معنوية ، وهو أنه ورد في الأخبار أن الولد الصغير يشفع لأبيه وذلك إشارة إلى الجزاء.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
(1/4201)

المسألة الثالثة : هل يجوز غير ذلك ؟
نقول نعم يجوز أن يكون قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } عطفاً على {بِحُورٍ عِينٍ} (الطور : 20) تقديره : زوجناهم بحور عين ، أي قرناهم بهن ، وبالذين آمنوا ، إشارة إلى قوله تعالى : {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} (الحجر : 47) أي جمعنا شملهم بالأزواج والإخوان والأولاد بقوله تعالى : {وَأَتْبَعْنَـاهُمْ} وهذا الوجه ذكره الزمخشري والأول أحسن وأصح ، فإن قيل كيف يصح على /هذا الوجه الإخبار بلفظ الماضي مع أنه سبحانه وتعالى بعد ما قرن بينهم ؟
قلنا صح في وزوجناهم على ما ذكر الله تعالى من تزويجهن منا من يوم خلقهن وإن تأخر زمان الاقتران.
المسألة الرابعة : قرىء في الموضعين بالجمع وذريتهم فيهما بالفرد ، وقرىء في الأول وفي الثانية {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} فهل للثالث وجه ؟
نقول نعم معنوي لا لفظي وذلك لأن المؤمن تتبعه ذرياته في الإيمان ، وإن لم توجد على معنى أنه لو وجد له ألف ولد لكانوا أتباعه في الإيمان حكماً ، وأما الإلحاق فلا يكون حكماً إنما هو حقيقة وذلك في الموجود فالتابع أكثر من الملحوق فجمع في الأول وأفرد الثاني.
المسألة الخامسة : ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـانٍ} ؟
نقول هو إما التخصيص أو التنكير كأنه يقول : أتبعناهم ذرياتهم بإيمان مخلص كامل أو يقول أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه فإن الإيمان كاملاً لا يوجد في الولد بدليل أن من له ولد صغير حكم بإيمانه فإذا بلغ وصرّح بالكفر وأنكر التبعية قيل بأنه لا يكون مرتداً وتبين بقول إنه لم يتبع وقيل بأنه يكون مرتداً لأنه كفر بعد ما حكم بإيمانه كالمسلم الأصلي فإذن بهذا الخلاف تبين أن إيمانه يقوى وهذان الوجهان ذكرهما الزمخشري ، ويحتمل أن يكون المراد غير هذا وهو أن يكون التنوين للعوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى : {بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (البقرة : 251) وقوله تعالى : {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (النساء : 95) وبيانه هو أن التقدير أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الاتباع ليس بإيمان كيف كان وممن كان ، وإنما هو إيمان الآباء لكن الإضافة تنبىء عن تقييد وعدم كون الإيمان إيماناً على الإطلاق ، فإن قول القائل ماء الشجر وماء الرمان يصح وإطلاق اسم الماء من غير إضافة لا يصح فقوله {بِإِيمَـانٍ} يوهم أنه إيمان مضاف إليهم/ كما قال تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) حيث أثبت الإيمان المضاف ولم يكن إيماناً ، فقطع الإضافة مع إرادتها ليعلم أنه إيمان صحيح وعوض التنوين ليعلم أنه لا يوجب الأمان في الدنيا إلا إيمان الآباء وهذا وجه حسن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
ثم قال تعالى : {كُلُّ امْرِى ا بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قال الواحدي : هذا عود إلى ذكر أهل النار فإنهم مرتهنون في النار ، وأما المؤمن فلا يكون مرتهناً قال تعالى : {كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَـابَ الْيَمِينِ} (المدثر : 38 ، 39) وهو قول مجاهد وقال الزمخشري {كُلُّ امْرِى ا بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} عام في كل أحد مرهون عند الله بالكسب فإن كسب خيراً فك رقبته وإلا أربق بالرهن والذي يظهر منه أنه عام في حق كل أحد ، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل ، فيكون المعنى والله أعلم كل امرىء بما كسب راهن أي دائم ، إن أحسن ففي الجنة مؤبداً ، وإن أساء ففي النار مخلداً ، /وقد ذكرنا أن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عامله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
أي زدناهم مأكولاً ومشروباً ، أما المأكول فالفاكهة واللحم ، وأما المشروب فالكأس الذي يتنازعون فيها ، وفي تفسيرها لطائف :
اللطيفة الأولى : لما قال : {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} (الطور : 21) بين الزيادة ليكون ذلك جارياً على عادة الملوك في الدنيا إذا زادوا في حق عبد من عبيدهم يزيدون في أقدار أخبازهم وأقطاعهم ، واختار من المأكول أرفع الأنواع وهو الفاكهة واللحم فإنهما طعام المتنعمين ، وجمع أوصافاً حسنة في قوله مما يشتهون ، لأنه لو ذكر نوعاً فربما يكون ذلك النوع غير مشتهى عند بعض الناس فقال كل أحد يعطى ما يشتهي ، فإن قيل الاشتهاء كالجوع وفيه نوع ألم ، نقول ليس كذلك ، بل الاشتهاء به اللذة والله تعالى لا يتركه في الاشتهاء بدون المشتهي حتى يتألم ، بل المشتهي حاصل مع الشهوة والإنسان في الدنيا لا يتألم إلا بأحد أمرين ، إما باشتهاء صادق وعجزه عن الوصول إلى المشتهي ، وإما بحصول أنواع الأطعمة والأشربة عنده وسقوط شهوته وكلاهما منتف في الآخرة.
(1/4202)

اللطيفة الثانية : لما قال : {ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَـاهُم} ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي ، فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي ، بطريق آخر وهو الزيادة والإمداد ، فإن قيل أكثر الله من ذكر الأكل والشرب ، وبعض العارفين يقولون لخاصة الله بالله شغل شاغل عن الأكل والشرب وكل ما سوى الله ، نقول هذا على العمل ، ولهذا قال تعالى : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الواقعة : 24) وقال : {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور : 16) وأما على العلم بذلك فذلك ، ولهذا قال : {لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} أي للنفوس ما تتفكه به ، وللأرواح ما تتمناه من القربة والزلفى.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
وقوله تعالى : {يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} فيكون ذلك على عادة الملوك إذا جلسوا في مجالسهم للشرب يدخل عليهم بفواكه ولحوم وهم على الشرب ، وقوله تعالى : {يَتَنَـازَعُونَ} أي يتعاطون ويحتمل أن يقال التنازع التجاذب وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة ، وفيه نوع لذة وهو بيان ما هو عليه حال الشراب في الدنيا فإنهم يتفاخرون بكثرة الشرب ولا يتفاخرون بكثرة الأكل ، ولهذا إذا شرب أحدهم يرى الآخر واجباً أن يشرب مثل ما شربه حريفه ولا يرى واجباً أن يأكل مثل ما أكل نديمه وجليسه.
وقوله تعالى : {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} وسواء قلنا {فِيهَا} عائدة إلى الجنة أو إلى الكأس فذكرهما /لجريان ذكر الشراب وحكايته على ما في الدنيا ، فقال تعالى ليس في الشرب في الآخرة كل ما فيه في الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل ومن التأثيم الذي بسبب نهوض الشهوة والغضب عند وفور العقل والفهم ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يقال لا يعتريه كما يعتري الشارب بالشرب في الدنيا فلا يؤثم أي لا ينسب إلى إثم ، وفيه وجه رابع ، وهو أن يكون المراد من التأثيم السكر ، وحينئذ يكون فيه ترتيب حسن وذلك لأن من الناس من يسكر ويكون رزين العقل عديم اعتياد العربدة فيسكن وينام ولا يؤذي ولا يتأذى ولا يهذي ولا يسمع إلى من هذى ، ومنهم من يعربد فقال : {لا لَغْوٌ فِيهَا} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
أي بالكؤوس وقال تعالى : {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} (الواقعة : 17 ، 18) وقوله {لَهُمْ} أي ملكهم إعلاماً لهم بقدرتهم على التصرف فيهم بالأمر والنهي والاستخدام وهذا هو المشهور ويحتمل وجهاً آخر وهو أنه تعالى لما بيّن امتياز خمر الآخرة عن خمر الدنيا بين امتياز غلمان الآخرة عن غلمان الدنيا ، فإن الغلمان في الدنيا إذا طافوا على السادة الملوك يطوفون عليهم لحظ أنفسهم إما لتوقع النفع أو لتوفر الصفح ، وأما في الآخرة فطوفهم عليهم متمخض لهم ولنفعهم ولا حاجة لهم إليهم والغلام الذي هذا شأنه له مزية على غيره وربما يبلغ درجة الأولاد. وقوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ} أي في الصفاء ، و{مَّكْنُونٌ} ليفيد زيادة في صفاء ألوانهم أو لبيان أنهم كالمخدرات لا بروز لهم ولا خروج من عندهم فهم في أكنافهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
إشارة إلى أنهم يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه ، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا ، فتزداد لذة المؤمن من حيث يرى نفسه انتقلت من السجن إلى الجنة ومن الضيق إلى السعة ، ويزداد الكافر ألماً حيث يرى نفسه منتقلة من الشرف إلى التلف ومن النعيم إلى الجحيم ، ثم يتذكرون ما كانوا /عليه في الدنيا من الخشية والخوف ، فيقولون {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} وهو أنهم يكون تساؤلهم عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون خشية الله كنا نخاف الله {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ} وفيه لطيفة وهو أن يكون إشفاقهم على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان ثم لما نزلوا الجنة علموا خطأهم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بيّن أن في الوجود قوماً يخافون الله ويشفقون في أهليهم ، والنبي صلى الله عليه وسلّم مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى بقوله {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق : 45) فحقق من يذكره فوجب التذكير ، وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفاء في قوله {فَذَكِّرْ} قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء.
المسألة الثانية : معنى الفاء في قوله {فَمَآ أَنتَ} أيضاً قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم ، فإن ذلك سيرة المزور {فَذَكِّرْ} فإنك لست بمزور ، وذلك سبب التذكير.
(1/4203)

المسألة الثالثة : ما وجه تعلق قوله {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} بقوله {شَاعِرٌ} ؟
نقول فيه وجهان الأول : أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء وتتقي ألسنتهم ، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون ، وقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وإنما سبيلنا الصبر وتربص موته الثاني : أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقول إن الحق دين الله ، وإن الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر وكتابي يتلى إلى قيام الساعة ، فقالوا ليس كذلك إنما هو شاعر ، والذي يذكره في حق آلهتنا شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك.
المسألة الرابعة : ما معنى ريب المنون ؟
نقول قيل هو اسم للموت فعول من المن وهو القطع والموت قطوع ، ولهذا سمي بمنون ، وقيل المنون الدهر وريبه حوادثه ، وعلى هذا قولهم {نَّتَرَبَّصُ} يحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل فساد أمره وكساد شعره.
المسألة الخامسة : كيف قال : {تَرَبَّصُوا } بلفظ الأمر وأمر النبي صلى الله عليه وسلّم يوجب المأمور (به) أو يفيد جوازه ، وتربصهم ذلك كان حراماً ؟
نقول ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد معناه تربصوا ذلك فإنا نتربص الهلاك بكم على حد ما يقول السيد الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك /بغافل وهو أمر لتهوين الأمر على النفس ، كما يقول القائل لمن يهدده برجل ويقول أشكوك إلى زيد فيقول اشكني أي لا يهمني ذلك وفيه زيادة فائدة ، وذلك لأنه لو قال لا تشكني لكان ذلك دليل الخوف وينافيه معناه ، فأتى بجواب تام من حيث اللفظ والمعنى ، فإن قيل لو كان كذلك لقال تربصوا أو لا تربصوا كما قال : {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا } (الطور : 16) نقول ليس كذلك لأنه إذا قال القائل فيما ذكرناه من المثال اشكني أو لا تشكني يكون ذلك مفيداً عدم خوفه منه ، فإذا قال اشكني يكون أدل على عدم الخوف ، فكأنه يقول أنا فارغ عنه ، وإنما أنت تتوهم أنه يفيد فافعل حتى يبطل اعتقادك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المسألة السادسة : في قوله تعالى : {فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} وهو يحتمل وجوهاً أحدها : إني معكم من المتربصين أتربص هلاككم وقد أهلكوا يوم بدر وفي غيره من الأيام هذا ما عليه الأكثرون والذي نقوله في هذا المقام هو أن الكلام يحتمل وجوهاً وبيانها هو أن قوله تعالى : {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} إن كان المراد من المنون الموت فقوله {إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} معناه إني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد/ لعدم علمي بما قدمت يداه وإنما أنا نذير وأنا أقول ما قال ربي {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى ا أَعْقَـابِكُمْ } (آل عمران : 144) فتربصوا موتي وأنا متربصه ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتوقعون بعدي ، ويحتمل أن يكون كما قيل تربصوا موتي فإني متربص موتكم بالعذاب ، وإن قلنا المراد من ريب المنون صروف الدهر فمعناه إنكار كون صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول أنا من المتربصين حتى أبصر ماذا يأتي به دهركم الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يصيبني منه ، وعلى التقديرين فنقول النبي صلى الله عليه وسلّم يتربص ما يتربصون ، غير أن في الأول : تربصه مع اعتقاد الوقوع ، وفي الثاني : تربصه مع اعتقاد عدم التأثير ، على طريقة من يقول أنا أيضاً أنتظر ما ينتظره حتى أرى ماذا يكون منكراً عليه وقوع ما يتوقع وقوعه ، وإنما هذا لأن ترك المفعول في قوله {فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} لكونه مذكوراً وهو ريب المنون أولى من تركه وإرادة غير المذكور وهو العذاب الثاني : أتربص صروف الدهر ليظهر عدم تأثيرها فهو لم يتربص بهم شيئاً على الوجهين ، وعلى هذا الوجه يتربص بقاءه بعدهم وارتفاع كلمته فلم يتربص بهم شيئاً على الوجوه التي اخترناها فقال : {فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} .
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
وأم هذه أيضاً على ما ذكرنا متصلة تقديرها أنزل عليهم ذكر ؟
أم تأمرهم أحلامهم بهذا ؟
وذلك لأن الأشياء إما أن تثبت بسمع وإما أن تثبت بعقل فقال هل ورد أمر سمعي ؟
أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون ؟
أم هم قوم طاغون يغترون ، ويقولون ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً ؟
والطغيان مجاوزة الحد في العصيان وكذلك كل شيء ظاهره مكروه ، قال الله تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} (الحاقه : 11) وفيه مسائل :
/المسألة الأولى : إذا كان المراد ما ذكرت فلم أسقط ما يصدر به ؟
تقول لأن كون ما يقولون به مسنداً إلى نقل معلوم عدمه لا ينفى ، وأما كونه معقولاً فهم كانوا يدعون أنه معقول ، وأما كونهم طاغين فهو حق ، فخص الله تعالى بالذكر ما قالوا به وقال الله به ، فهم قالوا نحن نتبع العقل ، والله تعالى قال هم طاغون فذكر الأمرين اللذين وقع فيهما الخلاف.
(1/4204)

المسألة الثانية : قوله {تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـامُهُم} إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وفق العقل ، لا ينبغي أن يقال ، وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلاً ، فهل صار (كل) واجب عقلاً مأموراً به.
المسألة الثالثة : ما الأحلام ؟
نقول جمع حلم وهو العقل وهما من باب واحد من حيث المعنى ، لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرك من مكانه ، والحلم من الحلم وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته ، وكذلك يقال للعقول النهى من النهي وهو المنع ، وفيه معنى لطيف وهو أن الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل ، وهو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفاً ، وكأن الله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة كمل العقل فأشار إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ، ليعلم أنه نذير كمال العقل ، لا العقل الذي به يحترز الإنسان تخطىء الشرك ودخول النار ، وعلى هذا ففيه تأكيد لما ذكرنا أن الإنسان لا ينبغي أن يقول كل معقول ، بل لا يقول إلا ما يأمر به العقل الرزين الذي يصحح التكليف.
المسألة الرابعة : هذا إشارة إلى ماذا ؟
نقول فيه وجوه الأول : أن يكون هذا إشارة مهمة ، أي بهذا الذي يظهر منهم قولاً وفعلاً حيث يعبدون الأصنام والأوثان ويقولون الهذيان من الكلام الثاني : هذا إشارة إلى قولهم هو كاهن هو شاعر هو مجنون الثالث : هذا إشارة إلى التربص فإنهم لما قالوا نتربص قال الله تعالى أعقولهم تأمرهم بتربص هلاكهم فإن أحداً لم يتوقع هلاك نبيه إلا وهلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المسألة الخامسة : هل يصح أن تكون أم في هذا الموضع بمعنى بل ؟
نقول نعم ، تقديره يقولون : إنه شاعر قولاً بل يعتقدونه عقلاً ويدخل في عقولهم ذلك ، أي ليس ذلك قولاً منهم من غير عقل بل يعتقدون كونه كاهناً ومجنوناً ، ويدل عليه قراءة من قرأ بل هم قوم طاغون ، لكن بل ههنا واضح وفي قوله بل تأمرهم أحلامهم خفي.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
وهو متصل بقوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِه } (الطور : 30) وتقديره على ما ذكرنا أتقولون كاهن ، أم تقولون شاعر ، أم تقوله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
ثم قال لبطلان جميع الأقسام {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه إِن كَانُوا صَـادِقِينَ} أي إن كان هو شاعراً ففيكم الشعراء البلغاء والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر ويقص القصص ولا يختلف /الناقص والزائد فليأتوا بمثل ما أتى به ، والتقول يراد به الكذب. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن التفعل للتكلف وإراءة الشيء وهو ليس على ما يرى يقال تمرض فلان أي لم يكون مريضاً وأرى من نفسه المرض وحينئذ كأنهم كانوا يقولون كذب وليس بقول إنما هو تقول صورة القول وليس في الحقيقة به ليعلم أن المكذب هو الصادق ، وقوله تعالى : {بَل لا يُؤْمِنُونَ} بيان هذا أنهم كانوا في زمان نزول الوحي وحصول المعجزة كانوا يشاهدونها وكان ذلك يقتضي أن يشهدوا له عند غيرهم ويكونوا كالنجوم للمؤمنين كما كانت الصحابة رضي الله عنهم وهم لم يكونوا كذلك بل أقل من ذلك لم يكونوا أيضاً وهو أن يكونوا من آحاد المؤمنين الذين لم يشهدوا تلك الأمور ولم يظهر الأمر عندهم ذلك الظهور.
وقوله تعالى : {فَلْيَأْتُوا } الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ويبطل كلامه وفيه مباحث :
الأول : قال بعض العلماء {فَلْيَأْتُوا } أمر تعجيز بقول القائل لمن يدعي أمراً أو فعلاً ويكون غرضه إظهار عجزه ، والظاهر أن الأمر ههنا مبقي على حقيقته لأنه لم يقل : ائتوا مطلقاً بل إنما قال : ائتوا إن كنتم صادقين ، وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز في كلام الله تعالى قوله تعالى : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ } (البقرة : 258) وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم.
الثاني : قالت المعتزلة الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً ، نقول الحديث اسم مشترك ، يقال للمحدث والقديم ، ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم بمعنى متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لا نزاع فيه.
(1/4205)

الثالث : النحاة يقولون الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير ، لكن الموصوف حديث وهو منكر ومثل مضاف إلى القرآن والمضاف إلى المعرف معرف ، فكيف هذا ؟
نقول مثل وغير لا يتعرفان بالإضافة وكذلك كل ما هو مثلهما والسبب أن غير أو مثلاً وأمثالهما في غاية التنكير ، فإنك إذا قلت ما رأيت شيئاً مثل زيد يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئاً ، فالجماد مثله في الجسم والحجم والإمكان ، والنبات مثله في النشوء والنماء والذبول والفناء ، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف ، وأما غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت غير زيد صار في غاية الإيهام فإنه يتناول أموراً لا حصر لها ، وأما إذا قطعته عن الإضافة ربما تقول الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس ، أو تجعله مبتدأ وتريد به معنى معيناً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
الرابع : {إِن كَانُوا صَـادِقِينَ} أي في قولهم {تَقَوَّلَه } (الطور : 33) وقد ذكرنا أن ذلك راجع إلى ما سبق من أنه كاهن وأن مجنون ، وأنه شاعر ، وأنه متقول ، ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك لهان عليهم الإتيان بمثل القرآن ، ولما امتنع كذبوا في الكل.
/البحث الخامس : قد ذكرنا أن القرآن معجز ولا شك فيه ، فإن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثل ما يقرب منه عند التحدي فإما أن يكون كونه معجزاً لفصاحته وهو مذهب أكثر أهل السنة وإما أن يكون معجزاً لصرف الله عقول العقلاء عن الإتيان بمثله/ وعقله ألسنتهم عن النطق بما يقرب منه ، ومنع القادر من الإتيان بالمقدور كإتيان الواحد بفعل لا يقدر عليه غيره فإن من قال لغيره أنا أحرك هذا الجبل يستبعد منه ، وكذا إذا قال إني أفعل فعلاً لا يقدر الخلق (معه) على حمل تفاحة من موضعها يستبعد منه على أن كل واحد فعل معجز إذا اتصل بالدعوى ، وهذا مذهب بعض المتكلمين ولا فساد فيه وعلى أن يقال هو معجز بهما جميعاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
ومن هنا لا خلاف أن {أَمْ} ليست بمعنى بل ، لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام ، إما بالهمزة فكأنه يقول أخلقوا من غير شيء أو هل ، ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره أما خلقوا ، أم خلقوا من غير شيء ، أم هم الخالقون ؟
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها ؟
نقول لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلّم ونسبوه إلى الكهانة والجنون والشعر وبرأه الله من ذلك ، ذكر الدليل على صدقه إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم ، كأنه يقول كيف يكذبونه وفي أنفسهم دليل صدقه لأن قوله في ثلاثة أشياء في التوحيد والحشر والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه ، وبيانه هو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما بينا أن في كل شيء له آية ، تدل على أنه واحد ، وقد بينا وجهه مراراً فلا نعيده.
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه ، ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى ختم الاستفهامات بقوله {أَمْ لَهُمْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّه سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور : 43).
المسألة الثانية : إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله أما خلقوا ؟
نقول : لظهور انتفاء ذلك ظهوراً لا يبقى معه للخلاف وجه ، فإن قيل فلم لم يصدر بقوله أما خلقوا ويقول أم خلقوا من غير شيء ؟
نقول ليعلم أن قبل هذا أمراً منفياً ظاهراً ، وهذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان فإن قيل قوله {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ} أيضاً ظاهر البطلان ، لأنهم علموا أنهم مخلوقون من تراب وماء ونطفة ، نقول الأول أظهر في البطلان لأن كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدعيه منكراً للضرورة فمنكره منكر لأمر ضروري.
(1/4206)

المسألة الثالثة : ما المراد من قوله تعالى : {مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ} نقول فيه وجوه المنقول منها أنهم /خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثاً ، وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم ، ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء ، أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء ، ودليله قوله تعالى : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} (المرسلات : 20) ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال الله تعالى : {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَه ا أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ} (الواقعة : 59) و{ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَه ا أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ} (الواقعة : 64) {ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـاُونَ} (الواقعة : 72) كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال الله تعالى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ} أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ ، وهذا كما في قوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـاًا مَّذْكُورًا} (الإنسان : 8) فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب ؟
نقول والتراب خلق من غير شيء ، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء ، أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المسألة الرابعة : ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية ؟
نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها ، وقال أما خلقوا أصلاً ، ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق ، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء/ أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة ، كما قال : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون : 115). وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر ، وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعياً يخفي كونه مخلوقاً على بعض الأغبياء ، ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقاً ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولاً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى : {أَمْ خَلَقُوا } بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها تراباً ولا ماء ولا نطفة ليس كذلك بل هم كانوا شيئاً من تلك الأشياء خلقوا منه خلقاً ، فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى : {يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ خَلْقًا مِّنا بَعْدِ خَلْقٍ} (الزمر : 6) ولهذا أكثر الله من قوله {خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ} (الإنسان : 2) وقوله {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ} يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال : أخلقتم لا من ماء ، وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء ، أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضاً وذلك لأن نفي الصانع ، إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقاً فلا يكون ممكناً ، وإما أن يكون ممكناً لكن الممكن لا يكون محتاجاً فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال. وأما قوله تعالى : {أَمْ هُمُ الْخَـالِقُونَ} فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل ، فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق ، فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إله ألبتة ، أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز ، ومثل قوله تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِ } (ق : 15) هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا } (ص : 5) فقال تعالى : {أَمْ هُمُ الْخَـالِقُونَ} حيث لا يقدر / الخباز على الخياطة والخياط على البناء وكل واحد يشغله شأن عن شأن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
(1/4207)

فيه وجوه : أحدها : ما اختاره الزمخشري وهو أنهم لا يوقنون بأنهم خلقوا وهو حينئذ في معنى قوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم وثانيها : المراد بل لا يوقنون بأن الله واحد وتقديره ليس الأمر كذلك أي ما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة الله وثالثها : لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول يقال فلان ليس بمؤمن وفلان ليس بكافر لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولاً ، وكذلك قول القائل فلان يؤذي ويؤدي لبيان ما فيه لا مع القصد إلى ذكر مفعول ، وحينئذ يكون تقديره أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل ، بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية ، يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} (الطور : 44) وهذه الآية إشارة إلى دليل الآفاق ، وقوله من قبل {أَمْ خَلَقُوا } (الطور : 37) دليل الأنفس.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
فيه وجوه أحدها : المراد من الخزائن خزائن الرحمة ثانيها : خزائن الغيب ثالثها : أنه إشارة إلى الأسرار الإلهية المخفية عن الأعيان رابعها : خزائن المخلوقات التي لم يرها الإنسان ولم يسمع بها ، وهذه الوجوه الأول والثاني منقول ، والثالث والرابع مستنبط ، وقوله تعالى : {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ} تتمة للرد عليهم ، وذلك لأنه لما قال : {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَبِّكَ} إشارة إلى أنهم ليسوا بخزنة (رحمة) الله فيعلموا خزائن الله ، وليس بمجرد انتفاء كونهم خزنة ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخزانة ، فإن العلم بالخزائن عند الخازن والكاتب في الخزانة ، فقال لستم بخزنة ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها ، ولا يبعد تفسير المسيطرين بكتبة الخزانة ، لأن التركيب يدل على السطر وهو يستعمل في الكتاب ، وقيل المسيطر المسلط وقرىء بالصاد ، وكذلك في كثير من السيئات التي مع الطاء ، كما في قوله تعالى : {بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية : 22) و(قد قرىء) مصيطر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
وهو أيضاً تتميم للدليل ، فإن من لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب ، /فقال أنتم لستم بخزنة ولا كتبة ولا اجتمعتم بهم ، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المقصود نفي الصعود ، ولا يلزم من نفي السلم لهم نفي الصعود ، فما الجواب عنه ؟
نقول النفي أبلغ من نفي الصعود ، وهو نفي الاستماع وآخر الآية شامل للكل ، قال تعالى : {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} .
المسألة الثانية : السلم لا يستمع فيه ، وإنما يستمع عليه ، فما الجواب ؟
نقول من وجهين : أحدهما : ما ذكره الزمخشري أن المراد {يَسْتَمِعُونَ} صاعدين فيه وثانيهما : ما ذكره الواحدي أن في بمعنى على ، كما في قوله تعالى : {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه : 71) أي جذوع النخل ، وكلاهما ضعيف لما فيه من الإضمار والتغيير.
المسألة الثالثة : لم ترك ذكر مفعول {يَسْتَمِعُونَ} وماذا هو ؟
نقول فيه وجوه أحدها : المستمع هو الوحي ، أي هل لهم سلم يستمعون فيه الوحي ثانيها : يستمعون ما يقولون من أنه شاعر ، وأن لله شريكاً ، وأن الحشر لا يكون ثالثها : ترك المفعول رأساً ، كأنه يقول : هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول ، وكلامه ليس بمرسل.
المسألة الرابعة : قال : {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم} ولم يقل فليأتوا ، كما قال تعالى : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه } (الطور : 34) نقول طلب منهم ما يكون أهون على تقدير صدقهم ، ليكون اجتماعهم عليه أدل على بطلان قولهم ، فقال هناك {فَلْيَأْتُوا } أي اجتمعوا عليه وتعاونوا ، وأتوا بمثله ، فإن ذلك عند الاجتماع أهون ، وأما الارتقاء في السلم بالاجتماع (فإنه) متعذر لأنه لا يرتقي إلا واحد بعد واحد ، ولا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال : {فَلْيَأْتِ} ذلك الواحد الذي كان أشد رقياً بما سمعه.
المسألة الخامسة : قوله {بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} ما المراد به ؟
نقول هو إشارة إلى لطيفة ، وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه ، وقيل لهم {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم} بما سمع لكان لواحد أن يقول : أنا سمعت كذا وكذا فيفتري كذباً ، فقال لا بل الواجب أن يأتي بدليل يدل عليه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
(1/4208)

إشارة إلى نفي الشرك ، وفساد ما يقولون بطريق آخر ، وهو أن المتصرف إنما يحتاج إلى الشريك لعجزه ، والله قادر فلا شريك له ، فإنهم قالوا : نحن لا نجعل هذه الأصنام وغيرها شركاء ، وإنما نعظمها لأنها بنات الله ، فقال تعالى : كيف تجعلون لله البنات ، وخلق البنات والبنين إنما كان لجواز الفناء على الشخص ، ولولا التوالد لانقطع النسل وارتفع الأصل ، من غير أن يقوم مقامه الفصل ، فقدر الله التوالد ، ولهذا لا يكون في الجنة ولادة ، لأن الدار دار البقاء ، لا موت فيها للآباء ، حتى تقام العمارة بحدوث الأبناء. إذا ثبت هذا فالولد إنما يكون في صورة إمكان فناء الأب ، ولهذا قال تعالى في أوائل سورة آل عمران / {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (آل عمران : 2) أي حي لا يموت فيحتاج إلى ولد يرثه ، وهو قيوم لا يتغير ولا يضعف ، فيفتقر إلى ولد ليقوم مقامه ، لأنه ورد في نصارى نجران. ثم إن الله تعالى بيّن هذا بأبلغ الوجوه ، وقال إنهم يجعلون له بنات ، ويجعلون لأنفسهم بنين ، مع أن جعل البنات لهم أولى ، وذلك لأن كثير البنات تعين عل كثرة الأولاد ، لأن الإناث الكثيرة يمكن منهن الولادة بأولاد كثيرة من واحد. وأما الذكور الكثيرة لا يمكن منهم إحبال أنثى واحدة بأولاد ، ألا ترى أن الغنم لا يذبح منها الإناث إلا نادراً ، وذلك لما ثبت أن إبقاء النوع بالأنثى أنفع نظراً إلى التكثير ، فقال تعالى : أنا القيوم الذي لا فناء لي ، ولا حاجة لي في بقاء النوع في حدوث الشخص ، وأنتم معرضون للموت العاجل ، وبقاء العالم بالإناث أكثر ، وتتبرءون منهن والله تعالى مستغن عن ذلك وتجعلون له البنات ، وعلى هذا فما تقدم كان إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لابتداء لله ، وهذا إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لا فناء له ، فإن قيل كيف وقع لهم نسبة البنات إلى الله تعالى مع أن هذا أمر في غاية القبح لا يخفى على عاقل ، والقوم كان لهم العقول التي هي مناط التكليف ، وذلك القدر كاف في العلم بفساد هذا القول ؟
نقول ذلك القول دعاهم إليه اتباع العقل ، وعدم اعتبار النقل ، ومذهبهم في ذلك مذهب الفلاسفة حيث يقولون يجب اتباع العقل الصريح ، ويقولون النقل بمعزل لا يتبع إلا إذا وافق العقل ، وإذا وافق فلا اعتبار للنقل ، لأن العقل هناك كاف ، ثم قالوا الوالد يسمى والداً ، لأنه سبب وجود الولد ، ولهذا يقال : إذا ظهر شيء من شيء هذا تولد من ذلك ، فيقولون الحمى تتولد من عفونة الخلط ، فقالوا الله تعالى سبب وجود الملائكة سبباً واجباً لا اختيار له فسموه بالوالد ، ولم يلتفتوا إلى وجوب تنزيه الله في تسميته بذلك عن التسمية بما يوهم النقص ، ووجوب الاقتصار في أسمائه على الأسماء الحسنى التي ورد بها الشرع لعدم اعتبارهم النقل ، فقالوا يجوز إطلاق الأسماء المجازية والحقيقية على الله تعالى وصفاته ، فسموه عاشقاً ومعشوقاً ، وسموه أباً ووالداً ، ولم يسموه ابناً ولا مولوداً باتفاقهم ، وذلك ضلالة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
0
وجه التعلق هو أن المشركين لما اطرحوا الشرع واتبعوا ما ظنوه عقلاً ، وسموا الموجود بعد العدم مولوداً ومتولداً ، والموجد والداً لزمهم الكفر بسببه والإشراك ، فقال لهم ما الذي يحملكم على اطراح الشرع ، وترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلّم ؟
هل ذلك لطلبه منكم شيئاً فما كان يسعهم أن يقولوا نعم ، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا لا ، فنقول لهم : كيف اتبعتم قول الفلسفي الذي يسوغ لكم الزور وما يوجب الاستخفاف بجانب الله تعالى لفظاً إن لم يكن معنى كما تقولون ، ولا تتبعون الذي يأمركم بالعدل في المعنى والإحسان في اللفظ ، ويقول لكم اتبعوا المعنى الحق الواضح واستعملوا اللفظ /الحسن المؤدب ؟
وهذا في غاية الحسن من التفسير ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم حيث قال أم تسألهم ولم يقل أم يسألون أجراً كما قال تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ} (يونس : 38) وقال تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا } (الطور : 42) إلى غير ذلك ؟
نقول فيه فائدتان :
إحداهما : تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأنهم لما امتنعوا من الاستماع واستنكفوا من الاتباع صعب على النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال له ربه أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا فأنت غير ملوم ، وإنما كنت تلام لو كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأثقلهم ؟
لا فلا حرج عليك إذاً.
ثانيهما : أنه لو قال أم يسألون لزم نفي أجر مطلقاً وليس كذلك ، وذلك لأنهم كانوا يشركون ويطالبون بالأجر من رؤسائهم ، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له أنت لا تسألهم أجراً فهم لا يتبعونك وغيرك يسألهم وهم يسألون ويتبعون السائلين وهذا غاية الضلال.
(1/4209)

المسألة الثانية : إن قال قائل ألزمت أن تبين أن أم لا تقع إلا متوسطة حقيقة أو تقديراً فكيف ذلك ههنا ؟
نقول كأنه تعالى يقول أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً ، وترك الأول لعدم وقوع الإنكار عليه كما قلنا في قوله {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ} (الطور : 39) إن المقدار هو واحد أم له البنات ، وترك ذكر الأول لعدم وقوع الإنكار عليه من الله تعالى وكونهم قائلين بأنه لا يريد وجه الله تعالى ، وإنما يريد الرياسة والأجر في الدنيا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
المسألة الثالثة : هل في خصوص قوله تعالى {أَجْرًا} فائدة لا توجد في غيره لو قال أم تسألهم شيئاً أو مالاً أو غير ذلك ؟
نقول نعم ، وقد تقدم القول مني أن كل لفظ في القرآن فيه فائدة وإن كنا لا نعلمها ، والذي يظهر ههنا أن ذلك إشارة إلى أن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلّم فيه مصلحتهم وذلك لأن الأجر لا يطلب إلا عند فعل شيء يفيد المطلوب منه الأجر فقال : أنت أتيتهم بما لو طلبت عليه أجراً وعلموا كمال ما في دعوتك من المنفعة لهم وبهم ، لأتوك بجميع أموالهم ولفدوك بأنفسهم ، ومع هذا لا تطلب منهم أجراً ، ولو قال شيئاً أو مالاً لما حصلت هذه الفائدة والله أعلم.
المسألة الرابعة : هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجراً ما ، وقوله تعالى : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } (الشورى : 23) يدل على أنه طلب أجراً ما فكيف الجمع بينهما ؟
نقول لا تفرقة بينهما بل الكل حق وكلاهما ككلام واحد ، وبيانه هو أن المراد من قوله {إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } هو أني لا أسألكم عليه أجراً يعود إلى الدنيا ، وإنما أجرى المحبة في الزلفى إلى الله تعالى/ وأن عباد الله الكاملين أقرب إلى الله تعالى من عباده الناقصين ، وعباد الله الذين كلمهم الله وكلموه وأرسلهم لتكميل عباده فكملوا أقرب إلى الله من الذين (لم يكلمهم و) لم يرسلهم الله ولم يكملوا وعلى هذا فهو في معنى قوله {إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللَّه } (يونس : 72) وإليه أنتمي وقوله صلى الله عليه وسلّم : "فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" وقوله {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} وبين ما ذكرنا أن قوله {أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا} المراد أجر الدنيا وقوله {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } المراد العموم ثم استثنى ، ولا حاجة إلى ما قاله الواحدي إن ذلك منقطع معناه لكن المودة في القربى ، وقد ذكرناه هناك فليطلب منه.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلّم ما طلب منهم شيئاً ولو طالبهم بأجر ما كان لهم أن يتركوا اتباعه بأدنى شيء ، اللّهم إلا إن أثقلهم التكليف ويأخذ كل ما لهم ويمنعهم التخليف فيثقلهم الدين بعد ما لا يبقى لهم العين.
جزء : 28 رقم الصفحة : 198
223
وهو على الترتيب الذي ذكرناه كأنه تعالى قال لهم : بم اطرحتم الشرع ومحاسنه ، وقلتم ما قلتم بناء على اتباعكم الأوهام الفاسدة التي تسمونها المعقولات ، والنبي صلى الله عليه وسلّم لا يطلب منكم أجراً وأنتم لا تعلمون فلا عذر لكم لأن العذر إما في الغرامة وإما في عدم الحاجة إلى ما جاء به ولا غرامة عليكم فيه ولا غنى لكم عنه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كيف التقدير ؟
قلنا لا حاجة إلى التقدير بل هو استفهام متوسط على ما ذكرنا كأنه قال أتهديهم لوجه الله تعالى أم تسألهم أجراً فيمتنعون أم لا حاجة لهم إلى ما تقول لكونهم عندهم الغيب فلا يتبعون.
المسألة الثانية : الألف واللام في الغيب لتعريف ماذا ألجنس أو لعهد ؟
نقول الظاهر أن المراد نوع الغيب كما يقول القائل اشترى اللحم يريد بيان الحقيقة لأكل لحم ولا لحماً معيناً ، والمراد في قوله تعالى : {عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} (الأنعام : 73) الجنس واستغراقه لكل غيب.
المسألة الثالثة : على هذا كيف يصح عندهم الغيب وما عند الشخص لا يكون غيباً ؟
نقول معناه حضر عندهم ما غاب عن غيرهم ، وقيل هذا متعلق بقوله {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور : 30) أي أعندكم الغيب تعلمون أنه يموت قبلكم وهو ضعيف ، لبعد ذلك ذكر ، أو لأن قوله تعالى : {قُلْ تَرَبَّصُوا } متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذلك.
(1/4210)

المسألة الرابعة : ما الفائدة في قوله {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ؟
نقول وضوح الأمر ، وإشارة إلى أن ما عند النبي صلى الله عليه وسلّم من علم الغيب علم بالوحي أموراً وأسراراً وأحكاماً وأخباراً كثيرة كلها هو جازم بها وليس كما يقول المتفرس ، الأمر كذا وكذا ، فإن قيل اكتب به خطك أنه يكون يمتنع ويقول أنا لا أدعي فيه الجزم والقطع ولكن أذكره كذا وكذا على سبيل الظن والاستنباط وإن كان قاطعاً يقول اكتبوا هذا عني ، وأثبتوا في الدواوين أن في اليوم الفلاني يقع كذا وكذا فقوله {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} يعني هل صاروا في درجة محمد صلى الله عليه وسلّم حتى استغنوا عنه /وأعرضوا ، ونقل عن ابن قتيبة أن المراد من الكتابة الحكم معناه يحكمون وتمسك بقوله صلى الله عليه وسلّم : "اقض بيننا بكتاب الله" أي حكم الله وليس المراد ذلك ، بل هو من باب الإضمار معناه بما في كتاب الله تعالى يقال فلان يقضي بمذهب الشافعي أي بما فيه ، ويقول الرسول الذي معه كتاب الملك للرعية اعملوا بكتاب الملك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه التعلق والمناسبة بين الكلامين ؟
قلنا يبين ذلك ببيان المراد من قوله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا } فبعض المفسرين قال أم يريدون أن يكيدوك فهم المكيدون ، أي لا يقدرون على الكيد فإن الله يصونك بعينه وينصرك بصونه ، وعلى هذا إذا قلنا بقول من يقول {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ} (القلم : 47) متصل بقوله تعالى : {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور : 30) فيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنهم لما قالوا {نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} قيل لهم أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أم تريدون كيداً فتقولون نقتله فيموت قبلنا فإن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون ، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه فأنتم غالطون فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم ، وأما على ما قلنا إن المراد منه أنه صلى الله عليه وسلّم لا يسألكم على الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لولا هدايته لكونه من الغيوب ، فنقول فيه وجوه الأول : أن المراد من قوله تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا } أي من الشيطان وإزاغته فيحصل مرادهم كأنه تعالى قال أنت لا تسألهم أجراً وهم يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كيد الشيطان ورضوا بإزاغته ، والإرادة بمعنى الاختيار والمحبة ، كما قال تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } (الشورى : 20) وكما قال : {ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات : 86) وأظهر من ذلك قوله تعالى : {إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُواأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} (المائدة : 29) الوجه الثاني : أن يقال إن المراد والله أعلم أم يريدون كيداً لله فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدون ، وترتيب الكلام هو أنهم لما لم يبق حجة في الإعراض فهم يريدون نزول العذاب بهم والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويهديهم إلى ما لا علم لهم ولا كتاب عندهم وهم يعرضون ، فهم يريدون إذاً أن يهلكهم ويكيدهم ، لأن الاستدراج كيد والإملاء لازدياد الإثم ، كذلك لا يقال هو فاسد لأن الكيد والإساءة لا يطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة ، وكذلك المكر فلا يقابله أساء الله إلى الكفار ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً فيهم شيء من ذلك ، ثم قال بعد ذلك بسببه لفظاً في حق الله تعالى كما في قوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) وقال : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (البقرة : 194) وقال : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه } (آل عمران : 54) وقال : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (الطارق : 15 ، 16) لأنا نقول الكيد ما يسوء من نزل به وإن حسن ممن وجد منه ، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : {لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (الأنبياء : 57) من غير مقابلة.
/
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
(1/4211)

المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله تعالى : {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} وما الفرق بين معنى هذا الكلام ومعنى قول القائل : أم يريدون كيداً فهم المكيدون ؟
نقول الفائدة كون الكافر مكيداً في مقابلة كفره لا في مقابلة إرادته الكيد ولو قال : أم يريدون كيداً فهم المكيدون ، كان يفهم منه أنهم إن لم يريدوه لا يكونوا مكيدين ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أن المراد من الكيد كيد الشيطان أو كيد الله ، بمعنى عذابه إياهم لأن قوله {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} عام في كل كافر كاده الشيطان ويكيده الله أي يعذبه/ وصار المعنى على ما ذكرناه أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً فتثقلهم فيمتنعون عن الاتباع ، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك فيعرضون عنك ، أم ليس شيء من هذين الأمرين الأخيرين فيريدون العذاب ، والعذاب غير مدفوع عنهم بوجه من الوجوه لكفرهم فالذين كفروا معذبون.
المسألة الثالثة : ما الفائدة في تنكير الكيد حيث لم يقل أم يريدون كيدك أو الكيد أو غير ذلك ليزول الإبهام ؟
نقول فيه فائدة ، وهي الإشارة إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرون فكأنه قال يأتيهم بغتة ولا يكون لهم به علم أو يكون إيراداً لعظمته كما ذكرنا مراراً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
0
أعاد التوحيد وهو يفيد فائدة قوله تعالى : {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور : 39) وفي {سُبْحَـانَ اللَّهِ} بحث شريف : وهو أهل اللغة قالوا : سبحان اسم علم للتسبيح ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم : 17) وأكثرنا من الفوائد ، فإن قيل يجوز أن نقول سبحان الله اسم مصدر ، ونقول سبحان على وزن فعلان فنذكر سبحان من غير مواضع الإيقاع لله كما يقال في التسبيح ، نقول ذلك مثل قول القائل من حرف جار وفي كلمة ظرف حيث يخبر عنه مع أن الحرف لا يخبر عنه فيجاب بأن من وفى حينئذ جعلا كالاسم ولم يتركا على أصلهما المستعمل في مثل قولك أخذت من زيد والدرهم في الكيس ، فكذلك سبحان فيما ذكر من المواضع لم يترك على مواضع استعماله فإنه حينئذ لم يترك علماً كما يقال زيد على وزن فعل بخلاف التسبيح فيما ذكرنا.
المسألة الرابعة : ما في قوله تعالى : {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يحتمل وجهين أحدهما : أن تكون مصدرية معناه سبحانه عن إشراكهم ثانيهما : خبرية معناه عن الذين يشركون ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون البنات لله فقال سبحان الله على البنات والبنين ، ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة لأنهم كانوا يقولون هو مثل ما يعبدونه فقال سبحان الله عن مثل ما يعبدونه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
0
وجه الترتيب فيه هو أنه تعالى لما بيّن فساد أقوالهم وسقوطها عن درجة الاعتبار أشار إلى أنه لم يبق لهم شيء من وجه الاعتذار ، فإن الآيات ظهرت والحجج تميزت ولم يؤمنوا ، وبعد ذلك {يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ} أي ينكرون الآية لكن الآية إذا أظهرت في أظهر الأشياء كانت أظهر ، وبيانه هو أن من يأتي بجسم من الأجسام من بيته وادعى فيه أنه فعل به كذا فربما يخطر ببال السامع أنه في بيته ولما يبدعه ، فإذا قال للناس هاتوا جسماً تريدون حتى أجعل لكم منه كذا يزول ذلك الوهم ، لكن أظهر الأشياء عند الإنسان الأرض التي هي مهده وفرشه ، والسماء التي هي سقفه وعرشه ، وكانت العرب على مذهب الفلاسفة في أصل المذهب ، ولا يلتفت إلى قول الفلسفي نحن ننزه غاية التنزيه حتى لا نجوز رؤيته واتصافه بوصف زائد على ذاته ليكون واحداً في الحقيقة ، فكيف يكون مذهبنا مذهب من يشرك بالله صنماً منحوتاً ؟
نقول أنتم لما نسبتم الحوادث إلى الكواكب وشرعتم في دعوة الكواكب أخذ الجهال عنكم ذلك واتخذوه مذهباً وإذا ثبت أن العرب في الجاهلية كانت في الأصل على مذهب الفلاسفة وهم يقولون بالطبائع فيقولون الأرض طبعها التكوين والسماء طبعها يمنع الانفصل والانفكاك ، فقال الله تعالى رداً عليهم في مواضع {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ } (سبأ : 9) إبطالاً للطبائع وإيثاراً للاختيار في الوقائع ، فقال ههنا إن أتينا بشيء غريب في غاية الغرابة في أظهر الأشياء وهو السماء التي يرونها أبداً ويعلمون أن أحداً لا يصل إليها ليعدد بالأدوية وغيرها ما يجب سقوطها لأنكروا ذلك ، فكيف فيما دون ذلك من الأمور ، والذي يؤيد ما ذكرناه وأنهم كانوا على مذهب الفلاسفة في أمر السماء أنهم قالوا {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} (الإسراء : 92) أي ذلك في زعمك ممكن ، فأما عندنا فلا ، والكسفة القطعة يقال كسفة من ثوب أي قطعة ، وفيه مباحث :
(1/4212)

البحث الأول : استعمل في السماء لفظة الكسف ، واللغويون ذكروا استعمالها في الثوب لأن الله تعالى شبه السماء بالثوب المنشور ، ولهذا ذكره فيما مضى فقال : {وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ } (الزمر : 67) وقال تعالى : {يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ} (الأنبياء : 104).
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
البحث الثاني : استعمل الكسف في السماء والخسف في الأرض فقال تعالى : {نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ} (سبأ : 9) وهو يدل على قول من قال يقال في القمر خسوف ، وفي الشمس كسوف ووجهه أن مخرج الخاء دون مخرج الكاف ومخرج الكاف فوقه متصل به فاستعمل وصف الأسفل للأسفل والأعلى للأعلى ، فقالوا في الشمس والسماء الكسوف والكسف ، وفي القمر والأرض الخسوف والخسف ، وهذا من قبيل قولهم في الماتح والمايح إن ما نقطه فوق لمن فوق البئر وما نقطه من أسفل عند من يجوز نقطه من أسفل لمن تحت في أسفل البئر.
البحث الثالث : قال في السحاب ونجعله كسفاً مع أنه تحت القمر ، وقال في القمر {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} (القيامة : 8) وذلك لأن القمر عند الخسوف له نظير فوقه وهو الشمس عند الكسوف والسحاب /اعتبر فيه نسبته إلى أهل الأرض حيث ينظرون إليه ، فلم يقل في القمر خسف بالنسبة إلى السحاب وإنما قيل ذلك بالنسبة إلى الشمس وفي السحاب قيل بالنسبة إلى الأرض.
المسألة الثانية : ساقطاً يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون مفعولاً ثانياً يقال رأيت زيداً عالماً وثانيهما : أن يكون حالاً كما يقال ضربته قائماً ، والثاني أولاً لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكون بمعنى العلم ، تقول أرى هذا المذهب صحيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى رأي العين في الأكثر تقول رأيت زيداً وقال تعالى : {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 84) ، وقال : {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (مريم : 26) والمراد في الآية رؤية العين.
المسألة الثالثة : في قوله فائدة لا تحصل في غير السقوط ، وذلك لأن عندهم لا يجوز الانفصال على السموات ولا يمكن نزولها وهبوطها ، فقال ساقطاً ليكون مخالفاً لما يعتقدونه من وجهين أحدهما : الانفصال والآخر : السقوط ولو قال وإن يروا كسفاً منفصلاً أو معلقاً لما حصلت هذه الفائدة.
المسألة الرابعة : في قوله {يَقُولُوا } فائدة أخرى ، وذلك لأنه يفيد بيان العناد الذي هو مقصود سرد الآية ، وذلك لأنهم في ذلك الوقت يستخرجون وجوهاً حتى لا يلزمهم التسليم فيقولون سحاب قولاً من غير عقيدة ، وعلى هذا يحتمل أن يقال {وَإِن يَرَوْا } المراد العلم ليكون أدخل في العناد ، أي إذا علموا وتيقنوا أن السماء ساقطة غيروا وعاندوا ، وقالوا هذا سحاب مركوم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يقولوا لم يقع شيء على الأرض يرجعون إلى التأويل والتخييل وقوله {مَّرْكُومٌ} أي مركب بعضه على بعض كأنهم يدفعون عن أنفسهم ما يورد عليهم بأن السحاب كالهواء لا يمنع نفوذ الجسم فيه ، وهذا أقوى مانع فيقولون إنه ركام فصار صلباً قوياً.
المسألة السادسة : في إسقاط كلمة الإشارة حيث لم يقل : يقولوا هذا ، إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العناد فلا يستحسنون أن يأتوا بما لا يبقى معه مراء فيقولون {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} مع حذف المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقول عند تكذيب الخلق إياهم ، قلنا {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} شبهه ومثله ، وأن يتمشى الأمر مع عوامهم استمروا ، وهذا مجال من يخاف من كلام ولا يعلم أنه يقبل منه أو لا يقبل ، فيجعله ذا وجهين ، فإن رأى النكر على أحدهما فسّره بالآخرون وإن رأى القبول خرج بمراده.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
0
أي إذا تبين أنهم لا يرجعون فدعهم حتى يلاقوا وفيه مسائل :
(1/4213)

/المسألة الأولى : {فَذَرْهُمْ} أمر وكان يجب أن يقال لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلّم جواز دعائهم إلى الإسلام وليس كذلك ، والجواب عنه من وجوه أحدها : أن هذه الآيات مثل قوله تعالى : {فَأَعْرَضَ} (النساء : 63) {تَوَلَّ عَنْهُمْ} (الصافات : 78) إلى غير ذلك كلها منسوخة بآية القتال وهو ضعيف ، ثانيها : ليس المراد الأمر وإنما المراد التهديد كما يقول سيد العبد الجاني لمن ينصحه دعه فإنه سينال وبال جنايته ثالثها : أن المراد من يعاند وهو غير معين والنبي صلى الله عليه وسلّم كان يدعو الخلق على سبيل العموم ويجوز أن يكون المراد بالخطاب من لم يظهر عناده لا من ظهر عناده فلم يقل الله في حقه {فَذَرْهُمْ} ويدل على هذا أنه تعالى قال من قبل {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} (الطور : 29) وقال ههنا {فَذَرْهُمْ} فمن يذكرهم هم المشفقون الذين {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} (الطور : 26) ومن يذرهم الذين قالوا {شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور : 30) إلى غير ذلك.
المسألة الثانية : {حَتَّى } للغاية فيكون كأنه تعالى قال : ذرهم إلى ذلك اليوم ولا تكلمهم ثم ذلك اليوم تجدد الكلام وتقول ألم أقل لكم إن الساعة آتية وإن الحساب يقوم والعذاب يدوم فلا تكلمهم إلى ذلك اليوم ثم كلمهم لتعلمهم ثانيها : أن المراد من حتى الغاية التي يستعمل فيها اللام كما يقول القائل لا تطعمه حتى يموت أي ليموت ، لأن اللام التي للغرض عندها ينتهي الفعل الذي للغرض فيوجد فيها معنى الغاية ومعنى التعليل ويجوز استعمال الكلمتين فيها ولعلّ المراد من قوله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) هذا أي إلى أن يأتيك اليقين ، فإن قيل فمن لا يذره أيضاً يلاقي ذلك اليوم ، نقول المراد من قوله {يُصْعَقُونَ} يهلكون فالمذكر المشفق لا يهلك ويكون مستثنى منهم كما قال تعالى : {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه } (الزمر : 68) وقذ ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق وعلم أن يوم الحساب كائن فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه ، ومن لا يعلم يكون كالغافل ، فإذا وقعت الصيحة ارتجف الغافل ولم يرتجف العالم ، وحينئذ يكون التوعد بملاقاة يومهم لأن كل أحد يلاقي يومه وإنما يكون بملاقاة يومهم الذي فيه يصعقون ، أي اليوم الموصوف بهذه الصفة ، وهذا كما قال تعالى : {لَّوْلا أَن تَدَارَكَه نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّه لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} (القلم : 49) فإن المنفي ليس النبذ بالعراء لأنه تحقق بدليل قوله تعالى : {فَنَبَذْنَـاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} (الصافات : 145) وإنما المنفي النبذ الذي يكون معه مذموماً وهذا لم يوجد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
المسألة الثالثة : {حَتَّى } ينصب ما بعدها من الفعل المستقبل تارة ويرفع أخرى والفاصل بينهما أن الفعل إذا كان مستقبلاً منتظراً لا يقع في الحال ينصب تقول تعلمت الفقه حتى ترتفع درجتي فإنك تنتظره وإن كان حالاً يرفع تقول أكرر حتى تسقط قوتي ثم أنام ، والسبب فيه هو أن حتى المستقبل للغاية ولام التعليل للغرض والغرض غاية الفعل ، تقول لم تبنى الدار يقول للسكنى أنصار قوله حتى ترفع كقوله لأرفع وفيهما إضمار أن ، فإن قيل ما قلت شيئاً وما ذكرت السبب في النصب عند إرادة الاستقبال والرفع عند إرادة الحال/ نقول الفعل المستقبل إذا كان منتظراً وكان /تصب العين ومنصوباً لدى الذهن يرقبه يفعل بلفظه ما كان في معناه ، ولهذا قالوا في الإضافة أن المضاف لما جر أمراً إلى أمر في المعنى جزء في اللفظ ، والذي يؤيد ما ذكرنا أن الفعل إنما ينصب بأن ولن وكي وإذن ، وخلوص الفعل للاستقبال في هذه المواضع لازم والحرف الذي يجعل الفعل للحال يمنع النصب حيث لا يجوز أن تقول إن فلاناً ليضرب فإن قيل : السين وسوف مع أنهما يخلصان الفعل للاستقبال لا ينصبان ويمنعان النصب بالناصب كما في قوله تعالى : {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى } (المزمل : 20) نقول : سوف والسين ليسا بمعنى غير اختصاص الفعل بالاستقبال وأن ولن بمعنى لا يصح إلا في الاستقبال فلم يثبت بالسين إلا الاستقبال ولم يثبت به معنى في الاستقبال والمنتظر هو ما في الاستقبال لا نفس الاستقبال ، مثاله إذا قلت أعبد الله كي يغفر لي أو ليغفر لي أثبتت كي غرضاً وهو المغفرة ، وهي في المستقبل من الزمان ، وإذا قلت : أستغفرك ربي أثبتت السين استقبال المغفرة ، وفرق بين ما يكون المقصود من الكلام بيان الاستقبال ، لكن الاستقبال لا يوجد إلا في معنى فأتى بالمعنى ليبين به الاستقبال وبين ما يكون المقصود منه معنى في المستقبل فتذكر الاستقبال لتبين محل مقصودك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
0
(1/4214)

لما قال : {يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ} (الطور : 45) وكل بر وفاجر يلاقي يومه أعاد صفة يومهم وذكر ما يتميز به يومهم عن يوم المؤمنين فقال : {يَوْمَ لا يُغْنِى} وهو يخالف يوم المؤمنين فإنه تعالى قال فيه {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ} (المائدة : 119) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في {يَوْمَ لا يُغْنِى} وجهان الأول : بدل عن قوله {يَوْمَهُمُ} (الطور : 45) ثانيهما : ظرف {يُلَـاقُوا } أي يلاقو يومهم يوم ، فإن قيل هذا يلزم منه أن يكون اليوم في يوم فيكون اليوم ظرف اليوم نقول هو على حد قول من يقول يأتي يوم قتل فلان يوم تبين جرائمه ولا مانع منه ، وقد ذكرنا بحث الزمان وجواز كونه ظرفاً في قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ} وجواز إضافة اليوم إلى الزمان مع أنه زمان.
المسألة الثانية : قال تعالى : {يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ} ولم يقل يوم لا يغنيهم كيدهم مع أن الإغناء يتعدى بنفسه لفائدة جليلة وهي أن قول القائل أغناني كذا يفهم منه أنه نفعني ، وقوله أغنى عني يفهم منه أنه دفع عني الضرر وذلك لأن قوله أغناني معناه في الحقيقة أفادني غير مستفيد وقوله : أغنى عني ، أي لم يحوجني إلى الحضور فأغنى غيري عن حضوري يقول من يطلب لأمر : خذوا عني ولدي ، فإنه يغني عني أي يغنيكم عني فيدفع عني أيضاً مشقة الحضور فقوله {لا يُغْنِى عَنْهُمْ} أي لا يدفع عنهم الضرر ، ولا شك أن قوله لا يدفع عنهم ضرراً أبلغ من قوله لا ينفعهم نفعاً وإنما في المؤمن لو قال يوم يغني عنهم صدقهم لما فهم منه نفعهم فقال : {يَوْمُ يَنفَعُ} (المائدة : 119) كأنه قال يوم يغنيهم /صدقهم ، فكأنه استعمل في المؤمن يغنيهم وفي الكافر لا يغني عنهم وهو مما لا يطلع عليه إلا من يكون عنده من علم البيان طرف ويتفكر بقريحة وقادة آيات الله ووفقه الله.
المسألة الثالثة : الأصل تقديم الفاعل على المفعول والأصل تقديم المضمر على المظهر ، أما في الأول فلأن الفاعل متصل بالفعل ولهذا قالوا فعلت فأسكنوا اللام لئلا يلزم أربع متحركات في كلمة واحدة وقالوا ضربك ولم يسكنوا لأن الكاف ضمير المفعول وهو منفصل ، وأما تقديم المضمر فلأنه يكون أشد اختصاراً ، فإنك إذا قلت ضربني زيد يكون أقرب إلى الاختصار من قولك ضرب زيد إياي فإن لم يكن هناك اختصار كقولك مربي زيد ومربي فالأولى تقديم الفاعل ، وههنا لو قال يوم لا يغنيهم كيدهم كان الأحسن تقديم المفعول ، فإذا قال يوم لا يغني عنهم صار كما قلنا في مر زيد بي فلم لم يقدم الفاعل ، نقول فيه فائدة مستفادة من علم البيان ، وهو أن تقديم الأهم أولى فلو قال يوم لا يغني كيدهم كان السامع لهذا الكلام ربما يقول لا يغني كيدهم غيرهم فيرجو الخير في حقهم وإذا سمع لا يغني عنهم انقطع رجاؤه وانتظر الأمر الذي ليس بمغن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
(1/4215)

المسألة الرابعة : قد ذكرنا أن معنى الكيد هو فعل يسوء من نزل به وإن حسن ممن صدر منه ، فما الفائدة في تخصيص العمل الذي يسوء بالذكر ولم يقل يوم لا يغني عنهم أفعالهم على الإطلاق ؟
نقول هو قياس بالطريق الأولى لأنهم كانوا يأتون بفعل النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين وكانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم فقال ما أغنى أحسن أعمالهم الذي كانوا يعتقدون فيه ليقطع رجاءهم عما دونه ، وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال من قبل {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا } (الطور : 42) وقد قلنا إن أكثر المفسرين على أن المراد به تدبيرهم في قتل النبي صلى الله عليه وسلّم قال : {هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي لا ينفعهم كيدهم في الدنيا فماذا يفعلون يوم لا ينفعهم ذلك الكيد بل يضرهم وقوله {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} فيه وجوه أحدها : أنه متمم بيان وجهه هو أن الداعي أولاً يرتب أموراً لدفع المكروه بحيث لا يحتاج إلى الانتصار بالغير والمنة ثم إذا لم ينفعه ذلك ينتصر بالأغيار ، فقال لا ينفعهم أفعال أنفسهم ولا ينصرهم عند اليأس وحصول اليأس عن إقبالهم ثانيها : أن المراد منه ما هو المراد من قوله تعالى : {لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا وَلا يُنقِذُونِ} (يس : 23) ، فقوله {يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا} أي عبادتهم الأصنام ، وقولهم {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا} (يونس : 18) وقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ} (الزمر : 3) وقوله {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} ، أي لا نصير لهم كما لا شفيع ، ودفع العذاب ، إما بشفاعة شفيع أو بنصر ناصر ثالثها : أن نقول الإضافة في كيدهم إضافة المصدر إلى المفعول ، لا إضافته إلى الفاعل ، فكأنه قال لا يغني عنهم كيد الشيطان إياهم ، وبيانه هو أنك تقول أعجبني ضرب زيداً عمراً ، وأعجبني ضرب عمرو ، فإذا اقتصرت على المصدر والمضاف إليه لا يعلم إلا بالقرينة والنية ، فإذا سمعت قول القائل ، أعجبني ضرب زيد يحتمل أن يكون زيد ضارباً ويحتمل أن يكون مضروباً فإذا سمعت قول القائل ، أعجبني قطع اللص على سرقته دلّت القرينة على أنه مضاف إلى المفعول ، فإن قيل هذا فاسد من حيث إنه إيضاح واضح /لأن كيد المكيد لا ينفع قطعاً ، ولا يخفى على أحد ، فلا يحتاج إلى بيان ، لكن كيد الكائد يظن أنه ينفع فقال تعالى : ذلك لا ينفع ، نقول كيد الشيطان إياهم على عبادة الأصنام وهم كانوا يظنون أنها تنفع ، وأما كيدهم النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا يعلمون أنه لا ينفع في الآخرة وإنما طلبوا أن ينفعهم في الدنيا لا في الآخرة فالإشكال ينقلب على صاحب الوجه الأول ولا إشكال على الوجهين جميعاً إذا تفكرت فيما قلناه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 223
231
في اتصال الكلام وجهان أحدهما : متصل بقوله تعالى : {فَذَرْهُمْ} (الطور : 5) وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال ، وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال ، وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقاً من غير قتال ، بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم ، فيكون بياناً وعداً ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر ثانيهما : هو متصل بقوله تعالى : {لا يُغْنِى} (الطور : 46) وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم ، ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ولكن لا يضر ولما قال مع ذلك {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا} زال ذلك ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر ، وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم.
المسألة الثانية : ما المراد من الظلم ههنا ؟
نقول فيه وجوه الأول : هو كيدهم نبينهم ، والثاني : عبادتهم الأوثان ، والثالث : كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني.
المسألة الثالثة : دون ذلك ، على قول أكثر المفسرين معناه قبل ويؤيده قوله تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} (السجدة : 21) ويحتمل وجهين آخرين أحدهما : دون ذلك ، أي أقل من ذلك في الدوام والشدة يقال الضرب دون القتل في الإيلام ، ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة على هذا المعنى ، وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم وذلك لأنه إذا قال عذاباً دون ذلك أي قتلاً وعذاباً في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيماً ، فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد ههنا هذا الثاني على طريقة قول القائل : تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب ، وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذاباً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
(1/4216)

المسألة الرابعة : {ذَالِكَ} إشارة إلى ماذا ؟
نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم وفيه وجهان /آخران أحدهما : في قوله {يُصْعَقُونَ} (الطور : 45) وقوله {يُغْنِى عَنْهُمْ} (الطور : 46) إشارة إلى عذاب واقع فقوله ذلك إشارة إليه ، ويمكن أن يقال قد تقدم قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} (الطور : 7) وقوله {دُونَ ذَالِكَ} ، أي دون ذلك العذاب ثانيهما : {دُونَ ذَالِكَ} ، أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل : تحت لجاجك حرمانك ، والله أعلم.
المسألة الخامسة : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ذكرنا فيه وجوهاً أحدها : أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى : {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} (سبأ : 41) ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيداً عن الخلف ثانيها : منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم ثالثها : هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم.
المسألة السادسة : مفعول {لا يَعْلَمُونَ} جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر : وهو أن لهم عذاباً دون ذلك/ وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا ، فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} (طه : 130) ونشير إلى بعضه ههنا فإن طول العهد ينسي ، فنقول لما قال تعالى : {فَذَرْهُمْ} (الطور : 45) كان فيه الإشارة إلى أنه لم يبق في نصحهم نفع ولا سيما وقد تقدم قوله تعالى : {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ} (الطور : 44) وكان ذلك مما يحمل النبي صلى الله عليه وسلّم على الدعاء كما قال نوح عليه السلام {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) وكما دعا يونس عليه السلام فقال تعالى : {وَاصْبِرْ} وبدل اللعن بالتسبيح {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} بدل قولك اللّهم أهلكهم ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم : 48) وقوله تعالى : {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } فيه وجوه الأول : أنه تعالى لما بيّن أنهم يكيدونه كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال : اصبر ولا تخف ، فإنك محفوظ بأعيننا ثانيها : أنه تعالى قال فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال لكن كونك مسبحاً لنا أفضل من كونك داعياً على عباد خلقناهم ، فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا ثالثها : أن من يشكو حاله عند غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى : اصبر ولا تشك حالك فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك ، وفيه مسائل مختصة بهذا الموضع لا توجد في قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (طه : 130).
المسألة الأولى : اللام في قوله {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ} تحتمل وجوهاً : الأول : هي بمعنى إلى أي اصبر إلى أن يحكم الله الثاني : الصبر فيه معنى الثبات ، فكأنه يقول فاثبت لحكم ربك يقال /ثبت فلان لحمل قرنه الثالث : هي اللام التي تستعمل بمعنى السبب يقال لم خرجت فيقال لحكم فلان علي بالخروج فقال : {وَاصْبِرْ} واجعل سبب الصبر امتثال الأمر حيث قال واصبر لهذا الحكم عليك لا لشيء آخر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثانية : قال ههنا {بِأَعْيُنِنَا } وقال في مواضع أخر {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } (طه : 39) نقول لما وحد الضمير هناك وهو ياء المتكلم وحده وحد العين ولما ذكر ههنا ضمير الجمع في قوله {بِأَعْيُنِنَا } وهو النون جمع العين ، وقال : {بِأَعْيُنِنَا } هذا من حيث اللفظ ، وأما من حيث المعنى فلأن الحفظ ههنا أتم لأن الصبر مطية الرحمة بالنبي صلى الله عليه وسلّم حيث اجتمع له الناس وجمعوا له مكايد وتشاوروا في أمره ، وكذلك أمره بالفلك وأمره بالاتخاذ عند عدم الماء وحفظه من الغرق مع كون كل البقاع مغمورة تحت الماء تحتاج إلى حفظ عظيم في نظر الخلق فقال {بِأَعْيُنِنَا } .
(1/4217)

المسألة الثالثة : ما وجه تعلق الباء ههنا قلنا قد ظهر من جميع الوجوه ، أما إن قلنا بأنه للحفظ فتقديره محفوظ بأعيننا ، وإن قلنا للعلم فمعناه بمرأى منا أي بمكان نراك وتقديره فإنك بأعيننا مرئي وحينئذ هو كقول القائل رأيته بعيني كما يقال كتب بالقلم الآلة وإن كان رؤية الله ليست بآلة ، فإن قيل فما الفرق في الموضعين حيث قال في طه {عَلَى عَيْنِى } (طه : 39) وقال ههنا {بِأَعْيُنِنَا } وما الفرق بين على وبين الباء نقول معنى على هناك هو أنه يرى على ما يرضاه الله تعالى ، كما يقول أفعله على عيني أي على رضاي تقديره على وجه يدخل في عيني وألتفت إليه فإن من يفعل شيئاً لغيره ولا يرتضيه لا ينظر فيه ولا يقلب عينه إليه والباء في قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} قد ذكرناها وقوله {حِينَ تَقُومُ} فيه وجوه الأول : تقوم من موضعك والمراد قبل القيام حين ما تعزم على القيام وحين مجيء القيام ، وقد ورد في الخبر أن من قال : "سبحان الله" من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللفظ واللغو في ذلك المجلس الثاني : حين تقوم من النوم ، وقد ورد أيضاً فيه خبر يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان "يسبح بعد الانتباه" الثالث : حين تقوم إلى الصلاة وقد ورد في الخبر أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقول في افتتاح الصلاة "سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" الرابع : حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا قمت منتصباً لمجاهدة قومك ومعاداتهم والدعاء عليهم {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وبدل قيامك للمعاداة وانتصابك للانتقام بقيامك لذكر الله وتسبيحه الخامس : {حِينَ تَقُومُ} أي بالنهار ، فإن الليل محل السكون والنهار محل الإبتغاء وهو بالقيام أولى ، ويكون كقوله {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} إشارة إلى ما بقي من الزمان وكذلك {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (الطور : 49) وهو أول الصبح.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
وقوله تعالى : {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} .
/وقد تقدم تفسيره وهو كقوله تعالى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم : 17) وقد ذكرنا فائدة الاختصاص بهذه الأوقات ومعناه ، ونختم هذه السورة بفائدة وهي أنه تعالى قال ههنا {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} وقال في {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق : 40) ، ويحتمل أن يقال المعنى واحد والمراد من السجود جمع ساجد وللنجوم سجود قال تعالى : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن : 6) وقيل المراد من النجم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} (النحل : 49) أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله ، وقد ورد في الحديث : "من قال عقيب الصلاة سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات كتب له ألف حسنة" فيكون المعنى في الموضعين واحد لأن السجود من الوظائف والمشهور والظاهر أن المراد من إدبار النجوم وقت الصبح حيث يدبر النجم ويخفى ويذهب ضياؤه بضوء الشمس ، وحينئذ تبين ما ذكرنا من الوجه الخامس في قوله {حِينَ تَقُومُ} (الطور : 48) أن المراد منه النهار لأنه محل القيام {وَمِنَ الَّيْلِ} القدر الذي يكون الإنسان في يقظان فيه {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} وقت الصبح فلا يخرج عن التسبيح إلا وقت النوم ، وهذا آخر تفسير هذه السورة والله أعلم ، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4218)

سورة النجم
ستون وآيتان مكية
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
/وقبل الشروع في التفسير نقدم مسائل ثم نتفرغ للتفسير وإن لم تكن منه :
الأولى : أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى ، أما اللفظ فلأن ختم الطور بالنجم ، وافتتاح هذه بالنجم مع واو القسم ، وأما المعنى فنقول : الله تعالى لما قال لنبيّه صلى الله عليه وسلّم {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (الطور : 49) بيّن له أنه جزأه في أجزاء مكايدة النبي صلى الله عليه وسلّم ، بالنجم وبعده فقال : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (النجم : 2).
المسألة الثانية : السورة التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأسماء دون الحروف وهي الصافات والذاريات ، والطور ، وهذه السورة بعدها بالأولى فيها القسم لإثبات الوحدانية كما قال تعالى : {إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ} (الصافات : 4) وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (الذاريات : 5 ، 6) وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَه مِن دَافِعٍ} (الطور : 7/ 8).
وفي هذه السورة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلّم لتكمل الأصول الثلاثة : الوحدانية ، والحشر ، والنبوة.
المسألة الثالثة : لم يقسم الله على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً ، أما على الوحدانية فلأنه أقسم بأمر واحد في سورة الصافات ، وأما على النبوة فلأنه أقسم بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة الضحى وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فإن قوله تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } (الليل : 1) وقوله تعالى : {وَالشَّمْسِ وَضُحَا هَا} (الشمس : 1) وقوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج : 1) إلى غير ذلك ، كلها فيها الحشر أو ما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل :
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة ، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل ، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع فأكثر القسم ليقطع به المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً ، وأما التفسير ففيه مسائل :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
الأولى : الواو للقسم بالنجم أو برب النجم ففيه خلاف قدمناه ، والأظهر أنه قسم بالنجم /يقال ليس للقسم في الأصل حرف أصلاً لكن الباء والواو استعملنا فيه لمعنى عارض ، وذلك لأن الباء في أصل القسم هي الباء التي للإلصاق والاستعانة فكما يقول القائل : استعنت بالله ، يقول : أقسمت بالله ، وكما يقول : أقوم بعون الله على العدو ، يقول : أقسم بحق الله فالباء فيهما بمعنى كما تقول : كتب بالقلم ، فالباء في الحقيقة ليست للقسم غير أن القسم كثر في الكلام فاستغنى عن ذكره وغيره لم يكثر فلم يستغن عنه ، فإذا قال القائل : بحق زيد فهم منه القسم لأن المراد لو كان هو مثل قوله : ادخل زيد ، أو اذهب بحق زيد ، أو لم يقسم بحق زيد لذكر كما ذكر في هذه الأشياء لعدم الاستغناء فلما لم يذكر شيء علم أن الحذف للشهرة والاستغناء ، وذلك ليس في غير القسم فعلم أن المحذوف فعل القسم ، فكأنه قال : أقسم بحق زيد ، فالباء في الأصل ليس للقسم لكن لما عرض ما ذكرنا من الكثرة والاشتهار قيل الباء للقسم ، ثم إن المتكلم نظر فيه فقال هذا لا يخلو عن التباس فإني إذا قلت بالله توقف السامع فإن سمع بعده فعلاً غير القسم كقوله : بالله استعنت وبالله قدرت وبالله مشيت وأخذت ، لا يحمله على القسم ، وإن لم يسمع حمله على القسم إن لم يتوهم وجود فعل ما ذكرته ولم يسمعه ، أما إن توهم أني ذكرت مع قولي بالله شيئاً آخر وما سمعه هو أيضاً يتوقف فيه ففي الفهم توقف ، فإذا أراد المتكلم الحكيم إذهاب ذلك مع الاختصار وترك ما استغنى عنه ، وهو فعل القسم أبدل الباء بالتاء ، وقال : تالله ، فتكلم بها في كلمة الله لاشتهار كلمة الله والأمن من الإلتباس فإن التاء في أوائل الكلمات قد تكون أصلية ، وقد تكون للخطاب والتأنيث ، فلو أقسم بحرف التاء بمن اسمه داعي أو راعي أو هادي أو عادي يقول تداعى أو تراعى أو تهادى أو تعادى فيلتبس ، وكذلك فيمن اسمه رومان أو توران إذا قلت ترومان أو تتوران على أنك تقسم بالتاء تلتبس بتاء الخطاب والتأنيث في الاستقبال ، فأبدلوها واواً لا يقال عليه إشكالان الأول : مع الواو لم يؤمن الالتباس ، نقول ولى فتلتبس الواو الأصلية بالتي للقسم لأنا نقول ذلك لم يلزم فيما ذهبنا إليه ، وإنما كان ذلك في الواو حيث يدل وينبىء عن العطف وإن لم يستعمل الواو للقسم ، كيف وذلك في الباء التي هي كالأصل متحقق تقول برام في جمع برمة ، وبهام في جمع بهمة ، وبغال للبسية الباء الأصلية التي في البغال والبرام بالباء التي تلصقها بقولك مال ورأى فتقول بمال ، وأما التاء لما استعملت للقسم لزم من ذلك الاستعمال الالتباس حيث لم يكن من قبل حرفاً من الأدوات كالباء والواو الإشكال الثاني : لم تركت مما لا التباس فيه كقولك : تالرحيم وتالعظيم ؟
نقول : لما كانت كلمة الله تعالى في غاية الشهرة والظهور استعملت التاء فيها على خلاف الأصل ، بمعنى لم يجز أن يقال عليها إلا ما يكون في شهرتها ، وأما غيرها فربما يخفى عند البعض ، فإن من يسمع الرحيم وسمع في الندرة تر بمعنى قطع ربما يقول ترحيم فعل وفاعل أو فعل ومفعول وإن كان ذلك في غاية البعد لكن الاستواء في الشهرة في المنقول منه والمنقول إليه لازم ، ولا مشهور مثل كلمة الله ، على أنا نقول لم قلت إن عند الأمن لا تستعمل ألا ترى أنه نقل عن العرب برب الكعبة /والذي يؤيد ما ذكرنا أنت تقول أقسم بالله ولا تقول أقسم تالله لأن التاء فيه مخافة الالتباس عند حذف الفعل من القسم وعند الإتيان به لم يخف ذلك فلم يجز.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثانية : اللام في قوله تعالى : {وَالنَّجْمِ} لتعريف العهد في قول ولتعريف الجنس في قول ، والأول قول من قال : {وَالنَّجْمِ} المراد منه الثريا ، قال قائلهم :
إن بدا النجم عشيا
ابتغى الراعي كسياً
(1/4219)

والثاني فيه وجوه أحدها : النجم هو نجم السماء التي هي ثابتة فيها للاهتداء وقيل لا بل النجم المنقضة فيها التي هي رجوم للشياطين ثانيها : نجوم الأرض وهي من النبات ما لا ساق له ثالثها : نجوم القرآن ولنذكر مناسبة كل وجه ونبيّن فيه المختار منها ، أما على قولنا المراد الثريا فهو أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد والنبي صلى الله عليه وسلّم تميز عن الكل بآيات بينات فأقسم به ، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبكر حان إدراك الثمار ، وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف نقل الأمراض والنبي صلى الله عليه وسلّم لما ظهر قل الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية والحلمية ، وعلى قولنا المراد هي النجوم التي في السماء للاهتداء نقول النجوم بها الاهتداء في البراري فأقسم الله بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة ، وعلى قولنا المراد الرجوم من النجوم ، فالنجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض/ وعلى قولنا المراد القرآن فهو استدل بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلّم على صدقه وبراءته فهو كقوله تعالى : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يس : 1 ـ 4) ما ضللت ولا غويت ، وعلى قولنا النجم هو النبات ، فنقول النبات به ثبات القوى الجسمانية وصلاحها والقوة العقلية أولى بالإصلاح ، وذلك بالرسل وإيضاح السبل ، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي هي في السماء لأنها أظهر عند السامع وقوله {إِذَا هَوَى } أدل عليه ، ثم بعد ذلك القرآن أيضاً فيه ظهور ثم الثريا.
المسألة الثالثة : القول في {وَالنَّجْمِ} كالقول في {وَالطُّورِ} حيث لم يقل والنجوم ولا الأطوار ، وقال : {وَالذَّارِيَـاتِ} وقد تقدم ذكره.
المسألة الرابعة : ما الفائدة في تقييد القسم به بوقت هو به ؟
نقول النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال كذلك النبي صلى الله عليه وسلّم خفض جناحه للمؤمنين وكان على خلق عظيم كما قال تعالى : {مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) وكما قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران : 159) إن قيل الاهتداء بالنجم إذا كان على أفق المشرق كالاهتداء به إذا كان على أفق المغرب فلم يبق ما ذكرت جواباً عن السؤال ، نقول الاهتداء بالنجم وهو مائل إلى المغرب أكثر لأنه يهدي في /الطريقين الدنيوي والديني ، أما الدنيوي فلما ذكرنا ، وأما الديني فكما قال الخليل {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) وفيه لطيفة ، وهي أن الله لما أقسم بالنجم شرفه وعظمه ، وكان من المشركين من يعبده فقرن بتعظيمه وصفاً يدل على أنه لم يبلغ درجة العبادة ، فإنه هاوٍ آفل.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4220)

ثم قال تعالى : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي ، والذي قاله بعضهم عند محاولة الفرق : أن الضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد ، قال تعالى : {وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا } (الأعراف : 146) وقال تعالى : {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } (البقرة : 256) وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالاً في الوضع ، تقول ضل بعيري ورحلي ، ولا تقول غوى ، فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلا ، والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنه ضال ، والضال كالكافر ، والغاوي كالفاسق ، فكأنه تعالى قال : {مَا ضَلَّ} أي ما كفر ، ولا أقل من ذلك فما فسق ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ} (النساء : 6) أو نقول الضلال كالعدم ، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة ، وقوله {صَاحِبُكُمْ} فيه وجهان الأول : سيدكم والآخر : مصاحبكم ، يقال صاحب البيت ورب البيت ، ويحتمل أن يكون المراد من قوله {مَا ضَلَّ} أي ما جن ، فإن المجنون ضال ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى : {ا وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (القلم : 1 ، 3) فيكون إشارة إلى أنه ما غوى ، بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر ، كما قال تعالى : {قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الشعراء : 109) وقال : {إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللَّه } (يونس : 72) وقوله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) إشارة إلى قوله ههنا {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } فإن هذا خلق عظيم ، ولنبين الترتيب فنقول : قال أولاً
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
{مَا ضَلَّ} أي هو على الطريق {وَمَا غَوَى } أي طريقه الذي هو عليه مستقيم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود ، وذلك لأن من يسلك طريقاً ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق ، وربما يجد إليه طريقاً بعيداً فيه متاعب ومهالك ، وربما يجد طريقاً واسعاً آمناً ، ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد ، ويتأخر عليه الوصول ، فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولاً ، ويمكن أن يقال {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } دليل على أنه ما ضل وما غوى ، تقديره : كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى ، وإنما يضل من يتبع الهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه } (ص : 26) فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله {مَا ضَلَّ} وصيغة المستقبل في قوله {وَمَا يَنطِقُ} في غاية الحسن ، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره {وَمَا غَوَى } حين /اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم ، فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً ، وصار الآن منقذاً من الضلالة ومرشداً وهادياً. وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة ؟
نقول بلى ، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر ، والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب ، فقال تعالى : {مَا ضَلَّ} في صغره/ لأنه لا ينطق عن الهوى ، وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة ، لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية ، فالنفس إذا كانت دنيئة ، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة ، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة ، فإنها مستعملة في موضع المدح ، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} إلى قوله {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } (النازعات : 37 ـ 40) إشارة إلى علو مرتبة النفس.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
ثم قال تعالى : {إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } بكلمة البيان ، وذلك لأنه تعالى لما قال : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } (النجم : 3) كأن قائلاً قال : فبماذا ينطق أعن الدليل أو الاجتهاد ؟
فقال لا ، وإنما ينطق عن الله بالوحي ، وفيه مسائل :
(1/4221)

المسألة الأولى : {ءَانٍ} استعملت مكان ما للنفي ، كما استعملت ما للشرط مكان إن ، قال تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ} (البقرة : 106) والمشابهة بينهما من حيث اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلأن إن من الهمزة والنون ، وما من الميم والألف ، والألف كالهمزة والنون كالميم ، أما الأول : فبدليل جواز القلب ، وأما الثاني : فبدليل جواز الإدغام ووجوبه ، وأما المعنى فلأن إن تدل على النفي من وجه ، وعلى الإثبات من وجه ، ولكن دلالتها على النفي أقوى وأبلغ ، لأن الشرط والجزاء في صورة استعمال لفظة إن يجب أن يكون في الحالة معدوماً إذا كان المقصود الحث أو المنع ، تقول إن تحسن فلك الثواب ، وإن تسيء فلك العذاب ، وإن كان المراد بيان حال القسمين المشكوك فيهما كقولك : إن كان هذا الفص زجاجاً فقيمته نصف ، وإن كان جوهراً فقيمته ألف ، فههنا وجود شيء منهما غير معلوم وعدم العلم حاصل ، وعدم العلم ههنا كعدم الحصول في الحث والمنع ، فلا بد في صور استعمال إن عدم ، إما في الأمر ، وإما في العلم ، وإما الوجود فذلك عند وجود الشرط في بيان الحال ، ولهذا قال النحاة : لا يحسن أن يقال إن احمر البسر آتيك ، لأن ذلك أمر سيوجد لا محالة ، وجوزوا استعمال إن فيما لا يوجد أصلاً ، يقال في قطع الرجاء /إن ابيض القار تغلبني ، قال الله تعالى : {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى } (الأعراف : 143) ولم يوجد الاستقرار ولا الرؤية ، فعلم أن دلالته على النفي أتم ، فإن مدلوله إلى مدلول ما أقرب فاستعمل أحدهما مكان الآخر هذا هو الظاهر ، وما يقال إن وما ، حرفان نافيان في الأصل ، فلا حاجة إلى الترادف.
المسألة الثانية : هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور ، نقول فيه وجهان أشهرهما : أنه ضمير معلوم وهو القرآن ، كأنه يقول : ما القرآن إلا وحي ، وهذا على قول من قال النجم ليس المراد منه القرآن ، وأما على قول من يقول هو القرآن فهو عائد إلى مذكور والوجه الثاني : أنه عائد إلى مذكور ضمناً وهو قول النبي صلى الله عليه وسلّم وكلامه وذلك لأن قوله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } (النجم : 3) في ضمنه النطق وهو كلام وقول فكأنه تعالى يقول وما كلامه وهو نطقه إلا وحي وفيه وجه آخر أبعد وأدق ، وهو أن يقال قوله تعالى : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} قد ذكر أن المراد منه في وجه أنه ما جن وما مسّه الجن فليس بكاهن ، وقوله {وَمَا غَوَى } أي ليس بينه وبين الغواية تعلق ، فليس بشاعر ، فإن الشعراء يتبعهم الغاوون ، وحينئذ يكون قوله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } رداً عليهم حيث قالوا قوله قول كاهن وقالوا قوله قول شاعر فقال ما قوله إلا وحي وليس بقول كاهن ولا شاعر كما قال تعالى : {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍا قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍا قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} (الحاقة : 41/ 42).
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثالثة : الوحي اسم أو مصدر ، نقول يحتمل الوجهين ، فإن الوحي اسم معناه الكتاب ومصدر وله معان منها الإرسال والإلهام ، والكتابة والكلام والإشارة والإفهام فإن قلنا هو ضمير القرآن ، فالوحي اسم معناه الكتاب كأنه يقول ، ما القرآن إلا كتاب ويوحى بمعنى يرسل ، ويحتمل على هذا أيضاً أن يقال هو مصدر/ أي ما القرآن إلا إرسال وإلهام ، بمعنى المفعول أي مرسل ، وإن قلنا المراد من قوله {إِنْ هُوَ} قوله وكلامه فالوحي حينئذ هو الإلهام ملهم من الله ، أو مرسل وفيه مباحث :
البحث الأول : الظاهر خلاف ما هو المشهور عند بعض المفسرين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما كان ينطق إلا عن وحي ، ولا حجة لمن توهم هذا في الآية ، لأن قوله تعالى : {إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } إن كان ضمير القرآن فظاهر وإن كان ضميراً عائداً إلى قوله فالمراد من قوله هو القول الذي كانوا يقولون فيه إنه قول شاعر ، ورد الله عليهم فقال : ولا بقول شاعر وذلك القول هو القرآن ، وإن قلنا بما قالوا به فينبغي أن يفسر الوحي بالإلهام.
البحث الثاني : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم لم يجتهد وهو خلاف الظاهر ، فإنه في الحروب اجتهد وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ، نقول على ما ثبت لا تدل الآية عليه.
(1/4222)

البحث الثالث : بحث يحتمل أن يكون من وحي يوحى ويحتمل أن يكون من أوحى ييوحى ، تقول عدم يعدم ، وأعدم يعدم وكذلك علم يعلم وأعلم يعلم فنقول يوحى من أوحى لا من وحى ، وإن كان وحي وأوحى كلاهما جاء بمعنى ولكن الله في القرآن عند ذكر المصدر لم يذكر /الإيحاء الذي هو مصدر أوحى ، وعند ذكر الفعل لم يذكر وحي ، الذي مصدره وحى ، بل قال عند ذكر المصدر الوحي ، وقال عند ذكر الفعل {أَوْحَى } وكذلك القول في أحب وحب فإن حب وأحب بمعنى واحد ، والله تعالى عند ذكر المصدر لم يذكر في القرآن الإحباب ، وذكر الحب إلى {ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} وعند الفعل لم يقل حبه الله بل قال : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } (المائدة : 54) ، وقال : {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} (الحجرات : 12) وقال : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) إلى غير ذلك وفيه سر من علم الصرف وهو أن المصدر والفعل الماضي الثلائي فيهما خلاف قال بعض علماء الصرف المصدر مشتق من الفعل الماضي ، والماضي هو الأصل ، والدليل عليه وجهان ، لفظي ومعنوي :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
أما اللفظي فإنهم يقولون مصدر فعل يفعل إذا كان متعدياً فعلاً بسكون العين ، وإذا كان لازماً فعول في الأكثر ، ولا يقولون الفعل الماضي من فعول فعلى ، وهذا دليل ما ذكرنا.
وأما المعنوي فلأن ما يوجد من الأمور لا يوجد إلا وهو خاص وفي ضمنه العام مثاله الإنسان الذي يوجد ويتحقق يكون زيداً أن عمراً أو غيرهما ، ويكون في ضمنه أنه هندي أو تركي وفي ضمن ذلك أنه حيوان وناطق ، ولا يوجد أولاً إنسان ثم يصير تركياً ثم يصير زيداً أو عمراً.
إذا علمت هذا فالفعل الذي يتحقق لا ينفك من أن يكون ماضياً أو مستقبلاً وفي ضمنه أنه فعل مع قطع النظر عن مضيه واستقباله مثاله الضرب إذا وجد فأما أن يكون قد مضى أو بعد لم يمض ، والأول ماض والثاني حاضر أو مستقبل ، ولا يوجد الضرب من حيث إنه ضرب خالياً عن المضي والحضور والاستقبال ، غير أن العاقل يدرك من فعل وهو يفعل الآن وسيفعل غداً أمراً مشتركاً فيسميه فعلاً ، كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب الآن وسيضرب غداً أمراً مشتركاً فيسميه ضرباً فضرب يوجد أولاً ويستخرج منه الضرب ، والألفاظ وضعت لأمور تتحقق فيها فيعبر بها عنها والأمور المشتركة لا تتحقق إلا في ضمن أشياء أُخر ، فالوضع أولاً لما يوجد منه لا يدرك منه قبل الضرب ، وهذا ما يمكن أن يقال لمن يقول الماضي أصل والمصدر مأخوذ منه وأما الذي يقول المصدر أصل والماضي مأخوذ منه فله دلائل منها أن الاسم أصل ، والفعل متفرع ، والمصدر اسم ، ولأن المصدر معرب والماضي مبني/ والإعراب قبل البناء ولأن قال وقال ، وراع وراع ، إذا أردنا الفرق بينهما نرد أبنيتهما إلى المصدر فنقول قال الألف منقلبة من واو بدليل القول ، وقال ألف منقلبة من ياء بدليل القيل وكذلك الروع والريع. وأما المعقول فلأن الألفاظ وضعت للأمور التي في الأذهان ، والعام قبل الخاص في الذهن ، فإن الموجود إذا أدرك يقول المدرك هذا الموجود جوهر أو عرض فإذا أدرك أنه جوهر يقول إنه جسم أو غير جسم عند من يجعل الجسم جوهراً وهو الأصح الأظهر ، ثم إذا أدرك كونه جسماً يقول هو تام وكذلك الأمر إلى أن ينتهي إلى أخص الأشياء إن أمكن الانتهاء إليه بالتقسيم ، فالوضع الأول الفعل وهو المصدر من غير زيادة ، ثم إذا انضم إليه زمان تقول : ضرب أو سيضرب فالمصدر قبل الماضي ، وهذا هو الأصح ، إذا علمت هذا فنقول على مذهب من يقول المصدر في الثلاثي من الماضي فالحب وأحب كلاهما في درجة /واحدة لأن كليهما من حب يحب والمصدر من الثلاثي قبل مصدر المنشعبة بمرتبة ، وعلى مذهب من يقول الماضي في الثلاثي مأخوذ من المصدر فالمصدر الثلاثي قبل المصدر في المنشعبة بمرتبتين فاستعمل مصدر الثلاثي لأنه قبل مصدر المنشعبة ، وأما الفعل في أحب وأوحى فلأن الألف فيهما تفيد فائدة لا يفيدها الثلاثي المجرد لأن أحب أدخل في التعدية وأبعد عن توهم اللزوم فاستعمله.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الرابعة : {إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ} أبلغ من قول القائل هو وحي ، وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن ، هو قول شاعر فأراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال ما هو كما يقولون وزاد فقال : بل هو وحي ، وفيه زيادة فائدة أخرى وهو قوله {يُوحَى } ذلك كقوله تعالى : {وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الأنعام : 38) وفيه تحقيق الحقيقة فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز ، كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة كلام فلان وحي ، كما يقول شعره سحر ، وكما يقول قوله معجزة ، فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4223)

ثم قال تعالى : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } وفيه وجهان أشهرهما عند المفسرين أن الضمير في {عَلَّمَه } عائداً إلى الوحي أي الوحي علمه شديد القوى والوحي وإن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ} (الشعراء : 193) والأولى أن يقال الضمير عائد إلى محمد صلى الله عليه وسلّم تقديره علم محمد شديد القوى جبريل وحينئذ يكون عائداً إلى صاحبكم ، تقديره علم صاحبكم وشديد القوى هو جبريل ، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة فيعلم ويعمل ، وقوله {شَدِيدُ الْقُوَى } فيه فوائد الأولى : أن مدح المعلم مدح المتعلم فلو قال علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلى الله عليه وسلّم فضيلة ظاهرة الثانية : هي أن فيه رداً عليهم حيث قالوا أساطير الأولين سمعها وقت سفره إلى الشام ، فقال لم يعلمه أحد من الناس بل معلمه شديد القوى ، والإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلاً الثالثة : فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام فقوله تعالى : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } جمع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل لأنا إن ظننا بواحد فساد ذهن ثم نقل إلينا عن بعض الأكابر مسألة مشكلة لا نثق بقوله ونقول هو ما فهم ما قال ، وكذلك قوة الحفظ حتى لا نقول أدركها لكن نسيها وكذلك قوة الأمانة حتى لا نقول حرفها وغيرها فقال : {شَدِيدُ الْقُوَى } ليجمع هذه الشرائط فيصير كقوله تعالى : {ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ} إلى أن قال : {أَمِينٌ} (التكوير : 20 ، 21) الرابعة : في تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم وهي من حيث إن الله تعالى لم يكن مختصاً بمكان فنسبته إلى جبريل كنسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا علم بواسطته يكون نقصاً عن درجته فقال ليس كذلك لأنه شديد القوى يثبت لمكالمتنا وأنت /بعد ما استويت فتكون كموسى حيث خر فكأنه تعالى قد علمه بواسطة ثم علمه من غير واسطة كما قال تعالى : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } (النساء : 113) وقال صلى الله عليه وسلّم : "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
وفي قوله تعالى : {ذُو مِرَّةٍ} وجوه : أحدها : ذو قوة ثانيها : ذو كمال في العقل والدين جميعاً ثالثها : ذو منظر وهيبة عظيمة رابعها : ذو خلق حسن فإن قيل على قولنا المراد ذو قوة قد تقدم بيان كونه ذا قوى في قوله {شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) فكيف نقول قواه شديدة وله قوة ؟
نقول ذلك لا يحسن إن جاء وصفاً بعد وصف ، وأما إن جاء بدلاً لا يجوز كأنه قال : علمه ذو قوة وترك شديد القوى فليس وصفاً له وتقديره : ذو قوة عظيمة أو كاملة وهو حينئذ كقوله تعالى : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ} (التكوير : 19 ، 20) فكأنه قال : علمه ذو قوة فاستوى ، والوجه الآخر في الجواب هو أن إفراد قوة بالذكر ربما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصّه الله بها ، يقال : فلان كثير المال ، وله مال لا يعرفه أحد أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن ، على أنا نقول المراد ذو شدة وتقديره : علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة ، فإن الإنسان ربما تكون قواه شديدة وفي جسمه صغر وحقارة ورخاوة ، وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله {شَدِيدُ الْقُوَى } قوته في العلم.
ثم قال تعالى : {ذُو مِرَّةٍ} أي شدة في جسمه فقدم العلمية على الجسمية كما قال تعالى : {وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } (البقرة : 247) وفي قوله {فَاسْتَوَى } وجهان المشهور أن المراد جبريل أي فاستوى جبريل في خلقه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4224)

ثم قال تعالى : {وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى } والمشهور أن هو ضمير جبريل وتقديره استوى كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي ، فسد المشرق لعظمته ، والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلّم معناه استوى بمكان وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر لا حقيقة في الحصول في المكان ، فإن قيل كيف يجوز هذا والله تعالى يقول : {وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالافُقِ الْمُبِينِ} (التكوير : 23) إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟
نقول وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا ههنا إنه صلى الله عليه وسلّم رأى جبريل وهو بالأفق المبين يقول القائل رأيت الهلال فيقال له أين رأيته فيقول فوق السطح أي أن الرائي فوق السطح لا المرئي و{الْمُبِينُ} هو الفارق من أبان أي فرق ، أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك فإنه صلى الله عليه وسلّم انتهى وبلغ الغاية وصار نبياً كما صار بعض الأنبياء نبياً يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته وهو واصل إلى الأفق الأعلى والأفق الفارق بين المنزلتين ، فإن قيل ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه ، فإن قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } (النجم : 8) إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } (النجم : 14) كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟
نقول سنبين موافقته لما /ذكرنا إن شاء الله في مواضعه عند ذكر تفسيره ، فإن قيل الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته حيث ورد في الأخبار أن جبريل صلى الله عليه وسلّم أرى النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه على صورته فسد المشرق فنقول نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية حتى يلزم مخالفة الحديث ، وإنما نقول أن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلّم نفسه مرتين وبسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده ، لكن الآية لم ترد لبيان ذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
ثم قال تعالى : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } وفيه وجوه مشهورة أحدها : أن جبريل دنا من النبي صلى الله عليه وسلّم أي بعد ما مد جناحه وهو بالأفق عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقرب من النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا ففي ثلاثة وجوه أحدها : فيه تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي صلى الله عليه وسلّم الثاني : الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال دنا فقرب الثالث : دنا أي قصد القرب من محمد صلى الله عليه وسلّم وتحرك عن المكان الذي كان فيه فتدلى فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم الثاني : على ما ذكرنا من الوجه الأخير في قوله {فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى } (النجم : 7) أن محمداً صلى الله عليه وسلّم دنا من الخلق والأمة ولان لهم وصار كواحد منهم أي فتدلى إليهم بالقول اللين والدعاء الرفيق فقال : {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ} (فصلت : 6) وعلى هذا ففي الكلام كمالان كأنه تعالى قال إلا وحي يوحي جبريل على محمد ، فاستوى محمد وكمل فدنا من الخلق بعد علوه وتدلى إليهم وبلغ الرسالة الثالث : وهو ضعيف سخيف ، وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان ، اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة ، وعلى هذا يكون فيه ما في قوله صلى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه تعالى "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ، ومن مشى إليّ أتيته هرولة" إشارة إلى المعنى المجازي ، وههنا لما بيّن أن النبي صلى الله عليه وسلّم استوى وعلا في المنزلة العقلية لا في المكان الحسي قال وقرب الله منه تحقيقاً لما في قوله "من تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً".
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4225)

ثم قال تعالى : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أو أقل ، ورد هذا على استعمال العرب وعادتهم ، فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاهدا خرجا بقوسيهما ووتر كل واحد منهما طرف قوسه بطرف قوس صاحبه ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكفه فينهيان باعيهما ، ولذلك تسمى مسايعة ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن قوله {قَابَ قَوْسَيْنِ} على جعل كونهما كبيرين ، وقوله {أَوْ أَدْنَى } لفضل أحدهما على الآخر ، فإن الأمير إذا بايعه الرعية لا يكون مع المبايع قوس فيصافحه الأمير فكأنه تعالى أخبر أنهما كأميرين كبيرين فكان بينهما مقدار قوسين أو كان جبرائيل عليه السلام سفيراً بين الله تعالى /ومحمد صلى الله عليه وسلّم فكان كالتبع لمحمد صلى الله عليه وسلّم فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس ، هذا على قول من يفضل النبي صلى الله عليه وسلّم على جبرائيل عليه السلام وهو مذهب أهل السنة إلا قليلاً منهم إذ كان جبرائيل رسولاً من الله واجب التعظيم والاتباع فصار النبي صلى الله عليه وسلّم عنده كالتبع له على قول من يفضل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم ، وفيه وجه آخر على ما ذكرنا ، وهو أن يكون القوس عبارة عن بعد من قاس يقوس ، وعلى هذا فنقول ذلك البعد هو البعد النوعي الذي كان للنبي صلى الله عليه وسلّم ، فإنه على كل حال كان بشراً ، وجبريل على كل حال كان ملكاً ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم وإن زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك من الشهوة والغضب والجهل والهوى لكن بشريته كانت باقية ، وكذلك جبريل وإن ترك الكمال واللطف الذي يمنع الرؤية والاحتجاب ، لكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبق بينهما إلا اختلاف حقيقتهما ، وأما سائر الصفات الممكنة الزوال فزالت عنهما فارتفع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ الأفق الأعلى من البشرية وتدلى جبريل عليه السلام حتى بلغ الأفق الأدنى من الملكية فتقاربا ولم يبق بينهما إلا حقيقتهما ، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأول وجهان أحدهما : أن الله تعالى أوحى ، وعلى هذا ففي عبده وجهان أحدهما : أنه جبريل عليه السلام ومعناه أوحى الله إلى جبريل ، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأخير وجهان أحدهما الله تعالى أيضاً ، والمعنى حينئذ أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام الذي أوحاه إليه تفخيماً وتعظيماً للموحي ثانيهما : فاعل أوحى ثانياً جبريل ، والمعنى أوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول ، وفيه بيان أن جبرائيل أمين لم يخن في شيء مما أوحى إليه ، وهذا كقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
(1/4226)

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ} (الشعراء : 193) وقوله {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير : 21) الوجه الثاني : في عبده على قولنا الموحي هو الله أنه محمد صلى الله عليه وسلّم معناه أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه للتفخيم والتعظيم ، وهذا على ما ذكرنا من التفسير ورد على ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم في الأول حصل في الأفق الأعلى من مراتب الإنسان وهو النبوة ثم دنا من جبريل وهو في مرتبة النبوة فصار رسولاً فاستوى وتكامل ودنا من الأمة باللطف وتدلى إليهم بالقول الرفيق وجعل يتردد مراراً بين أمته وربه ، فأوحى الله إليه من غير واسطة جبريل ما أوحى والوجه الثاني : في فاعل أوحى أولاً هو أنه جبريل أوحى أي عبده إلى عبد الله والله معلوم وإن لم يكن مذكوراً وفي قوله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } (سبأ : 40 ، 41) ما يوجب القطع بعدم جواز إطلاق هذا اللفظ على النبي صلى الله عليه وسلّم ، وعلى هذا ففاعل أوحى ثانياً يحتمل وجهين أحدهما : أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه جبريل للتفخيم وثانيهما : أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ما أوحى الله إليه وفي الذي وجوه أولها : الذي أوحى الصلاة. ثانيها : أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأمة من الأمم لا تدخل الجنة قبل أمتك. ثالثها : أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل ، وهذا على قولنا بأن المراد جبريل صحيح ، والوجهان المتقدمان على قولنا المراد محمد عليه الصلاة والسلام أظهر ، وفيه وجه غريب من حيث العربية مشهور معناه عند الأصوليين ، ولنبين ذلك في معرض الجواب عن سؤال ، وهو أن يقال بم عرف محمد صلى الله عليه وسلّم أن جبريل ملك من عند الله وليس أحداً من الجن ، والذي يقال إن خديجة كشفت رأسها امتحاناً في غاية الضعف إن ادعى ذلك القائل أن المعرفة حصلت بأمثال ذلك ، وهذا إن أراد القصة والحكاية ، وإن خديجة فعلت هذا لأن فعل خديجة غير منكر وإنما المنكر دعوى حصول المعرفة بفعلها وأمثالها ، وذلك لأن الشيطان ربما تستر عند كشف رأسها أصلاً فكان يشتبه بالملائكة فيحصل اللبس والإبهام ؟
والجواب الصحيح من وجهين أحدهما : أن الله أظهر على يد جبريل معجزة عرفه النبي صلى الله عليه وسلّم بها كما أظهر على يد محمد معجزات عرفناه بها وثانيهما : أن الله تعالى خلق في محمد صلى الله عليه وسلّم علماً ضرورياً بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان كما أن الله تعالى خلق في جبريل علماً ضرورياً أن المتكلم معه هو الله تعالى وأن المرسل له ربه لا غيره. إذا علم الجوابان فنقول قوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
فيه وجهان أحدهما : أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ما أوحاه إلى جبريل أي كلمه الله أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً ثانيهما : أوحى إلى جبريل ما أوحى إلى محمد دليله الذي به يعرف أنه وحي ، فعلى هذا يمكن أن يقال ما مصدرية تقديره فأوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم الإيحاء أي العلم بالإيحاء ، ليفرق بين الملك والجن.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : الفؤاد فؤاد من ؟
نقول المشهور أنه فؤاد محمد صلى الله عليه وسلّم معناه أنه ما كذب فؤاده واللام لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في قوله {إِلَى عَبْدِه } وفي قوله {وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى } (النجم : 7) وقوله تعالى : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} (النجم : 2) ويحتمل أن يقال {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} أي جنس الفؤاد لأن المكذب هو الوهم والخيال يقول كيف يرى الله أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهوى والهواء لا يرى ، وكذلك يقول الوهم والخيال إن رأى ربه رأى في جهة ومكان وعلى هيئة والكل ينافي كون المرئي إلهاً ، ولو رأى جبريل عليه السلام مع أنه صار على صورة دحية أو غيره فقد انقلبت حقيقته ولو جاز ذلك لارتفع الأمان عن المرئيات ، فنقول رؤية الله تعالى ورؤية جبريل عليه السلام على ما رآه محمد عليه الصلاة والسلام جائزة عند من له قلب فالفؤاد لا ينكر ذلك ، وإن كانت النفس المتوهمة والمتخيلة تنكره.
(1/4227)

/المسألة الثانية : ما معنى {مَا كَذَبَ} ؟
نقول فيه وجوه : الوجه الأول : ما قاله الزمخشري وهو أن قلبه لم يكذب وما قال إن ما رآه بصرك ليس بصحيح ، ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباً فيما قاله وهو قريب مما قاله المبرد حيث قال : معناه صدق الفؤاد ، فيما رأى ، (رأى) شيئاً فصدق فيه الثاني : قرىء {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتشديد ومعناه ما قال إن المرئي خيال لا حقيقة له الثالث : هو أن هذا مقرر لما ذكرنا من أن محمداً صلى الله عليه وسلّم ، لما رأى جبريل عليه السلام خلق الله له علماً ضرورياً علم أنه ليس بخيال وليس هو على ما ذكرنا قصد الحق ، وتقديره ما جوّز أن يكون كاذباً وفي الوقوع وإرادة نفي الجواز كثير قال الله تعالى : {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ } (غافر : 16) وقال : {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} (الأنعام : 103) وقال : {وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ} (النمل : 93) والكل لنفي الجواز بخلاف قوله تعالى : {لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} (يوسف : 56) {لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} ، {لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه } (النساء : 48) فإنه لنفي الوقوع.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثالثة : الرائي في قوله {مَا رَأَى } هو الفؤاد أو البصر أو غيرهما ؟
نقول فيه وجوه الأول : الفؤاد كأنه تعالى قال : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} ما رآه الفؤاد أي لم يقل إنه جني أو شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح الثاني : البصر أي {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} ما رآه البصر ، ولم يقل إن ما رآه البصر خيال الثالث : ما كذب الفؤاد ما رأى محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا على قولنا الفؤاد للجنس ظاهر أي القلوب تشهد بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلّم (من الرؤيا) وإن كانت ، الأوهام لا تعترف بها.
المسألة الرابعة : ما المرئي في قوله {مَا رَأَى } ؟
نقول على الاختلاف السابق والذي يحتمل الكلام وجوه ثلاثة : الأول : الرب تعالى والثاني : جبريل عليه السلام والثالث : الآيات العجيبة الإلهية ، فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسماً في جهة ؟
نقول ، اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان ، وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله ، و(إذا) تفكر في أمر لا يوجد أصلاً وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقاً وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني ، فذلك ليس بمعنى كونه معلوماً لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللاً واستبعاداً فالله راء بمعنى كونه عالماً/ ثم إن الله يكون رائياً ولا يصير مقابلاً للمرئي ، ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلاً له ، وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئاً إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب ، ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمراً وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء ، لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء ، لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه ، قال إني أرى القمر ، ولا رؤية إلا إذ كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء ، فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء ، فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية /حسية ، وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها ، واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى ، يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام ، وفيه إنكار الرسالة وهو كفر ، وفيه ما يكاد أن يكون كفراً ، وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة ، والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه ، للزم القدح في المحسوسات المشاهدات ، إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه ، فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد ، فإن قيل إن هناك حجاباً نقول وجب أن يرى هناك حجاباً فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئياً على مذهبهم ، ثم إن النصوص وردت أن محمداً صلى الله عليه وسلّم رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره ، وكيف لا ، وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد ، فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية ، وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب ، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها.
(1/4228)

جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثالثة : الرائي في قوله {مَا رَأَى } هو الفؤاد أو البصر أو غيرهما ؟
نقول فيه وجوه الأول : الفؤاد كأنه تعالى قال : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} ما رآه الفؤاد أي لم يقل إنه جني أو شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح الثاني : البصر أي {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} ما رآه البصر ، ولم يقل إن ما رآه البصر خيال الثالث : ما كذب الفؤاد ما رأى محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا على قولنا الفؤاد للجنس ظاهر أي القلوب تشهد بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلّم (من الرؤيا) وإن كانت ، الأوهام لا تعترف بها.
المسألة الرابعة : ما المرئي في قوله {مَا رَأَى } ؟
نقول على الاختلاف السابق والذي يحتمل الكلام وجوه ثلاثة : الأول : الرب تعالى والثاني : جبريل عليه السلام والثالث : الآيات العجيبة الإلهية ، فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسماً في جهة ؟
نقول ، اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان ، وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله ، و(إذا) تفكر في أمر لا يوجد أصلاً وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقاً وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني ، فذلك ليس بمعنى كونه معلوماً لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللاً واستبعاداً فالله راء بمعنى كونه عالماً/ ثم إن الله يكون رائياً ولا يصير مقابلاً للمرئي ، ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلاً له ، وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئاً إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب ، ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمراً وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء ، لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء ، لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه ، قال إني أرى القمر ، ولا رؤية إلا إذ كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء ، فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء ، فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية /حسية ، وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها ، واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى ، يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام ، وفيه إنكار الرسالة وهو كفر ، وفيه ما يكاد أن يكون كفراً ، وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة ، والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه ، للزم القدح في المحسوسات المشاهدات ، إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه ، فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد ، فإن قيل إن هناك حجاباً نقول وجب أن يرى هناك حجاباً فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئياً على مذهبهم ، ثم إن النصوص وردت أن محمداً صلى الله عليه وسلّم رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره ، وكيف لا ، وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد ، فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية ، وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب ، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
أي كيف تجادلونه وتوردون شكوككم عليه مع أنه رأى ما رأى عين اليقين ؟
ولا شك بعد الرؤية فهو جازم متيقن وأنتم تقولون أصابه الجن ويمكن أن يقال هو مؤكد للمعنى الذي تقدم ، وذلك لأن من تيقن شيئاً قد يكون بحيث لا يزول عن نفسه تشكيك وأكد بقوله تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4229)

وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال أنه من الجن احتمالاً في غاية البعد ، لما بينا أنه صلى الله عليه وسلّم حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل ، واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين ، ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم بأن البحار وقت نومنا ما نشفت ولا غارت ، والجبال ما عدمت ولا سارت ، مع احتمال ذلك فإن الله قادر على ذلك وقت نومنا ، ويعيدها إلى ما كانت عليه في يومنا ، فلما رآه عند سدرة المنتهى وهو فوق السماء السادسة لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس ، فنفى ذلك الاحتمال أيضاً فقال تعالى : {أَفَتُمَـارُونَه عَلَى مَا يَرَى } رأي العين ، وكيف وهو /قد رآه في السماء فماذا تقدون فيه وفيه مسائل :
ص4و5و6> المسألة الأولى : الواو يحتمل أن تكون عاطفة ، ويحتمل أن تكون للحال على ما بيناه ، أي كيف تجادلونه فيما رآه ، على وجه لا يشك فيه ؟
ومع ذلك لا يحتمل إيراد الشكوك عليه ، فإن كثيراً ما يشك المعتقد لشيء فيه ولكن تردد عليه الشكوك ولا يمكنه الجواب عنها ، ولا تثريب مع ذلك في أن الأمر كما ذكرنا من المثال ، لأنا لا نشك في أن البحار ما صارت ذهباً والجبال ما صارت عهناً ، وإذا أورد علينا مورد شكا ، وقال وقت نومك يحتمل أن الله تعالى قلبها ثم أغادها لا يمكننا الجواب عنه مع أنا لا نشك في استمرارها على ما هي عليه ، لا يقال اللام تنافي كون الواو للحال ، فإن المستعمل يقال أفتمارونه ، وقد رأى من غير لام ، لأنا نقول الواو التي للحال تدخل على جملة والجملة تتركب من مبتدأ وخبر ، أو هن فعل وفاعل ، وكلاهما يجوز فيه اللام.
المسألة الثانية : قوله {نَزْلَةً} فعلة من النزول فهي كجلسة من الجلوس ، فلا بد من نزول ، فذلك النزول لمن كان ؟
نقول فيه وجوه ، وهي مرتبة على أن الضمير في رآه عائد إلى من وفيه قولان الأول : عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى ، وهذا على قول من قال {مَا رَأَى } في قوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } (النجم : 11) هو الله تعالى. وقد قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلّم رأى ربه بقلبه مرتين ، وعلى هذا فالنزلة تحتمل وجهين أحدهما : أنها لله ، وعلى هذا فوجهان أحدهما : قول من يجوز على الله تعالى الحركة والانتقال وهو باطل وثانيهما : النزول بالقرب المعنوي لا الحسي فإن الله تعالى قد يقرب بالرحمة والفضل من عبده ولا يراه العبد ، ولهذا قال موسى عليه السلام {رَبِّ أَرِنِى } (البقرة : 260) أي أزل بعض حجب العظمة والجلال ، وادن من العبد بالرحمة والإفضال لأراك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
الوجه الثاني : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم رأى الله نزلة أخرى ، وحينئذ يحتمل ذلك وجهين أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلّم نزل على متن الهوى ومركب النفس ولهذا يقال لمن ركب متن هواه إنه علا في الأرض واستكبر ، قال تعالى : {عَلا فِى الارْضِ} (القصص : 4) ثانيهما : أن المراد من النزلة ضدها وهي العرجة كأنه قال رآه عرجة أخرى ، وإنما اختار النزلة ، لأن العرجة التي في الآخرة لا نزلة لها فقال نزلة ليعلم أنها من الذي كان في الدنيا والقول الثاني : أنه عائد إلى جبريل عليه السلام أي رأى جبريل نزلة أخرى ، والنزلة حينئذ يحتمل أن تكون لمحمد صلى الله عليه وسلّم كما ذكرناه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم على ما ورد في بعض أخبار ليلة المعراج ، جاوز جبريل عليه السلام ، وقال له جبريل عليه السلام لو دنوت أنملة لاحترقت/ ثم عاد إليه فذلك نزلة. فإن قيل فكيف قال : {أُخْرَى } ؟
نقول لأن النبي صلى الله عليه وسلّم في أمر الصلاة تردد مراراً فربما كان يجاوز كل مرة ، وينزل إلى جبريل ، ويحتمل أن تكون لجبريل عليه السلام وكلاهما منقول وعلى هذا الوجه فنزلة أخرى ظاهر ، لأن جبريل كان له نزلات وكان له نزلتان عليه وهو على صورته ، وقوله تعالى : {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } المشهور أن السدرة شجرة في السماء السابعة وعليها /مثل النبق وقيل في السماء السادسة ، وورد في الخبر أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "نيقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة" وقيل سدرة المنتهى هي الحيرة القصوى من السدرة ، والسدرة كالركبة من الراكب عندما يحار العقل حيرة لا حيرة فوقها ، ما حار النبي صلى الله عليه وسلّم وما غاب ورأى ما رأى ، وقوله {عِندَ} ظرف مكان ، أو ظرف زمان في هذا الموضع ؟
نقول المشهور أنه ظرف مكان تقديره رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى وقيل ظرف زمان ، كما يقال صليت عند طلوع الفجر ، وتقديره رآه عند الحيرة القصوى ، أي في الزمان الذي تحار فيه عقول العقلاء ، والرؤية من أتم العلوم وذلك الوقت من أشد أوقات الجهل والحيرة ، فهو عليه الصلاة والسلام ما حار وقتاً من شأنه أن يحار العاقل فيه ، والله أعلم.
(1/4230)

المسألة الثالثة : إن قلنا معناه رأى الله كيف يفهم {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } ؟
قلنا فيه أقوال : الأول : قول من يجعل الله في مكان وهو باطل ، وقد بالغنا في بيان بطلانه في سورة السجدة الثاني : رآه محمد صلى الله عليه وسلّم وهو {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } لأن الظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما ذكرنا من المثال يقال رأيت الهلال ، فيقاله لقائله أين رأيته ؟
فيقول على السطح وربما يقول عند الشجرة الفلانية ، وأما إن قلنا إن المراد جبريل عليه السلام فالوجهان ظاهران وكون النبي صلى الله عليه وسلّم مع جبريل عند سدرة المنتهى أظهر.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الرابعة : إضافة السدرة إلى المنتهى من أي (أنواع) الإضافة ؟
نقول يحتمل وجوهاً أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه يقال أشجار بلدة كذا لا تطول من البرد ويقال أشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار ، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ، وقيل لا يتعداه روح من الأرواح وثانيها : إضافة المحل إلى الحال فيه ، يقال : كتاب الفقه ، ومحل السواد ، وعلى هذا فالمنتهى عند السدرة تقديره سدرة عند منتهى العلوم ثالثها : إضافة الملك إلى مالكه يقال دار زيد وأشجار زيد وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه ، قال الله تعالى : {إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } (النجم : 42) فالمنتهى إليه هو الله وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم ، ويقال في التسبيح : يا غاية مناه ، ويا منتهى أملاه.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
ثم قال تعالى : {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } وفي الجنة خلاف قال بعضهم جنة المأوى هي الجنة التي وعد بها المتقون ، وحينئذ الإضافة كما في قوله تعالى : {دَارَ الْمُقَامَةِ} (فاطر : 35) وقيل هي جنة أخرى عندها يكون أرواح الشهداء وقيل هي جنة للملائكة وقرىء بالهاء من جن بمعنى أجن يقال جن الليل وأجن ، وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الضمير في قوله {الْمُنتَهَى * عِندَهَا} عائداً إلى النزلة ، أي عند النزلة جن محمداً المأوى ، والظاهر أنه عائد إلى السدرة وهي الأصح ، وقيل إن عائشة أنكرت /هذه القراءة ، وقيل إنها أجازتها.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في {إِذْ} ما قبلها أو ما بعدها فيه وجهان ، فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان : أظهرهما {رَءَاهُ} (النجم : 13) أي رآه وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى ، والاحتمال الآخر العامل فيه الفعل الذي في النزلة ، تقديره رآه نزلة أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى ، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فحينئذ نزل محمد نزلة إشارة إلى أنه لم يرجع من غير فائدة ، وإن قلنا ما بعده ، فالعامل فيه {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} (النجم : 17) أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها ، وسنذكره عند تفسير الآية.
المسألة الثانية : قد ذكرت أن في بعض الوجوه {سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } هي الحيرة القصوى ، وقوله {يَغْشَى السِّدْرَةَ} على ذلك الوجه ينادي بالبطلان ، فهل يمكن تصحيحه ؟
نقول يمكن أن يقال المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة ، أي ورد على حالة الحيرة حالة الرؤية واليقين ، ورأى محمد صلى الله عليه وسلّم عندما حار العقل ما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله تعالى ورحمته ، والأول هو الصحيح ، فإن النقل الذي ذكرنا من أن السدرة نبقها كقلال هجر يدل على أنها شجرة.
المسألة الثالثة : ما الذي غشى السدرة ؟
نقول فيه وجوه الأول : فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف ، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي ، فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل ، وإن لم يصح فلا وجه له الثاني : الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور ، وهو قريب ، لأن المكان مكان لا يتعداه الملك ، فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين ، كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها الثالث : أنوار الله تعالى ، وهو ظاهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما وصل إليها تجلى ربه لها ، كما تجلى للجبل ، وظهرت الأنوار ، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت ، فجعل الجبل دكاً ، ولم تتحرك الشجرة ، وخر موسى صعقاً ، ولم يتزلزل محمد الرابع : هو مبهم للتعظيم ، يقول القائل : رأيت ما رأيت عند الملك ، يشير إلى الإظهار من وجه ، وإلى الإخفاء من وجه.
المسألة الرابعة : {يَغْشَى} يستر ، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان ، يقال فلا يغشاني كل وقت ، أي يأتيني ، والوجهان محتملان ، وعلى قول من يقول : الله يأتي ويذهب ، فالإتيان أقرب.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
/ثم قال تعالى : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } وفيه مسائل :
(1/4231)

المسألة الأولى : اللام في {الْبَصَرُ} يحتمل وجهين أحدهما : المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلّم ، أي ما زاغ بصر محمد ، وعلى هذا فعدم الزيغ على وجوه ، إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش ، فمعناه لم يتلفت إليه ولم يشتغل به ، ولم يقطع نظره عن المقصود ، وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء ، وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلّم. وإن قلنا أنوار الله ، ففيه وجهان أحدهما : لم يتلفت يمنة ويسرة ، واشتغل بمطالعتها وثانيهما : ما زاغ البصر بصعقة بخلاف موسى عليه السلام ، فإنه قطع النظر وغشي عليه ، وفي الأول : بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفي الثاني : بيان قوته الوجه الثاني : في اللام أنه لتعريف الجنس ، أي ما زاغ بصر أصلاً في ذلك الموضع لعظمة الهيبة ، فإن قيل لو كان كذلك لقال ما زاغ بصر ، لأنه أدل على العموم ، لأن النكرة في معرض النفي تعم ، نقول هو كقوله {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} (الأنعام : 103) ولم يقل لا يدركه بصر.
المسألة الثانية : إن كان المراد محمداً ، فلو قال ما زاغ قلبه كان يحصل به فائدة قوله {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} ؟
نقول لا ، وذلك لأن من يحضر عند ملك عظيم يرى من نفسه أنه يهابه ويرتجف إظهاراً لعظمته مع أن قلبه قوي ، فإذا قال : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} يحصل منه فائدة أن الأمر كان عظيماً ، ولم يزغ بصره من غير اختيار من صاحب البصر.
المسألة الثالثة : {وَمَا طَغَى } عطف جملة مستقلة على جملة أخرى ، أو عطف جملة مقدرة على جملة ، مثال المستقلة : خرج زيد ودخل عمرو ، ومثال مقدرة : خرج زيد ودخل ، فنقول الوجهان جائزان أما الأول : فكأنه تعالى قال عند ظهور النور : ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلّم ، وما طغى محمد بسبب الالتفات ، ولو التفت لكان طاغياً وأما الثاني : فظاهر على الأوجه ، أما على قولنا : غشي السدرة جراد فلم يلتفت إليه {وَمَا طَغَى } أي ما التفت إلى غير الله ، فلم يلتفت إلى الجراد ، ولا إلى غير الجراد سوى الله. وأما على قولنا غشيها نور ، فقوله {مَا زَاغَ} أي ما مال عن الأنوار {وَمَا طَغَى } أي ما طلب شيئاً وراءها وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال : ما زاغ وما طغى ، ولم يقل : ما مال وما جاوز ، لأن الميل في ذلك الموضع والمجاوزة مذمومان ، فاستعمل الزيغ والطغيان فيه ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون ذلك بياناً لوصول محمد صلى الله عليه وسلّم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه ، ووجه ذلك أن بصر محمد صلى الله عليه وسلّم {مَا زَاغَ} أي ما مال عن الطريق ، فلم ير الشيء على خلاف ما هو عليه ، بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ، ثم ينظر إلى شيء أبيض ، فإنه يراه أصفر أو أخضر يزيغ بصره عن جادة الأبصار {وَمَا طَغَى } ما تخيل المعدوم موجوداً فرأى المعدوم مجاوزاً الحد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
/ثم قال تعالى : {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلّم ، رأى ليلة المعراج آيات الله ، ولم ير الله ، وفيه خلاف ووجهه : هو أن الله تعالى ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات ، وقال : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} إلى أن قال : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ } (الإسراء : 1) ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن ، فكانت الآية الرؤية ، وكان أكبر شيء هو الرؤية ، ألا ترى أن من له مال يقال له : سافر لتربح ، ولا يقال : سافر لتتفرج ، لما أن الربح أعظم من التفرج.
المسألة الثانية : قال بعض المفسرين {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } وهي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته ، فهل هو على ما قاله ؟
نقول الظاهر أن هذه الآيات غير تلك ، وذلك لأن جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً ، لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكة أعظم منه ، والكبرى تأنيث الأكبر ، فكأنه تعالى يقول : رأى من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات ، فإن قيل قال الله تعالى : {إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ} (المدثر : 35) مع أن أكبر من سقر عجائب الله ، فكذلك الآيات الكبرى تكون جبريل وما فيه ، وإن كان لله آيات أكبر منه نقول سقر إحدى الكبر أي إحدى الدواهي الكبر ، ولا شك أن في الدواهي سقر عظيمة كبيرة ، وأما آيات الله فليس جبريل أكبرها ولأن سقر في نفسها أعظم وأعجب من جبريل عليه السلام فلا يلزم من صفتها بالكبر صفتها بالكبرى.
المسألة الثالثة : الكبرى صفة ماذا ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : صفة محذوف تقديره : لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى ، ثانيهما : صفة آيات ربه وعلى هذا يكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من الآيات الكبرى آية أو شيئاً ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4232)

لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدىء به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك ، فقوله تعالى : {أَفَرَءَيْتُمُ} إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما أن ضعيفاً إذا ادعى الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك ، منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره ، فلذلك قال : {أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى } أي كما هما فكيف تشركونهما بالله ، والتاء في اللاّت تاء تأنيث كما في المناة لكنها تكتب مطولة لئلا يوقف عليها فتصير هاء فيشتبه باسم الله تعالى ، فإن الهاء في الله أصلية ليست تاء تأنيث وقف عليها فانقلبت هاء ، وهي صنم كانت لثقيف بالطائف ، قال الزمخشري هي فعله من لوى يلوي ، وذلك لأنهم كانوا يلوون عليها ، وعلى ما قال فأصله لوية أسكنت الياء /وحذفت لالتقاء الساكنين فبقيت لوه قلبت الواو ألفاً لفتح ما قبلها فصارت لات ، وقرىء اللات بالتشديد من لت ، قيل إنه مأخوذ من رجل كان يلت بالسمن الطعام ويطعم الناس فعبد واتخذ على صورته وثن وسموه باللاّت ، وعلى هذا فاللاّت ذكر ، وأما العزى فتأنيث الأعز وهي شجرة كانت تعبد ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد رضي الله عنه فقطعها وخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس منشورة الشعر تضرب رأسها وتدعوا بالويل والثبور فقتلها خالد وهو يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبره بما رأى وفعل فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً ، وأما مناة فهي فعلة صنم الصفا ، وهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الآخر لا يصح أن يقال إلا إذا كان الأول مشاركاً للثاني فلا يقال رأيت امرأة ورجلاً آخر ، ويقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر لاشتراك الأول والثاني في كونهما من الرجال وههنا قوله {الثَّالِثَةَ الاخْرَى } يقتضي على ما ذكرنا أن تكون العزى ثالثة أولى ومناة ثالثة أخرى وليس كذلك ، والجواب عنه من وجوه الأول : الأخرى كما هي تستعمل للذم ، قال الله تعالى : {وَقَالَتْ أُولَـاهُمْ لاخْرَاهُمْ} (الأعراف : 39) أي لمتأخرتهم وهم الأتباع ويقال لهم الأذناب لتأخرهم في المراتب فهي صفة ذم كأنه تعالى يقول ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة ، ونقول على هذا للأصنام الثلاثة ترتيب ، وذلك لأن الأول كان وثناً على صورة آدمي والعزى صورتها صورة نبات ومناة صورتها صورة صخرة هي جماد ، فالآدمي أشرف من النبات ، والنبات أشرف من الجماد ، فالجماد متأخر والمناة جماد فهي في الأخريات من المراتب الجواب الثاني : فيه محذوف تقديره {أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى } المعبودين بالباطل {وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ} المعبودة الأخرى والجواب الثالث : هو أن الأصنام كان فيها كثرة واللاّت والعزى إذا أخذتا متقدمتين فكل صنمة توجد فهي ثالثة ، فهناك ثوالث فكأنه يقول لهما ثوالث كثيرة وهذه ثالثة أخرى ، وهذا كقول القائل يوماً ويوماً والجواب الرابع : فيه تقديم وتأخير تقديره ومناة الأخرى الثالثة ، ويحتمل أن يقال الأخرى تستعمل لموهوم أو مفهوم وإن لم يكن مشهوراً ولا مذكوراً يقول من يكثر تأذيه من الناس إذا آذاه إنسان الآخر جاء يؤذينا ، وربما يسكت على قوله أنت الآخر فيفهم غرضه كذلك ههنا.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثانية : وهي في الترتيب أولى ما فائدة الفاء في قوله {أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى } وقد استعمل في مواضع بغير الفاء ؟
قال تعالى : {أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (الأحقاف : 4) {أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ} (فاطر : 4) ، نقول لما قدم من عظمة آيات الله في ملكوته أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته ، قال أفرأيتم هذه الأصنام مع زلتها وحقارتها شركاء الله مع ما تقدم ، فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عظمة آيات /الله تعالى الكبرى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى ، فانظروا إلى اللاّت والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه.
المسألة الثالثة : أين تتمة الكلام الذي يفيد فائدة ما ؟
نقول قد تقدم بيانه وهو أنه يقول هل رأيتم هذه حق الرؤية ، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء ، نظيره ما ذكرنا فيمن ينكر كون ضعيف يدعي ملكاً ، يقول لصاحبه أما تعرف فلاناً مقتصراً عليه مشيراً إلى بطلان ما يذهب إليه ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4233)

وقد ذكرنا ما يجب ذكره في سورة والطور في قوله {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور : 39) ونعيد ههنا بعض ذلك أو ما يقرب منه ، فنقول لما ذكر اللاّت والعزى ومناة ولم يذكر شيئاً آخر قال إن هذه الأشياء التي رأيتموها وعرفتموها تجعلونها شركاء لله وقد سمعتم جلال الله وعظمته وإن الملائكة مع رفعتهم وعلوهم ينتهون إلى السدرة ويقفون هناك لا يبقى شك في كونهم بعيدين عن طريقة المعقول أكثر مما بعدوا عن طريقة المنقول ، فكأنهم قالوا نحن لا نشك أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولا قريباً من أن يماثله ، وإنما صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء ، وقالوا إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ويرد عليهم الأمر والنهي وينهون إلى الله ما يصدر من عباده في أرضه وهم بنات الله ، فاتخذنا صوراً على صور الإناث وسميناها أسماء الإناث ، فاللاّت تأنيث اللوة وكان أصله أن يقال اللاهة لكن في التأنيث يوقف عليها فتصير اللاهة فأسقط إحدى الهاءين وبقيت الكلمة على حرفين أصليين وتاء التأنيث فجعلناها كالأصلية كما فعلنا بذات مال وذا مال والعزى تأنيث الأعز ، فقال لهم كيف جعلتم لله بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون ، والله كامل العظمة فالمنسوب إليه كيف جعلتموه ناقصاً وأنتم في غاية الحقارة والذلة حيث جعلتم أنفسكم أذل من خمار وعبد ثم صخرة وشجرة ثم نسبتم إلى أنفسكم الكامل ، فهذه القسمة جائزة على طريقكم أيضاً حيث أذللتم أنفسكم ونسبتم إليها الأعظم من الثقلين وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير ، فإذن أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي لكم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : تلك إشارة إلى ماذا ؟
نقول إلى محذوف تقديره تلك القسمة قسمة ضيزى أي غير عادلة ، ويحتمل أن يقال معناه تلك النسبة قسمة وذلك لأنهم ما قسموا وما قالوا لنا البنون وله البنات ، وإنما نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى : {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (النحل : 62) /فلما نسبوا إلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائزة وهذا الخلاف لا يرهق.
المسألة الثانية : {إِذَا} جواب ماذا ؟
نقول يحتمل وجوهاً الأول : نسبتكم البنات إلى الله تعالى إذا كان لكم البنون قسمة ضيزى الثاني : نسبتكم البنات إلى الله تعالى مع اعتقادكم أنهن ناقصات واختياركم البنين مع اعتقادكم أنهم كاملون إذا كنتم في غاية الحقارة والله تعالى في نهاية العظمة قسمة ضيزى ، فإن قيل ما أصل {إِذَا} ؟
قلنا هو إذا التي للظرف قطعت الإضافة عنها فحصل فيها تنوين وبيانه هو أنك تقول آتيك إذا طلعت الشمس فكأنك أضفت إذاً لطلوع الشمس وقلت آتيك وقت طلوع الشمس ، فإذا قال قائل آتيك فتقول له إذن أكرمك أي إذا أتيتني أكرمك فلما حذفت الإتيان لسبق ذكره في قول القائل أتيت بدله بتنوين وقلت إذن كما تقول : وكلا آتيناه.
(1/4234)

المسألة الثالثة : {ضِيزَى } قرىء بالهمزة وبغير همزة وعلى الأولى هي فعلى بكسر الفاء كذكرى على أنه مصدر وصف به كرجل عدل أي قسمة ضائزة وعلى القراءة الثانية هي فعلى وكان أصلها ضوزى لكن عين الكلمة كانت يائية فكسرت الفاء لتسلم العين عن القلب كذلك فعل ببيض فإن جمع أفعل فعل تقول أسود وسود وأحمر وحمر وتقول أبيض وبيض وكان الوزن بيض وكان يلزم منه قلب العين فكسرت الباء وتركت الباء على حالها ، وعلى هذا ضيزى للمبالغة من ضائزة ، تقول فاضل وأفضل وفاضلة وفضلى وكبير وأكبر وكبيرى وكبرى كذلك ضائز وضوز وضائزة وضوزى على هذا نقول أضوز من ضائز وضيزى من ضائزة ، فإن قيل قد قلت من قبل إن قوله {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور : 39) ليس بمعنى إنكار الأمرين بل بمعنى إنكار الأول وإظهار النكر بالأمر الثاني ، كما تقول أتجعلون لله أنداداً وتعلمون أنه خلق كل ما سواه فإنه لا ينكر الثاني ، وههنا قوله {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } دلّ على أنه أنكر الأمرين جميعاً نقول قد ذكرنا هناك أن الأمرين محتملان : أما إنكار الأمرين فظاهر في المشهور ، أما إنكار الأول فثابت بوجوه ، وأما الثاني فلما ذكرنا أنه تعالى قال كيف تجعلون لله البنات وقد صار لكم البنون بقدرته كما قال تعالى : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} الشورى : 49) (خالق البنين لكم لا يكون له بنات ، وأما قوله {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } فنقول قد بينا أن تلك عائدة إلى النسبة أي نسبتكم البنات إلى الله تعالى مع أن لكم البنين قسمة ضائزة فالمنكر تلك النسبة وإن كان المنكر القسمة نقول يجوز أن يكون تقديره أيجوز جعل البنات لله تعالى كما أن واحداً إذا كان بينه وبين شريكه شيء مشترك على السوية فيأخذ نصفه لنفسه ويعطي من النصف الباقي نصفه لظالمه ونصفه لصاحبه فقال هذه قسمة ضائزة لا لكونه أخذ النصف فذلك حقه بل لكونه لم يوصل إليه النصف الباقي.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
ثم قال تعالى : {إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } وفيه /مباحث تدق عن إدراك اللغوي إن يكن عنده من العلوم حظ عظيم ، ولنذكر ما قيل فيه أولاً فنقول قيل معناه : إن هي إلا أسماء ، أي كونها إناثاً وكونها معبودات أسماء لا مسمى لها فإنها ليست بإناث حقيقة ولا معبودات ، وقيل أسماء أي قلتم بعضها عزى ولا عزة لها ، وقيل قلتم إنها آلهة وليست بآلهة ، والذي نقوله هو أن هذا جواب عن كلامهم ، وذلك على ما بينا أنهم قالوا نحن لا نشك في أن الله تعالى لم يلد كما تلد النساء ولم يولد كما تولد الرجال بالمجامعة والإحبال ، غير أنا رأينا لفظ الولد مستعملاً عند العرب في المسبب تقول : بنت الجبل وبنت الشفة لما يظهر منهما ويوجد ، لكن الملائكة أولاد الله بمعنى أنهم وجدوا بسببه من غير واسطة فقلنا إنهم أولاده ، ثم إن الملائكة فيها تاء التأنيث فقلنا هم أولاد مؤنثة ، والولد المؤنث بنت ، فقلنا لهم بنات الله ، أي لا واسطة بينهم وبين الله تعالى في الإيجاد كما تقول الفلاسفة ، فقال تعالى : هذه الأسماء استنبطتموها أنتم بهوى أنفسكم وأطلقتم على الله ما يوهم النقص وذلك غير جائز ، وقوله تعالى : {نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} (الزمر : 56) وقوله (بيده الخير) أسماء موهمة غير أنه تعالى أنزلها ، وله أن يسمي نفسه بما اختار وليس لأحد أن يسمى بما يوهم النقص من غير ورود الشرع به ، ولنبين التفسير في مسائل :
المسألة الأولى : {هِىَ} ضمير عائد إلى ماذا ؟
نقول الظاهر أنها عائدة إلى أمر معلوم وهو الأسماء كأنه قال ما هذه الأسماء التي وضعتموها أنتم وهو المشهور ، ويحتمل أن يقال هي عائدة إلى الأصنام بأنفسها أي ما هذه الأصنام إلا أسماء ، وعلى هذا فهو على سبيل المبالغة والتجوز ، يقال لتحقير إنسان ما زيد إلا اسم وما الملك إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة تعتبر في الكلام بين الناس ، ويؤيد هذا القول قوله تعالى : {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِه إِلَّا أَسْمَآءً} (يوسف : 40) أي ما هذه الأصنام إلا أسماء.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
(1/4235)

المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله {سَمَّيْتُمُوهَآ} مع أن جميع الأسماء وضعوها أو بعضها هم وضعوها ولم ينكر عليهم ؟
نقول المسألة مختلف فيها ولا يتم الذم إلا بقوله تعالى : {مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } وبيانه هو أن الأسماء إن أنزلها الله تعالى فلا كلام فيها ، وإن وضعها للتفاهم فينبغي أن لا يكون في ضمن تلك الفائدة مفسدة أعظم منها لكن إيهام النقص في صفات الله تعالى أعظم منها ، فالله تعالى ما جوّز وضع الأسماء للحقائق إلا حيث تسلم عن المحرم ، فلم يوجد في هذه الأسماء دليل نقلي ولا وجه عقلي ، لأن ارتكاب المفسدة العظيمة لأجل المنفعة القليلة لا يجوزه العاقل ، فإذاً {مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } ووضع الاسم لا يكون إلا بدليل نقلي أو عقلي ، وهو أنه يقع خالياً عن وجوه المضار الراجحة.
المسألة الثالثة : كيف قال : {سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ} مع أن هذه الأسامي لأصنامهم كانت قبلهم ؟
نقول فيه لطيفة وهي أنهم لو قالوا ما سميناها ، وإنما هي موضوعة قبلنا ، قيل لهم كل من يطلق هذه الألفاظ فهو كالمبتدىء الواضع/ وذلك لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل /عقلي لم يجب اتباعه فمن يطلق اللفظ لأن فلاناً أطلقه لا يصح منه كما لا يصح أن يقول أضلني الأعمى ولو قاله لقيل له بل أنت أضللت نفسك حيث اتبعت من عرفت أنه لا يصلح للاقتداء به.
المسألة الرابعة : الأسماء لا تسمى ، وإنما يسمى بها فكيف قال : {سَمَّيْتُمُوهَآ} ؟
نقول عنه جوابان أحدهما : لغوي وهو أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها ، ويقال سميته زيداً وسميته يزيد فسميتموها بمعنى سميتم بها وثانيهما : معنوي وهو أنه لو قال أسماء سميتم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلق به الباء في قوله {بِهَا} لأن قول القائل سميت به يستدعي مفعولاً آخر تقول سميت بزيد ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً وراء أسمائها ، وإذا قال : {إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ} أي وضعتموها في أنفسها لا مسميات لها لم يكن ذلك فإن قيل هذا باطل بقوله تعالى : {وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} (آل عمران : 36) حيث لم يقل وإني سميتها بمريم ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام ؟
نقول بينهما بون عظيم وذلك لأن هناك قال : {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله {سَمَّيْتُهَا} واسمها بقوله {مَرْيَمَ} وأما ههنا فقال : {إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ} أي ما هناك إلا أسماء موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرت في مريم.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الخامسة : {مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } على أي وجه استعملت الباء في قوله {بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } ؟
نقول كما يستعمل القائل ارتحل فلان بأهله ومتاعه ، أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع كذا ههنا.
ثم قال تعالى : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الانفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {إِن تَتَّبِعُونَ} بالتاء على الخطاب ، وهو ظاهر مناسب لقوله تعالى : {أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم} على المغايبة وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون الخطاب معهم لكنه يكون التفاتاً كأنه قطع الكلام معهم ، وقال لنبيه : إنهم لا يتبعون إلا الظن ، فلا تلتفت إلى قولهم ثانيهما : أن يكون المراد غيرهم وفيه احتمالان أحدهما : أن يكون المراد آباءهم وتقديره هو أنه لما قال : {سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ} كأنهم قالوا هذه ليست أسماء وضعناها نحن ، وإنما هي كسائر الأسماء تلقيناها ممن قبلنا من آبائنا فقال وسماها آباؤكم وما يتبعون إلا الظن ، فإن قيل كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي ، نقول وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان بعد زمان الكلام كما في قوله تعالى : {وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} (الكهف : 18). ثانيهما : أن يكون المراد عامة الكفار كأنه قال : إن يتبع الكافرون إلا الظن.
(1/4236)

المسألة الثانية : ما معنى الظن وكيف ذمهم به وقد وجب علينا اتباعه في الفقه وقال / صلى الله عليه وسلّم عن الله تعالى : "أنا عند ظن عبدي بي" ؟
نقول أما الظن فهو خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه ، وأصل العلم الظهور ومنه العلم والعالم وقد بينا في تفسير العالمين أن حروف ع ل م في تقاليبها فيها معنى الظهور ، ومنها لمع الآل إذا ظهر وميض السراب ولمع الغزال إذا عدا وكذا النعام وفيه الظهور وكذلك علمت ، والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدري أفيها ماء أم لا ، ومنه الظنين المتهم لا يدري ما يظن ، نقول يجوز بناء الأمر على الظن الغالب عند العجز عن درك اليقين والاعتقاد ليس كذلك لأن اليقين لم يتعذر علينا وإلى هذا إشارة بقول {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } (النجم : 23) أي اتبعوا الظن ، وقد أمكنهم الأخذ باليقين وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثالثة : {مَّآ} في قوله تعالى : {وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} خبرية أو مصدرية ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : مصدرية كأنه قال : إن يتبعون إلا الظن وهوى الأنفس ، فإن قيل ما الفائدة في العدول عن صريح المصدر إلى الفعل مع زيادة ما وفيه تطويل ؟
نقول فيه فائدة ، وإنها في أصل الوضع ثم نذكرها هنا فنقول إذا قال القائل أعجبني صنعك يعلم من الصيغة أن الإعجاب من مصدر قد تحقق وكذلك إذا قال أعجبني ما تصنع يعلم أن الإعجاب من مصدر هو فيه فلو قال أعجبني صنعك وله صنع أمس وصنع اليوم لا يعلم أن المعجب أي صنع هو إذا علمت هذا فنقول ههنا قوله {وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} يعلم منه أن المراد أنهم يتبعون ما تهوى أنفسهم في الحال والاستقبال إشارة إلى أنهم ليسوا بثابتين على ضلال واحد وما هوت أنفسهم في الماضي شيئاً من أنواع العبادة فالتزموا به وداموا عليه بل كل يوم هم يستخرجون عبادة ، وإذا انكسرت أصنامهم اليوم أتوا بغيرها غداً ويغيرون وضع عبادتهم بمقتضى شهوتهم اليوم ثانيهما : أنها خبرية تقديره ، والذي تشتهيه أنفسهم والفرق بين المصدرية والخبرية أن المتبع على الأول الهوى وعلى الثاني مقتضى الهوى كما إذا قلت أعجبني مصنوعك.
المسألة الرابعة : كيف قال : {وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} بلفظ الجمع مع أنهم لا يتبعون ما تهواه كل نفس فإن من النفوس ما لا تهوى ما تهواه غيرها ؟
نقول هو من باب مقابلة الجمع بالجمع معناه اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه يقال خرج الناس بأهليهم أي كل واحد بأهله لا كل واحد بأهل الجمع.
المسألة الخامسة : بيّن لنا معنى الكلام جملة ، نقول قوله تعالى : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} أمران مذكوران يحتمل أن يكون ذكرهما لأمرين تقدير بين يتبعون الظن في الاعتقاد ويتبعون ما تهوى الأنفس في العمل والعبادة وكلاهما فاسد ، لأن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين ، وكيف يجوز اتباع الظن في الأمر العظيم ، وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأحذر ، وأما العمل فالعبادة مخالفة الهوى فكيف تنبىء على متابعته ، ويحتمل أن يكون في أمر واحد على طريقة النزول درجة درجة فقال : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} أي وما دون الظن لأن القرونة تهوى ما لا يظن به خير وقوله تعالى : {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } (النجم : 23) إشارة /إلى أنهم على حال لا يعتد به لأن اليقين مقدور عليه وتحقق بمجيء الرسل {وَالْهَدْىَ} فيه وجوه ثلاثة الأولى : القرآن الثاني : الرسل الثالث : المعجزات.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
(1/4237)

ثم قال تعالى : {أَمْ لِلانسَـانِ مَا تَمَنَّى } المشهور أن أم منقطعة معناه : أللإنسان ما اختاره واشتهاه ؟
وفي {مَا تَمَنَّى } وجوه الأولى : الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة الثاني : قولهم {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى } (فصلت : 50) الثالث : قول الوليد بن المغيرة {لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} (مريم : 77) الرابع : تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة ، فإن قلت هل يمكن أن تكون أم ههنا متصلة ؟
نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين أحدهما : أنها مذكورة في قوله تعالى : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى } (النجم : 21) كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون وعلى هذا فقوله تلك {إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } (النجم : 22) وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين ثانيهما : أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله {أَفَرَءَيْتُمُ} (النجم : 19) لبيان فساد قولهم ، والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل ، كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث ، أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك ، ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منهاً على عدم صلاحه ، فههنا قال تعالى : {أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى } أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة ، وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمنى والاشتهاء ، ويؤيد هذا قوله تعالى : {وَمَا تَهْوَى الانفُسُ} أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
ثم قال تعالى : {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق الفاء بالكلام وفيه وجوه الأولى : أن تقديره الإنسان إذا اختار معبوداً في دنياه على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله في الدنيا وإن لم يعاقبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة ، وقوله تعالى : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ} إلى قوله تعالى : {لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ} (النجم : 26) يكون مؤكداً لهذا المعنى أي عقابهم يقع ولا يشفع فيهم أحد ولا يغنيهم شفاعة شافع الثاني : أنه تعالى لما بيّن أن اتخاذ اللاّت والعزى باتباع الظن وهوى الأنفس كأنه قرره وقال إن لم تعلموا هذا فلله الآخرة والأولى ، وهذه الأصنام ليس لها من الأمر شيء فكيف يجوز الإشراك وقوله تعالى : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ} على هذا الوجه جواب كلام كأنهم قالوا لا نشرك بالله شيئاً ، وإنما هذه الأصنام شفعاؤنا فإنها صورة ملائكة مقربين ، فقال : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَـاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا} الثالث : هذه تسلية كأنه تعالى قال ذلك لنبيه حيث بيّن رسالته ووحدانية الله ولم يؤمنوا فقال لا تأس {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى } أي لا يعجزون الله الرابع : هو ترتيب حق على دليله /بيانه هو أنه تعالى لما بيّن رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله {إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (النجم : 4) إلى آخره وبيّن بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم وهو التوحيد ، قال إذاعلمتم صدق محمد ببيان رسالة الله تعالى : {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى } لأنه صلى الله عليه وسلّم أخبركم عن الحشر فهو صادق الخامس : هو أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين أهؤلاء أهدى منا ؟
وقالوا {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه } (الأحقاف : 11) فقال تعالى : إن الله اختار لكم الدنيا وأعطاكم الأموال ولم يعط المؤمنين بعض ذلك الأمر بل قلتم : لو شاء الله لأغناهم وتحققتم هذه القضية {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى } قولوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا يهدي الله من يشاء كما يغني الله ما يشاء.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
المسألة الثانية : {الاخِرَةُ} صفة ماذا ؟
نقول صفة الحياة أو صفة الدار وهي اسم فاعل من فعل غير مستعمل ، تقول أخرته فتأخر وكان من حقه أن تقول فأخر كما تقول غبرته فغبر فمنعت منه سماعاً ، ولهذا البحث فائدة ستأتي إن شاء الله.
المسألة الثالثة : {الاولَى } فعلى للتأنيث ، فالأول إذن أفعل صفة. وفيه مباحث :
(1/4238)

البحث الأول : لا بد من فاعل أخذ منه الأفعل والفعلى فإن كل فعلى وأفعل للتأنيث والتذكير له أصل فليؤخذ منه كالفضلى والأفضل من الفاضلة والفاضل ، فما ذلك ؟
نقول ههنا أخذ من أصل غير مستعمل كما قلنا إن الآخر فاعل من فعل غير مستعمل ، وسبب ذلك هو أن كل فعل مستعمل فله آخر ، وذلك لأن له ماضياً فإذا استعملت ماضيه لزم فراغ الفعل وإلا لكان الفاعل بعد في الفعل فلا يكون ماضياً فإنك لا تقول لمن هو بعد الأكل أكل إلا متجوزاً عندما يبقى له قليل ، فيقول أكل إشارة إلى أن ما بقي غير معتد به وتقول لمن قرب من الفراغ فرغت فيقول فرغت بمعنى أن ما بقي قليل لا يعتد به فكأني فرغت ، وأما الماضي في الحقيقة لا يصح إلا عند تمام الشيء والفراغ عنه فإذاً للفعل المستعمل آخر فلو كان لقولنا آخر على وزن فاعل فعل هو آخر يأخر كأمر يأمر لكان معناه صدر مصدره كجلس معناه صدر الجلوس منه بالتمام والكمال فكان ينبغي أن القائل إذا قال فلان آخر كان معناه وجد منه تمام الآخرية وفرغ منها فلا يكون بعد ما يكون آخر لكن تقدم أن كل فعل فله آخر بعده لا يقال يشكل بقولنا تأخر فإن معناه صار آخراً لأنا نقول وزن الفعل ينادي على صحة ما ذكرنا فإنه من باب التكلف والتكبر إذا استعمل في غير المتكبر أي يرى أنه آخر/ وليس في الحقيقة كذلك ، إذا علمت هذا فنقول الآخر فاعل ليس له فعل ، ومبالغته بأفعل وهو كقولنا أأُخر ، فنقلت الهمزة إلى مكان الألف ، والألف إلى مكان الهمزة ، فصارت الألف همزة والهمزة ألفاً ، ويدل عليه التأويل في المعنى ، فإن آخر الشيء جزء منه متصل به والآخر مباين عنه منفصل والمنفصل بعد المتصل ، والآخر أشد تأخراً عن الشيء من آخره ، والأول أفعل ليس له فاعل ، وليس له فعل ، والأول أبعد عن الفعل من الآخر ، وذلك لأن الفعل الماضي علم له آخر من وصفه بالماضي ولولا ذلك الوصف لما علم له آخر ، وأما الفعل لتفسير كونه فعلاً علم له أول /لأن الفعل لا بد له من فاعل يقوم به ، أو يوجد منه فإذا الفاعل أولاً ثم الفعل ، فإذا كان الفاعل أول الفعل كيف يكون الأول له فعل يوجد منه فلا فعل له ولا فاعل فلا يقال آل الشيء بمعنى سبق كما يقال قال من القول ، أو نال من النيل ، لا يقال إن قولنا سبق أخذ منه السابق ومن السابق الأسبق مع أن الفاعل يسبق الفعل ، وكذلك يقال تقدم الشيء مع أن الفاعل متقدم على الفعل إلى غير ذلك ، نقول أما تقدم قد مضى الجواب عنه في تأخر ، وأما سبق يقول القائل سابقته فسبقته فجيب عنه بأن ذلك مفتقر إلى أمر يصدر من فاعل فالسابق إن استعمل في الأول فهو بطريق المشابهة لا بطريق الحقيقة ، والفاعل أول الفعل بمعنى قبل الفعل ، وليس سابق الفعل لأن الفاعل والفعل لا يتسابقان فالفاعل لا يسبقه ، والذي يوضح ما ذكرنا أن الآخر أبعد من الأول عن الفعل بخلاف الآخر ، وما يقال إن أول بمعنى جعل الآخر أولاً لاستخراج معنى من الكلام فبعيد وإلا لم يكن آخر دونه في إفادة ذلك ، بل التأويل من آل شيء إذا رجع أي رجعه إلى المعنى المراد وأبعد من اللفظين قبل وبعد فإن الآخر فاعل من غير فعل والأول أفعل من غير فاعل ولا فعل ، وقبل وبعد لا فاعل ولا أفعل فلا يفهم من فعل أصلاً لأن الأول أول لما فيه من معنى قبل وليس قبل قبلاً لما فيه من معنى الأول والآخر آخر لما فيه من معنى بعد ، وليس بعد بعداً لما فيه من معنى الآخر يدلك عليه أنك تعلل أحدهما بالآخر ولا تعكسه فتقول هذا آخر من جاء لأنه جاء بعد الكل ولا تقول هو جاء بعد الكل لأنه آخر من جاء ، ويؤيده أن الآخر لا يتحقق إلا ببعدية مخصوصة وهي التي لا بعدية بعدها وبعد ليس لا يتحقق إلا بالآخر فإن المتوسط بعد الأول ليس بآخر. وهذا البحث من أبحاث الزمان ومنه يعلم معنى قوله صلى الله عليه وسلّم : "لا تسبوا الدهر (فإن الدهر هو الله)" أي الدهر هو الذي يفهم منه القبلية والبعدية والله تعالى هو الذي يفهم منه ذلك والبعدية والقبلية حقيقة لإثبات الله ولا مفهوم للزمان إلا ما به القبلية والبعدية فلا تسبوا الدهر فإن ما تفهمونه منه لا يتحقق إلا في الله وبالله ولولاه لما كان قبل ولا بعد.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
البحث الثاني : ورد في كلام العرب الأولة تأنيث الأول وهو ينافيه صحة استعمال الأولى لأن الأولى تدل على أن الأول أفعل للتفصيل ، وأفعل للتفضيل لا يلحقه تاء التأنيث فلا يقال زيد أعلم وزينب أعلمة لسبب يطول ذكره ، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، نقول الجواب عنه هو أن أول لما كان أفعل وليس له فاعل شابه الأربع والأرنب فجاز إلحاق التاء به ولما كان صفة شابه الأكبر والأصغر فقيل أولى.
(1/4239)

المسألة الرابعة : أولى تدل على أن أول لا ينصرف فكيف يقال أفعله أولاً ويقال جاء زيداً أولاً وعمرو ثانياً فإن قيل جاز فيه الأمران بناء على أولة وأولى فمن قال بأن تأنيث أول أولة فهو كالأربع والأربعة فجاز التنوين ، ومن قال أولى لا يجوز ، نقول إذا كان كذلك كان الأشهر ترك التنوين لأن الأشهر أن تأنيثه أولى وعليه استعمال القرآن ، فإذن الجواب أن عند التأنيث الأولى أن /يقال أولى نظراً إلى المعنى/ وعند العرب أولة لأنه هو الأصل ودل عليه دليل ، وإن كان أضعف من الغير وربما يقال بأن منع الصرف من أفعل لا يكون إلا إذا لم يكن تأنيثه إلا فعلى ، وأما إذا كان تأنيثه بالتاء أو جاز ذلك فيه لا يكون غير منصرف. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
0
وقد علم وجه تعلقها بما قبلها في الوجوه المتقدمة في قوله تعالى : {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ} (النجم : 25) إن قلنا إن معناه أن اللات والعزى وغيرهما ليس لهم من الأمر شيء {فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى } فلا يجوز إشراكهم فيقولون نحن لا نشرك بالله شيئاً ، وإنما نقول هؤلاء شفعاؤنا فقال كيف تشفع هذه ومن في السموات لا يملك الشفاعة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {كَمْ} كلمة تستعمل في المقادير ، إما لاستبانتها فتكون استفهامية كقولك كم ذراعاً طوله وكم رجلاً جاءك أي كم عدد الجائين تستبين المقدار وهي مثل كيف لاستبانة الأحوال وأي الاستبانة الأفراد ، وما لاستبانة الحقائق ، وإما لبيانها على الإجمال فتكون خبرية كقولك كم رجل أكرمني أي كثير منهم أكرموني غير أن عليه أسئلة الأول : لم لم يجز إدخال من على الاستفهامية وجاز على الخبرية الثاني : لم نصب مميز الاستفهامية وجر الذي للخبرية الثالث : هي تستعمل في الخبرية في مقابلة رب فلم جعل اسماً مع أن رب حرف ، أما الجواب عن الأول فهو أن من يستعمل في الموضع المتعين بالإضافة تقول خاتم من فضة كما تقول خاتم فضة ، ولما لم تضف في الاستفهامية لم يجز استعمال ما يضاهيه وسنبين هذا الجواب ، والجواب عن السؤال الثاني هو أن نقول إن الأصل في المميز الإضافة ، وعن الثالث هو أن كم يدخل عليه حرف الجر فتقول إلى كم تصبر ، وفي كم يوم جئت ، وبكم رجل مررت ومن حيث المعنى إن كم إذا قرن بها من وجعل مميزه جمعاً كما في قول القائل كم من رجال خدمتهم ويكون معناه كثير من الرجال خدمتهم ورب وإن كانت للتقليل لكن لا تقوم مقام القليل ، فلا يمكن أن يقال في رب إنها عبارة عن قليل كما قلنا في كم إنه عبارة عن كثير.
المسألة الثانية : قال شفاعتهم على عود الضمير إلى المعنى ، ولو قال شفاعته لكان العود إلى اللفظ فيجوز أن يقال كم من رجل رأيته ، وكم من رجل رأيتهم ، فإن قلت هل بينهما فرق معنوي ؟
قلت نعم ، وهو أنه تعالى لما قال : {لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ} (النجم : 26) يعني شفاعة الكل ، ولو قال شفاعته /لكان معناه كثير من الملائكة كل واحد لا تغني شفاعته فربما كان يخطر ببال أحد أن شفاعتهم تغني إذا جمعت ، وعلى هذا ففي الكلام أمور كلها تشير إلى عظم الأمر أحدها : كم فإنه للتكثير ثانيها : لفظ الملك فإنه أشرف أجناس المخلوقات ثالثها : في السموات فإنها إشارة إلى علو منزلتهم ودنو مرتبتهم من مقر السعادة رابعها : اجتماعهم على الأمر في قوله {شَفَـاعَتُهُمْ} وكل ذلك لبيان فساد قولهم إن الأصنام يشفعون أي كيف تشفع مع حقارتها وضعفها ودناءة منزلتها فإن الجماد أخس الأجناس والملائكة أشرفها وهم في أعلى السموات ولا تقبل شفاعة الملائكة فكيف تقبل شفاعة الجمادات.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
(1/4240)

المسألة الثالثة : ما الفائدة في قوله تعالى : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ} بمعنى كثير من الملائكة مع أن كل من في السموات منهم لا يملك الشفاعة ؟
نقول المقصود الرد عليهم في قولهم هذه الأصنام تشفع ، وذلك لا يحصل ببيان أن ملكاً من الملائكة لا تقبل شفاعته فاكتفى بذكر الكثيرة ، ولم يقل ما منهم أحد يملك الشفاعة لأنه أقرب إلى المنازعة فيه من قوله كثير مع أن المقصود حاصل به ، ثم ههنا بحث وهو أن في بعض الصور يستعمل صيغة العموم والمراد الكثير ، وفي البعض يستعمل الكثير والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحد ، وهو استقلال الباقي وعدم الاعتداد/ ففي قوله تعالى : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء } (الأحقاف : 25) كأنه يجعل الخارج عن الحكم غير ملتفت إليه ، وفي قوله تعالى : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ} وقوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النحل : 75) وقوله {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} (سبأ : 41) يجعل المخرج غير ملتفت إليه فيجعل كأنه ما أخرجه كالأمر الخارج عن الحكم كأنه ما خرج ، وذلك يختلف بختلاف المقصود من الكلام ، فإن كان الكلام مذكوراً لأمر فيه يبالغ يستعمل الكل ، مثاله يقال للملك كل الناس يدعون لك إذا كان الغرض بيان كثرة الدعاء له لا غير ، وإن كان الكلام مذكوراً لأمر خارج عنه لا يبالغ فيه لأن المقصود غيره فلا يستعمل الكل ، مثاله إذا قال الملك لمن قال له اغتنم دعائي كثير من الناس يدعون لي ، إشارة إلى عدم احتياجه إلى دعائه لا لبيان كثرة الدعاء له ، فكذلك ههنا.
المسألة الرابعة : قال : {لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ} ولم يقل لا يشفعون مع أن دعواهم أن هؤلاء شفعاؤنا لا أن شفاعتهم تنفع أو تغني وقال تعالى في مواضع أخرى {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } (البقرة : 255) فنفي الشفاعة بدون الإذن وقال : {مَا لَكُم مِّن دُونِه مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } نفى الشفيع وههنا نفى الإغناء ؟
نقول هم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا وكانوا يعتقدون نفع شفاعتهم ، كما قال تعالى : {لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) ثم نقول نفي دعواهم يشتمل على فائدة عظيمة ، أما نفي دعواهم لأنهم قالوا الأصنام تشفع لنا شفاعة مقربة مغنية فقال : {لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ} بدليل أن شفاعة الملائكة لا تغني ، وأما الفائدة فلأنه لما استثنى بقوله {إِلا مِنا بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ} أي فيشفع ولكن لا يكون فيه بيان أنها تقبل وتغني أو لا تقبل ، فإذا قال : {لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ} ثم قال : {إِلا مِنا بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ} /فيكون معناه تغني فيحصل البشارة ، لأنه تعالى قال : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } (غافر : 7) وقال تعالى : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } (الشورى : 5) والاستغفار شفاعة.
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
وأما قوله {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } (البقرة : 255) فليس المراد نفي الشفاعة وقبولها كما في هذه الآية حيث رد عليهم قولهم وإنما المراد عظمة الله تعالى ، وأنه لا ينطق في حضرته أحد ولا يتكلم كما في قوله تعالى : {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} .
المسألة الخامسة : اللام في قوله {لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى } تحتمل وجهين أحدهما : أن تتعلق بالإذن وهو على طريقين أحدهما : أن يقال إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة ويرضى الثاني : أن يكون الإذن في المشفوع له لأن الإذن حاصل للكل في الشفاعة للمؤمنين لأنهم جميعهم يستغفرون لهم فلا معنى للتخصيص ، ويمكن أن ينازع فيه وثانيهما : أن تتعلق بالإغناء يعني إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فتغني شفاعتهم لمن يشاء ويمكن أن يقال بأن هذا بعيد ، لأن ذلك يقتضي أن تشفع الملائكة ، والإغناء لا يحصل إلا لمن يشاء ، فيجاب عنه بأن التنبيه على معنى عظمة الله تعالى فإن الملك إذا شفع فالله تعالى على مشيئته بعد شفاعتهم يغفر لمن يشاء.
(1/4241)

المسألة السادسة : ما الفائدة في قوله تعالى : {وَيَرْضَى } ؟
نقول فيه فائدة الإرشاد ، وذلك لأنه لما قال : {لِمَن يَشَآءُ} كان المكلف متردداً لا يعلم مشيئته فقال : {وَيَرْضَى } ليعلم أنه العابد الشاكر لا المعاند الكافر/ فإنه تعالى قال : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُم وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَا وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } (الزمر : 7) فكأنه قال : {لِمَن يَشَآءُ} ثم قال : {وَيَرْضَى } بياناً لمن يشاء ، وجواب آخر على قولنا : لا تغني شفاعتهم شيئاً ممن يشاء ، هو أن فاعل يرضى المدلول عليه لمن يشاء كأنه قال ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة شيئاً صالحاً فيحصل به رضاه كما قال : ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة وحينئذ يكون يرضى للبيان لأنه لما قال : {لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ} إشارة إلى نفي كل قليل وكثير كان اللازم عنده بالاستثناء أن شفاعتهم تغني شيئاً ولو كان قليلاً ويرضى المشفوع له ليعلم أنها تغني أكثر من اللازم بالاستثناء ، ويمكن أن يقال {وَيَرْضَى } لتبيين أن قوله {يَشَآءُ} ليس المراد المشيئة التي هي الرضا ، فإن الله تعالى إذا شاء الضلالة بعبد لم يرض به ، وإذا شاء الهداية رضي فقال : {لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى } ليعلم أن المشيئة ليست هي المشيئة العامة ، إنما هي الخاصة. ثم قال تعالى :
جزء : 28 رقم الصفحة : 231
265
وقد بينا ذلك في سورة الطور واستدللنا بهذه الآية ونذكر ما يقرب منه ههنا فنقول {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ} /هم الذين لا يؤمنون بالرسل ولا يتبعون الشرع ، وإنما يتبعون ما يدعون أنه عقل فيقولون أسماء الله تعالى ليست توقيفية ، ويقولون الولد هو الموجود من الغير ويستدلون عليه بقول أهل اللغة : كذا يتولد منه كذا ، يقال الزجاج يتولد من الآجر بمعنى يوجد منه ، وكذا القول في بنت الكرم وبنت الجبل ، ثم قالوا الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال سجدت الملائكة فقالوا : بنات الله ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثَى } أي كما سمي الإناث بنات. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كيف يصح أن يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه ؟
فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أنهم لما كانوا لا يجزمون به كانوا يقولون لا حشر ، فإن كان فلنا شفعاء يدل عليه قوله تعالى : {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} (فصلت : 50) ثانيهما : أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه (الحق) وهو ما ورد به الرسل.
المسألة الثانية : قال بعض الناس أنثى فعلى من أفعل يقال في فعلها آنث ويقال في فاعلها أنبث يقال حديد ذكر وحديد أنيث ، والحق أن الأنثى يستعمل في الأكثر على خلاف ذلك بدليل جمعها على إناث.
جزء : 29 رقم الصفحة : 265
(1/4242)

المسألة الثالثة : كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث ؟
نقول عنه جوابان أحدهما : ظاهر والآخر دقيق ، أما الظاهر فهو أن المراد بيان الجنس ، وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لما جاء على وفقه آخر الآيات. والدقيق هو أنه لو قال يسمونهم تسمية الإناث كان يحتمل وجهين : أحدهما : البنات وثانيهما : الأعلام المعتادة للإناث كعائشة وحفصة ، فإن تسمية الإناث كذلك تكون فإذا قال تسمية الأنثى تعين أن تكون للجنس وهي البنت والبنات ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما قيل لهم إن الصنم جماد لا يشفع وبيّن لهم إن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا نحن لا نعبد الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعباتها فإنها على صورها وننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد والغائب ، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم الشأن رفيع المكان فقال تعالى رداً عليهم كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الأنثى ، ثم ذكر فيه مستندهم في ذلك وهو لفظ الملائكة ، ولم يقل إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى بل قال : {لَيُسَمُّونَ الملائكة } فإنهم اغتروا بالتاء واغترارهم باطل لأن التاء تجيء لمعان غير التأنيث الحقيقي والبنت لا تطلق إلا على المؤنث الحقيقي بالإطلاق والتاء فيها لتأكيد معنى الجمع كما في صياقلة وهي تشبه تلك التاء ، وذلك لأن الملائكة في المشهور جمع ملك ، والملك اختصار من الملأك بحزف الهمزة ، والملأك قلب المألك من الألوكة وهي الرسالة ، فالملائكة على هذا القول مفاعلة ، والأصل مفاعل ورد إلى ملائكة في الجمع فهي تشبه فعائل وفعائلة ، والظاهر أن الملائكة فعائل جمع مليكي /منسوب إلى المليك بدليل قوله تعالى : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } في وعد المؤمن ، وقال في وصف الملائكة {الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} (الأعراف : 206) وقال أيضاً في الوعد {وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى } (ص : 40) وقال في وصف الملائكة {وَلا الْمَلَـا اـاِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } (النساء : 172) فهم إذن عباد مكرمون اختصهم الله بمزيد قربه {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النحل : 50) كأمر الملوك والمستخدمين عند السلاطين الواقفين بأبوابهم منتظرين لورود أمر عليهم ، فهم منتسبون إلى المليك المقتدر في الحال فهم مليكيون وملائكة فالتاء للنسبة في الجمع كما في الصيارفة والبياطرة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 265
فإن قيل هذا باطل من وجوه الأول : أن أحداً لم يستعمل لواحد منهم مليكي كما استعمل صيرفي والثاني : أن الإنسان عندما يصير عند الله تعالى يجب أن يكون من الملائكة ، وليس كذلك لأن المفهوم من الملائكة جنس غير الآدمي الثالث : هو أن فعائلة في جمع فعيلى لم يسمع وإنما يقال فعيلة كما يقال جاء بالتميمة والحقيبة الرابع : لو كان كذلك لما جمع ملك ؟
نقول :
الجواب عن الأول : أما عدم استعمال واحده فمسلم وهو لسبب وهو أن الملك كلما كان أعظم كان حكمه وخدمه وحشمه أكثر ، فإذا وصف بالعظمة وصف بالجمع فيقال صاحب العسكر الكثير ولا يوصف بواحد وصف تعظيم ، وأما ذلك الواحد فإن نسب إلى المليك عين للخبر بأن يقال هذا مليكي وذلك عندما تعرف عينه فتجعله مبتدأ وتخبر بالمليكي عنه ، والملائكة لم يعرفوا بأعيانهم إلا قليلاً منهم كجبريل وميكائيل ، وحينئذ لا فائدة في قولنا جبريل مليكي ، لأن من عرف الخبر ولا يصاغ الحمل إلا لبيان ثبوت الخبر للمبتدأ فلا يقال للإنسان حيوان أو جسم لأنه إيضاح واضح ، اللّهم إلا أن يستعمل ذلك في ضرب مثال أو في صورة نادرة لغرض ، وأما أن ينسب إلى المليك وهو مبتدأ فلا ، لأن العظمة في أن يقول واحد من الملائكة فنبه على كثرة المقربين إليه كما تقول واحد من أصحاب الملك ولا تقول صاحب الملك ، فإذا أردت التعظيم البالغ فعند الواحد استعمل اسم الملك غير منسوب بل هو موضوع لشدته وقوته كما قال تعالى : {ذُو مِرَّةٍ} (النجم : 6) و{ذِى قُوَّةٍ} (التكوير : 20) فقال : {شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) وم ل ك تدل على الشدة في تقاليبها على ما عرف وعند الجمع استعمل الملائكة للتعظيم ، كما قاله تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } (المدثر : 31).
الجواب عن الثاني : نقول قد يكون الاسم في الأول لوصف يختص ببعض من يتصف به وغيره لو صار متصفاً بذلك الوصف لا يسمى بذلك الاسم كالدابة فاعلة من دب ، ولا يقال للمرأة ذات الدب دابة اسماً وربما يقال لها صفة عند حالة ما تدب بدب مخصوص غير الدب العام الذي في الكل كما لو دبت بليل لأخذ شيء أو غيره ، أو يقال إنما سميت الملائكة ملائكة لطول انتسابهم من قبل خلق الآدمي بسنين لا يعلم عددها إلا الله ، فمن لم يصل إلى الله ويقوم ببابه لا يحصل له العهد والانتساب فلا يسمى بذلك الاسم.
(1/4243)

الجواب عن الثالث : نقول الجموع القياسية لا مانع لها كفعال في جمع فعل كجال وثمار وأفعال كأثقال وأشجار وفعلان وغيرها ، وأما السماع وإن لم يرد إلا قليلاً فاكتفى بما فيه من التعظيم من نسبة الجمع إلا باب الله ويكون من باب المرأة والنساء.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 265
الجواب عن الرابع : فالمنع ولعل هذا منه أو نقول حمل فعيلى على فعيل في الجمع كما حمل فيعل في الجمع على فعيل فقيل في جمع جيد جياد ولا يقال في فعيل أفاعل ، ويؤيد ما ذكرنا أن إبليس عندما كان واقفاً بالباب كان داخلاً في جملة الملائكة ، فنقول قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} (الكهف : 50) عندما صرف وأبعد خرج عنهم وصار من الجن.
وأما ما قاله بعض أهل اللغة من أن الملائكة جمع ملأك ، وأصل ملأك مألك من الألوكة وهي الرسالة ففيه تعسفات أكثر مما ذكرنا بكثير ، منها أن الملك لا يكون فعل بل هو مفعل وهو خلاف الظاهر ، ولم لم يستعمل مآلك على أصله كمآرب ومآثم ومآكل وغيرها مما لا يعد إلا بتعسف ؟
ومنها أن ملكاً لم جعل ملأك ولم يفعل ذلك بأخواته التي ذكرناها ؟
ومنها أن التاء لم ألحقت بجمعه ولم لم يقل ملائك كما في جمع كل مفعل ؟
والذي يرد قولهم قوله تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) فهي غير الرسل فلا يصح أن يقال جعلت الملائكة رسلاً كما لا يصح جعلت الرسل مرسلين وجعل المقترب قريباً ، لأن الجعل لا بد فيه من تغيير ومما يدل على خلاف ما ذكروا أن الكل منسوبون إليه موقوفون بين يديه منتظرون أمره لورود الأوامر عليهم. ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 265
268
وفيما يعود إليه الضمير في {بِه } وجوه أحدها : ما نقله الزمخشري وهو أنه عائد إلى ما كانوا يقولون من غير علم ثانيها : أنه عائد إلى ما تقدم في الآية المتقدمة من علم ، أي ما لهم بالله من علم فيشركون وقرىء {مَّا لَهُم} . وفيه وجوه أيضاً أحدها : ما لهم بالآخرة وثانيها : ما لهم بالتسمية ثالثها : ما لهم بالملائكة ، فإن قلنا (ما لهم بالآخرة) فهو جواب لما قلنا إنهم وإن كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا عند الله وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عن علم ، وإن قلنا بالتسمية قد تكون وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم ، فإنهم يعلمون أنهم ليسوا في شك ، إذ التسمية قد تكون وضعاً أولياً وهو لا يكون بالظن بل بالعلم بأنه وضع ، وقد يكون استعمالاً معنوياً ويتطرق إليه الكذب والصدق والعلم ، مثال الأول : من وضع أولاً اسم السماء لموضوعها وقال هذا سماء ، مثال الثاني : إذا قلنا بعد ذلك للماء والحجر هذا سماء ، فإنه كذب ، ومن يعتقده فهو جاهل ، وكذلك قولهم في الملائكة إنها بنات الله ، لم تكن تسمية وضعية ، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون بأمر يجب استعمال لفظ البنات فيهم ، وذلك كذب ومعتقده جاهل ، فهذا هو المراد بما ذكرنا أن الظن يتبع في الأمور المصلحية ، والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين ، وأما في الاعتقادات فلا يغني الظن شيئاً من الحق ، فإن قيل : أليس الظن قد يصيب ، فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً ؟
نقول المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ، ليعتقد الحق ويميز الخير /من الشر ليفعل الخير ، لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مطابقه ، والظان لا يكون جازماً ، وفي الخير ربما يعتبر الظن في مواضع ، ويحتمل أن يقال المراد من الحق هو الله تعالى ، ومعناه أن الظن لا يفيد شيئاً من الله تعالى ، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون يدل عليه قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} (الحج : 6) وفيه لطيفة ، وهي أن الله تعالى في ثلاثة مواضع منع من الظن ، وفي جميع تلك المواضع كان المنع عقيب التسمية ، والدعاء باسم موضعان منها في هذه السورة أحدهما : قوله تعالى : {إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍا إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} (النجم : 23). والثاني : قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} (الحجرات : 11 ، 12) عقيب الدعاء بالقلب ، وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان ، وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل ، وهذه المواضع الثلاثة أحدها : مدح من لا يستحق المدح كاللاّت والعزى من العز وثانيها : ذم من لا يستحق الذم ، وهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن يسمونهم تسمية الأنثى وثالثها : ذم من لم يعلم حاله ، وأما مدح من حاله لا يعلم ، فلم يقل فيه : لا يتبعون إلا الظن ، بل الظن فيه معتبر ، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب. ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 268
268
(1/4244)

أي اترك مجادلتهم فقد بلغت وأتيت بما كان عليك ، وأكثر المفسرين يقولون : بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى : {فَأَعْرِضْ} منسوخ بآية القتل وهو باطل ، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال ، فكيف ينسخ به ؟
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النحل : 125) ثم لما لم ينفع ، قال له ربه : فأعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان ، فإنهم لا يتبعون إلا الظن ، ولا يتبعون الحق ، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة ، فكيف يكون منسوخاً ، والإعراض من باب أشكاه والهمزة فيه للسلب ، كأنه قال : أزل العرض ، ولا تعرض عليهم بعد هذا أمراً ، وقوله تعالى : {مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} لبيان تقديم فائدة العرض والمناظرة ، لأن من لا يصغي إلى القول كيف يفهم معناه ؟
وفي {ذِكْرِنَا} وجوه الأول : القرآن الثاني : الدليل والبرهان الثالث : ذكر الله تعالى ، فإن من /لا ينظر في الشيء كيف يعرف صفاته ؟
وهم كانوا يقولون : نحن لا نتفكر في آلاء الله لعدم تعلقنا بالله ، وإنما أمرنا مع من خلقنا ، وهم الملائكة أو الدهر على اختلاف أقاويلهم وتباين أباطيلهم ، وقوله تعالى : {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} إشارة إلى إنكارهم الحشر ، كما قالوا {إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (المؤمنون : 37) وقال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } (التوبة : 38) يعني لم يثبتوا وراءها شيئاً آخر يعملون له ، فقوله {مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} إشارة إلى إنكارهم الحشر ، لأنه إذا ترك النظر في آلاء الله تعالى لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه. وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه ، فلا يبقى إذن فائدة في الدعاء ، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان طبيب القلوب ، فأتى على ترتيب الأطباء ، وترتيبهم أن الحال إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء ، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي وقيل آخر الدواء الكي ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم أولاً أمر القلوب بذكر الله فحسب فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس ، فالذكر غذاء القلب ، ولهذا قال أولاً : قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر لمن انتفع مثل أبي بكر وغيره ممن انتفع ، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل ، وقال : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا } (الأعراف : 184) {قُلِ انظُرُوا } (يونس : 101) {أَفَلا يَنظُرُونَ} (الغاشيه : 17) إلى غير ذلك ، ثم أتى بالوعيد والتهديد ، فلما لم ينفعهم قال : أعرض عن المعالجة ، واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
جزء : 29 رقم الصفحة : 268
272
/ثم قال تعالى : {ذَالِكَ} مبلغهم من العلم} {ذَالِكَ} فيه وجوه الأول : أظهرها أنه عائد إلى الظن ، أي غاية ما يبلغون به أنهم يأخذون بالظن وثانيها : إيثار الحياة الدنيا مبلغهم من العلم ، أي ذلك الإيثار غاية ما بلغوه من العلم ثالثها : {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى } (النجم : 29) وذلك الإعراض غاية ما بلغوه من العلم ، والعلم على هذا يكون المراد منه العلم بالمعلوم ، وتكون الألف واللام للتعريف ، والعلم بالمعلوم هو ما في القرآن ، وتقرير هذا أن القرآن لما ورد بعضهم تلقاه بالقبول وانشرح صدره فبلغ الغاية القصوى ، وبعضهم قبله من حيث إنه معجزة ، واتبع الرسول فبلغ الدرجة الوسطى ، وبعضهم توقف فيه كأبي طالب ، وذلك أدنى المراتب ، وبعضهم رده وعابه ، فالأولون لم يجز الإعراض عنهم ، والآخرون وجب الإعراض عنهم ، وكان موضع بلوغه من العلم أنه قطع الكلام معه الإعراض عنه ، وعليه سؤال وهو : أن الله تعالى بين أن غايتهم ذلك : ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له ، والصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله ؟
.
نقول ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله ، فكأن عدم علمهم لعدم قبولهم العلم ، وإنما قدر الله توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيحقق العقاب ، قال الزمخشري : {ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } كلام معترض بين كلامين ، والمتصل قوله تعالى : (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) وعلى ما ذكرنا المقصود لا يتم إلا به ، يكون كأنه تعالى قال : أعرض عنهم فإن ذلك غايتهم ، ولا يوجد وراء ما ظهر منهم شيء ، وكأن قوله : {الَّذِى تَوَلَّى } إشارة إلى قطع عذرهم بسبب الجهل ، فإن الجهل كان بالتولي وإيثار العاجل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 272
(1/4245)

ثم ابتدأ وقال : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } وفي المناسبة وجوه الأول : أنه تعالى لما قال : للنبي صلى الله عليه وسلّم ، أعرض وكان النبي صلى الله عليه وسلّم شديد الميل إلى إيمان قومه وكان ربما هجس في خاطره ، أن في الذكرى بعد منفعة ، وربما يؤمن من الكافرين قوم آخرون من غير قتال فقال له : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه } علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين ، وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال فأعرض عن الجدال وأقبل على / القتال ، وعلى هذا فقوله : {بِمَنِ اهْتَدَى } أي علم في الأزل ، من ضل في تقديره ومن اهتدى ، فلا يشتبه عليه الأمران ، ولا يأس في الإعراض ويعد في العرف مصلحة ثانيها : هو على معنى قوله تعالى : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (سبأ : 24) وقوله تعالى : {يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا } (الأعراف : 87) ووجهه أنهم كانوا يقولون : نحن على الهدى وأنتم مبطلون وأقام النبي صلى الله عليه وسلّم الحجة عليهم فلم ينفعهم ، فقال تعالى : أعرض عنهم وأجرك وقع على الله ، فإنه يعلم أنكم مهتدون ، ويعلم أنهم ضالون ، والمتناظران إذا تناظرا عند ملك قادر مقصودهم ظهور الأمر عند الملك فإن اعترف الخصم بالحق فذاك ، وإلا فغرض المصيب يظهر عند الملك فقال تعالى : جادلت وأحسنت والله أعلم بالمحق من المبطل ثالثها : أنه تعالى لما أمر نبيه بالإعراض وكان قد صدر منهم إيذاء عظيم وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتحمله رجاء أن يؤمنوا/ فنسخ جميع ذلك فلما لم يؤمنوا فكأنه قال : سعيي وتحملي لإيذائهم وقع هباء ، فقال الله تعالى : إن الله يعلم حال المضلين والمهتدين : (لله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا) من المهتدين. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {هُوَ} يسمى عماداً وفصلاً ، ولو قال : إن ربك أعلم لتمَّ الكلام ، غير أن عند خلو الكلام عن هذا العماد ربما يتوقف السامع على سماع ما بعده ، ليعلم أن : {أَعْلَمُ} خبر : {رَبِّكَ} أو هو مع شيء آخر خبر ، مثاله لو قال : إن زيداً أعلم منه عمرو يكون خبر زيد الجملة التي بعده ، فإن قال : {هُوَ أَعْلَمُ} إنتفى ذلك التوهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 272
المسألة الثانية : {أَعْلَمُ} يقتضي مفضلاً عليه يقال : زيد أعلم من عمرو والله أعلم ممن ؟
نقول : أفعل يجيء كثيراً بمعنى عالم لا عالم مثله ، وحينئذ إن كان هناك عالم فذلك مفضل عليه وإن لم يكن ففي الحقيقة هو العالم لا غير ، وفي كثير من المواضع أفعل في صفات الله بذلك المعنى يقال : الله أكبر وفي الحقيقة لا كبير مثله ولا أكبر إلا هو ، والذي يناسب هذا أنه ورد في الدعوات يا أكرم الأكرمين كأنه قال : لا أكرم مثلك ، وفي الحقيقة لا أكرم إلا هو وهذا معنى قول من يقول : {أَعْلَمُ} بمعنى عالم بالمهتدي والضال ، ويمكن أن يقال : أعلم من كل عالم بفرض عالم غيره.
المسألة الثالثة : علمته وعلمت به مستعملان ، قال الله تعالى في الأنعام : {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِه } (الأنعام : 117) ثم ينبغي أن يكون المراد من المعلوم العلم إذا كان تعلقه بالمعلوم أقوى ، إما لقوة العلم وإما لظهور المعلوم وإما لتأكيد وجوب العلم به ، وإما لكون الفعل له قوة ، أما قوة العلم فكما في قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه } (المزمل : 20) وقال : {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (العلق : 14) لما كان علم الله تعالى تاماً شاملاً علقه بالمفعول الذي هو حال من أحوال عبده الذي هو بمرأى منه من غير حرف ، ولما كان علم العبد ضعيفاً حادثاً علقه بالمفعول الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذي لا يحيط به علم البشر بالحرف أو لما كان كون الله رائياً لم يكن محسوساً به مشاهداً علق الفعل به بنفسه وبالآخر بالحرف ، وأما ظهور المعلوم فكما قال تعالى : {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} (الزمر : 52) وهو معلوم ظاهر وأما تأكيد وجوب العلم به كما في قوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) ويمكن أن يقال : هو من قبيل الظاهر ، وكذلك قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه } (التوبة : 2) وأما قوة الفعل فقال تعالى : {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} (المزمل : 20) وقال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى } لما كان المستعمل صفة الفعل علقه بالمفعول بغير حرف وقال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن} كما كان المستعمل اسماً دالاً على فعل ضعف عمله لتعلقه بالمفعول.
جزء : 29 رقم الصفحة : 272
(1/4246)

المسألة الرابعة : قدم العلم بمن ضل على العلم بالمهتدي في كثير من المواضع منها في سورة الأنعام ومنها في سورة : { } ومنها في السورة ، لأن في المواضع كلها المذكور نبيه صلى الله عليه وسلّم والمعاندون ، فذكرهم أولاً تهديداً لهم وتسلية لقلب نبيه عليه الصلاة والسلام.
المسألة الخامسة : قال في موضع واحد من المواضع : {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِه } (الأنعام : 117) وفي غيره قال : {بِمَن ضَلَّ} فهل عندك فيه شيء ؟
قلت : نعم ، ونبين ذلك ببحث عقلي وآخر نقلي : أما العقلي : فهو أن العلم القديم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، إن وجد أمس علم أنه وجد أمس في نهار أمس ، وليس مثل علمنا حيث يجوز أن يتحقق الشيء أمس ، ونحن لا نعلمه إلا في يومنا هذا بل : {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ} ولا يتأخر الواقع عن علمه طرفة عين وأما النقلي : فهو أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا كان بمعنى المستقبل ولا يعمل عمله إذا كان ماضياً فلا تقول : أنا ضارب زيداً أمس ، والواجب إن كنت تنصب أن تقول : ضربت زيداً وإن كنت تستعمل اسم الفاعل فالواجب الإضافة تقول : ضارب زيد أمس أنا ويجوز أن يقال : أنا غداً ضارب زيداً والسبب فيه أن الفعل إذا وجد فلا تجدد له في (غير) الاستقبال ، ولا تحقق له في الحال فهو عدم وضعف عن أن يعمل ، وأما الحال وما يتوقع فله وجود فيمكن إعماله. إذا ثبت هذا فنقول : لما قال {ضَلَّ} كان الأمر ماضياً وعلمه تعلق به وقت وجوده فعلم ، وقوله {أَعْلَمُ} بمعنى عالم فيصير كأنه قال : عالم بمن ضل فلو ترك الباء لكان إعمالاً للفاعل بمعنى الماضي ، ولما قال : {يُضِلَّ} كان يعلم الضلال عند الوقوع وإن كان قد علم في الأزل أنه سيضل لكن للعلم بعد ذلك تعلق آخر سيوجد ، وهو تعلقه بكون الضلال قد وقع وحصل ولم يكن ذلك في الأزل ، فإنه لا يقال : إنه تعالى علم أن فلاناً ضل في الأزل ، وإنما الصحيح أن يقال : علم في الأزل ، فإنه سيضل ، فيكون كأنه يعلم أنه يضل فيكون اسم الفاعل بمعنى المستقبل وهو يعمل عمل الفعل ، فلا يقال : زيد أعلم مسألتنا من عمرو ، وإنما الواجب أن يقال : زيد أعلم بمسألتنا من عمرو ، ولهذا قالت النحاة في سورة الأنعام {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} يعلم من يضل وقالوا : {أَعْلَمُ} للتفضيل لا يبنى إلا من فعل لازم غير متعد ، فإن كان متعدياً يرد إلى لازم. وقولنا : علم كأنه من باب علم بالضم وكذا في التعجب إذا قلنا : ما أعلمه بكذا كأنه من فعل لازم. وأما أنا فقد أجبت عن هذا بأن قوله : {أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} معناه عالم ، وقد قدمنا ما يجب أن يعتقد في أوصاف الله في أكثر الأمر أن معناه أنه عالم ولا عالم مثله فيكون أعلم على حقيقته وهو أحسن من أن يقال : هو بمعنى عالم لا غير ، فإن قيل : فلم قال ههنا : {بِمَن ضَلَّ} وقال هناك : {يُضِلَّ} ؟
قلنا : لأن / ههنا حصل الضلال في الماضي وتأكد حيث حصل يأس الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمر بالإعراض ، وأما هناك فقال تعالى من قبل : {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّه } (الأنعام : 116).
جزء : 29 رقم الصفحة : 272
ثم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} بمعنى إن ضللت يعلمك الله فكان الضلال غير حاصل فيه فلم يستعمل صيغة الماضي.
المسألة السادسة : قال في الضلال عن سبيله وهو كاف في الضلال لأن الضلال لا يكون إلا في السبيل ، وأما بعد الوصول فلا ضلال أو لأن من ضل عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو (لم) يسلك وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول إن لم يسلكه ، ويصحح هذا أن من ضل في غير سبيله فهو ضال ومن اهتدى إليها لا يكون مهتدياً إلا إذا اهتدى إلى كل مسألة يضر الجهل بها بالإيمان فكان الاهتداء اليقيني هو الاهتداء المطلق فقال {بِمَنِ اهْتَدَى } وقال {بِالْمُهْتَدِينَ} (القلم : 7)
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 272
274
إشارة إلى كمال غناه وقدرته ليذكر بعد ذلك ويقول : إن ربك هو أعلم من الغني القادر لأن من علم ولم يقدر لا يتحقق منه الجزاء فقال : {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} وفي الآية مسائل :
(1/4247)

المسألة الأولى : قال الزمخشري : ما يدل على أنه يعتقد أن اللام في قوله : {لِيَجْزِىَ} كاللام في قوله تعالى : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} (النحل : 8) وهو جرى في ذلك على مذهبه فقال : {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} معناه خلق ما فيهما لغرض الجزاء وهو لا يتحاشى مما ذكره لما عرف من مذهب الاعتزال ، وقال الواحدي : اللام للعاقبة كما في قوله تعالى : {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} (القصص : 8) أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدواً ، والتحقيق فيه وهو أن حتى ولام الغرض متقاربان في المعنى ، لأن الغرض نهاية الفعل ، وحتى للغاية المطلقة فبينهما مقاربة فيستعمل أحدهما مكان الآخر ، يقال : سرت حتى أدخلها ولكي أدخلها ، فلام العاقبة هي التي تستعمل في موضع حتى للغاية ، ويمكن أن يقال : هنا وجه أقرب من الوجهين وإن كان أخفى منهما وهو أن يقال : إن قوله : {لِيَجْزِىَ} متعلق بقوله : ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السموات ، تقديره كأنه قال : هو أعلم بمن ضل واهتدى : {لِيَجْزِىَ} أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء والله أعلم به ، فيصير قوله : {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} كلاماً معترضاً ، ويحتمل أن يقال : هو متعلق بقوله تعالى : {فَأَعْرِضْ} (النجم : 29) أي أعرض عنهم ليقع الجزاء ، كما يقول المريد فعلاً لمن يمنعه منه زرني لأفعله ، وذلك لأن ما دام النبي صلى الله عليه وسلّم لم ييأس ما كان العذاب ينزل والإعراض وقت اليأس ، وقوله تعالى : {وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} حينئذ يكون مذكوراً ليعلم أن العذاب الذي عند إعراضه يتحقق ليس مثل الذي قال تعالى فيه :
جزء : 29 رقم الصفحة : 274
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً } (الأنفال : 25) بل هو مختص بالذين ظلموا وغيرهم لهم الحسنى ، وقوله تعالى في حق المسيء {بِمَا عَمِلُوا } وفي حق المحسن {بِالْحُسْنَى} فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال : لا يعذب إلا عن ذنب ، وأما في الحسنى فلم يقل : بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى ، وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك ، وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي ، وقال في أعمال المحسنين {الْحُسْنَى } إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الإسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى كقوله تعالى : {الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الأعراف : 180) وحينئذ هو كقوله تعالى : {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت : 7) أي يأخذ أحسن أعمالهم ويجعل ثواب كل ما وجد منهم لجزاء ذلك الأحسن أو هي صفة المثوبة ، كأنه قال : ويجزي الذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى أو بالعاقبة الحسنى أي جزاؤهم حسن العاقبة وهذا جزاء فحسب ، وأما الزيادة التي هي الفضل بعد الفضل فغير داخلة فيه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 274
277
ثم قال تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } الذين يحتمل أن يكون بدلاً عن الذين أحسنوا وهو الظاهر ، وكأنه تعالى قال ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أحسنوا ، ويتبين به أن المحسن ليس ينفع الله بإحسانه شيئاً وهو الذي لا يسيء ولا يرتكب القبيح الذي هو سيئة في نفسه عند ربه فالذين أحسنوا هم الذين اجتنبوا ولهم الحسنى ، وبهذا يتبين المسيء والمحسن لأن من لا يجتنب كبائر الإثم يكون مسيئاً والذي يجتنبها يكون محسناً ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهو أن المحسن لما كان هو من يجتنب الآثام فالذي يأتي بالنوافل يكون فوق المحسن ، لكن الله تعالى وعد المحسن بالزيادة فالذي فوقه يكون له زيادات فوقها وهم الذين لهم جزاء الضعف ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام تقديره الذين يجتنبون كبائر الإثم يغفر الله لهم والذي يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } وعلى هذا تكون هذه الآية مع ما قبلها مبينة لحال المسيء والمحسن وحال من لم يحسن ولم يسيء وهم الذين لم يرتكبوا سيئة وإن لم تصدر منهم الحسنات ، وهم كالصبيان الذين لم يوجد فيهم شرائط التكليف ولهم الغفران وهو دون الحسنى ، ويظهر هذا بقوله تعالى بعده : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ} أي يعلم الحالة التي لا إحسان فيها ولا / إساءة ، كما علم من أساء وضل ومن أحسن واهتدى ، وفيه مسائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 277
(1/4248)

المسألة الأولى : إذا كان بدلاً عن الذين أحسنوا فلم خالف ما بعده بالمضي والاستقبال حيث قال تعالى : {الَّذِينَ أَحْسَنُوا } (النجم : 31) وقال : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} ولم يقل اجتنبوا ؟
نقول : هو كما يقول القائل الذين سألوني أعطيتهم ، الذين يترددون إلى سائلين أي الذين عادتهم التردد والسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا قال : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى ، فإن قيل : في كثير من المواضع قال في الكبائر {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى : 37) وقال في عباد الطاغوت : {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} (الزمر : 17) فما الفرق ؟
نقول : عبادة الطاغوت راجعة إلى الاعتقاد والاعتقاد إذا وجد دام ظاهراً فمن اجتنبها اعتقد بطلانها فيستمر ، وأما مثل الشرب والزنا أمر يختلف أحوال الناس فيه فيتركه زماناً ويعود إليه ولهذا يستبرأ الفاسق إذا تاب ولا يستبرأ الكافر إذا أسلم ، فقال في الآثام : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} دائماً ، ويثابرون على الترك أبداً ، وفي عبادة الأصنام : {اجْتَنَبُوا } بصيغة الماضي ليكون أدل على الحصول ، ولأن كبائر الإثم لها عدد أنواع فينبغي أن يجتنب عن نوع ويجتنب عن آخر ويجتنب عن ثالث ففيه تكرر وتجدد فاستعمل فيه صيغة الاستقبال ، وعبادة الصنم أمر واحد متحد ، فترك فيه ذلك الاستعمال وأتى بصيغة الماضي الدالة على وقوع الاجتناب لها دفعة.
المسألة الثانية : الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف ؟
نقول : هي صفة الفعلة كأنه يقول : الفعلات الكبائر من الإثم/ فإن قيل : فما بال اختصاص الكبيرة بالذنوب في الاستعمال ، ولو قال قائل : الفعلة الكبيرة الحسنة لا يمنعه مانع ؟
نقول : الحسنة لا تكون كبيرة لأنها إذا قوبلت بما يجب أن يوجد من العبد في مقابلة نعم الله تعالى تكون في غاية الصغر ، ولولا أن الله يقبلها لكانت هباء لكن السيئة من العبد الذي أنعم الله عليه بأنواع النعم كبيرة ، ولولا فضل الله لكان الاشتغال بالأكل والشرب والإعراض عن عبادته سيئة ، ولكن الله غفر بعض السيئات وخفف بعضها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 277
المسألة الثالثة : إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها ؟
نقول : الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة ، والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال : عظيمة المقادير قبيحة الصور ، والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه فإنك إذا قلبتها وقلت : حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد ، ويقال : فحشت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل : الفواحش من الإثم وقال في الكبائر : {كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ} لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش.
المسألة الرابعة : كثرت الأقاويل في الكبائر والفواحش ، فقيل : الكبائر ما أوعد الله عليه بالنار / صريحاً وظاهراً ، والفواحش ما أوجب عليه حداً في الدنيا ، وقيل : الكبائر ما يكفر مستحله ، وقيل : الكبائر مالا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو على مذهب المعتزلة ، وكل هذه التعريفات تعريف الشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه ، وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم ، والفواحش هي التي قبحها واضح فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار ، والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية ، كما يقال مثلاً : في الأبرص علته بياض لطخة كبيرة ظاهرة اللون فالكبيرة لبيان الكمية والظهور لبيان الكيفية وعلى هذا فنقول على ما قلنا : إن الأصل في كل معصية أن تكون كبيرة ، لأن نعم الله كثيرة ومخالفة المنعم سيئة عظيمة ، غير أن الله تعالى حط عن عباده الخطأ والنسيان لأنهما لا يدلان على ترك التعظيم ، إما لعمومه في العباد أو لكثرة وجوده منهم كالكذبة والغيبة مرة أو مرتين والنظرة والقبائح التي فيها شبهة ، فإن المجتنب عنها قليل في جميع الأعصار ، ولهذا قال أصحابنا : إن استماع الغناء الذي مع الأوتار يفسق به ، وإن استمعه من أهل بلدة لا يعتدون أمر ذلك لا يفسق فعادت الصغيرة إلى ما ذكرنا من أن العقلاء إن لم يعدوه تاركاً للتعظيم لا يكون مرتكباً للكبيرة ، وعلى هذا تختلف الأمور باختلاف الأوقات والأشخاص فالعالم المتقي إذا كان يتبع النساء أو يكثر من اللعب يكون مرتبكاً للكبيرة ، والدلال والباعة والمتفرغ الذي لا شغل له لا يكون كذلك ، وكذلك اللعب وقت الصلاة ، واللعب في غير ذلك الوقت ، وعلى هذا كل ذنب كبيرة إلا ما علم المكلف أو ظن خروجه بفضل الله وعفوه عن الكبائر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 277
(1/4249)

المسألة الخامسة : في اللمم وفيه أقوال : أحدها : ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه وثانيها : ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه ويؤيد هذا قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 135) ثالثها : اللمم الصغير من الذنب من ألم إذا نزل نزولاً من غير لبث طويل ، ويقال : ألم بالطعام إذا قلل من أكله ، وعلى هذا فقوله : {إِلا اللَّمَمَ } يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون ذلك استثناء من الفواحش وحينئذ فيه وجهان : أحدهما : استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش وثانيهما : غير منقطع لما بينا أن كل معصية إذا نظرت إلى جانب الله تعالى وما يجب أن يكون عليه فهي كبيرة وفاحشة ، ولهذا قال الله تعالى : {وَإِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} (الأعراف : 28) غير أن الله تعالى استثنى منها أموراً يقال : الفواحش كل معصية إلا ما استثناه الله تعالى منها ووعدنا بالعفو عنه ثانيها : {إِلا} بمعنى غير وتقديره والفواحش غير اللمم وهذا للوصف إن كان للتمييز كما يقال : الرجال غير أولي الإربة فاللمم عين الفاحشة ، وإن كان لغيره كما يقال الرجال غير النساء جاؤوني لتأكيد وبيان فلا وثالثها : هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} لأن ذلك يدل على أنهم لا يقربونه فكأنه قال : لا يقربونه إلا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم.
/ ثم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } وذلك على قولنا : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ} ابتداء الكلام في غاية الظهور ، لأن المحسن مجزى وذنبه مغفور ، ومجتنب الكبائر كذلك ذنبه الصغير مغفور ، والمقدم على الكبائر إذا تاب مغفور الذنب ، فلم يبق ممن لم تصل إليهم مغفرة إلا الذين أساؤا وأصروا عليها ، فالمغفرة واسعة وفيه معنى آخر لطيف ، وهو أنه تعالى لما أخرج المسيء عن المغفرة بين أن ذلك ليس لضيق فيها ، بل ذلك بمشيئة الله تعالى ، ولو أراد الله مغفرة كل من أحسن وأساء لفعل ، وما كان يضيق عنهم مغفرته ، والمغفرة من الستر ، وهو لا يكون إلا على قبيح ، وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله ، ونسبته إلى نعم الله تجده مقصراً مسيئاً ، فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر ، وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله.
جزء : 29 رقم الصفحة : 277
ثم قال تعالى : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُم فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ} وفي المناسبة وجوه أحدها : هو تقرير لما مر من قوله : {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} (النجم : 30) كأن العامل من الكفار يقول : نحن نعمل أموراً في جوف الليل المظلم ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله تعالى ؟
فقال : ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم ، والله عالم بتلك الأحوال ثانيها : هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله ، فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات ، فكتب على البعض أنه ضال ، والبعض أنه مهتد ثالثها : تأكيد وبيان للجزاء ، وذلك لأنه لما قال : {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا بِمَا عَمِلُوا } (النجم : 31) قال الكافرون : هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر ، وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن ، فقال تعالى : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم} فيجمعها بقدرته على وفق علمه كماأنشأكم ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في : {إِذْ} يحتمل أن يكون ما يدل عليه : {أَعْلَمُ} أي علمكم وقت الإنشاء ، ويحتمل أن يكون اذكروا فيكون تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} وقد تم الكلام ، ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب.
المسألة الثانية : ذكرنا مراراً أن قوله : {مِّنَ الارْضِ} من الناس من قال آدم فإنه من تراب ، وقررنا أن كل أحد أصله من التراب ، فإنه يصير غذاء ، ثم يصير نطفة.
المسألة الثالثة : لو قال قائل : لا بد من صرف {إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ} إلى آدم ، لأن {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ } عائد إلى غيره ، فإنه لم يكن جنيناً ، ولو قلت بأن قوله تعالى / {إِذْ أَنشَأَكُم} عائد إلى جميع الناس/ فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات ، وهو قول الفلاسفة ؟
نقول ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، وقوله تعالى : {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} خطاب مع كل من بعد الإنزال على قول ، ومع من حضر وقت الإنزال على قول ، ولا شك أن كل هؤلاء من الأرض وهم كانوا أجنة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 277
(1/4250)

المسألة الرابعة : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات ، وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سقطاً ، فما فائدة قوله تعالى : {فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ } ؟
نقول : التنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : إذا قلنا إن قوله {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} تقرير لكونه عالماً بمن ضل ، فقوله تعالى : {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } تعلقه به ظاهر ، وأما إن قلنا إنه تأكيد وبيان للجزاء ، فإنه يعلم الأجزاء فيعيدها إلى أبدان أشخاصها ، فكيف يتعلق به {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } ؟
نقول : معناه حينئذ فلا تبرئوا أنفسكم من العذاب ، ولا تقولوا تفرقت الأجزاء فلا يقع العذاب ، لأن العالم بكم عند الإنشاء عالم بكم عند الإعادة ، وعلى هذا قوله : {أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } أي يعلم أجزاءه فيعيدها إليه ، ويثيبه بما أقدم عليه.
المسألة السادسة : الخطاب مع من ؟
فيه ثلاثة احتمالات الأول : مع الكفار ، وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله ، فرد عليهم قولهم الثاني كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار الثالث هو مع المؤمنين ، وتقريره : هو أن الله تعالى لما قال : {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} (النجم : 29) قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم : قد علم كونك ومن معك على الحق ، وكون المشركين على الباطل ، فأعرض عنهم ولا تقولوا : نحن على الحق وأنتم على الضلال ، لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك ، وفوض الأمر إلى الله تعالى ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى ، وعلى هذا فقول من قال : {فَأَعْرِضْ} منسوخ أظهر ، وهو كقوله تعالى : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (سبأ : 24) والله أعلم بجملة الأمور ، ويحتمل أن يقال : على هذا الوجه الثالث إنه إرشاد للمؤمنين ، فخاطبهم الله وقال : هو أعلم بكم أيها المؤمنون ، علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم ، فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ، ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى ، فإن الأمر عند الله ، ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة ، أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون ، فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي ، وهذا يؤيد قول من يقول : أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 277
278
/وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعض المفسرين : نزلت الآية في الوليد بن المغيرة جلس عند النبي صلى الله عليه وسلّم وسمع وعظه ، وأثرت الحكمة فيه تأثيراً قوياً ، فقال له رجل : لم تترك دين آبائك ، ثم قال له : لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك ، فأعطاه بعض ما التزمه ، وتولى عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلى الله عليه وسلّم ، وقال بعضهم : نزلت في عثمان رضي الله عنه ، كان يعطي ماله عطاء كثيراً ، فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح : يوشك أن يفنى مالك فأمسك ، فقال له عثمان : إن لي ذنوباً أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء ، فقال له أخوه : أنا أتحمل عنك ذنوبك إن تعطي ناقتك مع كذا ، فأعطاه ما طلب وأمسك يده عن العطاء ، فنزلت الآية ، وهذا قول باطل لا يجوز ذكره ، لأنه لم يتواتر ذلك ولا اشتهر ، وظاهر حال عثمان رضي الله عنه يأبى ذلك ، بل الحق أن يقال : إن الله تعالى لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم من قبل {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} (النجم : 29) وكان التولي من جملة أنواعه تولى المستغني ، فإن العالم بالشيء لا يحضر مجالس ذكر ذلك الشيء ، ويسعى في تحصيل غيره ، فقال {أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى } عن استغناء ، أعلم بالغيب ؟
.
المسألة الثانية : الفاء تقتضي كلاماً يترتب هذا عليه ، فماذا هو ؟
نقول : هو ما تقدم من بيان علم الله وقدرته ، ووعده المسيء والمحسن بالجزاء وتقديره هو أن الله تعالى لما بين أن الجزاء لا بد من وقوعه على الإساءة والإحسان ، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم ، فلم يكن الإنسان مستغنياً عن سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم وأتباعه ، فبعد هذا من تولى لا يكون توليه إلا بعد غاية الحاجة ونهاية الافتقار.
المسألة الثالثة : {الَّذِى} على ما قال بعض المفسرين عائد إلى معلوم ، وهو ذلك الرجل وهو الوليد ، والظاهر أنه عائد إلى مذكور ، فإن الله تعالى قال من قبل {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} وهو المعلوم لأن الأمر بالإعراض غير مختص بواحد من المعاندين فقال : {أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى } أي الذي سبق ذكره ، فإن قيل : كان ينبغي أن يقول الذين تولوا ، لأن (من) في قوله : {الَّذِى تَوَلَّى } للعموم ؟
نقول : العود إلى اللفظ كثير شائع قال تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه } (القصص : 84) ولم يقل فلهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 278
(1/4251)

المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَأَعْطَى قَلِيلا} ما المراد منه ؟
نقول : على ما تقدم هو المقدار الذي أعطاه الوليد ، وقوله : {وَأَكْدَى } هو ما أمسك عنه ولم يعط الكل ، وعلى هذا لو قال قائل إن الإكداء لا يكون مذموماً لأن الإعطاء كان بغير حق ، فالامتناع لا يذم عليه ، وأيضاً فلا يبقى لقوله {قَلِيلا} فائدة ، لأن الإعطاء حينئذ نفسه يكون مذموماً ، نقول فيه بيان خروجهم عن العقل والعرف / أما العقل فلأنه منع من الإعطاء لأجل حمل الوزر ، فإنه لا يحصل به ، وأما العرف فلأن عادة الكرام من العرب الوفاء بالعهد ، وهو لم يف به حيث التزم الإعطاء وامتنع ، والذي يليق بما ذكرنا هو أن نقول : تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، يعني إعطاء ما وجب إعطاؤه في مقابلة ما يجب لإصلاح أمور الآخرة ، ويقع في قوله تعالى : {عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ} في مقابلة قوله تعالى : {ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } (النجم : 30) أي لم يعلم الغيب وما في الآخرة وقوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى * أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (النجم : 36 ـ 38) في مقابلة قوله : {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} إلى قوله : {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ} (النجم : 30 31) لأن الكلامين جميعاً لبيان الجزاء ، ويمكن أن يقال : إن الله تعالى لما بين حال المشركين المعاندين العابدين للات والعزى والقائلين بأن الملائكة بنات الله شرع في بيان أهل الكتاب ، وقال بعدما رأيت حال المشرك الذي تولى عن ذكرنا ، أفرأيت حال من تولى وله كتاب وأعطى قليلاً من الزمان حقوق الله تعالى ، ولما بلغ زمان محمد أكدى فهل علم الغيب فقال شيئاً لم يرد في كتبهم ولم ينزل عليهم في الصحف المتقدمة ، ووجد فيها بأن كل واحد يؤاخذ بفعله ويجازى بعمله ، وقوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى } يخبر أن المتولي المذكور من أهل الكتاب.
المسألة الخامسة : قيل هو من بلغ الكدية وهي الأرض الصلبة لا تحفر ، وحافر البئر إذا وصل إليها فامتنع عليه الحفر أو تعسر يقال : أكدى الحافر ، والأظهر أنه الرد والمنع يقال : أكديته أي رددته وقوله تعالى : {أَعِندَه عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } قد علم تفسيره جملة أن المراد جهل المتولي وحاجته وبيان قبح التولي مع الحاجة إلى الإقبال وعلم الغيب ، أي العلم بالغيب ، أي علم ما هو غائب عن الخلق وقوله : {فَهُوَ يَرَى } تتمة بيان وقت جواز التولي وهو حصول الرؤية وهو الوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه ، وهناك لا يبقى وجوب متابعة أحد فيما رآه ، لأن الهادي يهدي إلى الطريق فإذا رأى المهتدي مقصده بعينه لا ينفيه السماع ، فقال تعالى : هل علم الغيب بحيث رآه فلا يكون علمه علماً نظرياً بل علماً بصرياً فعصى فتولى وقوله تعالى : {فَهُوَ يَرَى } يحتمل أن يكون مفعول {يَرَى } هو احتمال الواحد وزر الآخر كأنه قال فهو يرى أن وزره محمول ألم يسمع أن وزره غير محمول فهو عالم بالحمل وغافل عن عدم الحمل ليكون معذوراً ، ويحتمل أن لا يكون له مفعول تقديره فهو يرى رأي نظر غير محتاج إلى هاد ونذير.
جزء : 29 رقم الصفحة : 278
279
وقوله تعالى : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى } حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق فإن من علم الشيء علماً تاماً لا يؤمر بتعلمه ، والذي جهله جهلاً مطلقاً وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضاً لا يؤمر فقال : هذا المتولي هل علم الكل فجاز له التولي / أولم يسمع شيئاً وما بلغه دعوة أصلاً فيعذر ، ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَفَّى } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها ، فكأنه تعالى يقول : أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك ، وهذه أمور مذكورة في صحف موسى ، مثال : يقول القائل لمن توضأ بغير الماء توضأ بما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا فالكلام مع الكل لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي صلى الله عليه وسلّم بما في صحف موسى ثانيهما : أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها ، كما يقول القائل فيما ذكرنا من المثال توضأ بما في القربة لا بما في الجرة فيريد عين ذلك لا جنسه وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب لأنهم الذين نبئوا به.
المسألة الثانية : صحف موسى وإبراهيم ، هل جمعها لكونها صحفاً كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم : 4) ؟
الظاهر أنها كثيرة ، قال الله تعالى : {وَأَخَذَ} (الأعراف : 154) وقال تعالى : {وَأَلْقَى الالْوَاحَ} (الأعراف : 150) وكل لوح صحيفة.
(1/4252)

المسألة الثالثة : ما المراد بالذي فيها ؟
نقول قوله تعالى : {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } (النجم : 38 ، 39) وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ أن بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } ففيه وجوه أحدها : هو ما ذكر بقوله : {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وهو الظاهر ، وإنما احتمل غيره ، لأن صحف موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط ، وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح ، فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين ثانيها : هو أن الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (الأعلى : 18 ، 19) ثالثها : أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها ، ولم يخل الله كتاباً عنها ، ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم : {فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) وليس المراد في الفروع ، لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
المسألة الرابعة : قدم موسى ههنا ولم يقل كما قال في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) فهل فيه فائدة ؟
نقول : مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة ، بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم فيصح أن يقتصر على هذا الجواب ، ويمكن أن يقال : إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار وههنا المقصود بيان انتفاء الأعذار ، فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف إبراهيم قبل صحف موسى في الإنزال ، وأما ههنا فقد قلنا إن الكلام مع أهل الكتاب وهم اليهود فقدم كتابهم ، وإن قلنا الخطاب عام فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود ، فكأنه قيل لهم انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق/ وأرسل من قبل موسى رسل والتوحيد صدق والحشر واقع فلما كانت صحف موسى عند اليهود كثيرة الوجود قدمها ، وأما صحف إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى فأخر ذكرها.
المسألة الخامسة : كثيراً ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في / أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم ، وأما قوله تعالى : {وَفَّى } ففيه وجهان أحدهما : أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل ، وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح ، وورد في حقه : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } (الصافات : 105) وقال تعالى : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلَـا ؤُا الْمُبِينُ} (الصافات : 106) وثانيهما : أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاماً ، وعلى هذا فهو من قوله : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } (البقرة : 124) وقيل : {وَفَّى } أي أعطى حقوق الله في بدنه ، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه : {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى } مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام ، نقول : أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهداً إلا وفى به ، وقال لأبيه : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } (يوسف : 98) فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له ، فعلم {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } وأن وزره لا تزره نفس أخرى ، وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقاً عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفياً ، وموفياً ، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام ، ثم قال تعالى : {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة ، والذي يحسن بهذا الموضع مسائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
الأولى : أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله : {بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى } هو ما بينه بقوله {أَلا تَزِرُ} فيكون هذا بدلاً عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين أحدهما : المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما : الأصول.
المسألة الثانية : {أَلا تَزِرُ} أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال : أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم جائز وغير جائز ، فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل ، ولزم فيها التخفيف ، لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى ، والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفاً مختصاً بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه.
(1/4253)

المسألة الثالثة : إن قال قائل : الآية مذكورة لبيان أن وزر المسيء لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة لأن الوازرة تكون مثقلة بوزرها فيعلم كل أحد أنها لا تحمل شيئاً ولو قال لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ تقول ليس كما ظننت ، وذلك لأن المراد من الوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت كما يقال : شقاني الحمل ، وإن لم يكن عليه في الحال حمل ، وإذا لم تزر تلك النفس التي يتوقع منها ذلك فكيف تتحمل وزر غيرها فتكون الفائدة كاملة.
وقوله تعالى : {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } تتمة بيان أحوال المكلف فإنه لما بين له / أن سيئته لا يتحملها عنه أحد بين له أن حسنة الغير لا تجدي نفعاً ومن لم يعمل صالحاً لا ينال خيراً فيكمل بها ويظهر أن المسيء لا يجد بسبب حسنة الغير ثواباً ولا يتحمل عنه أحد عقاباً ، وفيه أيضاً مسائل :
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
الأولى : {لَّيْسَ لِلانسَـانِ} فيه وجهان أحدهما : أنه عام وهو الحق وقيل عليه بأن في الأخبار أن ما يأتي به القريب من الصدقة والصوم يصل إلى الميت والدعاء أيضاً نافع فللإنسان شيء لم يسمع فيه ، وأيضاً قال الله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (الأنعام : 160) وهي فوق ما سعى ، الجواب عنه أن الإنسان إن لم يسع في أن يكون له صدقة القريب بالإيمان لا يكون له صدقته فليس له إلا ما سعى ، وأما الزيادة فنقول : الله تعالى لما وعد المحسن بالأمثال والعشرة وبالأضعاف المضاعفة فإذا أتى بحسنة راجياً أن يؤتيه الله ما يتفضل به فقد سعى في الأمثال ، فإن قيل : أنتم إذن حملتم السعي على المبادرة إلى الشيء ، يقال : سعى في كذا إذا أسرع إليه ، والسعي في قوله تعالى : {إِلا مَا سَعَى } معناه العمل يقال : سعى فلان أي عمل ، ولو كان كما ذكرتم لقال : إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعاً : لا بد من زيادة فإن قوله تعالى : {لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } ليس المراد منه أن له عين ما سعى ، بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى ، أو إلا أجر ما سعى ، أو يقال : بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة الوجه الثاني : أن المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف ، وقيل بأن قوله : {لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } كان في شرع من تقدم ، ثم إن الله تعالى نسخه في شرع محمد صلى الله عليه وسلّم وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع وهو باطل إذ لا حاجة إلى هذا التكلف بعدما بان الحق ، وعلى ما ذكر فقوله : {مَا سَعَى } مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7).
المسألة الثانية : أن {مَّآ} خبرية أو مصدرية ؟
نقول : كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى : {وَأَنَّ سَعْيَه سَوْفَ يُرَى } أي سوف يرى المسعي ، والمصدر للمفعول يجيء كثيراً يقال : هذا خلق الله أي مخلوقه.
المسألة الثالثة : المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل ، نقول : المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى : {لِلانسَـانِ} فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول : هذا له ، وهذا عليه ، ويشهد له ويشهد عليه في المنافع والمضار ، وللقائل الأول أن يقول : بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور ، وأيضاً يدل عليه قوله تعالى : {ثُمَّ يُجْزَاـاهُ الْجَزَآءَ الاوْفَى } والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة ، وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية.
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
المسألة الرابعة : {إِلا مَا سَعَى } بصيعة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال : ليس للإنسان إلا ما يسعى ، تقول النفس إني أصلي غداً / كذا ركعة وأتصدق بكذا درهماً ، ثم يجعل مثبتاً في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه ، فقال : ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه ، وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
279
أي يعرض عليه ويكشف له من أريته الشيء ، وفيه بشارة للمؤمنين على ما ذكرنا ، وذلك أن الله يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ، أو يكون يرى ملائكته وسائر خلقه ليفتخر العامل به على ما هو المشهور وهو مذكور لفرح المسلم ولحزن الكافر ، فإن سعيه يرى للخلق ، ويرى لنفسه ويحتمل أن يقال : هو من رأى يرى فيكون كقوله تعالى : {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه } (التوبة : 105) وفيها وفي الآية التي بعدها مسائل :
(1/4254)

الأولى : العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه ؟
نقول فيه وجهان : أحدهما : يراه على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً ثانيهما : هو على مذهبنا غير بعيد فإن كل موجود يرى ، والله قادر على إعادة كل معدوم فبعد الفعل يرى وفيه وجه ثالث : وهو أن ذلك مجاز عن الثواب يقال : سترى إحسانك عند الملك أي جزاءه عليه وهو بعيد لما قال بعده : {ثُمَّ يُجْزَاـاهُ الْجَزَآءَ الاوْفَى } .
المسألة الثانية : الهاء ضمير السعي أي ثم يجزى الإنسان سعيه بالجزاء ، والجزاء يتعدى إلى مفعولين قال تعالى : {وَجَزَاـاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (الإنسان : 12) ويقال : جزاك الله خيراً ، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف يقال : جزاه الله على عمله الخير الجنة ، ويحذف الجار ويوصل الفعل فيقال : جزاه الله عمله الخير الجنة ، هذا وجه ، وفيه وجه آخر وهو أن الضمير للجزاء ، وتقديره ثم يجزى جزاء ويكون قوله : {الْجَزَآءَ الاوْفَى } تفسيراً أو بدلاً مثل قوله تعالى : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } (الأنبياء : 3) فإن التقدير والذين ظلموا أسروا النجوى ، الذين ظلموا ، والجزاء الأوفى على ما ذكرنا يليق بالمؤمنين الصالحين لأنه جزاء الصالح ، وإن قال تعالى : {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا} (الإسراء : 63) وعلى ما قيل : يجاب أن الأوفى بالنظر إليه فإن جهنم ضررها أكثر بكثير مع نفع الآثام فهي في نفسها أوفى.
المسألة الثالثة : {ثُمَّ} لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يجزاه فإن كان لتراخي الجزاء فكيف يؤخر الجزاء عن الصالح ، وقد ثبت أن الظاهر أن المراد منه الصالح ؟
نقول : الوجهان محتملان وجواب السؤال هو أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت لأن الله تعالى من أول زمان يموت الصالح يجزيه جزاء على خيره ويؤخر له الجزاء الأوفى ، وهي الجنة أو نقول الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } (يونس : 26) وهي الجنة : {وَزِيَادَةٌ } وهي الرؤية فكأنه / تعالى قال وأن سعيه سوف يرى ثم يرزق الرؤية ، وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ فإن الأوفى مطلق غير مبين فلم يقل : أوفى من كذا ، فينبغي أن يكون أوفى من كل واف ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى.
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
المسألة الرابعة : في بيان لطائف في الآيات الأولى : قال في حق المسيء : {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوازرة وهذا لا يلزم منه بقاء الوزر عليها من ضرورة اللفظ ، لجواز أن يسقط عنها ويمحو الله ذلك الوزر فلا يبقى عليها ولا يتحمل عنها غيرها ولو قال : لا تزر وازرة إلا وزر نفسها كان من ضرورة الاستثناء أنها تزر ، وقال في حق المحسن : ليس للإنسان إلا ما سعى ، ولم يقل : ليس له ما لم يسع لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى ، وفي العبارة الأولى أن له ما سعى ، نظراً إلى الاستثناء ، وقال : في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه ، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه/ كل ذلك إشارة إلى سبق الرحمة الغضب
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 279
280
القراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما ، يعني أن هذا أيضاً في الصحف وهو الحق ، وقرىء بالكسر على الاستئناف ، وفيه مسائل :
(1/4255)

الأولى : ما المراد من الآية ؟
قلنا فيه وجهان : أحدهما : وهو المشهور بيان المعاد أي للناس بين يدي الله وقوف ، وعلى هذا فهو يتصل بما تقدم لأنه تعالى لما قال : {ثُمَّ يُجْزَاـاهُ} كأن قائلاً قال لا ترى الجزاء ، ومتى يكون ، فقال : إن المرجع إلى الله ، وعند ذلك يجازى الشكور ويجزي الكفور وثانيهما : المراد التوحيد ، وقد فسر الحكماء أكثر الآيات التي فيها الانتهاء والرجوع بما سنذكره غير أن في بعضها تفسيرهم غير ظاهر ، وفي هذا الموضع ظاهر ، فنقول : هو بيان وجود الله تعالى ووحدانيته ، وذلك لأنك إذا نظرت إلى الموجودات الممكنة لا تجد لها بداً من موجد ، ثم إن موجدها ربما يظن أنه ممكن آخر كالحرارة التي تكون على وجه يظن أنها من إشراق الشمس أو من النار فيقال الشمس والنار ممكنتان فمم وجودهما ؟
فإن استندتا إلى ممكن آخر لم يجد العقل بداً من الانتهاء إلى غير ممكن فهو واجب الوجود فإليه ينتهي الأمر فالرب هو المنتهى ، وهذا في هذا الموضع ظاهر معقول موافق للمنقول ، فإن المروي عن أبي بن كعب أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "وأن إلى ربك المنتهى ، لا فكرة في الرب" أي انتهى الأمر إلى واجب الوجود ، وهو الذي لا يكون وجوده بموجد ومنه كل وجود ، وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إذا ذكر الرب فانتهوا" وهو محتمل لما ذكرنا ، وأما بعض الناس فيبالغ ويفسر كل آية فيها الرجعى والمنتهى وغيرهما بهذا التفسير حتى قيل : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) بهذا المعنى وهذا دليل الوجود ، وأما دليل الوحدانية فمن حيث إن العقل انتهى إلى واجب الوجود من حيث إنه واجب الوجود ، لأنه لو لم يكن واجب / الوجود لما كان منتهى بل يكون له موجد ، فالمنتهى هو الواجب من حيث إنه واجب ، وهذا المعنى واحد في الحقيقة والعقل ، لأنه لا بد من الانتهاء إلى هذا الواجب أو إلى ذلك الواجب فلا يثبت الواجب معنى غير أنه واجب فيبعد إذاً وجوبه ، فلو كان واجبان في الوجود لكان كل واحد قبل المنتهى لأن المجموع قبله الواجب فهو المنتهى وهذان دليلان ذكرتهما على وجه الاختصار.
جزء : 29 رقم الصفحة : 280
المسألة الثانية : قوله تعالى : {إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } في المخاطب وجهان : أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل ثانيهما : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم وفيه بيان صحة دينه فإن كل أحد كان يدعى رباً وإلهاً ، لكنه صلى الله عليه وسلّم لما قال : "ربي الذي هو أحد وصمد" يحتاج إليه كل ممكن فإذاً ربك هو المنتهى ، وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب ، وعلى هذا القول الكاف أحسن موقعاً ، أما على قولنا : إن الخطاب عام فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ، لأن قوله : أيها السامع كائناً من كان إلى ربك المنتهى يفيد الأمرين إفادة بالغة حد الكمال ، وأما على قولنا : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم فهو تسلية لقلبه كأنه يقول : لا تحزن فإن المنتهى إلى الله فيكون كقوله تعالى : {فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُم إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} إلى أن قال تعالى في آخر السورة : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس : 76 ـ 83) وأمثاله كثيرة في القرآن.
المسألة الثالثة : اللام على الوجه الأول للعهد لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول : أبداً إن مرجعكم إلى الله فقال : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } الموعود المذكور في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلّم ، وعلى الوجه الثاني للعموم أي إلى الرب كل منتهى وهو مبدأ ، وعلى هذا الوجه نقول : منتهى الإدراكات المدركات ، فإن الإنسان أولاً يدرك الأشياء الظاهرة ثم يمعن النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 280
281
وفيه مسائل :
الأولى : على قولنا : إليه المنتهى المراد منه إثبات الوحدانية ، هذه الآيات مثبتات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى ، فإن من الفلاسفة من يعترف بأن الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : هو موجب لا قادر ، فقال تعالى : هو أوجد ضدين الضحك والبكاء في محل واحد والموت والحياة والذكورة والأنوثة في مادة واحدة ، وإن ذلك لا يكون إلا من قادر واعترف به كل عاقل ، وعلى قولنا : إن قوله تعالى : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } (النجم : 42) بيان المعاد فهو إشارة إلى بيان أمره فهو كما يكون في بعضها ضاحكاً فرحاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك يفعل به في الآخرة.
المسألة الثانية : {أَضْحَكَ وَأَبْكَى } لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما مسوقتان لقدرة الله لا لبيان المقدور ، فلا حاجة إلى المفعول. يقول القائل : فلأن بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومعطى.
(1/4256)

/ المسألة الثالثة : اختار هذين الوصفين للذكر والأنثى لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً وسبباً ، وإذا لم يعلل بأمر ولا بد له من موجد فهو الله تعالى ، بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون : سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ، ويدلك على هذا أنهم إذا ذكروا في الضحك أمراً له الضحك قالوا : قوة التعجب وهو في غاية البطلان لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك ، وقيل : قوة الفرح ، وليس كذلك لأن الإنسان يفرح كثيراً ولا يضحك ، والحزين الذي عند غاية الحزن يضحكه المضحك ، وكذلك الأمر في البكاء ، وإن قيل لأكثرهم علماً بالأمور التي يدعيها الطبيعيون إن خروج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لماذا ؟
لا يقدر على تعليل صحيح ، وعند الخواص كالتي في المغناطيس وغيرها ينقطع الطبيعي ، كما أن عند أوضاع الكواكب ينقطع هو والمهندس الذي لا يفوض أمره إلى قدرة الله تعالى وإرادته
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 281
281
والبحث فيه كما في الضحك والبكاء ، غير أن الله تعالى في الأول بين خاصة النوع الذي هو أخص من الجنس ، فإنه أظهر وعن التعليل أبعد ثم عطف عليه ما هو أعم منه ودونه في البعد عن التعليل وهي الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أي الموت والحياة كالضحك والبكاء والموت على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتاً ، وكيفما كان فالإماتة والإحياء أمر وجودي وهما من خواص الحيوان ، ويقول الطبيعي في الحياة لاعتدال المزاج ، والمزاج من أركان متضادة هي النار والهواء والماء والتراب وهي متداعية إلى الانفكاك ومالا تركيب فيه من المتضادات لا موت له ، لأن المتضادات كل أحد يطلب مفارقة مجاوره ، فقال تعالى : الذي خلق ومزج العناصر وحفظها مدة قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك فإذا مات فليس عن ضرورة فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى : فهو الذي أمات وأحيا. فإن قيل : متى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت ؟
نقول : فيه وجوه أحدها : أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : أحيا وأمات ثانيها : هو بمعنى المستقبل ، فإن الأمر قريب يقال : فلان وصل والليل دخل إذا قرب مكانه وزمانه ، فكذلك الإحياء والإماتة ثالثها : أمات أي خلق الموت والجمود في العناصر ، ثم ركبها وأحيا أي خلق الحس والحركة فيها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 281
282
وهو أيضاً من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فبعضها يخلق ذكراً ، وبعضها أنثى ولا يصل إليه فهم الطبيعي الذي يقول : إنه من البرد والرطوبة في الأنثى ، فرب امرأة أيبس مزاجاً من الرجل ، وكيف وإذا نظرت في المميزات / بين الصغير والكبير تجدها أموراً عجيبة منها نبات اللحية ، وأقوى ما قالوا في نبات اللحية أنهم قالوا : الشعور مكونة من بخار دخاني ينحدر إلى المسام ، فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة ، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعراً ، وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف ينبت الشعر لعسر خروجه من المخرج الضيق ، ثم إن تلك المواد تنجذب إلى مواضع مخصوصة فتندفع ، إما إلى الرأس فتندفع إليه لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فتتصاعد إليه تلك المواد ، فلهذا يكون شعر الرأس أكثر وأطول ، ولهذا في الرجل مواضع تنجذب إليها الأبخرة والأدخنة ، منها الصدر لحرارة القلب والحرارة تجذب الرطوبة كالسراج للزيت ، ومنها بقرب آلة التناسل لأن حرارة الشهوة تجذب أيضاً ، ومنها اللحيان فإنها كثيرة الحركة بسبب الأكل ، والكلام والحركة أيضاً جاذبة ، فإذا قيل لهم : فما السبب الموجب لتلازم نبات شعر اللحية وآلة التناسل فإنها إذا قطعت لم تنبت اللحية ؟
وما الفرق بين سن الصبا وسن الشباب وبين المرأة والرجل ؟
ففي بعضها يبهت وفي بعضها يتكلم بأمور واهية ، ولو فوضها إلى حكمة إلهية لكان أولى ، وفي مسألتان :
(1/4257)

الأول : قال تعالى : {وَأَنَّه خَلَقَ} ولم يقل : وأنه هو خلق كما قال : {وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } (النجم : 43) وذلك لأن الضحك والبكاء ربما يتوهم متوهم أنه بفعل الإنسان ، وفي الإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم بعيداً ، لكن ربما يقول به جاهل ، كما قال من حاج إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال : {أَنَا أُحْىِا وَأُمِيتُ } (البقرة : 258) فأكد ذلك بذكر الفصل ، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أن يفعل أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } (النجم : 48) حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون : {إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْمٍ عِندِى } (القصص : 78) ولذلك قال : {وَأَنَّه هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } (النجم : 49) لأنهم كانوا يستبعدون أن يكون رب محمد هو رب الشعرى فأكد في مواضع استبعادهم النسبة إلى الله تعالى الإسناد ولم يؤكده في غيره.
جزء : 29 رقم الصفحة : 282
المسألة الثانية : الذكر والأنثى اسمان هما صفة أو اسمان ليسا بصفة ؟
المشهور عند أهل اللغة الثاني والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات ، فالذكر كالحسن والعزب والأنثى كالحبلى والكبرى وإنما قلنا : إنها كالحبلى في رأي لأنها حيالها أنشئت لا كالكبرى ، وإن قلنا : إنها كالكبرى في رأي ، وإنما قلنا : إن الظاهر أنهما صفتان ، لأن الصفة ما يطلق على شيء ثبت له أمر كالعالم يطلق على شيء له علم والمتحرك يقال لشيء له حركة بخلاف الشجر والحجر ، فإن الشجر لا يقال لشيء بشرط أن يثبت له أمر بل هو اسم موضوع لشيء معين ، والذكر اسم يقال لشيء له أمر ، ولهذا يوصف به ، ولا يوصف بالشجر ، يقال جاءني شخص ذكر ، أو إنسان ذكر ، ولا يقال جسم شجر ، والذي ذهب إلى أنه اسم غير صفة إنما ذهب إليه ، لأنه لم يرد له فعل ، والصفة في الغالب له فعل كالعالم والجاهل / والعزب والكبرى والحبلى ، وذلك لا يدل على ما ذهب إليه/ لأن الذكورة والأنوثة من الصفات التي لا يتبدل بعضها ببعض ، فلا يصاغ لها أفعال لأن الفعل لما يتوقع له تجدد في صورة الغالب ، ولهذا لم يوجد للإضافيات أفعال كالأبوة والبنوة والأخوة إذ لم تكن من الذي يتبدل ، ووجد للإضافيات المتبدلة أفعال يقال : واخاه وتبناه لما لم يكن مثبتاً بتكلف فقبل التبدل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 282
283
وقوله تعالى : {مِن نُّطْفَةٍ} أي قطعة من الماء.
وقوله تعالى : {إِذَا تُمْنَى } من أمنى المني إذا نزل أو منى يمني إذا قدر وقوله تعالى : {مِن نُّطْفَةٍ} تنبيه على كمال القدرة لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء ، ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون على ما بينا ، ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعيه كما لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات ، ولهذا قال تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه } كما قال : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (الزمر : 38).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 283
283
(1/4258)

وهي في قول أكثر المفسرين إشارة إلى الحشر ، والذي ظهر لي بعد طول التفكر والسؤال من فضل الله تعالى الهداية فيه إلى الحق ، أنه يحتمل أن يكون المراد نفخ الروح الإنسانية فيه ، وذلك لأن النفس الشريفة لا الأمارة تخالط الأجسام الكثيفة المظلمة ، وبها كرم الله بني آدم ، وإليه الإشارة في قوله : {فَكَسَوْنَا الْعِظَـامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ } (المؤمنون : 14) غير خلق النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاماً ، وبهذا الخلق الآخر تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات ، وشارك الملك في الإدراكات فكما قال هنالك : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} (المؤمنون : 14) بعد خلق النطفة قال ههنا : {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى } فجعل نفخ الروح نشأة أخرى كما جعله هنالك إنشاء آخر ، والذي أوجب القول بهذا هو أن قوله تعالى : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } (النجم : 42) عند الأكثرين لبيان الإعادة ، وقوله تعالى : {ثُمَّ يُجْزَاـاهُ الْجَزَآءَ الاوْفَى } (النجم : 41) كذلك فيكون ذكر النشأة الأخرى إعادة ، ولأنه تعالى قال بعد هذا : {وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } (النجم : 48) وهذا من أحوال الدنيا ، وعلى ما ذكرنا يكون الترتيب في غاية الحسن فإنه تعالى يقول : خلق الذكر والأنثى ونفخ فيهما الروح الإنسانية الشريفة ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره ، فإن قيل : فقد وردت النشأة الأخرى للحشر في قوله تعالى : {فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَا ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ } (العنكبوت : 20) نقول الآخرة من الآخر لا من الآخر لأن الآخر أفعل ، وقد تقدم على أن هناك لما ذكر البدء حمل على الإعادة وههنا ذكر خلقه من نطفة ، كما في قوله : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} ثم قال : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ} (المؤمنون : 14) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : {عَلَى } للوجوب ، ولا يجب على الله الإعادة ، فما معنى قوله تعالى : {وَأَنَّ عَلَيْهِ} / قال الزمخشري على ما هو مذهبه عليه عقلاً ، فإن من الحكمة الجزاء ، وذلك لا يتم إلا بالحشر ، فيجب عليه عقلاً الإعادة ، ونحن لا نقول بهذا القول ، ونقول فيه وجهان الأول : عليه بحكم الوعد فإنه تعالى قال : {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى } (يس : 12) فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع الثاني : عليه للتعيين فإن من حضر بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه ، يقال : وجب عليك إذن أن تفعله أي تعينت له.
جزء : 29 رقم الصفحة : 283
المسألة الثانية : قرىء : {النَّشْأَةَ} على أنه مصدر كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة ، تقول : ضربته ضربتين ، أي مرة بعد مرة ، يعني النشأة مرة أخرى عليه ، وقرىء النشأة بالمد على أنه مصدر على وزن فعالة كالكفالة ، وكيفما قرىء فهي من نشأ ، وهو لازم وكان الواجب أن يقال : عليه الإنشاء لا النشأة ، نقول فيه فائدة وهي أن الجزم يحصل من هذا بوجود الخلق مرة أخرى ، ولو قال : عليه الإنشاء ربما يقول قائل : الإنشاء من باب الإجلاس ، حيث يقال في السعة أجلسته فما جلس ، وأقمته فما قام فيقال : أنشاء وما نشأ أي قصده لينشأ ولم يوجد ، فإذا قال : عليه النشأة أي يوجد النشء ويحققه بحيث يوجد جزماً.
المسألة الثالثة : هل بين قول القائل : عليه النشأة مرة أخرى ، وبين قوله : عليه النشأة الأخرى فرق ؟
نقول : نعم إذا قال : عليه النشأة مرة أخرى لا يكون النشء قد علم أولاً ، وإذا قال : {عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى } يكون قد علم حقيقة النشأة الأخرى/ فنقول ذلك المعلوم عليه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 283
283
وقد ذكرنا تفسيره فنقول : {أَغْنَى } يعني دفع حاجته ولم يتركه محتاجاً لأن الفقير في مقابلة الغني ، فمن لم يبق فقيراً بوجه من الوجوه فهو غني مطلقاً ، ومن لم يبق فقيراً من وجه فهو غني من ذلك الوجه ، قال صلى الله عليه وسلّم : "أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم" وحمل ذلك على زكاة الفطر ، ومعناه إذا أتاه ما احتاج إليه ، وقوله تعالى : معناه وزاد عليه الإقناء فوق الإغناء ، والذي عندي أن الحروف متناسبة في المعنى ، فنقول لما كان مخرج القاف فوق مخرج الغين جعل الإقناء لحالة فوق الإغناء ، وعلى هذا فالإغناء هو ما آتاه الله من العين واللسان ، وهداه إلى الارتضاع في صباه أو هو ما أعطاه الله تعالى من القوت واللباس المحتاج إليهما وفي الجملة كل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء ؛ وكل ما زاد عليه فهو إقناء.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 283
283
(1/4259)

إشارة إلى فساد قول قوم آخرين ، وذلك لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ، ومن كسل افتقر وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بالبخت ، وذلك بالنجوم ، فقال : {وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } وإن قائل الغنى بالنجوم غالط ، فنقول هو رب النجوم وهو محركها ، كما قال تعالى : {هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } وقوله : {هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } لإنكارهم ذلك أكد بالفصل ، والشعرى نجم مضيء ، وفي النجوم شعريان إحداهما شامية والأخرى يمانية ، والظاهر أن المراد اليمانية لأنهم كانوا يعبدونها.
جزء : 29 رقم الصفحة : 283
284
لما ذكر أنه : {أَغْنَى وَأَقْنَى } (النجم : 48) وكان ذلك بفضل الله لا بعطاء الشعرى وجب الشكر لمن قد أهلك وكفى لهم دليلاً حال عاد وثمود وغيرهم : و{عَادًا الاولَى } قيل : بالأولى تميزت من قوم كانوا بمكة هم عاد الآخرة ، وقيل : الأولى لبيان تقدمهم لا لتمييزهم ، تقول : زيد العالم جاءني فتصفه لا لتميزه ولكن لتبين علمه ، وفيه قراءات {عَادًا الاولَى } بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين ، و{عَادًا الاولَى } بإسقاط نون التنوين أيضاً لالتقاء الساكنين كقراءة {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة : 30) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (النجم : 50) و{عَادًا الاولَى } بإدغام النون في اللام ونقل ضمة الهمزة إلى اللام وبهمزة الواو وقرأ هذا القارىء {عَلَى } (الفتح : 29) ودليله ضعيف وهو يحتمل هذا في موضع و(الهمزة : 6 ، 8) للضمة والواو فهي في هذا الموضع تجزي على الهمزة ، وكذا في سؤقه لوجود الهمزة في الأصل ، وفي موسى وقوله لا يحسن.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 284
284
{الاولَى * وَثَمُودَا فَمَآ أَبْقَى } يعني وأهلك ثمود وقوله : {فَمَآ أَبْقَى } عائد إلى عاد وثمود أي فما أبقى عليهم ، ومن المفسرين من قال : فما أبقاهم أي فما أبقى منهم أحداً ويؤيد هذا قوله تعالى : {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنا بَاقِيَةٍ} (الحاقة : 8) وتمسك الحجاج على من قال : إن ثقيفاً من ثمود بقوله تعالى : {فَمَآ أَبْقَى } .
جزء : 29 رقم الصفحة : 284
285
{وَقَوْمَ نُوحٍ} أي أهلكهم {مِّن قَبْلُ } والمسألة مشهورة في قبل وبعد تقطع عن الإضافة فتصير كالغاية فتبنى على الضمة. أما البناء فلتضمنه الإضافة ، وأما على الضمة فلأنها لو بنيت على الفتحة لكان قد أثبت فيه ما يستحقه بالإعراب من حيث إنها ظروف زمان فتستحق النصب والفتح مثله ، ولو بنيت على الكسر لكان الأمر على ما يقتضيه الإعراب وهو الجر بالجار فبنى على ما يخالف حالتي إعرابها.
وقوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } أما الظلم فلأنهم هم البادئون به المتقدمون فيه "ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" والبادىء أظلم ، وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ، ولا يدعو نبي على قومه إلا بعد الإصرار العظيم ، والظالم واضع الشيء في غير موضعه ، والطاغي المجاوز الحد فالطاغي أدخل في الظلم فهو كالمغاير والمخالف فإن المخالف مغاير مع وصف آخر زائد ، وكذا المغاير والمضاد وكل ضد غير وليس كل غير ضداً ، وعليه سؤال وهو أن قوله : {وَقَوْمَ نُوحٍ} المقصود منه تخويف الظالم / بالهلاك ، فإذا قال : هم كانوا في غاية الظلم والطغيان فأهلكوا يقول الظالم هم كانوا أظلم فأهلكوا لمبالغتهم في الظلم ، ونحن ما بالغنا فلا نهلك ، وأما لو قال أهلكوا لأنهم ظلمة لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله : {أَظْلَمَ} ؟
نقول : المقصود بيان شدتهم وقوة أجسامهم فإنهم لم يقدموا على الظلم والطغيان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ، ومع ذلك ما نجا أحد منهم فما حال من هو دونهم من العمر والقوة فهو كقوله تعالى : {أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} (الزخرف : 8).
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 285
285
المؤتفكة المنقلبة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء : {وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ } والمشهور فيه أنها قرىء قوم لوط لكن كانت لهم مواضع ائتفكت فهي مؤتفكات ، ويحتمل أن يقال المراد كل من انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه ولهذا ختم المهلكين بالمؤتفكات كمن يقول : مات فلان وفلان وكل من كان من أمثالهم وأشكالهم.
المسألة الثانية : {أَهْوَى } أي أهواها بمعنى أسقطها ، فقيل : أهواها من الهوى إلى الأرض من حيث حملها جبريل عليه السلام على جناحه ، ثم قلبها ، وقيل : كانت عمارتهم مرتفعة فأهواها بالزلزلة وجعل عاليها سافلها.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } على ما قلت : كقول القائل والمنقلبة قلبها وقلب المنقلب تحصيل الحاصل ، نقول : ليس معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قلبها فانقلبت.
(1/4260)

المسألة الرابعة : ما الحكمة في اختصاص المؤتفكة باسم الموضع في الذكر ، وقال في عاد وثمود ، وقوم نوح اسم القوم ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن ثمود اسم الموضع فذكر عاداً باسم القوم ، وثمود باسم الموضع ، وقوم نوح باسم القوم والمؤتفكة باسم الموضع ليعلم أن القوم لا يمكنهم صون أماكنهم عن عذاب الله تعالى ولا الموضع يحصن القوم عنه فإن في العادة تارة يقوي الساكن فيذب عن مسكنه وأخرى يقوي المسكن فيرد عن ساكنه وعذاب الله لا يمنعه مانع ، وهذا المعنى حصل للمؤمنين في آيتين أحدهما قوله تعالى : {وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ} (الفتح : 20) وقوله تعالى : {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} (الحشر : 2) ففي الأول لم يقدر الساكن على حفظ مسكنه وفي الثاني لم يقو الحصن على حفظ الساكن والوجه الثاني : هو أن عاداً وثمود وقوم نوح ، كان أمرهم متقدماً ، وأماكنهم كانت قد دثرت ، ولكن أمرهم كان مشهوراً متواتراً ، وقوم لوط كانت مساكنهم وآثار الانقلاب فيها ظاهرة ، فذكر الأظهر من الأمرين في كل قوم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 285
286
يحتمل أن يكون ما مفعولاً وهو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الذي غشي هو الله تعالى فيكون كقوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} ويحتمل أن يكون فاعلاً يقال : ضربه من ضربه ، وعلى هذا نقول : يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى سبب غضب الله عليهم أي / غشاها عليهم السبب ، بمعنى أن الله غضب عليهم بسببه ، يقال لمن أغضب ملكاً بكلام فضربه الملك كلامك الذي ضربك.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 286
286
قيل هذا أيضاً مما في الصحف ، وقيل هو ابتداء كلام والخطاب عام ، كأنه يقول : بأي النعم أيها السامع تشك أو تجادل ، وقيل : هو خطاب مع الكافر ، ويحتمل أن يقال مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولا يقال : كيف يجوز أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلّم : {تَتَمَارَى } لأنا نقول هو من باب : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) يعني لم يبق فيه إمكان الشك ، حتى أن فارضاً لو فرض النبي صلى الله عليه وسلّم ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراء في نعم الله والعموم هو الصحيح كأنه يقول : بأي آلاء ربك تتمارى أيها الإنسان ، كما قال : {وَأَخَّرَتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار : 6) وقال تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا} (الكهف : 54) فإن قيل : المذكور من قبل نعم والآلاء نعم ، فكيف آلاء ربك ؟
نقول : لما عد من قبل النعم وهو الخلق من النطفة ونفخ الروح الشريفة فيه والإغناء والإقناء ، وذكر أن الكافر بنعمه أهلك قال : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل ، أو تقول : لما ذكر الإهلاك ، قال للشاك : أنت ما أصابك الذي أصابهم وذلك بحفظ الله إياك : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } وسنزيده بياناً في قوله : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 13) في مواضع.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 286
287
وفيه مسائل :
(1/4261)

المسألة الأولى : المشار إليه بهذا ماذا ؟
نقول فيه وجوه أحدها : محمد صلى الله عليه وسلّم من جنس النذر الأولى ثانيها : القرآن ثالثها : ما ذكره من أخبار المهلكين ، ومعناه حينئذ هذا بعض الأمور التي هي منذرة ، وعلى قولنا : المراد محمد صلى الله عليه وسلّم فالنذير هو المنذر و{مِنْ} لبيان الجنس ، وعلى قولنا : المراد هو القرآن يحتمل أن يكون النذير بمعنى المصدر ، ويحتمل أن يكون بمعنى الفاعل ، وكون الإشارة إلى القرآن بعيد لفظاً ومعنى ، أما معنى : فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى لأنه معجز وتلك لم تكن معجزة ، وذلك لأنه تعالى لما بين الوحدانية وقال : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } قال : {هَاذَا نَذِيرٌ} إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وإثباتاً للرسالة ، وقال بعد ذلك : {أَزِفَتِ الازِفَةُ} إشارة إلى القيامة ليكون في الآيات الثلاث المرتبة إثبات أصول ثلاث مرتبة ، فإن الأصل الأول هو الله ووحدانيته ثم الرسول ورسالته ثم الحشر والقيامة ، وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً ، فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون / على هذا من بقي على حقيقة التبعيض أي هذا الذي ذكرنا بعض ما جرى ونبذ مما وقع ، أو يكون لابتداء الغاية ، بمعنى هذا إنذار من المنذرين المتقدمين ، يقال : هذا الكتاب ، وهذا الكلام من فلان وعلى الأقوال كلها ليس ذكر الأولى لبيان الموصوف بالوصف وتمييزه عن النذر الآخرة كما يقال : الفرقة الأولى احترازاً عن الفرقة الأخيرة ، وإنما هو لبيان الوصف للموصوف ، كما يقال : زيد العالم جاءني فيذكر العالم ، إما لبيان أن زيداً عالم غير أنك لا تذكره بلفظ الخبر فتأتي به على طريقة الوصف ، وإما لمدح زيد به ، وإما لأمر آخر ، والأولى على العود إلى لفظ الجمع وهو النذر ولو كان لمعنى الجمع لقال : من النذر الأولين يقال من الأقوام المتقدمة والمتقدمين على اللفظ والمعنى.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 287
287
وهو كقوله تعالى : {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة : 1) ويقال : كانت الكائنة. وهذا الاستعمال يقع على وجوه منها ما إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل ، ثم صدر منه مرة أخرى مثل الفعل ، فيقال : فعل الفاعل أي الذي كان فاعلاً صار فاعلاً مرة أخرى ، يقال : حاكه الحائك أي من شغله ذلك من قبل فعله ، ومنها ما يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل ، ومنه يقال : "إذا مات الميت انقطع عمله" وإذا غصب العين غاصب ضمنه ، فقوله : {أَزِفَتِ الازِفَةُ} يحتمل أن يكون من القبيل الأول أي قربت الساعة التي كل يوم يزداد قربها فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب ، ويحتمل أن يكون كقوله تعالى : {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قرب وقوعها وأزفت فاعلها في الحقيقة القيامة أو الساعة ، فكأنه قال : أزفت القيامة الآزفة أو الساعة أو مثلها.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 287
287
فيه وجوه أحدها : لا مظهر لها إلا الله فمن يعلمها لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى إياه وإظهاره إياها له ، فهو كقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) وقوله تعالى : {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ } (الأعراف : 187). ثانيها : لا يأتي بها إلا الله ، كقوله تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَه ا إِلا هُوَ } (الأنعام : 17) وفيه مسائل :
الأولى : {مِنْ} زائدة تقديره ليس لها غير الله كاشفة ، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه ، تقول : ما جاءني أحد وما جاءني من أحد ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير ، تقديره ليس لها من كاشفة دون الله ، فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف ، ويحتمل أن يقال : ليست بزائدة بل معنى الكلام أنه ليس في الوجود نفس تكتشفها أي تخبر عنها كما هي ومتى وقتها من غير الله تعالى يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله يقال : كشف الأمر من زيد ، ودون يكون بمعنى غير كما في قوله تعالى : {ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات : 86) أي غير الله.
المسألة الثانية : كاشفة صفة لمؤنث أي نفس كاشفة ، وقيل هي للمبالغة كما في العلامة وعلى هذا لا يقال بأنه نفى أن يكون لها كاشفة بصيغة المبالغة ولا يلزم من الكاشف الفائق نفي / نفس الكاشف ، لأنا نقول : لو كشفها أحد لكان كاشفاً بالوجه الكامل ، فلا كاشف لها ولا يكشفها أحد وهو كقوله تعالى : {وَمَآ أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (ق : 29) من حيث نفى كونه ظالماً مبالغاً ، ولا يلزم منه نفي كونه ظالماً ، وقلنا هناك : إنه لو ظلم عبيده الضعفاء بغير حق لكان في غاية الظلم وليس في غاية الظلم فلا يظلمهم أصلاً.

المسألة الثالثة : إذا قلت : إن معناه ليس لها نفس كاشفة ، فقوله : {مِن دُونِ اللَّهِ} استثناء على الأشهر من الأقوال ، فيكون الله تعالى نفساً لها كاشفة ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : لا فساد في ذلك قال الله تعالى : {وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } (المائدة : 116) حكاية عن عيسى عليه السلام والمعنى الحقيقة. الثاني : ليس هو صريح الاستثناء فيجوز فيه أن لا يكون نفساً الثالث : الاستثناء الكاشف المبالغ.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 287
284
قيل : من القرآن ، ويحتمل أن يقال : هذا إشارة إلى حديث : {أَزِفَتِ الازِفَةُ} (النجم : 57) فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد وجمع العظام بعد الفساد.
جزء : 29 رقم الصفحة : 284
288
وقوله تعالى : {وَتَضْحَكُونَ} يحتمل أن يكون المعنى وتضحكون من هذا الحديث ، كما قال تعالى : {فَلَمَّا جَآءَهُم بِاَايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} (الزخرف : 47) في حق موسى عليه السلام ، وكانوا هم أيضاً يضحكون من حديث النبي والقرآن ، ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة ، أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت ، فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ.
وقوله تعالى : {وَلا تَبْكُونَ} أي كان حقاً لكم أن تبكوا منه فتتركون ذلك وتأتون بضده.
جزء : 29 رقم الصفحة : 288
288
وقوله تعالى : {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} أي غافلون ، وذكر باسم الفاعل ، لأن الغفلة دائمة ، وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمان.
جزء : 29 رقم الصفحة : 288
288
يحتمل أن يكون الأمر عاماً ، ويحتمل أن يكون التفاتاً ، فيكون كأنه قال : أيها المؤمنون اسجدوا شكراً على الهداية واشتغلوا بالعبادة ، ولم يقل : اعبدوا الله إما لكونه معلوماً ، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله ، فقال : {وَاعْبُدُوا } أي ائتوا بالمأمور ، ولا تعبدوا غير الله ، لأنها ليست بعبادة ، وهذا يناسب السجدة عند قراءته مناسبة أشد وأتم مما إذا حملناه على العموم.
والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 29 رقم الصفحة : 288
290
(1/4262)

سورة القمر
خمسون وخمس آيات مكية
جزء : 29 رقم الصفحة : 290
291
/ أول السورة مناسب لآخر ما قبلها ، وهو قوله : {أَزِفَتِ الازِفَةُ} (النجم : 57) فكأنه أعاد ذلك مع الدليل ، وقال قلت : {أَزِفَتِ الازِفَةُ} وهو حق ، إذ القمر انشق ، والمفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر انشق ، وحصل فيه الانشقاق ، ودلت الأخبار على حديث الانشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة ، وقالوا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية الانشقاق بعينها معجزة ، فسأل ربه فشقه ومضى ، وقال بعض الفسرين المراد سينشق ، وهو بعيد ولا معنى له ، لأن من منع ذلك وهو الفلسفي يمنعه في الماضي والمستقبل ، ومن يجوزه لا حاجة إلى التأويل ، وإنما ذهب إليه ذلك الذاهب ، لأن الانشقاق أمر هائل ، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر ، نقول : النبي صلى الله عليه وسلّم لما كان يتحدى بالقرآن ، وكانوا يقولون : إنا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام ، وعجزوا عنه ، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أخرى فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر. وأما المؤرخون فتركوه ، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الأمر قالوا : بأنه مثل خسوف القمر ، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه ، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات ، وذكرناه مراراً فلا نعيده.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 291
291
تقديره : وبعد هذا إن يروا آية يقولوا سحر ، فإنهم رأوا آيات أرضية ، وآيات سماوية ، ولم يؤمنوا ، ولم يتركوا عنادهم ، فإن يروا ما يرون بعد هذا لا يؤمنون ، وفيه وجه آخر وهو أن يقال : المعنى أن عادتهم أنهم إن يروا آية يعرضوا ، فلما رأوا انشقاق القمر أعرضوا لتلك العادة ، وفيه مسائل :
(1/4263)

الأولى : قوله : {ءَايَةً} ماذا ؟
نقول آية اقتراب الساعة ، فإن انشقاق القمر من آياته ، وقد / ردوا وكذبوا ، فإن يروا غيرها أيضاً يعرضوا ، أو آية الانشقاق فإنها معجزة ، أما كونها معجزة ففي غاية الظهور ، وأما كونها آية الساعة ، فلأن منكر خراب العالم ينكر انشقاق السماء وانفطارها وكذلك قوله : في كل جسم سماوي من الكواكب ، فإذا انشق بعضها ثبت خلاف ما يقول به ، وبان جواز خراب العالم ، وقال أكثر المفسرين : معناه أن من علامات قيام الساعة انشقاق القمر عن قريب ، وهذا ضعيف حملهم على هذا القول ضيق المكان ، وخفاء الأمر على الأذهان ، وبيان ضعفه هو أن الله تعالى لو أخبر في كتابه أن القمر ينشق ، وهو علامة قيام الساعة ، لكان ذلك أمراً لا بد من وقوعه مثل خروج دابة الأرض ، وطلوع الشمس من المغرب ، فلا يكون معجزة النبي صلى الله عليه وسلّم ، كما أن هذه الأشياء عجائب ، وليست بمعجزة للنبي ، لا يقال : الإخبار عنها قبل وقوعها معجزة ، لأنا نقول : فحينئذ يكون هذا من قبيل الإخبار عن الغيوب ، فلا يكون هو معجزة برأسه وذلك فاسد ، ولا يقال : بأن ذلك كان معجزة وعلامة ، فأخبر الله في الصحف والكتب السالفة أن ذلك يكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلّم وتكون الساعة قريبة حينئذ ، وذلك لأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم علامة كائنة حيث قال : "بعثت أنا والساعة كهاتين" ولهذا يحكى عن سطيح أنه لما أخبر بوجود النبي صلى الله عليه وسلّم قال عن أمور تكون ، فكان وجوده دليل أمور ، وأيضاً القمر لما انشق كان انشقاقه عند استدلال النبي صلى الله عليه وسلّم على المشركين ، وهم كانوا غافلين عما في الكتب ، وأما أصحاب الكتب فلم يفتقروا إلى بيان علامة الساعة ، لأنهم كانوا يقولون بها وبقربها ، فهي إذن آية دالة على جواز تخريب السموات وهو العمدة الكبرى ، لأن السموات إذا طويت وجوز ذلك ، فالأرض ومن عليها لا يستبعد فناؤهما ، إذا ثبت هذا فنقول : معنى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}
جزء : 29 رقم الصفحة : 291
يحتمل أن يكون في العقول والأذهان ، يقول : من يسمع أمراً لا يقع هذا بعيد مستبعد ، وهذا وجه حسن ، وإن كان بعض ضعفاء الأذهان ينكره ، وذلك لأن حمله على قرب الوقوع زماناً لا إمكاناً يمكن الكافر من مجادلة فاسدة ، فيقول : قال الله تعالى في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم : {اقْتَرَبَتِ} ويقولون بأن من قبل أيضاً في الكتب (السابقة) كان يقول : (اقترب الوعد) ثم مضى مائة سنة ولم يقع ، ولا يبعد أن يمضي ألف آخر ولا يقع ، ولو صح إطلاق لفظ القرب زماناً على مثل هذا لا يبقى وثوق بالإخبارات ، وأيضاً قوله : {اقْتَرَبَتِ} لانتهاز الفرصة ، والإيمان قبل أن لا يصح الإيمان ، فللكافر أن يقول ، إذا كان القرب بهذا المعنى فلا خوف منها ، لأنها لا تدركني ، ولا تدرك أولادي ، ولا أولاد أولادي ، وإذا كان إمكانها قريباً في العقول يكون ذلك رداً بالغاً على المشركين والفلاسفة ، والله سبحانه وتعالى أول ما كلف الاعتراف بالوحدانية واليوم الآخر ، وقال : اعلموا أن الحشر كائن فخالف المشرك والفلسفي ، ولم يقنع بمجرد إنكار ما ورد الشرع ببيانه ، ولم يقل لا يقع أو ليس بكائن ، بل قال ذلك بعيد ، ولم يقنع بهذا أيضاً/ بل قال ذلك غير ممكن ، ولم يقنع به أيضاً ، بل قال فإن امتناعه ضروري ، فإن مذهبهم أن إعادة المعدوم وإحياء الموتى محال / بالضرورة ، ولهذا قالوا : {أَءِذَا مِتْنَا} (المؤمنون : 82) {أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا} (الأسراء : 49) {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ} (السجدة : 10) بلفظ الاستفهام بمعنى الإنكار مع ظهور الأمر ، فلما استبعدوا لم يكتف الله ورسوله ببيان وقوعه ، بل قال : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } (الحج : 7) ولم يقتصر عليه بل قال : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (الأحزاب : 63) ولم يتركها حتى قال (اقتربت الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم) اقتراباً عقلياً لا يجوز أن ينكر ما يقع في زمان طرفة عين ، لأنه على الله يسير ، كما أن تقليب الحدقة علينا يسير ، بل هو أقرب منه بكثير ، والذي يقويه قول العامة : إن زمان وجود العالم زمان مديد ، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير ، فلهذا قال : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
جزء : 29 رقم الصفحة : 291
(1/4264)

وأما قوله صلى الله عليه وسلّم : "بعثت أنا والساعة كهاتين" فمعناه لا نبي بعدي فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة ، فزماني والساعة متلاصقان كهاتين ، ولا شك أن الزمان زمان النبي صلى الله عليه وسلّم ، وما دامت أوامره نافذة فالزمان زمانه وإن كان ليس هو فيه ، كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك يقال له بلاد فلان ، فإن قيل : كيف يصح حمله على القرب بالمعقول مع أنه مقطوع به ؟
قلت : كما صح قوله تعالى : {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (الأحزاب : 63) فإن لعل للترجي والأمر عند الله معلوم ، وفائدته أن قيام الساعة ممكن لا إمكاناً بعيداً عن العادات كحمل الآدمي في زماننا حملاً في غاية الثقل أو قطعة مسافة بعيدة في زمان يسير ، فإن ذلك ممكن إمكاناً بعيداً ، وأما تقليب الحدقة فممكن إمكاناً في غاية القرب.
المسألة الثانية : الجمع الذين تكون الواو ضميرهم في قوله {يَرَوْا } و{يُعْرِضُوا } غير مذكور فمن هم ؟
نقول : هم معلومون وهم الكفار تقديره : وهؤلاء الكفار إن يروا آية يعرضوا.
المسألة الثالثة : التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ما الفائدة فيه ؟
نقول : فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه ، وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا : نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور ، فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها ، ثم يقول : هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول.
المسألة الخامسة : ما المستمر ؟
نقول : فيه وجوه أحدها : دائم فإن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يأتي كل زمان بمعجزة قولية أو فعلية أرضية أو سماوية ، فقالوا : هذا سحر مستمر دائم لا يختلف بالنسبة إلى النبي عليه السلام بخلاف سحر السحرة ، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين / وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل وثانيها : مستمر أي قوى من حبل مرير الفتل من المرة وهي الشدة وثالثها : من المرارة أي سحر مر مستبشع ورابعها : مستمر أي مار ذاهب ، فإن السحر لا بقاء له.
جزء : 29 رقم الصفحة : 291
292
ثم قال تعالى : {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ } وهو يحتمل أمرين أحدهما : وكذبوا محمداً المخبر عن اقتراب الساعة وثانيهما : كذبوا بالآية وهي انشقاق القمر ، فإن قلنا : كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلّم فقوله : {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ } أي تركوا الحجة وأولوا الآيات وقالوا : هو مجنون تعينه الجن وكاهن يقول : عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال وساحر ، فهذه أهواءهم ، وإن قلنا : كذبوا بانشقاق القمر ، فقوله : {وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ } في أنه سحر القمر ، وأنه خسوف والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم ، وكذلك قولهم في كل آية.
وقوله تعالى : {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} فيه وجوه أحدها : كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت والباطل يزهق ، وحينئذ يكون تهديداً لهم ، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم ، وهو كقوله تعالى : {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم} (الزمر : 7) أي بأنها حق ثانيها : وكل أمر مستقر في علم الله تعالى : لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم ، والأنبياء صدقوا وبلغوا ما جاءهم ، كقوله تعالى : {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ } (غافر : 16) ، وكما قال تعالى في هذه السورة : {وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} (القمر : 52 ، 53) ، ثالثها : هو جواب قولهم : {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي ليس أمره بذاهب بل كل أمر من أموره مستقر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 292
292
(1/4265)

إشارة إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد ، فأخبرهم الرسول باقتراب الساعة ، وأقام الدليل على صدقه ، وإمكان قيام الساعة عقيب دعواه بانشقاق القمر الذي هو آية لأن من يكذب بها لا يصدق بشيء من الآيات فكذبوا بها واتبعوا الأباطيل الذاهبة ، وذكروا الأقاويل الكاذبة فذكر لهم أنباء المهلكين بالآيتين تخويفاً لهم ، وهذا هو الترتيب الحكمي ، ولهذا قال بعد الآيات : {حِكْمَة بَـالِغَةٌ } (القمر : 5) أي هذه حكمة بالغة ، والأنباء هي الأخبار العظام ، ويدلك على صدقه أن في القرآن لم يرد النبأ والأنباء إلا لما له وقع قال : {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإا بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (النمل : 22) لأنه كان خبراً عظيماً وقال : {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُا بِنَبَإٍ} (الحجرات : 6) أي محاربة أو مسالمة وما يشبهه من الأمور العرفية ، وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال ، وكذلك قال تعالى : {ذَالِكَ مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } (آل عمران : 44) فكذلك الأنباء ههنا ، وقال تعالى عن موسى : {لَّعَلِّى ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} (القصص : 29) حيث لم يكن يعلم أنه يظهر له شيء عظيم يصلح أن يقال له : نبأ / ولم يقصده ، والظاهر أن المراد أنباء المهلكين بسبب التكذيب وقال بعضهم : المراد القرآن ، وتقديره جاء فيه الأنباء ، وقيل قوله : {جَآءَهُم مِّنَ الانابَآءِ} يتناول جميع ما ورد في القرآن من الزواجر والمواعظ وما ذكرناه أظهر لقوله : {فِيهِ مُزْدَجَرٌ} وفي : {مَا} وجهان أحدهما : أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر ثانيهما : موصوفة تقديره : جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر وهذاأظهر والمزدجر فيه وجهان أحدهما ازدجار وثانيهما موضع ازدجار ، كالمرتقى ، ولفظ المفعول بمعنى المصدر كثير لأن المصدر هو المفعول الحقيقي. [بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 292
293
وفيه وجوه الأول : على قول من قال : {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الانابَآءِ} المراد منه القرآن ، قال : {حِكْمَة بَـالِغَةٌ } بدل كأنه قال : ولقد جاءهم حكمة بالغة ثانيها : أن يكون بدلاً عن ما في قوله : {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} الثاني : حكمة بالغة خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه حكمة بالغة والإشارة حينئذ تحتمل وجوهاً أحدها : هذا الترتيب الذي في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون وانقضى حكمة بالغة ثانيها : إنزال ما فيه الأنباء : {حِكْمَة بَـالِغَةٌ } ثالثها : هذه الساعة المقتربة والآية الدالة عليها حكمة الثالث : قرىء بالنصب فيكون حالاً وذو الحال ما في قوله : {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي جاءكم ذلك حكمة ، فإن قيل : إن كان {مَا} موصولة تكون معرفة فيحسن كونه ذا الحال فأما إن كانت بمعنى جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار يكون منكراً وتنكير ذي الحال قبيح نقول : كونه موصوفاً يحسن ذلك.
وقوله : {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} فيه وجهان أحدهما : أن {مَا} نافية ، ومعناه أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الحق ، وإنما أرسلوا مبلغين وهو كقوله تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (الشورى : 48) ويؤيد هذا قوله تعالى : {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي ليس عليك ولا على الأنبياء الإغناء والإلجاء ، فإذا بلغت فقد أتيت بماعليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها بقوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل : 125) وتول إذا لم تقدر ثانيهما : {مَا} استفهامية ، ومعنى الآيات حينئذ أنك أتيت بما عليك من الدعوى وإظهار الآية عليها وكذبوا فأنذرتهم بما جرى على المكذبين فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 293
293
قوله تعالى : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} قد ذكرنا أن المفسرين يقولون إلى قوله : {تَوَلَّ} منسوخ وليس كذلك ، بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام.
(1/4266)

ثم قال تعالى : {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} قد ذكرنا أيضاً أن من ينصح شخصاً ولا يؤثر فيه النصح يعرض عنه ويقول مع غيره : ما فيه نصح المعرض عنه ، ويكون فيه قصد إرشاده أيضاً فقال بعدما قال : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ} للتخويف ، والعامل / في : {يَوْمٌ} هو ما بعده ، وهو قوله : {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ} والداعي معرف كالمنادي في قوله : {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} (ق : 41) لأنه معلوم قد أخبر عنه ، فقيل : إن منادياً ينادي وداعياً يدعو وفي الداعي وجوه أحدها أنه إسرافيل وثانيها : أنه جبريل وثالثها : أنه ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حد العلمية ، وإنما يكون ذلك كقولنا : جاء رجل فقال : الرجل ، وقوله تعالى : {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} أي منكر وهو يحتمل وجوهاً أحدها : إلى شيء نكر في يومنا هذا لأنهم أنكروه أي يوم يدعو الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يخرجون ثانيها : نكر أي منكر يقول : ذلك القائل كان ينبغي أن لا يكون أي من شأنه أن لا يوجد يقال : فلان ينهى عن المنكر ، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع لأنه يرديهم في الهاوية ، فإن قيل : ما ذلك الشيء النكر ؟
نقول : الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع ، وهذا أقرب ، فإن قيل : النشر لا يكون منكراً فإنه إحياء ولأن الكافر من أين يعرف وقت النشر وما يجري عليه لينكره ؟
نقول : يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم : {قَالُوا يَـاوَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } (يس : 52).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 293
295
وفيه قراءات خاشعاً وخاشعة وخشعاً ، فمن قرأ خاشعاً على قول القائل : يخشع أبصارهم على ترك التأنيث لتقدم الفعل ومن قرأ خاشعة على قوله : تخشع أبصارهم ومن قرأ خشعاً فله وجوه أحدها : على قول من يقول : يخشعن أبصارهم على طريقة من يقول : أكلوني البراغيث ثانيها : في : {خُشَّعًا} ضمير أبصارهم بدل عنه ، تقديره يخشعون أبصارهم على بدل الاشتمال كقول القائل : أعجبوني حسنهم. ثالثها : فيه فعل مضمر يفسره يخرجون تقديره يخرجون خشعاً أبصارهم على بدل الاشتمال والصحيح خاشعاً ، روي أن مجاهداً رأى النبي صلى الله عليه وسلّم في منامه فقال له : يا نبي الله خشعاً أبصارهم أو خاشعاً أبصارهم ؟
فقال عليه السلام : خاشعاً ، ولهذه القراءة وجه آخر أظهر مما قالوه وهو أن يكون خشعاً منصوباً على أنه مفعول بقوله : {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} خشعاً أي يدعو هؤلاء ، فإن قيل : هذا فاسد من وجوه أحدها : أن التخصيص لا فائدة فيه لأن الداعي يدعو كل أحد ، ثانيها : قوله : {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ} بعد الدعاء فيكونون خشعاً قبل الخروج وإنه باطل ، ثالثها : قراءة خاشعاً تبطل هذا ، نقول أما الجواب عن الأول فهو أن يقال قوله : {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} يدفع ذلك لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر وعن الثاني المراد : (من شيء نكر) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إلى الحساب العسر خشعاً ولا يكون العامل في : {يَوْمَ يَدْعُ} يخرجون بل اذكروا ، أو : {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} كما قال تعالى : {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ} (المدثر : 48) ويكون يخرجون ابتداء كلام ، وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين ؛ وخاشعاً نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو / كأنه يقول : يدعو الداعي قوماً خاشعة أبصارهم والخشوع السكون قال تعالى : {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ} (طه : 108) وخشوع الأبصار سكونها على كل حال لا تنفلت يمنة ولا يسرة كما في قوله تعالى : {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } (إبراهيم : 43) وقوله تعالى : {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} (القمر : 7) مثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج ، ويحتمل أن يقال : المنتشر مطاوع نشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 295
295
ثم قال تعالى : {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } أي مسرعين إليه إنقياداً {يَقُولُ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يحتمل أن يكون العامل الناصب ليوم في قوله تعالى : {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} (القمر : 6) أي يوم يدعو الداعي : {يَقُولُ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ، وفيه فائدتان إحداهما : تنبيه المؤمن أن ذلك اليوم على الكافر عسير فحسب ، كما قال تعالى : {فَذَالِكَ يَوْمَـاـاِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَـافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (المدثر : 9 ، 10) يعني له عسر لا يسر معه ثانيتهما : هي أن الأمرين متفقان مشتركان بين المؤمن والكافر ، فإن الخروج من الأجداث كأنهم جراد والانقطاع إلى الداعي يكون للمؤمن فإنه يخاف ولا يأمن العذاب إلا بإيمان الله تعالى إياه فيؤتيه الله الثواب فيبقى الكافر فيقول : {هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
جزء : 29 رقم الصفحة : 295
296
(1/4267)

ثم إنه تعالى أعاد بعض الأنباء فقال : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} فيها تهوين وتسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلّم فإن حاله كحال من تقدمه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز بالاتفاق وحسن ، وإلحاق ضمير الجمع به قبيح عند الأكثرين ، فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ، ويجوزون كذبت فما الفرق ؟
نقول : التأنيث قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولا تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعلها الذي هو فاعله فليس إذا قلنا : ضربت هذه كانت هذه أنثى لأجل الضرب بخلاف الجمع ، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم الذي هم فاعلوه ، فإنا إذا قلنا : جمع ضربوا وهم ضاربون ليس مجرد اجتماعهم في الوجود يصحح قولنا : ضربوا وهم ضاربون ، لأنهم إن اجتمعوا في مكان فهم جمع ، ولكن إن لم يضرب الكل لا يصح قولنا : ضربوا ، فضمير الجمع من الفعل فاعلون جمعهم بسبب الاجتماع في الفعل والفاعلية ، وليس بسبب الفعل ، فلم يجز أن يقال : ضربوا جمع ، لأن الجمع لم يفهم إلا بسبب أنهم ضربوا جميعهم ، فينبغي أن يعلم أولاً اجتماعهم في الفعل ، فيقول : الضاربون ضربوا ، وأما ضربت هند فصحيح ، لأنه لا يصح أن يقال : التأنيث لم يفهم إلا بسبب أنها ضربت ، بل هي كانت أنثى فوجد منها ضرب فصارت ضاربة ، وليس الجمع كانوا جمعاً فضربوا / فصاروا ضاربين ، بل صاروا ضاربين لاجتماعهم في الفعل ولهذا ورد الجمع على اللفظ بعد ورود التأنيث عليه فقيل : ضاربة وضاربات ولم يجمع اللفظ أولاً لأنثى ولا لذكر ، ولهذا لم يحسن أن يقال : ضرب هند ، وحسن بالإجماع ضرب قوم والمسلمون.
المسألة الثانية : لما قال تعالى : {كَذَّبَتْ} ما الفائدة في قوله تعالى : {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : أن قوله : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي بآياتنا وآية الانشقاق فكذبوا الثاني كذبت قوم نوح الرسل وقالوا : لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد : فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره وذلك لأن قوم نوح مشركون يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كل رسول وينكر الرسالة لأنه يقول : لا تعلق لله بالعالم السفلي وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيب فكذبوا الثالث : قوله تعالى : {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} للتصديق والرد عليهم تقديره : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} وكان تكذيبهم عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق كما يقول القائل : كذبني فكذب صادقاً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 296
المسألة الثالثة : كثيراً ما يخص الله الصالحين بالإضافة إلى نفسه كما في قوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى} (الحجر : 42) {فِى عِبَـادِى} (العنكبوت : 56) {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} ( ص : 170) {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا} (يوسف : 24) وكل واحد عبده فما السر فيه ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : ما قيل : في المشهور أن الإضافة إليه تشريف منه فمن خصصه بكونه عبده شرف وهذا كقوله تعالى : {أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ} (البقرة : 125) وقوله تعالى : {نَاقَةُ اللَّهِ} (الأعراف : 73) الثاني : المراد من عبدنا أي الذي عبدنا فالكل عباد لأنهم مخلوقون للعبادة لقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) لكن منهم من عبد فحقق المقصود فصار عبده ، ويؤيد هذا قوله تعالى : {كُونُوا عِبَادًا لِّى} (آل عمران : 79) أي حققوا المقصود الثالث : الإضافة تفيد الحصر فمعنى عبدنا هو الذي لم يقل : بمعبود سوانا ، ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهاً فالعبد المضاف هو الذي بكليته في كل وقت لله فأكله وشربه وجميع أموره لوجه الله تعالى وقليل ما هم.
المسألة الرابعة : ما الفائدة في اختيار لفظ العبد مع أنه لو قال رسولنا لكان أدل على قبح فعلهم ؟
نقول : قوله عبدنا أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله رسولنا لو قاله لأن العبد أقل تحريفاً لكلام السيد من الرسول ، فيكون كقوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (الحاقة : 44 ـ 46).
المسألة الخامسة : قوله تعالى {وَقَالُوا مَجْنُونٌ} إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا منه ، وقالوا : هو مصاب الجن أو هو لزيادة بيان قبح صنعهم حيث لم يقنعوا بقولهم إنهم كاذب ، بل قالوا مجنون ، أي يقول مالا يقبله عاقل ، والكاذب العاقل يقول ما يظن به أنه صادق فقالوا : مجنون أي يقول مالم يقل به عاقل فبين مبالغتهم في التكذيب.
(1/4268)

المسألة السادسة : {وَازْدُجِرَ} إخبار من الله تعالى أو حكاية قولهم ، نقول : فيه خلاف منهم من قال : إخبار من الله تعالى وهو عطف على كذبوا ، وقالوا : أي هم كذبوا وهو ازدجر أي أوذي وزجر ، وهو كقوله تعالى : {كُذِّبُوا وَأُوذُوا } (الأنعام : 34) وعلى هذا إن قيل : لو قال كذبوا عبدنا وزجروه / كان الكلام أكثر مناسبة ، نقول : لا بل هذا أبلغ لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم بذكر من تقدمه فقال : وازدجر أي فعلوا ما يوجب الإنزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم وعدل عن الدعاء إلى الإيمان إلى الدعاء عليهم ، ولو قال : زجروه ما كان يفيد أنه تأذى منهم لأن في السعة يقال : آذوني ولكن ما تأذيت ، وأما أوذيت فهو كاللازم لا يقال إلا عند حصول الفعل لا قبله ، ومنهم من قال : {وَازْدُجِرَ} حكاية قولهم أي هم قالوا ازدجر ، تقديره قالوا : مجنون مزدجر ، ومعناه : ازدجره الجن أو كأنهم قالوا : جن وازدجر ، والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 296
297
ترتيباً في غاية الحسن لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {أَنِّى} بكسر الهمزة على أنه دعاء ، فكأنه قال : إني مغلوب ، وبالفتح على معنى بأني.
المسألة الثانية : ما معنى مغلوب ؟
نقول فيه وجوه الأول : غلبني الكفار فانتصر لي منهم الثاني : غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي ، وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف الثالث : وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم ، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً ، ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة ، بدليل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ} (الكهف : 6) ، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (فاطر : 8) وقال تعالى : {وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا ا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (المؤمنون : 27) فقال نوح : يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم ، فيكون معناه (إني) مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي.
المسألة الثالثة : فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه أحدها : فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ثانيها : فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ثالثها : فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه ، وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه ، يقول القائل : اللهم أهلك الكاذب منا ، وانصر المحق منا. ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 297
297
عقيب دعائه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز ؟
نقول فيه قولان أحدهما : حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه وثانيهما : هو على طريق الاستعارة ، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب ، وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك ، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل / فتحت أبواب السماء ، ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فَفَتَحْنَآ} بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ، كما قال تعالى : {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (يس : 28 ، 29) بياناً لكمال القدرة ، ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم.
المسألة الثالثة : الباء في قوله : {بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} ما وجهه وكيف موقعه ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول : يفتح الله لك بخير أي يقدر خيراً يأتي ويفتح الباب ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني ، وهي أن يجعل المقصود مقدماً في الوجود ، ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك ، وكذلك قول القائل : لعل الله يفتح برزق ، أي يقدر رزقاً يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه ، فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ} مقرونة {بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} والانهمار الانسكاب والانصباب صباً شديداً ، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه ، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب. ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 297
298
وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وفجرنا عيون الأرض ، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع ، إذا قلت ضاق زيد ذرعاً ، أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد ، وفيه مسائل :
(1/4269)

المسألة الأولى : قال : {وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} ولم يقل ففتحنا السماء أبواباً ، لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة ، ولهذا قال : {أَبْوَابَ السَّمَآءِ} ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها.
وأما قوله تعالى : {وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} فهو أبلغ من قوله : وفجرنا عيون الأرض ، لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه ، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوناً ثلاثة ، ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل : فأنزلنا من السماء ماء أو مياهاً ، ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة ، والحكمة قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَه يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ} (الزمر : 21) حيث لا مبالغة فيه ، وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه ، غير أني ذكرته مثلاً : {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى } (النحل : 60).
المسألة الثانية : العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز ؟
نقول : المشهور أن لفظ العين / مشترك ، والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها ، أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع ، أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين ، فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة ، كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل : شربت من العين واغتسلت منها ، وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع ، ويقال : عانه يعينه إذا أصابه بالعين ، وعينه تعييناً ، حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين ، وعاينه معاينة وعياناً ، وعين أي صار بحيث تقع عليه العين.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {فَالْتَقَى الْمَآءُ} قرىء فالتقى الماءان ، أي النوعان ، منه ماء السماء وماء الأرض ، فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف ، تجمع أيضاً ، يقال : عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور : {فَالْتَقَى الْمَآءُ} وله معنى لطيف ، وذلك أنه تعالى لما قال : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} (القمر : 11) ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة ، فلما قال : {وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} كان من الحسن البديع أن يقول : ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة ، فقال : {فَالْتَقَى الْمَآءُ} أي من العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء ، ولو جرى جرياً ضعيفاً لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به ، ولعل المراد من قوله : {وَفَارَ التَّنُّورُ } (هود : 40) مثل هذا.
جزء : 29 رقم الصفحة : 298
وقوله تعالى : {عَلَى ا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه وجوه الأول : على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء الثاني : على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث : على سائر المقادير ، وذلك لأن الناس اختلفوا ، فمنهم من قال : ماء السماء كان أكثر ، ومنهم من قال : ماء الأرض ، ومنهم من قال : كانا متساويين ، فقال : على أي مقدار كان ، والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان ، فإن تنكير الأمر يفيد ذلك ، يقول القائل : جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته ، وفيه احتمال آخر ، وهو أن يقال : التقى الماء ، أي اجتمع على أمر هلاكهم ، وهو كان مقدوراً مقدراً ، وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي ، والغرق لم يكن مقصوداً بالذات ، وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه ، فقال : لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين.
جزء : 29 رقم الصفحة : 298
299
أي سفينة ، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، إشارة إلى أنها كانت من ألواح مركبة موثقة بدثر ، وكان انفكاكها في غاية السهولة ، ولم يقع فهو بفضل الله ، والدسر المسامير.
جزء : 29 رقم الصفحة : 299
300
/ وقوله تعالى : {تَجْرِى} أي سفينة ذات ألواح جارية ، وقوله تعالى : {بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا أو بحفظنا ، لأن العين آلة ذلك فتستعمل فيه}.
وقوله تعالى : .
وقوله تعالى : {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون نصبه بقوله : أي حملناه جزاء ، أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم وثانيها : أن يكون بقوله : {وَدُسُرٍ * تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} لأن فيه معنى حفظنا ، أي ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له ثالثها : أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال : فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيوناً وحملناه ، وكل ذلك فعلناه جزاء له ، وإنما ذكرنا هذا ، لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم ، فوجب أن يكون جزاء منصوباً بكونه مفعولاً له بهذه الأفعال ، ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل :
(1/4270)

المسألة الأولى : قال في السماء : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ} (القمر : 11) لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور ، ولم يقل : وشققنا السماء ، وقال في الأرض : {وَفَجَّرْنَا الارْضَ} (القمر : 12) لأنها ذات الصدع.
الثانية : لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة ، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحاراً وأنهاراً ، بل قال : {عُيُونًا} والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها ، فقال : {وَفَجَّرْنَا الارْضَ} لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة ههنا ما حصل بالسعة ههنا.
الثالثة : ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون ، وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى : {عَلَى ا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (القمر : 12) أي أمر الإهلاك ولم يصرح وعند الرحمة ذكر الإنجاء صريحاً بقوله تعالى : {وَحَمَلْنَـاهُ} وأشار إلى طريق النجاة بقوله : {ذَاتِ أَلْوَاحٍ} وكذلك قال في موضع آخر : {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} (العنكبوت : 14) ، ولم يقل فأهلكوا ، وقال : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ} (العنبكوت : 15) فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم أي خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال صلى الله عليه وسلّم : {مَعْزِلٍ يَـابُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا} (هود : 42) وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقاً وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة فذكر المحل والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحاً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 300
الرابعة : قوله تعالى : {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} أبلغ من حفظنا ، يقول القائل اجعل هذا نصب عينك ولا يقول احفظه طلباً للمبالغة.
الخامسة : {بِأَعْيُنِنَا} يحتمل أن يكون المراد بحفظنا ، ولهذا يقال : الرؤية لسان العين.
السادسة : قال : كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم ، وأما جزاء شكره لنا فباق ، وقرىء : {جَزَآءً} بكسر الجيم أي مجازاة كقتال / ومقاتلة وقرىء : {لِّمَن كَانَ كُفِرَ} بفتح الكاف ، وأما : {كُفِرَ} ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال شكرته وشكرت له ، قال تعالى : {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة : 152) وقال تعالى : {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ} (البقرة : 256). ثانيهما : أن يكون من الكفر لا من الكفران أي جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ويحتمل أن يقال : كفر به وترك الظهور المراد.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 300
301
وفي العائد إليه الضمير وجهان أحدهما : عائد إلى مذكور وهو السفينة التي فيها ألواح وعلى هذا ففيه وجهان أحدهما : ترك الله عينها مدة حتى رؤيت وعلمت وكانت على الجودي بالجزيرة وقيل بأرض الهند وثانيهما : ترك مثلها في الناس يذكر وثاني الوجهين الأولين أنه عائد إلى معلوم أي تركنا السفينة آية ، والأول أظهر وعلى هذا الوجه يحتمل أن يقال : {تَّرَكْنَـاهَآ} أي جعلناها آية لأنها بعد الفراغ منها صارت متروكة ومجعولة يقول القائل : تركت فلاناً مثلة أي جعلته ، لما بينا أنه من فرغ من أمر تركه وجعله فذكر أحد الفعلين بدلاً عن الآخر.
وقوله تعالى : {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إشارة إلى أن الأمر من جانب الرسل قد تم ولم يبق إلا جانب المرسل إليهم بأن كانوا منذرين متفكرين يهتدون بفضل الله فهل من مدكر مهتد ، وهذا الكلام يصلح حثاً ويصلح تخويفاً وزجراً ، وفيه مسائل :
(1/4271)

الأولى : قال ههنا {وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ} وقال في العنكبوت : {وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً} (العنكبوت : 15) قلنا هما وإن كانا في المعنى واحداً على ما تقدم بيانه لكن لفظ الترك يدل على الجعل والفراغ بالأيام فكأنها هنا مذكورة بالتفصيل حيث بين الإمطار من السماء وتفجير الأرض وذكر السفينة بقوله : {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (القمر : 13) وذكر جريها فقال : {تَّرَكْنَـاهَآ} إشارة إلى تمام الفعل المقدور وقال هناك {وَجَعَلْنَـاهَآ} إشارة إلى بعض ذلك فإن قيل : إن كان الأمر كذلك فكيف قال ههنا {وَحَمَلْنَـاهُ} (القمر : 13) ولم يقل : وأصحابه وقال هناك {فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ} ؟
نقول : النجاة ههنا مذكورة على وجه أبلغ مما ذكره هناك لأنه قال : {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} (القمر : 14) أي حفظنا وحفظ السفينة حفظ لأصحابه وحفظ لأموالهم ودوابهم والحيوانات التي معهم فقوله : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ} لا يلزم منه إنجاء الأموال إلا ببيان آخر والحكاية في سورة هود أشد تفصيلاً وأتم فلهذا قال : {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (هود : 40) يعني المحمول ثم قال تعالى : {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ } (هود : 44) تصريحاً بخلاص السفينة وإشارة إلى خلاص كل من فيها وقوله : {ءَايَةً} منصوبة على أنها مفعول ثان للترك لأنه بمعنى الجعل على ما تقدم بيانه وهو الظاهر ، ويحتمل أن يقال حال فإنك تقول تركتها وهي آية وهي إن لم تكن على وزن الفاعل والمفعول / فهي في معناه كأنه قال : تركناها دالة ، ويحتمل أن يقال : نصبها على التمييز لأنها بعض وجوه الترك كقوله ضربته سوطاً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 301
المسألة الثانية : {مُّدَّكِرٍ} مفتعل من ذكر يذكر وأصله مذتكو (لما) كان مخرج الذال قريباً من مخرج التاء ، والحروف المتقاربة المخرج يصعب النطق بها على التوالي ولهذا إذا نظرت إلى الذال مع التاء عند النطق تقرب الذال من أن تصير تاء والتاء تقرب من أن تصير دالاً فجعل التاء دالاً ثم أدغمت الدال فيها ومنهم من قرأ على الأصل مذتكر ومنهم من قلب التاء دالاً وقرأ مذدكر ومن اللغويين من يقول في مدكر مذدكر فيقلب التاء ولا يدغم ولكل وجهة ، والمدكر المعتبر المتفكر ، وفي قوله : {مُّدَّكِرٍ} إما إشارة إلى ما في قوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) أي هل من يتذكر تلك الحالة وإما إلى وضوح الأمر كأنه حصل للكل آيات الله ونسوها {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} يتذكر شيئاً منها.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 301
302
وفيه وجهان أحدهما : أن يكون ذلك استفهاماً من النبي صلى الله عليه وسلّم تنبيهاً له ووعداً بالعاقبة وثانيهما : أن يكون عاماً تنبيهاً للخلق ونذر أسقط منه ياء الإضافة كما حذف ياء يسري في قوله تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (الفجر : 4) وذلك عند الوقف ومثله كثير كما في قوله تعالى : {فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت : 51) {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} (يس : 43) (الزمر : 16) وقوله تعالى : {قَلِيلا وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ} (الزمر : 16) وقوله تعالى : {وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة : 152) وقرىء بإثبات الياء : {عَذَابِى} وفيه مسائل :
الأولى : ما الذي اقتضى الفاى في قوله تعالى : {مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ} ؟
نقول : أما إن قلنا إن الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلّم ، فكأنه تعالى قال له قد علمت أخبار من كان قبلك فكيف كان أي بعدما أحاط بهم علمك بنقلها إليك ، وأما إن قلنا الاستفهام عام فنقول لما قال : {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر : 15) فرض وجودهم وقال : يا من يتذكر ، وعلم الحال بالتذكير : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} ويحتمل أن يقال : هو متصل بقوله : {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} تقديره مدكر كيف كان عذابي.
المسألة الثانية : ما رأوا العذاب ولا النذر فكيف استفهم منهم ؟
نقول : أما على قولنا الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلّم فقد علم لما علم ، وأما على قولنا عام فهو على تقدير الإدكار وعلى تقدير الإدكار يعلم الحال ، ويحتمل أن يقال : إنه ليس باستفهام وإنما هو إخبار عن عظمة الأمر كما في قوله تعالى : {الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ} (الحاقة : 1 ، 2) و{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة : 1 ، 2) وهذا لأن الاستفهام يذكر للأخبار كما أن صيغة هل تذكر للاستفهام فيقال زيد في الدار ؟
بمعنى هل زيد في الدار ، ويقول المنجز وعده هل صدقت ؟
فكأنه تعالى قال : عذابي وقع وكيف كان أي كان عظيماً وحينئذ لا يحتاج إلى علم من يستفهم منه.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 302
(1/4272)

المسألة الثالثة : قال تعالى من قبل : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} ولم يقل كيف كان عذابنا نقول لوجهين أحدهما : لفظي وهو أن ياء المتكلم يمكن حذفها لأنها في اللفظ تسقط كثيراً فيما إذا التقى ساكنان ، تقول : غلامي الذي ، وداري التي ، وهنا حذفت لتواخي آخر الآيات ، وأما النون والألف في ضمير الجمع فلا تحذف وأما الثاني : وهو المعنوي فنقول : إن كان الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلّم فتوحيد الضمير للأنباء ، وفي فتحنا وفجرنا لترهيب العصاة ، ونقول : قد ذكرنا أن قوله : {مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر : 15) فيه إشارة إلى قوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } (الأعراف : 172) فلما وحد الضمير بقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } قال فكيف كان.
المسألة الرابعة : النذر جمع نذير فهل هو مصدر كالنسيب والنحيب أو فاعل كالكبير والصغير ؟
نقول : أكثر المفسرين على أنه مصدر ههنا ، أي كيف كان عاقبة عذابي وعاقبة إنذاري والظاهر أن المراد الأنباء ، أي كيف كان عاقبة أعداء الله ورسله ؟
هل أصاب العذاب من كذب الرسل أم لا ؟
فإذا علمت الحال يا محمد فاصبر فإن عاقبة أمرك كعاقبة أولئك النذر ولم يجمع العذاب لأنه مصدر ولو جمع لكان في جمعه تقدير وفرض ولا حاجة إليه ، فإن قيل : قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} (القمر : 23) أي بالإنذارات لأن الإنذارات جاءتهم ، وأما الرسل فقد جاءهم واحد ، نقول : كل من تقدم من الأمم الذين أشركوا بالله كذبوا بالرسل وقالوا : ما أنزل الله من شيء وكان المشركون مكذبين بالكل ما خلا إبراهيم عليه السلام فكانوا يعتقدون فيه الخير لكونه شيخ المرسلين فلا يقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} / أي بالأنبياء بأسرهم ، كما أنكم أيها المشركون تكذبون بهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 302
304
وفيه وجوه الأول : للحفظ فيمكن حفظه ويسهل ، ولم يكن شيء من كتب الله تعالى يحفظ على ظهر القلب غير القرآن.
وقوله تعالى : {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي هل من يحفظ ويتلوه الثاني : سهلناه للاتعاظ حيث أتينا فيه بكل حكمة الثالث : جعلناه بحيث يعلق بالقلوب ويستلذ سماعه ومن لا يفهم يتفهمه ولا يسأم من سمعه وفهمه ولا يقول قد علمت فلا أسمعه بل كل ساعة يزداد منه لذة وعلماً. الرابع : وهو الأظهر أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما ذكر بحال نوح عليه السلام وكان له معجزة قيل له : إن معجزتك القرآن {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} تذكرة لكل أحد وتتحدى به في العالم ويبقى على مرور الدهور ، ولا يحتاج كل من يحضرك إلى دعاء ومسألة في إظهار معجزة ، وبعدك لا ينكر أحد وقوع ما وقع كما ينكر البعض انشقاق القمر ، وقوله تعالى : {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي متذكر لأن الافتعال والتفعل كثيراً ما يجيء بمعنى ، وعلى هذا فلو قال قائل : هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي ، نقول : ما في الفطرة من الانقياد للحق هو كالمنسي فهل من مدكر يرجع إلى ما فطر عليه / وقيل : فهل من مدكر أي حافظ أو متعظ على ما فسرنا به قوله تعالى : {يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} وقوله : {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} وعلى قولنا المراد متذكر إشارة إلى ظهور الأمر فكأنه لا يحتاج إلى نكر ، بل هو أمر حاصل عنده لا يحتاج إلى معاودة ما عند غيره.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 304
305
وفيه مسائل :
الأولى : قال في قوم نوح : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} (الشعراء : 105) ولم يقل في عاد كذبت قوم هود وذلك لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أولى من التعريف بالإضافة إليه ، فإنك إذا قلت : بيت الله لا يفيد ما يفيد قولك الكعبة ، فكذلك إذا قلت : رسول الله لا يفيد ما يفيد قولك محمد فعاد اسم علم للقوم لا يقال قوم هود أعرف لوجهين أحدهما : أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود حيث قال : {أَلا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} (هود : 60) ولا يوصف الأظهر بالأخفى والأخص بالأعم ثانيهما : أن قوم هود واحد وعاد ، قيل : إنه لفظ يقع على أقوام ولهذا قال تعالى : {عَادًا الاولَى } (النجم : 50) لأنا نقول : أما قوله تعالى : {لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} (هود : 60) فليس ذلك صفة وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المبدل في المعرفة ، ويجوز أن يبدل عن المعرفة بالنكرة ، وأما عاداً الأولى فقد قدمنا أن ذلك لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول محمد النبي شفيعي والله الكريم ربي ورب الكعبة المشرفة لبيان الشرف لا لبيانها وتعريفها كما تقول : دخلت الدار المعمورة من الدارين وخدمت الرجل الزاهد من الرجلين فتبين المقصود بالوصف.
(1/4273)

المسألة الثانية : لم يقل كذبوا هوداً كما قال : {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} (القمر : 9) وذلك لوجهين أحدهما : أن تكذيب نوح كان أبلغ وأشد حيث دعاهم قريباً من ألف سنة وأصروا على التكذيب ، ولهذا ذكر الله تعالى تكذيب نوح في مواضع ولم يذكر تكذيب غير نوح صريحاً وإن نبه عليه (في) واحد منها في الأعراف قال : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَه فِي الْفُلْكِ} (الأعراف : 64) وقال حكاية عن نوح : {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ} (الشعراء : 117) وقال : {إِنَّهُمْ عَصَوْنِى} (نوح : 21) وفي هذه المواضع لم يصرح بتكذيب قوم غيره منهم إلا قليلاً ولذلك قال تعالى في مواضع ذكر شعيب فكذبوه : وقال {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} (الأعراف : 92) وقال تعالى عن قومه : {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} (الأعراف : 66) لأنه دعا قومه زماناً مديداً وثانيهما : أن حكاية عاد مذكورة ههنا على سبيل الاختصار فلم يذكر إلا تكذيبهم وتعذيبهم فقال : {كَذَّبَتْ عَادٌ} كما قال : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} ولم يذكر دعاءه عليهم وإجابته كما قال في نوح.
جزء : 29 رقم الصفحة : 305
المسألة الثالثة : قال تعالى : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} قبل أن بين العذاب وفي حكاية نوح بين العذاب ، ثم قال : {فَكَيْفَ كَانَ} فما الحكمة فيه ؟
نقول : الاستفهام الذي ذكره في حكاية نوح / مذكور ههنا ، وهو قوله تعالى : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} كما قال من قبل ومن بعد في حكاية ثمود غير أنه تعالى حكى في حكاية عاد {فَكَيْفَ كَانَ} مرتين ، المرة الأولى استفهم ليبين كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلاً ، فيقول : كيف هي فيقول إنها كذا وكذا فكذلك ههنا قال : {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} فقال السامع : بين أنت فإني لا أعلم فقال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا} (القمر : 19) وأما المرة الثانية فاستفهم للتعظيم كما يقول القائل للعارف المشاهد كيف فعلت وصنعت فيقول : نعم ما فعلت ويقول : أتيت بعجيبة فيحقق عظمة الفعل بالاستفهام ، وإنما ذكر ههنا المرة الأولى ولم يذكر في موضع آخر لأن الحكاية ذكرها مختصرة فكان يفوت الاعتبار بسبب الاختصار فقال : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} حثاً على التدبر والتفكر ، وأما الاختصار في حكايتهم فلأن أكثر أمرهم الاستكبار والاعتماد على القوة وعدم الالتفات إلى قول النبي صلى الله عليه وسلّم ، ويدل على قوله تعالى : {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } (فصلت : 15) وذكر استكبارهم كثيراً ، وما كان قوم محمد صلى الله عليه وسلّم مبالغين في الاستكبار وإنما كانت مبالغتهم في التكذيب ونسبته إلى الجنون ، وذكر حالة نوح على التفصيل فإن قومه جمعوا بين التكذيب والاستكبار ، وكذلك حال صالح عليه السلام ذكرها على التفصيل لشدة مناسبتها بحال محمد صلى الله عليه وسلّم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 305
305
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} بتوحيد الضمير هناك ولم يقل عذابنا ، وقال : ههنا {إِنَّآ} ، ولم يقل إني ، والجواب ما ذكرناه في قوله تعالى : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ} (القمر : 11).
(1/4274)

المسألة الثانية : الصرصر فيها وجوه أحدها : الريح الشديدة الصوت من الصرير والصرة شدة الصياح ثانيها : دائمة الهبوب من أصر على الشيء إذا دام وثبت ، وفيه بحث وهو أن الأسماء المشتقة هي التي تصلح لأن يوصف بها ، وأما أسماء الأجناس فلا يوصف بها سواء كانت أجراماً أو معاني ، فلا يقال : إنسان رجل جاء ولا يقال : لون أبيض وإنما يقال : إنسان عالم وجسم أبيض. وقولنا : أبيض معناه شيء له بياض ، ولا يكون الجسم مأخوذاً فيه ، ويظهر ذلك في قولنا رجل عالم فإن العالم شيء له علم حتى الحداد والخباز ولو أمكن قيام العلم بهما لكان عالماً ولا يدخل الحي في المعنى من حيث المفهوم فإنا إذا قلنا : عالم يفهم أن ذلك حي لأن اللفظ ما وضع لحي يعلم بل اللفظ وضع لشيء يعلم ويزيده ظهوراً قولنا : معلوم فإنه شيء يعلم أو أمر يعلم وإن لم يكن شيئاً ، ولو دخل الجسم في الأبيض لكان قولنا جسم أبيض كقولنا جسم له بياض فيقع الوصف بالجثة ، إذا علمت هذا فمن المستفاد بالجنس شيء دون شيء ، فإن قولنا الهندي يقع على كل منسوب إلى الهند وأما المهند فهو سيف منسوب إلى الهند فيصح أن يقال : عبد هندي وتمر هندي ولا يصح أن يقال : مهند وكذا الأبلق ولون آخر / في فرس ولا يقال للثوب أبلق ، كذلك الأفطس أنف فيه تقعير إذا قال لقائل : أنف أفطس فيكون كأنه قال أنف به فطس فيكون وصفه بالجثة وكان ينبغي أن لا يقال فرس أبلق ولا أنف أفطس ولا سيف مهند وهم يقولون فما الجواب ؟
وهذا السؤال يرد على الصرصر لأنها الريح الباردة ، فإذا قال : ريح صرصر فليس ذلك كقولنا : ريح باردة فإن الصرصر هي الريح الباردة فحسب ، فكأنه قال : ريح باردة فنقول : الألفاظ التي في معانيها أمران فصاعداً ، كقولنا : عالم فإنه يدل على شيء له علم ففيه شيء وعلم هي على ثلاثة أقسام أحدها : أن يكون الحال هو المقصود والمحل تبع كما في العالم والضارب والأبيض فإن المقاصد في هذه الألفاظ العلم والضرب والبياض بخصوصها ، وأما المحل فمقصود من حيث إنه على عمومه حتى أن البياض لو كان يبدل بلون غيره اختل مقصوده كالأسود. وأما الجسم الذي هو محل البياض إن أمكن أن يبدل وأمكن قيام البياض بجوهر غير جسم لما اختل الغرض ثانيها : أن يكون المحل هو المقصود كقولنا الحيوان لأنه اسم لجنس ما له الحياة لا كالحي الذي هو اسم لشيء له الحياة ، فالمقصود هنا المحل وهو الجسم حتى لو وجد حي ليس بجسم لا يحصل مقصود من قال : الحيوان ولو حمل اللفظ على الله الحي الذي لا يموت لحصل غرض المتكلم ولو حمل لفظ الحيوان على فرس قائم أو إنسان نائم لم تفارقه الحياة لم يبق للسامع نفع ولم يحصل للمتكلم غرض فإن القائل إذا قال لإنسان قائم وهو ميت هذا حيوان ثم بان موته لا يرجع عما قال بل يقول : ما قلت إنه حي بل قلت إنه حيوان فهو حيوان فارقته الحياة ثالثها : ما يكون الأمران مقصودين كقولنا رجل وامرأة وناقة وجمل فإن الرجل اسم موضوع لإنسان ذكر والمرأة لإنسان أنثى والناقة لبعير أنثى والجمل لبعير ذكر فالناقة إن أطلقت على حيوان فظهر فرساً أو ثور اختل الغرض وإن بان جملاً كذلك ، إذا علمت هذا ففي كل صورة كان المحل مقصوداً إما وحده وإما مع الحال فلا يوصف به فلا يقال جسم حيوان ولا يقال بعير ناقة وإنما يجعل ذلك جملة/ فيوصف بالجملة ، فيقال جسم هو حيوان وبعير هو ناقة ، ثم إن الأبلق والأفطس شأنه الحيوان من وجه وشأنه العالم من وجه وكذلك المهند لكن دليل ترجيح الحال فيه ظاهر ، لأن المهند لا يذكر إلا لمدح السيف ، والأفطس لا يقال إلا لوصف الأنف لا لحقيقته ، وكذلك الأبلق بخلاف الحيوان فإنه لا يقال لوصفه ، وكذلك الناقة ، إذا علمت هذا فالصرصر يقال لشدة الريح أو لبردها فوجب أن يعمل به ما يعمل بالبارد والشديد فجاز الوصف وهذا بحث عزيز.
جزء : 29 رقم الصفحة : 305
المسألة الثالثة : قال تعالى ههنا {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} وقال في الطور : {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات : 41) فعرف الريح هناك ونكرها هنا لأن العقم في الريح أظهر من البرد الذي يضر النبات أو الشدة التي تعصف الأشجار لأن الريح العقيم هي التي لا تنشىء سحاباً ولا تلقح شجراً وهي كثيرة الوقوع ، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما توجد ، فقال : الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف ، ثم زاده بياناً بقوله : {مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (الذاريات : 42) فتميزت عن / الرياح العقم ، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكرها.
(1/4275)

المسألة الرابعة : قال هنا {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} وقال في السجدة : {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} (فصلت : 16) وقال في الحاقة : {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } (الحاقة : 7) والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله تعالى : {يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (مريم : 33) وقوله : {مُّسْتَمِرٌّ} يفيد ما يفيده الأيام لأن الاستمرار ينبىء عن إمرار الزمان كما ينبىء عنه الأيام ، وإنما اختلف اللفظ مع اتحاد المعنى ، لأن الحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار ، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره ولذلك لم يصفها ، ثم إن فيه قراءتين إحدهما : {يَوْمِ نَحْسٍ} بإضافة يوم ، وتسكين نحس على وزن نفس ، وثانيتهما : {يَوْمِ نَحْسٍ} بتنوين الميم وكسر الحاء على وصف اليوم بالنحس ، كما في قوله تعالى : {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} فإن قيل أيتهما أقرب ؟
قلنا : الإضافة أصح ، وذلك لأن من يقرأ : {يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} يجعل المستمر صفة ليوم ، ومن يقرأ يوم نحس مستمر يكون المستمر وصفاً لنحس ، فيحصل منه استمرار النحوسة فالأول أظهر وأليق ، فإن قيل : من يقرأ يوم نحس بسكون الحاء ، فماذا يقول في النحس ؟
نقول : يحتمل أن يقول هو تخفيف نحس كفخذ وفخذ في غير الصفات ، ونصر ونصر ورعد ورعد ، وعلى هذا يلزمه أن يقول تقديره : يوم كائن نحس ، كما تقول في قوله تعالى : {بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} (القصص : 44) ويحتمل أن يقول : نحس ليس بنعت ، بل هو اسم معنى أو مصدر ، فيكون كقولهم يوم برد وحر ، وهو أقرب وأصح.
جزء : 29 رقم الصفحة : 305
المسألة الخامسة : ما معنى {مُّسْتَمِرٌّ} ؟
نقول فيه وجوه الأول : ممتد ثابت مدة مديدة من استمر الأمر إذا دام ، وهذا كقوله تعالى : {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} (فصلت : 16) لأن الجمع يفيد معنى الاستمرار والامتداد ، وكذلك قوله : {حُسُومًا } (الحاقة : 7) الثاني : شديد من المرة كما قلنا من قبل في قوله : {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر : 2) وهذا كقولهم أيام الشدائد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ} (فصلت : 16) فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 305
306
فيه مسائل :
المسألة الأولى : {تَنزِعُ النَّاسَ} وصف أو حال ؟
نقول : يحتمل الأمرين جميعاً ، إذ يصح أن يقال : أرسل ريحاً صرصراً نازعة للناس ، ويصح أن يقال : أرسل الريح نازعة ، فإن قيل : كيف يمكن جعلها حالاً ، وذو الحال نكرة ؟
نقول : الأمر هنا أهون منه في قوله تعالى : {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الانابَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} (القمر : 4) فإنه نكرة ، وأجابوا عنه بأن {مَا} موصوفة فتخصصت فحسن جعلها ذات الحال ، فكذلك نقول ههنا الريح موصوفة بالصرصر ، والتنكير فيه للتعظيم ، وإلا فهي ثلاثة فلا يبعد جعلها ذات حال ، وفيه وجه آخر ، وهو أنه كلام مستأنف على فعل وفاعل ، كما تقول : جاء زيد جذبني ، وتقديره جاء فجذبني ، كذلك ههنا قال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} (القمر : 19) / فأصبحت {تَنزِعُ النَّاسَ} ويدل عليه قوله تعالى : {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى } (الحاقة : 7) فالتاء في قوله : {تَنزِعُ النَّاسَ} إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : {صَرْعَى } وقوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} فيه وجوه أحدها : نزعتهم فصرعتهم : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} كما قال : {صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} ثانيها : نزعتهم فهم بعد النزع : كأنهم أعجاز نخل وهذا أقرب ، لأن الانقعار قبل الوقوع ، فكأن الريح تنزع (الواحد) وتقعر(ه) فينقعر فيقع فيكون صريعاً ، فيخلو الموضع عنه فيخوى ، وقوله في الحاقة : {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} إشارة إلى حالة بعد الانقعار الذي هو بعد النزع ، وهذا يفيد أن الحكاية ههنا مختصرة حيث لم يشر إلى صرعهم وخلو منازلهم عنهم بالكلية ، فإن حال الانقعار لا يحصل الخلو التام إذ هو مثل الشروع في الخروج والأخذ فيه ثالثها : تنزعهم نزعاً بعنف كأنهم أعجاز نخل تقعرهم فينقعروا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض ، وفي المعنى وجوه أحدها : أنه ذكر ذلك إشارة إلى عظمة أجسادهم وطول أقدادهم ثانيها : ذكره إشارة إلى ثباتهم في الأرض ، فكأنهم كانوا يعملون أرجلهم في الأرض ويقصدون المنع به على الريح وثالثها : ذكره إشارة إلى يبسهم وجفافهم بالريح ، فكانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 306
(1/4276)

المسألة الثانية : قال ههنا : {مُّنقَعِرٍ} فذكر النخل ، وقال في الحاقة : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} فأنثها ، قال المفسرون : في تلك السورة كانت أواخر الآيات تقتضي ذلك لقوله : {مُّسْتَمِرٌّ} (القمر : 19 ، 11 ، 7) وهو جواب حسن ، فإن الكلام كما يزين بحسن المعنى يزين بحسن اللفظ ، ويمكن أن يقال : النخل لفظه لفظ الواحد ، كالبقل والنمل ومعناه معنى الجمع ، فيجوز أن يقال فيه : نخل منقعر ومنقعرة ومنقعرات ، ونخل خاوٍ وخاوية وخاويات ونخل باسق وباسقة وباسقات ، فإذا قال قائل : منقعر أو خاوٍ أو باسق جرد النظر إلى اللفظ ولم يراع جانب المعنى ، وإذا قال : منقعرات أو خاويات أو باسقات جرد النظر إلى المعنى ولم يراع جانب اللفظ ، وإذا قال : منقعرة أو خاوية أو باسقة جمع بين الاعتبارين من حيث وحدة اللفظ ، وربما قال : منقعرة على الإفراد من حيث اللفظ ، وألحق به تاء التأنيث التي في الجماعة إذا عرفت هذا فنقول : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ، ووصفها على الوجوه الثلاثة ، فقال : {وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَـاتٍ} (ق : 10) فإنها حال منها وهي كالوصف ، وقال : {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الحاقة : 7) وقال : {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} فحيث قال : {مُّنقَعِرٍ} كان المختار ذلك لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول ، لأنه الذي ورد عليه القعر فهو مقعور ، والخاو والباسق فاعل ومعناه إخلاء ما هو مفعول من علامة التأنيث أولاً ، كما تقول : امرأة كفيل ، وامرأة كفيلة ، وامرأة كبير ، وامرأة كبيرة. وأما الباسقات ، فهي فاعلات حقيقة ، لأن البسوق أمر قام بها ، وأما الخاوية ، فهي من باب حسن الوجه ، لأن الخاوي موضعها ، فكأنه قال : نخل خاوية المواضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث / اللفظ ، فكان الدليل يقتضي ذلك ، بخلاف الشاعر الذي يختار اللفظ على المذهب الضعيف لأجل الوزن والقافية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 306
307
وتفسيره قد تقدم والتكرير للتقرير ، وفي قوله : {عَذَابِى وَنُذُرِ} لطيفة ما ذكرناها ، وهي تثبت بسؤال وجواب لو قال القائل : أكثر المفسرين على أن النذر في هذا الموضع جمع نذير الذي هو مصدر معناه إنذار ، فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقل : فكيف كان أنواع عذابي ووبال إنذاري ؟
نقول : فيه إشارة إلى غلبة الرحمة الغضب ، وذلك لأن الإنذار إشفاق ورحمة ، فقال : الإنذارات التي هي نعم ورحمة تواترت ، فلما لم تنفع وقع العذاب دفعة واحدة ، فكانت النعم كثيرة ، والنقمة واحدة وسنبين هذا زيادة بيان حين نفسر قوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 13) حيث جمع الآلاء وكثر ذكرها وكررها ثلاثين مرة ، ثم بين الله تعالى حال قوم آخرين. فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 307
308
(1/4277)

وقد تقدم تفسيره غير أنه في قصة عاد قال : {كَذَّبَتْ} (القمر : 18) ولم يقل : بالنذر ، وفي قصة نوح قال : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (الشعراء : 105) فنقول : هذا يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بقوله : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (القمر : 9) أن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً بناء على مذهبهم وإنما صرح ههنا لأن كل قوم يأتون بعد قوم وأتاهما رسولان فالمكذب المتأخر يكذب المرسلين جميعاً حقيقة والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزمهم تكذيب من بعده بناء على ذلك لأنهم لما كذبوا من تقدم في قوله : الله تعالى واحد ، والحشر كائن ، ومن أرسل بعده كذلك قوله ومذهبه لزم منه أن يكذبوه ويدل على هذا أن الله تعالى قال في قوم نوح : {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ} (الأعراف : 64) وقال في عاد : {عَادٌا جَحَدُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَه وَاتَّبَعُوا } (هود : 59) وأما قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (الشعراء : 105) فإشارة إلى أنهم كذبوا وقالوا ما يفضي إلى تكذيب جميع المرسلين ، ولهذا ذكره بلفظ الجمع المعرف للاستغراق ، ثم إنه تعالى قال هناك عن نوح : {رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ} (الشعراء : 117) ولم يقل : كذبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا أن ما ألزمهم لزمه. إذا عرفت هذا فلما سبق قصة ثمود ذكر رسولين ورسولهم ثالثهم قال : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} هذا كله إذا قلنا إن النذر جمع نذير بمعنى منذر ، أما إذا قلنا إنها الإنذارات فنقول : قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم ، وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرح بها ، وقوله : {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه } (القمر : 24) يؤيد الوجه الأول ، لأن من يقول لا أتبع بشراً مثلي وجميع المرسلين من البشر يكون مكذباً للرسل والباء في قوله {بِالنُّذُرِ} يؤيد الوجه الثاني لأنا بينا أن الله تعالى في تكذيب الرسل عدى التكذيب بغير حرف فقال : {كَذَّبُوه } (الأعراف : 64) {وَكَذَّبُوا } (غافر : 70) {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} (القمر : 9) (المؤمنون : 26) وقال : {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ} (الأنفال : 54) (البقرة : 39) فعدى بحرف لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب والقائل هو الذي يكون كاذباً حقيقة والكلام والقول يقال فيه كاذب مجازاً وتعلق التكذيب بالقائل أظهر فيستغني عن الحرف بخلاف القول ، وقد ذكرنا ذلك وبيناه بياناً شافياً.
جزء : 29 رقم الصفحة : 308
308
وفي قوله تعالى : {بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه } مسائل :
المسألة الأولى : زيداً ضربته وزيد ضربته كلاهما جائز والنصب مختار في مواضع منها هذا الموضع وهو الذي يكون ما يرد عليه النصب والرفع بعد حرف الاستفهام ، والسبب في اختيار النصب أمر معقول وهو أن المستفهم يطلب من المسئول أن يجعل ما ذكره بعد حرف الاستفهام مبدأ لكلامه ويخبر عنه ، فإذا قال : أزيد عندك معناه أخبرني عن زيد واذكر لي حاله ، فإذا انضم إلى هذه الحالة فعل مذكور ترجح جانب النصب فيجوز أن يقال : أزيداً ضربته وإن لم يجب فالأحسن ذلك فإن قيل : من قرأ {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه } كيف ترك الأجود ؟
نقول : نظراً إلى قوله تعالى : {فَقَالُوا } إذ ما بعد القول لا يكون إلا جملة والاسمية أولى والأولى أقوى وأظهر.
(1/4278)

المسألة الثانية : إذا كان بشراً منصوباً بفعل ، فما الحكمة في تأخر الفعل في الظاهر ؟
نقول : قد تقدم مراراً أن البليغ يقدم في الكلام ما يكون تعلق غرضه به أكثر وهم كانوا يريدون تبيين كونهم محقين في ترك الاتباع فلو قالوا : أنتبع بشراً يمكن أن يقال نعم اتبعوه وماذا يمنعكم من اتباعه ، فإذا قدموا حاله وقالوا هو نوعنا بشر ومن صنفنا رجل ليس غريباً نعتقد فيه أنه يعلم ما لا نعلم أو يقدر مالا نقدر وهو واحد وحيد وليس له جند وحشم وخيل وخدم فكيف نتبعه ، فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع من الاتباع ، واعلم أن في هذه الآية إشارات إلى ذلك أحدها : نكروه حيث قالوا {أَبَشَرًا} ولم يقولوا : أنتبع صالحاً أو الرجل المدعي النبوة أو غير ذلك من المعرفات والتنكير تحقير ثانيها : قالوا أبشراً ولم يقولوا أرجلاً ثالثها : قالوا {مِّنَّا} وهو يحمل أمرين أحدهما من صنفنا ليس غريباً ، وثانيهما {مِّنَّا} أي تبعنا يقول القائل لغيره أنت منا فيتأذى السامع ويقول : لا بل أنت منا ولست أنا منكم ، وتحقيقه أن من للتبعيض والبعض يتبع الكل لا الكل يتبع البعض رابعها : {وَاحِدًا} يحتمل أمرين أيضاً أحدهما : وحيداً إلى ضعفه وثانيهما : واحداً أي هو من الآحاد لا من الأكابر المشهورين ، وتحقيق القول في استعمال الآحاد في الأصاغر حيث يقال : هو من آحاد الناس هو أن من لا يكون مشهوداً بحسب ولا نسب إذا حدث عنه / من لا يعرفه فلا يمكن أن يقول عنه قال فلان أو ابن فلان فيقول قال واحد وفعل واحد فيكون ذلك غاية الخمول ، لأن الأرذل لا ينضم إليه أحد فيبقى في أكثر أوقاته واحداً فيقال : للأرذال آحاد.
جزء : 29 رقم الصفحة : 308
وقوله تعالى عنهم : {إِنَّآ إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكونوا قد قالوا في جواب من يقول لهم إن لم تتبعوه تكونوا في ضلال ، فيقولون له : لا بل إن تبعناه نكون في ضلال ثانيهما : أن يكون ذلك ترتيباً على ما مضى أي حاله ما ذكرنا من الضعف والوحدة فإن اتبعناه نكون في ضلال وسعر أي جنون على هذا الوجه ، فإن قلنا : إن ذلك قالوه على سبيل الجواب فيكون القائل قال لهم : إن لم تتبعوه فإنا إذاً في الحال في ضلال وفي سعر في العقبى فقالوا : لا بل لو اتبعناه فإنا إذاً في الحال في ضلال وفي سعر من الذل والعبودية مجازاً فإنهم ما كانوا يعترفون بالسعير.
المسألة الثالثة : السعير في الآخرة واحد فكيف جمع ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه أحدها : في جهنم دركات يحتمل أن تكون كل واحدة سعيراً أو فيها سعير ثانيها : لدوام العذاب عليهم فإنه كلما نضجت جلودهم يبدلهم جلوداً كأنهم في كل زمان في سعير آخر وعذاب آخر ثالثها : لسعة السعير الواحد كأنها سعر يقال للرجل الواحد : فلان ليس برجل واحد بل هو رجال.
[بم ثم قال تعالى عنهم :
جزء : 29 رقم الصفحة : 308
310
وقد تقدم أن النفي بطريق الاستفهام أبلغ لأن من قال : ما أنزل عليه الذكر ربما يعلم أو يظن أو يتوهم أن السامع يكذبه فيه فإذا ذكر بطريق الاستفهام يكون معناه أن السامع يجيبني بقوله : ما أنزل فيجعل الأمر حينئذ منفياً ظاهراً لا يخفى على أحد بل كل أحد يقول : ما أنزل ، والذكر الرسالة أو الكتاب إن كان ويحتمل أن يراد به ما يذكره من الله تعالى كما يقال الحق ويراد به ما يحل من الله وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قولهم أألقي بدل أأنزل وفيه إشارة إلى ما كانوا ينكرونه من طريق المبالغة وذلك لأن الإلقاء إنزال بسرعة والنبي كان يقول : "جاءني الوحي مع الملك في لحظة يسيرة" فكأنهم قالوا : الملك جسم والسماء بعيدة فكيف ينزل في لحظة فقالوا : أألقي وما قالوا : أأنزل ، وقولهم عليه إنكار آخر كأنهم قالوا : ما ألقى ذكر أصلاً ، قالوا : إن ألقى فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء ، وقولهم أألقى بدل عن قولهم أألقي الله للإشارة إلى أن الإلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى.
المسألة الثانية : عرفوا الذكر ولم يقولوا : أألقى عليه ذكر ، وذلك لأن الله تعالى حكى إنكارهم / لما لا ينبغي أن ينكر فقال : أنكروا الذكر الظاهر المبين الذي لا ينبغي أن ينكر فهو كقول القائل : أنكروا المعلوم.
المسألة الثالثة : {بَلِ} يستدعي أمراً مضروباً عنه سابقاً فما ذاك ؟
نقول قولهم : أألقى للإنكار فهم قالوا : ما ألقى ، ثم إن قولهم : أألقى عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بنبي ، ثم قالوا : بل هو ليس بصادق.
(1/4279)

المسألة الرابعة : {الْكَذَّابُ} فعال من فاعل للمبالغة أو يقال : بل من فاعل كخياط وتمار ؟
نقول : الأول هو الصحيح الأظهر على أن الثاني من باب الأولى لأن المنسوب إلى الشيء لا بد له من أن يكثر من مزاولة الشيء فإن من خاط يوماً ثوبه مرة لا يقال له خياط ، إذا عرفت هذا فنقول المبالغة إما في الكثرة ، وإما في الشدة فالكذاب ، إما شديد الكذب يقول مالا يقبله العقل أو كثير الكذب ، ويحتمل أن يكونوا وصفوه به لاعتقادهم الأمرين فيه وقولهم : {أَشِرٌ} إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة إلى خلاص كما يكذب الضعيف ، وإنما هو استغنى وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد اتباعكم له فكان كل وصف مانعاً من الاتباع لأن الكاذب لا يلتفت إليه ، ولا سيما إذا كان كذبه لا لضرورة ، وقرىء : {أَشِرٌ} فقال المفسرون : هذا على الأصل المرفوض في الأشر والأخير على وزن أفعل التفضيل ، وإنما رفض الأصل فيه لأن أفعل إذا فسر قد يفسر بأفعل أيضاً والثاني بأفعل ثالث ، مثاله إذا قال : ما معنى الأعلم ؟
يقال : هو الأكثر علماً فإذا قيل : الأكثر ماذا ؟
فيقال : الأزيد عدداً أو شيء مثله فلا بد من أمر يفسر به الأفعل لا بمن بابه فقالوا : أفعل التفضيل والفضيلة أصلها الخير والخير أصل في باب أفعل فلا يقال : فيه أخير ، ثم إن الشر في مقابلة الخير يفعل به ما يفعل بالخير فيقال هو شر من كذا وخير من كذا والأشر في مقابلة الأخير ، ثم إن خيراً يستعمل في موضعين : أحدهما : مبالغة الخير بفعل أو أفعل على اختلاف يقال : هذا خير وهذا أخير ويستعمل في مبالغة خير على المشابهة لا على الأصل فمن يقول : أشر يكون قد ترك الأصل المستعمل لأنه أخذ في الأصل المرفوض بمعنى هو شر من غيره وكذا معنى الأعلم أن علمه خير من علم غيره ، أو هو خير من غرة الجهل كذلك القول في الأضعف وغيره.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 310
311
فإن قال قائل : سيعلم للاستقبال ووقت أنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا قد علموا ، لأن بعد الموت تتبين الأمور وقد عاينوا ما عاينوا فكيف القول فيه ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : أن يكون هذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم : بل هو كذاب أشر ، فكأنه تعالى قال يوم قالوا : بل هو كذاب أشر سيعلمون غداً وثانيهما : أن هذا التهديد بالتعذيب لا بحصول العلم بالعذاب الأليم وهو عذاب جهنم لا عذاب القبر فهم سيعذبون يوم القيامة وهو مستقبل وقوله تعالى : {غَدًا} لقرب الزمان في الإمكان والأذهان / ثم إن قلنا : إن ذلك للتهديد بالتعذيب لا للتكذيب فلا حاجة إلى تفسيره بل يكون ذلك إعادة لقولهم من غير قصد إلى معناه ، وإن قلنا : هو للرد والوعد ببيان انكشاف الأمر فقوله تعالى : {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} معناه سيعلمون غداً أنهم الكاذبون الذين كذبوا لا لحاجة وضرورة ، بل بطروا وأشروا لما استغنوا ، وقوله تعالى : {غَدًا} يحتمل أن يكون المراد يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون المراد يوم العذاب وهذا على الوجه الأول.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 311
311
وفيه مسائل :
(1/4280)

المسألة الأولى : قوله : {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} بمعنى الماضي أو بمعنى المستقبل ، إن كان بمعنى الماضي فكيف يقول : {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} وإن كان بمعنى المستقبل فما الفرق بين حكاية عاد وحكاية ثمود حيث قال هناك : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا} (القمر : 19) وقال ههنا : {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} بمعنى إنا نرسل ؟
نقول : هو بمعنى المستقبل ، وما قبله وهو قوله : {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} يدل عليه ، فإن قوله : {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} كالبيان له ، كأنه قال سيعلمون حيث : نرسل الناقة وما بعده من قوله : {فَارْتَقِبْهُمْ} {وَنَبِّئْهُمْ} (القمر : 28) أيضاً يقتضي ذلك ، فإن قيل قوله تعالى : {فَنَادَوْا } (القمر : 29) دليل على أن المراد الماضي قلنا سنجيب عنه في موضعه ، وأما الفارق فنقول : حكاية ثمود مستقصاة في هذا الموضع حيث ذكر تكذيب القوم بالنذر وقولهم لرسولهم وتصديق الرسل بقوله : {يَعْلَمُونَ} وذكر المعجزة وهي الناقة وما فعلوه بها والعذاب والهلاك يذكر حكاية على وجه الماضي والمستقبل ليكون وصفه للنبي صلى الله عليه وسلّم كأنه حاضرها فيقتدي بصالح في الصبر والدعاء إلى الحق ويثق بربه في النصر على الأعداء بالحق فقال : إني مؤيدك بالمعجزة القاطعة ، واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص ، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه لأن حال صالح كان أكثر مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلّم ، لأنه أتى بأمر عجيب أرضى كان أعجب مما جاء به الأنبياء ، لأن عيسى عليه السلام أحيا الميت لكن الميت كان محلاً للحياة فأثبت بإذن الله الحياة في محل كان قابلاً لها ، وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً فأثبت الله له في الخشبة الحياة لكن الخشبة نبات كان له قوة في النماء يشبه الحيوان في النمو فهو أعجب ، وصالح عليه السلام كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر والحجر جماد لا محل للحياة ولا محل للنمو (فيه) والنبي صلى الله عليه وسلّم أتى بأعجب من الكل وهو التصرف في جرم السماء الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء ولا إمكان لشقه وخرقه ، وأما الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كل واحد منها صورة الأخرى ، والسموات لا تقبل ذلك فلما أتى بما عرفوا فيه أنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتم وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم معجزة من معجزات من كان من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلّم (وفيه لطيفة) وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى / الماضي. وذكر معه مفعوله فالواجب الإضافة تقول : وحشي قاتل عم النبي صلى الله عليه وسلّم. فإن قلنا : قاتل عم النبي بالإعمال فلا بد من تقدير الحكاية في الحال كما في قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 311
{وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} (الكهف : 18) على أنه يحكي القصة في حال وقوعها تقول : خرجت أمس فإذا زيد ضارب عمراً كما تقول : يضرب عمراً ، وإن كان الضرب قد مضى ، وإذا كان بمعنى المستقبل فالأحسن الإعمال تقول : إني ضارب عمراً غداً ، فإن قلت إني ضارب عمرو غداً حيث كان الأمر وقع وكان جاز لكنه غير الأحسن ، والتحقيق فيه أن قولنا : ضارب وسارق وقاتل أسماء في الحقيقة غير أن لها دلالة على الفعل فإذا كان الفعل تحقق في الماضي فهو قد عدم حقيقة فلا وجود للفعل في الحقيقة ولا في التوقع فيجب الحمل على ما للاسم من الإضافة وترك ما للفعل من الأعمال لغلبة الإسمية وفقدان الفعل بالماضي ، وإذا كان الفعل حاضراً أو متوقعاً في الاستقبال فله وجود حقيقة أو في التوقع فتجوز الإضافة لصورة الاسم/ والإعمال لتوقع الفعل أو لوجوده ولكن الإعمال أولى لأن في الاستقبال لن يضرب يفيد لا يكون ضارباً فلا ينبغي أن يضاف ، أما الإعمال فهو ينبىء عن توقع الفعل أو وجوده ، لأنه إذا قال : زيد ضارب عمراً فالسامع إذا سمع بضرب عمرو علم أنه يفعل فإذا لم يره في الحال يتوقعه في الاستقبال غير أن الإضافة تفيد تخفيفاً حيث سقط بها التنوين والنون فتختار لفظاً لا معنى ، إذا عرفت هذا فنقول : {مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} مع ما فيه من التخفيف فيه تحقيق الأمر وتقديره كأنه وقع وكان بخلاف ما لو قيل : إنا نرسل الناقة.
(1/4281)

المسألة الثانية : {فِتْنَةً} مفعول له فتكون الفتنة هي المقصودة من الإرسال لكن المقصود منه تصديق النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهو صالح عليه السلام لأنه معجزة فما التحقيق في تفسيره ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : أن المعجزة فتنة لأن بها يتميز حال من يثاب ممن يعذب ، لأن الله تعالى بالمعجزة لا يعذب الكفار إلا إذا كان ينبئهم بصدقه من حيث نبوته فالمعجزة ابتلاء لأنها تصديق وبعد التصديق يتميز المصدق عن المكذب وثانيهما : وهو أدق أن إخراج الناقة من الصخرة كان معجزة وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة ولهذا قال : {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً} ولم يقل : إنا مخرجوا الناقة فتنة ، والتحقيق في الفتنة والابتلاء والامتحان قد تقدم مراراً وإليه إشارة خفية وهي أن الله تعالى يهدي من يشاء وللهداية طرق ، منها ما يكون على وجه يكون للإنسان مدخل فيه بالكسب ، مثاله يخلق شيئاً دالاً ويقع تفكر الإنسان فيه ونظره إليه على وجه يترجح عنده الحق فيتبعه وتارة يلجئه إليه ابتداء ويصونه عن الخطأ من صغره فإظهار المعجز على يد الرسول أمر يهدي به من يشاء اهتداء مع الكسب وهداية الأنبياء من غير كسب منهم بل يخلق فيهم علوماً غير كسبية فقوله : {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً} إشارة إليهم ، ولهذا قال لهم : ومعناه على وجه يصلح لأن يكون فتنة وعلى هذا كل من كانت معجزته أظهر يكون ثواب قومه أقل ، وقوله تعالى : {فَارْتَقِبْهُمْ} أي فارتقبهم بالعذاب ، ولم يقل : فارتقب العذاب إشارة إلى حسن الأدب والاجتناب عن طلب الشر وقوله تعالى : / {وَاصْطَبِرْ} يؤيد ذلك بمعنى إن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى قرب الوقت إلى أمرهما والأمر بحيث يعجز عن الصبر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 311
311
أي مقسوم وصف بالمصدر مراداً به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زور وفيه ضرب من المبالغة يقال للكريم : كرم كأنه هو عين الكرم ويقال : فلان لطف محض ، ويحتمل أن تكون القسمة وقعت بينهما لأن الناقة كانت عظيمة وكانت حيوانات القوم تنفر منها ولا ترد الماء وهي على الماء ، فصعب عليهم ذلك فجعل الماء بينهما يوماً للناقة ويوماً للقوم ، ويحتمل أن تكون لقلة الماء فشربه يوماً للناقة ويوماً للحيوانات ، ويحتمل أن يكون الماء كان بينهم قسمة يوم لقوم ويوم لقوم ولما خلق الله الناقة كانت ترد الماء يوم فكان الذين لهم الماء في غير يوم ورودها يقولون : الماء كله لنا في هذا اليوم ويومكم كان أمس والناقة ما أخرت شيئاً فلا نمكنكم من الورود أيضاً في هذا اليوم فيكون النقصان وارداً على الكل وكانت الناقة تشرب الماء بأسره وهذا أيضاً ظاهر ومنقول والمشهور هنا الوجه الأوسط ، ونقول : إن قوماً كانوا يكتفون بلبنها يوم ورودها الماء والكل ممكن ولم يرد في شيء خبر متواتر والثالث : قطع وهو من القسمة لأنها مثبتة بكتاب الله تعالى أما كيفية القسمة والسبب فلا وقوله تعالى : {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} مما يؤيد الوجه الثالث أي كل شرب محتضر للقوم بأسرهم لأنه لو كان ذلك لبيان كون الشرب محتضراً للقوم أو الناقة فهو معلوم لأن الماء ما كان يترك من غير حضور وإن كان لبيان أنه تحضره الناقة يوماً والقوم يوماً فلا دلالة في اللفظ عليه ، وأما إذا كانت العادة قبل الناقة على أن يرد الماء قوم في يوم وآخرون في يوم آخر ، ثم لما خلقت الناقة كانت تنقص شرب البعض وتترك شرب الباقين من غير نقصان ، فقال : {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} كم أيها القوم فردوا كل يوم الماء وكل شرب ناقص تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 311
312
ثم قال تعالى : {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} نداء المستغيث كأنهم قالوا : يالقدار للقوم ، كما يقول القائل : بالله للمسلمين وصاحبهم قدار وكان أشجع وأهجم على الأمور ويحتمل أن يكون رئيسهم.
وقوله تعالى : {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} يحتمل وجوهاً الأول : تعاطى آلة العقر فعقر الثاني : تعاطى الناقة فعقرها وهو أضعف الثالث : التعاطي يطلق ويراد به الإقدام على الفعل العظيم والتحقيق هو أن الفعل العظيم يقدم كل أحد فيه صاحبه ويبرىء نفسه منه فمن يقبله ويقدم عليه يقال : تعاطاه كأنه كان فيه تدافع فأخذه هو بعد التدافع الرابع : أن القوم جعلوا له على عمله جعلاً فتعاطاه وعقر الناقة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 312
312
(1/4282)

/ وقد تقدم بيانه وتفسيره غير أن هذه الآية ذكرها في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب ، وذكرها ههنا قبل بيان العذاب ، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه ، فحيث ذكر قبل بيان العذاب ذكرها للبيان كما تقول : ضربت فلاناً أي ضرب وأيما ضرب ، وتقول : ضربته وكيف ضربته أي قوياً ، وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام وقد ذكرنا السبب فيه ، ففي حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصاً بهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 312
314
سمعوا صيحة فماتوا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كان في قوله : {فَكَانُوا } من أي الأقسام ؟
نقول : قال النحاة تجيء تارة بمعنى صار وتمسكوا بقول القائل :
بتيماء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
بمعنى صارت فقال بعض المفسرين : في هذا موضع إنها بمعنى صار ، والتحقيق أن كان لا تخالف غيرها من الأفعال الماضية اللازمة التي لا تتعدى والذي يقال إن كان تامة وناقصة وزائدة وبمعنى صار فليس ذلك يوجب اختلاف أحوالها اختلافاً يفارق غيرها من الأفعال وذلك لأن كان بمعنى وجد أو حصل أو تحقق غير أن الذي وجد تارة يكون حقيقة الشيء وأخرى صفة من صفاته فإذا قلت : كانت الكائنة وكن فيكون جعلت الوجود والحصول للشيء في نفسه فكأنك قلت : وجدت الحقيقة الكائنة وكن أي احصل فيوجد في نفسه وإذا قلت : كان زيد عالماً أي وجد علم زيد ، غير أنا نقول في وجد زيد عالماً إن عالماً حال ، وفي كان زيد عالماً نقول : إنه خبر كقولنا حصل زيد عالماً غير أن قولنا وجد زيد عالماً ربما يفهم منه أن الوجود والحصول لزيد في تلك الحال كما تقول قام زيد منتحياً حيث يكون القيامة لزيد في تلك الحال ، وقولنا : كان زيد عالماً ليس معناه كان زيد وفي تلك الحال هو عالم لكن هذا لا يوجب أن كان على خلاف غيره من الأفعال اللازمة التي لها بالحال تعلق شديد ، لأن من يفهم من قولنا حصل زيد اليوم على أحسن حال ما نفهمه من قولنا خرج زيد اليوم في أحسن زي لا يمنعه مانع من أن يفهم من قولنا : كان زيد على أحسن حال مثل ما فهم هناك ، إذا عرفت هذا فنقول : الفعل الماضي يطلق تارة على ما يوجد في الزمان المتصل / بالحاضر ، كقولنا : قام زيد في صباه ، ويطلق تارة على ما يوجد في الزمان الحاضر كقولنا قام زيد فقم وقم فان زيداً قام ، وكذلك القول في كان ربما يقال كان زيد قائماً عام كذا وربما يقال كان زيد قائماً الآن كما في قام زيد فقوله تعالى : {فَكَانُوا } فيه استعمال الماضي فيما اتصل بالحال فهو كقولك أرسل عليهم صيحة فماتوا أي متصلاً بتلك الحال ، نعم لو استعمل في هذا الموضع صار يجوز لكن كان وصار كل واحد بمعنى في نفسه وليس وإنما يلزم حمل كان على صار إذا لم يمكن أن يقال هو كذا كما في البيت حيث لا يمكن أن يقال : البيوض فراخ ، وأما هنا يمكن أن يقال هم كهشيم ولولا الكاف لأمكن أن يقال : يجب حمل كان على صار إذا كان المراد أنهم انقلبوا هشيماً كما يقلب الممسوخ وليس المراد ذلك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 314
المسألة الثانية : ما الهشيم ؟
نقول هو المهشوم أي المكسور وسمي هاشم هاشماً لهشمه الثريد في الجفان غير أن الهشيم استعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس ، فقال المفسرون : كانوا كالحشيش الذي يخرج من الحظائر بعد البلا بتفتت ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : {هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَـاحُ } (الكهف : 54) وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف كما يقال : رأيت جريحاً ومثله السعير.
المسألة الثالثة : لماذا شبههم به ؟
قلنا : يحتمل أن يكون التشبيه بكونهم يابسين كالحشيش بين الموتى الذين ماتوا من زمان وكأنه يقول : سمعوا الصيحة فكانوا كأنهم ماتوا من أيام ، ويحتمل أن يكون لأنهم انضموا بعضهم إلى بعض كما ينضم الرفقاء عند الخوف داخلين بعضهم في بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كحطب الحاطب الذي يصفه شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه شيئاً فإن الحطاب الذي عنده الحطب الكثير يجعل منه كالحظيرة/ ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد فهو محقق لقوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 98) وقوله تعالى : {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الجن : 15) وقوله : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) كذلك ماتوا فصاروا كالحطب الذي لا يكون إلا للإحراق لأن الهشيم لا يصلح للبناء.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 314
315
والتكرار للتذكار. ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال :
جزء : 29 رقم الصفحة : 315
315
ثم بين عذابهم وإهلاكهم ، فقال :
وفيه مسائل :
(1/4283)

الأولى : الحاصب فاعل من حصب إذا رمى الحصباء وهي اسم الحجارة والمرسل عليهم / هو نفس الحجارة قال الله تعالى : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} (الحجر : 74) وقال تعالى عن الملائكة : {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} (الذاريات : 33) فالمرسل عليهم ليس بحاصب فكيف الجواب عنه ؟
نقول : الجواب من وجوه الأول : أرسلنا عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة التي هي الحصباء وكثر استعمال الحاصب في الريح الشديدة فأقام الصفة مقام الموصوف ، فإن قيل : هذا ضعيف من حيث اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلأن الريح مؤنثة قال تعالى : {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الحاقة : 6) ، {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (يونس : 22) وقال تعالى : {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه } (ص : 36) وقال تعالى : {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} (سبأ : 12) وقال تعالى في : {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر : 22) وما قال لقاحاً ولا لقحة ، وأما المعنى فلأن الله تعالى بين أنه أرسل عليهم حجارة من سجيل مسومة عليها علامة كل واحد وهي لا تسمى حصباء ، وكان ذلك بأيدي الملائكة لا بالريح ، نقول : تأنيث الريح ليس حقيقة ولها أصناف الغالب فيها التذكير كالإعصار ، قال تعالى : {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} (البقرة : 266) فلما كان حاصب حجارة كان كالذي فيه نار ، وأما قوله : كان الرمي بالسجيل لا بالحصباء ، وبأيدي الملائكة لا بالريح ، فنقول : كل ريح يرمي بحجارة يسمى حاصباً ، وكيف لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصباً تشبيهاً للبرد بالحصباء ، فكيف لا يقال في السجيل. وأما الملائكة فإنهم حركوا الريح وهي حصبت الحجارة عليهم الجواب الثاني : المراد عذاب حاصب وهذا أقرب لتناوله الملك والحساب والريح وكل ما يفرض الجواب الثالث : قوله : {حَاصِبًا} هو أقرب من الكل لأن قوله : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا} يدل على مرسل هو مرسل الحجارة وحاصبها ، فإن قيل : كان ينبغي أن يقول حاصبين ، نقول لما لم يذكر الموصوف رجح جانب اللفظ كأنه قال شيئاً حاصباً إذ المقصود بيان جنس العذاب لا بيان من على يده العذاب ، وهذا وارد على من قال : الريح مؤنث لأن ترك التأنيث هناك كترك علامة الجمع هنا.
جزء : 29 رقم الصفحة : 315
المسألة الثانية : ما رتب الإرسال على التكذيب بالفاء فلم يقل : (كذبت قوم لوط بالنذر) فأرسلنا كما قال : {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ} (القمر : 11) لأن الحكاية مسوقة على مساق ما تقدم من الحكايات ، فكأنه قال : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} (القمر : 30) كما قال من قبل ثم قيل : لا علم لنا به وإنماأنت العليم فأخبرنا ، فقال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا} .
المسألة الثالثة : ما الحكمة في ترك العذاب حيث لم يقل : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} كما قال في الحكايات الثلاث ، نقول : لأن التكرار ثلاث مرات بالغ ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم : "ألا هل بلغت ثلاثاً" وقال صلى الله عليه وسلّم : "فنكاحها باطل باطل باطل" والإذكار تكرر ثلاث مرات فبثلاث مرار حصل التأكيد وقد بينا أنه تعالى ذكر : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} في حكاية نوح للتعظيم وفي حكاية ثمود للبيان وفي حكاية عاد أعادها مرتين للتعظيم والبيان جميعاً واعلم أنه تعالى ذكر : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى} في ثلاث حكايات أربع مرات فالمرة الواحدة للإنذار ، والمرات الثلاث للإذكار/ لأن المقصود حصل بالمرة الواحدة ، وقوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 13) ذكره مرة للبيان وأعادها ثلاثين مرة غير المرة الأولى كما أعاد : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} ثلاث مرات غير المرة / الأولى فكان ذكر الآلاء عشرة أمثال ذكر العذاب إشارة إلى الرحمة التي قال في بيانها {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا} (الأنعام : 160) وسنبين ذلك في سورة : الرحمن.
جزء : 29 رقم الصفحة : 315
(1/4284)

المسألة الرابعة : {إِلا ءَالَ لُوطٍ } استثناء مماذا ؟
إن كان من الذين قال فيهم : {إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةًا وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ا أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} ثم قال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} لكن لم يستثن عند قوله : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوط } وآله من قومه فيكون آله قد كذبوا ولم يكن كذلك ؟
الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الاستثناء ممن عاد إليهم الضمير في عليهم وهم القوم بأسرهم غير أن قوله : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوط } لا يوجب كون آله مكذبين ، لأن قول القائل : عصى أهل بلدة كذا يصح وإن كان فيها شرذمة قليلة يطيعون فكيف إذا كان فيهم واحد أو اثنان من المطيعين لا غير ، فإن قيل : ماله حاجة إلى الاستثناء لأن قوله : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} يصح وإن نجا منهم طائفة يسيرة نقول : الفائدة لما كانت لا تحصل إلا ببيان إهلاك من كذب وإنجاء من آمن فكان ذكر الإنجاء مقصوداً ، وحيث يكون القليل من الجمع الكثير مقصوداً لا يجوز التعميم والإطلاق من غير بيان حال ذلك المقصود بالاستثناء أو بكلام منفصل مثاله : {فَسَجَدَ الْمَلَـا اـاِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ} (الحجر : 30 ، 31) استثنى الواحد لأنه كان مقصوداً ، وقال تعالى : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23) ولم يستثن إذ المقصود بيان أنها أوتيت ، لا بيان أنها ما أوتيت ، وفي حكاية إبليس كلاهما مراد ليعلم أن من تكبر على آدم عوقب ومن تواضع أثيب كذلك القول ههنا ، وأما عند التكذيب فكأن المقصود ذكر المكذبين فلم يستثن الجواب الثاني : أن الاستثناء من كلام مدلول عليه ، كأنه قال : (إنا أرسلنا عليهم حاصباً فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط) ، وجاز أن يكون الإرسال عليهم والإهلاك يكون عاماً كما في قوله تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً } (الأنفال : 25) فكان الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً ومن لم يكن كذلك كأطفالهم ودوابهم ومساكنهم فما نجا منهم أحد إلا آل لوط. فإن قيل إذا لم يكن الاستثناء من قوم لوط بل كان من أمر عام فيجب أن يكون لوط أيضاً مستثنى ؟
نقول : هو مستثنى عقلاً لأن من المعلوم أنه لا يجوز تركه وإنجاء أتباعه والذي يدل عليه أنه مستثنى قوله تعالى عن الملائكة :
جزء : 29 رقم الصفحة : 315
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّه وَأَهْلَه ا إِلا امْرَأَتَه } (العنكبوت : 32) في جوابهم لإبراهيم عليه السلام حيث قال : {إِنَّ فِيهَا لُوطًا } (العنكبوت : 32) فإن قيل قوله في سورة الحجر : {إِلا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} (الحجر : 59) استثناء من المجرمين وآل لوط لم يكونوا مجرمين فكيف استثنى منهم ؟
والجواب مثل ما ذكرنا فأحد الجوابين إنا أرسلنا إلى قوم يصدق عليهم إنهم مجرمون وإن كان فيهم من لم يجرم ثانيهما : إلى قوم مجرمين بإهلاك يعم الكل إلا آل لوط ، وقوله تعالى : {نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ} كلام مستأنف لبيان وقت الإنجاء أو لبيان كيفية الاستثناء لأن آل لوط كان يمكن أن يكونوا فيهم ولا يصيبهم الحاصب كما في عاد كانت الريح تقلع الكافر ولا يصيب المؤمن منها مكروه أو يجعل لهم مدفعاً كما في قوم نوح/ فقال : {نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ} أي أمرناهم بالخروج من القرية في آخر الليل والسحر قبيل الصبح وقيل هو السدس الأخير من الليل.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 315
317
(1/4285)

/ أي ذلك الإنجاء كان فضلاً منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلاً ولو أهلكوا لكان ذلك عدلاً ، قال تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً } (الأنفال : 25) قال الحكماء العضو الفاسد يقطع ولا بد أن يقطع معه جزء من الصحيح ليحصل استئصال الفساد ، غير أن الله تعالى قادر على التمييز التام فهو مختار إن شاء أهلك من آمن وكذب ، ثم يثبت الذين أهلكهم من المصدقين في دار الجزاء وإن شاء أهلك من كذب ، فقال : نعمة من عندنا إشارة إلى ذلك وفي نصبها وجهان أحدهما : أنه مفعول له كأنه قال : نجيناهم نعمة منا ثانيهما : على أنه مصدر ، لأن الإنجاء منه إنعام فكأنه تعالى قال : أنعمنا عليهم بالإنجاء إنعاماً وقوله تعالى : {كَذَالِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} فيه وجهان أحدهما : ظاهر وعليه أكثر المفسرين وهو أنه من آمن كذلك ننجيه من عذاب الدنيا ولا نهلكه وعداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم بأنه يصونهم عن الإهلاكات العامة والسيئات المطبقة الشاملة وثانيهما : وهو الأصح أن ذلك وعد لهم وجزاؤهم بالثواب في دار الآخرة كأنه قال : كما نجيناهم في الدنيا ، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب والذي يؤيد هذا أن النجاة من الإهلاكات في الدنيا ليس بلازم ، ومن عذاب الله في الآخرة لازم بحكم الوعيد ، وكذلك ينجي الله الشاكرين من عذاب النار ويذر الظالمين فيه ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِه مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ} (آل عمران : 145) وقوله تعالى : {فَأَثَـابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة : 85) والشاكر محسن فعلم أن المراد جزاؤهم في الآخرة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 317
318
وفيه تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه فإنه تعالى لما رتب التعذيب على التكذيب وكان من الرحمة أن يؤخره ويقدم عليه الإنذارات البالغة بين ذلك فقال : أهلكناهم وكان قد أنذرهم من قبل ، وفي قوله : {بَطْشَتَنَا} وجهان أحدهما : المراد البطشة التي وقعت وكان يخوفهم بها ، ويدل عليه قوله تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} (القمر : 34) فكأنه قال : إنا أرسلنا عليهم ما سبق ، ذكرها للإندار بها والتخويف وثانيهما : المراد بها ما في الآخرة كما في قوله تعالى : {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } (الدخان : 16) وذلك لأن الرسل كلهم كانوا ينذرون قومهم بعذاب الآخرة كما قال تعالى : {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } (الليل : 14) وقال : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ} (غافر : 18) وقال تعالى : {إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} (النبأ : 40) إلى غير ذلك ، وعلى ذلك ففيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال : {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (البروج : 12) وقال ههنا : {بَطْشَتَنَا} ولم يقل : بطشنا وذلك لأن قوله تعالى : {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} بيان لجنس بطشه ، فإذا كان جنسه شديداً فكيف الكبرى منه ، وأما لوط عليه السلام فذكر لهم البطشة الكبرى لئلا يكون مقصراً في التبليغ ، وقوله تعالى : {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} يدل على أن النذر هي الإنذارات.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
318
والمراودة من الرود ، ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين يقال : طالب زيد عمراً بالدراهم ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل يقال : راوده عن المساعدة ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بعن ، والمطالبة بالباء ، وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل ، والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال ، فإذا قلت : أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين بخلاف ما إذا قيل عن كذا ، ويزيد هذا ظهوراً قول القائل : أخبرني زيد عن مجيء فلان ، وقوله : أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء والضيف يقع على الواحد والجماعة ، وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم ، وهي أنهم كانوا مفسدين وسمعوا يضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم. وقوله : {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} نقول : إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم ، وفي الآية مسائل :
(1/4286)

الأولى : الضمير في راودوه إن كان عائداً إلى قوم لوط فما في قوله : {أَعْيُنَهُمْ} أيضاً عائداً إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم وهم الذين دخلوا دار لوط ، وإن كان عائداً إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه ؟
نقول : المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل : الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائداً إلى الذين صلوا بعدما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا فصحت صلاتهم لم يكن كلاماً منظوماً ولو قلت الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام ، فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله : {رَاوَدُوهُ} والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
المسألة الثانية : قال ههنا : {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} (يس : 66) وقال في يس : {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ} فما الفرق ؟
نقول : هذا مما يؤيد قول ابن عباس فإنه نقل عنه أنه قال : المراد من الطمس الحجب عن الإدراك فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئاً فكانوا كالمطموسين ، وفي يس أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة ، أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على / العين جلدة فيكون قد طمس عليها ، وقال غيره : إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة ، ويؤيده قوله تعالى : {فَذُوقُوا عَذَابِى} لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئاً هناك لا يكون ذلك عذاباً والطمس بالمعنى الذي قاله غير ابن عباس عذاب ، فنقول : الأولى أن يقال : إنه تعالى حكى ههنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع ، وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ويعرف به وهو الطمس على العين ، لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال : {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ} وما شققنا جفنهم عن عينهم وهو أمر ظاهر الإمكان كثير الوقوع والطمس على ما وقع لقوم لوط نادر ، فقال : هناك على أعينهم ليكون أقرب إلى القبول.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ} خطاب ممن وقع ومع من وقع ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : فيه إضمار تقديره فقلت : على لسان الملائكة ذوقوا عذابي ثانيها : هذا خطاب مع كل مكذب تقديره كنتم تكذبون فذوقوا عذابي فإنهم لما كذبوا ذاقوه ثالثها : أن هذا الكلام خرج مخرج كلام الناس فإن الواحد من الملوك إذا أمر بضرب مجرم وهو شديد الغضب فإذا ضرب ضرباً مبرحاً وهو يصرح والملك يسمع صراخه يقول عند سماع صراخه ذق إنك مجرم مستأهل ويعلم الملك أن المعذب لا يسمع كلامه ويخاطب بكلامه المستغيث الصارخ وهذا كثير فكذلك لما كان كل أحد بمرأى من الله تعالى يسمع إذا عذب معانداً كان قد سخط الله عليه يقول : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَآ} (السجدة : 14) {فَذُوقُوا عَذَابِى} ولا يكون به مخاطباً لمن يسمع ويجيب ، وذلك إظهار العدل أي لست بغافل عن تعذيبك فتتخلص بالصراخ والضراعة ، وإنما أنا بك عالم وأنت له أهل لما قد صدر منك ، فإن قيل : هذا وقع بغير الفاء ، وأما بالفاء فلا تقول : وبالفاء فإنه ربما يقول : كنتم تكذبون فذوقوا.
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
المسألة الرابعة : النذر كيف يذاق ؟
نقول : معناه ذق فعلك أي مجازاة فعلك وموجبه ويقال : ذق الألم على فعلك وقوله : {فَذُوقُوا عَذَابِى} كقولهم : ذق الألم ، وقوله : {وَنُذُرِ} كقولهم ذق فعلك أي ذق ما لزم من إنذاري ، فإن قيل : فعلى هذا لا يصح العطف لأن قوله : {فَذُوقُوا عَذَابِى} وما لزم من إنذاري وهو العذاب يكون كقول القائل : ذوقوا عذابي وعذابي ؟
نقول : قوله تعالى : {فَذُوقُوا عَذَابِى} أي العاجل منه ، وما لزم من إنذاري وهو العذاب الآجل ، لأن الإنذار كان به على ما تقدم بيانه ، فكأنه قال : ذوقوا عذابي العاجل وعذابي الآجل ، فإن قيل : هما لم يكونا في زمان واحد ، فكيف يقال : ذوقوا ، نقول : العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل ، فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25).
ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
318
/ أي العذاب الذي عم القوم بعد الخاص الذي طمس أعين البعض ، وفيه مسائل :
(1/4287)

المسألة الأولى : {صَبَّحَهُم} فيه دلالة على الصبح ، فما معنى : {بُكْرَةً} ؟
نقول : فائدته تبيين انطراقه فيه ، فقوله : {بُكْرَةً} يحتمل وجهين أحدهما : أنها منصوبة على أنها ظرف ، ومثله نقوله في قوله تعالى : {أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} (الإسراء : 1) وفيه بحث ، وهو أن الزمخشري قال : ما الفائدة في قوله : {لَيْلا} وقال : جواباً في التنكير دلالة على أنه كان في بعض الليل ، وتمسك بقراءة من قرأ : {مِّنَ الَّيْلِ } وهو غير ظاهر ، والأظهر فيه أن يقال : بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تعيين الوقت ليس بمقصود المتكلم وأنه لا يريد بيانه ، كما يقول : خرجنا في بعض الأوقات ، مع أن الخروج لا بد من أن يكون في بعض الأوقات ، فإنه لا يريد بيان الوقت المعين ، ولو قال : خرجنا ، فربما يقول السامع : متى خرجتم ، فإذا قال : في بعض الأوقات أشار إلى أن غرضه بيان الخروج لا تعيين وقته ، فكذلك قوله تعالى : {صَبَّحَهُم بُكْرَةً} أي بكرة من البكر و{أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} أي ليلاً من الليالي فلا أبينه ، فإن المقصود نفس الإسراء ، ولو قال : أسرى بعبده من المسجد الحرام ، لكان للسامع أن يقول : أيما ليلة ؟
فإذا قال : ليلة من الليالي قطع سؤاله وصار كأنه قال : لا أبينه ، وإن كان القائل ممن يجوز عليه الجهل ، فإنه يقول : لا أعلم الوقت ، فهذا أقرب فإذا علمت هذا في أسرى ليلاً ، فاعلم مثله في : {صَبَّحَهُم بُكْرَةً} ويحتمل أن يقال : على هذا الوجه : {صَبَّحَهُم} بمعنى قال لهم : عموا صباحاً استهزاء بهم ، كما قال : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) فكأنه قال : جاءهم العذاب بكرة كالمصبح ، والأول أصح ، ويحتمل في قوله تعالى : {صَبَّحَهُم بُكْرَةً} على قولنا : إنها منصوبة على الظرف مالا يحتمله قوله تعالى : {أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا}
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
وهو أن : {صَبَّحَهُم} معناه أتاهم وقت الصبح ، لكن التصبيح يطلق على الإتيان في أزمنة كثيرة من أول الصبح إلى ما بعد الإسفار ، فإذا قال : {بُكْرَةً} أفاد أنه كان أول جزء منه ، وما أخر إلى الإسفار ، وهذا أوجه وأليق ، لأن الله تعالى أوعدهم به وقت الصبح ، بقوله : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } (هود : 81) وكان من الواجب بحكم الإخبار تحققه بمجيء العذاب في أول الصبح ، ومجرد قراءة : {صَبَّحَهُم} ما كان يفيد ذلك ، وهذا أقوى لأنك تقول : صبيحة أمس بكرة واليوم بكرة ، فيأتي فيه ما ذكرنا من أن المراد بكرة من البكر الوجه الثاني : أنها منصوبة على المصدر من باب ضربته سوطاً ضرباً فإن المنصوب في ضربته ضرباً على المصدر ، وقد يكون غير المصدر كما في ضربته سوطاً ضرباً ، لا يقال : ضرباً سوطاً بين أحد أنواع الضرب ، لأن الضرب قد يكون بسوط وقد يكون بغيره ، وأما : {بُكْرَةً} فلا يبين ذلك ، لأنا نقول : قد بينا أن بكرة بين ذلك ، لأن الصبح قد يكون بالإتيان وقت الإسفار ، وقد يكون بالإتيان بالأبكار ، فإن قيل : مثله يمكن أن يقال : في / {أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} قلنا : نعم ، فإن قيل : ليس هناك بيان نوع من أنواع الإسراء ، نقول : هو كقول القائل : ضربته شيئاً ، فإن شيئاً لا بد منه في كل ضرب ، ويصح ذلك على أنه نصب على المصدر ، وفائدته ما ذكرنا من بيان عدم تعلق الغرض بأنواعه ، وكأن القائل يقول : إني لا أبين ما ضربته به ، ولا أحتاج إلى بيانه لعدم تعلق المقصود به ليقطع سؤال السائل : بماذا ضربه بسوط أو بعصا ، فكذلك القول في : {أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} يقطع سؤال السائل عن الإسراء/ لأن الإسراء هو السير أول الليل ، والسرى هو السير آخر الليل أو غير ذلك.
المسألة الثانية : {مُّسْتَقِرٌّ} يحتمل وجوهاً أحدها : عذاب لا مدفع له ، أي يستقر عليهم ويثبت ، ولا يقدر أحد على إزالته ورفعه أو إحالته ودفعه ثانيها : دائم ، فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم ، فكأن ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم ، فإن الموت يخلص من الألم الذي يجده المضروب من الضرب والمحبوس من الحبس ، وموتهم ما خلصهم ثالثها : عذاب مستقر عليهم لا يتعدى غيرهم ، أي هو أمر قد قدره الله عليهم وقرره فاستقر ، وليس كما يقال : إنه أمر أصابهم اتفاقاً كالبرد الذي يضر زرع قوم دون قوم ، ويظن به أنه أمر اتفاقي ، وليس لو خرجوا من أماكنهم لنجوا كما نجا آل لوط ، بل كان ذلك يتبعهم ، لأنه كان أمراً قد استقر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
المسألة الثالثة : الضمير في {صَبَّحَهُم} عائد إلى الذين عاد إليهم الضمير في أعينهم فيعود لفظاً إليهم للقرب ، ومعنى إلى الذين تماروا بالنذر ، أو الذين عاد إليهم الضمير في قوله : {وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا} (القمر : 36).
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 318
319
مرة أخرى ، لأن العذاب كان مرتين أحدهما : خاص بالمراودين ، والآخر عام.
جزء : 29 رقم الصفحة : 319
321
قد فسرناه مراراً وبينا ما لأجله تكراراً.
(1/4288)

[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 321
322
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في لفظ : {فِرْعَوْنَ أَشَدَّ} بدل قوم فرعون ؟
نقول : القوم أعم من الآل ، فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم أو يقومون بأمره ، والآل كل من يؤول إلى / الرئيس خيرهم وشرهم أو يؤول إليهم خيره وشره ، فالبعيد الذي لا يعرفه الرئيس ولا يعرف هو عين الرئيس وإنما يسمع اسمه ، فليس هو بآله ، إذا عرفت الفرق ، نقول : قوم الأنبياء الذين هم غير موسى عليهم السلام ، لم يكن فيهم قاهر يقهر الكل ويجمعهم على كلمة واحدة ، وإنما كانوا هم رؤساء وأتباعاً ، والرؤساء إذا كثروا لا يبقى لأحد منهم حكم نافذ على أحد ، أما على من هو مثله فظاهر ، وأما على الأراذل فلأنهم يلجئون إلى واحد منهم ويدفعون به الآخر ، فيصير كل واحد برأسه ، فكأن الإرسال إليهم جميعاً ، وأما فرعون فكان قاهراً يقهر الكل ، وجعلهم بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير ، فأرسل الله إليه الرسول وحده ، غير أنه كان عنده جماعة من التابعين المقربين مثل قارون تقدم عنده لماله العظيم ، وهامان لدهائه ، فاعتبرهم الله في الإرسال ، حيث قال : في مواضع : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـاَايَـاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} (الزخرف : 46) وقال تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِه رُسُلا} (غافر : 23 ، 24) وقال في العنكبوت : {وَقَـارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَا وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى } (العنكبوت : 39) لأنهم إن آمنوا آمن الكل بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم ، فقال : {وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} وقال كثيراً مثل هذا كما في قوله : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } (غافر : 46) ، {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَه } (غافر : 28) وقال : بلفظ الملأ أيضاً كثيراً.
المسألة الثانية : قال : {وَلَقَدْ جَآءَ} ولم يقل في غيرهم جاء لأن موسى عليه السلام ما جاءهم ، كما جاء المرسلون أقوامهم ، بل جاءهم حقيقة حيث كان غائباً عن القوم فقدم عليهم ، ولهذا قال تعالى : {فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} وقوله تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) حقيقة أيضاً لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج ، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 322
المسألة الثالثة : النذر إن كان المراد منها الإنذارات وهو الظاهر ، فالكلام الذي جاءهم على لسان موسى ويده تلك ، وإن كان المراد الرسل فهو لأن موسى وهرون عليهما السلام جاءه وكل مرسل تقدمهما جاء لأنهم كلهم قالوا ما قالا من التوحيد وعبادة الله وقوله بعد ذلك : {كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا} من غير فاء تقتضي ترتب التكذيب على المجيء فيه وجهان أحدهما : أن الكلام تم عند قوله : {وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} وقوله : {كَذَّبُوا } كلام مستأنف والضمير عائد إلى كل من تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون ثانيهما : أن الحكاية مسوقة على سياق ما تقدم ، فكأنه قال : (فكيف كان عذابي ونذر وقد كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم) ، وعلى الوجه الأول آياتنا كلها ظاهرة ، وعلى الوجه الثاني المراد آياته التي كانت مع موسى عليه السلام وهي التسع في قول أكثر المفسرين ، ويحتمل أن يقال : المراد أنهم كذبوا بآيات الله كلها السمعية والعقلية فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. وقوله تعالى : {فَأَخَذْنَـاهُمْ} إشارة إلى أنهم كانوا كالآبقين أو إلى أنهم عاصون يقال : أخذ الأمير فلاناً إذا حبسه ، وفي قوله : {عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} لطيفة وهي أن العزيز المراد منه الغالب لكن العزيز قد يكون (الذي) يغلب على العدو ويظفر به وفي الأول يكون غير متمكن من أخذه لبعده إن كان هارباً ولمنعته إن / كان محارباً ، فقال أحد غالب لم يكن عاجزاً وإنما كان ممهلاً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 322
322
تنبيهاً لهم لئلا يأمنوا العذاب فإنهم ليسوا بخير من أولئك الذين أهلكوا وفيه مسائل :
(1/4289)

المسألة الأولى : الخطاب مع أهل مكة فينبغي أن يكون كفارهم بعضهم وإلا لقال : أنتم خير من أولئكم ، وإذا كان كفارهم بعضهم فكيف قال : {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ} ولم يقل : أم لهم كما يقول القائل : جاءنا الكرماء فأكرمناهم ، ولا يقول : فأكرمناكم ؟
نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المراد منه أكفاركم المستمرون على الكفر الذين لا يرجعون وذلك لأن جمعاً عظيماً ممن كان كافراً من أهل مكة يوم الخطاب أيقنوا بوقوع ذلك ، والعذاب لا يقع إلا بعد العلم بأنه لم يبق من القوم من يؤمن فقال : الذين يصرون منكم على الكفر يا أهل مكة خير ، أم الذين أصروا من قبل ؟
فيصح كون التهديد مع بعضهم ، وأما قوله تعالى : {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ} ففيه وجهان أحدهما : أم لكم لعمومكم براءة فلا يخاف المصر منكم لكونه في قوم لهم براءة وثانيهما : أم لكم براءة إن أصررتم فيكون الخطاب عاماً والتهديد كذلك ، فالشرط غير مذكور وهو الإصرار.
المسألة الثانية : ما المراد بقوله : {خَيْرٌ} ، وقول القائل : خير يقتضي اشتراك أمرين في صفة محمودة مع رجحان أحدهما على الآخر ولم يكن فيهم خير ولا صفة محمودة ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه أحدها : منع اقتضاء الاشتراك يدل عليه قول حسان :
(أنتهجوه ولست له بكفء)
فشركما لخيركما الفداء
مع اختصاص الخير بالنبي عليه السلام والشر بمن هجاه وعدم اشتراكهما في شيء منهما ثانيها : أن ذلك عائد إلى ما في زعمهم أي : أيزعم كفاركم أنهم خير من الكفار المتقدمين الذين أهلكوا وهم كانوا يزعمون في أنفسهم الخير ، وكذا فيمن تقدمهم من عبدة الأوثان ومكذبي الرسل وكانوا يقولون : إن الهلاك كان بأسباب سماوية من اجتماع الكواكب على هيئة مذمومة ثالثها : المراد : أكفاركم أشد قوة ، فكأنه قال : أكفاركم خير في القوة ؟
والقوة محمودة في العرف رابعها : أن كل موجود ممكن ففيه صفات محمودة وأخرى غير محمودة فإذا نظرت إلى المحمودة في الموضعين وقابلت إحداهما بالأخرى ، تستعمل فيها لفظ الخير ، وكذلك في الصفات المذمومة تستعمل فيها لفظ الشر ؟
فإذا نظرت إلى كافرين وقلت : أحدهما خير من الآخر فلك حينئذ أن تريد أحدهما خير من الآخر في الحسن والجمال ، وإذا نظرت إلى مؤمنين يؤذيانك قلت : أحدهما شر من الآخر ، أي في الأذية لا الإيمان فكذلك ههنا أكفاركم خير لأن النظر وقع على ما يصلح مخلصاً لهم من العذاب ، فهو كما يقال أكفاركم فيهم شيء مما يخلصهم لم يكن في غيرهم فهم خير أم لا شيء فيهم يخلصهم لكن الله بفضله أمنهم لا بخصال فيهم.
/
جزء : 29 رقم الصفحة : 322
المسألة الثالثة : {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ} إشارة إلى سبب آخر من أسباب الخلاص ، وذلك لأن الخلاص إما أن يكون بسبب أمر فيهم أو لا يكون كذلك ، فإن كان بسبب أمر فيهم وذلك السبب لم يكن في غيرهم من الذين تقدموهم فيكونون خيراً منهم وإن كان لا بسبب أمر فيهم فيكون بفضل الله ومسامحته إياهم وإيمانه إياهم من العذاب فقال لهم : أنتم خير منهم فلا تهلكون أم لستم بخير منهم لكن الله آمنكم وأهلكهم وكل واحد منهما منتف فلا تأمنوا ، وقوله تعالى : {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ} إشارة إلى لطيفة وهي أن العاقل لا يأمن إلا إذا حصل له الجزم بالأمن أو صار له آيات تقرب الأمر من القطع ، فقال : لكم براءة يوثق بها وتكون متكررة في الكتب/ فإن الحاصل في بعض الكتب ربما يحتمل التأويل أو يكون قد تطرق إليه التحريف والتبديل كما في التوراة والإنجيل ، فقال : هل حصل لكم براءة متكررة في كتب تأمنون بسببها العذاب فإن لم يكن كذلك لا يجوز الأمن لكن البراءة لم تحصل في كتب ولا كتاب واحد ولا شبه كتاب ، فيكون أمنهم من غاية الغفلة وعند هذا تبين فضل المؤمن ، فإنه مع ما في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، من الوعد لا يأمن وإن بلغ درجة الأولياء والأنبياء ، لما في آيات الوعيد من احتمال التخصيص ، وكون كل واحد ممن يستثنى من الأمة ويخرج عنها فالمؤمن خائف والكافر آمن في الدنيا ، وفي الآخرة الأمر على العكس.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 322
323
تتميماً لبيان أقسام الخلاص وحصره فيها ، وذلك لأن الخلاص إما أن يكون لاستحقاق من يخلص عن العذاب كما أن الملك إذا عذب جماعة ورأى فيهم من أحسن إليه فلا يعذبه ، وإما أن يكون لأمر في المخلص كما إذا رأى فيهم من له ولد صغير أو أم ضعيفة فيرحمه وإن لم يستحق ويكتب له الخلاص ، وإما أن لا يكون فيه ما يستحق الخلاص بسببه ولا في نفس المعذب مما يوجب الرحمة لكنه لا يقدر عليه بسبب كثرة أعوانه وتعصب إخوانه ، كما إذا هرب واحد من الملك والتجأ إلى عسكر يمنعون الملك عنه ، فكما نفى القسمين الأولين كذلك نفى القسم الثالث وهو التمتع بالأعوان وتحزب الإخوان ، وفيه مسائل :
(1/4290)

المسألة الأولى : في حسن الترتيب وذلك لأن المستحق لذاته أقرب إلى الخلاص من المرحوم ، فإن المستحق لم يوجد فيه سبب العذاب والمرحوم وجد فيه ذلك ، ووجد المانع من العذاب ، وما لا سبب له لا يتحقق أصلاً ، وماله مانع ربما لا يقوى المانع على دفع السبب ، وما في نفس المعذب من المانع أقوى من الذي بسبب الغير ، لأن الذي من عنده يمنع الداعية ولا يتحقق الفعل عند عدم الداعية ، والذي من الغير بسبب التمتع لا يقطع قصده بل يجتهد وربما يغلب فيكون تعذيبه أضعاف ما كان من قبل ، بخلاف من يرق له قلبه وتمنعه الرحمة فإنها وإن لم تمنعه / لكن لا يزيد في حمله وحبسه وزيادته في التعذيب عند القدرة ، فهذا ترتيب في غاية الحسن.
المسألة الثانية : {جَمِيعٌ} فيه فائدتان إحداهما الكثرة والأخرى الاتفاق ، كأنه قال : نحن كثير متفقون فلنا الانتصار ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة ، إنما قلنا : إن فيه فائدتين لأن الجمع يدل على الجماعة بحروفه الأصلية من ج م ع وبوزنه وهو فعيل بمعنى مفعول على أنهم جمعوا جمعيتهم العصبية ، ويحتمل أن يقال : معناه نحن الكل لا خارج عنا إشارة إلى أن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلّم لا اعتداد به قال تعالى في نوح : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} (الشعراء : 111) {إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} (هود : 27) وعلى هذا {جَمِيعٌ} يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا : نحن جمع الناس.
جزء : 29 رقم الصفحة : 323
المسألة الثالثة : ما وجه إفراد المنتصر مع أن نحن ضمير الجمع ؟
نقول : على الوجه الأول ظاهر لأنه وصف الجزء الآخر الواقع خبراً فهو كقول القائل : أنتم جنس منتصر وهم عسكر غالب والجميع كالجنس لفظه لفظ واحد ، ومعناه جمع فيه الكثرة ، وأما على الوجه الثاني فالجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المعنى وإن كان جميع الناس لا خارج عنهم إلا من لا يعتد به ، لكن لما قطع ونون صار كالمنكر في الأصل فجاز وصفه بالمنكر نظراً إلى اللفظ فعاد إلى الوجه الأول وثانيهما : أنه خبر بعد خبر ، ويجوز أن يكون أحد الخبرين معرفة والآخرين نكرة ، قال تعالى : {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج : 14 ـ 16) وعلى هذا فقوله : {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أفرده لمجاورته {جَمِيعٌ} ، ويحتمل أن يقال معنى : {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أن جميعاً بمعنى كل واحد كأنه قال : نحن كل واحد منا منتصر ، كما تقول : هم جميعهم أقوياء بمعنى أن كل واحد منهم قوي ، وهم كلهم علماء أي كل واحد عالم فترك الجمع واختار الإفراد لعود الخبر إلى كل واحد فإنهم كانوا يقولون : كل واحد منا يغلب محمداً صلى الله عليه وسلّم كما قال أبي بن خلف الجمحي وهذا فيه معنى لطيف وهو أنهم ادعوا أن كل واحد غالب ، والله رد عليهم بأجمعهم بقوله :
جزء : 29 رقم الصفحة : 323
325
وهو أنهم ادعوا القوة العامة بحيث يغلب كل واحد منهم محمداً صلى الله عليه وسلّم والله تعالى بين ضعفهم الظاهر الذي يعمهم جميعهم بقوله : {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وحينئذ يظهر سؤال وهو أنه قال : {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ولم يقل : يولون الأدبار. وقال في موضع آخر : {يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} (آل عمران : 111) وقال : {وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ } (الأحزاب : 15) وقال في موضع آخر : {فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ} فكيف تصحيح الإفراد وما الفرق بين المواضع ؟
نقول : أما التصحيح فظاهر لأن قول القائل : فعلوا كقوله فعل هذا وفعل ذاك وفعل الآخر. قالوا : وفي الجمع تنوب مناب الواوات التي في العطف ، وقوله : {يُوَلُّونَ} بمثابة يول هذا / الدبر ، ويول ذاك ويول الآخر أي كل واحد يولي دبره ، وأما الفرق فنقول اقتضاء أواخر الآيات حسن الإفراد ، فقوله : {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} إفراده إشارة إلى أنهم في التولية كنفس واحدة ، فلا يتخلف أحد عن الجمع ولا يثبت أحد للزحف فهم كانوا في التولية كدبر واحد ، وأما في قوله : {فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ} أي كل واحد يوجد به ينبغي أن يثبت ولا يولي دبره ، فليس المنهي هناك توليتهم بأجمعهم بل المنهي أن يولي واحد منهم دبره ، فكل أحد منهي عن تولية دبره ، فجعل كل واحد برأسه في الخطاب ثم جمع الفعل بقوله : {فَلا تُوَلُّوهُمُ} ولا يتم إلا بقوله : {الادْبَارَ} وكذلك في قوله : {وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ} (لأحزاب : 15) أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أولي دبري ، وأما في قوله : {لَيُوَلُّنَّ الادْبَـارَ} (الحشر : 12) فإن المراد المنافقون الذين وعدوا اليهود وهم متفرقون بدليل قوله تعالى : {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } (الحشر : 14) ، وأما في هذا الموضع فهم كانوا يداً واحدة على من سواهم.
[بم ثم قال تعالى :
(1/4291)

جزء : 29 رقم الصفحة : 325
327
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على انهزامهم وإدبارهم بل الأمر أعظم منه فإن الساعة موعدهم فإنه ذكر ما يصيبهم في الدنيا من الدبر ، ثم بين ما هو منه على طريقة الإصرار ، هذا قول أكثر المفسرين ، والظاهر أن الإنذار بالساعة عام لكل من تقدم ، كأنه قال : أهلكنا الذين كفروا من قبلك وأصروا وقوم محمد عليه السلام ليسوا بخير منهم فيصيبهم ما أصابهم إن أصروا ، ثم إن عذاب الدنيا ليس لإتمام المجازاة فإتمام المجازاة بالأليم الدائم. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في كون اختصاص الساعة موعدهم مع أنها موعد كل أحد ؟
نقول : الموعد الزمان الذي فيه الوعد والوعيد والمؤمن موعود بالخير ومأمور بالصبر فلا يقول هو : متى يكون ، بل يفوض الأمر إلى الله ، وأما الكافر فغير مصدق فيقول : متى يكون العذاب ؟
فيقال له : اصبر فإنه آت يوم القيامة ، ولهذا كانوا يقولون : {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} (ص : 16) وقال : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} (الحج : 47).
المسألة الثانية : أدهى من أي شيء ؟
نقول : يحتمل وجهين أحدهما : ما مضى من أنواع عذاب الدنيا ثانيهما : أدهى الدواهي فلا داهية مثلها.
المسألة الثالثة : ما المراد من قوله : {وَأَمَرُّ} ؟
قلنا : فيه وجهان أحدهما : هو مبالغة من المر وهو مناسب لقوله تعالى : {فَذُوقُوا عَذَابِى} (القمر : 37) وقوله : {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 48) وعلى هذا فأدهى أي أشد وأمر أي آلم ، والفرق بين الشديد والأليم أن الشديد يكون إشارة إلى أنه لا يطيقه أحد لقوته ولا يدفعه أحد بقوته ، مثاله ضعيف ألقى في ماء يغلبه أو نار لا يقدر على الخلاص منها ، وقوي ألقي في بحر أو نار عظيمة يستويان في الألم ويتساويان في الإيلام لكن يفترقان في الشدة فإن نجاة الضعيف من الماء الضعيف بإعانة معين ممكن ، ونجاة القوي من البحر العظيم غير ممكن ثانيهما : أمر مبالغة / في المار إذ هي أكثر مروراً بهم إشارة إلى الدوام ، فكأنه يقول : أشد وأدوم ، وهذا مختص بعذاب الآخرة ، فإن عذاب الدنيا إن اشتد قتل المعذب وزال فلا يدوم وإن دام بحيث لا يقتل فلا يكون شديداً ثالثها : أنه المرير وهو من المرة التي هي الشدة ، وعلى هذا فإما أن يكون الكلام كما يقول القائل : فلان نحيف نحيل وقوي شديد ، فيأتي بلفظين مترادفين إشارة إلى التأكيد وهو ضعيف ، وإما أن يكون أدهى مبالغة من الداهية التي هي اسم الفاعل من دهاه أمر كذا إذا أصابه ، وهو أمر صعب لأن الداهية صارت كالاسم الموضوع للشديد على وزن الباطية والسائبة التي لا تكون من أسماء الفاعلين ، وإن كانت الداهية أصلها ذلك ، غير أنها استعملت استعمال الأسماء وكتبت في أبوابها وعلى هذا يكون معناه ألزم وأضيق ، أي هي بحيث لا تدفع.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 327
330
وفي الآية مسائل :
(1/4292)

الأولى : فيمن نزلت الآية في حقهم ؟
أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية روى الواحدي في تفسيره قال : سمعت الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور ، قال : سمعت عبد الجبار قال : أخبرنا الواحدي قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله الكعبي ، قال : حدثنا حمدان بن صالح الأشج حدثنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود ، حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل المخزومي عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلّم في القدر ، فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} إلى قوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) وكذلك نقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن هذه الآية نزلت في القدرية. وروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "مجوس هذه الأمة القدرية" وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} وكثرت الأحاديث في القدرية وفيها مباحث الأول : في معنى القدرية الذين قال النبي صلى الله عليه وسلّم : نزلت الآية فيهم ، فنقول : كل فريق في خلق الأعمال يذهب إلى أن القدري خصمه ، فالجبري يقول القدري من يقول : الطاعة والمعصية ليستا بخلق الله وقضائه وقدره ، فهم قدرية لأنهم ينكرون القدر والمعتزلي يقول : القدري هو الجبري الذي يقول حين يزني ويسرق الله قدرني فهو قدري لإثباته القدر ، وهما جميعاً يقولان لأهل السنة الذي يعترف بخلق الله وليس من العبد إنه قدري ، والحق أن القدري الذي نزلت فيه الآية هو الذي ينكر القدر ويقول بأن الحوادث كلها حادثة بالكواكب واتصالاتها ويدل عليه قوله جاء مشركو قريش يحاجون رسول الله صلى الله عليه وسلّم / في القدر فإن مذهبهم ذلك ، وما كانوا يقولون مثل ما يقول المعتزلة إن الله خلق لي سلامة الأعضاء وقوة الإدراك ومكنني من الطاعة والمعصية ، والله قادر على أن يخلق في الطاعة إلجاء والمعصية إلجاء ، وقادر على أن يطعم الفقير الذي أطعمه أنا بفضل الله ، والمشركون كانوا يقولون : {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه } (يس : 47) منكرين لقدرة الله تعالى على الإطعام ، وأما قوله صلى الله عليه وسلّم : "مجوس هذه الأمة هم القدرية" فنقول : المراد من هذه الأمة ، إما الأمة التي كان محمد صلى الله عليه وسلّم مرسلاً إليهم سواء آمنوا به أو لم يؤمنوا كلفظ القوم ، وإما أمته الذين آمنوا به فإن كان المراد الأول فالقدرية في زمانه هم المشركون الذين أنكروا قدرة الله على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة ، وإن كان المراد هو الثاني فقوله : "مجوس هذه الأمة" يكون معناه الذين نسبتهم إلى هذه الأمة كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة ، لكن الأمة المتقدمة أكثرهم كفرة ، والمجوس نوع منهم أضعف شبهة وأشد مخالفة للعقل فكذلك القدرية في هذه الأمة تكون نوعاً منهم أضعف دليلاً ولا يقتضي ذلك الجزم بكونهم في النار فالحق أن القدري هو الذي ينكر قدرة الله تعالى ، إن قلنا : إن النسبة للنفي أو الذي يثبت قدرة غير الله تعالى على الحوادث إن قلنا : إن النسبة للإثبات وحينئذ يقطع بكونه : {فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} وإنه ذائق مس سقر.
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
البحث الثاني : في بيان من يدخل في القدرية التي في النص ممن هو منتسب إلى أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم/ إن قلنا : القدرية سموا بهذا الاسم لنفيهم قدرة الله تعالى فالذي يقول لا قدرة لله على تحريك العبد بحركة هي الصلاة وحركة هي الزنا مع أن ذلك أمر ممكن لا يبعد دخوله فيهم ، وأما الذي يقول : بأن الله قادر غير أنه لم يجبره وتركه مع داعية العبد كالوالد الذي يجرب الصبي في حمل شيء تركه معه لا لعجز الوالد بل للابتلاء والامتحان ، لا كالمفلوج الذي لا قوة له إذا قال لغيره : احمل هذا فلا يدخل فيهم ظاهراً وإن كان مخطئاً ، وإن قلنا إن القدرية سموا بهذا الاسم لإثباتهم القدرة على الحوادث لغير الله من الكواكب ، والجبري الذي قال : هو الحائط الساقط الذي لا يجوز تكليفه بشيء لصدور الفعل من غيره وهم أهل الإباحة ، فلا شك في دخوله في القدرية فإنه يكفر بنفيه التكليف وأما الذي يقول : خلق الله تعالى فينا الأفعال وقدرها وكلفنا ، ولا يسأل عما يفعل فما هو منهم.
(1/4293)

البحث الثالث : اختلف القائلون في التعصب أن الاسم بالمعتزلة أحق أم بالأشاعرة ؟
فقالت : المعتزلة الاسم بكم أحق لأن النسبة تكون للإثبات لا للنفي ، يقال للدهري : دهري لقوله بالدهر ، وإثباته ، وللمباحي إباحي لإثباته الإباحة وللتنوية تنوية لإثباتهم الإثنين وهما النور والظلمة ، وكذلك أمثله وأنتم تثبتون القدر ، وقالت الأشاعرة : النصوص تدل على أن القدري من ينفي قدرة الله تعالى ومشركو قريش ما كانوا قدرية إلا لإثباتهم قدرة لغير الله ، قالت : المعتزلة إنما سمي المشركون قدرية لأنهم قالوا : إن كان قادراً على الحوادث كما تقول يا محمد فلو شاء الله لهدانا ولو شاء / لأطعم الفقير ، فاعتقدوا أن من لوازم قدرة الله تعالى على الحوادث خلقه الهداية فيهم إن شاء ، وهذا مذهبكم أيها الأشاعرة ، والحق الصراح أن كل واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية ، ولا يصير واحد منهم قدرياً إلا إذا صار النافي نافياً للقدرة والمثبت منكراً للتكليف.
المسألة الثانية : المجرمون هم المشركون ههنا كما في قوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ} (السجدة : 12) وقوله : {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي} (المعارج : 11) وفي قوله : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41) فالآية عامة ، وإن نزلت في قوم خاص. وجرمهم تكذيب الرسل والنذر بالإشراك وإنكار الحشر وإنكار قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة ، وعلى غيره من الحوادث.
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
المسألة الثالثة : {فِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ} يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها : الجمع بين الأمرين في الدنيا أي هم في الدنيا في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون ، وعلى هذا فقوله : {يُسْحَبُونَ} بيان حالهم في تلك الصورة وهو أقرب ثانيها : الجمع في الآخرة أي هم في ضلال الآخرة وسعر أيضاً. أما السعر فكونهم فيها ظاهر ، وأما الضلال فلا يجدون إلى مقصدهم أو إلى ما يصلح مقصداً وهم متحيرون سبيلاً ، فإن قيل : الصحيح هو الوجه الأخير لا غير لأن قوله تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} ظرف القول أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا ، وسنبين ذلك فنقول : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} يحتمل أن يكون منصوباً بعامل مذكور أو مفهوم غير مذكور ، والاحتمال الأول له وجهان أحدهما : العامل سابق وهو معنى كائن ومستقر غير أن ذلك صار نسياً منسياً ثانيهما : العامل متأخر وهو قوله : {ذُوقُوا } تقديره : ذوقوا مس سقر يوم يسحب المجرمون ، والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله : {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوالَـا اـاِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ} (القمر : 43) والاحتمال الثالث : أن المفهوم هو أن يقال لهم : يوم يسحبون ذوقوا ، وهذا هو المشهور ، وقوله تعالى : {ذُوقُوا } استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لاقى اللسان يدرك أيضاً حرارته وبرودته وخشونته وملاسته/ كما يدرك سائر أعضائه الحسية ويدرك أيضاً طعمه ولا يدركه غير اللسان ، فإدراك اللسان أتم ، فإذا تأذى من نار تأذى بحرارته ومرارته إن كان الحار أو غيره لا يتأذى إلا بحرارته فإذن الذوق إدراك لمسي أتم من غيره في الملموسات فقال : {ذُوقُوا } إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الإدراكات فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه ، ويكون المدرك له لا عذر له يشغله وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم. وقد ذكرنا أن على قول الأكثرين يقال لهم أو نقول مضمر. وقد ذكرنا أنه لا حاجة إلى الإضمار إذا كان الخطاب مع غير من قيل في حقهم : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ} فإنه يصير كأنه قال : ذوقوا أيها المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلّم مس سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
330
/ وفيه مسائل :
(1/4294)

الأولى : المشهور أن قوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ} متعلق بما قبله كأنه قال : ذوقوا فإنا كل شيء خلقناه بقدر ، أي هو جزاء لمن أنكر ذلك ، وهو كقوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) والظاهر أنه ابتداء كلام وتم الكلام عند قوله : {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 48) ثم ذكر بيان العذاب لأن عطف : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ} (القمر : 50) يدل على أن قوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} ليس آخر الكلام. ويدل عليه قوله تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } (الأعراف : 54) وقد ذكر في الآية الأولى الخلق بقوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ} فيكون من اللائق أن يذكر الأمر فقال : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ} وأما ما ذكر من الجدل فنقول النبي صلى الله عليه وسلّم تمسك عليهم بقوله : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ} إلى قوله : {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 47 ، 48) وتلا آية أخرى على قصد التلاوة ، ولم يقرأ الآية الأخيرة اكتفاء بعلم من علم الآية كما تقول في الاستدلالات : {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم} (النساء : 29) الآية : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام : 121) الآية : {إِذَا تَدَايَنتُم} (البقرة : 283) الآية إلى غير ذلك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
المسألة الثانية : {كُلُّ} قرىء بالنصب وهو الأصح المشهور ، وبالرفع فمن قرأ بالنصب فنصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر كقوله : {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ} (يس : 39) وقوله : {وَالظَّـالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} (الإنسان : 31) وذلك الفعل هو خلقناه وقد فسره قوله : {خَلَقْنَـاهُ} كأنه قال : إنا خلقنا كل شيء بقدر ، وخلقناه على هذا لا يكون صفة لشيء كما في قوله تعالى : {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات : 49) غير أن هناك يمنع من أن يكون صفة كونه خالياً عن ضمير عائد إلى الموصوف ، وههنا لم يوجد ذلك المانع ، وعلى هذا فالآية حجة على المعتزلة لأن أفعالنا شيء فتكون داخلة في كل شيء فتكون مخلوقة لله تعالى ، ومن قرأ بالرفع لم يمكنه أن يقول كما يقول في قوله : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ} (فصلت : 17) حيث قرىء بالرفع لأن كل شيء نكرة فلا يصح مبتدأ فيلزمه أن يقول : كل شيء خلقناه فهو بقدر ، كقوله تعالى : {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} (الرعد : 8) في المعنى ، وهذان الوجهان ذكرهما ابن عطية في تفسيره وذكر أن المعتزلي يتمسك بقراءة الرفع ويحتمل أن يقال : القراءة الأولى وهو النصب له وجه آخر ، وهو أن يقال : نصبه بفعل معلوم لا بمضمر مفسر وهو قدرنا أو خلقنا ، كأنه قال : إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، أو قدرنا كل شيء خلقناه بقدر ، وإنما قلنا : إنه معلوم لأن قوله : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (غافر : 62) دل عليه ، وقوله : {وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ} دل على أنه قدر وحينئذ لا يكون في الآية دلالة على بطلان قول المعتزلي وإنما يدل على بطلان قوله : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الزمر : 62) وأما على القراءة الثانية وهي الرفع ، فنقول : جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بقدر خبره وحينئذ تكون الحجة قائمة عليهم بأبلغ وجه ، وقوله : {كُلَّ شَىْءٍ} نكرة فلا يصلح مبتدأ ضعيف لأن قوله : {كُلَّ شَىْءٍ} عم الأشياء كلها بأسرها ، فليس فيه / المحذور الذي في قولنا : رجل قائم ، لأنه لا يفيد فائدة ظاهرة ، وقوله : {كُلَّ شَىْءٍ} يفيد ما يفيد زيد خلقناه وعمرو خلقناه مع زيادة فائدة/ ولهذا جوزوا ما أحد خير منك لأنه أفاد العموم ولم يحسن قول القائل أحد خير منك حيث لم يفد العموم.
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
(1/4295)

المسألة الثالثة : ما معنى القدر ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : المقدار كما قال تعالى : {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَه بِمِقْدَارٍ} (العرد : 8) وعلى هذا فكل شيء مقدر في ذاته وفي صفاته ، أما المقدر في الذات فالجسم وذلك ظاهر فيه وكذلك القائم بالجسم من المحسوسات كالبياض والسواد ، وأما الجوهر الفرد مالا مقدار له والقائم بالجوهر مالا مقدار له بمعنى الامتداد كالعلم والجهل وغيرهما ، فنقول : ههنا مقادير لا بمعنى الامتداد ، أما الجواهر الفرد فإن الإثنين منه أصغر من الثلاثة ، ولولا أن حجماً يزداد به الامتداد ، وإلا لما حصل دون الامتداد فيه ، وأما القائم بالجوهر فله نهاية وبداية ، فمقدار العلوم الحادثة والقدر المخلوقة متناهية ، وأما الصفة فلأن لكل شيء ابتدىء زماناً فله مقدار في البقاء لكون كل شيء حادثاً ، فإن قيل : الله تعالى وصف به ، ولا مقدار له ولا ابتداء لوجوده ، نقول : المتكلم إذا كان موصوفاً بصفة أو مسمى باسم ، ثم ذكر الأشياء المسماة بذلك الاسم أو الأشياء الموصوفة بتلك الصفة ، وأسند فعلاً من أفعاله إليه يخرج هو عنه ، كما يقول القائل : رأيت جميع من في هذا البيت فرأيتهم كلهم أكرمني ، ويقول ما في البيت أحد إلا وضربني أو ضربته يخرج هو عنه لا لعدم كونه مقتضى الاسم ، بل بما في التركيب من الدليل على خروجه عن الإرادة ، فكذلك قوله : {خَلَقْنَـاهُ} و{خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الزمر : 62) يخرج عنه لا بطريق التخصيص ، بل بطريق الحقيقة إذا قلنا : إن التركيب وضعي ، فإن هذا التركيب لم يوضع حينئذ إلا لغير المتكلم ثانيها : القدر التقدير ، قال الله تعالى : {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ} (المرسلات : 23) وقال الشاعر :
وقد قدر الرحمن ما هو قادر
أي قدر ما هو مقدر ، وعلى هذا فالمعنى أن الله تعالى لم يخلق شيئاً من غير تقدير ، كما يرمي الرامي السهم فيقع في موضع لم يكن قد قدره ، بل خلق الله كما قدر بخلاف قول الفلاسفة إنه فاعل لذاته والاختلاف للقوابل ، فالذي جاء قصيراً أو صغيراً فلاستعداد مادته ، والذي جاء طويلاً أو كبيراً فلاستعداد آخر ، فقال تعالى : {كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} منا فالصغير جاز أن يكون كبيراً ، والكبير جاز خلقه صغيراً ثالثها : {بِقَدَرٍ} هو ما يقال مع القضاء ، يقال بقضاء الله وقدره ، وقالت الفلاسفة في القدر الذي مع القضاء : إن ما يقصد إليه فقضاء وما يلزمه فقدر ، فيقولون : خلق النار حارة بقضاء وهو مقضي به لأنها ينبغي أن تكون كذلك ، لكن من لوازمها أنها إذا تعلقت بقطن عجوز أو وقعت في قصب صعلوك تخرقه ، فهو بقدر لا بقضاء ، وهو كلام فاسد ، بل القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة فقوله : {كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} أي بقدره مع إرادته ، لا على ما يقولون إنه موجب رداً على المشركين.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
330
(1/4296)

أي إلا كلمة واحدة ، وهو قوله له : (كن) هذا هو المشهور الظاهر ، وعلى هذا فالله إذا أراد شيئاً قال له : (كن) فهناك شيئان : الإرادة والقول ، فالإرادة والقول ، فالإرادة قدر ، والقول قضاء ، وقوله : {وَاحِدَةً} يحتمل أمرين أحدهما : بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نفاذ الأمر ثانيهما : بيان عدم اختلاف الحال ، فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النمل الصغير ، فأمره عند الكل واحد وقوله : {كَلَمْحا بِالْبَصَرِ} تشبيه الكون لا تشبيه الأمر ، فكأنه قال : أمرنا واحدة ، فإذن المأمور كائن كلمح بالبصر ، لأنه لو كان راجعاً إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به ، فإن كلمة (كن) شيء أيضاً يوجد كلمح بالبصر هذا هو التفسير الظاهر المشهور ، وفيه وجه ظاهر ذهب إليه الحكماء ، وهي أن مقدورات الله تعالى هي الممكنات يوجدها بقدرته ، وفي عدمها خلاف لا يليق بيانه بهذا الموضع لطوله لا لسبب غيره ، ثم إن الممكنات التي يوجدها الله تعالى قسمان أحدهما : أمور لها أجزاء ملتئمة عند التئامها يتم وجودها ، كالإنسان والحيوان والأجسام النباتية والمعدنية وكذلك الأركان الأربعة ، والسموات ، وسائر الأجسام وسائر ما يقوم بالأجسام من الأعراض ، فهي كلها مقدرة له وحوادث ، فإن أجزاءها توجد أولاً ، ثم يوجد فيها التركيب والالتئام بعينها ، ففيها تقديرات نظراً إلى الأجزاء والتركيب والأعراض وثانيهما : أمور ليس لها أجزاء ومفاصل ومقادير امتدادية ، وهي الأرواح الشريفة المنورة للأجسام ، وقد أثبتها جميع الفلاسفة إلا قليلاً منهم ، ووافقهم جمع من المتكلمين ، وقطع بها كثير ممن له قلب من أصحاب الرياضات وأرباب المجاهدات ، فتلك الأمور وجودها واحد ليس يوجد أولاً أجزاء ، وثانياً تتحقق تلك الأجزاء بخلاف الأجسام والأعراض القائمة بها ، إذا عرفت هذا قالوا : الأجسام خلقية قدرية ، والأرواح إبداعية أمرية ، وقالوا إليه الإشارة بقوله تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } (الأعراف : 54) فالخلق في الأجسام والأمر في الأرواح ثم قالوا : لا ينبغي أن يظن بهذا الكلام أنه على خلاف الأخبار فإنه صلى الله عليه وسلم قال : "أول ما خلق الله العقل" ، وروى عنه عليه السلام أنه قال : "خلق الله الأرواح قبل الأجسام بألفي عام" وقال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
{اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الزمر : 62) فالخلق أطلق على إيجاد الأرواح والعقل لأن إطلاق الخلق على ما يطلق عليه الأمر جائز ، وإن العالم بالكلية حادث وإطلاق الخلق بمعنى الإحداث جائز ، وإن كان في حقيقة الخلق تقدير في أصل اللغة ولا كذلك في الأحداث ، ولولا الفرق بين العبارتين وإلا لاستقبح الفلسفي من أن يقول المخلوق قديم كما يستقبح من أن المحدث قديم ، فإذن قوله صلى الله عليه وسلّم خلق الله الأرواح بمعنى أحدثها بأمره ، وفي هذا الإطلاق فائدة عظيمة وهي أنه صلى الله عليه وسلّم لو غير العبارة وقال في الأرواح أنها موجودة / بالأمر والأجسام بالخلق لظن الذي لم يرزقه الله العلم الكثير أن الروح ليست بمخلوقة بمعنى ليست بمحدثة فكان يضل والنبي صلى الله عليه وسلّم بعث رحمة ، وقالوا : إذا نظرت إلى قوله تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) وإلى قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الحديد : 4) وإلى قوله تعالى : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـامًا} (المؤمنون : 14) تجد التفاوت بين الأمر والخلق والأرواح والأشباح حيث جعل لخلق بعض الأجسام زماناً ممتداً هو ستة أيام وجعل لبعضها تراخياً وترتيباً بقوله : {ثُمَّ خَلَقْنَا} وبقوله : {فَخَلَقْنَا} ولم يجعل للروح ذلك ، ثم قالوا : ينبغي أن لا يظن بقولنا هذا إن الأجسام لا بد لها من زمان ممتد وأيام حتى يوجدها الله تعالى فيه ، بل الله مختار إن أراد خلق السموات والأرض والإنسان والدواب والشجر والنبات في أسرع من لمح البصر لخلقها كذلك ، ولكن مع هذا لا تخرج عن كونها موجودات حصلت لها أجزاء ووجود أجزائها قبل وجود التركيب فيها ووجودها بعد وجود الأجزاء والتركيب فيها فهي ستة ثلاثة في ثلاثة كما يخلق الله الكسر والإنكسار في زمان واحد ولهما ترتيب عقلي. فالجسم إذن كيفما فرضت خلقه ففيه تقدير وجودات كلها بإيجاد الله على الترتيب والروح لها وجود واحد بإيجاد الله تعالى هذا قولهم. ولنذكر ما في الخلق والأمر من الوجود المنقولة والمعقولة أحدها : ما ذكرنا أن الأمر هو كلمة : {كُنَّ}
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
(1/4297)

والخلق هو ما بالقدرة والإرادة ثانيها : ما ذكروا في الأجسام أن منها الأرواح ثالثها : هو أن الله له قدرة بها الإيجاد وإرادة بها التخصيص ، وذلك لأن المحدث له وجود مختص بزمان وله مقدار معين فوجوده بالقدرة واختصاصه بالزمان بالإرادة فالذي بقدرته خلق والذي بالإرادة أمر حيث يخصصه بأمره بزمان ويدل عليه المنقول والمعقول ، أما المنقول فقوله تعالى : {إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (يس : 82) جعل {كُنَّ} لتعلق الإرادة ، واعلم أن المراد من : {كُنَّ} ليس هو الحرف والكلمة التي من الكاف والنون ، لأن الحصول أسرع من كلمة كن إذا حملتها على حقيقة اللفظ فإن الكاف والنون لا يوجد من متكلم واحد إلا الترتيب ففي كن لفظ زمان والكون بعد بدليل قوله تعالى : {فَيَكُونُ} بالفاء فإذن لو كان المراد يكن حقيقة الحرف والصوت لكان الحصول بعده بزمان وليس كذلك ، فإن قال قائل : يمكن أن يوجد الحرفان معاً وليس كلام الله تعالى ككلامنا يحتاج إلى الزمان قلنا : قد جعل له معنى غير ما نفهمه من اللفظ. وأما المعقول فلأن الاختصاص بالزمان ليس لمعنى وعلة وإن كان بعض الناس ذهب إلى أن الخلق والإيجاد لحكمة وقال : بأن الله خلق الأرض لتكون مقر الناس أو مثل هذا من الحكم ولم يمكنه أن يقول : خلق الأرض في الزمان المخصوص لتكون مقراً لهم لأنه لو خلقها في غير ذلك لكانت أيضاً مقراً لهم فإذن التخصيص ليس لمعنى فهو لمحض الحكمة فهو يشبه أمر الملك الجبار الذي يأمر ولا يقال له : لم أمرت ولم فعلت ولا يعلم مقصود الآمر إلا منه رابعها : هو أن الأشياء المخلوقة لا تنفك عن أوصاف ثلاثة أو عن وصفين متقابلين ، مثاله الجسم لا بد له بعد خلقه أن يكون متحيزاً ولا بد له من أن يكون / ساكناً أو متحركاً فإيجاده أولاً يخلقه وما هو عليه بأمره يدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} إلى أن قال : {مُسَخَّرَاتا بِأَمْرِه } (الأعراف : 54) فجعل مالها بعد خلقها من الحركة والسكون وغيرهما بأمره ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم : "أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر" جعل الخلق في الحقيقة والأمر في الوصف ، وكذلك قوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} ثم قال : {يُدَبِّرُ الامْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الارْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه } (السجدة : 4 ، 5) وقد ذكرنا تفسيره خامسها : مخلوقات الله تعالى على قسمين أحدهما : خلقه الله تعالى في أسرع ما يكون كالعقل وغيره وثانيهما : خلقه بمهلة كالسموات والإنسان والحيوان والنبات ، فالمخلوق سريعاً أطلق عليه الأمر والمخلوق بمهلة أطلق عليه الخلق ، وهذا مثل الوجه الثاني سادسها : ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى : {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (فصلت : 11) وهو أن الخلق هو التقدير والإيجاد بعده بعدية ترتيبية لا زمانية ففي علم الله تعالى أن السموات تكون سبع سموات في يومين تقديرية فهو قدر خلقه كما علم وهو إيجاد فالأول خلق والثاني وهو الإيجاد أمر وأخذ هذا من المفهوم اللغوي قال الشاعر :
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
أي يقدر ولا يقطع ولا يفصل كالخياط الذي يقدر أولاً ويقطع ثانياً وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن ، لأن الله تعالى حيث ذكر الخلق أراد الإيجاد منه قوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ} (العنكبوت : 61) ومنه قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ} (يس : 77) وليس المراد أنا قدرنا أنه سيوجد منها إلى غير ذلك سابعها : الخلق هو الإيجاد ابتداء والأمر هو ما به الإعادة فإن الله خلق الخلق أولاً بمهلة ثم يوم القيامة ببعثهم في أسرع من لحظة ، فيكون قوله : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ} كقوله تعالى : {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} (الصافات : 19ج وقوله : {صَيْحَةً وَاحِدَةً} (يس : 29) {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (الحاقة : 13) وعلى هذا فقوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) إشارة إلى الوحدانية. وقوله تعالى : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ} إلى الحشر فكأنه بين الأصل الأول والأصل الآخر بالآيات ثامنها : الإيجاد خلق والإعدام أمر ، يعني يقول للملائكة الغلاظ الشداد أهلكوا وافعلوا فلا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الامتثال على إعادة الأمر مرة أخرى فأمره مرة واحدة يعقبه العدم والهلاك.
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
(1/4298)

وفيه لطيفة : وهي أن الله تعالى جعل الإيجاد الذي هو من الرحمة بيده ، والإهلاك يسلط عليه رسله وملائكته ، وجعل الموت بيد ملك الموت ولم يجعل الحياة بيد ملك ، وهذا مناسب لهذا الموضع لأنه بين النعمة بقوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) وبين قدرته على النقمة فقال : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ} . {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابا بِه لَقَـادِرُونَ} (المؤمنون : 18) وهو كقوله : {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ } (المؤمنون : 27) عند العذاب ، وقوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـالِحًا} (هود : 66) وقوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا} (هود : 82) وكما ذكر في هذه الحكايات العذاب بلفظ الأمر وبين الإهلاك به كذلك ههنا / ولا سيما إذا نظرت إلى ما تقدم من الحكايات ووجدتها عين تلك الحكايات يقوي هذا القول وكذلك قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر : 51) يدل على صحة هذا القول تاسعها : في معنى اللمح بالبصر وجهان أحدهما : النظر بالعين يقال : لمحته ببصري كما يقال : نظرت إليه بعيني والباء حينئذ كما يذكر في الآيات فيقال : كتبت بالقلم ، واختار هذا المثال لأن النظر بالعين أسرع حركة توجد في الإنسان لأن العين وجد فيها أمور تعين على سرعة الحركة أحدها : قرب المحرك منها فإن المحرك العصبية ومنبتها الدماغ والعين في غاية القرب منه ثانيها : صغر حجمها فإنها لا تعصى على المحرك ولا تثقل عليه بخلاف العظام ثالثها : استدارة شكلها فإن دحرجة الكرة أسهل من دحرجة المربع والمثلث رابعها : كونها في رطوبة مخلوقة في العضو الذي هو موضعها وهذه الحكمة في أن المرئيات في غاية الكثرة بخلاف المأكولات والمسموعات والمقاصد التي تقصد بالأرجل والمذوقات ، فلولا سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول زمان وثانيهما : اللمح بالبصر معناه البرق يخطف بالبصر ويمر به سريعاً والباء حينئذ للإلصاق لا للاستعانة كقوله : مررت به وذلك في غاية السرعة ، وقوله : {بِالْبَصَرِ} فيه فائدة وهي غاية السرعة فإنه لو قال : كلمح البرق حين برق ويبتدىء حركته من مكان وينتهي إلى مكان آخر في أقل زمان يفرض لصح ، لكن مع هذا فالقدر الذي مروره يكون بالبصر أقل من الذي يكون من مبتداه إلى منتهاه ، فقال : {كَلَمْح } لا كما قيل : من المبدأ إلى المنتهى بل القدر الذي يمر بالبصر وهو غاية القلة ونهاية السرعة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 330
331
والأشياع الأشكال ، وقد ذكرنا أن هذا يدل على أن قوله : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ} (القمر : 50) تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 331
332
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على إهلاكهم بل الإهلاك هو العاجل والعذاب الآجل الذي هو معد لهم على ما فعلوه ، مكتوب عليهم ، والزبر هي كتب الكتبة الذين قال تعالى فيهم : {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ} (الانفطار : 9 ـ 11) و: {فَعَلُوهُ} صفة شيء والنكرة توصف بالجمل.
[بم وقوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 332
335
تعميم للحكم أي ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه بل ما فعله غيرهم أيضاً مسطور فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة ، وقد ذكرنا في قوله تعالى : {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِى كِتَـابٍ} (سبأ : 3) أن في قوله {أَكْبَرَ} فائدة عظيمة وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه ، فلما قال : {وَلا أَكْبَرَ} أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان ، فكذلك نقول : ههنا وفي قوله : {مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا } (الكهف : 49) وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة فيبتدىء بها حفظاً عن النسيان في عادة الخلق فأجرى الله الذكر على عادتهم ، وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 335
335
قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها : {الطُّورِ} وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل :
(1/4299)

المسألة الأولى : لا شك أن كمال اللذة بالبستان أن يكون الإنسان فيه ، وليس من اللذة بالنهر أن يكون الإنسان فيه ، بل لذته أن يكون في الجنة عند النهر ، فما فمعنى قوله تعالى : {وَنَهَرٍ} ؟
نقول : قد أجبنا عن هذا في تفسير قوله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} (الذاريات : 15) في سورة الذاريات ، وقلنا : المراد في خلال العيون ، وفيما بينها من المكان وكذلك في جنات لأن الجنة هي الأشجار التي تستر شعاع الشمس ، ولهذا قال تعالى : {فِى ظِلَـالٍ وَعُيُونٍ} (المرسلات : 41) . وإذا كانت الجنة هي الأشجار الساترة فالإنسان لا يكون في الأشجار وإنما يكون بينها أو خلالها ، فكذلك النهر ، ونزيد ههنا وجهاً آخر وهو أن المراد في جنات وعند نهر لكون المجاورة تحسن إطلاق اللفظ الذي لا يحسن إطلاقه عند عدم المجاورة كما قال :
علفتها تبناً وماء بارداً
وقالوا : تقلدت سيفاً ورمحاً ، والماء لا يعلف والرمح لا يتقلد ولكن لمجاورة التبن والسيف حسن الإطلاق فكذلك هنا لم يأت في الثاني بما أتى به في الأول من كلمة في.
جزء : 29 رقم الصفحة : 335
المسألة الثانية : وحد النهر مع جمع الجنات وجمع الأنهار وفي كثير من المواضع كما في قوله تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } (البقرة : 25) إلى غيره من المواضع فما الحكمة فيه ؟
نقول : أما على الجواب الأول فنقول : لما بين أن معنى في نهر في خلال فلم يكن للسامع حاجة إلى سماع الأنهار ، لعلمه بأن النهر الواحد لا يكون له خلال. وأما في قوله تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } فلو لم يجمع الأنهار لجاز أن يفهم أن في الجنات كلها نهراً واحداً كما في الدنيا فقد يكون نهر واحد ممتد جار في جنات كثيرة وأما على الثاني فنقول : الإنسان يكون في جنات لأنا بينا أن الجمع في جنات إشارة إلى سعتها وكثرة / أشجارها وتنوعها والتوحيد عندما قال : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} (محمد : 15) وقال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة : 111) لاتصال أشجارها ولعدم وقوع القيعان الخربة بينها ، وإذا علمت هذا فالإنسان في الدنيا إذا كان في بيت في دار وتلك الدار في محلة ، وتلك المحلة في مدينة ، يقال إنه في بلدة كذا ، وأما القرب فإذا كان الإنسان في الدنيا بين نهرين بحيث يكون قربه منهما على السواء يقال إنه جالس عند نهرين ، فإذا قرب من أحدهما يقال من عند أحد نهرين دون الآخر ، لكن في دار الدنيا لا يمكن أن يكون عند ثلاثة أنهار وإنما يمكن أن يكون عند نهرين ، والثالث منه أبعد من النهرين ، فهو في الحقيقة ليس يكون في زمان واحد عند أنهار والله تعالى يذكر أمر الآخرة على ما نفهمه في الدنيا ، فقال : عند نهر لما بينا أن قوله : {وَنَهَرٍ} وإن كان يقتضي في نهر لكن ذلك للمجاورة كما في تقلدت سيفاً ورمحاً ، وأما قوله : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } فحقيقته مفهومة عندنا لأن الجنة الواحدة قد يجري فيها أنهار كثيرة أكثر من ثلاثة وأربعة ، فهذا ما فيه مع أن أواخر الآيات يحسن فيها التوحيد دون الجمع ، ويحتمل أن يقال والتنكير للتعظيم. وفي الجنة نهر وهو أعظم الأنهر وأحسنها ، وهو الذي من الكوثر/ ومن عين الرضوان وكان الحصول عنده شرفاً وغبطه وكل أحد يكون له مقعد عنده وسائر الأنهار تجري في الجنة ويراها أهلها ولا يرون القاعد عندها فقال : {الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ} أي ذلك النهر الذي عنده مقاعد المؤمنين ، وفي قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} (البقرة : 249) لكونه غير معلوم لهم ، وفي هذا وجه حسن أيضاً ولا يحتاج على الوجهين أن نقول : نهر في معنى الجمع لكونه اسم جنس.
جزء : 29 رقم الصفحة : 335
المسألة الثالثة : قال ههنا : {فِى} وقال في الذاريات : {جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} (الذاريات : 15) فما الفرق بينهما ؟
نقول : إنا إن قلنا في نهر معناه في خلال فالإنسان يمكن أن يكون في الدنيا في خلال عيون كثيرة تحيط به إذا كان على موضع مرتفع من الأرض والعيون تنفجر منه وتجري فتصير أنهاراً عند الامتداد ولا يمكن أن يكون وفي خلال أنهار وإنما هي نهران فحسب ، وأما إن قلنا : إن المراد عند نهر فكذلك وإن قلنا : ...أي عظيم عليه مقاعد ، فنقول : يكون ذلك النهر ممتداً وأصلاً إلى كل واحد وله عنده مقعد عيون كثيرة تابعة ، فالنهر للتشريف والعيون للتفرج والتنزه مع أن النهر العظيم يجتمع مع العيون الكثيرة فكان النهر مع وحدته يقوم مقام العيون مع كثرتها وهذا كله مع النظر إلى أواخر الآيات ههنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد ههنا والجمع هناك.
(1/4300)

المسألة الرابعة : قرىء : {فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ} على أنها جمع نهار إذ لا ليل هناك وعلى هذا فكلمة في حقيقة فيه فقوله : {فِي جَنَّـاتِ} ظرف مكان ، وقوله : {وَنَهَرٍ} أي وفي نهر إشارة إلى ظرف زمان ، وقرىء بسكون الهاء وضم النون على أنه جمع نهر كأسد في جمع أسد نقله الزمخشري ، ويحتمل أن يقال : نهر بضم الهاء جمع نهر كثمر في جمع ثمر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 335
339
/ فيه مسائل :
المسألة الأولى : {وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} ، كيف مخرجه ؟
نقول : يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون على صورة بدل كما يقول القائل : فلان في بلدة كذا في دار كذا وعلى هذا يكون مقعد من جملة الجنات موضعاً مختاراً له مزية على مافي الجنات من المواضع وعلى هذا قوله : {عِندَ مَلِيكٍ} لأنا بينا في أحد الوجوه أن المراد من قوله : {فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ} (القمر : 54) في جنات عند نهر فقال : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } ويحتمل أن يقال : {عِندَ مَلِيكٍ} صفة مقعد صدق تقول درهم في ذمة ملىء خير من دينار في ذمة معسر ، وقليل عند أمين أفضل من كثير عند خائن فيكون صفة وإلا لما حسن جعله مبتدأ ثانيهما : أن يكون : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} كالصفة لجنات ونهر أي في جنات ونهر موصوفين بأنهما في مقعد صدق ، تقول : وقفة في سبيل الله أفضل من كذا و: {عِندَ مَلِيكٍ} صفة بعد صفة.
جزء : 29 رقم الصفحة : 339
المسألة الثانية : قوله : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} يدل على لبث لا يدل عليه المجلس ، وذلك لأن قعد وجلس ليسا على ما يظن أنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما بل بينهما فرق ولكن لا يظهر إلا للبارع ، والفرق هو أن القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء ، ويدل عليه وجوه الأول : هو أن الزمن يسمى مقعداً ولا يسمى مجلساً لطول المكث حقيقة ومنه سمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد ولا يقال لهن : جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقراً بين الدوام والثبات على حالة واحدة ويقال للمركوب من الإبل قعود لدوام اقتعاده اقتضاء ، وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس الثاني : النظر إلى تقاليب الحروف فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت ، وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال : أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر ، وإذا قدمت الدال رأيت دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب. وفي دعق أيضاً إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلباً أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه الوجه الثالث : الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى : {لا يَسْتَوِى الْقَـاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} (النساء : 95) والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى : {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } (آل عمران : 121) مع أنه تعالى قال : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِه صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَـانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف : 4) فأشار إلى الثبات العظيم. وقال تعالى : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } (الأنفال : 45) فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بئبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضاً يدل عليه ، إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها ههنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث ، ومنها في قوله تعالى :
جزء : 29 رقم الصفحة : 339
(1/4301)

{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (ق : 17) فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم ، ثم إذا عرف هذا وقيل للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر ؟
يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله : {حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق : 16) {لَدَىَّ عَتِيدٌ} (ق : 23) وقوله : {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (هود : 59) يناسب القعيد ، ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع ، وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه ، وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعاً للفظ ، والله تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي ، وفائدة أخرى في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُم وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } (المجادلة : 11) فإن قوله : {فَافْسَحُوا } إشارة إلى الحركة ، وقوله : {فَانشُزُوا } إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه.
المسألة الثالثة : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} وجهان أحدهما : مقعد صدق ، أي صالح يقال : رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد ، وقد ذكرناه في سورة : {إِنَّا فَتَحْنَا} في قوله تعالى : {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} (الفتح : 12) ، وثانيهما : الصدق المراد منه ضد الكذب ، وعلى هذا ففيه وجهان الأول : مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله الثاني : مقعد ناله من صدق فقال : بأن الله واحد وأن محمداً رسوله ، وحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه ، يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئاً فهو مقعد صدق وكلمة {عِندَ} قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان ، وقوله تعالى : {مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتداراً كان المتقرب منه أشد التذاذاً وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك ، فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه ، مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه ، والله تعالى قال : {مُّقْتَدِرٍ} لا يقرب أحداً إلا بفضله.
والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه.
جزء : 29 رقم الصفحة : 339
342
(1/4302)

سورة الرحمن
خمسون وخمس آيات مكية
جزء : 29 رقم الصفحة : 342
342
اعلم أولاً أن مناسبة هذه السورة لما قبلها بوجهين أحدهما : أن الله تعالى افتتح السورة المتقدمة بذكر معجزة تدل على العزة والجبروت والهيبة وهو انشقاق القمر ، فإن من يقدر على شق القمر يقدر على هد الجبال وقد الرجال ، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدل على الرحمة والرحموت وهو القرآن الكريم ، فإن شفاء القلوب بالصفاء عن الذنوب ثانيهما : أنه تعالى ذكر في السورة المتقدمة : {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} (القمر : 16) غير مرة ، وذكر في السورة : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 13) مرة بعد مرة لما بينا أن تلك السورة سورة إظهار الهيبة ، وهذه السورة سورة إظهار الرحمة ، ثم إن أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حيث قال في آخر تلك السورة : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) ، والاقتدار إشارة إلى الهيبة والعظمة وقال ههنا : {الرَّحْمَانُ} أي عزيز شديد منتقم مقتدر بالنسبة إلى الكفار والفجار ، رحمن منعم غافر للأبرار. ثم في التفسير مسائل :
المسألة الأولى : في لفظ {الرَّحْمَانُ} أبحاث ، ولا يتبين بعضها إلا بعد البحث في كلمة الله فنقول :
جزء : 29 رقم الصفحة : 342
المبحث الأول : من الناس من يقول : إن الله مع الألف واللام اسم علم لموجد الممكنات وعلى هذا فمنهم من قال : {الرَّحْمَانُ} أيضاً اسم علم له وتمسك بقوله تعالى : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَا أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الإسراء : 11) أي أياً ما منهما ، وجوز بعضهم قول القائل : يا الرحمن كما يجوز يا الله وتمسك بالآية وكل هذا ضعيف وبعضها أضعف من بعض ، أما قوله : الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية ، فلا يجوز أن تجعل وصلية ، وكان يجب أن يقال : خلق الله كما يقال : علم أحمد وفهم إسماعيل ، بل الحق فيه أحد القولين : إما أن نقول : إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم ، ثم استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل ، وعلى هذا فمن سمى غيره إلهاً فهو كمن يستعمل في مولود له فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كان علمين لغيره قبله في أنه جائز لأن من سمى ابنه أحمد لم يكن له من الأمر المطاع / ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسماً لا يستجرىء أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمى ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصاً من يكون مملوكاً لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به ، والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسماً لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم ، فمن يسمى فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون ، وفي المعنى ضالون وإما أن نقول : إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف واللام للتعريف ، ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم ، فإن قيل : فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز ؟
قلنا : لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علماً ، فإن قيل : تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا : كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكرى لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق ، والقديم لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز ، وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم/ فلا يجوز لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به ، فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق ، إذا عرفت البحث في الله فما يترتب عليه ، وهو أن الرحمن اسم على أضعف منه ، وتجويز يا الرحمن أضعف من الكل.
جزء : 29 رقم الصفحة : 342
البحث الثاني : الله والرحمن في حق الله تعالى كالاسم الأول والوصف الغالب الذي يصير كالاسم بعد الاسم الأول كما في قولنا : عمر الفاروق ، وعلى المرتضى وموسى الرضا ، وغير ذلك مما نجده في أسماء الخلفاء وأوصافهم المعرفة لهم التي كانت لهم وصفاً وخرجت بكثرة الاستعمال عن الوصفية ، حتى إن الشخص وإن لم يتصف به أو فارقه الوصف يقال له ذلك كالعلم فإذن للرحمن اختصاص بالله تعالى ، كما أن لتلك الأوصاف اختصاصاً بأولئك غير أن في تلك الأسماء والأوصاف جاز الوضع لما بينا حيث استوى الناس في الاقتدار والعظمة ، ولا يجوز في حق الله تعالى ، فإن قيل : إن من الناس من أطلق لفظ الرحمن على اليمامي ، نقول : هو كما أن من الناس من أطلق لفظ الإله على غير الله تعدياً وكفراً ، نظراً إلى جوازه لغة وهو اعتقاد باطل.
البحث الثالث : لله تعالى رحمتان سابقة ولاحقة فالسابقة هي التي بها خلق الخلق واللاحقة هي التي أعطى بها الخلق بعد إيجاده إياهم من الرزق والفطنة وغير ذلك فهو تعالى بالنظر إلى الرحمة السابقة رحمن ، وبالنظر إلى اللاحقة رحيم ، ولهذا يقال : يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ، فهو رحمن ، لأنه خلق الخلق أولاً برحمته ، فلما لم يوجد في غيره هذه الرحمة ولم يخلق أحد حداً لم يجز أن يقال لغيره : رحمن ، ولما تخلق الصالحون من عباده ببعض أخلاقه على قدر الطاقة البشرية ، وأطعم الجائع وكسا العاري ، وجد شيء من الرحمة اللاحقة التي بها الرزق والإعانة فجاز أن يقال له رحيم ، وقد ذكرنا هذا كله في تفسير سورة الفاتحة غير أنا أردنا أن يصير ما ذكرنا مضموماً إلى ما ذكرناه هناك ، / فأعدناه ههنا لأن هذا كله كالتفصيل لما ذكرناه في الفاتحة.
المسألة الثانية : {الرَّحْمَانُ} مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} وقيل {الرَّحْمَانُ} (خبر) مبتدأ تقديره هو الرحمن ، ثم أتى بجملة بعد جملة فقال : {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} والأول أصح ، وعلى القول الضعيف الرحمن آية.
(1/4303)