الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
أما اللغوية : قال المفسرون الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور في قوله : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} (هود : 37) ومعلوم عند العرب فقال الفلك ، هذا قول بعضهم ، وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فلا بد من بيان المعنى ، فنقول الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح ، وإما أن يكون المراد الجنس كما قال تعالى : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ} (الزخرف : 12) وقال تعالى : {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (فاطر : 12) وقال تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ} (العنكبوت : 65) إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس ، فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه الأول : أن المراد إنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله : /{حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} بدل قوله : حملناهم إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة ، هذا ما قاله الزمخشري ، ويحتمل عندي أن يقال على هذا إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر/ لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال : {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي لم يكن الحمل حملاً لهم ، وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كما أن من حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر إذا قيل له لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشتري بشيء ؟
يقول : لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه الثاني : هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولهذا يطلق على النساء نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن قتل الذراري ، أي النساء وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال ذرارينا أي أمثالنا فقوله : {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي أمثالهم وآباؤهم حينئذٍ تدخل فيهم الثالث : هو أن الضمير في قوله : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ} عائد إلى العباد حيث قال : {يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } (
جزء : 26 رقم الصفحة : 286
يس : 30) وقال بعد ذلك : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ} (يس : 33) وقال : {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} إذا علم هذا فكأنه تعالى قال : وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً معينين كما قال تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } (النساء : 29) ويريد بعضهم بعضاً ، وكذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال ، يقال هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم ، فهم في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً معينين ، بل المراد أن بعضهم قتل بعضاً ، فكذلك قوله تعالى : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ} أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية على بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم. وأما إن قلنا إن المراد جنس الفلك فهو أظهر ، لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها ، فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد ، وقوله تعالى في سفينة نوح : {وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (العنكبوت : 15) أي بوجود جنسها ومثلها ، ويؤيده قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـاتِه ا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ} (لقمان : 31) فنقول قوله تعالى : {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم ، لأن سكون الأرض عام لكل أحد يسكنها فقال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ} إلى أن قال : {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} (يس : 33) لأن الأكل عام ، وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يحمل فيها ، ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإن فيهم من يحتاج إليها فيحمل فيها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 286
(1/3726)

المسألة الثانية : جعل الفلك تارة جمعاً حيث قال : {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (فاطر : 12) جمع ماخرة وأخرى فرداً حيث قال : {فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} نقول فيه تدقيق مليح من علم اللغة ، وهو أن الكلمة قد تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة ، والحركتان مختلفتان في المعنى مثالها قولك : سجد يسجد سجوداً للمصدر وهم قوم سجود في جمع ساجد ، تظن أنهما كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك ، بل السجود عند كونه مصدراً حركته أصلية إذا قلنا إن الفعل مشتق من المصدر/وحركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيرة من حيث إن الجمع يشتق من الواحد ، وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حركة أو حرف أو في مجموعهما ، فساجد لما أردنا أن يشتق منه لفظ جمع غيرناه ، وجئنا بلفظ السجود ، فإذاً السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين ، إذا عرفت هذا فنقول الفلك عند كونه واحداً مثل قفل وبرد ، وعند كونها جمعاً مثل خشب ومرد وغيرهما/ فإن قلت فإذا جعلته جمعاً ماذا يكون واحدها ؟
نقول جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النساء حيث لم يستعمل ، وكذا القول في : {إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس : 12) وفي قوله : {نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ } (الإسراء : 71) أي بأئمتهم عند قوله تعالى : {إِمَامٍ مُّبِينٍ} إما كزمام وكتاب وعند قوله تعالى : {كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ } إمام كسهام وكرام وجعاب وهذا من دقيق التصريف وأما المعنوية : فنذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : قال ههنا : {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} من عليهم بحمل ذريتهم ، وقال تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَـاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ} (الحاقة : 11) من هناك عليهم بحمل أنفسهم ، نقول لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ، ومن يدفع الضرر على المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير ، بل يكون قد نفعه مثاله من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه ، وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه ، عند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال دفعت عنكم الضرر ، ولو قال دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم ، وههنا أراد بيان المنافع فقال : {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} لأن النفع حاصل بنفع الذرية ويدلك على هذا أن ههنا قال : {فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة ، وأما دفع المضرة فلا ، لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة ، فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري ، وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن ، فإن قيل قال تعالى : {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70) ولم يقل : وحملنا ذريتهم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة ، لا دفع النقمة ، نقول لما قال : {فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} عم الخلق ، لأن ما من أحد إلا وحمل في البر أو البحر ، وأما الحمل في البحر فلم يعلم ، فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.
جزء : 26 رقم الصفحة : 286
المسألة الثانية : قوله : {الْمَشْحُونِ} يفيد فائدة أخرى غير ما ذكرنا وهي أن الآدمي يرسب في الماء ويغرق ، فحمله في الفلك واقع بقدرته ، لكن من الطبيعيين من يقول الخفيف لا يرسب في الماء ، لأن الخفيف يطلب جهة فوق فقال : {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أثقل من الثقال التي ترسب ، ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله ، فإن قالوا ذلك لامتناع الخلاء نقول قد ذكرنا الدلائل الدالة على جواز الخلاء في الكتب العقلية ، فإذن ليس حفظ الثقيل فوق الماء إلا بإرادة الله.
/المسألة الثالثة : قال تعالى : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ} (يس : 33) وقال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ} (يس : 37) ولم يقل وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم ، وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب. أما نفس الفلك فليس بعجب لأنه كبيت مبني من خشب. وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 286
286
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من حيث اللغة فقوله لهم يحتمل أن يكون عائداً إلى الذرية ، أي حملنا ذريتهم وخلقنا للمحمولين ما يركبون ، ويحتمل أن يكون عائداً إلى العباد الذين عاد إليهم قوله : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ} (يس : 41) وهو الحق لأن الظاهر عود الضمائر إلى شيء واحد.
(1/3727)

المسألة الثانية : {مِّنْ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون صلة تقديره وخلقنا لهم مثله ، وهذا على رأي الأخفش ، وسيبويه يقول : من لا يكون صلة إلا عند النفي ، تقول ما جاءني من أحد كما في قوله تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38) ، وثانيهما : هي مبينة كما في قوله تعالى : {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} (الأحقاف : 31) كأنه لما قال : {خَلَقْنَا لَهُم} والمخلوق كان أشياء قال من مثل الفلك للبيان.
المسألة الثالثة : الضمير في {مِّثْلِه } على قول الأكثرين عائد إلى الفلك فيكون هذا كقوله تعالى : {وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ} (ص : 58) وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم ويؤيد هذا هو أنه تعالى قال : {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} (يس : 43) ولو كان المراد الإبل على ما قاله بعض المفسرين لكان قوله : {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ} فاصلاً بين متصلين ، ويحتمل أن يقال الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور تقديره أن يقال : وخلقنا لهم من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله : {خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ} (يس : 36) وهذا كما قالوا في قوله تعالى : {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} فيه لطيفة ، وهي أن ما من أحد إلا وله ركوب مركوب من الدواب وليس كل أحد يركب الفلك فقال في الفلك حملنا ذريتهم وإن كان ما حملناهم ، وأما الخلق فلهم عام وما يركبون فيه وجهان أحدهما : هو الفلك الذي مثل فلك نوح ثانيهما : هو الإبل التي هي سفن البر ، فإن قيل إذا كان المراد سفينة نوح فما وجه مناسبة الكلام ؟
نقول ذكرهم بحال قوم نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يهلكوا.
جزء : 26 رقم الصفحة : 286
287
ثم قال تعالى : {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} إشارة إلى فائذتين أحداهما : أن في حال النعمة ينبغي أن لا يأمنوا عذاب الله وثانيتهما : هو أن ذلك جواب سؤال مقدر وهو أن الطبيعي يقول السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة والمجوف لا يرسب فقال ليس كذلك بل لو شاء الله أغرقهم وليس ذلك بمقتضى الطبع ولو صح كلامه الفاسد لكان القائل أن يقول : ألست توافق أنمن السفن ما ينقلب/وينكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء الله إغراقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو بشيء من تلك الأسباب كما تسلم أنت.
وقوله تعالى : {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا مغيث لهم يمنع عنهم الغرق.
وقوله تعلاى : {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} إذا أدركهم الغرق وذلك لأن الخلاص من العذاب ، إما أن يكون بدفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال : لا صريخ لهم يدفع ولا هم ينقذون بعد الوقوع فيه ، وهذا مثل قوله تعالى : {لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا وَلا يُنقِذُونِ} فقوله : {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} فيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال لا صريخ لهم ولم يقل ولا منقذ لهم وذلك لأن من لا يكون من شأنه أن ينصر لا يشرع في النصرة مخافة أن يغلب ويذهب ماء وجهه ، وإنما ينصر ويغيث من يكون من شأنه أن يغيث فقال لا صريخ لهم ، وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعز عليه في ضر يشرع في الإنقاذ ، وإن لم يثق بنفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه. وإنما يبذل المجهود فقال : {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} ولم يقل ولا منقد لهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 287
287
ثم استثنى فقال :
وهو يفيد أمرين أحدهما : انقسام الإنقاذ إلى قسمين الرحمة والمتاع ، أي فيمن علم الله منه أنه يؤمن فينقذه الله رحمة ، وفيمن علم أنه لا يؤمن فليتمتع زماناً ويزداد إثماً وثانيهما : أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه فينقذه الله رحمة ويمتعه إلى حين ، ثم يميته فالزوال لازم أن يقع. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 287
289
(1/3728)

وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما عدد الآيات بقوله : {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} (يس : 33 ، 37 ، 41) وكانت الآيات تفيد اليقين وتوجب القطع بما قال تعالى ولم تفدهم اليقين ، قال فلا أقل من أن يحترزوا عن العذاب فإن من أخبر بوقوع عذاب يتقيه ، وإن لم يقطع بصدق قول المخبر احتياطاً فقال تعالى إذا ذكر لهم الدليل القاطع لا يتعرفون به وإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة ، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط ، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بحرف التمني أي في ظنكم فإن من يخفى عليه وجه البرهان. لا يترك طريقة الاحتراز والاحتياط ، وجواب قوله : {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} محذوف معناه وإذا قيل لهم ذلك لا يتقون أو يعرضون ، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى : {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ} (الأنعام : 4) وفي قوله تعالى : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} /وجوه أحدها : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} الآخرة فإنهم مستقبلون لها {وَمَا خَلْفَكُمْ} الدنيا فإنهم تاركون لها وثانيها : {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق ، وغيرهما المدلول عليه بقوله تعالى : {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} (يس : 43) وما خلفكم من الموت الطالب لكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه يدل عليه قوله تعالى : {وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} (يس : 44) وثالثها : ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلّم فإنه حاضر عندكم وما خلفكم من أمر الحشر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم والتكذيب بالحشر رحمكم الله وقوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} مع أن الرحمة واجبة ، فيه وجوه ذكرناها مراراً ونزيد ههنا وجهاً آخر وهو أنه تعالى لما قال : {اتَّقُوا } بمعنى أنكم إن لم تقطعوا بناء على البراهين فاتقوا احتياطاً قال : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يعني أرباب اليقين يرحمون جزماً وأرباب الاحتياط يرجى أن يرحموا ، والحق ما ذكرنا من وجهين أحدهما : اتقوا راجين الرحمة فإن الله لا يجب عليه شيء وثانيهما : هو أن الاتقاء نظراً إليه أمر يفيد الظن بالرحمة فإن كان يقطع به أحد لأمر من خارج فذلك لا يمنع الرجاء فإن الملك إذا كان في قلبه أن يعطي من يخدمه أكثر من أجرته أضعافاً مضاعفة لكن الخدمة لا تقتضي ذلك ، يصح منه أن يقول افعل كذا ولا يبعد أن يصل إليك أجرتك أكثر مما تستحق. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 289
289
وهذا متعلق بما تقدم من قوله تعالى : {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنابَـا ؤُا مَا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} (يس : 30) {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا } يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها وما التفتوا إليها وقوله : {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ} إلى قوله : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (يس : 31 ــــ 45) وكان فيه تقدير أعرضوا قال ليس إعراضهم مقتصراً على ذلك بل هم على كل آية معرضون أو يقال إذا قيل لهم اتقوا اقترحوا آيات مثل إنزال الملك وغيره فقال : {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} وعلى هذا كانوا في المعنى يكون زائداً معناه إلا يعرضون عنها أي لا ينفعهم الآيات من كذب بالبعض هان عليه التكذيب بالكل. وقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 289
290
(1/3729)

إشارة إلى أنهم يبخلون بجميع ما على المكلف ، وذلك لأن الملكف عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم {اتَّقُوا } فلم يتقوا حيث قيل لهم {اتَّقُوا } فلم يتقوا وتركوا الشفقة على خلق الله حيث قيل لهم : {أَنفِقُوا } فلم ينفقوا وفيه لطائف الأولى خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والشفقة فلم يأتوا بشيء منه وعباد الله المخلصون خوطبوا بالأدنى فأتوا بالأعلى إنما قلنا ذلك لأنهم في التقوى أمروا بأن يتقوا ما بين أيديهم من العذاب أو الآخرة وما خلفهم من الموت أو العذاب وهو أدنى ما يكون من الاتقاء ، وأما الخاص فيتقي تغيير قلب الملك عليه وإن لم يعاقبه ومتقى العذاب لا يكون إلا للبعيد ، فهم لم يتقوا معصية الله ولم يتقوا عذاب الله ، والمخلصون اتقوا الله واجتنبوا مخالفته سواء كان يعقابهم عليه أو لا يعاقبهم ، وأما في الشفقة فقيل لهم : {أَنفِقُوا مِمَّا} أي بعض ما هو لله في أيديكم فلم ينفقوا ، والمخلصون آثروا على أنفسهم وبذلوا كل ما في أيديهم ، بل أنفسهم صرفوها إلى نفع عباد الله ودفع الضرر عنهم الثانية : كما أن في جانب التعظيم ما كان فائدة التعظيم ارجعة إلا إليهم فإن الله مستغن عن تعظيمهم كذلك في جانب الشفقة ما كان فائدة الشفقة راجعة إلا إليهم ، فءن من لا يرزقه المتمزل لا يموت إلا بأجله ولا بد من وصول رزقه إليه ، لكن السعيد من قدر الله إيصال الرزق على يده إلى غيره الثالثة : قوله : {مِمَّا رَزَقَكُمُ} إشارة إلى أمرين أحدهما : أن البخل به في غاية القبح فإن أبخل البخلاء من يخبل بمال الغير وثانيهما : أنه لا ينبغي أن يمنعكم من ذلك مخافة الفقر فإن الله رزقكم فإذا أنفقتم فهو يخلفه لكم ثانياً كما رزقكم أولاً وفيه مسائل أيضاً :
المسألة الأولى : عند قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا } حذف الجواب ، وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب وذلك لأنه تعالى لو قال : وإذا قيل لهم أنفقوا قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه لكان كافياً ، فما الفائدة في قوله تعالى : {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } ؟
نقول الكفار كانوا يقولون بأن الإطعام من الصفات الحميدة وكانوا يفتخرون به ، وإنما أرادوا بذلك القول رداً على المؤمنين فقالوا نحن نطعم الضيوف معتقدين بأن أفعالنا ثناء ، ولولا إطعامنا لما اندفع حاجة الضيف وأنتم تقولون إن إلهكم يرزق من يشاء ، فلم تقولون لنا أنفقوا ؟
فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين لا الامتناع من الإطعام. قال تعالى عنهم : {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } إشارة إلى الرد ، وأما في قولهم : {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} (يس : 45) فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا وأعرض الله عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به.
جزء : 26 رقم الصفحة : 290
المسألة الثانية : ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا أننفق على من لو يشاء الله رزقه ، وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا } فكان جوابهم بأن/يقولوا أننفق فلم قالوا : {أَنُطْعِمُ} ؟
نقول فيه بيان غاية مخالفتهم وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم ، وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيداً ديناراً يقول لا أعطيه درهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا.
المسألة الثالثة : كان كلامهم حقاً فإن الله لو شاء أطعمه فلماذا ذكره في معرض الذم ؟
نقول لأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالاتفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسد بين الله ذلك في قوله : {مِمَّا رَزَقَكُمُ} فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزائنه مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزائنه وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من بيده ماله في خزائنك أكثر مما في يدي أعطه منه ، وقوله : {إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية معونية.
(1/3730)

أما اللغوية : فنقول : {ءَانٍ} وردت للنفي بمعنى ما ، وكان الأرض في إن أن تكون للشرط والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقارضا واستعمل ما في الشرط واستعمل إن في النفي ، أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وأن لا يكون ثابتاً أما في ما فظاهر ، وأما في إن فلأنك إذا قلت إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجىء فاستعمل إن مكان ما ، وقيل إن زيد قائم أي ما زيد بقائم واستعمل ما في الشرط تقول ما تصنع أصنع ، والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن وذلك لأنك تقول ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ولا تقول إن جلس زيد بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول إما ترين فتجعل إن أصلاً وما صلة ، فدلنا هذا على أن إن في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس.
جزء : 26 رقم الصفحة : 290
البحث الثاني : قد ذكرنا أن قوله : {إِنْ أَنتُمْ إِلا} يفيد ما لا يفيد قوله : أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال.
البحث الثالث : وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال.
البحث الرابع : قد ذكرنا أن قوله : {فِى ضَلَـالٍ} يفيد كونه مغمورين فيه غائصين ، وقوله في مواضع {عَلَى بَيِّنَةٍ} (الأنعام : 57) و{عَلَى هُدًى} (البقرة : 5) إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه.
وأما المعنوية : فهي أنهم إنما وصفوا الذين آمنوا بكونهم في ضلال مبين لكونهم ظانين أن المؤمن كلامه متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال ، إنما قلنا ذلك لأنهم قالوا : {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَه } إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم كان يطعمهم فلا تدر على إطعامهم لأنه يكون تحصيلاً للحاصل ، وإن لم يشأ الله إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام ، فكيف تأمرونا بالإطعام ووجه آخر : وهو أنهم قالوا أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال ولم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر ، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي أن يكشف سبب الأمر والإطلاع على المقصود الذي أمر به لأجله. مثاله : الملك إذا أراد الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال لعبده أحضر المركوب ، فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره ، فالأدب في الطاعة وهو اتباع الأمر لا تتبع المراد ، فالله تعالى إذا قال : أنفقوا مما رزقكم لا يجوز أن يقولوا : لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 290
291
وهو إشارة إلى ما اعتقدوه وهو أن التقوى المأمور بها في قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا } (يس : 45) والإنفاق المذكور في قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا } (يس : 47) لا فائدة فيه لأن الوعد لا حقيقة له وقوله : {مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ} أي متى يقع الموعود به ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وهي أن إن للشرط وهي تستدعي جزاء ومتى استفهام لا يصلح جزاء فما الجواب ؟
نقول هي في الصورة استفهام ، وفي المعنى إنكار كأنهم إن كنتم صادقين في وقوع الحشر فقولوا متى يكون.
المسألة الثانية : الخطاب مع من في قولهم : {إِن كُنتُمْ} ؟
نقول الظاهر أنه مع الأنبياء لأنهم لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم يا أيها المدعوون للرسالة صادقين فأخبرونا متي يكون.
المسألة الثالثة : ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله : {هَـاذَا الْوَعْدُ} إلى أي وعد ؟
نقول هو ما في قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} (يس : 45) من قيام الساعة ، أو نقول هو معلوم وإن لم يكن مذكوراً لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 291
292
(1/3731)

ثم قال تعالى : {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي لا ينتظرون إلا الصحية المعلومة والتنكير للتكثير ، فإن قيل هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها ، فنقول الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه فإنهم لا يقولون أو نقول لما لم يكن قوله متى استفهاماً حقيقاً قال ينتظرون انتظاراً غير حقيقي ، لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظراً إلى قوله. وقد ذكروا ههنا في الصيحة أموراً تدل على/هولها وعظمها أحدها : التنكير يقال لفلان مال أي كثير وله قلب أي جريء وثانيها : واحدة أي لا يحتاج معها إلى ثانية وثالثها : تأخذهم أي تعمهم بالأخذ وتصل إلى من في مشارق الأرض ومغاربها ، ولا شك أن مثلها لا يكون إلا عظيماً.
وقوله : {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى ا أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} ، مما يعظم به الأمر لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده بخلاف المنتظر للصيحة ، فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمهمشغول يكون الارتجاف أتم والإيحاف أعظم ، ويحتمل أن يقال : {يَخِصِّمُونَ} في البعث ويقولون لا يكون ذلك أصلاً فيكونون غافلين عنه بخلاف من يعتقد أنه يكون فيتهيأ له وينتظر وقوعه فإنه لا يرتجف وهذا هو المراد بقوله تعالى : {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ} (الزمر : 68) ممن اعتقد وقوعها فاستعد لها ، وقد مثلنا ذلك فيمن شام برقاً وعلم أن سيكون رعد ومن لم يشمه ولم يعلم ثم رعد الرعد ترى الشائم العالم ثابتاً والغافل الذاهل مغشياً عليه ، ثم بين شدة الأخذ وهي بحيث لا تمهلهم إلى أن يوصوا. وفيه أمور مبينة للشدة أحدها : عدم الاستطاعة فإن قول القائل فلأن في هذا الحال لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية لأن من لا يوصي قد يستطيعها الثاني : التوصية وهي بالقول والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال : لا يستطيعون كلمة فكيف فعلاً يحتاج إلى زمان طويل من أداء يالواجبات ورد المظالم الثالث : اختيار التوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى التوصية أمس الرابع : التنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة ، ولأن التوصية قد تحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز من غيرها الخامس : قوله : {وَلا إِلَى ا أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} بيان لشدة الحاجة إلى التوصية لأن من يرجو الوصول إلى أهله قد يمسك عن الوصية لعدم الحاجة إليها ، وأما من يقطع بأنه لا وصول له إلى أهله فلا بد له من التوصية ، فإذا لم يستطع مع الحاجة دل على غاية الشدة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 292
وفي قوله : {وَلا إِلَى ا أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} وجهان أحدهما : ما ذكرنا أنهم يقطعون بأنهم لا يمهلون إلى أن يجتمعوا بأهالهيم وذلك يوجب الحاجة إلى التوصية وثانيهما : أنهم إلى أهلم لا يرجعون ، يعني يموتون ولا رجوع لهم إلى الدنيا ، ومن يسافر سفراً ويعلم أنه لا رجوع له من ذلك السفر ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى يأتي بالوصية. ثم بين ما بعده بالصيحة الأول فقال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 292
293
أي نفخ فيه (مرة) أخرى كما قال تعالى : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر : 68) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى في موضع آخر : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وقال ههنا : {فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} والقيام غير النسلان وقوله في الموضعين : {فَإِذَا هُمْ} يقتضي أن يكون معاً نقول الجواب : عنه من وجهين أحدهما : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وثانيهما : أن السرعة مجىء الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
المسألة الثانية : كيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الأحياء والإماتة ؟
نقول لا مؤثر غير الله والنفخ علامة ، ثم إن الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة كانت أجزاء الحي مجتمعة فزلزها فحصل فيها تفريق ، وحالة الموت كانت الأجزاء متفرقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فالحاصل أن النفختين يؤثران تزلزلاً وانتقالاً للأجرام فعند الاجتماع تتفرق وعدن الافتراق تجتمع.
(1/3732)

المسألة الثالثة : ما التحقيق في إذا التي للمفاجأة ؟
نقول هي إذا التي للظرف معناه نفخ في الصور فإذا نفخ فيه هم ينسلون لكن الشيء قد يكون ظرفاً للشيء معلوماً كونه ظرفاً ، فعند الكلام يعلم كونه ظرفاً وعن المشاهدة لا يتجدد علم كقول القائل إذا طلعت الشمس أضاء الجو وغير ذلك ، فإذا رأى إضاءة الجو عند الطلوع لم يتجدد علم زائد ، وأما إذا قلت خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب. لكنه لم يكن معلوماً فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفاً له مفاجأة عند الإحساس فقيل إذا للمفاجأة.
المسألة الرابعة : أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال ؟
نقول يجمع الله أجزاء كل واحد في الموضع الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه.
المسألة الخامسة : الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدك ذكر الكافر ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظاً دالاً على الهيبة هل يكون أليق أم لا ؟
قلنا : هذا اللفظ أحسن ما يكون ، لأن من أساء واضطر إلى التوجه من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألماً وأكثر ندماً من غيره.
جزء : 26 رقم الصفحة : 293
المسألة السادسة : المسيء إذا توجه إلى المحسن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ، والنسلان هو سرعة المشي فكيف يوجد منهم ذلك ؟
نقول : ينسلون من غير اختيارهم ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} (الصافات : 19) أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور ، فيكون في وقته جمع وتركيب وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : {فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} يعني في زمان واحد ينتهون إلى هذا الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 293
294
يعني لما بعثوا قالوا ذلك ، لأن قوله : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} (يس : 51) يدل على أنهم بعثوا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل : لو قال الله تعالى فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون : يا ويلنا كان أليق ، نقول معاذ الله ، وذلك لأن قوله : {فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} (يس : 51) على ما ذكرنا إشارة إلى أنه تعالى في أسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها ، بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ ، مع أن ذلك لا بد له من الجمع والتأليف ، فلو قال يقولون ، لكان ذلك مثل الحال لينسلون ، أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك ، فإن قولهم يا ويلنا قبل أن ينسلوا ، وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفوائد.
المسألة الثانية : لو قال قائل : قد عرفنا معنى النداء في مثل يا حسرة ويا حسرتا ويا ويلنا ، ولكن ما الفرق بين قولهم وقول الله حيث قال : {يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } (يس : 30) من غير إضافة ، وقالوا : يا حسرتا ويا حسرتنا ويا ويلنا ؟
نقول حيث كان القائل هو المكلف لم يكن لأحد علم إلا بحالة أو بحال من قرب منه ، فكان كل واحد مشغولاً بنفسه ، فكان كل واحد يقول : يا حسرتنا ويا ويلنا ، فقوله : {قَالُوا يَـا أَبَانَا} أي كل واحد قال يا ويلي ، وأما حيث قال الله قال على سبيل العموم لشمول علمه بحالهم.
المسألة الثالثة : ما وجه تعلق : {يَـاوَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } بقولهم : نقول لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل ، فقالوا : يا ولينا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا ؟
وهذا كمال إذا يسمعون من الرسل ، فقالوا : يا ويلنا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا ؟
وهذا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لا يطيقه ، ثم يرى رجلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول : هذا ذلك أم لا ؟
ويدل على ذكرنا قولهم : {مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياماً فنبهوا أو كانوا موتى وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين ، فقالوا : {مَنا بَعَثَنَا} إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به ، وقالوا : {مِن مَّرْقَدِنَا } إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 294
المسألة الرابعة : {هَـاذَا} إشارة إلى ماذا ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : أنه إشارة إلى المرقد كأنهم قالوا : من بعثنا من مرقدنا هذا فيكون صفة للمرقد يقال كلامي هذا صدق وثانيهما : {هَـاذَا} إشارة إلى البعث ، أي هذا البعث ما وعد به الرحمن وصدق فيه المرسلون.
(1/3733)

المسألة الخامسة : إذا كان هذا صفة للمرقد فكيف يصح قوله تعالى : {مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ؟
نقول يكون ما وعد الرحمن ، مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق ، والمرسلون صدقوا ، أو يقال ما وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون حق ، والأول أظهر لقلة/الإضمار ، أو يقال ما وعد الرحمن خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ما وعد الرحمن من البعث ليس تنبيهاً من النوم ، وصدق المرسلون فيما أخبروكم به.
المسألة السادسة : إن قلنا : {هَـاذَا} إشارة إلى المرقد أو إلى البعث ، فجواب الاستفهام بقولهم {مَنا بَعَثَنَا} أن يكون ؟
نقول : لما كان غرضهم من قولهم : {مَنا بَعَثَنَا} حصول العلم بأنه بعث أو تنبيه حصل الجواب بقوله هذا بعث وعد الرحمن به ليس تنبيهاً ، كما أن الخائف إذا قال لغيره ماذا تقول أيقتلني فلان ؟
فله أن يقول لا تخف ويسكت ، لعلمه أن غرضه إزالة الرعب عنه وبه يحصل الجواب. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 294
296
أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة ، يدل على النفخة قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} (يس : 51) ويحتمل أن يقال إن كانت الواقعة ، وقرئت الصيحة مرفوعة على أن كان هي التامة ، بمعنى ما وقعت إلا صيحة ، وقال الزمخشري : لو كان كذلك لكان الأحسن أن يقال : إن كان ، لأنا لمعنى حينئذٍ ما وقع شيء إلا صيحة ، لكن التأنيث جائز إحالة على الظاهر ، ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع أن قوله : {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة : 1) تأنيث تهويل ومبالغة ، يدل عليه قوله : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (الواقعة : 2) فإنها للمبالغة فكذلك هنا قال : {إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً} مؤنثة تأنيث تهويل ، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحاقة والطامة والصاخة إلى غيرها ، والزمخشري يقول كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة ، وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة ، وقوله : {مُحْضَرُونَ} دل على أن كونهم {يَنسِلُونَ} (يس : 51) إجباري لا اختياري. ثم بين ما يكون ف ذلك اليوم بقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 296
297
فقوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} ليأمن المؤمن {وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لييأس المجرم الكافر وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم بقوله : {وَلا تُجْزَوْنَ} وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان المؤمن من العذاب بقوله : {لا تُظْلَمُ} ولم يقل ولا تظلمون أيها المؤمنون ؟
نقول لأن قوله : {لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـاًا} يفيد العموم وهو كذلك فإنها لا تظلم أبداً {وَلا تُجْزَوْنَ} مختص بالكافر ، فإن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن الله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً ، وفيه بشارة.
/المسألة الثانية : ما المقتضى لذكر فاء التعقيب ؟
نقول لما قال : {مُحْضَرُونَ} (يس : 53) مجموعون والجمع للفصل والحساب ، فكأنه تعالى قال إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للفصل بالعدل ، فلا ظلم عند الجمع للعدل ، فصار عدم الظلم مترتباً عى الإحضار للعدل ، ولهذا يقول القائل للوالي أو للقاضي : جلست للعدل فلا تظلم ، أي ذلك يتقضي هذا ويستعقبه.
المسألة الثالثة : لا يجزون عين ما كانوا يعلمون ، بل يجزون بما كانوا أو على ما كانوا وقوله : {وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يدل على أن الجزاء بعين العمل ، لا يقال جزى يتعدى بنفسه وبالباء ، يقال جزيته خيراً وجزيته بخير ، لأن ذلك ليس من هذا لأنك إذا قلت جزيته بخير لا يكون الخير مفعولك ، بل تكون الباء للمقابلة والسببية كأنك تقول جزيته جزاء بسبب ما فعل ، فنقول الجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن يكون ذلك إشارة على وجه المبالغة إلى عدم الزيادة وذلك لأن الشيء لا يزيد على عينه ، فنقول قوله تعالى : تجزون بما كانوا يعملون في المساواة كأنه عين ما علموا يقال فلان يجاوبني حرفاً بحرف أي لا يترك شيئاً ، وهذا يوجب اليأس العظيم الثاني : هو أن ما غير راجع إلى الخصوص ، وإنما هي للجنس تقديره ولا تجزون إلا جنس العمل أي إن كان حسنة فحسنة ، وإن كانت سيئة فسيئة فتجزون ما تعملون من السيئة والحسنة ، وهذا كقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40).
ثم بين حال المحسن وقال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 297
297
(1/3734)

وقوله : {فِى شُغُلٍ} يحتمل وجوهاً : أحدهما : في شغل عن هول اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب ، فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب ، وقوله : {فَـاكِهُونَ} يكون متمماً لبيان سلامتهم فالله لو قال : في شغل جاز أن يقال هم في شغل عظم من التفكر في اليوم وأهواله ، فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره ويخبر بخسران وقع في ماله ، يقول أنا مشغول من هذا بأهم منه ، فقال : {فَـاكِهُونَ} أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور وثانيها : أن يكون ذلك بياناً لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء يل يكون معناه هم في عمل ، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق ، بل هو ملذ محبوب وثالثها : في شغل عما توثعوه فإنهم تصوروا في الدنيا أموراً وقالوا نحن إذا دخلنا الجنة لا نطلب إلا كذا وكذا ، فرأوا ما لم يخطر ببالهم فاشتغلوا به ، وفيه وجوه : غير هذه ضعيفة أحدها : قيل افتضاض الأبكار وهذا ما ذكرناه في الوجه الثالث أن الإنسان/قد يترجح في نظره الآن مداعبة الكواعب فيقول في الجنة ألتذ بها ، ثم إن الله ربما يأتيه ما يشغله عنها وثانيها قيل في ضرب الأوتار وهو من قبيل ما ذكرناه توهم وثالثها في التزاور ورابعها : في ضيافة الله وهو قريب مما قلنا لأن ضيافة الله تكون بألذ مما يمكن وحينئذ تشغله تلك عما توهمه في دنياه وقوله : {فَـاكِهُونَ} خبر إن ، و{فِى شُغُلٍ} بيان ما فكاهتهم فيه يقال زيد على عمله مقبل ، وفي بيته جالس فلا يكون الجار والمجرور خبراً ولو نصبت جالساً لكان الجار والمحرور خبراً. وكذلك لو قال في شغل فاكهين لكان معناه أصحاب الجنة مشغولون فاكهين على الحال وقرىء بالنصب والفاكه الملتذ المتنعم به ومنه الفاكهة لأنها لا تكون في السعة إلا للذة فلا تؤكل لدفع ألم الجوع ، وفيه معنى لطيف. وهو أنه أشار بقوله : {فِى شُغُلٍ} عن عدمهم الألم فلا ألم عندهم ، ثم بين بقوله : {فَـاكِهُونَ} عن وجدانهم اللذة وعادم الألم قد لا يكون واجداً للذة. فبين أنهم على أتم حال ثم بين الكمال بقوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 297
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} وذلك لأن من يكون في لذة قد تتنغص عليه بسبب تفكره في حال من يهمه أمره فقال : {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} أيضاً فلا يبقى لهم تعلق قلب ، وأما من في النار من أقاربهم وإخوانهم فيكونون هم عنهم في شغل ، ولا يكون منهم عندهم ألم ولا يشتهون حضورهم والأزواج يحتلم وجهين : أحدهما : أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الإيمان كما قال تعالى : {مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ} (ص : 58) ، وثانيهما : الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل كما في قوله تعالى : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المعارج : 30) وقوله تعالى : {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (البقرة : 234) فإن المراد ليس هو الإشكال ، وقوله : {فِى ظِلَـالٍ} جمع ظل وظلل جمع ظلة والمراد به الوقاية عن مكان الألم ، فإن الجالس تحت كن لا يخشى المطر ولا حر الشمس فيكون به مستعداً لدفع الألم ، فكذلك لهم من ظل الله ما يقيهم الأسواء ، كما قال تعالى : {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر : 35) وقال : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} (الإنسان : 13) إشارة إلى عدم الآلام وفيه لطيفة أيضاً وهي أن حال المكلف ، إما أن يكون اختلالها بسبب ما فيه من الشغل ، وإن كان في مكان عال كالقاعد في حر الشمس في البستان المتنزه أو يكون بسبب المكان/ وإن كان الشغل مطلوباً كملاعبة الكواعب في المكان المكشوف ، وإما أن يكون بسبب المأكل كالمتفرج في البستان إذا أعوزه الطعام ، وإما بسبب فقد الحبيب ، وإلى هذا يشير أهل القلب في شرائط السماع بقولهم : الزمان والمكان والإخوان قال تعالى : {فِى شُغُلٍ فَـاكِهُونَ} إشارة إلى أنهم ليسوا في تعب وقال : {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} إشارة إلى عدم الوحدة الموحشة وقال : {فِى ظِلَـالٍ عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ} إشارة إلى المكان وقال : {لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله : {مُتَّكِـاُونَ} إشارة إلى أدل وضع على القوة والفراغة فإن القائم قد يقوم لشغل والقاعد قد يقعد لهم. وأما المتكىء فلا يتكىء إلا عند الفراغ والقدرة لأن المريض لا يقدر على الإتكاء ، وإنما يكون مضطجعاً أو مستلقياً والأرائك جمع أريكة. وهي السرير الذي عليه الفرش وهو تحت الحجلات فيكون مرئياً هو/وما فوقه وقوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 297
(1/3735)

{لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ} إشارة إلى أن لا جوع هناك ، وليس الأكل لدفع ألم الجوع ، وإنما مأكولهم فاكهة ، ولو كان لحماً طرياً ، لا يقال قوله تعالى : {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} (الواقعة : 21) يدل على التغاير وصدق الشهوة وهو الجوع لأنا نقول قوله : {مِّمَّا يَشْتَهُونَ} يؤكد معنى عدم الألم لأن أكل الشيء قد يكون للتداوي من غير شهوة فقال مما يشتهون لأن لحم الطير في الدنيا يؤكل في حالتين إحداهما : حالة التنعم والثانية : حالة ضعف المعدة وحينئذ لا يأكل لحم طير يشتهيه ، وإنما يأكل ما يوافقه ويأمره به الطبيب ، وأما أنه يدل على التغاير ، فنقول مسلم ذلك لأن الخاص يخالف العام ، على أن ذلك لا يقدح في غرضنا ، لأنا نقول إنما اختار من أنواع المأكول الفاكهة في هذا الموضع لأنها أدل على التنعم والتلذذ وعدم الجوع والتنكير لبيان الكمال ، وقد ذكرناه مراراً وقوله : {لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ} ولم يقل يأكلون ، إشارة إلى كون زمام الاختيار بيدهم وكونهم مالكين وقادرين وقوله : {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} فيه وجوه : أحدها لهم فيها ما يدعون لأنفسهم أي دعاؤهم مستجاب ، وحينئذ يكون هذا افتعالاً بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحيل ، وعلى هذا فليس معناه أنهم يدعون لأنفسهم دعاء فيستجاب دعاؤهم بعد الطلب بل معناه ولهم ما يدعون لأنفسهم أي ذلك لهم فلا حاجة لهم إلى الدعاء والطلب ، كما أن الملك إذا طلب منه مملوكه شيئاً يقول لك ذلك فيفهم منه تارة أن طلبك مجاب وأن هذا أمر هين بأن تعطي ما طلبت ، ويفهم تارة منه الرد وبيان أن ذلك لك حاصل فلم تطلبه فقال تعالى : ولهم ما يدعون ويطلبون فلا طلب لهم وتقريره هو أن يكون ما يدعون بمعنى ما يصح أن يطلب ودعى يعني كل ما يصح أن يطلب فهوحاصل لهم قبل الطلب ، أونقول المراد الطلب والإجابة وذلك لأن الطلب من الله أيضاً فيه لذة فلو قطع الله الأسباب بينهم وبينه لما كان يطيب لهم فأبقى أشياء يعطيهم إياها عند الطلب ليكون لهم عند الطلب لذة وعند العطاء ، فإن كون المملوك بحيث يتمكن من أن يخاطب الملك في حوائجه منصب عظيم ، والملك الجبار قد يدفع حوائج المماليك بأسرها قصداً منه لئلا يخاطب الثاني : ما يدعون ما يتداعون وحينئذ يكون افتعالا بمعنى التفاعل كالاقتتال بمعنى التقاتل ، ومعناه ما ذكرناه أن كل ما يصح أن يدعو أحد صاحبه إليه أو يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم الثالث : ما يتمنونه الرابع : بمعنى الدعوى ومعناه حينئذ أنهم كانوا يدعون في الدنيا أن لهم اللهوهو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم. فقال لهم في الجنة ما يدعون به في الدنيا ، فتكون الحكاية محكية في الدنيا ، كأنه يقول في يومنا هذا لكن أيها المؤمنون غداً ما يدعون اليوم/ لا يقال بأن قوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 297
{إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَـاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَـالٍ} يدل على أن القول يوم القيامة لأنا نقول الجواب عنه عن وجهين أحدهما : أن قوله : {هُمْ} مبتدأ {وَأَزْوَاجُهُمْ} عطف عليهم فيحتمل أن يكون هذا الكلام في يومنا هذا يخبرنا أن المؤمن وأزواجه في ظلال غداً وله ما يدعيه الجواب الثاني : / وهو أولى وهو أن نقول : معناه لهم ما يدعون أي ما كانوا يدعون. لا يقال بأنه إضمار حيث لا ضرورة وإنه غير جائز لأنا نقول على ما ذكرنا يبقى الأدعاء مستعملاف في معناه المشهور لأن الدعاء هو الإتيان بالعدوى وإنما قلنا إن هذا أولى لأن قوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58) هو في دار الآخرة وهو كالتفسير لقوله : {مَّا يَدَّعُونَ} ولأن قوله : {مَّا يَدَّعُونَ} مذكور بين جمل كلها في الآخرة فما يدعون أيضاً ينبغي أن يكون في الآخرة وفي الآخرة لا يبقى دعوى وبينة لظهور الأمور والفصل بين أهل البثور والحبور. وقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 297
300
هو أكمل الأشياء وهو آخرها الذي لا شيء فوقه ولنبينه في مسائل :
(1/3736)

المسألة الأولى : ما لارفع لقوله {سَلَـامٌ} ؟
نقول يحتمل ذلك وجوهاً أحدها : هو بدل مما يدعون كأنه تعالى لما قال : {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (يس : 57) بينه ببدله قال لهم سلام فيكون في المعنى كالمبتدأ الذي خبره جار ومجرور ، كما يقال في الدار رجل ولزيد مال ، وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة هو المعرفة جائز فتكون ما بمعنى الذي معرفة وسلام نكرة ، ويحتمل على هذا أن يقال ما في قوله تعالى : {مَّا يَدَّعُونَ} لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدعون ثم بين بذكر البدل فقال : {سَلَـامٌ} والأول هو الصحيح وثانيها سلام خبر ما ولهم لبيان الجهة تقديره ما يدعون سالم لهم أي خالص والسلام بمعنى السالم الخالص أو السليم يقال عبد السلام أي سليم من العيوب كما يقال لزيد الشرف متوفر والجار والمجرور يكون لبيان من له ذلك والشرف هو المبتدأ ومتوفر خبره وثالثها قوله تعالى : {سَلَـامٌ} منقطع عما تقدم وسلام مبتدأ وخبره محذوف تقديره سلام عليهم فيكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : {إِنَّ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ} (يس : 55) ثم لما بين كمال حالهم قال سلام عليهم ، وهذا كما في قوله تعالى : {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ} (الصافات : 79) {وَسَلَـامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (الصافات : 181) فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه منقول ، أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعاً من الالتفات حيث قال لهم كذا وكذا ، ثم قال سلام عليكم.
المسألة الثانية : {قَوْلا} منصوب بماذا ؟
نقول يحتمل وجوهاً أحدها : نصب على المصدر تقديره على قولنا المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سلام يقوله الله قولاً أو تقوله الملائكة قولاً وعلى قولنا ما يدعون سالم لهم تقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم بأن لهم ما يدعون سالم وعداً وعلى قولنا سلام عليهم تقديره أقوله قولاً وقوله : {مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} يكون لبيان أن السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولاً ، ويحتمل أن يقال على هذا إنه تمييز لأن السلام قد يكون قولاً وقد/يكون فعلاً فإن من يدخل على الملك فيطأطىء رأسه يقول سلمت على الملك ، وهو حينئذ كقول القائل البيع موجود حكماً لاحساً وهذا ممنوع عنه قطعاً لا ظناً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 300
المسألة الثالثة : قال في السلام {مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} وقال في غيره من أنواع الإكرام {نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (فصلت : 32) فهل بينهما فرق ؟
نقول نعم ، أما هناك فلأن النزل ما يرزق النزيل أولاً ، وذلك وإن كان يدل عليه ما بعده فإن النزيل إذا أكرم أو لا يدل على أنه مكرم وإذا أخل بإكرامه في الأول يدل على أنه مهان دائماً غير أن ذلك غير مقطوع به ، لجواز أن يكون الملك واسع الرزق فيرزق نزيله أولاً ولا يمنع منه الطعام والشراب ويناقشه في غيره فقال غفور لما صدر في العبيد ليأمن العبد ولا يقول بأن الإطعام قد يوجد ممن يعاقب بعده والسلام يظهر مزية تعظيمه للمسلم عليه لا بمغفرة فقال : {مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} لأن رب الشيء مالكه الذي إذا نظر إلى علو مرتبته لا يرجى مه الإلتفات إليه بالتعظيم ، فإذا سلم عليه يعجب منه وقيل انظر هو سيده ويسلم عليه. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 300
301
(1/3737)

وفيه وجوه منها تبيين وجه الترتيب أيضاً الأول : امتازوا في أنفسكم وتفرقوا كما قال تعالى : {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } (الملك : 8) أي بعضه من بعض غير أن تميزهم من الحسرة والندامة ووجه الترتيب حينئذ أن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته ونزول دركته وضعته فيتحسر فيقال لهم امتازوا اليوم إذ لا دواء لألمكم ولا شفا لسقمكم الثاني : امتازوا عن المؤمنين وذلك لأنهم يكونون مشاهدين لما يصل إلى المؤمن من الثواب والإكرام ثم يقال لهم تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار فلم يبق لكم اجتماع بهم أبداً الثالث : امتازوا بعضكم عن بعض على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان الذي أشار إليه بقوله تعالى : {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} (يس : 56) فأهل النار يكون لهم العذاب الأليم وعذاب الفرقة أيضاً ولا عذاب فوق الفرقة ، بل العقلاء قالوا بأن كل عذاب فهو بسب تفرق اتصال ، فإن من قطعت يده أن أحرق جسمه فإنما يتألم بسبب تفرق المتصلات بعضها عن بعض ، لكن التفرق الجسمي دون التفرق العقلي الرابع : امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم فما لكم اليوم حميم ولا شفيع الخامس : امتازوا عما ترجون واعتزلوا عن كل خير ، والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة ، ويحتمل أن يقال إن المراد منه أن الله تعالى يقول امتازوا فيظهر عليهم سيما يعرفون بها ، كما قال تعالى : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41) وحينئذ يكون قوله تعالى امتازوا أمر تكوين ، كما أنه يقول : كن فيكون كذلك يقول امتازوا فيتميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجهوهم سواء.
جزء : 26 رقم الصفحة : 301
301
لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والمجرمين كان لقائل أن يقال : إن الإنسان كان ظلوماً جهولاً ، والجهل من الأعذار ، فقال الله ذلك عند عدم الإنذار ، وقد سبق إيضاح السبل بإيضاح الرسل ، وعهدنا إليكم وتلونا عليكم ما ينبغي أن تفعلوه وما لا ينبغي ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في اللغات التي في {أَعْهَدْ} وهي كثيرة الأولى : كسر همزة إعهد وحروف الاستقبال كلها تكسر إلا الياء فلا يقال يعلم ويعلم الثانية : كسر الهاء من باب ضرب يضرب الثالثة : قلب العين جيما ألم أجهد وذلك في كل عين بعدها هاء الرابعة : إدغام الهاء في الحاء بعد القلب فيقال ألم أحد ، وقد سمع قوم يقولون دحاء محا ، أي دعها معها.
المسألة الثانية : في معنى أعهد وجوه أقربها وأقربها ألم أوص إليكم.
المسألة الثالثة : في هذا العهد وجوه الأول : أنه هو العهد الذي كان مع أبينا آدم بقوله : {وَعَهِدْنَآ إِلَى ا إِبْرَاه مَ} (طه : 115) الثاني : أنه هو الذي كان مع ذرية آدم بقوله تعالى : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) فإن ذلك يقتضي أن لا نعبد غير الله الثالث : هو الأقوى ، أن ذلك كان مع كل قوم على لسان رسول ، ولذلك اتفق العقلاء على أن الشيطان يأمر بالشر ، وإن اختلفوا في حقيقته وكيفيته.
جزء : 26 رقم الصفحة : 301
(1/3738)

المسألة الرابعة : قوله : {لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ } معناه لا تطيعوه ، بدليل أن المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب ، بل الانقياد لأمره والطاعة له فالطاعة عبادة ، لا يقال فنكون نحن مأمورين بعبادة الأمراء حيث أمرنا بطاعتهم في قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ } (النساء : 59) لأنا نقول طاعتهم إذا كانت بأمر الله ، لا تكون إلا عبادة لله وطاعة له ، وكيف لا ونفس السجود والركوع للغير إذا كان بأمر الله لا يكون إلا عبادة لله ، ألا ترى أن الملائكة سجدوا لآدم ولم يكن ذلك إلا عبادة لله ، وإنما عبادة الأمراء هو طاعتهم فيما لم يأذن الله فيه ، فإن قيل بماذا تعلم طاعة الشيطان من طاعة الرحمن ، مع أنا لا نسمع من الشيطان خبراً ولا نرى منه أثراً ؟
نقول عبادة الشيطان في مخالفة أمر الله أو الإتيان بما أمر الله لا لأنه أمر به ، ففي بعض الأوقات يكون الشيطان يأمرك وهو في غيرك ، وفي بعض الأوقات يأمرك وهو فيك ، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء ، فانظر إن كان ذلك موافقاً لأمر الله أو ليس موافقاً ، فإن لم يكن موافقاً فذلك الشخص مع الشيطان يأمرك بما يأمرك به ، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان ، وإن دعتك نفسك ألى فعل فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أو ليس كذلك ، فإن لم يكن مأذوناً فيه فنفسك في الشيطان ، أو معها الشيطان يدعوك ، فإن اتبعته فقد عبدته ، ثم إن الشيطان يأمر أولاً بمخالفة/الله ظاهراً ، فمن أطاعه فقد عبده ومن لم يطعه فلا يرجع عنه ، بل يقول له أعبد الله كي لا تهان ، وليرتفع عند الناس شأنك ، وينتفع بك إخوانك وأعوانك ، فإن أجاب إليه فقد عبده لكن عبادة الشيطان على تفاوت ، وذلك لأن الأعمال منها ما يقع والعامل موافق فيه جنانه ولسانه وأركانه ، ومنها ما يقع والجنان واللسان مخالف للجوارح أو للأركان ، فمن الناس من يرتكب جريمة كارهاً بقلبه لما يقترف من ذبنه ، مستغفراً لربه ، يعترف بسوء ما يقترف فهو عبادة الشيطان بالأعضاء الظاهرة ، ومنهم من يرتكبها وقلبه طيب ولسانه رطب ، كما أنه تجد كثيراً من الناس يفرح بكون متردداً إلى أبواب الظلمة للسعاية ، ويعد من المحاسن كونه سارياً مع الملوك ويفتخر به بلسانه/ وتجدهم يفرحون بكونهم آمرين الملك بالظلم والملك ينقاد لهم ، أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون ، فرحين بما وعد عليهم منا لأمر ، إذا عرفت هذا فالطاعة التي لهم ، أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون ، فرحين بما ورد عليه من الأمر ، إذا عرفت هذا فالطاعة التي بالأعضاء الظاهرة ، والبواطن طاهرة مكفرة بالأسقام والآلام ، كما ورد في الأخبار ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلّم "الحمى من فيح جهنهم" وقوله صلى الله عليه وسلّم : "السيف محاء للذنوب" ، أي لمثل هذا الذنوب ، ويدل عليه ما قال صلى الله عليه وسلّم في الحدود "إنها كفارات" وما يكون بالقلوب فلا خلاص عنه إلا بالتوبة والندم وإقبال القلب على الرب ، وما يكون باللسان فهو من قبيل ما يكون بالقلب في الظاهر ، والمثال يوضح الحال فنقول إذا كان عند السلطان أمير وله غلمان هم من خواص الأمير وأتباع بعداءهم من عوام الناس ، فإذا صدر من الأمير مخالة ومسارة مع عدو السلطان ومصادقة بينهما ، لا يعفو الملك عن ذلك إلا إذا كان في غاية الصفح ، أو يكون للأمير عنده يد سابقة أو توبة لاحقة ، فإن صدر من خواص الأمير مخالفة وهو به عالم ولم يزجره ، عدت المخالفة موجودة منه ، وإن كان كارهاً وأظهر الإنكار حسنت معاتبته دون معاقبته ، لأن إقدام خواصه على المخالفة دليل على سوء التربية ، فإن كان الصادر من الحواشي الأباعد وبلغ الأمير ولم يزجره عوتب الأمير ، وإن زجرهم استحق الأمير بذلك الزجر الإكرام ، وحسن من الملك أن يسدي إلى المزجور الإحسان والإنعام إن علم حصول انزجاره ، إذا علمت هذا فالقلب أمير واللسان خاصته والأعضاء خدمه ، فما يصدر من القلب فهو العظيم من الذنب ، فإن أقبل على محبة غير الله فهو الويل العظيم والضلال المبين المستعقب للعقاب الأليم والعذاب المهين ، وما يصدر من اللسان فهو محسوب على القلب ولا يقبل قوله إن لم ينكر فعله وما يصدر من الأعضاء والقلب قد أظهر عليه الإنكار وحصل له الانزجار فهو الذنب الذي حكى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ربه أنه قال : "لو لم تذنبوا لخلقت أقواماً يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم" ، وههنا لطيفة : وهي أن الشيطان قد يرجع عن عبد من عباد الله فرحاً فيظن أنه قد حصل مقصوده من الإغواء حيث يرى ذلك العبد ارتكب الذنب ظاهراً ويكون ذلك رافعاً لدرجة العبد ، فإن بالذنب ينكسر قلب العبد فيتخلص من الإعجاب فنفسه وعبادته ، ويصير أقرب من المقربين ، لأن من يذنب مقرب عند الله كما قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 301
(1/3739)

{لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (الأنفال : 4) والمذنب التائب النادم منكسر القلب والله عنده كما قال صلى الله عليه وسلّم حاكياً عن ربه "أنا عند المنكسرة قلوبهم" وفرق/ بين من يكون عند الله ، وبين من يكون عنده الله ، ولعل ما يحكى من الذنوب الصادرة عن الأنبياء من هذا القبيل لتحصل لهم الفضيلة على الملائكة حيث تبجحوا بأنفسهم بقولهم : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) وقد يرجع الشيطان عن آخر يكون قد أمر بشيء فلم يفعله والشخص يظن أنه غلب الشيطان ورده خائباً فيتبجح في نفسه وهو لا يعلم أن الشيطان رجح عنه محصل المقصود مقبولاً غير مردود. ومن هذا يتبين أمر أصولي وهو أن الناس اختلفوا في أن المذنب هل يخرج من الإيمان أم لا ؟
وسبب النزاع وقوع نظر الخمصين على أمرين متباينين فالذنب الذي بالجسد لا بالقلب لا يخرج بل قد يزيد في الإيمان والذي بالقلب يخاف منه الخروج عن ربقة الإيمان ولذلك اختلفوا في عصمة الأنبياء من الذنوب ، والأشبه أن الجسدي جائز عليهم والقرآن دليل عليه ، والقلبي لا يجوز عليهم ، ثم إنه تعالى لما نهى عباده عن عبادة الشطان ذكر ما يحملهم على قبول ما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه بقوله : {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من أين حصلت العداوة بين الشيطان والإنسان ؟
فنقول ابتداؤها من الشيطان وسببه تكريم الله نبي آدم ، لما رأى إبليس ربه كرم آدم وبنيه عاداهم فعاداه الله تعالى والأولى منه لؤم والثاني من الله كرم ، أما الأول فلأن الملك إذا أكرم شخصاً ولم ينقص من الآخر شيئاً إذ لا ضيق في الخزانة ، فعداوة من يعادي ذلك المكرم لا تكون إلا لؤماً ، وأما الثاني فلأن الملك إذا علم أن إكرامه ليس إلا منه وذلك لأن الضعيف ما كان يقدر أن يصل إلى بعض تلك المنزلة لولا إكرام الملك ، يعلم أن من يبغضه ينكر فعل الملك أو ينسب إلى خزانته ضيقاً ، وكلاهما يحسن التعذيب عليه فيعاديه إتماماً للإكرام وإكمالاً للإفضال ، ثم إن كثيراً من الناس على مذهب إبليس إذا رأوا واحداً عند ملك محترماً بغضوه وسعوا فيه إقامة لسنة إبليس ، فالملك إن لم يكن متخلقاً بأخلاق الله لا يبعد الساعي ويسمع كلامه ويترك إكرام ذلك الشخص واحترامه.
المسألة الثانية : من أين إبانة عداوة إبليس ؟
نقول لما أكرم الله آدم عاده إبليس وظن أنه يبقى في منزلته وآدم في منزلته مثل متباغضين عند الملك والله كان عالماً بالضمائر فأبعده وأظهر أمره فأظهر هو من نفسه ما كان يخفيه لزوال ما كان يحمله على الإخفاء فقال : {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف : 16) وقال : {لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه } (الإسراء : 62).
جزء : 26 رقم الصفحة : 301
المسألة الثالثة : إذا كان الشيطان للإنسان عدواً مبيناً فما بال الإنسان يميل إلى مراضيه من الشرب والزنا ، ويكره مساخطه من المجاهدة والعبادة ؟
نقول سبب ذلك استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله ، فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سبباً لفساد حالة ويدعوه بها إلى مسالك المهالك ، وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله لدفع المفاسد عنه ويجعله سبباً لوبالة وفساد أحواله ، وميل الإنسان إلى المعاصي كيل المريض إلى المضار وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال ، فترى المحموم يريد الماء البارد/وهو يريد في مرضه. ومن به فساد المعدة فلا يهضم القيل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد في معدته فساداً ، وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه فالدنيا كالهواء الوبيء لا يستغني الإنسان فيه عن استنشاق الهواء وهو المفسد لمزاجه ولا طريق له غير إصلاح الهواء بالروائح الطيبة والأشياء الزكية والرش بالخل والماورد من جملة المصلحات ، فكذلك الإنسان في الدنيا لا يستغني عن أمورها وهي المعنيات للشيطان وطريقه ترك الهوى تقليل التأمين وتحريف الهوى بالذكر الطيب والزهد ، فإذا صح مزاج عقله لا يميل إلا إلى الحق ولا يبقى عليه في التكاليف كلفة ويحصل له مع الأمور الإلهية ألفة ، وهنالك يعترف الشيطان بأنه ليس له عليه سلطان. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 301
302
لما منع عبادة الشيطان حمل على عبادة الرحمن والشارع طبيب الأرواح كما أن الطبيب طبيب الأشباح ، وكما أن الطبيب يقول للمريض لا تفعل كذا ولا تأكل من ذا وهي الحمية التي هي رأس الدواء لئلا يزيد مرضه ، ثم يقول له تناول الدواء الفلاني تقوية لقوته المقاومة للمرض ، كذلك الشارع منع من المفسد وهو اتباع الشيطان وحمل على المصالح وهو عبادة الرحمن وفيه مسائل :
(1/3740)

المسألة الأولى : عند المنع من عبادة الشيطان قال : {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يس : 60) لأن العداوة أبلغ الموانع من الاتباع ، وعند الأمر بعبادة الرحمن لم يقل إنه لكم حبيب لأن المحبة لا توجب متابعة المحبوب بل ربما يورث ذلك الاتكال على المحبة. فيقول إنه يحبني فلا حاجة إلى تحمل المشقة في تحصيل مراضيه ، بل ذكر ما هو أبلغ الأشياء في الحمل على العبادة وذلك كونه طريقاً مستقيماً ، وذلك لأن الإنسان في دار الدنيا في منزل قفر مخوف وهو متوجه إلى دار إقامة فيها إخوانه ، والنازل في بادية خالية يخاف على روحه وماله ولا يكون عنده شيء أحب من طريق قريب آمن ، فلما قال الله تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} كان ذلك سبباً حاثاً على السلوك ، وفي ضمن قوله تعالى : {هَـاذَا صِرَاطٌ} إشارة إلى أن الإنسان مجتاز لأنه لو كان في دار إقامة فقوله : {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} لا يكون له معنى لأن المقيم يقول وماذا أفعل بالطريق وأنا من المقيمين.
المسألة الثانية : ماذا يدل على كونه طريقاً مستقيماً ؟
نقول الإنسان مسافر إما مسافرة راجع إلى وطنه ، وإما مسافرة تاجر له متاع يتجر فيه ، وعلى الوجهين فالله هو المقصد ، وأما الوطن فلأنه لا يوطن في مأمن ولا أمن إلا بملك لا يزول ملكه لأن عند زوال ملك الملوك لا يبقى الأمن والراحة ، والله سبحانه هو الذي ملكه دائم وكل ما عداه فهو فان ، وأما التجارة فلأن التاجر لا يقصد إلا إلى موضع يسمع أو يعلم أن لمتاعه هنا رواجاً والله تعالى يقول إن العمل الصالح/ عنده مثاب عليه مقابل بأضعاف ما يستحق ، والله عون المقصد ، وعبادته توجه إليه ، ولا شك أن القاصد لجهة إذا توجه إليها يكون على الطريق المستقيم.
المسألة الثالثة : العبادة تنبىء عن معنى التذلل ، فلما قال لا تعبدوا الشيطان لزم أن يتكبر الإنسان على ما سوى الله ولما قال : {وَأَنِ اعْبُدُونِى } ينبغي أن لا يتكبر على الله لكن التكبر على ما سوى الله ليس معناه أن يرى نفسه خيراً من غيره ، فإن نفسه من جملة ما سوى الله ، فنبغي أن لا يلتفت إليها ولو كانت متجملة بعبادة الله ، بل معنى التكبر على ما سوى الله أن لا ينقاد لشيء إلا بإذن الله وفي هذا التكبر غاية التواضع فإنه حينئذ لا ينقاد إلى نفسه وحظ نفسه في التفوق على غيره فلا يتفوق فيحصل التواضع التام ولا ينقاد لأمر الملوك إذا خالفوا أمر الله فيحصل التكبر التام فيرى نفسه بهذا التكبر دون الفقير وفوق الأمير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 302
302
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الجبل ست لغات كسر الجيم والباء مع تشديد اللام وضمهما مع التشديد وكسرهما مع التخفيف وضمهما معه وتسكين الباء وتخفيف اللام مع ضم الجيم ومع كسره.
المسألة الثانية : في معنى الجبل الجيم والباء واللام لا تخلو عن معنى الاجتماع والجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة ، وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب ، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير ، لا يقال البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبىء عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنا نقول هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات ، فإن البلجة والبلدة بمعنى والبلد سمي بلداً للاجتماع لا للتفرق ، فالجبل الجمع العظيم حتى قيل إن دون العشرة آلاف لا يكون جبلاً وإن لم يكن صحيحاً.
والمسألة الثالثة : كيف الإضلال ؟
نقول على وجهين : أحدهما : أن الإضلال توليه عن المقصد وصد عنه فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو توليه فإن لم يقدر يأمره بعبادة الله لأمر غير الله من رياسة وجاه غيرهما فهو صد ، وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية.
ثم بين مآل أهل الضلال بقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 302
303
وحال الضال كحال شخص خرج من وطنه مخافة عدوه فوقع في مشقة ولو أقام في وطنه لعل/ذلك العدو كان لا يظفر به أو يرحمه ، كذلك حال من لم يتحرك لطاعة ولا عصيان كالمجانين وحال من استعمال عقله فأخطأ الطريق ، فإن المجنون من أهل النجاة وإن لم يكن من أهل الدرجات ، وقد قيل بأن البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، وذلك ظاهر في المحسوس فإن من لم يعرف الطريق إذا أقام بمكانه لا يبعد عن الطريق كثيراً ومن سار إلاى خلاف المقصد يبعد عنه كثيراً.
ثم بين أنهم واصلون إليها حاصلون فيها بقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 303
304
(1/3741)

وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه أحدها : قوله تعالى : {اصْلَوْهَا} فإنه أمر تنكيل وإهانة كقوله : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) ، والثاني : قوله : {الْيَوْمَ} يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وأيامها قد انقضت وبقي اليوم العذاب الثالث : وقوله تعالى : {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فإن الكفر والكفارن ينبى عن نعمة كانت يكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام. ولهذا كثيراً ما يقول العبد المجرم افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه وإلى هذا المعنى أشار القائل :
أليس بكاف لذي نعمةحياء المسيء من المحسن
ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 304
304
في الترتيب وجوه الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (يس : 64) يريدون (أن) ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا وقالوا آمنا به فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانه منا لجوارح فيعترفون بذنوبهم الثاني : لما قال الله تعالى لهم : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} (يس : 60) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان ، وفي الختم على الأفواه وجوه : أقواها ، أن الله تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد علهيم ، وإنه في قدرة الله يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فكما جاز تحركه بها جاز تحري غيره بمثلها والله قادر على الممكنات والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليؤوس لا يجد عذراً فييعتذر ولا مجال توبة فيستغفر ، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار ، كم يقال القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار ، إشارة إلى ظهور الحزن ، والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية.
جزء : 26 رقم الصفحة : 304
أما اللفظية فالأولى منها : هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال : {نَخْتِمُ} وأسند/ الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ، لأنه لو قال تعالى : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول قال تعالى : {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} أي باختيارها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم الثانية : منها هي أن الله تعالى قال : {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى : {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } (يس : 35) أي ما عملوه وقال : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} (البقرة : 195) أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها ، وأما المعنوية فالأولى : منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من القربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غيرم قبولة ، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة فجعل الله الشاهد عليهم منهم ، لا يقال الأيدي والأرجل أيضاً صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها ، لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها ، لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم ، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور ، لا بد من أن يكون مذنباً في الدنيا ، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا ، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر ، فقال الفاسق : كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد ، لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووجب الجزاء ، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم ، فوجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه.
المسألة الثانية : الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم ، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم/ كما قال تعالى : {ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } (التوبة : 30) فلما ختم على أفواههم أيضاً لزم أن يكون قولهم بأعضائهم ، لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء ، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 304
305
(1/3742)

وقد ذكرنا مراراً أن الصراط المستقيم هو بين الجبر والقدر هو الطريقة الوسطى ، والله تعالى في كل موضع ذكر ما يتمسك به المجبرة ذكر عقيبه ما يتمسك به القدرية وبالعكس ، وههنا/ كذلك لما قال الله تعالى : {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس : 65) وقال : {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (يس : 64) وكان ذلك متمسك القدرية حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم وأحال الخير والشر عليهم ، ذكر عقيبه ما يدل على أن كفرهم وكسبهم بمشيئة الله ، وذلك لأن الكفر يعمي البصيرة ويضعف القوة العقلية ، وعمى البصيرة بإرادة الله ومشيئته ، إذا شاء أعمى البصائر ، كما أنه لو شاء لطمس على أعينهم المبصرة ، وسلب القوة العقلية باختياره ومشيئته ، كما أن سلب القوة الجمسية بمشيئته ، حتى لو شاء لمسخ المكلف على مكانته وأقامه بحيث لا يتحرك يمنة ولا يسرة ، ولا يقدر على المضي والرجوع ، فإعماء البصائر عنده كإعماء الأبصار ، وسلب القوة العقلية كسلب القوة الجسمية ، فقال : {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى ا أَعْيُنِهِمْ} إشارة إلى أنه لو شاء وأراد إعماء بصائرهم فضلوا ، وأنه لو شاء طمس أعينهم لما اهتدوا إلى طريقتهم الظاهرة ، وشاء واختار سلب قوة عقولهم فزلوا ، وإنه لو شاء سلب قوة أجسامهم ومسخهم لما قدروا على تقدم ولا تأخر. وفي الآيتين أبحاث لفظية :
البحث الأول : في قوله : {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} قال الزمخشري فيه وجوه الأول : أنه يكون فيه حذف حرف إلى واتصال الفعل من غير حرف وأصله فاستبقوا إلى الصراط الثاني : أن يكون المراد من الاستباق الابتدار مبالغة في الاهتداء إلى الطريق ، كأنه يقول الصراط الذي هو معهم ليسوا طالبين له قاصدين إياه ، وإنما هم عليه إذا همس الله على أعينهم لا يبصرونه ، فكيف إن لم يكونوا على الصراط.
البحث الثاني : قدم الطمس والإعمار على المسخ والإعجاز ليكون الكلام مدرجاً ، كأنه قال : إن أعماهم لم يروا الطريق الذي هم عليه وحينئذ لا يهتدون إليه ، فإن قال قائل : الأعمى قد يهتدي إلى الطريق بأمارات عقلية أو حسية غير حس البصر كالأصوات والمشي بحس اللمس ، فارتقى وقال : فلو مسخهم وسلب قوتهم بالكلية لا يهتدون إلى الصراط بوجه من الوجوه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 305
البحث الثالث : قدم المضي على الرجوع ، لأن الرجوع أهون من المضي ، لأن المضي لا ينبيء عن سلوك الطريق من قبل ، وأما الرجوع فينبيء عنه ، ولا شك أن سلوك طريق قد رؤي مرة أهون من سلوك طريق لم ير فقال : لا يستطيعون مضياً ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي.
جزء : 26 رقم الصفحة : 305
306
فقد ذكرنا أن قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} (يس : 60) قطع للأعذار بسبق الإنذار ، ثم لما قرر ذلك/ وأتمه شرع في قطع عذر آخر ، وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً ، ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً ، فقال الله تعالى : {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُا أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} (فاطر : 37) ثم إنكم علمتم أن الزمان كلما يعبر علكيم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان ، فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان ، ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان.
جزء : 26 رقم الصفحة : 306
0
في الترتيب وجهان ، قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة ، وهي الوحدانية والرسالة والحشر ، ذكر الأصل الثالث منها ، وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر ، أما الوحدانية ففي قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـابَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (يس : 60) وفي قوله : {وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (يس : 61) وأما الحشر ففي قوله تعالى : {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} (يس : 64) وفي قوله : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى ا أَفْوَاهِهِمْ} (يس : 65) إلى غير ذلك ، فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ} وقوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ} إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد ، وفي تفسير الآية مباحث :
(1/3743)

البحث الأول : خص الشعر بنفي التعليم ، مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أشياء من جملتها السحر ، ولم يقل وما علمناه السحر وكذلك كانوا ينسبونه إلى الكهانة ، ولم يقل وما علمناه الكهانة ، فنقول : أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلّم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر : فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكلم الحصى والجذع وغير ذلك. وأما الشعر : فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلوا القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلّم ما كان يتحدى إلا بالقرآن ، كما قال تعالى : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } (البقرة : 23) إلى غير ذلك ، ولم يقل إن كنتم في شك من رسالتي فأنطقوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا بالغيوب ، فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلّم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 306
البحث الثاني : ما معنى قوله : {وَمَا يَنابَغِى لَه ا } قلنا : قال قوم ما كان يتأتي له ، وآخرون ما يتسهل له حتى أنه إن تمثل بيت شعر سمع منه مزاحفاً يروي أنه كان يقول صلى الله عليه وسلّم : "ويأتيك من لم تزود بالأخبار". وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له ، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير/ المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ، فالشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى ، والشاعر : يكون المعنى منه تبعاً للفظ ، لأنه يقصد لفظاً به يصح وزن الشعر أو قافيته فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ ، وعلى هذا نقول : الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصداً أولياً ، وأما من يقصد المعنى فيصدر موزوناً مقفى فلا يكون شاعراً ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) ليس بشعر ، والشاعر إذا صدر منه كلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطيعه بفاعلاتن فاعلاتن يكون شعراً لأنه قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك والمعنى تبعه ، والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ ، وعلى هذا يحصل الجواب عن قول من يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلّم ذكر بيت شعر وهو قوله :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
أو بيتين لأنا نقول ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية/ وعلى هذا لو صدر من النبي صلى الله عليه وسلّم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعراً ، لعدم قصده اللفظ قصداً أولياً ، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزوناً واقعاً في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعراً ولا الكلام شعراً لفقد القصد إلى اللفظ أولاً ، ثم قوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا } يحقق ذلك المعنى أي هو ذكر وموعظة للقصد إلى المعنى ، والشعر لفظ مزخرف بالقافية والوزن وههنا لطيفة : وهي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن من الشعر لحكمة" يعني : قد يقصد الشاعر اللفظ فيوافقه معنى حكمي كما أن الحكيم قد يقصد معنى فيوافقه وزن شعري ، لكن الحكيم بسبب ذلك الوزن لا يصير شاعراً والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيماً حيث سمي النبي صلى الله عليه وسلّم شعره حكمة ، ونفى الله كون النبي شاعراً والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيماً حيث سمي النبي صلى الله عليه وسلّم شعره حكمة ، ونفي الله كون النبي شاعراً ، وذلك لأن اللفظ قالت المعنى والمعنى : قلب اللفظ وروحه فإذا وجد القلب لا نظر إلى القالب ، وفيكون الحكيم الموزون كلامه حكيماً ، ولا يخرجه عن الحكمة وزن كلامه ، والشاعر الموعظ كلامه حكيماً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 306
306
(1/3744)

قريء بالتاء والياء ، خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم وبالياء على وجهين أحدهما : أن يكون المنذر هو النبي صلى الله عليه وسلّم حيث سبق ذكره في قوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ} (يس : 69) وقوله : {وَمَا يَنابَغِى لَه ا } (يس : 69). وثانيهما : أن يكون المراد أن القرآن ينذر والأول أقرب إلى المعنى والثاني : أقرب إل اللفظ ، أما الأول : فلأن المنذر صفة للرسل أكثر وروداً من المنذر صفة للكتب وأما الثاني : فلأن القرآن أقرب المذكورين إلى قوله : {لِّيُنذِرَ} وقوله : {مَن كَانَ حَيًّا} أي : من/كان حي القلب ، ويحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد من كان حياً في علم الله فينذره به فيؤمن الثاني : أن يكون المراد لينذر به من كان حياً في نفس الأمر ، أي : من آمن فينذره بما على المعاصي من العقاب وبما على الطاعة من الثواب {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ} أما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى : {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة : 13) وقوله تعالى : {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} (الزمر : 71) وذلك لأن الله تعالى قال : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب ، وأما القول المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل الأصولية الدينية فإن القرآن فيه ذكر الدلائل التي بها تثبت المطالب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 306
306
ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية ودلائل دالة عليها فقال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا} أي) من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناه من غير معين ولا ظهير بل عملناه بقدرتنا وإرادتنا.
وقوله تعالى : {فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ} إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام ، فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها.
وقوله : {وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ} زيادة إنعم فإن المملوك إذا كان آبياً متمرداً لا ينفع ، فلو كان الإنسان يملك الأنعام وهي نادة صادة لما تم الإنعام الذي في الركوب وإن كان يحصل الأكل كما في الحيوانات الوحشية ، بل ما كان يكمل ننعمة الأكل أيضاً إلا بالتعب الذي في الاصطياد ، ولعل ذلك لا يتهيأ (إلا) للبعض وفي البعض.
وقوله تعالى : {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} بيان لمنفعة التذليل إذ لولا التذليل لما وجدت إحدى المنفعتين وكانت الأخرى قليلة الوجود.
جزء : 26 رقم الصفحة : 306
0
ثم بين تعالى غير الركوب والأكل من الفوائد بقوله تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ وَمَشَارِبُ } وذلك لأن من الحيوانات ما لا يركب كالغنم فقال : منافع لتعمها والمشارب كذلك عامة ، إن قلنا بأن المراد جمع مشرب وهو الآنية فإن من الجلود ما يتخذ أواني للشرب والأدوات من القرب وغيرها ، وإن قلنا : إن المراد المشروب وهو الألبان والأسمان فهي مختصة بالإناث ولكن بسبب الذكور فإن ذلك متوقف على الحمل وهو بالذكور والإناث.
ثم قال تعالى : {أَفَلا يَشْكُرُونَ} هذه النعم التي توجب العبادة شكراً ، ولو شكرتم لزادكم/ من فضله ، ولو كفرتم لسلبها منكم ، فما قولكم ، أفلا تشكرون استدامة لها واستزادة فيها ؟
. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 306
309
إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم ونهايتها ، فإنهم كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنعمه ، فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال عنهم : {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ} (الأنبياء : 68) وفي الحقيقة لا هي ناصرة ولا منصورة. وقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 309
309
إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد ، وهذا كقوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء : 98) وقوله : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 22 ، 23) وقوله : { أولئك فِى الْعَذَابِ} (سبأ : 38) وهو يحتمل معنيين أحدهما : أن يكون العابدون جنداً لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا الثاني : أن يكون الأصنام جنداً للعابدين ، وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال : {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جنداً لهم ومحضرون لنصرتهم فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة ، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف م نلم يكن متأهباً ولم يجمع أنصاره.
جزء : 26 رقم الصفحة : 309
309
(1/3745)

وقوله تعالى : {فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه دليل اجتبائه واختياره إياه.
وقوله تعالى : {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من النفاق {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الشرك والثاني : ما يسرون من العلم بك وما يعلنون من الكفر بك الثالث : ما يسرون من العقائد الفاسدة وما يعلنون من الأفعال القبيحة.
ثم إنه تعالى لما ذكر دليلاً من الآفاق على وجوب عبادته بقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا} (يس : 71) ذكر دليلاً من الأنفس. فقال : {أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ} قيل إن المراد بالإنسان أبيّ بن خلف فإن الآية وردت فيه حيث أخذ عظماً بالياً وأتى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : إنك تقول إن إلهك يحيي هذه العظام فقال رسو الله صلى الله عليه وسلّم : نعم ويدخلك جهنم ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ/ لا بخصوص السبب ألا ترى أن قوله تعالى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَـادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (المجادلة : 1) عمومها فنقول فيها لطائف :
اللطيفة الأولى : قوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} (يس : 71) معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة ، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ} كلام أعم من قوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا } لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم ، فإن الإنسان قد يغفلعن الإنعام وخلقها عند غيبتها ولكن (لا يغفل) هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون. فقال : إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يعيب عن نفسه ، فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة ، فإن سائر النعم بعد وجوده وقوله : {مِن نُّطْفَةٍ} إشارة إلى وجه الدلالة ، وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة مختلفة الصور كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو ، وكذلك الحال في كل عضو ، ولما كان خلقه عن خطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى : {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} (الرعد : 4).
جزء : 26 رقم الصفحة : 309
وقوله : {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه ، وذلك لأن النطفة جسم ، فهب أن جاهلاً يقول إنه استحال وتكون جسماً آخر ، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة ؟
فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله : {خَصِيمٌ} أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق لأنه أعلى أحوال الناطق ، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره ، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه وقوله : {مُّبِينٍ} إشارة إلى قوة عقله ، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه ، لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى : {مِن نُّطْفَةٍ} إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله : }خصيم مبين} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى : خصيم مبين} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى : إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} إلى أن قال تعالى : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون : 14) فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاماً إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} أي ناطق عاقل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 309
(1/3746)

ثم قوله تعالى : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَه } إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى/ آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى ، فنقول المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} (السجدة : 10) {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (الصافات : 16) {أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} (الصافات) إئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} (الصافات : 53) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال : (الصافات : 53) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال : {قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} على طريق الاتسبعاد فبدأ أولاً بإبطال استبعادهم بقوله : {وَنَسِىَ خَلْقَه } أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل لذيـ(ن) بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلاً ، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه ، ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا} أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ، ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين أحدهما : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود ، وأجاب عن هذه الشبهة. بقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 309
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئاً مذكوراً وثانيها : أن من تفرقت أجزاؤه ف مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع ؟
وأبعد من هذا هو أن إنساناً إذا أكل إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيد فأجزاء المأول ، إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء. فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة : دوهو بكل خلق عليم} ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية/ وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل. ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية ، وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلي للآكل وينفخ فيها روحه ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه ، وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع ، المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم وعنادهم. فقال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 309
311
ووجهه هو أن الإنسان مشتمل على جسم يحس به وحياة سارية فيه ، وهي كحرارة جارية فيه فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه فلا تستبعدوه ، فإن النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب وأغرب وأنتم تحضرون حيث من توقدون ، وإن استبعدتم خلق جسمه فخلق السموات والأرض أكبر من خلق أنفسكم فلا تستبعدوه فإن الله خلق السموات والأرض فبان لطف قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} .
جزء : 26 رقم الصفحة : 311
313
وقوله تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } قدم ذكر النار في الشجر على ذكر الخلق الأكبر ، لأن استبعادهم كان بالصريح واقعاً على الأحياء حيث قالوا : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ} (يس : 78) ولم يقولوا من يجمعها ويؤلفها والنار في الشجر تناسب الحياة.
(1/3747)

وقوله تعالى : {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّـاقُ} إشارة إلى أنه في القدرة كامل. وقوله تعالى : {الْعَلِيمِ} إشارة إلى أن علمه شامل. ثم أكد بيانه بقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 313
313
وهذا إظهار فساد تمثيلهم وتشبيههم وضرب مثلهم حيث ضربوا لله مثلاً وقالوا لا يقدر أحد على مثل هذا قياساً للغائب على الشاهد فقال في الشاهد الخلق يكون بالآلات البدنية والانتقالات المكانية ولا يقع إلا في الأزمنة الممتدة والله يخلق بكن فيكون ، فكيف تضربون المثل الأدنى وله المثل الأعلى من أن يدرك. وفي الآية مباحث :
البحث الأول : قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن المعدوم شيء لأنه يقول لما أراده : {كُن فَيَكُونُ} فهو قبل القول له كن لا يكون وهو في تلك الحالة شيء حيث قال : {إِنَّمَآ أَمْرُه ا إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا} والجواب أن هذا بيان لعدم تخلف الشيء عن تعلق إرادته به ، فقوله : {إِذَآ} مفهوم/ الحين والوقت والآية دالة على أن المراد شيء حين تعلق الإرادة به ولا دلالة فيها على أنه شيء قبل ما إذا أراد وحينئذٍ لا يرد ما ذكروه لأن الشيء حين تعلق الإرادة به شيء موجود لا يريده في زمان ويكون في زمان آخر بل يكون في زمان تعلق ازرادة ، فإذاً الشيء هو الموجود لا المعدوم لا يقال كيف يريد الموجود وهو موجود فيكون ذلك إيجاداً لموجود ؟
نقول هذا الإشكال من بال المعقولات ونجيب عنه في موضعه ، وإنما غرضنا إبطال تمسكهم باللفظ ، وقد ظهر أن المفهوم من هذا الكلام أنه يريد ما هو شيء إذا أراد ، وليس في الآية أنه إذا أراد ما كان شيئاً قبل تعلق الإرادة.
البحث الثاني : قالت الكرامية لله إرادة محدثة بدليل قوله تعالى : {إِذَآ أَرَادَ} ووجه دلالته من أمرين أحدهما : من حيث إنه جعل للإرادة زماناً ، فإن إذا ظرف زمان وكل ما هو زماني فهو حادث وثانيهما : هو أنه تعالى جعل إرادته متصلة بقوله : {كُن} وقوله : {كُن} متصل بكون الشيء ووقوعه لأنه تعالى قال : {يَكُونَ} بفاء التعقيب لكن الكون حادث ، وما قبل الحادث متصل به حادث ، والفلاسفة وافقوهم في هذا الإشكال من وجه آخر فقالوا إرادته متصلة بأمره وأمره متصل بالكون ولكن إرادته قديمة فالكون قديم فمكونات الله قديمة ، وجواب الضالين من التمسك باللفظ هو أن المفهوم من قوله : {إِذَآ أَرَادَ} من حيث اللغة إذا تعلقت إرادته بالشي لأن قوله : {أَرَادَ} فعل ماض ، وإذا دخلت كلمة إذا على الماضي تجعله في معنى المستقبل ، ونحن نقول أن مفهوم قولنا أراد ويريد وعلم ويعلم يجوز أن يدخله الحدوث ، وإنما نقول لله تعالى صفة قديمة هي الإرادة وتلك الصفة إذا تعلقت بشيء نقول أراد ويريد ، وقبل التعلق لا نقول أراد وإنما نقول له إرادة وهو بها مريد ، ولنضرب مثالاً للأفهام الضعيفة ليزول ما يقع في الأوقام السخيفة ، فنقول قولنا فلان خياط يراد به أن له صنعة الخياطة فلو لم يصح منا أن نقول إنه خاط ثوب زيد أو يخيط ثوب زيد لا يلزم منه نفي صحة قولنا إنه خياط بمعنى أن له صنعة بها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان ماض خاط ثوبه ، وبها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان مستقبل يخيط ثوبه ، ولله المثل الأعلى فافهم أن الإرادة أمر ثابت إن تعلقت بوجو شيء نقول أراد وجوده أي يريد وجوده ، وإذا علمت هذا فهو في المعنى من كلام أهل السنة تعلق الإرادة حادث وخرج بما ذكرنا جواب الفريقين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 313
(1/3748)

البحث الثالث : قالت المعتزلة والكرامية كلام الله حرف وصوت وحادث لأن قوله : {كُن} كلام {وَكُن} من حرفين ، والحرف من الصوت ، ويلزم من هذا أن كلامه من الحروف والأصوات ، وأما أنه حادث فلما تقدم من الوجهين أحدهما : أنه زماني والثاني : أنه متصل بالكون والكون حادث/ والجواب يعلم مما ذكرنا ، وذلك لأن الكلام صفة إذا تعلقت بشيء تقول قال ويقول فتعلق الخطاب حادث والكلام قديم فقوله تعالى : {إِنَّمَآ أَمْرُه ا إِذَآ أَرَادَ شَيْاًا أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} فيه تعلق وإضافة لأن قوله تعالى : {يَقُولَ لَه } باللام للإضافة صريح في التعلق/ ونحن نقول إن قوله للشيء الحادث حادث لأنه مع التعلق ، وإنما القديم قوله وكلامه لا مع التعلق وكل قديم وحادث إذا نظرت إلى مجموعهما لا تجدهما في الأزل وإنما تجدهما جميعاً فيما لا يزال فله معنى الحديث ولكن الإطلاق موهم ، فتفكر جداً ولا تقل المجموع حادث من غير بيان مرادك ، فإن ذلك قد يفهم منه أن الجميع حادث ، بل حقق الإشارة وجود العبارة وقل أحد طرفي المجموع قديم والآخر حادث ولم يكن الآخر معه في الأزل ، وأما قوله : {كُن} من الحروف ، نقول الكلام يطلق على معنيين أحدهما : ما عند المتكلم والثاني : ما عند السامع ، ثم إن أحدهما يطلق عليه أنه هو الآخر ومن هذا يظهر فوائد. أما بيان ما ذكرناه ، فلأن الإنسان إذا قال لغيره عندي كلام أريد أن أقوله لك غداً ، ثم إن السامع أتاه غداً وسأله عن الكلام لذي كان عنده أمس ، فيقول له : إني أريد أن تحضر عندي اليوم ، فهذا الكلام أطلق عليه المتكلم أنه كان عندك أمس ولم يكن عند السامع ، ثم حصل عند السامع بحرف وصوت ويطلق عليه أن هذا الذي سمعت هو الذي كان عندي ، ويعلم كل عاقل أن الصوت لم يكن عند المتكلم أمس ولا الحرف ، لأن الكلام الذي عنده جاز أن يذكره بالعربي فيكون له حروف ، وجاز أن يذكره بالفارسية فيكون له حروف أخر ، والكلام الذي عنده ووعد به واحد والحروف مختلفة كثيرة ، فإذاً معنى قوله هذا ما كان عندي ، هو أن هذا يؤيدي إليك ما كان عندي ، وهذا أيضاً مجاز ، لأن الذي عنده ما انتقل إليه ، وإنما علم ذلك وحصل عنده به علم مستفاد من السمع أو البصر في القراءة والكتابة أو ازشارة ، إذا علمت هذا فالكلام الذي عند الله وصفة له ليس بحرف على ما بان ، والذي يحصل عند السامع حرف وصوت وأحدهما الآخر لما ذكرنا من المعنى وتوسع الإطلاق ، فإذا قال تعالى : (يقول له) حصل قائل وسامع. فاعتبرها من جانب السامع لكون وجود الفعل من السامع لذلك القول فعبر عنه بالكاف والنون الذي يحدث عند السامع ويحدث به المطلوب. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 313
317
لما تقررت الوحدانية والإعادة وأنكروها وقالوا : بأن غير الله آلهة ، قال تعالى وتنزه عن الشريك : {الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} وكل شيء ملكه فكيف يكون المملوك للمالك شريكاً ، وقالوا : بأن الإعادة لا تكون ، فقال : دوإليه ترجعون} رداً عليهم في الأمرين ، وقد ذكرنا ما يتعلق بالنحو في قوله : سبحان ، أي سبحوا تسبيح الذي أو سبح من في السموات والأرض تسبيح الذي رداً عليهم في الأمرين ، وقد ذكرنا ما يتعلق بالنحو في قوله : سبحان ، أي سبحوا تسبيح الذي أو سبح من في السموات والأرض تسبيح الذي {فَسُبْحَانَ} علم للتسبيح ، والتسبيح هو التنزيه ، والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت ، وهو فعلول أو فعلوت فيه كلام ، ومن قال هو فعلول جعلوه ملحقاً به.
/ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس" وقال الغزالي فيه : إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر ، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه ، فجعله قلب القرآن لذلك ، واستحسنه فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام.
جزء : 26 رقم الصفحة : 317

ويمكن أن يقال بأن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير لأصول الثلاثة بأقوى البراهين فابتداؤها بيان الرسالة بقوله : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس : 3) ودليلها ما قدمه عليها بقوله : {وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} (يس : 2) وما أخره عنها بقوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا} (يس : 6) وانتهاؤها بيان الوحدانية والحشر بقوله : {فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} إشارة إلى التوحيد ، وقوله : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إشارة إلى الحشر ، وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائله وثوابه ، ومن حصل من القرآن هذا القدر فقدحصل نصيب قلبه وهو التصديق الذي بالجنان. وأما وظيفة اللسان التي هي القول ، فكما في قوله تعالى : {وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} (الأحزاب : 70) وفي قوله تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا} (فصلت : 33) وقوله تعالى : {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (إبراهيم : 27) {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (الفتح : 26) {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) إلى غير هذه مما في غير هذه السورة ووظيفة الأركان وهو العمل ، كما في قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى } (البقرة : 110) وقوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَا وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} (الإسراء : 32 ، 33) وقوله : {وَاعْمَلُوا صَالِحًا } (المؤمنون : 51) وأيضاً مما في غير هذه السورة ، فلما لم يكن فيها إلا أعمال القلب لا غير سماها قلباً ، ولهذا ورد في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلّم ندب إلى تلقين يس لمن دنا منه الموت ، وقراءتها عند رأسه ، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة ، والأعضاء الظاهرة ساقطة البنية ، لكن القلب يكون قد أقبل على الله ورجع عن كل ما سواه ، فيقرأ عند رأسه ما يزاد به قوة قلبه ، ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة وهي شفاء له وأشرار كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يعلمها إلا الله وروله ، وما ذكرناه ظن لانقطع به ، ونرجو الله أن يرحمنا وهو أرحم الراحمين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 317
321
(1/3749)

سورة الصافات
مائه واثنتان وثمانون آية مكية
جزء : 26 رقم الصفحة : 321
323
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وحمزة {وَالصَّا فَّاتِ صَفًّا} بإدغام التاء فيما يليه ، وكذلك في قوله : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} والباقون بالإظهار ، وقال الواحدي رحمه الله : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس ، ولامدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصفير ، وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ، ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص ، وأيضاً إدغام التاء في الزاي في قوله : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد ، وأيضاً حسن إدغام التاء في الذي في قوله : {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا ، وأما من قرأ بازظهار وترك الإدغام فذلك لاختلاف المخارج والله أعلم.
المسألة الثانية : في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة المقسم بها يحتمل أن يتكون صفات ثلاثة لموصوف واحد ، ويحتمل أن تكون أشياء ثلاثة متباينة ، أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول : أنها صفات الملائكة ، وتقديره أن الملائكة يقفون صفوفاً. إما في السموات لأداء العبادات كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} (الصافات : 165) وقيل إنهم يصفون أجنحتهم في الهواء يقفون منتظرين وصول أمر الله إليهم ، ويحتمل أيضاً أن يقال معنى كونهم صفوفاً أن لكل واحد منهم مرتبة معينة ودرجة معينة في الشرف والفضيلة أو في الذات والعلية وتلك الدرجة المرتبة باقية غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف.
جزء : 26 رقم الصفحة : 323
(1/3750)

وأما قوله : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} فقال الليث : يقال زجرت البعير فأنا أجزره زجراً إذا حثثته ليمضي ، وزجرت فلاناً عن سوء فانزجر أي نهيته فانتهى ، فعلى هذا الزجر للبعير كالحث وازنسان/ كالنهي ، إذا عرفت هذا فنقول في وصف الملائكة بالزجر وجوه الأول : قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وكلوا بالسحاب يزوجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع الثاني : المراد منه أن الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجراً الثالث : لعل الملائكة أيضاً يزجرون الشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء ، وأقول قد ثبت في العلوم العقلية أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الموجودات ومتأثر لا يؤثر وهم عالم الأجسام وهو أخس الموجودات وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء آخر وهو عالم الأرواح وذلك لأنها تقبل الأثر عن عالم كبرياء الله ، ثم إنها تؤثر في عالم الأجسام ، واعلم أن الجهة التي باعتبارها تقبل الأثر من عالم كبرياء الله غير الجهة التي باعتبارها تستولي على عالم الأجسام وتقدر على التصرف فيها وقوله : {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} إشارة إلى الأشرف من الجهة التي باعتبارها تقوى على التأثير في عالم الأجسام إذا عرفت هذا فقوله : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} إشارة إلى وقوفها صفاً صفاً في مقام العبودية والطاعة بالخشوع والخضوع وهي الجهة التي باعتبارها تقبل تلك الجواهر القدسية أصناف الأنوار الإلهية والكمالات الصمدية وقوله تعالى : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} إشارة إلى تأثير الجواهر الملكية في تنوير الأرواح القدسية البشرية وإخراجها من القوة إلى الفعل/ وذلك لما ثبت أن هذه الأرواح النطقية البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، وأن هذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، وأن هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القول إلى الفعل في المعارف الإلهية والكمالات الروحانية بتأثيرات جواهر الملائكة ونظيره قوله تعالى : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } (النحل : 2) وقوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (
جزء : 26 رقم الصفحة : 323
الشعراء : 192 ، 193) وقوله تعالى : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} (المرسلات : 5) إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية دقيقة أخرى وهي أن الكمال المطلق للشيء إنما يحصل إذا كان تاماً وفوق التام والمراد بكونه تاماً أن تحصل جميع الكمالات اللائقة به حصولاً بالفعل والمراد بكونه فوق التام أن تفيض منه أصناف الكمالات والسعادات على غيره ، ومن المعلوم أن كونه كاملاً في ذاته مقدم على كونه مكملاً لغيره ، إذا عرفت هذا فقوله : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها وقت وقوفها في مواقف العبودية وصفوف الخدمة والطاعة وقوله تعالى : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن جواهر الأرواح البشرية وقوله تعالى : {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الناطقة البشرية ، فهذه مناسبات عقلية واعتبارات حقيقية تنطبق عليها هذه الألفاظ الثلاثة ، قال أبو مسلم الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة مبرءون عن هذه الصفة ، والجواب من وجهين الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ثم يجمع على صافات والثاني : أنهم مبرءون عن التأنيث المعنوي ، أما التأنيث في/ اللفظ فلا ، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا الوجه الثاني : أن تحمل هذه الصافات على النفوس البشرية الطاهرة المقدسة المقبلة على عبودية الله تعالى الذين هم ملائكة الأرض وبيانه من وجهين الأول : أن قوله تعالى : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} المراد الصفوف الصحالة عند أداء الصلوات بالجماعة وقوله : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} إشارة إلى قراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم بسبب قراءة هذه الكلمة يزجرون الشياطين عن إلقاء الوساوس في قلوبهم في أثناء الصلاة وقوله : {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} إشارة إلى قراءة القرآن في الصلاة وقيل : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} إشارة إلى رفع الصوت بالقراءة كأنه يزجر الشيطان بواسطة رفع الصوت ، روى أنه صلى الله عليه وسلّم طاف على بيوت أصحابه في الليالي فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع فسأل أبا بكر لم تقرأ هكذا ؟
فقال : المعبود سميع عليم وسأل عمر : لم تقرأ هكذا ؟
فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان الوجه الثاني : في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله :
(1/3751)

جزء : 26 رقم الصفحة : 323
{وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين الله تعالى والمراد من قوله : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات ، والمراد من قوله تعالى : {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} اشتغالهم بالدعوة إلى دين الله والترغيب في العمل بشرائع الله الوجه الثالث : في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقوله : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِه صَفًّا} (الصف : 4) وأما (الزاجرات زجراً) فالزجرة والصيحة سواء ، والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل ، وأما (التاليات ذكراً) فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر الله تعالى بالتهليل والتقديس الوجه الرابع : في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله : (والصافات صفاً) المراد آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة وبعضها في دلائ النبوة وبعضها في دلائل المعاد وبعضها في بيان التكاليف والأحكام وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة ، وهذه الآيات مرتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصاً واقفين في صفوف معينة قولوه : {فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة وقوله : {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر وكلام قائل قال تعالى : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9) وقال : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} (يس : 1 ، 2) قيل الحكيم بمعنى الحاكم فهذه جملة الوجوه المحتملة على تقدير أن تجعل هذه الألفاظ الثلاثة صفات لشيء واحد وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل الرماد بقوله : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} الطير من قوله تعالى : {وَالطَّيْرُ صَـا فَّـاتٍ } (النور : 41) (والزاجرات) كل ما زجر عن معاصي الله (والتالي) كل ما يتلى من كتاب الله وأقول فيه/ وجه آخر وهو أن مخلوقات الله إما جسمانية وإما روحانية ، أما الجسمانية فإنها مرتبة على طبقات ودرجات لا تتغير ألبتة ، فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء والماء محفوف بالهواء ، والهواء محفوف بالنار ، ثم هذه اوربعة محفوفة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال الله تعالى ، وأما الجواهر الروحانية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين أحدهما التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصريف وإليه الإشارة بقوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 323
{فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} فإنا قد بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك ، والثاني الإدراك والمعرفة والاستغارق في معرفة الله تعالى والثناء عليه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأنبياء : 19) لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه ، فهذه احتمالات خطرت بالبال ، والعالم بأسرار كلام الله تعالى ليس إلا الله.
(1/3752)

المسألة الثالثة : للناس في هذا الموضع قولان الأول : قول من يقول المقسم به ههنا خالق هذه الأشياء لا أعيان هذه الأشياء ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : أنه صلى الله عليه وسلّم نهى عن الحلف بغير الله فكيف يليق بحكمة الله أن يحلف بغير الله والثاني : أن الحلف بالشيء في مثل هذا الموضع تعظيم عظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا * وَالارْضِ وَمَا طَحَـاـاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا} (الشمس : 5 ــــ 7) ، والقول الثاني : قول من يقول إن القسم واقع بأعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن القسم وقع بهذه الأشياء بحسب ظاهر اللفظ فالعدول عنه خلال الدليل والثاني : أنه تعالى قال : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} فعلق لفظ القسم بالسماء ، ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ، فلو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز الثالث : أنه لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها وكمال حقائقها ، لا سيما إذا حملنا هذه الألفاظ على الملائكة فإنه تكون الحكمة في القسم بها التنبيه على جلالة درجاتها وكمال مراتبها والله أعلم ، فإن قيل ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أوعند الكافر والأول باطل لأن المؤمن مقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل ، فهذا الحلف عديم الفائدة على كل التقديرات/ الثاني : أنه تعالى حلف في أول هذه السورة على أن الإله واحد ، وحلف في أول سورة والذاريات على أن القيامة حق فقال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 323
{وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا} إلى قوله : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (الذاريات : 1 ــــ 6) وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف واليمين لا يليق بالعقلاء ، والجواء من وجوه الأول : أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية ، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها فذكر القسم تأكيداً لما تقدم لا سيما والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب والوجه الثاني : في الجواب أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى : {إِنَّ إِلَـاهَكُمْ لَوَاحِدٌ} ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيني في كون الإله واحداً ، وهو قوله تعالى : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَـارِقِ} وذلك لأنه تعالى بين في قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد ، ففهنا لما قال : {إِنَّ إِلَـاهَكُمْ لَوَاحِدٌ} أردفه بقوله : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَـارِقِ} كأنه قيل قد بينا أن النظر في انتظام هذا العالم دل على كون الإله واحداً فتأملوا في ذلك الدليل ليحصل لكم العلم بالتوحيد الوجه الثالث : في الجواب أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة والله أعلم.
المسألة الرابعة : أما دلالة أحوال السموات والأرض على وجود الإله القادر العالم الحكيم ، وعلى كونه واحداً منزهاً عن الشريك فقد سبق تقريرها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً وأما قوله تعالى : {وَرَبُّ الْمَشَـارِقِ} فيحتمل أن يكون المراد مشارق الشمس قال السدي : المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً وكذلك المغارب فإنه تطلع الشمس كل يوم من مشرق وتغرب كل يوم في مغرب ، ويحتمل أن يكون المراد مشارق الكواكب لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً ، فإن فيل لم أكتفي بذكر المشارق ؟
قلنا لوجهين الأول : نه اكتفى بذكر المشارق كقوله : {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل : 81) والثاني أن الشرق أوقى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر الشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} (لبقرة : 258).
جزء : 26 رقم الصفحة : 323
(1/3753)

المسألة الخامسة : احتج الأصحاب بقوله تعالى : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد ، قالوا : لأن أعمال العباد موجود فيما بين السموات والأرض ، وهذه الآية دالة على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فالله ربه ومالكه ، فهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله ، وإن قالوا : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يليق بما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك ، قلنا : إنها لما/ كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السموات والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السماء والأرض. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 323
324
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وحفص عن عاصم زينة منونة الكواكب بالجر وهو قراءة مسروق بن الأجدع ، قال الفراء وهو رد معرفة على نكرة كما قال : {بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ} (العلق : 15 ، 16) فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة ، لأنها هي كما تقول مررت بأبي عبد الله زيد. وقرأ عاصم بالتنوين في الزين ونصب الكواكب قال الفراء : يريد زينا الكواكب ، وقال الزجاج : يجوز أن تكون الكواكب في النصف بدلاً من قوله بزينة ، لأن بزينة في موضع نصب وقرأ الباقون (بزينة الكواكب) بالجر على الإضافة.
المسألة الثانية : بين تعالى أنه زين السماء الدنيا ، وبين أنه إنما زينها لمنفعتين إحداهما : تحصيل الزينة والثانية : الحفظ من الشيطان المارد ، فوجب أن نحقق الكلام في هذه المطالب الثالاثة أما الأول : وهو تزيين السماء الدنيا بهذه الكواكب ، فلقائل أن يقول إنه ثبت في علم الهيئة أن هذه الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة ، وأن السيارات الستة مركوزة في الكرات الست المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} والجواب أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب ، وعلى أنا قد بينا في علم الهيئة أن الفلاسفة لم يتم لهم دليل في بيان أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن ، ولعلنا شرحنا هذا الكلام في تفسير سورة {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك : 1) في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} (الملك : 5) ، وأما المطلوب ال ثاني : وهو كون هذه الكواكب زينة السماء الدنيا ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الزينة مصدر كالنسبة واسم لما يزن به ، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة قال صاحب الكشاف وقوله : {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} يحتملهما فإن أردت المصدر فعلى إضافته إلى الفاعل أي بأن زينتها الكواكب أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها ، لأنا/ إنما زينت السماء بحسنها في أنفسها ، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان أن تقع الكواكب بياناً للزينة ، لأن الزينة قد تحصل بالكواكب وبغيرها ، وأن يراد ما زينت به الكواكب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 324
البحث الثاني : في بيان كيفية كون الكواكب زينة للسماء وجوه الأول : أن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها ، فإن تحصل هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك لا جرم بقي الضوء والنور في جرم الفلك بسبب حصول هذه الكواكب فيها قال ابن عباس : {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أي بضوء الكواكب الوجه الثاني : يجوز أن يراد أشكالها المتناسبة المختلفة كشكل الجوزاء وبنات نعش والثريا وغيرها الوجه الثالث : يجوز أن يكون المراد بهذه الزينة كيفية طلوعها وغروبها الوجه الرابع : أن الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك ورأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق ، فلا شك أنها أحسن الأشياء وأكملها في التركيب والجوهر ، وكل ذلك يفيد كون هذه الكواكب زينة وأما المطلوب الثالث : وهو قوله : {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} ففيه بحثان :
البحث الأول : فيما يتعلق باللغة فقوله : {وَحِفْظًا} أي وحظناها ، قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله ، مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال ، فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة ، قال ابن عباس يريد حفظ السماء بالكواكب و{مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ} يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه ، وأصله من الملاسة ومنه قوله : {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} (النمل : 44) ومنه الأمرد : وذكرنا تفسير المارد عند قوله : {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة : 101).
(1/3754)

البحث الثاني : فيما يتعلق بالمباحث العقلية في هذا الموضع ، فنقول الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5) قال المفسرون الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب ، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم بها ، وبقي ههنا سؤالات :
جزء : 26 رقم الصفحة : 324
السؤال الأول : هذه الشهب هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟
والأول باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير من أعداد كواكب السماء ، ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد ألبتة فإن أعداد كواكب السماء باقية في حالة واحدة من غير تغير ألبتة ، وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكأن الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض ، وأما القسم الثاني : وهو أن يقال إن هذه الشهب جنس آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهذا أيضاً مشكل لأنه تعالى قال في سورة : {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك : 1) ، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5) فالضمير في قوله : {وَجَعَلْنَـاهَآ} عائد إلى المصابيح ، فوجب أن تكون تلكالمصابيح هي الرجوع بأعيانها من غير تفاوت ، والجواب أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية ، وأما قوله تعالى : {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } (الملك : 5) فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصابيح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين ، وبهذا التقدير فقد زال الإشكال ، والله أعلم.
السؤال الثاني : كيف يجوز أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون بالتجويز ، أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم ألبتة ، وهل يمكن أن يصدر مثل هذا الفعل عن عاقل ، فكيف من الشياطين الذين لهم مزبة في معرفة الحيل الدقيقة والجواب : أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه ، وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة ، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم فيه الشهب ، وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا تصيبهم الشهب ، فلما هلكوا في بعض الأوقات ، وسلموا في بعض الأوقات ، جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنه لا تصيبهم الشهب فيها ، كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة ، هذا ما ذكره أبو علي الجبائي من الجواب عن هذا السؤال في تفسيره. ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة ، أو إلى غير تلك المواضع ، فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احتلقوا/ وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصودهم أصلاً ، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل ، إذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل وأن لا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافرين في البحر ، فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود ، أما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة ، وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود ، فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل ألبتة ، والأقرب في الجواب أن نقول هذه الوقعة إنما تتفق في الندرة ، فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين الشياطين والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 324
السؤال الثالث : قالوا : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلّم ، فءن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلّم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه ، إذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلّم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلّم ، أجاب القاضي بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلّم لكنها كثرت في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم فصارت بسبب الكثرة معجزة.
(1/3755)

/ السؤال الرابع : الشيطان مخلوق من النار ، قال تعالى حكاية عن إبليس {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} (الأعراف : 12) وقال : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر ؛ 27) ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات ، وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟
والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة ، فإن وصلت نيران الشهب إليهم ، وتلك النيران أقوى حالاً منهم لا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضف ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفىء فكذلك ههنا.
السؤال الخامس : أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك ، والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من السطح الأسفل من الفلك ، فيبقى جرم الفلك مانعاً من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة ، ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم ، كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة ، فإن قلتم إن الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة ، فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة ، وجب أن لا ينفي سمع الشيطان ، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم ؟
فالجواب : مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير مللة ، فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله ، فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب ، وإذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك ، وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب ، والله أعلم.
وأما قوله : {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الاعْلَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {لا يَسَّمَّعُونَ} بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون ، فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس ، والتسمع تطلب السماع يقال تسمع سمع أو لم يسمع ، والباقون بتخفيف السين ، واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون ، قال : لأن العرب تقول تسمعت إلى فلان ويقولون سمعت فلاناً ، ولا يكادون يقولون سمعت إلى فلان ، وقيل في تقوية هذه القراءة إذا نفى التسمع ، فقد نفى سمعه ، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى : {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (الشعراء : 212) وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى/ ثم يمنعون فلا يسمعون ، وللأولين أن يجيبوا فيقولون التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية ، بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء ، فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعاً من السمع أولى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 324
المسألة الثانية : الفرق بين قولك سمعت حديث فلان ، وبين قولك سمعت إلى حديثه ، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك ، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك.
/المسألة الثالثة : في قوله : {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا} قولان الأول : وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا ، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال : {الانثَيَيْنِا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } (النساء : 176) وكما قال : {رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (لقمان : 10) قال صاحب "الكشاف" : حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده. أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صوت القرآن عنها والقول الثاني : وهو الذي اختاره صاحب "الكشاف" أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب ، مدحورون عن ذلك المقصود.
المسألة الرابعة : الملأ الأعلى لملائكة لأنهم يسكنون السموات. وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة الأولى : أنهم لا يسمعون الثانية : أنهم يقذفون من كل جانب دحوراً وفيه أبحاث :
الأول : قد ذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف عند قوله : {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا } (الأعراف : 18) قال المبرد الدحور أشد الصغار والذل وقال ابن قتيبة دحرته دحراً ودحوراً أي دفعته وطردته.
البحث الثاني : في انتصاب قوله : {دُحُورًا } وجوه الأول : أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحوراً ، ودل على الفعل قوله تعالى : {وَيُقْذَفُونَ} الثاني : التقدير ويقذفون للدحول ثم حذف اللام الثالث : قال مجاهد دحوراً مطرودين ، فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالركوع والسجود والحضور.
البحث الثالث : قرأ أبو عبد الرحمن السملي دحوراً بفتح الدال قال الفراء كأنه قال يقذفون يدحرون بما يدحر ، ثم قال ولست أشتهي الفتح ، لأنه لو وجد ذلك على صحة لكان فيها الباء كما تقول يقذفون بالحجارة ولا تقول يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر :
تعال اللحم للأضياف نيئاً
(1/3756)

أي تعالى باللحم الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} والمعنى أنهم مرجومون بالشهب وهذا العذاب مسلط عليهم على سبيل الدوام ، وذكرنا تفسير الواصب في سورة النحل عند قوله تعالى : دوله الدين واصباً} (النحل : 52) قالوا كلهم إنه الدائم ، قال الواحدي ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 324
ثم قال تعالى : (النحل : 52) قالوا كلهم إنه الدائم ، قال الواحدي ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير.
ثم قال تعالى : {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} ذكرنا معنى الخطف في سورة الحج قال الزجاج وهو أخذ الشيء بسرعة ، وأصل خطف اختطف قال صاحب "الكشاف" {مِّنْ} في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطبة أي اختلس الكلمة على/ وجه المسارقة {فَأَتْبَعَه } يعني لحقه وأصابه يقال تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وأتبعه إذا لحقه وأصله من قوله تعالى : {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ} (الأعراف : 175) وقد مر تفسيره وقوله تعالى : {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قال الحسن ثاقب أي مضيء وأقول سمي ثاقباً لأنه يثقب بنوره الهواء/ قال ابن عباس في تفسير قوله : {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} (الطارق : 3) قال : إنه رجل سمي بذلك لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 324
325
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان النظم اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصد الأقصى من هذا الكتاب الكريم إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوة وإثبات القضاء والقدر. فنقول إنه تعاى افتتح هذه السورة بإثبات ما يدل على وجود الصانع ويدل على وحدانيته وهو خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب ، فلما أحكم الكلام في هذا الباب فرع عليها إثبات القول بالحشر والنشر والقيامة.
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتعلق بطرفين أولهما إثبات الجواز العقلي وثانيهما إثبات الوقوع أما الكلام في المطلوب الأول فاعلم أن الاستدلال على الشيء يقع على وجهين أحدهما : أن يقال إنه قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق منه فوجب أيضاً أن يقدر عليه والثاني : أن يقال إنه قدر عليه في إحدى الحالتين والفاعل والقابل باقيين كما كانا ، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحالة الثانية والله تعالى ذكر هذين الطريقين في بيان أن القول بالبعث والقيامة أمر جائز ممكن. أما الطريق الأول : فهو المراد من قوله : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} والتقدير كأنه تعالى يقول : استفت يا محمد هؤلاء المنكرين أهم أشد خلقاً من خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب وخلق الشياطين الذين يصعدون الفلك ، ولا شك أنهم يعترفون بأن خلق هذا القسم أشق وأشد في العرف من خلق القسم الأول ، فلما ثبت بالدلائل المذكورة في إثبات التوحيد كونه تعالى قادراً على هذا القسم الذي هو أشد وأصعب ، فبأن يكون قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى ، ونظير هذه الدلالة قوله تعالى في آخر يس {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81) وقوله تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر : 57) وأما الطريق الثاني : فهو المراد من قوله : {إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّن طِينٍ لازِب } والمعنى أن هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام ، ولولا كونه تعالى قادراً على هذا المعنى لما حصلت الحياة في المرة الأولى ، ولا شك أن قابلية تلك الأجسام باقية وأن قادرية الله تعالى باقية لأن هذه القابلية وهذه القادرية من الصفات الذاتية فامتنع زوالها فثبت بهذين الطريقين أن القول بالبعث والقيامة أمر/ممكن ، ولما بين تعالى إمكان هذا المعنى بهذين الطريقين بين وقوعه بقوله ؛ {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} (الصافات : 18) وذلك لأنه ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم لأجل ظهور المعجزات عليه والصادق إذا أخبر عن أمر ممكن الوقوع وجب الاعتراف بوقوعه فهذا تقرير نظم هذه الآية وهو في غاية الحسن والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 325
المسألة الثانية : في تفسير ألفاظ هذه الآية ، أما قوله : {فَاسْتَفْتِهِمْ} يعني أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فاستفت هؤلاء المنكرين وقل لهم {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} أم هذه الأشياء التي بينا كونه تعالى خالقاً لها ولم يحك عنهم أنهم أقروا أن خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أن ظهور ذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة أن يحكى عنهم صحة أن الأمر كذلك.
(1/3757)

ثم قال تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّن طِينٍ لازِب } يعني أنا لما قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أولاً وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانياً/ لما بينا أن حال القابل وحال الفاعل ممتنع التغير. وفيه دقيقة أخرى وهي أن القوم قالوا كيف يعقل تولد الإنسان لا من النطفة ولا من الأبوين ؟
فكأنه قيل لهم إنكم لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فة بد وأن تعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين ؟
فإذا عقلتم ذلك واعترفتم به فقد سقط قولكم الإنسان كيف يحدث من غير النطفة ومن غير الأبوين ، وأيضاً قد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من الطين اللازب ومن قدر على خلق الحياة في الطين اللازب فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات. وأما كيفية خلق الإنسان من الطين اللازب فهي مذكورة في السورة المتقدمة ، واعلم أن هذا الوجه أنما يحسن إذا قلنا المراد من قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّن طِينٍ لازِب } هو أنا خلقنا أباهم آدم من طين لازب ، وفيه وجوه أخر وهو أن يكون المراد أنا خلقنا كل إنسان من طين لازب ، وتقريره أن الحيوان إنما يتولد من المني ودم الطمث والمني يتولد من الدم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغذاء ، والغذاء إما حيواني وإما نباتي أما تولد الحيوان الذي صار غذاء فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان ، فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن كل الخلق متولدون من الطين اللازب ، وإذا ثبت هذا فنقول إن هذه الأجزاء التي منها تركب هذا الطين اللازب قابلة للحياة والله تعالى قادر عليها ، وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصحة في كل الأوقات وهذه بيانات ظاهرة واضحة ، وأما اللازب فقل اللاصق ، وقيل اللزج وقيل الحتد ، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في لازب بدل من الميم يقال لازب ولازم. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 325
327
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقرير الكلام أن يقال إن هؤلاء المنكرين أقروا بأنه تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد ، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادراً على اوسهل اويسر ، ثم مع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء الأقوام مصرين على إنكار البعث والقيامة وهذا في موضع التعجب الشديد فإن مع ظهور هذه الحجة الجلية الظاهرة كيف يعقل بقاء القوم على الإصرار فيه. فأنت يا محم تتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم في طرف الإنكار وصلوا إلى حيث يستخرون منك في قولك بإثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، فهذا هو المراد من قوله : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} .
(1/3758)

المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي {عَجِبْتَ} بضم التاء والباقون بفتحها قال الواحدي : والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش وقراءة أهل الكوفة واختيار أبي عبيدة ، أما الذين قرأوا بالفتح فقد احتجوا بوجوه الأول : أن القراءة بالضم تدل على إسناد العجب إلى الله تعالى وذلك محال ، لأن التعجب حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء ومعلوم أن الجهل على الله محال والثاني : أن الله تعالى أضاف التعجب إلى محمد صلى الله عليه وسلّم في آية أخرى في هذه المسألة فقال : دوإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً} (الرعد : 5) ، والثالث : أنه تعالى قال : (الرعد : 5) ، والثالث : أنه تعالى قال : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} والظاهر أنهم سخروا لأجل ذلك التعجب فلما سخروا منه وجب أن يكون ذلك التعجب صادراً منه ، وأما الذين قرأوا بضم التاء ، فقد أجابوا عن الحجة الأولى من وجوه الأول : أن القراءة بالضم لا نسلم أنها تدل على إسناد التعجب إلى الله تعالى ، وبيانه أنه يكون التقدير قل يا محمد (بل عجبت ويسخرون) ونظيره قوله تعالى : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم : 38) معناه أن هؤلاء ما تقولون فيه أنتم هذا النحو من الكلام ، وكذلك قوله تعالى : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (البقرة : 175) الثاني : سلمنا أن ذلك يقتضي إضافة التعجب إلى الله تعالى فلم قلتم إن ذلك محال ؟
ويروى أن شريحاً كان يختار القراءة بالنصب ويقول العجب لا يليق إلا بمن لا يعلم ، قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : إن شريحاً يعجب بعلمه وكان عبد الله أعلم ، وكان يقرأ بالضم وتحقيق القول فيه أن نقول : دل القرآن والخبر على جواز إضافة العجب إلى الله تعالى ، أما القرآن فقوله تعالى : دوإن تعجب فعجب قولهم} (الرعد : 5) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم ، فهو أيضاً عجب عندي ، وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم ، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلّم : "عجب ربكم من إلكم وقنوطكم ، وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة" وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال : (الرعد : 5) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم ، فهو أيضاً عجب عندي ، وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم ، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلّم : "عجب ربكم من إلكم وقنوطكم ، وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة" وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 327
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه } (الأنفال : 30) وقال : {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} (التوبة : 79) وقال تعالى : {وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 142) والمكر والخداع والسخرية من الله تعالى بخلاف هذه الأحوال من العباد ، وقد ذكرنا أن القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض. وكذلك ههنا من تعجب من شيء فإنه يستعظمه فالتعجب في حق الله تعالى محممول على أنه تعالى يستعظم تلك الحالة إن كانت قبيحة فيترتب العقاب العظيم عليه ، وإن كانت حسنة فيترتب الثواب العظيم عليه ، فهذا تمام الكلام في هذه المناظرة ، والأقرب أن يقال القراءة بالضم إن ثبت بالتواتر وجب المصير إليها ويكون التأويل ما ذكرناه وإن لم تثبت هذه القراءة بالتواتر كانت القراءة بفتح التاء أولى والله أعلم. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 327
329
اعلم أنه تعالى لما قرر الدليل القادع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى عن المنكرين أشياء أولها : النبي صلى الله عليه وسلّم يتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات ، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم مع أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد وفي طرفي النقيض وثانيها قوله : {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} ، وثالثها قوله : {وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ} ويجب أن يكون المراد من هذا الثاني والثالث غير الأول لأن العطف يوجب التغاير ولأن التكرير خلاف الأصل ، والذي عندي في هذا الباب أن يقال القوم كانوا يستبعدون الحشر والقياة ويقولون : من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟
وبلغوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك فلا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد عنهم إلا من وجهين أحدهما : أن يذكر لهم الدليل الدال على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن خلق السموات والأرض أشد وأصعب من إعادة إنسان بعد موته ؟
وهل تعلمون أن القادر على اوصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل الأيسر ؟
فهذا الدليل وإن كان جلياً قوياً إلا أن أولئك المنكرين إذا عرض على عقولهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها ، وإذا ذكروا لم يذكروها لشدة/ بلادتهم وجهلهم ، فلا جرم لم ينتفعوا بهذا النوع من البيان.
(1/3759)

الطريق الثاني : أن يثبت الرسول صلى الله عليه وسلّم جهة رسالته بالمعجزات ثم يقول لما ثبت بالمعجز كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق ، ثم إن أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على كونها سحراً وسخروا بها وساتهزؤا منها وهذا هو الراد من قوله : دوإذا رأوا آية يستسخرون} فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة.
واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق ، فقالوا إنه تعالى قال : فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 329
واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق ، فقالوا إنه تعالى قال : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} (الصافات : 12).
ثم قال : {وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ} فوجب أن يكون المراد من قوله : {يَسْتَسْخِرُونَ} غير ما تقدم ذكه من قوله : {وَيَسْخُرُونَ} فقال هذا القائل المراد من قوله : {وَيَسْخُرُونَ} إقدامهم على السخرية والمراد من قوله : {يَسْتَسْخِرُونَ} طلب كل واحد منهم من صاحبه أن يقدم على السخرية وهذا التكليف إنما لزمهم لعدم وقوفهم على الفوائد لتي ذكرناها والله أعلم والرابع : من الأمور التي حكاها الله تعالى عنهم أنهم قالوا : {إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعني أنهم إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها ، والسبب في تلك السخرية اعتقادهم أنها من باب السحر وقوله : {مُّبِينٌ} معناه أن كونه سحراً أمر بين لا شبهة لأحد فيه ، ثم بين تعالى أن السبب الذي يحملهم على الاستهزاء بالقول بالبعث وعلى عدم الالتفات إلى الدلائل الدالة على صحة القول وعلى الاستهزاء بجميع المعجزات هو قولهم إن الذي مات وتفرقت أجزاؤه في جملة العالم فما فيه من الأرضية اختلط بتراب الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حياً فاهماً ؟
فهذا الكلام هو الذي يحملهم على تلك الأحوال الثلاثة المتقدمة ، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال : قال يا محمد نعم وأنتم داخرون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة بالبرهان اليقيني القطعي أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق ، فلما قامت المعجزات على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله : {قُلْ نَعَمْ} دليلاً قاطعاً على الوقوع. ومن تأمل في هذه الآيات علم أنها وردت على أحسن وجوه الترتيب ، وذلك لأنه بين الإمكان بالدليل العقلي وبين وقوع ذلك الممكن بالدليل السمعي ، ومن المعلوم أن الزيادة على هذا البيان كالأمر الممتنع.
أما قوله : {أَوَ ءَابَآؤُنَا} فالمعنى أو تبعث آباؤنا وهذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف وقرأ نافع وابن عامر ههنا ، وفي سورة الواقعة ساكنة الواو وذكرنا الكلام فيهذا في سورة الأعراف عن قوله : {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } (الأعراف : 98).
جزء : 26 رقم الصفحة : 329
أما قوله تعالى : {قُلْ نَعَمْ} فنقول قرأ الكسائي وحده (نعم) بكسر العين.
أما قوله تعالى : {مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أي صاغرون ، قال أبو عبيد الدخور أشد الصغار ، وذكرنا تفسير هذه اللفظة عند قوله : {سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل : 48).
جزء : 26 رقم الصفحة : 329
329
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إمكان البعث والقيامة ، ثم أردفه بما يدلعلى وقوع القيامة ، ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة ، وأنه تعالى ذكر في هذه الآية أنواعاً من تلك الأحوال فالحالة الأولى : قوله تعالى : {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : قوله : {سَمِعَه فَإِنَّمَآ} جواب شرط مقدر والتقدير إذا كان كذلك فما هي إلا زجرة واحدة.
البحث الثاني : الضمير في قوله : {فَإِنَّمَا هِىَ} ضمير على شريطة التفسير ، والتقدير فإنما البعث زجرة واحدة.
البحث الثالث : الزجرة في اللغة الصيحة التي يزجر بها كالزجرة بالنعم والإبل عند البحث ثم كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة وإن لم يكن فيها معنى الزجر كما في هذه الآية وأقول لا يبعد أن يقال إن تلك الصيحة إنما سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور والحضور في موقف القيامة ، فإذا عرفت هذا فنقول المراد من هذه الزجرة ما ذكره الله تعالى في قوله : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر : 68) فبتالنفخة الأولى يموتون وبالنفخة الثانية يحيون ويقومون ، وههنا سؤالات :
(1/3760)

السؤال الأول : ما الفائدة في هذه الصيحة فإن القوم في تلك الساعة أموات لأن النفخة جارية مجرى السبب لحياتهم فتكون مقدمة على حصول حياتهم فثبت أن هذه الصيحة إنما حصلت حال كون الخلق أمواتاً ، فتكون تلك الصيحة عديمة الفائدة فهي عبث والعبث لاة يجوز في فعل الله والجواب : أما أصحابنا فيقولون يفعل الله ما يشاء ، وأما المعتزلة فقال القاضي فيه وجهان الأول : أن تعتبر بها الملائكة الثاني : أن تكون الفائدة التخويف والإرهاب.
السؤال الثاني : هل لتلك الصيحة تأثير في إعادة الحياة ؟
الجواب : لا ، بدليل أن الصيحة الأولى استعقبت الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة ، بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2).
جزء : 26 رقم الصفحة : 329
السؤال الثالث : تلك الصيحة صوت الملائكة أو الله تعالى يخلقها ابتداء ؟
الجواب : الكل/ جائز إلا أنه روي أن الله تعالى يأمر إسرافيل حتى ينادي : أيتها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى : اللفظ الارابع : من الألفاظ المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} فيحتمل أن يكون المراد ينظرون ما يحدث بهم ويحتمل ينظر بعضهم إلى بعض وأن يكون المراد ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به الحالة الثانية : من وقائع القيامة ما أخبر الله عنهم أنهم بعد القيام من القبور قالوا : {وَقَالُوا يَـاوَيْلَنَا هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة والمقصود أنهم لما شاهدوا القيامة قالوا : {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي يوم الجزاء هذا ، والمقصود أن الله تعالى ذكر في آيات كثيرة من القرآن ، أنا نرى في الدنيا محسناً ومسيئاً وعاصياً وصديقاً وزنديقاً ، ورأينا أنه لم يصل إليهم في الدنيا ما يليق بهم من الجزاء فوجب القول بإثبات القيامة : {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم : 31) وبالجملة فهذا يدل على أن الجزاء إنما يحصل بعد الموت/ والكفار وإن سمعوا هذا الدليل القوي لكنهم أنكروا وتمردوا ثم إنه تعالى إذا أحياهم يوم القيامة فإذا شاهدوا القيامة يذكرون ذلك اليوم ويقولون : {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي يوم الجزاء الذي ذكر الله الدلائل الكثيرة عليه في القرآن فكفرنا بها ، ونظيره أن من خوف بشيء ولم يتلفت إليه ، ثم عاينه بعد ذلك فقد يقول هذا يوم الواقعة الفلانية فكذا ههنا ، وفيه احتمال آخر وهو أنه تعالى قال في سورة الفاتحة {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) فبين أنه لا مالك في ذلك اليوم إلا الله فقولهم هذا يوم الدين ، إشارة إلى أن هذا هو اليوم الذي لا حكم فيه لأحد إلا لله ، وإنما ذكروه لما حصل في قلوبهم من الخوف الشديد.
أما قوله تعالى : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} ففيه بحثان :
جزء : 26 رقم الصفحة : 329
الأول : اختلفوا في أن هذا هو من بقية كلام الكفار أو يقال تم كلامهم عند قوله تعالى : {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} . وأما قوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} فهو كلام غيرهم ، فبعضهم قال بالأول وزعم أن قوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} الآية من كلام بعضهم لبعض ، والأكثرون على القول الثاني واحتجوا بوجهين : الأول : أن قوله : {كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} من كلام بعضهم لبعض خطاب مع جميع الكفار فقائل هذا القول لا بد وأن يكون غير الكفار الثاني : أن قوله : داحشروا الذين ظلموا وأزواجهم} (الصافات : 22) منسوق على قوله : (الصافات : 22) منسوق على قوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} فلما كان قوله : داحشروا الذين ظلموا} كلام غير الكفار فكذلك قوله : كلام غير الكفار فكذلك قوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} يجب أن يكون كلام غير الكفار ، وعلى هذا التقدير فقوله : {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} من كلام الكفار ، وقوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} من كلام الملائكة جواباً لهم ، والوجه في كونه جواباً لهم أن أولئك الكفار ، إنما اعتقدوا في أنفسهم كونهم محقين في إنكار دعوة الأنبياء عليهم السلام وكونهم محقين في تلك اوديان الفاسدة فقالوا : {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي هذا اليوم الذي يصل فيه إلينا جزاء طاعتنا وخيراتن ، فالملائكة يقولون لهم إنه لا اعتبار بظواهر الأمور في هذا اليوم فإن هذا اليوم/ يفصل فيه الجزاء الحقيقي عن الجزاء الظاهري وتميز فيه الطاعات الحقيقية عن الطاعات المقرونة بالرياء والسمعة فبهذا الطريق صار هذا الكلام من الملائكة جواباً لما ذكره الكفار. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 329
331
وفي الآية أبحاث :
(1/3761)

البحث الأول : اعلم أنه لا نزاع في أن هذا من كلام الملائكة فإن قيل ما معنى : {احْشُرُوا } مع أنهم قد حشروا من قبل وحضروا في محفل القيامة وقالوا : {هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ} (الصافات : 20) وقالت الملائكة لهم بل : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} (الصافات : 21) أجاب القاضي عنه ، فقال المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار ، ولذلك قال بعده : {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي خذوهم إلى ذلك الطريق ودلوهم عليه ثم سأل نفسه فقال : كيف يصح ذلك وقد قال بعده {وَقِفُوهُم إِنَّهُم} ومعلوم أن حشرهم إلى الجحيم ، إنما يكون بعد المسألة ، وأجاب أنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب فلا يمتنع أن يقال احشروهم وقفوهم ، مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر إلى النار ، هذا ما قاله القاضي ، وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يبعد أن يقفوا هناك بحيرة تلحقهم بسبب معاينة أهوال القيامة ، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة : احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجيحم ، أي سوقوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك وتحصل المسألة هناك ثم من هناك يساقون إلى النار وعلى هذا التقدير فظاهر النظم موافق لما عليه الوجه.
البحث الثاني : الآمر في قوله تعالى : {تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا } هو الله فهو تعالى أمر الملائكة أن يحشروا الكفار إلى موقف السؤال والمراد من الحشر أن الملائكة يسوقونهم إلى ذلك الموقف.
البحث الثالث : أن الله أمر الملائكة بحشر ثلاثة أشياء : الظالمين ، وأزواجهم ، والأشياء التي كانوا يعبدونها. وفيه فوائد :
الفائدة الأولى : أنه تعالى قال : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا } ثم ذكر من صفات الذين ظلموا كونهم عابدين لغير الله وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر وذلك يدل على أن كل وعيد ورد في حق الظالم فهو مصروف إلى الكفار ومما يؤكد هذا قوله تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} (البقرة : 254).
جزء : 26 رقم الصفحة : 331
الفائدة الثانية : اختلفوا في المراد بأزواجهم وفيه ثلاثة أقوال الأول : المراد بأزواجهم أشباههم أي أحزابهم ونظراؤهم من الكفر فاليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني والذي يدل على جواز أن يكون المراد من الأزواج الأشباه وجوه الأول : قوله تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً} (الواقعة : 7) أي أشكالاً وأشباهاً الثاني : أنك تقول عندي من هذا أزواج أي أمثال وتقول زوجان من الخف لكون كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة سميا زوجين لكونهما متشابهين في أكثر أحكام النكاح وكذلك العدد الزوج سمي بهذا الاسم لكون كل واحد من سميه مثالاً للقسم الثاني في العدد الصحيح ، قال الواحدي فعلى هذا القول يجب أن يكون المراد بالذين ظلموا الرؤساء ونك لو جعلت الذين ظلموا عاماً في كل من أشرك لم يكن للأزواج معنى القول الثاني : في تفسير الأزواج أن المراد قرناؤهم من الشياطين لقوله تعالى : دوإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} (الأعراف : 202) ، والقول الثالث : أن المراد نساؤهم اللواتي على دينهم. أما قوله : (الأعراف : 202) ، والقول الثالث : أن المراد نساؤهم اللواتي على دينهم. أما قوله : {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} ففيه قولان الأول : المراد ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان والطواغيت ، ونظيره قوله : {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } (البقرة : 24) قيل المراد بالناس عباد الأوثان والمراد بالحجارة الأصنام التي هي أحجار منحوتة ، فإن قيل إن تلك الأحجار جمادات فما الفائدة في حشرها إلى جهنم ؟
أجاب القاضي بأنه ورد الخبر بأنها تعاد وتحيا لتحصل المبالغة في توبيخ الكفار الذين كانوا يعبدونها ولقائل أن يقول هب أن الله تعالى يحيي تلك الأصنام إلا أنه لم يصدر عنها ذنب ، فكيف يجوز من الله تعالى تعذيبها ؟
واوقرب أن يقال إن الله تعالى لا يحيي تلك الأصنام بل يتركها على الجمادية. ثم يلقيها في جهنم لأن ذلك مما يزيد في تخجيل الكفار القول الثاني : : أن المراد من قولهه : {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة ما عبدوا فلما قبلوا منهم ذلك الدين صاروا كالعابدين لأولئك الشياطين وتأكد هذا بقوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـابَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ } (يس : 60) والقول الأول أولى لأن الشياطين عقلاء وكلمة ما لا تليق بالعقلاء والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 331
(1/3762)

ثم قال : {اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} قال ابن عباس : دلوهم يقال هديت الرجل إذا دللته وإنما استعملت الهداية ههنا ، لأنه جعل بدل الهداية إلى الجنة ، كما قال : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) فوقعت البشارة بالعذاب لهؤلاء بدل البشارة بالنعيم لأولئك ، وعن ابن عباس {وَقَالُوا يَـاوَيْلَنَا هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ } يقال : وقفت الدابة اقفها وقفاً فوقفت هي وقوفاً ، والمعنى احبسوهم وفي الآية قولان أحدهما : : على التقديم والتأخير ، والمعنى قفوهم واهدوهم ، والأصوب أنه لا حاجة إليه ، بل كأنه قيل : فاهدوهم إلى صراط الجحيم فإذا انتهوا إلى الصراط قيل {وَقِفُوهُمْ } فإن السؤال يقع هنللهك وقوله : {إِنَّهُمْ} قيل عن أعمالهم في الدنيا وأقوالهم ، وقيل المراد سألتهم الخزنة {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا قَالُوا بَلَى وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (الزمر : 71) ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد ذلك وهو قوله تعالى : {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} أي أنهم يسألون توبيخاً لهم ، فيقال : {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} قال ابن عباس/ رضي الله عنهما : لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا ، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر فقيل لهم يوم القيامة ما لكم غير متناصرين ، وقيل يقال لكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
ثم قال تعالى : {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع ، ومعناه في الأصل طلب السلامة بترك المنازعة ، والمقصود أنهم صاروا منقادين لا حيلة لهم في دفع تلك المضار لا العابد ولا المعبود.
جزء : 26 رقم الصفحة : 331
333
ثم قال تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قيل هم والشياطين ، وقيل الرؤساء والأتباع. {يَتَسَآءَلُونَ} أي يسأل بعضهم بعضاً ، وهذا التساؤل عبارة عن التخاصم وهو سؤال التبكيت يقولون غررتمونا ، ويقول : أولئك لم قبلتم منا ، وبالجملة فليس ذلك تساؤل المستفهمين ، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 333
335
واعلم أن الله تعالى لما حكى عنهم أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون شرح كيفية ذلك التساؤل فقال : {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} وهذا قول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة ، وفي تفسير اليمين وجوه الأول : أن لفظ اليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات ، وبيان كيفية هذه الاستعارة ، أن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر لوجوه أحدها : اتفاق الكل على أن أشرف الجانبين هو اليمين والثاني : لا يباشرون الأعمال الشريفة إلا باليمين مثل مصافحة الأخيار والأكل والشرب وما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى الثالث : أنهم كانوا يتفاءلون وكانوا يتيمنون بالجانب الأيمن ويسمونه بالبارح الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يحب التيامن في كل شيء الخامس : أن الشريعة حكمت بأن الجانب الأيمن لكاتب الحسنات والأيسر لكاتب السيئات السادس : أن الله تعالى وعد لمحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتى كتابه بيساره ، فثبت أن الجانب الأيسر ، وإذا كان كذلك لا جرم ، استعير لفظ اليمين للخيرات والحسنات والطاعات ، فقوله : {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} يعني أنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا أن مقصودكم من الدعوة إلى تلك الأديان نصرة الحق وتقوية الصدق والوجه الثاني : في التأويل أنه يقال فلان يمين فلان ، إذا كان عنده بالمنزلة الحسنة ، فقال هؤلاء الكفار لأئتمتهم الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر : إنكم كنتم تخدوعونا وتوهمون لنا ، أننا عندكم بمنزلة اليمين ، أي بالمنزلة الحسنة ، فوثقنا بكم وقبلنا عنكم الوجه الثالث : أن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق ، فوثقوا بإيمانهم وتمسكوا بعهودهم التي عهدوها لهم ، فمعنى قوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 335
(1/3763)

{كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا الوجه الرابع : أن لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر ، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش ، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه ، ثم حكى الله تعالى عن الرؤساء أنهم أجابوا الأتباع من وجوه الأول : أنهم قالوا لهم {بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يعني أنكم ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال إنا أزلناكم عنه الثاني : قولهم : {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانا } يعني لا قدرة لناعليكم حتى نقهركم ونجبركم الثالث : {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَـاغِينَ} أي ضالين غالين في معصية الله الرابع : قولهم : {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآا إِنَّا لَذَآاـاِقُونَ} والمعنى أن الله تعالى لما إخبر عن/ وقوعنا في العذاب/ فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقاً ، بل كان باطلاً ، ولما كان خبر الله أمراً واجباً لا جرم ، كان الوقوع في العذاب الأليم لازماً ، قال مقاتل قوله تعالى : {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ } إشارة إلى قول الله لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص : 85) وقوله تعالى : {إِنَّا لَذَآاـاِقُونَ} يعني لما وجب أن يحق علينا قول ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب الخامس قولهم : {فَأَغْوَيْنَـاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَـاوِينَ} والمعنى أنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية ، وفيه دقيقة أخرى ، كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاوٍ آخر ولزم التسلسل وذلك محال ، فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قبلنا ، بل من قبل غيرنا ، وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل ، وهو قوله : {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ } ولما حكى الله تعالى كلام الأتباع للرؤساء وكلام الرؤساء للأتباع قال بعده : {فَإِنَّهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} يعني فالمتبوع والتابع والمخدوم والخادم مشتركون في الوقوع في العذاب كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية ، ثم قال أيضاً :
جزء : 26 رقم الصفحة : 335
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} وعني بالمجرمين ههنا الكفار بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الكلمة : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} والضمير في قوله : {إِنَّهُمْ} عائد إلى المذكور السابق وهو قوله : {بِالْمُجْرِمِينَ} وهذا يدل على أن لفظ المجرم المطلق مختص في القرآن بالكافر ، ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لأنهم كانوا مكذبين بالتوحيد وبالنبوة ، أما التكذيب بالتوحيد فهو قوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} يعني ينكرون ويتعصبون لإثبات الشرك ويستنكفون عن الإقرار بالتوحيد. وأما التكذيب بالنبوة فهو قولهم : {لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون } ويعنون محمداً ، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال : {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} وتقرير هذا الكلام أنه جاء بالدين الحق لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الضد والند والشريك فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلّم بتقرير هذه المعاني كان مجيئه بالدين الحق ، قرأ ابن كثير {أَيُّنَآ} بهمزة وياء بعدها خفيفية ساكنة بلا مد ، وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو على هذا التفسير يمدان والباقون بهمزتين بلا مد وقوله تعالى : {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} يعني صدقهم في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشريك ، وهذا تنبيه على أن القول بالتوحيد دين لكل الأنبياء ، ولما حكى الله عنهم تكذيبهم بالتوحيد والنبوة نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال : {إِنَّكُمْ لَذَآاـاِقُوا الْعَذَابِ الالِيمِ} كأنه قيل فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده فأجاب عنه بقوله : {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والمعنى أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والطاعة والنهي عن القبيح والمعصية والأمر والنهي لا يكمل المقصود منهما/ إلا بالترغيب في لثواب والترهيب بالعقاب وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحقيقه صوناً للكلام عن الكذب ، فلهذا السبب وقعوا في العذاب ثم قال : {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} يعني ولكن عباد الله (المخلصين ناجون وهو) من الاستثناء المنقطع.
جزء : 26 رقم الصفحة : 335
338
العم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين علي إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب ، وفيه مسائل :
(1/3764)

المسألة الأولى : ذكرنا في فتح اللام وكسرها من المخصلين قراءتين فالفتح أن الله تعالى أخصلهم بلطفه واصطفاهم بفضله والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف رزقهم بكونه معلوماً ، ولم يبين أن أي الصفات منه هو المعلوم فلذلك اختلفت الأقوال ، فقيل معناه إن ذلك الرزق معلوم الوقت وهو مقدار غدوة وعشية وإن لم يكن ثمة لا بكرة ولا عشية ، قال تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم : 62) ، وقيل معناه أن ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ولذة حسن منظر ، وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ولا متى ينقطع ، وقيل معناه : القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم ، وقد بين الله تعالى أنه يعطيهم غير ذلك على سبيل التفضل ، ثم لما ذكر تعالى أن لهم رزقاً بين أن ذلك الرزق ما هو فقال : {فَوَاكِه } وفيه قولان الأول : أن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة ، وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات/ فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني : أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى ، يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الأدام أولى بالحضور ، والقول الأول أقرب إلى التحقيق ، واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال : {وَهُم مُّكْرَمُونَ} لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال : {فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ} ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب ، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم ، ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة ، ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي الله أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم ، ولما شرح الله صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشرب فقال : {يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِين } يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأساً قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 338
وكأس شرت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، وقوله : {مِّن مَّعِين } أي من شراب معين ، أو من نهر معين ، المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معيناً لظهوره يقال عان الماء إذا ظهر جارياً ، قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل ، وقيل سمي معيناً لأنه يجري ظاهر العين ، ويجوز أن يكون فعيلاً من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه/ وقوله : {بَيْضَآءَ} صفة للخمر ، قال الأخفش ، خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ، وقوله : {لَذَّةٍ} فيه وجوه أحدها : أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين وثانيها : قال الزجاج أي ذات لذة فعلى هذا حذف المضاف وثالثها : قال الليث : اللذ واللذيذ يجريان مجرى واحداً في النعت ويقال شراب لذ ولذيذ قال تعالى : {بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} وقال تعالى : {مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ} (محمد : 15) ولذلك سمي النوم لذاً لاستلذاذه ، وعلى هذا لذة بمعنى لذيذة ، والأقرب من هذه الوجوه الأول.
ثم قال تعالى : {لِّلشَّـارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء ، وقال أبو عبيدة الغول أن يغتال عقولهم ، وأنشد قول مطيع بن إياس :
وما زالت الكأس تغتالهم
وتذهب بالأول الأول
وقال الليث : الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا ، قال الواحدي رحمه الله وحقيقته الإهلاك ، يقال غاله غولاً أي أهلكه ، والغول والغائل المهلك ، ثم سمي الصداع غولاً لأنه يؤدي إلى الهلاك.
ثم قال تعالى : {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} وقرىء بكسر الزاي قال الفراء من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل إذا نفدت خمرته ، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ومن فتح الزاي فمعناه/ لا يذهب عقولهم أي لا يسكرون يقال نزف الرجل فهو منزوف ونزيف ، والمعنى ليس فيها قط نوع من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من صداع أو خمار أو عربدة ولا هم يسكرون أيضاً ، وخصه بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر ، ولما ذكر الله تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم من ثلاثة أوجه الأول : قوله : {وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى : {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ} (الرحمن : 72) والمعنى أنهن يحبسن نظرهن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن.
جزء : 26 رقم الصفحة : 338
(1/3765)

الصفة الثانية : قوله تعالى : {عِينٌ} قال الزجاج : كبار الأعين حسانها واحدها عيناء.
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} المكنون في اللغة المستور يقال كننت الشيء وأكنته ، ومعنى هذا التشبيه أن ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة ، فإذا كان مكنوناً كان مصوناً عن الغبرة والقترة ، فكان هذا اللون في غاية الحسن والعرب كانوا يسمون النساء بيضات الخدور.
ولما تمم الله صفات أهل الجنة قال : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} فإن قيل على أي شيء عطف قوله : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} ؟
قلنا على قوله : {يُطَافُ عَلَيْهِم} والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراء قال الشاعر :
وما بقيت من اللذات إلا
محادثة الكرام على المدام
والمعنى فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
جزء : 26 رقم الصفحة : 338
340
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى كما ذكر في أهل الجنة أنهم يتساءلون عند الاجتماع على / شرب خمر الجنة فإن محادثة العقلاء بعضهم مع بعض على لشرب من الأمور اللذيذة ، وتذكر الخلاص عند اجتماع أسباب الهلاك من الأمور اللذيذة ، ذكر تعالى في هذه الآية أن أهل الجنة إذا اجتمعوا على الشرب وأخذوا في المكالمة والمساءلة كان من جملة تلك الكلمات أنهم يتذكرون أنهم كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله ، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية ، والمقصود من ذكر هذه الأشياء أن أهل الجنة يتكامل سرورهم وبهجتهم.
أما قوله : {قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} أي قال قائل : من أهل الجنة إني كان لي قرين في الدنيا {يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي لمحاسبون ومجازون ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار ، ثم إن ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السرور بالاطلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته {هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ} والأقرب أنه تكلف أمراً اطلع معه لأنه لو كان مطلعاً بلا تكلف لم يكن إلى اطلاعه حاجة فلذلك قال بعضهم إنه ذهب إلى بعض أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ} أي في وسط الجحيم قال له موبخاً : {تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى} بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} في النار مثلك ، ولما تمم ذلك الكلام حصل قبل ذبح الموت والثاني : أن الذي يتكامل خيره وسعادته فإذا عظم تعجبه بها قد يقول أيدوم هذا لي ؟
أفيبقى هذا لي ؟
وإن كان على يقين من دوامه ، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
جزء : 26 رقم الصفحة : 340
وأما قوله : {لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ} فقيل إنه من بقية كلامهم ، وقيل إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لطلب مثل هذه السعادات يجب أن يعمل العاملون.
المسألة الثانية : قال بعضهم المراد من هذا القائل ومن قرينه ما ذكره الله تعالى في سورة الكهف (32) في قوله : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ} إلى آخر الآيات ، وروي أن رجلين كانا شريكين فحصل لهما ثمانية آلاف دينار فقال أحدهما للآخر أقاسمك فقاسمه واشترى داراً بألف ديناراً فأراها صاحبه وقال : كيف ترى حسنها فقال : ما أحسنها فخرج وقال : اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه تزوج بامرأة حسناء بألف دينار فتصدق هذا بألف دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين/ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار ، ثم إن الله أعطاه في الجنة ما طلب/ فعند هذا قال : {إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} إلى قوله : {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 55).
المسألة الثالثة : قوله : {أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ} اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة قرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير ممدودة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام ، ووافقه الكسائي إلا نه يستفهم الثالثة بهمزتين ، وقرأ ابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام ، وقرأ الباقون بالاستفهام في جميعها ، ثم اختلفوا فإبن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة ، وأبو عمرو مطولة ، وعاصم وحمزة بهمزتين.
(1/3766)

وأما قوله : {إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} قرأ نافع برواية ورش لترديني بإثبات الياء في الوصل والباقون بحذفها.
المسألة الرابع : احتج أصحابنا على أن الهدى والضلال من الله تعالى بقوله تعالى : {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} وقالوا : مذهب الخصم أن كل ما فعله الله تعالى من وجوه الإنعام في حق المؤمن فقد فعله في حق الكافر ، وإذا كان ذلك الإنعام مشتركاً فيه امتنع أن يكون سبباً لحصول الهداية للمؤمن. وأن يكون سبباً لخلاصه من الكفر والردى فوجب أن تكون تلك النعمة المخصوصة أمراً زائداً على تلك الإنعامات التي حصل الاشتراك فيها ، وما ذلك إلا بقوة الداعي إلى الإيمان وتكميل الصارف عن الكفر.
جزء : 26 رقم الصفحة : 340
المسألة الخامسة : احتج نفاة عذاب القبر بقول الرجل الذي من أهل الجنة {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى } فهذا يدل على أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين والجواب : أن قوله : {إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى } المراد منه كل ما وقع في الدنيا والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 340
343
اعلم أنه تعالى لما قال بعد ذكر أهل الجنة ووصفها {لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ} (الصافات : 61) أتبعه بقوله : {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر ، وكما وصف من قبل مآكل أهل الجنة ومشاربهم وصف أيضاً في هذه الآية مآكل أهل النار ومشاربهم.
أما قوله : {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ} فالمعنى أن الرزق المعلوم المذكور لأهل الجنة {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا} أي خير حاصلاً {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} وأصل النزل الفضل الواسع في الطعام يقال طعام كثير النزل ، فاستعير للحاصل من الشيء ، ويقال أرسل الأمير إلى فلان نزلاً وهو الشيء الذي يصلح حال من ينزل بسبه ، إذا عرفت هذا فنقول حاصل يالرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور ، وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم ، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام ، إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما ختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم ، والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم فقيل لهم ذلك توخبياً لهم على سوء اختيارهم ، وأما {الزَّقُّومِ} فقال الواحدي رحمه الله لم يذكر المفسرون. للزقوم تفسيراً إلا الكلبي فإنه روي أنه لما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعري أكثر الله في بيوتكم الزقوم ، فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد بالزقوم ، فقال أبو جهل لجاريته زقمينا فأتته بزبد وتمر ، وقال : تزقموا. ثم قال الواحدي ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا الزبد والتمر ، قال ابن دريد لم يكن للزقوم اشتقاق من التزقم وهو الإفراط من أكل الشيء حتى يكره ذلك يقال بات فلان يتزقم. وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعام منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات كل من تناولها عظم من تناولها ، ثم إنه تعالى يكره أهل النار على تتناول بعض أجزائها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 343
أما قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ} ففيه أقوال : الأول : أنها إنما صارت فتنة للظالمين ، من حيث إن الكفار لما سمعوا هذه الآية ، قالوا : كيف يعقل أن تنبت الشجرة في جهنم/ مع أن النار تحرق الشجرة ؟
والجواب عنه أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إخراق الشجر ، ولأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثله في هذه الجشرة ؟
إذا عرفت هذا السؤال والجواب بمعنى كون شجرة الزقوم فتنة للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وقعت تلك الشبهة في قلوبهم وصارت تلك الشبهة سبباً لتماديهم في الكفر فهذا هو المراد من كونها فتنة لهم والوجه الثاني : في التفسير أن يكون المراد صيرورة هذه الشجرة فتنة لهم في النار لأنهم إذا كلفوا تناولها وشق ذلك عليهم/ فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقهم الوجه الثالث : أن يكون المراد من الفتن الامتحان والاختبار ، فإن هذا شيء بعيد عن العرف والعادة مخالف للمألوف والمعروف ، فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن والنبوة.
(1/3767)

ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وصفها بصفات الصفة الأولى : قوله إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قيل منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها الصفة الثانية : قوله : {طَلْعُهَا كَأَنَّه رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ} قال صاحب "الكشاف" : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها ، إما استعارة لفظية أو معنوية ، وقال ابن قتيبة سمي (طلعاً) لطلوعه كل سنة ، ولذلك قيل طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره ، وأما تشبيه هذا الطلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال ، لأنه قيل إنا ما رأينا رؤوس الشياطين فكيف يمكن تشبيه شيء بها ؟
وأجابوا عنه من وجوه : الأول : ة وهو الصحيح أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسيرة ، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال والفضيلة في قوله : {إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف : 31) فكذلك وجب أن يحسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة ، والحاصل أن هذا من باب التشبيه لا بالمحسوس بل بالمتخيل ، كأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيار هو رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح النظر وتشويه الصورة ، والذي يؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة ، قالوا : إنه شيطان ، وإذا رأوا شيئاً حسن الصورة والسيرة ، قالوا إنه ملك ، وقال امرؤ القيس :
جزء : 26 رقم الصفحة : 343
أتقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والقول الثاني : أن الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات ، وبها يضرب المثل في القبح ، والعرب إذا رأت منظراً قبيحاً قالت : كأنه شيطان الحماطة ، والحماطة شجرة معينة والقول الثالث : أن رؤوس الشياطين ، نبت معروف قبيح الرأس ، والوجه الأول هو الجواب الحق ، واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وذكر صفتها بين أن الكفار {لاكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} واعلم أن إقدامهم على ذلك الأكل يحتمل وجهين : الأول : أنهم أكلوا منها لشدة الجوع ، فإن قيل وكيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة / طعمها ؟
قلنا : إن الواقع في الضرر العظيم ربما استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر ، فإذا جوعهم الله الجوع الشديد فزعوا في إزالة ذلك الجوع إلى تناول هذا الشيء وإن كان بالصفة التي ذكرتموها الوجه الثاني : أن يقال الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة تكميلاً لعذابهم.
وعلم أنهم إذا شبعوا فحينئذ يشتد عطشهم ويحتاجون إلى الشراب ، فعند هذا وصف الله شرابهم ، فقال : {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} (الصافات : 67) قال الزجاج : الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره ، والحميم الماء الحار المتناهي في الحرارة ، والمعنى أنه إذا غلبهم ذلك العطش الشديد سقوا من ذلك الحميم ، فيحنئذ يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما.
واعلم أن الله وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها كونه غساقاً ، ومنها قوله : {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} (محمد : 15) ومنها ما ذكره في هذه الآية ، فإن قيل ما الفائدة في كلمة {ثُمَّ} في قوله : {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} ؟
قلنا فيه وجهان الأول : أنهم يملأن بطونهم من شجرة الزقوم وهو حار يحرق بطونهم فيعظم عشطهم/ ثم إنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة والغرض تكميل التعذيب ، والثاني : أنه تعالى ذكر الطعام بتلك البشاعة والكراهة ، ثم وصف الشراب بما هو أبشع منه ، فكان المقصود من كلمة ثم بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول ، ثم قال تعالى : {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لالَى الْجَحِيمِ} قال مقاتل : أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم ، وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم ، وذلك بأن يكون الحميم من موضع خارج عن الجحيم ، فهم يوردون الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يوردون إلى الجحيم ، فهذا قول مقاتل ، واحتج على صحته بقوله تعالى : {هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 43 ، 44) وذلك يدل على صحة ما ذكرناه ، ثم إنه تعالى لما وصف عذابهم في أكلهم وشربهم قال : {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ * فَهُمْ عَلَى ا ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال الفراء : الإهراع الإسراع يقال هرع وأهرع إذا استحث ، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم ابتاعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم ، والمقصود من الآية أنه تعالى علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين وترك ابتاع الدليل ، ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد لكفي.
جزء : 26 رقم الصفحة : 343
(1/3768)

ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يوجب التسلية له في كفرهم وتكذيبهم ، فقال : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ} فبين تعالى أن إرساله للرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف ، ويجب أن يكون له صلى الله عليه وسلّم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ، ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا ، فليس عليه إلا البلاغ.
ثم قال تعالى : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} وهذا وإن كان في الظاهر خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلّم ، إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار جميع ما جرى من أنواع العذاب على قوم نوح وعلى عاد وثمود وغيرهم ، فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوف يصلح أن % يكون زاجراً لهم عن كفرهم. وقوله تعالى : {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فيه قولان أحدهما : أنه استثناء من قوله : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ} والثاني : أنه استثناء من قوله : {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} (يونس : 73) فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين ، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 343
345
اعلم أنه تعالى لما قال من قبل : {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاوَّلِينَ} (الصافات : 71) وقال : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} (الصافات : 73) أتبعه بشرح وقائع الأنبياء عليهم السلام فالقصة الأولى : حكاية حال نوح عليه السلام وقوله : {وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} فيه مباحث :
الأول : أن اللام في قوله : {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} جواب قسم محذوف والمخصوص بالمدح محذوف ، أي فلنعم المجيبون نحن.
البحث الثاني : أنه تعالى ذكر أن نوحاً نادى ولم يذكر أن ذلك النداء في أي الوقائع كان ؟
لا جرم حصل فيه قولان الأول : وهو المشهور عند الجمهور أنه نادى الرب تعالى في أن ينجيه من محنة الغرق وكرب تلك الواقعة والقول الثاني : أن نوحاً عليه السلام لما اشتغل بدعوة قومه إلى الدين الحق بالغوا في إيذائه وقصدوا قتله ، ثم إنه عليه السلام نادى ربه واستنصره على كفار قومه ، فأجابه الله تعالى ومنعهم من قتله وإيذائه ، واحتج هذا القائل على ضعف القول الأول بأنه عليه السلام إنما دعا عليهم لأجل أن ينجيه الله تعالى وأوله ، وأجاب الله دعاءه فيه فكان حصول تل كالناة كالمعلوم المتيقن في دعائه ، وذلك يمنع من أن يقال المطلوب من هذا النداء حصول هذه النجاة.
ثم إنه تعالى لما حكى عن نوح أنه ناداه قال بعده : {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} وهذه اللفظة تدل على أن/ تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة ، وبيانه من وجوه الأول : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال : {وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ} والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم والثاني : أنه أعاد صيغة الجمع في قوله : {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} وذلك أيضاً يدل على تعظيم تلك النعمة. لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة والثالث : أن الفاء في قوله : {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يدل على أن حصول هذه الإجابة مرتب على ذلك النداء ، والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معللاً به ، وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة ، ثم إنه تعالى لما بين أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال ، بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة من وجوه الأول : قوله تعالى : {وَنَجَّيْنَـاهُ وَأَهْلَه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو على القول الأول الكرب الحاصل بسبب الخوف من الغرق ، وعلى الثاني الكرب الحاصل من أذى قومه والثاني : قوله : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَه هُمُ الْبَاقِينَ} يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا ، قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 345
النعمة الثالثة : قوله تعالى : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ} يعني يذكرون هذه الكلمة ، فإن قيل فما معنى قوله : {فِى الْعَـالَمِينَ} قلنا معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً أي لا يخلو أحد منهم منها ، كأنه قيل أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين فيسلمون عليه بكليتهم ، ثم إنه تعالى لما شرح تفاصيل إنعامه عليه قال : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} والمعنى أنا إنما خصصنا نوحاً عليه السلام بتلك التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوأة من ذريته ومن تبقية ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسناً ، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً لله مؤمناً ، والمقصود منه بيان أن أعظم الدرجات وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.
(1/3769)

جزء : 26 رقم الصفحة : 345
351
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله من شيعته إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : وهو الأظهر أنه عائد إلى نوح عليه السلام أي من شيعة نوح أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه لإبراهيم ، قالوا : وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح ، وروى صاحب "الكشاف" أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة الثاني : قال الكلبي المراد من شيعة محمد لإبراهيم بمعنى أنه كان على دينه ومنهاجه فهو من شيعته وإن كان سابقاً له والأول أظهر ، لأنه تقدم ذكر نوح عليه السلام ، ولم يتقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم فعود الضمير إلى نوح أولى.
المسألة الثانية : العامل في {إِذْ} ما دل عليه قوله : {وَإِنَّ مِن شِيعَتِه } من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم.
أما قوله : {إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قولان : الأول : قال مقاتل والكلبي يعني خالص من الشرك ، والمعنى أنه سلم من الشرك فلم يشرك بالله والثاني : قال الأصوليون المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس من المعاصي ، فيدخل فيه كونه سليماً عن الشرك وعن الشك وعن الغل والغش والحقد والحسد. عن ابن عباس أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه ، وسلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلمه الله تعالى فلم يعدل به أحداً ، واحتج الذاهبون إلى القول الأول بأنه تعالى ذكر بعد هذه الكلمة إنكاره على قومه الشرك بالله ، وهو قوله : {إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِه مَاذَا تَعْبُدُونَ} واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأن اللفظ مطلق فلا يقيد بصقة دون صفة ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَـالِمِينَ} (الأنبياء : 51) مع أنه تعالى قال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) وقال : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام : 75) فإن قيل ما معنى المجيءي بقلبه ربه ؟
قلنا معناه أنه أخلص لله قلبه ، فكأنه أتحف حضرة الله بذلك القلب ، ورأيت في التوراة أن الله قال لموسى أجب إلهك بكل قلبك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 351
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن إبراهيم جاء ربه بقلب سليم ذكر أن من جملة آثار تلك السلامة أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد فقال : {إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِه مَاذَا تَعْبُدُونَ} والمقصود من هذا الكلام تهجين تلك الطريقة وتقبيحها.
/ ثم قال : {ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} قال صاحب "الكشاف" أئفكا مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دونه إفكاً ، وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يقرر عندهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ، ويجوز أن يكون إفكاً مفعولاً به يعني أتريدون إفكاً ، ثم فسر الإفك بقوله : {دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} على أنها إفك في أنفسها/ ويجوز أن يكون حالاً بمعنى تريدون آلها من دون الله آفكين.
ثم قال : {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} وفيه وجهان أحدهما : أتظنون برب العالمين أنه يجوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في المعبودية وثانيها : أتظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء.
ثم قال : {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ} عن ابن عباس أنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياًفي بيت الأصنام فيقدر على كسرها وههنا سؤالان الأول : أن النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم والثاني : أنه عليه السلام ما كان سقيماً فلما قال إني سقيم كان ذلك ذباً ، واعلم أن العلماء ذكروا في الجواب عنهما وجوهاً كثيرة الأول : أنه نظر نظرة في النجوم في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه سقامة كالحمى في بعض ساعات الليل والنهار ، فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة وقال : {إِنِّى سَقِيمٌ} فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم وكان صادقاً فيما قال ، لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت ، وإنما تخلف لأجل تكسير أصنامهم الوجه الثاني : في الجواب أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على غائب الأمور ، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علوم النجوم وفي معانيه لا أنه نظر بعينه إليها ، وهو كما يقال فلان نظر في الفقه وفي النحو وإنما أراد أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون ويتعرف من حيث يتعرفون حتى إذا قال : {إِنِّى سَقِيمٌ} سكنوا إلى قوله.
(1/3770)

جزء : 26 رقم الصفحة : 351
أما قوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} فمعناه سأسقم كقوله : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} (الزمر : 30) أي ستموت الوجه الثالث : أن قوله : {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ} هو قوله تعالى : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا } (الأنعام : 76) إلى آخر الآيات وكان ذلك النظر لأجل أن يتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة ، وقوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} يعني سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ الوجه الرابع : قال ابن زيد كان له نجم مخصوص ، وكلما طلح على صفة مخصوصة مرض إبراهيم ولأجل هذا الاستقراء لما رآه في ذلك الوقت طالعاً على تلك الصفة المخصوصة قال : {إِنِّى سَقِيمٌ} أي هذا السقم واقع لا محالة الوجه الخامس : أن قوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} أي مريض القلب سبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك ، قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ} (الشعراء : 3) الوجه السادس : في الجواب أنا لا نسلم أن النظر في / علم النجوم والاستدلال بمقايستها حرام ، لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بقوة وبخاصية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص ، فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل. وأما الكذب فغر لازم لأنه ذكر قوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة ، إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم. الوجه السابع : قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم عليه السلام كذبة ورووا فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" قلت لبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز فقال ذلك الرجل فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟
فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى/ ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بكونه كذباً خبراً شبيهاً بالكذب ؟
والوجه الثامن : أن المراد من قوله {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ} أي نظر في نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم ، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال إنها منجمة أي متفقرقة ومنه نجوم الكتابة ، والمعنى أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها كي يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 351
{إِنِّى سَقِيمٌ} والمراد أنه لا بد من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته على أوقات السفر إنك مسافر. واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما قال : {إِنِّى سَقِيمٌ} تولوا عنه معرضين فتركوه وعذروه في أن لا يخرج اليوم فكان ذلك مراده {فَرَاغَ إِلَى ا ءَالِهَتِهِمْ} يقال : راغ إليه إذا مال إليه في السر على سبيل الخفية ، ومنه روغان الثعلب. وقوله : {أَلا تَأْكُلُونَ} يعني الطعام الذي كان بين أيديهم ، وإنما قال ذلك استهزاء بها ، وكذا قوله : {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبَا } فأقبل عليهم مستخفياً كأنه قال فضربهم ضرباً لأن راغ عليهم في معنى ضربهم أو فراغ عليهم ضرباً بمعنى ضارباً. وفي قوله : {بِالْيَمِينِ} قولان الأو : معناه بالقوة والشدة لأن اليمين أقوى الجارحتين والثاني : أنه أتى بذلك الفعل بسبب الحلف ، وهو قوله تعالى عنه : {وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم} (الأنبياء : 57) ثم قال : {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قرأ حمزة {يَزِفُّونَ} بضم الياء والباقون بفتحها وهما لغتان ، قال ابن عرفة من قرأ بالنصب فهو من زف يزف ، ومن قرأ بالضم فهو من أزف يزف ، قال الزجاج : يزفون يسرعون وأصله من زفيف النعامة وهو ابتداء عدوها ، وقرأ حمزة يزفون أي يحملون غيرهم على الزفيف ، قال اوصمعي يقال أزففت الإبل إذا حملتها على أن تزف ، قال وهو سرعة الخطوة ومقاربة المشي والمفعول محذوف على قراءته كأنهم حملوا دوابهم على ازسراع في المشيء ، فإن قيل مقتضى هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما كسرها عدوا إليه وأخذوه ، وقال في سورة أخرى في عين هذه القصة {قَالُوا مَن فَعَلَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَآ إِنَّه لَمِنَ الظَّـالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَه ا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء : 59 ، 60) وهذا يقتضي أنهم في أول الأمر ما عرفوه فبين هاتين الآيتين تناقض ؟
قلنا : لا يبعد أن يقال إن جماعة/ عرفوه فعمدوا إليه مسرعين. والأكثرون ما عرفوه فتعرفوا أن ذلك الكاسر من هو ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 351
353
وفي الآية مسائل :
(1/3771)

المسألة الأولى : اعلم أن القوم لما عاتبوا إبراهيم على كسر الأصنام فهو أيضاً ذكر لهم الدليل الدال على فساد المصير إلى عبادتها فقال : {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ووجه الاستدلال ظاهر وهو أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً للإنسان ألبتة ، فإدا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه إلا آثار تصرفه ، فلو صار معبوداً عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي ما كان معبوداً لما حصلت آثار تصرفاته فيه صار معبوداً عند ذلك ، وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.
المسألة الثانية : احتج جمهور الأصحاب بقوله : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال النحويون : اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله : {وَمَا تَعْمَلُونَ} معناه وعملكم ، وعلى هذا التقدير صار معنى الآية والله خلقكم وخلق عملكم ، فإن قيل هذه الآية حجة عليكم من وجوه الأول : أنه تعالى قال : دأتعبدون ما تنحتون} أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة العفل إلى الفاعل ولو كان ذلك واقعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً للعبد الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام ، لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا اوصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال : أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة العفل إلى الفاعل ولو كان ذلك واقعاً بتخليق الله لاستحال كونه فعلاً للعبد الثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخاً لهم على عبادة الأصنام ، لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا اوصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 353
{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توخبيهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم لكن لا نسلم أنها حجة لكم ، قوله لفظة ما مع ما بعدها في تقدير المصدر ، قلنا هذا ممنوع وبيانه أن سيبويه والأخفش اختلفا في أنه هل يجوز أن يقال أعجبني/ ما قمت أي قيامك فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذك يدل على أن ما مع ما بعدها في تقدير المفعول عند الأخفش ، سلمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر ، لكنه أيضاً قد يكون بمعنى المفعول ويدل عليه وجوه الأول : قوله : {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} والمراد بقوله : {مَا تَنْحِتُونَ} المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت وإنما عبدوا المنحوت فوجب أن يكون المراد بقوله : {مَا تَعْمَلُونَ} المعمول لا العمل حتى يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر والثاني : أنه تعالى قال : {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الأعراف : 117) وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصي والجبال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا الثالث : أنا لعرب تسمي محل العمل عملاً يقال في الباب والخاتم هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع بعدها كما تجيء بمعنى المصدر فقد تجيء أيضاً بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون إفعال أنفسهم/ لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال ، واعلم أن هذه السؤالات قوية وفي دلائلنا كثيرة ، فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية والله أعلم.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم هذه الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء فقالوا : ابنوا له بنياناً واعلم أن كيفية ذلك البناء لا يدل عليها لفظ القرآن ، قال ابن عباس : بنو حائطاً من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملأه ناراً فطرحوه فيها ، وذلك هو قولهتعالى : {فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} وهي النار العظيمة ، قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم ، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية والمعنى في جحيمه ، أي في جحيم ذلك البنيان ، ثم قال تعالى : {فَأَرَادُوا بِه كَيْدًا فَجَعَلْنَـاهُمُ الاسْفَلِينَ} والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له ، وعندما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار ، فصار هو الغالب عليهم. واعلم أنه لما انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} ونظير هذه الآية قوله تعالى : دوقال إني مهاجر إلى ربي} (العنكبوت : 26) وفيه مسائل :
جزء : 26 رقم الصفحة : 353
(1/3772)

المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته ، وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة ، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار ، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى.
المسألة الثانية : في قوله (العنكبوت : 26) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته ، وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة ، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار ، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى.
المسألة الثانية : في قوله {وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} قولان الأول : المراد منه مفارقة تلك الديار ، والمعنى إني ذاهب إلى مواضع دين ربي والثول الثاني : قال الكلبي : ذاهب بعبادتي إلى ربي ، فعلى القول الأول المراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار ، وبه اقتدى موسى حيث قال : {كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الشعراء : 62) وعلى القول الثاني المراد رعاية أحوال القلوب ، وهو أن لا يأتي/ بشيء من الأعمال إلا لله تعالى ، كما قال : {وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 79) قيل إن القول الأول أولى ، لأن المقصود من هذه الآية بيان مهاجرته إلى أرض الشأم ، وأيضاً يبعد حمله على الهداية في الدين ، لأنه كان على الدين في ذلك الوقت إلا أن يحمل ذلك على الثبات عليه ، أو يحمل ذلك على الاهتداء إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في أمر الدين.
المسألة الثالثة : قوله : {سَيَهْدِينِ} يدل على أن الهداية لا تحصل إلا من الله تعالى ، كما يقول أصحابنا ولا يمكن حمل هذه الهداية على وضع الأدلة وإزاحة الأعذار ، لأن كل ذلك قد حصل في الزمان الماضي ، وقوله : يدل على اختصاص تلك الهدية بالمستقبل ، فوجبحمل الهداية في هذه الآية على تحصيل العلم والمعرفة في قلبه ، فإن قيل إبراهيم عليه السلام جزم في هذه الآية بأنه تعالى سيهديه ، وأن موسى عليه السلام لم يجزم به ، بل قال : {قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ} (القصص : 22) فما الفرق ؟
قلنا العبد إذا تجلى له مقامات رحمة الله فقد يجزم بحصول المقصود ، وإذا تجلى له مقامات كونه غنياً عن العالمين ، فحينئذٍ يستحقر نفسه فلا يجزم ، بل لا يظهر إلا الرجاء والطمع.
جزء : 26 رقم الصفحة : 353
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} يدل على فساد تمسك المشبهة بقوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) لأن كلمة إلى موجودة في قوله : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} مع أنه لم يلزم أن يكون الإله موجوداً في ذلك المكان ، فكذلك ههنا.
واعلم أنه صلوات الله عليه لما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال : {هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} أي هب لي بعض الصالحين ، يريد الولد ، لأن لفظ الهبة غلب في الولد ، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : {وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا} (مريم : 53) وقال تعالى : {وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ } (الأنبياء : 72) {وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى } (الأنبياء : 90) وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم حين هنأه بولده : على أبي الأملاك شكرت الواهب ، وبورك لك في الموهوب ، ولذلك وقعت التسمية بهبة الله تعالى وبهبهة الوهاب وبموهوب ووهب.
واعلم أن هذا الدعاء اشتمل على ثلاثة أشياء : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ الحلم ، وأنه يكون حليماً ، وأي حلم يكون أعظم من ولد حين عرض عليه أبوه الذبح {قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} (الصافات : 102) ثم استسلم لذلك ، وأيضاً فإن إبراهيم عليه السلام كان موصوفاً بالحلم ، قال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة : 114) {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (هود : 75) فبين أن ولده موصوف بالحلم ، وأنه قائم مقامه في صفات الشرف والفضيلة ، واعلم أن الصلاح أفضل الصفات بدليل أن الخليل عليه السلام طلب الصلاح لنفسه ، فقال : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83) وطلبه للولد فقال : {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} وطلبه سليمان عليه السلام بعد كمال درجته في الدين والدنيا ، فقال : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} (النمل : 19) وذلك يدل على أن الصلاح أشرف مقامات العباد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 353
355
(1/3773)

واعلم أن سبحانه وتعالى لما قال : {فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ} (الصافات : 101) أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلغه ، فقال : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} ومعناه فلما أدرك وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي ، وقوله : {مَعَهُ} في موضع الحال والتقدير كائناً معه ، والفائدة في اعتبار هذا المعنى أن الأب أرفق الناس بالولد ، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته ، قال بعضهم : كان في ذلك الوقت ابن ثلاث عشرة سنة ، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى لما وعده في الآية الأولى بكون ذلك الغلام حليماً ، بين في هذه الآية ما يدل على كمال حلمه ، وذلك لأنه كان به من كمال الحلم وفسحة الصدر ما قواه على احتمال تلك البلية العظيمة ، والإتيان بذلك الجواب الحسن.
/ أما قوله : {إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه اللفظة وجهان الأول : قال السدي : كان إبراهيم حين بشر بإسحق قبل أن يولد له قال : هو إذن لله ذبيح فقيل زبراهيم قد نذرت نذراً فف بنرك فلما أصبح {قَالَ يَـابُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} .
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
وروي من طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه ، كأن قائلاً يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هدا ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟
فمن ثم سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر وهذا هو قول أهل التفسير وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة ، وعلى هذا فتقدير اللفظ : إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك والقول الثاني : أنه رأى في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي ، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح ، فإن قيل إما أن يقال إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء عليهم السلام أن كل ما رآه في المنام فهو حق حجة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم ، فإن كان الأول فلم راجع الولد في هذه الواقعة ، بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور ، وأن لا يراجع الولد فيه ، وأن لا يقول له ؛ {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد {افْعَلْ مَا تُؤمَرُ } ؟
، وأيضاً فقد قلتم إنه بقي في اليوم الأول متفكراً ، ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة ، وإن كان الثاني ، وهو أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يرونه في المنام حق ، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة ؟
والجواب : لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا متردداً فيه ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح ، والله أعلم.
المسأل الثانية : اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو ؟
فقيل إنه إسحق وهذ قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم ، وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي ، واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه : الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "أنا ابن الذبيحين" وقال له أعرابي : "يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بمائة من الإبل ، والذبيح الثاني إسماعيل".
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
الحجة الثانية : نقل عن اوصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عقلك ، ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه المنحر بمكة ؟
.
الحجة الثالثة : أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحق في قوله : {وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِا كُلٌّ مِّنَ الصَّـابِرِينَ} (الأنبياء : 85) وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضاً بصدق الوعد في قوله : {إِنَّه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (مريم : 54) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
(1/3774)

الحجة الرابعة : قوله تعالى : {فَبَشَّرْنَـاهَا بِإِسْحَـاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ يَعْقُوبَ} (هود : 71) فنقول لو كان الذبيح إسحق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب ، منه أو بعد ذلك فالأول : باطل لأنه تعالى لما بشرها بإسحق ، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه ، وإلا حصل الخلف في قوله : {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ} والثاني : باطل لأن قوله : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَـابُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} يدل على أن ذلك الإبن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه ، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحق.
الحجة الخامسة : حكى الله تعالى عنه أنه قال : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) ثم طلب من الله تعالى ولداً يستأنس به في غربته فقال : {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} (الصافات : 100) وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد ، لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد ، لأن طلب الحاصل محال وقوله : {هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد ، وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله : {مِنَ الصَّـالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول ، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحق ، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء وهو إسماعيل ، ثم إن الله تعالى ذكر قيبه قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
الحجة السادسة : الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة ، فكأن الطبيح بمكة. ولو كان الذبيح إسحق كان الذبح بالشام ، واحتج من قال إن ذلك الذبيح هو إسحق بوجهين : الوجه الأول : أن أول الآية وآخرها يدل على ذلك ، أما أولها فإنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام ثم قال : فبشرناه بغلام حليم} (الصافات : 101) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق ، ثم قال بعده : (الصافات : 101) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق ، ثم قال بعده : {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام ، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحق ، وأما آخر الآية فهو أيضاً يدل على ذلك لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده : {وَبَشَّرْنَـاهُ بِإِسْحَـاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ} ومعناه أنه بشره بكونه نبياً من الصالحين ، وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة يدل على أنه تعالى إنما بشره بهذه النبوة لأجل أنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح ، فثبت بما ذكرنا أن أول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحق عليه السلام.
الحجة الثانية : على صحة ذلك ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام من / يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فهذا جملة الكلام في هذا الباب ، وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح والله أعلم. واعلم أنه يتفرع على ما ذكرنا اختلافهم في موضع الذبح فالذين قالوا الذبيح هو إسماعيل قالوا : كان الذبح بمنى ، والذين قالوا : إنه إسحق قالوا : هو بالشام وقيل ببيت المقدس ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
(1/3775)

المسألة الثالثة : اختلف الناس في أن إبراهيم عليه السلام كان مأموراً بهذا بما رأى ، وهذا الاختلاف مفرع على مسألة من مسائل أصول الفقه ، وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال فقال أكثر أصحابنا إنه يجوز ، وقالت المعتزلة وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية إنه لا يجوز ، فعلى القول الأول أنه سبحانه وتعالى أمره بالذبح ، ثم إنه تعالى نسخ هذا التكليف قبل حضور وقته ، وعلى القول الثاني أنه تعالى ما أمره بالذبح ، وإنما أمره بمقدمات الذبح وهذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ ، واحتج أصحابنا على أنه يجوز نسخ الأمر قبل مجيء مدة الامتثال بأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ، ثم إنه تعالى نسخه عنه قبل إقدامه عليه وذلك يفيد المطلوب إنما قلنا إنه تعالى أمره بذبح الولد لوجهين الأول : أنه عليه السلام قال لولده إني أرى في المنام أني أذبحك فقال الولد افعل ما تؤمر وهذا يدل على أنه عليه السلام كان مأموراً بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح ، ثم إنه أتى بمقدمات الذبلح وأدخلها في الوجود ، فحينئذٍ يكون قد أمر بشيء وقد أتى به ، وفي هذا الموضع لا يحتاج إلى الفداء ، لكنه احتاج إلى الفداء بدليل قوله تعالى : {وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فدل هذا على أنه أتى بالمأمور به ، وقد ثبت أنه أتى بكل مقدمات الذبح ، وهذا يدل على أنه تعالى كان قد أمره بنفس الذبح ، وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى نسخ ذلك الحكم قبل إثباته وذلك يدل على المقصود ، وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الله أمره بذبح الولد بل نقول إنه تعالى أمره بمقدمات الذبح ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه ما أتى بالذبح وإنما أتى بمقدمات الذبح ، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به بدليل قوله تعالى : {وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } وذلك يدل على أنه تعالى إنما أمره في المنام بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح وتلك المقدمات عبارة عن إضجاعه ووضع السكين على حلقه ، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل إن ورد الأمر الثاني : الذبح عبارة عن قطع الحلقوم فلعل إبراهيم عليه السلام قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله التأليف إليه ، فلهذا السبب لم يحصل الموت والوجه الثالث : وهو الذي عليه تعويل القوم أنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعل معين في وقت معين/ فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن ، فإذا أنهاه عنه فذلك النهي يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت قبيح ، فلو حصل هذا النهي عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين ، لأنه تعالى إن كان عالماً بحال ذلك الفعل لزم أن يقال إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن ، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى الحسن ، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى وإنه محال ، فهذا تمام الكلام في هذا الباب والجواب : عن الأول أنا قد دللنا على أنه تعالى إنما أمره بالذبح.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
أما قوله تعالى : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } فهذا يدل على أنه اعترف بكون تلك الرؤيا واجب العمل بها ولا يدل على أنه أتى بكل ما رآه في ذلك المام. وأما قوله ثانياً كلما قطع إبراهيم عليه السلام جزءاً أعاد الله تعالى التأليف إليه ، فنقول هذا باطل لأن إبراهيم عليه السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بما أمر به. وأما قوله ثالثاً إنه يلزم ، إما الأمر بالقبيح وإما الجهل ، فنقول هذا بناءً على أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا ينهي إلا عما يكون قبيحاً في ذاته ، وذلك بناءً على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل ، وأيضاً فهب أنا نسلم ذلك إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشيء تارة يحسن لكون المأمور به حسناً وتارة لأجل أن ذلك الأمر يفيد صحة مصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يروض عبده ، فإنه يقول له إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلاني ، ويكون ذلك الفعل من الأفعال الشاقة ، ويكون مقصود السيد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل ، بل أن يوطن العبد نفسه على ازنقياد والطاعة ، ثم إن السيد إذا علم منه أنه وطن نفسه على الطاعة فقد يزيل الألم عنه ذلك التكليف ، فكذا ههنا ، فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا الاحتمال لم يتم كلامكم.
(1/3776)

المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه ، والدليل عليه أنه أمر بالذبح وما أراد وقوعه ، أما أنه أمر بالذبح فلما تقدم في المسألة الأولى. وأما أنه ما أراد وقوعه فلأن عندنا أن كل ما أراد الله وقوعه فإنه يقع ، وحيث لم يقع هذا الذبح علمنا أنه تعالى ما أراد وقوعه ، وأما عند المعتزلة فلأن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح ، والنهي عن الشيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح ، وثبت أنه تعالى ما أراده ، وذلك يدل على أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة ، وتمام الكلام في أن الله تعالى أمر بالذبح ما تقدم في المسألة المتقدمة ، والله أعلم.
المسألة الخامسة : في بيان الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة وبيانه من وجوه الأول : أن هذا التكليف كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح ، فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمنبه لورود هذا التكليف الشاق ، ثم يتأكد حال النوم بأحوال اليقظة ، فحينئذٍ لا يهجم هذا التكليف دفعة واحدة بل شيئاً فشيئاً الثاني : أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقاً ، قال الله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلّم : {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّا لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (الفتح : 27) وقال عن يوسف عليه السلام : {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4) وقال في حق إبراهيم عليه السلام : {إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ} (الصافات : 102) والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين ، لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام/ فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق ، كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال ، والله أعلم.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
ثم نقول مقامات الأنبياء عليهم السلام على ثلاثة أقسام منها ما يقع على وفق الرؤية كما في قوله تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلّم : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} ثم وقع ذلك الشيء بعينه ، ومنها ما يقع على الضد كما في حق إبراهيم عليه السلام فإنه رأى الذبح وكان الحاصل هو الفداء والنجاة ، ومنها ما يقع على ضرب من التأويل والمناسبة كما في رؤيا يوسف عليه السلام ، فلهذا السبب أطبق أهل التعبير على أن المنامات واقعة على هذه الوجوه الثلاثة.
المسألة السادسة : قرأ حمزة والكسائي : {تَرَى } بضم التاء وكسر الراء ، أن ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم ؟
وقيل ما تشير ، والباقون بفتح التاء ، ثم منهم من يميل ومنهم من لا يميل.
المسألة السابعة : الحكمة في مشاورة الإبن في هذا الباب أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم ، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالمية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا ، ثم إنه تعالى حكى من ولد إبراهيم عليه السلام أنه قال : {افْعَلْ مَا تُؤمَرُ } ومعناه افعل ما تؤمر به ، فحذف الجار كما حذف من قوله :
أمرتك الخبر فافعل ما أمرت (به)
ثم قال : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ} وإنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن ، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله.
ثم قال تعالى : {فَلَمَّآ أَسْلَمَا} يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد ، وقد قرىء بهن جميعاً إذ انقاد له وخضع ، وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له ، ومعناه سلم من أن ينازع فيه ، وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان عنه بالهمزة ، وحقيقة معناها أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة ، وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله وعن قتادة في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه ، ثم قال تعالى : دوتله للجبين} أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما ، قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع ، فالمعنى أنه صرعه على جبينه ، وقال مقاتل كبه على جبهته ، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
ثم قال تعالى : أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما ، قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع ، فالمعنى أنه صرعه على جبينه ، وقال مقاتل كبه على جبهته ، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة.
(1/3777)

ثم قال تعالى : {وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } وفيه قولان الأول : أن هذا جواب فلما عند الكوفيين والفراء والواو زائدة والوق الثاني : أن عند البصريين لا يجوز ذلك والجواب مقدر والتقدير : فلما فعل ذلك وناداه الله أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، سعد سعادة عظيمة وآتاه الله نبوة ولده وأجزل له الثواب ، قالوا : وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفاً كان أعظم وأفخم ، قال المفسرون لما أضجعه للذبح نودي من الجبل : {أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذا التكلف الشاق الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد ، لا جرم قال قد صدقت الرؤيا/ يعني حصل المقصود من تلك الرؤيا.
/ وقوله : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} ابتداء إخبار من الله تعالى ، وليس يتثل بما تقدم من الكلام ، والمعنى أن إبراهيم وولده كانا محسنين في هذه الطاعة ، فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين.
ثم قال تعالى : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلَـا ؤُا الْمُبِينُ} أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها {وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية ، وههنا مباحث تتعلق بالحكايات فالأول : حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم عليه السلام لما أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما تسوطا شعب ثبير أخبره بما أمر به ، فقال : يا أبت اشدد رباطي فيَّ كيلا أضطرب ، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها ، فقال إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ثم أقب عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ثم وضع السكين على حلقه فقال : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
البحث الثاني : اختلفوا في ذلك الكبش فقيل إنه الكبش لذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل ، وقال آخرون أرسل الله كبشاً من الجنة قد رعى أربعين خريفاً ، وقال السدي : نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل ، فقام عنه إبراهيم فأخذه فذبحه ، وخلى عن ابنه ، ثم اعتنق ابنه وقال : يا بني اليوم وهبت لي ، وأما قوله : {عَظِيمٍ} فقيل سمي عظيماً لعظمه وسمنه ، وقال سعيد بن جبير حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً ، وقيل سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم ، ثم قال تعالى : {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الضمير في قوله : {أَنَّه } عائد إلى إبراهيم ، ثم قال تعالى : {وَبَشَّرْنَـاهُ بِإِسْحَـاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ} فقوله : {نَبِيًّا} حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق مقدرة نبوته ، ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل أن يحتج بهذه الآية ، وذلك لأن قوله : {نَبِيًّا} حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق حال كون إسحق نبياً لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبياً ، فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبياً ، وحال ما حكمنا عليه فصبر ، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح ، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق ، أقصى ما في الباب أن يقال لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود ، إلا أنا نقول الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم ، والله أعلم بالصواب.
/ ثم قال تعالى : {وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى ا إِسْحَـاقَ } وفي تفسير هذه البركة وجهان الأول : أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق والثاني : أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة ، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات ، ثم قال تعالى : {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِه مُبِينٌ} وفي ذلك تنبيهخ على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن/ لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود ، ودخلت تحت قوله : {مُحْسِنٌ} الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله : {مُحْسِنٌ} الأنبياء والمؤمنون وتحت قوله : {ظَالِمٌ} الكافر والفاسق والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
355
(1/3778)

اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة ، واعلم أن وجوه الأنعام وإن كانت كثيرة إلا أنها محصورة في نوعين إيصال المنافع إليه ودفع المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين ههنا ، فقوله : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ} إشارة إلى إيصال المنافع إليهما ، وقوله : {وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} إشارة إلى دفع المضار عنهما.
أما القسم الأول : وهو إيصال المنافع ، فلا شك أن المنافع على قسمين : منافع الدنيا ومنافع الدين ، أما منافع الدنيا فالوجود والحياة والعقل والتربية الصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما ، وأما منافع الدين فالعلم والطاعة ، وأعلى هذه الدرجات النبوة الرفيعة المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة ، ولما ذكر الله تعالى هذه التفاصيل في سائر السور ، لا جرم اكتفى ههنا بهذا الرمز.
/ وأما القسم الثاني : وهو دفع الضرر فهو المراد من قوله : {وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وفيه قولان : قيل إنه الغرق ، أغرق الله فرعون وقومه ، ونجى الله بني إسرائيل ، وقيل الرماد أنه تعالى نجاهم من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 355
358
اعلم أن هذه القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر : {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} بغير همزة على وصل الألف والباقون بالهمزة وقطع الألف ، قال أبو بكر بن مهران : من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ ، وكان أهل الشام ينكرونه ولا يعرفونه ، قال الواحدي وله وجهان أحدهما : أنه حذف الهمزة من إلياس حذفاً ، كما حذفها ابن كثير من قوله : {إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ} (المدثر : 35) وكقول الشاعر :
ويلمها في هواء الجو طالبة
والآخر أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله : {وَالْيَسَعَ} .
المسألة الثانية : في إلياس قولان : يروى عن ابن مسعود أنه قرأ وإن إدريس ، وقال إن إلياس هو إدريس ، وهذا قول عكرمة ، وأما أكثر المفسرين فهم متفقون على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو إلياس بن ياسين ، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام ، ثم قال تعالى : {إِذْ قَالَ لِقَوْمِه أَلا تَتَّقُونَ} والتقدير اذكر يا محمد لقومك : {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون الله ، وقال الكلبي ألا تخافون عبادة غير الله. واعلم أنه لما خوفهم أولاً على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك الخوف فقال : {أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـالِقِينَ} وفيه أبحاث :
الأول : في (بعل) قولان أحدهما : أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل ، وقيل كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه ، وفتنوا به وعظموه ، حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشأم ، وبه سميت مدينتهم بعلبك. واعلم أن قولهم بعل اسم لصنم من أصنامهم لا بأس به ، وأما قولهم إن الشيطان كان يدخل في جوف بعلبك ويتكلم بشريعة الضلالة. فهذا مشكل لأنا إن جوزنا هذا كان ذلك قادحاً في كثير من المعجزات ، لأنه نقل في معجزات النبي صلى الله عليه وسلّم كلام الذئب معه وكلام الجمل معه وحنين الجذع ، ولو جوزنا أن يدخل الشيطان فيجوف جسم ويتكلم. فحينئذٍ يكون هذا الاحتمال قائماً في الذئب والجمل والجذع ، وذلك يقدح في كون هذه الأشياء معجزات القول الثاني : أن البعل هو الرب بلغة اليمن ، يقال من بعل هذه الدار ، أي من ربها ، وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى ، قال تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة : 228) وقال تعالى : {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } (هود : 72) فعلى هذا التقدير المعنى ، أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله.
جزء : 26 رقم الصفحة : 358
البحث الثاني : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد خالقاً لأفعال نفسه ، فقالوا : لو لم يكن غير الله خالقاً لما جاز وصف الله بأنه أحسن الخالقين ، والكلام فيه قد تقدم في قوله تعالى : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14).
البحث الثالث : كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول لو قيل : أتدعون بعلاً وتدعون أحسن الخالقين. أوهم أنه أحسن ، لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين وجوابه : أن فصاحة/ القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف ، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ. واعلم أنه لما عابهم على عبادة غير الله صرح بالتوحيد ونفى الشركاء ، فقال : {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} وفيه مباحث.
الأول : أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن حدوث الأشخاص البشرية كيف يدل على وجود الصانع المختار ، وكيف يدل على وحدته وبراءته عن الأضداد والأنداد ، فلا فائدة في الإعادة.
(1/3779)

البحث الثاني : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآاـاِكُمُ} كلها بالنصب على البدل من قوله : {أَحْسَنَ الْخَـالِقِينَ} والباقون بالرفع على الاستئناف ، والأول اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، ونقل صاحب "الكشاف" أن حمزة إذا وصل نصب ، وإذا وقف رفع ، ولما حكى الله عنه أنه قرر مع قومه التوحيد قال : {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لمحضرون النار غداً ، وقد ذكرنا الكلام فيه عند قوله : {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (الصافات : 57) ثم قال تعالى : {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وذلك لأن قومه ما كذبوه بكليتهم ، بل كان فيهم من قبل ذلك التوحيد فلهذا قال تعالى : {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} يعني الذين أتوا بالتوحيد الخالص فإنهم لا يحضرون ثم قال : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ * سَلَـامٌ عَلَى ا إِلْ يَاسِينَ} قرأ نافع وابن عامر ويعبوب (آل ياسين) على إضافة لفظ آل إلى لفظ ياسين والباقون بكسر الألف وجزم اللام موصولة بياسين ، أما القراءة الأولى ففيها وجوه الأول : وهو الأقرب أنا ذكرنا أنه إلياس بن ياسين فكان إلياس آل ياسين الثاني : (آل ياسين) آل محمد صلى الله عليه وسلّم والثالث : أن ياسين اسم القرآن ، كأنه قيل سلام الله على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين ، والوجه هو الأول لأنه أليق بسياق الكلام ، وأما القراءة الثانية ففيها وجوه الأول : قال الزجاج يقال ميكال وميكائيل وميكالين ، فكذا ههنا إلياس وإلياسين والثاني : قال الفراء هو جمع وأراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين ، كقولهم المهلبون والسعدون قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 358
أنا ابن سعد أكرم السعدينا
ثم قال تعالى : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} وقد سبق تفسيره والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 358
360
هذا هو القصة الخامسة ، وإنه تعالى إنما ذكر هذه القصة ليعتبر بها مشكرو العرب ، فإن الذين كفروا من قومه هلكوا والذين آمنوا نجوا ، وقد تقدم شرح هذه القصة ، وقد نبههم بقوله تعالى : {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ } وذلك لأن القوم كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار ، فلهذا السبب عين تعالى هذين الوقتين.
ثم قال تعالى : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يعني أليس فيكم عقول تعتبرون بها ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 360
363
واعلم أن هذا هو القصة السادسة وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة ، وإنما صارت هذه القصة خاتمة للقصص ، لأجل أنه لما لم يصبر على أذى قومه وأبق إلى الفلك وقع في تلك الشدائد فيصبر هذا سبباً لتصبر النبي صلى الله عليه وسلّم على أذى قومه.
أما قوله : {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" قريء يونس بضم النون وكسرها.
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن هذه الواقعة إنما وقعت ليونس عليه السلام بعد أن صار رسولاً ، لأن قوله : {وَبِالَّيْلِا أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} معناه أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك ، ويمكن أن يقال : إنه جاء في كثير من الروايات أنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله ، ثم أبق والتقمه الحوت فعند ذلك أرسله الله تعالى ، والحاصل أن قوله : {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} لا يدل على أنه كان في ذلك الوقت مرسلاً من عند الله تعالى ، ويمكن أن يجاب بأنه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في معرض تعظيمه ، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من/ قوله : {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أنه من المرسلين عند الله تعالى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 363
(1/3780)

المسألة الثالثة : أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده ، ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم : إنه أبق من الله تعالى ، وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه ، وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئاً ، فقيل : لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضباً لربه ، وهذا بعيد شواء أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر ، وقيل : إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه ، ولم يصبر عليهم. وهذا أيضاً بعيد لأن الله تعالى لما أمره بهذا لعمل فلا يجوز أن يتركه ، والأقرب فيه وجهان الأول : أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة ، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم ، فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله ، وهذا هو الأقرب لأنه إقادم على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمداً للمعصية ، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن ، لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله : {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} ما ذكرناه الوجه الثاني : أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة ، فذلك هو قوله : {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ} وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى : {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} (الأنبياء : 87) وقوله : {إِلَى الْفُلْكِ} مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة ، ثم قال تعالى : {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} المساهمة هي المقارعة/ يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا ، قال المبرد : وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي : المغلوبين يقال : أدحض الله حجته فدحضت أي : أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق ، يقال : دحضت رجل البعير إذا زلقت ، وذكر ابن عباس في قصة يونس عليه السلام أنه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، وكان الله تعالى أوحي إلى بني إسرائيل إذا إسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم ، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحي الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن أذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبياً ، فاختار يونس عليه السلام لقوته وأمانته ، قال يونس : الله أمر بهاذ قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك ، فقال يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه ، فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مسجونة فحملوه فيها ، فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق ، فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ربح ولا سبب ظاهر ، وقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع ، فمن خرج سهمه نغرقه ، فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج سهم يونس ، فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله ، ثم عادوا ثانياً وثالثاً يقترعون فيخرج سهم/ يونس ، فقال : يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كساء ورمي بنفسه فاتبلغته السمكة فأوحي الله تعالى إلى الحوت : "لا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلاً" ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى بحر البطائح ثم دجلة فصعدت به ورمته بأرض نصيبين بالعراء ، وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد ، ثم إن الأرض أكلتها فخرت من أصلها فحزن يونس لذلك حزناً شديداً ، فقال : يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت ، فقيل له يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم انطلق إليهم ، والله أعلم بحقيقة الواقعة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 363
ثم قال تعالى : {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} يقال : القمة والتهمة والكل بمعنى واحد ، وقوله تعالى : {وَهُوَ مُلِيمٌ} يقال : ألام إذا أتى بما يلام عليه ، فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه.
(1/3781)

ثم قال تعالى : {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وفي تفسير كونه من المسبحين قولان الأول : أن المراد منه ما حكي الله تعالى عنه في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات {لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 87) الثاني : أنه لولا أنه كان قبل أن التقمه الحوت من المسبحين يعني المصلين وكان في أكثر الأوقات مواظباً على ذكر الله وطاعته للبث في بطن ذلك الحوت ، وكان بطنه قبراً له إلى يوم البعث ، قال بعضهم : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، فإن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى ، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى : {ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس : 91) واختلفوا في أنه كم لبث في بطن الحوت ، ولفظ القرآن لا يدل عليه. قال الحسن : لم يلبث إلا قليلاً وأخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه ، وعن مقاتل بن حيان ثلاثة أيام وعن عطاء سبعة أيام وعن الضحاك عشرين يوماً وقيل شهراً ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ، فقال : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟
قال : نعم ، فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل" فذاك هو قوله : {فَنَبَذْنَـاهُ بِالْعَرَآءِ} وفيه مباحث :
الأول : العراء المكان الخالي قال أبو عبيدة : إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه.
الثاني : أنه تعالى قال : فنبذناه بالعراء} فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه ، والنبذ إنما حصل بفعل الحوت ، وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق الله تعالى.
/ثم قال تعالى : فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه ، والنبذ إنما حصل بفعل الحوت ، وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق الله تعالى.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 363
ثم قال تعالى : {وَهُوَ سَقِيمٌ} قيل : المراد أنه بلي لحمه وصار ضعيفاً كالطفل المولود كالفرخ الممعط الذي ليس عليه ريش ، وقال : مجاهد سقيم أي : سليب.
ثم قال تعالى : {وَأَنابَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} ظاهر اللفظ يدل على أن الحوت لما نبذه في العراء فالله تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين وذلك المعجز له ، قال : المبرد والزجاج كل شجر لا يقوم على ساق وإنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين ، نحو الدباء والحنظل والبطيخ ، قال : الزجاج أحسب اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به وهذا الشجر ورقة كله على وجه الأرض فلذلك قيل له اليقطين ، روي الفراء أنه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع ، فقال : ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين ، قال : الواحدي رحنه الله والآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون أحدهما : أن هذا اليقطين لم يكن قبل فأنبته الله لأجله والآخر : أن اليقطين كان معروشاً ليحصل له ظل ، لأنه لو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به.
ثم قال تعالى : {وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وفيه مباحث :
الأول : يحتمل أن يكون المراد وأرسلناه قبل أن يلتقمه الحوت وعلى هذا الإرسال وإن ذكر بعد الالتقام ، فالمراد به التقديم والواو معناها الجمع ، ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد اللالتقام ، عن ابن عباس رضي الله تهما أنه قال : كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول ، ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين ثانياً بشريعة فآمنوا بها.
البحث الثاني : ظاهر قوله : {أَوْ يَزِيدُونَ} يوجب الشك وذلك على الله تعالى محال ونظيره قوله تعالى : {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} (المرسلات : 6) وقوله تعالى : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) وقوله تعالى : {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه : 113) وقوله تعالى : {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } (النحل : 77) وقوله تعالى : {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } (النحل : 77) وقوله تعالى : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } (النجم : 9) وأجابوا عنه من وجوه كثيرة والأصح منها وجه واحد وهو أن يكون المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى أنهم إذا رآهم الرائي قال : هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة ، وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا.
جزء : 26 رقم الصفحة : 363
ثم قال تعالى : {فَـاَامَنُوا فَمَتَّعْنَـاهُمْ إِلَى حِينٍ} والمعنى : أن أولئك الأقوام لما آمنوا أزال الله الخوف عنهم وآمنهم من العذاب ومتعهم الله إلى حين ، أي : إلى الوقت الذي جعله الله أجلاً لكل واحد منهم.
(1/3782)

جزء : 26 رقم الصفحة : 363
365
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها وسخافتها ، ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله سبحانه وتعالى ، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} وهذا معطوف على قوله في أول السورة : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } (الصافات : 11) وذلك لأنه تعالى أم رسوله صلى الله عليه وسلّم باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض إلى أن أمره بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولأنفسهم البنين ، ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا : الملائكة بنات الله ، واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما : إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت ، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق والثاني : إثبات أن الملائكة إناث ، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر ، أما الحس : فمفقود ههنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائة وهو المراد من قوله : {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَـاثًا وَهُمْ شَـاهِدُونَ} وأما الخبر : فمنقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون ، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة ، وهو المراد من قوله : {أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} وأما النظر : فمفقود وبيانه من وجهين/ الأول : أن دليل العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل ، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً والوجه الثاني : أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم ، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله : {أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته ، لا الحس ولا الخبر ولا النظر ، فكان المصير إليه باطلاً قطعاً ، واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل ، وأن الدين لا يصح إلا بالدليل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 365
المسألة الثانية : قوله : {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من {أَصْطَفَى} ثم بحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع ، كقوله تعالى : {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} (الزخرف : 16) وقوله تعالى : {أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور : 39) وقوله تعالى : {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى } (النجم : 21) وكما أن هذه المواضع كلها استفهام فكذلك في هذه الآية ، وقرأ نافع في بعض الروايات : {لَكَـاذِبُونَ * أَصْطَفَى} موصولة بغير استفهام ، وإذا ابتدأ كسر الهمزة على وجه الخبر والتقدير اصطفى البنات في زعمهم كقوله : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) في زعمه واعتقاده.
(1/3783)

ثم قال تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه الأول : قال مقاتل : أثبتوا نسباً بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله ، وعلى هذا القول فالجنة : هم الملائكة سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار أو لأنهم حزان الجنة ، وأقول هذا القول عندي مشكل ، لأنه تعالى أبطل قولهم الملائكة بنات الله ، ثم عطف عليه قوله : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } والعطف يقتضي كون المعطوف مغايراً للمعطوف عليه ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم الثاني : قال : مجاهد قالت : كفار قريش الملائكة بنات الله ، فقال لهم أبو بكرالصديق : فمن أمهاتهم ؟
قالوا : سروات الجن ، وهذا أيضاً عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسباً والثالث : روينا في تفسير قوله تعالى : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} (الأنعام : 100) أن قوماً من الزنادقة يقولون : الله وإبليس أخوان فالله : الخير الكريم وإبليس : هو الأخ الشرير الخسيس ، فقوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } المراد منه هذا المذهب ، وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل. وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي : قد علمت الجنة أن الذين قالوا : هذا القول محضرون النار ويعذبون وقيل المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب ، فعلى القول الأول : الضمير عائد إلى قائل هذا القول ، وعلى القول الثاني : عائد إلى الجنة أنفسهم ، ثم إنه تعالى/ نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال : {سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وفي هذا اللاستثناء وجوه ، قيل : استثناء من المحضرين ، يعني : أنهم ناجون ، وقيل هو استثناء من قوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } وقيل : هو استثناء منقطع من المحضرين ، ومعناه ولكن المخلصني برآء من أن يصفوه بذلك ، والمخلص بكسر اللام من أخلص العباة والاعتقاد لله وبفتحها من أخلصه الله بلطفه والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 365
365
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد مذهب الكفار أتبعه بما نبه تبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار ، وذكر صاحب "الكشاف" في قوله : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـاتِنِينَ} قولين الأول : الضمير في {عَلَيْهِ} الله عز وجل معناه فإنكم ومعبوديكم ما أنت وهم جميعاً بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علم الله كونهم من أهل النار ، فإن قبل كيف يفتنونهم على الله ؟
قلنا يفتنونهم عليه بإغوائهم من قولك فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أقسدها عليه والوجه الثاني : أن تكون الواو في قوله : {وَمَا تَعْبُدُونَ} بمعنى مع كما في قولهم كل رجل وضيعته ، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، فكذلك جاز أن يسكت على قوله : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} لأن قوله : {وَمَا تَعْبُدُونَ} ساد مسد الخبر ، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون ، والمعنى فإنكم مع آلهتكم أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تتركون عبادتها ، ثم قال تعالى : {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} أي على ما تعبدون {بِفَـاتِنِينَ} بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} مثلكم. وقرأ الحسن {صَالِ الْجَحِيمِ} بضم اللام ووجهه أن يكون جمعاً وسقوط واوه لالتقاء/ الساكنين ، فإنه قيل كيف يستقيم الجمع مع قوله : {مَنْ هُوَ} قلنا {مِّنْ} موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 365
(1/3784)

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا تأثير لأغواء الشيطان ووسوسته ، وإنما المؤثر قضاء الله تعالى وتقديره ، لأن قوله تعالى : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـاتِنِينَ} تصريح بأنه لا تأثير لقولهم ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال ، وقوله تعالى : {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره ، وذلك تصريح بأن المقتضي لوقوع هذه الحوادث حكم الله تعالى ، وكان عمر بن عبد العزيز يحتج بهذه الآية في إثبات هذا المطلوب ، قال الجبائي : المراد أن الذين عبدوا الملائكة يزعمون أنهم بنات الله لا يكفرون أحداً إلا من ثبت في معلوم الله أنه سيكفر ، فدل هذا على أن من ضل بدعاء الشيطان لم يكن ليئمن بالله لو منع الله الشيطان من دعائه وإلا كان يمنع الشيطان ، فصح بهذا أن كل من يعصي لم يكن ليصلح عنه شيء من الأفعال والجواب : حاصل هذا الكلام أنه لا تأثير لإغواء شياطين الإنس والجن. وهذا لا نزاع فيه إلا أن وجه الاستدلال أنه تعالى بين أنه لا تأثير لكلامهم في وقوع الفتنة ، ثم استثنى منه ما في قوله تعالى : {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} فوجب أن يكون المراد من وقوع الفتنة هو كونه الشقاوة والسعادة. واعلم أن أصحابنا قرروا هذه الحجة بالحديث المشهور وهو أنه حج آدم موسى ، قال القاضي هذا الحديث لم يقبله علماء التوحيد ، لأنه يوجب أن لا يلام أحد على شيء من الذنوب/ لأنه إن كان آدم لا يجوز لموسى أن يلومه على عمل كتبه الله عليه قبل أن يخلقه ، فكذلك كان مذهب. فءن صحت هذه الحجة لآدم عليه السلام ، فلماذا قال موسى عليه السلام في الوكزة هذا من عمل الشيطان ، إنه عدو مضل مبين ؟
ولما قال فلن أكون ظهيراً للمجرمين ؟
ولماذا لام فرعون وجنوده على أمر كتبه الله عليهم ؟
ومن عجيب أمرهم أنهم يكفرون القدرية ، وهذا الحديث يوجب أن آدم كان قدرياً ، فلزمهم أن يكفروه ، وكيف يجوز مع قول آدم وحواء عليهما السلام : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (الأعراف : 23) أن يحتج على موسى بأنه لا لوم عليه ، وقد كتب عليه ذلك قبل أن يخلقه ، هذا جملة كلام القاضي فيقال له هب أنك لا تقبل ذلك الخبر ، فهل ترد هذه الآية أم لا ، فإنا بينا أن صريح هذه الآية يدل على أنه لا تأثير للوساوس في هذا الباب ، فإن الكل يحصل بحكمة الله تعالى ، والذي يدل عليه وجوه الأول : أن الكافر إن ضال بسبب وسوسة الشيطان فضلال الشيطان إن كان بسبب شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وهو محال ، وإن انتهى إلى ضلال لم يحصل بسبب وسوسة متقدمة فهو المطلوب الثاني : أن كل أحد يريد أن يحصل لنفسه الاعتقاد الحق والدين الصدق ، فحصول ضده يدل على أن ذلك ليس منه الثالث : أنالأفعال موقوفة على الدواعي وحصول الدواعي بخلق الله ، فيكون الكل/ من الله تعالى الرابع : أنه تعالى لما اقتضت حكمته شيئاً ، وعلم وقوعه ، فلو لم يقع ذلك الشيء لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً وانقلاب ذلرك العلم جهلاً وهو محال ، وأما الآيات التي تمسك بها القاضي فهي معارضة بالآيات الدالة على أن الكل من الله والقرآن كالبحر المملوء من هذه الآيات فتبقى الدلائل العقلية التي ذكرناها سليمة ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 365
ثم قال تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فالجمهور على أنهم الملائكة ، وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية ، فإنهم يصطفون للصلاة والتسبيح ، والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد الله وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية ، واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة فأولها قوله تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها ، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم إلى درجاتهم في معرفة الله تعالى أما درجاتهم في التصرفات والأفعال فهي قوله : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} والمراد كونهم صافين في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية ، وأما درجاتهم في المعارف فهي قوله تعالى : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
واعلم أن قوله : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وأنهم هم المسبحون لا غيرهم ، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم ، حتى يصح هذا الحصر. وبالجملة فهذه الآلفاظ الثلاثة تدل على أسرار عجيبة من صفات الملائكة فكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال البشر تقرب درجته من الملك فضلاً عن أن يقال هل هو أفضل منه أم لا.
(1/3785)

وأما قوله : {وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون : {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا} أي كتاباً م كتب الأولين الذين نزل علهيم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله/ ولما كذبنا كما كذبوا. ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب المهيمن عتلى كل الكتب ، وهو القرآن فكفروا به. ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} ثم قال تعالى : {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 365
367
اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بقول تعالى : {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة كفرهم أردفه بما يقوي قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21) وأيضاً أن الخير مقضى بالذات والشر مقضى بالعرض ، وما بالذات أقوى مما بالعرض ، وأما لنصرة والغلبة فقد تكون بقوة الحجة ، وقد تكون بالدولة والاستيلاء ، وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب ، ولا يلزم على هذه الآية أن يقال : فقد قتل بعض الأنبياء وقد هزم كثير من المؤمنين ثم قال تعالى لرسوله وقذ أخبره بما تقدم {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} والمراد إلى يوم بدر ، وقيل إلى فتح مكة ، وقيل إلى يوم القيامة ، ثم قال : {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} والمعنى بأبصرهم وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فسوف يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة ، والمراد من الأمر المشاهد بأبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة ، وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك ، وقوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 367
{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} للتهديد والوعيد ، ثم قال : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} والمعنى أن الرسول عليه السلام كان يهددهم بالعذاب ، وما رأوا شيئاً فكانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب على سبيل الاستهزاء ، فبين تعالى أن ذلك الاستعجال جهل ، لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر ، فكأن طلب حدوثه قبل مزجيء ذلك الوقت جهلاً ، ثم قال تعالى : في صفة العذاب الذي يستعجلونه {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي هذا العذاب {فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} وإنما وقع/ هذا التعبير عن هذه المعاني كأنهم كانوا يقدمون على العادة في وقت الصباح ، فجعل ذكر ذلك الوقت كناية عن ذلك العمل ، ثم أعاد تعالى قوله : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} فقيل المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا ، وفي هذه الكلمة أحوال القيامة ، وعلى هذا التقدير فالتكرير زائل ، قيل أن المراد من التكرير المبالغة في التهديد والتهويل ، ثم إنه تعالى ختم السورة بخاتمة شريفة جامعة لكل المطالب العالية ، وذلك لأنه أهم المهمات للعاقل معرفة أحوال ثلاثة فأولها : معرفة إله العالم بقدر الطاقة البشرية ، وأقصى ما يمكن عرفانه من صفات الله تعالى ثلاثة أنواع أحدهما : تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية ، وهو لفظة سبحان وثانيها : وصفه بكل ما يليق بصفات الإلهية وهو قوله : {رَبِّ الْعِزَّةِ} تفيد الاستغراق ، وإذا كل الكل ملكاً له وملكاً له ولم يبق لغيره شيء ، فثبت أن قوله : {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم والمهم الثاني : من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف ينبغي أن يعامل نفسه ويعامل الخلق في هذه الحياة الدنيوية.
واعلم أن أكثر الخلق ناقصون ولا بد لهم من مكمل يكملهم ، ومرشد يرشدهم ، وهاد يهيديهم ، وما ذلك إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وبديهة الفطرة شاهدة بأنه يجب على الناقص الاقتداء بالكامل ، فنبه على هذا الحرف يقوله : {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} لأن هذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم ، ولا جرم يجب على كل من سواءهم الاقتداء بهم والمهم الثالث : من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف يكون حاله بعد الموت.
جزء : 26 رقم الصفحة : 367

واعلم أن معرفة هذه الحالة قبل الموت صعبة ، فالاعتماد فيها على حرف واحد ، وهو أنه إله العالم غني رحيم ، والغني الرحيم ولا يعذب فنبه على هذا الحرف بقوله : {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وذلك لأن استحقاق الحمد لا يحثل إلا بالإنعام العظيم ، فبين بهذا كونه منعماً ، وظاهر كونه غنياً عن العالمين ، ومن هذا وصفه كان الغالب منه هو الرحمة والفضل والكرم ، فكان هذا الحرف منبهاً على سلامة الحال بعد الموت ، فظهر بما ذكرنا أن هذه الخاتمة كالصدفة المحتوية على درر أشرف من دراري الكواكب ، ونسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة والعافية في الدنيا والآخرة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 367
369
(1/3786)

سورة ص
ثمانون وثمان آيات مكية
جزء : 26 رقم الصفحة : 369
370
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الكلام المستقصى في أمثال هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ولا بأس بإعادة بعض الوجوه فالأول : أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد ، كقولنا صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، صمد والثاني : معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله الثالث : معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين ، كما قال تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (النحل : 88) الرابع : معناه أن القررن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن ، فدل ذلك على أن القرآن معجز الخامس : أن يكون صاد بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ومنها لاصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة ، ومعناه عارض القرآن بعملك فاعلم بأوامره وانته عن نواهيه السادس : أنه اسم السورة والتقدير هذه صاد ، فإن قيل ههنا إشكالان أحدهما : أن قوله : {وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} قسم وأين المقسم عليه ؟
والثاني : أن كلمة (بل) تقتضي رفع حكم ثبت قلبها ، وإثبات حكم بعدها يناقض الحكم السابق ، فأين هذا المعنى ههنا ؟
والجواب : عن الأول من وجوه الأول : أن يكون معنى صاد ، بمعنى صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ، فيكون صاد هو المقسم عليه ، وقوله : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} هو القسم الثاني : أن يكون المقسم عليه محذوفاً ، والتقدير سورة (ص والقرآن ذي الذكر) أنه لكلام معجز ، لأنا بينا أن قوله { } تنبيه على التحدي والثالث : أن يكون صاد اسماً للسورة ، ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر ، ولما كان المشهور ، أن محمداً عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة ، كان قوله هذه ص جارياً مجرى قوله : هذه هي السورة العجزة ، ونظيره قوله هذا حاتم والله ، أي هذا هو المشهور/ بالسخاء والجواب : عن السؤال الثاني أن الحكم المذكور قبل كلمة {بَلِ} أما ما ذكره المفسر كون محمد صادقاً في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة {بَلِ} ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 370
المسألة الثانية : قرأ الحسن صاد بكسر الدال لأجل التقاء الساكنين ، وقرأ عيسى بن عمر بنصب صاد ونون وبحذف حرف القسم وإيصال فعله كقولهم الله لأفعلن ، وأكثر القراء على الجزم لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر.
المسألة الثالثة : في قوله ذي الذكر وجهان الأول : المراد ذي الشرف ، قال تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) وقال تعالى : {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } (الأنبياء : 10) ومجاز هذا من قولهم لفلان ذكر في الناس ، كما يقولون له صيت الثاني : ذي البيانين أي فيه قصص الأولين ، والآخرين ، وفيه بيان العلوم الأصلية والفرعية ومجازه من قوله : {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر : 22).
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة القررن ذي الذكر والذكر محدث بيان الأول : قوله تعالى : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) {وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} (الأنبياء : 50) {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} (ص : 1) {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا } (يس : 69) وبيان الثاني : قوله : {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء : 2) وقوله {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} والجواب : أنا نصرف دليلكم إلى الحروف والأصوات وهي محدثه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 370
(1/3787)

أما قوله : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر على الإنقياد إلى الحق ، والعزة ههنا التعظيم وما يعقتده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ } (البقرة : 206) والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضلية عليه ، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضيلة عليه ، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق ، فيريد أن يكون في شقة نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه ، ومثله العاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة ، وهي جانب الوادي ، وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر ، ويقال انحرف فلان عن فلان وجانب فلان فلاناً أي صار منه على حرف وفي جانب غير جانبه والله أعلم ، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال : {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا } والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنياعند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا ، وفيه وجوه الأول : وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة الثاني : نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب الثالث : نادوا أي رفعوا أصواتهم ، يقال فلان أندى صوتاً من فلان أي ارفع صوتاً ، ثم قال : {وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} يعني/ ولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله : {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا} (غافر : 84) وقال : {حَتَّى ا إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْـاَرُونَ} (المؤمنون : 64) والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة وكقوله : {ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس : 91) وقوله : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) بقي ههنا أبحاث :
البحث الأول : في تحقيق الكلام في لفظ {لاتٍ } الخليل وسيبويه أن لات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد ، وبسب هذه الزيادة حدثت لها أحكام جديدة ، منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان ، ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزءيها ، إما الاسم وأما الخبر ويمتنع بروزهما جميعاً ، وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصت بنفي الأحيان {حِينَ مَنَاصٍ} منصوب بها كأنك قلت ولات حين مناص لهم ويرتفع بالإبتداء أي ولات حين مناص كائن لهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 370
البحث الثاني : الجمهور يقفون على التاء من قوله : {وَّلاتَ} والكسائي يقف عليها بالهاء كما يفق على الأسماء المؤنثة ، قال صاحب "الكشاف" : وأما قول أب يعبيدة التاء داخلة على الحين فلا وجه له ، واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.
البحث الثالث : المناص المنجا والغوث ، يثال ناصه إذا أغاثه ، واستناص طلب المناص ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 370
377
ابم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال : {وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ} في قوله : {مِنْهُمْ} وجهان الأول : أنهم قالوا : إن محمداً مساو لنا في الخلفة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة ، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات والرفيعة والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة لا التنبيه على كمال/ جهالتهم ، وذلك ونه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة ، والتنفير عن الدنيا ، ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً من الكذب والتهمة ؛ وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ، ثم إن هؤلاء الأقوام لحماقتهم يتعجبون من قوله ، ونظيره قوله : {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَه مُنكِرُونَ} (المؤمنون : 69) فقال : {وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ} ومعناه أن محمداً كان من رهطهم وعشيرتهم وكان مساوياً لهم في الأسباب الدنيوية فاستنكفروا من الدخول تحت طاعته ومن الانقياد لتكاليفه ، وعجبوا أن يختص هو من بينهم برسالة الله وأن يتميز عنهم بهذه الخاصية الشريفة ، وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 377
(1/3788)

ثم قال تعالى : {وَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ} وإنما لم يقل وقالوا بل قال : {وَقَالَ الْكَـافِرُونَ} إظهاراً للتعجب ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام ، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله ويدعو إلى طاعة الشيطان ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام ، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله ويدعو إلى طاعة الشيطان وهو عندكم بالعكس من ذلك والكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم عن الكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم وعن الحشر والنشر وسائر الأشياء التي تثبت بدلائل العقول صحتها فكيف يكون كذاباً ، ثم إنه تعالى حكى جميع ما عولوا عليه في إثبات كونه كاذباً وهي ثلاثة أشياء أحدها : ما يتعلق بالإلهيات وثانيها : ما يتعلق بالنبوات وثالثها : ما يتعلق بالمعاد ، أما لشبهة المتعلقة بالإلهيات فهي قولهم : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحاً شديداً وشق ذك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء يعنون المسلمين فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال صلى الله عليه وسلّم ماذا يسألونني ، قالوا ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال صلى الله عليه وسلّم : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم ؟
قالوا : نعم ، قال تقولوا لا إله إلا الله ، فقاموا وقالوا : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} أي بليغ في التعجب وأقول منشأة التعجب من وجهين الأول : هو أن القوم ما كانوا من أصحاب النظر والاستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلق العظيم قاسوا الغائب على الشاهد ، فقالوا : لا بد في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفل كل واحد منهم بحفظ نوع آخر الوجه الثاني : أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا جاهلين مبطلين ، وذها الإنسان الواحد يكون محقاً صادقاً ، وأقول لعمري لو سلمنا إجراء حكم الشاهد على الغائب من غير ديل وحجة ، لكانت الشبهة الألى لازمة ، بطل أصل كلام المشهبة في الذابت وكلام المشبهة في الأفعال ، أما المشبهة/ في الذات فهو أنهم يقولون لما كان كل موجود في الشاهد يجب أن يكون جسماً ومختصاً بحيز وجب ف يالغائب أن يكون كذلك ، أما المشبهة في الأفعال فهم المعتزلة الذين يقولون أن الأمر الفلاني فبيح منا ، فوجب أن يكون قبيحاً من الله ، فثبت بما ذكرنا أنه إن صح كلام هؤلاء المشبهة في الذات وفي الأفعال لزم القطع بصحة شبهة هؤلاء المشركين ، وحيث توافقنا على فسادها على فسادها علمنا أن عمدة المجسمة وكلام المعتزلة باطل فاسد. وأما الشبهة الثانية فلعمري لو كان التقيد حقاً لكانت هذه الشهبة لازمة وحيث كانت فاسدة علمنا أن التقليد باطل بقي ههنا أبحاث :
جزء : 26 رقم الصفحة : 377
البحث الأولى : أن العجاب هو العجيب إلا أنه أبلغ من العجيب كقولهم طويل وطوال وعريض وعراض وكبير وكبار وقد يشدد للمبالغة كقوله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْرًا} (نوح : 22).
الثاني : قال صاحب "الكشاف" قرىء عجاب بالتخفيف والتشديد فقال والتشديد أبلغ من التخفيف كقوله تعالى : {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} .
ثم قال تعالى : {وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا ا عَلَى ا ءَالِهَتِكُمْ } قد ذكرنا أن لملأ عبارة عن القوم الذين إذا حضروا في المجلس فإنه تمتلىء القلوب والعيون من مهابتهم وعظمتهم ، قوله : {مِنْهُمْ} أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بن ، بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجواب العتيد قائلين بعضهم البعض {وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } وفيه مباحث :
البحث الأول : القراءة المشهورة (أن امشوا) وقرأ ابن أبي عبلة امشوا بحذف أن ، قال صاحب : "الكشاف" (أن) بمعنى أي لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما يجري في المجلس المتقدم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول ، وعن ابن عباس : وانطبق الملأ منهم يمشون.
(1/3789)

البحث الثاني : معنى أن امشوا أنه قال بعضهم امشوا واصبروا ، فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد ، إن هذا لشيء يراد ، وفيه ثلاثة أوجه أحدهما : ظهور دين محمد صلى الله عليه وسلّم ليس له سبب ظاهر يثبت أن تزايد ظهوره ، ليس إلا لأن الله يريده ، وما أراد الله كونه فلا دافع له وثانيها : أن الأمر كشيء من نوائب الدهر فلا انفكاك لنا منه وثالثها : أن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم ، قال الفقال هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف وكأن معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين ، وإنما عرضه أن يستولى علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
ثم قال : {مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ} والملة الآخرة هي ملة النصارى فقالوا إن هذا التوحيد الذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلّم ما سمعناه في دين النصارى ، أو يكون المراد بالمراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليهم ، ثم قالوا : {إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ} افتعال وكذب ، وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد ، فوجب أن يكون باطلاً ، ولو كان القول بالتقليد حقاً لكان كلام هؤلاء المشركين حقاً/ وحيث كان باطلاً علمنا أن القول بالتقليد باطل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 377
386
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات وهي قولهم إن محمداً لما كان مساوياً لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة فكيف يعقل أن يختص هو بهذا الدرجة العالية والمنزلة الشريفة ؟
وهو المراد من قولهم : {عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} فإنه استفهام على سبيل الإنكار ، وحكى الله تعالى عن قوم صالح أنه قالوا مثل هذا القول فقالوا : {الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنا بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} (القمر : 25) وحكى الله تعالى عن قوم محمد صلى الله عليه وسلّم أيضاً أنهم قالوا : {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) وتمام الكلام في تقرير هذه الشبهة : أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب ، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشفر الناس ، فوجب أن لا تحصل له والنبوة ، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليط عليهم أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب ، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس ، فوجب أن لا تحصل له والنبوة ، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كادبة وسبب رواج هذا التغليظ عليهم أنهم ظنوا أن الشرف لا يحصل إلا بالمال والأعوان وذلك باطل ، فإن مراتب السعادة ثلاثة أعلاها هي النفسانية وأوسطها هي البدنية وأدونها هي الخارجية وهي المال والجاه ، فالقوم عكسوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فلما وجدوا المال والجاه عند غيره أكثر ظنوا أن غيره أشرف منه ، فحينئذ انعقد هذا القياس الفاسد في أفكارهم ، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجوه الأول : قوله تعالى : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} وفيه وجهان أحدهما : أن قوله : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى }
جزء : 26 رقم الصفحة : 386
(1/3790)

أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم وذلك لأن كل ما ذكروه من الشبهات فهي كلمات ضعيفة وأما الدلائل التي تدل بنفسها على صحة نبوته ، فهي دلائل قاطعة فلو تأملوا حق التأملفي الكلام لوقفوا على ضعف الشبهات التي تمسكوا بها في إبطال النبوة ، ولعرفوا صحة الدلائل الدالة على صحة نبوته ، فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركووا النظر والاستدلال ، فأما قوله تعالى : {بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} فموقعه من هذا الكلام أنه تعالى يقول هؤلاء إنما تركوا النظر والاستدلال لأني لم أذقهم عذابي ، ولو ذاقوه لم يقع منهم "ءلا الإقبال على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات وثانيها : أن يكون المراد في قوله ؛ {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى } هو أن النبي صلى الله عليه وسلّم مان يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر ، ثم أنهم أصروا على الكفر ، ولم ينزل عليهم العذاب ، فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه ، وقالوا : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} (الأنفال : 32) فقال : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى } معناه ما ذكرناه ، وقوله تعالى : {بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} معناه أن ذلك الشك إنما حصل بسبب عدم نزول العذاب والوجه الثاني : من الوجوه التي ذكرها الله تعالى في الجواب عن تلك الشبهة قوله تعالى : {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} وتقرير هذا الجواب أن منصب النبوة منصب عظيم ودرجة عالية والقادر على هبتها يجب أن يكون عزيزاً أي كامل القدرة ووهاباً أي عظيم الجود وذلك هو لله سبحانه وتعالى ، وإذا كان هو تعالى كامل القدرة وكامل الجود ، لم يتوقف كونه واهباً لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنياً أو فقيراً ، ولم يختلف ذلك أيضاً بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه والوجه الثالث : في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى : {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الكلام مغايراً للمراد من قوله : {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآاـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}
جزء : 26 رقم الصفحة : 386
يعني أن هذه الأشياء أحد ذكرنا الخزائن أولاً على عمومها أردفها بذكر {مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا } يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله ، فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم ، فبأن تكونوا عاجزين عن كل خزائن الله كان أولى ، فهذا ما أمكنني ذكره في الفرق بين الكلامين ، أما قوله تعالى : {فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} فالمعنى أنهم أن ادعوا أن لهم ملك السموات والأرض فعند هذا يقال لهم ارتقوا في الأسباب واصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يرتقوا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله وينزلوا الوحي على من يختارون ، واعلم أن حكماء الإسلام استدلوا بقوله : {فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسباباً وذلك يدل على ما قلناه والله أعلم ، أما قوله تعالى : {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الاحَزَابِ} ففيه مقامات من البحث أحدهما : في تفسير هذه الألفاظ والثاني : في كيفية تعلقها بما قبلها أما المقام الأول : فقوله : {جُندٌ} مبتدأ وما للإيهام كقوله جئت لأمر ما ، وعندي طعام ما ، و{مِّنَ الاحَزَابِ} صفة لجند و{مَهْزُومٌ} خبر المبتدأ وأما قوله : {هُنَالِكَ} فيجوز أن يكون صفة لجند أي جند ثابت هنالك ، ويجوز أن يكون متعلقاً بمهزوم معناه أن الجند من الأحزاب مهزوم هنالك ، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون/ فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وأما المقام الثاني : فهو أنه تعالى لما ضعيفون ، فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما ، قال قتادة هنالك إشارة إلى يوم بدر فأخبر الله تعالى بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر ، وقيل يوم الخندق ، والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة ، وذلك لأن المنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة ، فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح. والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 386
389
قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الاوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِا أولئك الاحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَـا ؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} .
(1/3791)

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الجواب عن شبهة القوم أنهم أنما توانوا وتكاسلوا في النظر والاستدلال ، لأجل أنهم لم ينزل بهم العذاب ، بيَّن تعالى في هذه الآية أن أقوام سائر الأنبياء هكذا كانوا ثم بالآخرة نزل ذلك العقاب ، والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول في إخباره عن نزول العقاب عليهم ، فذكر الله ستة أصناف منهم أولهم قوم نوح عليه السلام ولما كذبوا نوحاً أهلكهم الله بالغرق والطوفان والثاني : عاد قوم هود لما كذبوه أهلكهم الله بالريح والثالث : فرعون لما كذب موسى أهلكه الله مع قومه بالغرق والرابع : ثمود قوم صالح لما كذبوه فأهلكوا بالصيحة والخامس : قوم لوط كذبوه بالخسف والسادس : أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب كذبوه فأهلكوا بعذاب يوم الظلة ، قالوا : وإنما وصف الله فرعون بكونه ذا الأوتاد لوجوه الأول : أن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاده ، ثم استعير لإثبات العز والملك قال الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل مالك ثابت الأوتاد
قال القاضي حمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه لما وصف بتكذيب الرسل ، فيجب فيما وصف به أن يكون تفخيماً لأمر ملكه ليكون الزجر بما ورد من قبل الله تعالى عليه من الهلاك/ مع قوة أمره أبلغ والثاني : أنه كان ينصب الخشب في الهواء وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع ، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتداً ، ويتركه معلقاً في الهواء إلى أن يموت والثالث : أنه كان يمد المعذب بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات والرابع : قال قتادة كانت أوتاداً وأرساناً وملاعب يلعب بها عنده والخامس : أن عساكره كانوا كثيرين ، وكانوا كثيري الأهبة عظيمي النعم ، وكانوا يكثرون من الأوتاد لأنهم يقرون أمره ويشدون مملكته كما يقوي الوتد البناء. وأما الإيكة فهي الغيضة المتلتفة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
ثم قال تعالى : { أولئك الاحْزَابُ} وفيه أقوال الأول : أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم ، فذلك نفعل بقومك ، لأٌّه تعالى بيَّن بقوله : (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) (ص : 11) أن قوم محمد صلى الله عليه وسلّم جند من الأحزاب ، أي من جنس الأحزاب المتقدمين ، فلما ذكر أنه عامل الأحزاب المتقدمين بالإهلاك كان ذلك تخويفاً شديداً لقوم محمد صلى الله عليه وسلّم الثاني : أن معنى قوله : { أولئك الاحْزَابُ} مبالغة لوصفهم بالقوة والكثرة/ كما يقال فلان هو الرجل ، والمعنى أن حال أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان هو الهلاك والبوار ، فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين.
واعلم أن هؤلاء الأقوام إن صدقوا بهذه الأخبار فهو تحذير ، وإن لم يصدقوا بها فهو تحذير أيضاً ، لأن آثار هذه الوقائع باقية وهو يفيد الظن القوي فيحذرون ، ولأن ذكر ذلك على سبيل التكرير يوجب الحذر أيضاً ثم قال : {إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} أي كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب ، لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين ، والمقصود منه زجر السامعين ، ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال : {وَمَا يَنظُرُ هَـا ؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} وفي تفسير هذه الصيحة قولان الأول : أن يكون المراد عذاباً يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة ، كما يقال صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر :
صاح الزمان بآل برمك صيحة
خروا الشدتها على الأذقان
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
(1/3792)

ويشبه أن يكون أصل ذلك من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصحية فيهم ، ونظيره قوله تعالى : {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ } (يونس : 102) الآية والقول الثاني : أن هذه الصيحة هي صيحة النفخة الأولى في الصور ، كما قال تعالى في سورة يس : {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} (يس : 49) والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة ، فكأنهم بذلك العذاب وقد جاءهم فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم ، كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يطمع كل ساعة في حضوره ، ثم إنه سبحانه وصف هذه الصيحة فقال : {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} قرأ حمزة والكسائي {فَوَاقٍ} بضم الفاء ، والباقون بفتحها ، قال الكسائي والفراء/ وأبو عبيدة والأخفش : هما لغتان من فواق الناقة. وهو ما بين حلبتي الناقة وأصله من الرجوع ، يقال أفاق من مرضه ، أي رجع إلى الصحة ، فالزمان الحاصل بين الحلبتين لعود اللبن إلى الضرع يمسى فواقاً بالفتح وبالضم ، كقولك قصاص الشعر وقصاصه ، قال الواحدي : والفواق والفواق إسمان من الأفاقة ، والأفاقة معناها الرجوع والسكون كأفاقة المريض ، إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر ، والفواق بالضم اسم لذلك الزمان الذي يعود فيه اللبن إلى الضرع ، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية : "يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع ، قال فيمدها ويطولها" وهي التي يقول : {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ثم قال الواحدي : وهذا يحتمل معنيين أحدهما : ما لها سكون والثاني : ما لها رجوع ، والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون ، ويقال لكل من بقي على حالة واحدة ، إنه لا يفيق منه ولا يستفيق ، والله أعلم.
قوله تعالى : {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ} .
اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله : {وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص : 4) أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أولها : تتعلق بالإلهيات ، وهو قوله : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا } والثانية : تتعلق بالنبوات ، وهو قوله : {عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} (ص : 8) والثالثة : تتعلق بالمعادة ، وهو قوله تعالى : {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر/ فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته ، والقط والقطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط ، ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعد المؤمنين بالجنة ، قالوا على سبيل الاستهزاء : عجل لنا نصيبنا من الجنة ، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
(1/3793)

واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قالوا : إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء : {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أمره الله بالصبر على سفاهتهم ، فقال : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فإن قيل. أي تعلق بين قوله : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} وبيّن قوله : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} ؟
قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول : كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جرائتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر ، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن/ يوم الحشر ، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفاً يزداد الضد الآخر نقصاناً والثاني : كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلّم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك ، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر ، من الأنبياء وافقوك والثالث : أن للناس في قصة داود قولين : منهم من قال إنها تدل على ذنبه ، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلّم إن حزنك ليس إلا ، لأن الكفار يكذبونك ، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد ، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال : الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس : أن قريشاً إنما كذبوا محمداً عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير ، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود ، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من اوحزان والغموم ، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس : أن قوله تعالى : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص وحزن خاص ، فحينئذٍ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان ، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا ، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم ، وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ} (ص : 29) واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
(1/3794)

فالقصة الأولى : قصة داود ، واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول : تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني : شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث : استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول : وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول : قوله لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} فأمر محمداً صلى الله عليه وسلّم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يقتدي به مكارم الأخلاق والثاني : أنه قال في حقه : {عَبْدَنَا دَاوُادَ} فوصفه بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم ، وذلك غاية التشريف ، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمداً عليه السلام ليلة المعراج قال : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } (الإسراء : 1)/ فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلاً على علو درجته أيضاً ، فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبوذية بسبب الاجتهاد في الطاعة والثالث : قوله : {ذَا الايْدِ } أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحترازعن المعاصي ، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح ، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله : {وَعَشِيًّا * يَـايَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ بِقُوَّةٍ } (مريم : 12) وقوله تعالى : {وَكَتَبْنَا لَه فِى الالْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} (الأعراف : 145) أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِه } (الأنفال : 62) وقوله تعالى : {وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } (البقرة : 87) وقال : {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا} (الذاريات : 47) وعن قتادة أعطى قوة في العبادة وفقهاً في الدين ، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر الرابع : قوله : {الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ} أي أن داود كان رجاعاً في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى : {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} (الغاشية : 25) وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب الخامس : قوله تعالى : {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالاشْرَاقِ} ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه وَالطَّيْرَ } (سبأ : 10) وفيه مباحث :
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
البحث الأول : وفيه وجوه الأول : أن الله سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ومنطقاً وحينئذٍ صار الجبل مسبحاً لله تعالى ونظيره قوله تعالى : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} (الأعراف : 143) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلاً وقدرة ومنطقاً وحينئذٍ صار الجبل مسبحاً صلى الله عليه وسلّم تعالى ونظيره قوله تعالى : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} (الأعراف : 143) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلاً وفهماً ، ثم خلق فيه رؤية الله تعالى فكذا ههنا الثاني : في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن ، وما يعصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحاً ، وذكر محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل حصوت داود حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود وجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه كان يدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" {يُسَبِّحْنَ} في معنى مسبحات ، فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات قلنا نعم ، فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث التجدد ، وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز ، إذا ثبت هذا فنقول قوله : {يُسَبِّحْنَ} يدل على/ حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح.
والبحث الثالث : قال الزجاج يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وقيل هما بمعنى/ والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس والماء يشرق.
(1/3795)

والبحث الرابع : احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية ، عن أم هانىء قالت : "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى ، وقا : يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق" وعن طاووس عن ابن عباس قال : "هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن ؟
قالوا لا ، فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق" توقال كان يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله : {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالاشْرَاقِ} .
الصفة السادسة : من صفات داود عليه السلام وقوله تعالى : {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةًا كُلٌّ لَّه ا أَوَّابٌ} وفيه مباحث :
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
البحث الأول : قوله : {وَالطَّيْرَ} معطوفة على الجبال والتقدير وسخرنا الطير محشورة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه ، واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله {قِيلَ} كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها ، قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى كان يخلق لها عقلاً حتى تعرف الله فتسبحه حينئذٍ ، وكان معجزة لداود عليه السلام.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" قوله : {مَحْشُورَةً } في مقابلة {يُسَبِّحْنَ} إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء ، فلا جرم جيء به اسماً لا فعلاً ، وذلك أنه قال لو قيل وسخرنا الظير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور والله أعلم.
البحث الثالث : قرىء {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } بالرفع.
الصفة السابفة : من صفات داود عليه السلام ، قوله تعالى : {كُلٌّ لَّه ا أَوَّابٌ} ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع ، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته ، فهذه الأشياء أيضاً كانت ترجع إلى تسبيحاتها ، والفرق بين هذه الصفة وبين ما قلبها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام ، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة وقيل الضمير في قوله : {كُلٌّ لَّه ا أَوَّابٌ} لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح.
الصفة الثامنة : قوله تعالى : {وَشَدَدْنَا مُلْكَه } أي قويناه وقال تعالى : {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (القصص : 35) وقيل شددنا على المبالغة ، وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة ، وهي إما الأسباب الدنيوية أو الدينية ، أما الأول فذكروا فيه وجهين الأول : روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ، فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله ، وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفاً. قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطاناً ، وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعي علهي ، فقال داود للمدعي أقم البينة فلم يقمها ، فرأى داود في منامه. أن الله يأمره أن يقتل المدعي عليه فثبت داود وقال هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فاحضره وأعلمه أن أمره بقتله ، فقال المدعي عليه صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فهذه الواقعة شددت ملكه ، وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
الصفة التاسعة : قوله : {وَشَدَدْنَا مُلْكَه } واعلم أنه تعالى قال : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 269) واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية ، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل/ أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضي الطاقة البشرية ، وأما العمل فهو أن يكون الإٌّسان آتياً بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة ، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف ، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخة والنقض فكانت في غاية الإحكام ، وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبل النقض والنسخ ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة.
(1/3796)

الصفة العاشرة : قوله : {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام أحدهما : ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات وثانيها : التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان وثالثها : الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له ، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف غيره الأحوال المعلومة ، له ، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب ، ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير ، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول ، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه ، ومنهم من يكون قادراً على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى/ أقص الغايات ، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل ، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف ، ولما بيّن الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله : {وَشَدَدْنَا مُلْكَه } أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة ، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد ، وأقول حقاً إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً والله أعلم ، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضاً ، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادراً على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال ، بيحث لا يختلط شيء بشيء ، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام ، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام والله أعلم ، وههنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها الله تعالى في مدح داود عليه السلام.
جزء : 26 رقم الصفحة : 389
392
اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقاً للثناء والمدح العظيم.
أما قوله تعالى : {وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ} فهو نظير قوله تعالى : {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } (طه : 9) وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ، ليكون داعياً إلى الإصغاء لها والاعتبار بها ، وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها : ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها : دلالتها على الصغيرة وثالثها : بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها ؛ أن داود عشق امرأة أوريا ، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين مفي صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته ، وعرضا تلك الواقعة عليه. فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة.
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول : أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لا ستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول : فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلّم : "من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" وأما الثاني : فمنكر عظيم قال صلى الله عليه وسلّم : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث : أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة ، ووصفه أيضاً بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة ، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح ، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
فنقول أما الصفات الأولى : فهي أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة ، ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعي في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله.
(1/3797)

وأما الصفة الثانية : فهي أن وصفه بكونه عبداً له ، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في موقف العبودية تاماً في القيام بأدار الطاعات والاحتراز عن المحظورات/ ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة ، فحينئذٍ ما كان داود كاملاً/ في عبوديته لله تعالى بل كان كاملاً في طاعة الهوى والشهوة.
الثفة الثالثة : هو قوله : {ذَا الايْدِ } (ص : 17) أي ذا القوة ، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين ، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات ، والاجتناب عن المحظورات ، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم ؟
الصفة الرابعة : كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله تعالى ، وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفاً بالقتل والفجور ؟
.
الصفة الخامسة : قوله تعالى : {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَه } (ص : 18) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور ؟
.
الصفة السادسة : قوله : {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } (ص : 19) ، وقيل إنه كان محرماً عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه ؟
.
الصفة السابعة : قوله : {وَشَدَدْنَا مُلْكَه } ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا ، بل المراد أنه تعالى شد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة ، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك ؟
.
الصفة الثامنة : قوله تعالى : {وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ} (ص : 20) والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً ، فكيف يجوز أن يقول الله تعالى : إنا {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح ، فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته عن تلك الأكاذيب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
(1/3798)

وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشرة الأول : قوله : {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَا وَإِنَّ لَه عِندَنَا} وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة الله ، أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله : {وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى } لائقاً به الثاني : قوله تعالى : {ى دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ} وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه أحدهما : أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده "أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد أني فوضت إليك خلافتي ونيابتي ، وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر ، فأما جعله نائباً وخليفة لنفسه فذلك ألبتة مما لا يليق وثانيها : أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة ، ثم قال بعده : {إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ} أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة ؛ ومعلوم أن هذا فاسد ، أم لو/ ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذٍ يناسب أن يذكر عقيبه {إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ} (ص : 26) فثبت أن هذا الذي نختاره أولى والثالث : وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضاً دالة على ذلك ، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة في أرضه وصوب أحكامه/ وكما أن هذه الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا ، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب والرابع : وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء ، فأوحى الله إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة ، فنقول أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى بيتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة ، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها أخرها الخامس : أن داود عليه السلام قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
(1/3799)

{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } استثنى الذين آمنوا عن البغي ، فلو قلنا إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعد الإيمان على نفسه وذلك باطل السادس : حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك ، فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل ، ولقد قال الله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه ، وأيضاً فبتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً ، ولقد قال صلى الله عليه وسلّم : "لا تذكروا موتاكم إلا بخير" ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعولم بالضرورة أن يتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئاً من الثواب ، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب ، وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة ، فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا سؤنها وصفتها ، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه ، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت. ولم يذكر شيئاً السابع : أن ذكر هذه القصة ، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة فوجب أن يكون محرماً لقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا } (النور : 19) الثامن : لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله : "من سعى/ في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً فكان يدخل تحت قوله : {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} التاسع : عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : "من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين" وهو حد الفرية على الأنبياء ، ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زني وشهد ثلاثة من عدول الصحابة بذلك ، وأما الرابع فإنه لم يقل بأني رأيت ذلك العمل. يعني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا ، وإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك ، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام العاشر : روي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله تعالى فقال لا ينبغي أن يزاد عليها/ وإن كانت الواقعة على ما ذكرت ، ثم إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السلام ، فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ذلك الستر بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر : "سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة ، فإن قال قائل : إن كثيراً من أكابر المحدثين والمفسرين ذكروا هذه القصة ، فكيف الحال فيها ؟
فالجواب الحقيقي أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى ، وأيضاً فالأصل بين الذمة ، وأيضاً فلما تعارض دليل التحريم والتحليل كان جانب التحريم أولى ، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب تورجيح قولنا ، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول الله لنا يوم القيامة لم لم تسعوا في تشهير هذه الواقعة ؟
وأما بتقدير كونها باطلة فإن علينا في ذكرها أعظم العقاب ، وأيضاً فقال عليه السلام : التي ذكرناها قائمة فوجب أن لا تجوز الشهادة بها ، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول بل الأكثرون المحقون والمحققون منهم يردونه ويحكمون عليه بالكذب والفساد ، وأيضاً إذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدثين فيه تساقطت وبقي الرجوع إلى الدلائل التي ذكرناها فهذا تمام الكلام في هذه القصة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
(1/3800)

أما الاحتمال الثاني : وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبير ، فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه الأول : أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فأثره أهلها ، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه الثاني : قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في ذها ذنب ألبتة ، أما وقع بصره لعيها من غير قصد فذلك لي بذنب ، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن هذا الميل ليس في وسعه ، فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذياً عظيماً بسبب/ قتله لأجل أنه طمع أٌّ يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل والثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة ، إلا أنه لا يليق بك ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
وأما الإحتمال الثالث : وهو أن هذه القصة على وحه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام ، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام ، وكان له يوم يخلو فيه ننفسه ويشتغل بطاعة ربه ، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب ، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذباً ، فقالوا خصمان بغي بعضنا على بعض إلى آخر القصة ، ولي في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود إلا ألفاظ أربعة أحدهما : قوله : {وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ} ، وثانيها : قوله تعالى : (فاستغفر ربه) وثالثها : قوله : {وَأَنَابَ } ورابعها : قوله : {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ } ثم نقول ، وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه ، وتقريره من وجوه الأول : أنهم لما دخول عليه لطلب قتله بهذا الطريق/ وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم ، إلا أنه قال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله ، قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان ، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب ، فغفر له ذلك القدر من الهم والعز والثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه ، إلا أنه ندم على ذلك الظن ، وقال : لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك ، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء ، فكان هذا هو المراد من قوله : {وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } منه فغفر الله له ذلك الثالث : أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام ، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله ، كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلّم : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } (محمد : 19) فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب ، أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل ، وقوله : {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ } أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام ذاوود ولتعظيمه ، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
(1/3801)

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ} (الفتح : 2) أن معناه أن الله تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك الرابع : هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه ، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة ، فلم لا يجوز أن تيقال إن تلك الزلة إنما حصلت ، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الخصم الثاني ، فإن/ لما قال : {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه } فحكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوى الخصم بغير بينة ، لكون هذا الحكم مخالفاً للصواب ، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة ، إلا أن هذا في باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآثات على هذا الوجه ، فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام ، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه ، ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه الأول : أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي ، لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل والثاني : أنه أحوط والثالث : أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} (ص : 17) فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا : {هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ} (ص : 4) واستهزأوا به حيث قالوا : {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} (ص : 16) فقال تعالى في أول الآية : اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود ، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب ، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، أما إذا حملناها على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً فاسداً والرابع : أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين ، ولما كانا من الملائكة وما كان بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذباً ، فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين أحدهما : إسناد الكذب إلى الملائكة والثاني : أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء ، فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة ، وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء ، فكان قولنا أولى ، فهذا ما عندنا في هذا الباب/ والله أعلم بأسرار كلامه ، ونرجع الآن إلى تفسير الآيات. أما قوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
{وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ} قال الواحدي : الخصم مصدر خصمته أخصمه خصماً ، ثم يسمى به الإثنان والجمع ولا يثنى ولا يجمع ، يقال هما خصم وهم خصم ، كما يقال هما عدل وهم عدل ، والمعنى ذوا خصم وذوو خصم ، وأريد بالخصم ههنا الشخصان اللذان دخلا على داود عليه السلام ، وقوله تعالى : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} يقال تسورت السور تسوراً إذا علوته ، ومعنى : {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} أي أتوه من سوره وهو أعلاه ، يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها. وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه ، وسمي ذلك البيت المحراب لاشتماله على المحراب ، كما يسمى الشيء بأشرف أجزائه ، وههنا مسألة من علم أصول الفقه ، وهي أن أقل الجمع اثنان عند بعض الناس ، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية ، لأنه تعالى ذكر صيغة الجمع في هذه الآيات في/ أربعة مواضع أحدهما : قوله تعالى : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص : 21) ، وثانيها : قوله : {إِذْ دَخَلُوا } ، وثالثها : قوله : {مِنْهُمْ} ، ورابعها : قوله : {قَالُوا لا تَخَفْ } فهذه الألفاظ الأربعة لها صيغ الجمع ، وهم كانوا اثنين بدليل أنهم قالوا خصمان ، قالوا فهذه الآية تدل على أن أقل اسماً فإنه لا يثنى ولا يجمع ، ثم قال تعالى : {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ} والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه ، فلما قال : {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه ، قال الفراء : وقد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد ، كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت ، مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً ، ثم قال تعالى : {فَفَزِعَ مِنْهُمْ } والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد ، علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر ، فلا جرم فزع منهم ، ثم قال تعالى : {قَالُوا لا تَخَفْا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : خصمان خبر مبتدأ محذوف ، أي نحن خصمان.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
(1/3802)

المسألة الثانية : ههنا قولان الأول : أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأراد تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه والثاني : أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل ، فظنا أنهما يجدانه خالياً ، فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر ، وأما المنكرونت لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما {خَصْمَانِ} فإنه ليس بين الملائكة خصومة ، ولكانا كاذبين في قولهما : {لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ولكانا كاذبين في قولهما : {إِنَّ هَـاذَآ أَخِى لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} فثبت أنهما لو كانا مليكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ} (الأنبياء : 27) ولقوله : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النخل : 50) أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب ، وأجيب عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل ، أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل ، فحينئذٍ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول والله أعلم ، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجا بوجوه الأول : اتفاق أكثر المفسرين عليه والثاني : أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة الثالث : أن قوله تعالى : {قَالُوا لا تَخَفْ } كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته الرابع : أن قولهما : {وَلا تُشْطِطْ} كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحداً من رعيته لا يتجاسر أن يقول له تظلم ولا تتجاوز عن الحق ، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر ، ولا حاجة إلى الجواب ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
المسألة الثالثة : {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح/ إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية ، يوقال بغت المرأة إذا زنت ، لأن الزنا كبيرة منكرة ، قال تعالى : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ} (النور : 33) ثم قال : {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} معنى الحكم إحكام الأمر في آمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة ، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح ، ومنه بناء محكم إذا كان قوياً ، وقوله : {بِالْحَقِّ} أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به {وَلا تُشْطِطْ} يقال شط الرجل إذا بعد ، ومنه قوله : شطت الدار إذا بعدت ، قال تعالى : {لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا} (الكهف : 14) أي قولاً بعيداً عن الحق ، فقوله : {وَلا تُشْطِطْ} أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق ، ثم قال : {وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} وسواء الصراط هو وسطه ، قال تعالى : {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 55) ووسط الشيء أفضله وأعدله ، قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها : قولهم فاحكم بالحق وثانيها : قولهم : {وَلا تُشْطِطْ} وهي نهي عن الباطل وثالثها : قولهم : {وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ} يعنى يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق. وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق ، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب ، واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل ، فقال : {إِنَّ هَـاذَآ أَخِى لَه تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صحاب "الكشاف" {أَخِى} يدل من هذا أو خبر لقوله : {ءَانٍ} والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة ، لقوله تعالى : {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ} وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ} بفتح التاء ونعجة بكسر النون ، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع ، ولقوة وهي الأنثى من العقبان.
المسألة الثالثة : قال الليث : النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية ، والجمع النعجات ، والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة.
(1/3803)

المسألة الرابعة : قرأ عبد الله : {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} وهذا يكون لأجل التأكيد كقوله تعالى : {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِا إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (النحل : 51) ، ثم قال : {أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} قال صاحب "الكشاف" : {أَكْفِلْنِيهَا} حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي {وَعَزَّنِى} غلبني ، يقال عزه يعزه ، والمعنى جاءني يحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أورده به ، وقرىء وعازني من المعازة ، وهي المغالبة ، واعلم أن الذين قالوا إن هذين الخصمين كانا من الملائكة زعموا أن المقصود من ذكر النعاج التمثيل ، لأن داود كان تحته تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ، فذكرت الملائكة تلك الواقعة على سبيل الرمز والتمثيل.
ثم قال تعالى : {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه } أي سؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه ، وروي أنه قال : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا ، وأشار إلى الأنف والجبهة/ فقال : يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا ، وأشار إلى الأنف والجبهة/ فقال : يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا ، وأنت فعلت كيت وكيت ، ثم نظر داود فلم ير أحداً فعرف الحال ، فإن قيل كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه ؟
قلنا ذكروا فيه وجوهاً الأول : قال محدم بن إسحاق : فما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال لئن صدق لقد ظلمته ، والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطاً بشرط كونه صادقاً في دعواه والثاني : قال ابن الأنباري : لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود علهي لاسلام ولم يذكر الله تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، كما تقول أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت ، وقال تعالى : {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَا فَانفَلَقَ} (الشعراء : 63) أي فضرب فانفلق ، والثالث : أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
ثم قال تعالى : {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال : الليث خليط الرجل مخالطه ، وقال الزجاج : الخلطاء الشركاء ، فإن قيل لم خص داود الخلطاء يبغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قذ يفعلون ذلك ، والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة ، وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أخوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه ، فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة ، فلهذا السبب خص داود عليه السلامم الخلطاء بزيادة البغي والعدوان ، ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروجانية الحقيقية ، فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة ، وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالتطهم سبباً لمزيد البغي والعدوان ، واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض ، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قوله باطل.
ثم قال تعالى : {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن ، قال تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وقال داود عليه السلام في هذا الموضع {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } وحكى تعالى عن إبليس أنه قال : {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ} (الأعراف : 17) وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة ، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهود والغضب والقوى الطبيعية السبعة فالمجموع تسعة عشر وافقون على باب جهنم البدن ، وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية ، وأما الداعي إلى الق والدين فليس إلا العقل واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم ، فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر ، قال صاحب "الكشاف" وما في قوله : {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } للإبهام وفيه تعجب من قلتهم ، قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرىء القيس ؛ وحديث ما على قصره ــــ وانظر هل بقي له معنى قط.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
(1/3804)

ثم قال تعالى : {وَظَنَّ دَاوُادُ أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ} قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه ، قالوا/ والسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم ههنا أن داود عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك/ ثم صعد إلى السماء قبل وجهه ، فعلم داود أن الله ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة ، والمشابهة علة لجواز المجاز ، وأقول هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم ، بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
أما قوله : {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه } أي سأل الغفران من ربه ، ثم ههنا وجهان إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه ، حملنا هذا الاستغفار عليها ، وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه الأول : أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله ، وإنه كان سلطاناً شديد القهر عظيم القوة ، ثم أنه مع أنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئاً قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب ، فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى الله ، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله ، فغفر الله له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر الثاني : لعله هم بإيذاء القوم ، ثم قال : إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم الثالث : لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله ، فغفر الله ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه ، وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة ، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه وإذا كان اللفظ محتملاً لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها ، فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها ، والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم الله هذه القصة بقوله : {وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ} ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن من حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة ، وتحمل أنوعاً من الشدائد في الموافقة والانقياد ، أما إذا كان المذكور السابق هو ازقادم على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به ، قال مالك بن دينار ؛ إذا كان يوم القيامة أتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة ، ويقال يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا والله أعلم ، بقي ههنا مباحب فالأول : قرىء فتناه وفتناه عى أن الألف ضمير الملكين الثاني : المشهور أن الاستغفار إنما كان بسبب قصة التعجة والنعاج ، وقيل أيضصاً إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاين وذلك غير جائز الثالث : قوله ؛ {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } يدل على حصول الركوع ، وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوماً ثبت بالأخبار الرابع : أن مذهب الشافيع رضي الله عنه أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة قال لأن توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة الخامس : استشهد أبو خنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في سجود التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود.
جزء : 26 رقم الصفحة : 392
396
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أنه تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض ، وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في تلك القصة ، لأن من البعيد جداً أن يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين ، راغباً في انتزاع أزواجهم منهم ثم يذكر عقيبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه ، ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان الأول : جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى ، وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه ، وذلك ءنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة ، وذلك على الله مجال الثاني : إنا جعلناك مالكاً للناس ونافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ، ومنه يقال خلفاء الله في أرضه ، وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله ، فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدة اللزوم في تلك الحقيقة وهو نفاذ الحكم.
(1/3805)

ثم قال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} واعلم أن الإنسان خلق مدنياً بالطبع ، لأن الإنسان الواحد لا يتنظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة حتى أن هذا يحرث ، وذلك يطحن ، وذلك يخبز ، وذلك ينسج ، وهذا يخيط ، وبالجملة فيكون كل واحدة منهم مشغولاً بمهم ، وينتظم من/ أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت ىن الإنسان مدني بالطبع وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس ، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه والطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه ، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق ، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك ، أما ءذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم ، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه. فهذا هو المراد من قولهم : {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق فكن أنت ذلك الحاكم ثم قال : {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّه } الآية ، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب العذاب ، فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 396
أما المقام الأول : وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله فتقريره أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية ، والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات ، لأنهما حالتان متضادتان فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر.
أما المقام الثاني : وهو أن الضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب/ فالأمر فيه ظاهر لأن الإنسان إذا عظم ألفه بهذه الجسمانيات ونسي بالكلية أحواله الروحانيات ، فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق ، ودخل دياراً ليس له بأهل تلك الديار إلف وليس لعيته قوة مطالعة أنوار تلك الديار ، فكأنه فارق المحبوب ووصل إلى المكروه ، فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء ، فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله. وثبت أن الضلال عن سبيل الله يوجب العذاب ، وهذا بيان في غاية الكمال.
ثم قال تعالى : {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} يعني أن السبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب ، لأنه لو كان متذكراً ليوم الحساب لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد ، ولما صار مستغرقاً في هذه اللذات الفاسدة.
روي عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز هل سمعت ما بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية ؟
فقال : يا أمير المؤمنين الخلفاء أفضل أم الأنبياء ؟
ثم تلا هذه الآية : {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُا بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ثم قال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ا فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ونظيره قوله تعالى : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران : 191) وقوله تعالى : {مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} (الروم : 8) وفيه مسائل :
/المسألة الأولى : احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأعمال العباد قال لأنها مشتملة على الكفر والفسق وكلها أباطيل. فلما بين تعالى أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً دل هذا على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد. ومثله قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ } (الحجر : 85) وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل ، وقد خلق الباطل ، ثم أكد تعالى ذلك بأن قال : {ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي كل من قال بهذا القول فهو كافر ، فهذا تصريح بأن مذهب المجبرة عين الكفر ، واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد فقالوا هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقاً لكل ما بين السموات والأرض ، وأعمال العباد حاصلة بين السماء والأرض ، فوجب أن يكون الله تعالى خالقاً لها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 396
(1/3806)

المسألة الثانية : هذه الآية دالة على صحة القول بالحشر والنشر والقيامة ، وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم ، فإما أن يقال إنه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع أو للإضرار والأول باطل لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم ، والثالث أيضاً باطل لأن هذه الحالة حاصلة ين كانوا معدومين ، فلم يبق إلا أن يقال إنه خلقهم للإنفاع ، فنقول وذلك الإنفاع ، إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة ، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة ، وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة لا يليق بالحكمة ، ولما بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيوية ، وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة ، واعلم أن هذا الدليل يمكن تقريره من وجوه كثيرة ، وقد لخصناها في أول سورة يونس بالاستقصاء ، فلا سبيل إلى التكرير فثبت بما ذكرا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلاً وإذا لم يكن خلقهما باطلاً كان القول بالحشر والنشر لازماً ، وأن كل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكاً في حكمة الله في خلق السماء والأرض/ وهذا هو المراد من قوله : {ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ا فَوَيْلُُ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ولما بين الله تعالى على سبيل الإجمال أن إنكار الحشر والنشر يوجب الشك في حكمة الله تعالى بين ذلك على سبيل التفصيل ، فقال : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وتقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء ، ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة ، فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي ، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، وإذا كان ذلك قادحاً في الحكمة ، ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة الله.
ثم قال تعالى : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِه وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية ، وهذا يفيد أمرين أحدهما : أن أفعال الله معللة برعاية المصالح والثاني : أنه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكل بخلاف قول من يقول إنه أراد الكفر من الكافر.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 396
المسألة الثانية : في تقرير نظم هذه الآيات فنقول ، لسائل أن يسأل فيقول إنه تعالى حكى في أول السورة عن المستهزئين من الكفار ، أنهم بالغوا في إنكار البعث والقيامة ، وقالوا : {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} (ص : 16) ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك لم يذكر الجواب ، بل قال : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} (ص : 17) ومعلوم أنه لا تعلق لذكر داود عليه السلام بأن القول بالقيامة حق ، ثم إنه تعالى أطنب في شرح قصة داود ، ثم أتبعه بقوله : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ} ومعلوم أنه لا تعلق لمسألة إثبات حكمة الله بقصة داود ، ثم لما ذكر إثبات حكمة الله وفرع عليه إثبات أن القول بالحشر والنشر حق ، ذكر بعده أن القرآن كتاب شريف فاضل كثير النفع والخير ، ولا تعلق لهذا الفصل بالكلمات المتقدمة ، وإذا كان كذلك كانت هذه الفصول فصولاً متباينة لا تعلق للبعض منها بالبعض ، فكيف يليق بهذا الموضع وصف القرآن بكونه كتاباً شريفاً فاضلاً ؟
هذا تمام السؤال والجواب أن نقول : أن العقلاء قالوا من أبلى بخصم جاهل مصر متعصب ، ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار ، وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد ، فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ، وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي ، بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى ، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى ، فحينئذ يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول ، فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة ، فإذا سلمها ، فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول ، وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعاً مفحماً ، إذا عرفت هذا فنقول إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} (ص : 16) فقال يا محمد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة ، واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة ، وهي قصة داود عليه السلام ، فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر ، ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة ، ثم قال في آخر القصة :
جزء : 26 رقم الصفحة : 396
(1/3807)

{ى دَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص : 26) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق ، ثم كأنه تعالى قال : وأنا لا آمرك بالحق فقط ، بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق ، ولا أفضي بالباطل ، فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق ، فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم الله يجب أن يكون بالحق لا بالباطل ، لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر ، لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحاً على المسلم في إيصال الخيرات إليه ، وذلك ضد الحكمة وعين الباطل ، فبهذا الطريق اللطيف أورد الله تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيراداً لا يمكنهم الخلاص عنه ، فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحماً ملزماً بهذا/ الطريق ، ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن ، لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل ، فقال : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِه وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ} فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرارل العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم ، حيث يراه في ظاهر الحال مقروناً بسوء الترتيب ، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب ، فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات ، وبالله التوفيق.
جزء : 26 رقم الصفحة : 396
399
واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله : {نِعْمَ الْعَبْدُ } فيه مباحث :
الأول : نقول المخصوص بالمدح في {نِعْمَ الْعَبْدُ } محذوف ، فقيل هو سليمان ، وقيل داود ، والأول أولى لأنه أقرب المذكورين ، ولأنه قال بعده {إِنَّه ا أَوَّابٌ} ولا يجوز أن يكون المراد هو داود ، لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ} (ص : 17) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضاً صفة داود لزم التكرار ، ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيهاً لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة ، فكان هذا أولى.
الثاني : أنه قال أولاً {نِعْمَ الْعَبْدُ } ثم قال بعده {إِنَّه ا أَوَّابٌ} وهذه الكلمة للتعليل ، فهذا يدل على أنه إنما كان {نِعْمَ الْعَبْدُ } لأنه كان أواباً ، فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفاً بأنه {نِعْمَ الْعَبْدُ } وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه ، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ورأس المعارف ورئيسها معرفة الله تعالى ، ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة الله تعالى ، ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى الله تعالى فكان أواباً ، فثبت أن كل من كان أواباً وجب أن يكون {نِعْمَ الْعَبْدُ } .
جزء : 26 رقم الصفحة : 399
أما قوله : {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} ففيه وجوه الأول : التقدير {نِعْمَ الْعَبْدُ } هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا الثاني : أنه ابتداء كلام. والتقدير اذكر يا محمد إذ عرض عليه كذا وكذا ، والعشي/ هو من حين العصر إلى آخر النهار عرض الخيل عليه لينظر إليها ويقف على كيفية أحوالها ، والصافنات الجياد الخيل وصفت بوصفين أولهما : الصافنات ، قال صاحب "الصحاح" : الصافن الذي يصفن قدميه ، وفي الحديث "كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا صفونا" أي قمنا صافنين أقدامنا ، وأقول على كلا التقديرين فالصفون صفة دالة على فضيلة الفرس والصفة الثانية : للخيل في هذه الآية الجياد ، قال المبرد : والجياد جمع جواد وهو الشديد الجري ، كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل ، فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها. أما حال وقوفها فوصفها بالصفون ، وأما حال حركتها فوصفها بالجودة ، يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال ، فإذا جرت كانت سراعاً في جريها ، فإذا طلبت لحقت ، وإذا طلبت لم تلحق ، ثم قال تعالى : {فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى} وفي تفسير هذه اللفظة وجوه الأول : أن يضمن أحببت معنى فعل يتعدى بعن ، كأنه قيل أنبت حب الخير عن ذكر ربي والثاني : أن أحببت بمعنى ألزمت ، والمعنى أني ألزمت حب الخيل عن ذكر ربي ، أي عن كتاب ربي وهو التوراة ، لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح والثالث : أن الإنسان قد يحب شيئاً لكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يزيد في مرضه ، والأب الذي يحب ولده الرديء ، وأما من أحب شيئاً ، وأحب أن يحبه كان ذلك غاية المحبة فقوله أحببت حب الخير بمعنى أحببت حبي لهذه الخيل.
ثم قال : {عَن ذِكْرِ رَبِّى} بمعنى أن هذه المحبة الشديدة إنما حصلت عن ذكر الله وأمره لا عن الشهوة والهوى/ وهذا الوجه أظهر الوجوه.
(1/3808)

جزء : 26 رقم الصفحة : 399
ثم قال تعالى : {حَتَّى تَوَارَتْ} أقول الضمير في قوله : {حَتَّى تَوَارَتْ} ، وفي قوله : {رُدُّوهَا} يحتمل أن يكون كل واحد منهما عائداً إلى الشمس ، لأنه جرى ذلك ماله تعلق بها وهو العشي ويحتمل أن يكون كل واحد منهما عائداً إلى الصافنات ، ويحتمل أن يكون الأول متعلقاً بالشمس والثاني بالصافنات ، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك ، فهذه احتمالات أربعة لا مزيد عليها فالأول : أن يعود الضميران معاني إلى الصافنات ، كأنه قال حتى توارت الصافنات بالحجاب ردوا الصافنات علي ، والاحتمال الثاني : أن يكون الضميران معاً عائدين إلى الشمس كأنه قال حتى توارت الشمس بالحجاب ردوا الشمس ، وروي أنه صلى الله عليه وسلّم لما اشتغل بالخيل فاتته صلاة العصر ، فسأل الله أن يرد الشمس فقوله : {رُدُّوهَا عَلَىَّ } إشارة إلى طلب رد الشمس ، وهذا الاحتمال عندي بعيد والذي يدل عليه وجوه الأول : أن الصافنات مذكورة تصريحاً ، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر الثاني : أنه قال : {إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وظاهر هذا اللفظ يدل على أن سليمان عليه السلام كان يقول إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي. وكان يعيد هذه الكلمات إلى أن/ توارت بالحجاب ، فلو قلنا المراد حتى توارت الصافنات بالحجاب كان معناه أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب ، ولو قلنا المراد حتى توارت الشمس بالحجاب كان معناه أنه كان يعيد عين هذه الكلمة من وقت العصر إلى وقت المغرب ، وهذا في غاية البعد الثالث : أنا لو حكمنا بعود الضمير في قوله حتى توارت إلى الشمس وحملنا اللفظ على أنه ترك صلاة العصر كان هذا منافياً لقوله : {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى} فإن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله الرابع : أنه بتقدير أنه عليه السلام بقي مشغولاً بتلك الخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر ؟
، فكان ذلك ذنباً عظيماً وجرماً قوياً ، فالأليق لهذه الحالة التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة ، فأما أن يقول على سبيل التهور والعظمة لإله العالم ورب العالمين ، ردوها علي بمثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجرم العظيم ، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير ، فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المطهر المكر الخامس : أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي ولا يقول ردوها علي ، فإن قالوا إنما ذكر صيغة الجمع للتنبيه على تعظيم المخاطب فنقول قوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 399
{رُدُّوهَا} لفظ مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم السادس : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان ذلك مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان الأمر كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وإظهاره ، وحيث لم يقل أحد ذلك علمنا فساده السابع : أنه تعالى قال : {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّـافِنَـاتُ الْجِيَادُ} ثم قال : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وعود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى ، وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد ، وأما العشي فأبعدهما فكان عود ذلك الضمير إلى الصافنات أولى ، فثبت بما ذكرنا أن حمل قوله : {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} على تواري الشمس وأن حمل قوله : {رُدُّوهَا عَلَىَّ } على أن المراد منه طلب أن يرد الله الشمس بعد غروبها كلام في غاية البعد عن النظم.
(1/3809)

ثم قال تعالى : {فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاعْنَاقِ} أي فجعل سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها ، قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها/ قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقرباً إلى الله تعالى ، وعندي أن هذا أيضاً بعيد ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله : {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة : 6) قطعها ، وهذا مما لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق ، أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم ألبتة من المسح العقر والذبح الثاني : القائلون لهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة فأولها : ترك الصلاة وثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة ، وقال صلى الله عليه وسلّم : "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وثالثها : / أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة ألبتة ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : {رُدُّوهَا عَلَىَّ } وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس وخامسها : أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم "نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله" ، فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها : وسادسها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 399
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} (ص : 17) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم اصبر يا محمد على سفاهتهم واذكر عبدنا داود : وذكر قصة داود ، ثم ذكر عقبيها قصة سليمان ، وكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد عليه اللام اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان ، وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة ، وصبر على طاعة الله ، وأعرض عن الشهوات واللذات ، فأما لو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً بهذا الموضع ، فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال بل التفسير المطابق للحق للألفاظ القرآن والصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين محمد صلى الله عليه وسلّم ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضاء الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس ، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله عن ذكر ربي ، ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها ، والغرض من ذلك المسح أمور الأول : تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها ، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقاً مطابقاً موافقاً ، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات ، وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها ، وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة ، فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بذلك الوجه ، فما قولك فيه ؟
فنقول لنا ههنا مقامان :
المقام الأول : أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها/ وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذ كرناه ، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 399
المقام الثاني : أن يقال هب أن لفظ الآية لا يدل عليه أنه كلام ذكره الناس ، فما قولك / فيه وجوابنا أن الدلالة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية ، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 399
401
اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام واختلفوا في المراد من قوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} ولأهل الحشو والرواية فيه قول ، ولأهل العلم والتحقيق قول آخر ، أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات :
(1/3810)

الأولى : قالوا إن سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده تحمله الريح فأخذها وقتل ملكها ، وأخذ بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبها وكانت تبكي أبداً على أبيها فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشياً مع جواريها يسجدن لها ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش الرماد فجلس عليه تائباً إلى الله تعالى ، وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوماً ، فأتاها الشيطان ساحب البحر على صورة سليمان. وقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان فأتى عليه الطير والجن والإنس ، وتغيرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته. فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال / أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ، ثم أخذ يخدم السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان ، فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة ، وقيل بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجداً لله ، ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان وأدخله في صخرة وألقاها في البحر.
جزء : 26 رقم الصفحة : 401
والرواية الثانية : للحشوية أن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان وكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها ، فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتب إلى الله.
والرواية الثالثة : لهم قالوا إن سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس ؟
فقال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه ، ثم ذكر الحكاية إلى آخرها.
إذا عرفت هذه الروايات فهؤلاء قالوا المراد من قوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} أن الله تعالى ابتلاه وقوله : {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه جَسَدًا} هو جلوس ذلك الشيطان على كرسيه.
والرواية الرابعة : أنه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيام فسلب ملكه وألقى على سريره شيطان عقوبة له.
(1/3811)

واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه الأول : أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء ، فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع. فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال/ ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية الثاني : أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد ، وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى والثالث : كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان ؟
ولا شك أنه قبيح الرابع : لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه ، وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأ ، فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر عنه ؟
فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء : الأول : أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتاً على ركسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب الثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في / سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره ، فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرساناً أجمعون ، فذلك قوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} الثالث : قوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ} بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه ، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه } منه {جَسَدًا} وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف إنه لحم على وضع وجسم بلا روح {ثُمَّ أَنَابَ} أي رجع إلى حال الصحة ، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة الرابع : أقول لا يبعد أيضاً أن يقال إنه ابتلاه الله تعالى بتلسيط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه ، وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي ، ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف ، وأعاد إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 401
أما قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى} فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية ، فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك ألبتة عن ترك الأفضل والأولى ، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأنهم أبداً في مقام هضم النفس ، وإظهار الذلة والخضوع ، كما قال صلى الله عليه وسلّم : "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى } دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم بعده طلب المملكة. وأيضاً الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولاً ثم توسل به إلى طلب المملكة ، ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضاً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح : 10 ــــ 12) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } فإن قيل قوله عليه السلام : {مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى } مشعر بالحسد/ والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي ، هو أن يعطيه الله ملكاً لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه ألبتة ، فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال : {الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} فكون الريح جارياً بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب ، ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته فكان قوله : {وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى }
جزء : 26 رقم الصفحة : 401
(1/3812)

هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها ، فقوله : {لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى } يعني لا يقدر / أحد على معارضته والوجه الثاني : في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر ، فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره ، وذلك الذي سأله بقوله : {مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى } أي ملكاً لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري الوجه الثالث : في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال القدرة عليها ، فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية ، حتى أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل الوجه الرابع : من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب ، لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة ، والنقد يصعب بيعه بالنسيئة ، فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر ، حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى الوجه الخامس : أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة ، فقال سليمان يا رب العزة أعظني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها ، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها ، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا ، ثم قال : {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِه رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} رخاء أي رخوة لينة وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة ، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في آية أخرى {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِه } قلنا الجواب من وجهين الأول : لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء والوجه الثاني : من الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين وقوله تعالى : {حَيْثُ أَصَابَ} أي قصد وأراد ، وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما ، فقال أين تصيبان ؟
فقالا هذا مطلوبنا. وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتى صارت تجري بأمره على وفق إرادته ، ثم قال والشياطين كل بناء وغواص ، قال صاحب "الكشاف" الشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على قوله : {كُلَّ بَنَّآءٍ} وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ ، وقوله : {مُقَرَّنِينَ} يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضاً ، قال النابغة :
جزء : 26 رقم الصفحة : 401
ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد فعلى هذا الصفد القيد لكل من شددته شداً وثيقاً فقد صفدته/ وكل من أعطيته عطاء جزيلاً فقد أضفدته ، وههنا بحث ، وهو أن هذه الآيات دالة على أن الشياطين لها قوة عظيمة ، وبسبب تلك القوة قدرو على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر ، وقدروا / على الغوص في البحار ، واحتاج سليمان عليه السلام إلى قيدهم ، ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة ، إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم ، فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها ، وذلك دخول في السفسطة ، وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة ، بل لطيفة رقيقة ، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً بالقوة الشديدة ، وأيضاً لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال ، وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية ، وأيضاً الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة ، فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا ؟
ولم لا يخربون ديار الناس ؟
مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم. وحيث لم يحس شيء من ذلك ، علمنا أن القول بإثبات الجن والشياطين ضعيف.
واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها ، وأيضاً لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ، ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق. وأما الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام ، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان ، ثم إنه لما توفي سليمان عليه السلام ، أمات الله أولئك الجن والشياطين ، وخلق نوعاً آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة ، ولا يكون لهم شيء من القوة ، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس.
(1/3813)

ثم قال تعالى : {الاصْفَادِ * هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وفيه قولان الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت بغير حساب ، أي ليس عليك حرج فيما أعطيت وفيما أمسكت الثاني : أن هذا في أمر الشياطين خاصة ، والمعنى هؤلاء الشياطين المسخرون عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فحل عنه ، واحبس من شئت منهم في العمل بغير حساب.
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على سليمان في الدنيا ، أردفه بإنعامه عليه في الآخرة ، فقال : {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَا وَإِنَّ لَه عِندَنَا} وقد سبق تفسيره.
جزء : 26 رقم الصفحة : 401
403
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة ، واعلم أن داود وسليمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء ، وأيوب كان ممن خصه الله تعالى بأنواع البلاء ، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار. كأن الله تعالى قال : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثرلا نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليه السلام ، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب ، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد ، وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : أيوب عطف بيان ، وإذ بدل اشتمال منه {أَنِّى مَسَّنِىَ} أي بأني مسني حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب ، وقرىء : {بِنُصْبٍ} بضم النون وفتحها مع سكون الصاد وفتحها وضمها ، فالنصب والنصب ، كالرشد والرشد ، والعدم والعدم ، والسقم والسقم ، والنصب على أصل المصدر ، والنصب تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة والعذاب والألم.
واعلم أنه كان قد حصل عنده نوعان من المكروه : الغم الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات ، والألم الشديد في الجسم ولما حصل هذان النوعان لا جرم ، ذكر الله تعالى لفظين وهما النصب والعذاب.
المسألة الثانية : للناس في هذا الموضع قولان الأول : أن الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان الثاني : أنها إنما حصلت بفعل الله ، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة ، وإلقاء الخواطر الفاسدة.
وأما القول الأول : فتفريره ما روي أن إبليس سأل ربه ، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني ؟
فقال الله : نعم عبدي أيوب ، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه ، فقال : يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله ، وكان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا ، فيقول الله أعطى والله أخذ ، ثم يحمد الله ، فقال : يا رب إني أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده ، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية ، فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه ، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده ، فأذن فيه ، فنفخ في جلد أيوب ، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه ، فمكث في ذلك البلاء سنين ، حتى صار بحيث استقذره أهل بلده ، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد ، فجاء الشيطان إلى امرأته ، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء ، فذكرت المرأة ذلك لزوجها ، فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة ، وعند هذه الواقعة قال : / {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فأجاب الله دعاءه ، وأوحى إليه {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } فأظهر الله من تحت رجله عيناً باردة طيبة فاغتسل منها ، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ، ورد عليه أهله وماله.
جزء : 26 رقم الصفحة : 403
(1/3814)

والقول الثاني : أن الشيطان لا قدرة له ألبتة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام ، والدليل عليه وجوه الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان ، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان/ ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات ، فقد حصل بفعل الشيطان ، وحينئذٍ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم ، هو الله تعالى الثاني : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ، ولم لا يخرب دورهم ، ولم لا يقتل أولادكم الثالث : أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة ، وذلك يدل على قول من يقول إن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض والآفات ، فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان ؟
قلنا فإذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى ، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك ؟
بل الحق أن المراد من قوله : {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة كان يلقيه في أنواع العذاب والعناء ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوهاً الأول : أن علته كانت شديدة الألم ، ثم طالت مدة تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ، ولم يبق له شيء من الأموال ألبتة. وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت ، ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن الاشتغال بخدمتهم ، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت ، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس ، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله ، وقال : {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد. الثاني : أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال : {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ} ، الثالث : قيل إن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك ، فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى الله تعالى وقال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 403
(1/3815)

{أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ، الرابع : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أنه بقي أيوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلا رجلين ، ثم قال أحدهما لصاحبه لقد أذنب أيوب ذنباً ما أتى به أحد من العالمين ، ولولاه ما وقع في مثل هذا البلاء ، فذكروا ذلك / لأيوب عليه السلام ، فقال : لا أدري ما تقولان غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في الحق" الخامس : قيل إن امرأته كانت تخدم الناس فتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب ، فاتفق أنهم ما استخدموها ألبتة وطلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت ، ثم في اليوم الثاني ففعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة. وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة ، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه واشتد غمه ، فعند ذلك قال : {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ، السادس : قال في بعض الأيام : يا رب لقد علمت ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك ، ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ، ولابن السبيل معيناً ، ولليتامى أباً! فنودي من غمامة يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق ؟
فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه ، وقال منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال : {مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وقد ذكروا أقوالاً أخرى ، والله أعلم بحقيقة الحال ، وسمعت بعض اليهود يقول : إن لموسى بن عمران عليه السلام كتاباً مفرداً في واقعة أيوب ، وحاصل ذلك الكتاب أن أيوب كان رجلاً كثير الطاعة لله تعالى مواظباً على العبادة ، مبالغاً في التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، ثم إنه وقع في البلادء الشديد والعناء العظيم ، فهل كان ذلك لحكمة أم لا ؟
فإن كان ذلك لحكمة فمن المعلوم أنه ما أتى بجرم في الزمان السابق حتى يجعل ذلك العذاب في مقابلة ذلك الجرم ، وإن كان ذلك لكثرة الثواب فالإله الحكيم الرحيم قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام الطويلة والأسقام الكريهة. وحينئذٍ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة ، وهذه كلمات ظاهرة جلية وهي دالة على أن أفعال ذي الجلال منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد ، والحق الصريح أنه {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23).
جزء : 26 رقم الصفحة : 403
المسألة الثالثة : لفظ الآية يدل على أن ذلك النصب والعذاب إنما حصل من الشيطان ثم ذلك العذاب على القول الأول عبارة عما حصل في بدنه من الأمراض ، وعلى القول الثاني عبارة عن الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب إلقاء الوساوس ، وعلى التقديرين فيلزم إثبات الفعل للشيطان ، وأجاب أصحابنا رحمهم الله بأنا لا ننكر إثبات الفعل للشيطان لكنا نقول فعل العبد مخلوق لله تعالى على التفصيل المعلوم.
أما قوله تعالى : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } فالمعنى أنه لما شكى من الشيطان ، فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله إليه بأن قال له : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } والركض هو الدفع القوي بالرجل ، ومنه ركضك الفرس ، والتقدير قلنا له اركض برجلك ، قيل إنه ضرب رجله تلك الأرض فنبعت عين فقيل : {هَـاذَا مُغْتَسَلُا بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي هذا ماء تغتسل به فيبرأ باطنك ، وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء اغتسل فيه وشرب منه. والمفسرون قالوا نبعت له / عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى ، فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله ، وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها.
ثم قال تعالى : {وَوَهَبْنَا لَه ا أَهْلَه } فقد قيل هم عين أهله وزيادة مثلهم ، وقيل غيرهم مثلهم ، والأول : أولى لأنه هو الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : معناه أزلنا عنهم السقم فعادوا أصحاء ، وقال بعضهم : بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا. وقال بعضهم : بل تمكن منهم وتمكنوا منه فيما يتصل بالعشرة وبالخدمة.
أما قوله : {وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} فالأقرب أنه تعالى متعه بحصته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك ، وقال الحسن رحمه الله : المراد بهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا.
ثم قال : {رَحْمَةً مِّنَّا} أي إنما فعلنا كل هذه الأفعال على سبيل الفضل والرحمة ، لا على سبيل اللزوم.
(1/3816)

ثم قال : {وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} يعني سلطناً البلاء عليه أولاً فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلى الآلاء والنعماء ، تنبيهاً لأولي الألباب على أن من صبر ظفر ، والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد : {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ} وقالت المعتزلة قوله تعالى : {رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد ، وذلك يدل على أن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 403
أما قوله تعالى : {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} فهو معطوف على اركب والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه ، وفي الخبر أنه حلف على أهله ، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها ، ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان ، ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات ، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برىء ، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها ، السلام تارة ، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقالوا إن قوله تعالى : {نِعْمَ الْعَبْدُ } في حق سليمان تشريف عظيم ، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه ، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه ، فكيف السبيل إلى تحصيله. فأنزل الله تعالى قوله : {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال : 40) والمراد أنك إن لم تكن {نِعْمَ الْعَبْدُ } فأنا {نِعْمَ الْمَوْلَى } وإن كان منك الفضول ، فمني الفضل ، وإن كان منك التقصير ، فمني الرحمة والتيسير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 403
406
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير : {عَبْدَنَآ} على الواحد وهي قراءة ابن عباس ، ويقول إن قوله : {عَبْدَنَآ} تشريف عظيم ، فوجب أن يكون هذا التشريف مخصوصاً بأعظم الناس المذكورين في هذه الآية وهو إبراهيم وقرأ الباقون : {عِبَـادَنَآ} قالوا : لأن غير إبارهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في عيسى : {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} (الزخرف : 59) وفي أيوب : {نِعْمَ الْعَبْدُ } (ص : 44) وفي نوح : {إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء : 3) فمن قرأ (عبدنا) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له ، ثم عطف ذريته على عبدنا وهي إسحق ويعقوب ، ومن قرأ (عبادنا) جعل إبراهيم وإسحق ويعقوب عذف بيان لعبادنا.
المسألة الثانية : تقدير اةية كأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واذكر عبادنا داود إلى أن قال : واذكر عبادنا إبراهيم أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار ، وصبر إسحق للذبح ، وصب يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره. ثم قال : {أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ} ، واعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر. إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة ، أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة الله ، وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة/الله ، وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل ، فقوله : {أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ} إشارة إلى هاتين الحالتين.
ثم قال تعالى : {إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {بِخَالِصَةٍ} قرىء بالتنوين والإضافة فمن نون كان التقدير أخلصناهم أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خالصة لا شوب فيها وهي ذكرى الدار ، ومن قرأ بالإضافة فالمعنى بما خلص من ذكرى الدار ، يعني أن ذكرى الدار قد تكون لله وقد تكون لغير الله ، فالمعنى إنا أخلصناهم بسبب ما خلص من هذا الذكر.
جزء : 26 رقم الصفحة : 406
المسألة الثانية : في ذكرى الدار وجوه الأولى : المراد أنهم استغرقوا في ذكرى الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا الثاني : المراد حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة الثالث : المراد أنه تعالى أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقبل دعاءهم في قوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84).
(1/3817)

ثم قال تعالى : {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ} أي المختارين من أبناء جنسهم والأخياء جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت ، واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق ، وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء وبدليل دفع الإجمال.
ثم قال : {وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِا وَكُلٌّ مِّنَ الاخْيَارِ} وهم قوم آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله ، وقد ذكرنا الكلام في شرح هذه الأسماء وفي صفات هؤلاء الأنبياء في سورة الأنبياء وفي سورة الأنعام ، فلا فائدة في الإعادة/ وههنا آخر الكلام في قصص الأنبياء في هذه السورة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 406
408
اعلم أن في قوله : {ذِكْرِ} وجهين الأول : أنه تعالى إنما شرح ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأجل أن يصبر محمد عليه السلام على تحمل سفاهة قومه فلما تمم بيان هذا الطريق وأراد أن يذكر عقيبه طريقاً آخر يوجب الصبر على سفاهة الجهال ، وأراد أن يميز أحد البابين عن الآخر ، لا جرم قال : {هَـاذَا ذِكْرٌ } ، ثم شرع في تقرير الباب الثاني فقال : {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} كما أن المصنف إذا تمم كلاماً قال هذا باب ، ثم شرع في باب آخر ، وإذا فرغ الكاتب من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر هذا وقد كان كيت وكيت ، والدليل عليه أنما لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يردفه بذكر أهل النار قال : {هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ} (ص : 55) الوجه الثاني : في التأويل ، أن المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام به أبداً ، والأول هو الصحيح.
أما قوله : {رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} .
فاعلم أنه تعالى لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلى الله عليه وسلّم بأن وصفوه بأنه ساحر كذاب ، وقالوا له على سبيل الاستهزاء {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} (ص : 16) فعند هذا أمر محمداً بالصبر على تلك السفاهة ، وبين أن ذلك الصبر لازم من وجهين الأول : أنه تعالى لما بين أن الأنبياء المتقدمين صبروا على المكاره والشدائد ، فيجب عليك أن تقدي بهم في هذا المعنى الثاني : أنه تعالى بين في هذه الآية أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا ، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا ، وكل ذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى ، وهذا نظم حسن وترتيب لطيف.
أما فقوله تعالى : {هَـاذَا ذِكْرٌا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} المآب المرجع. واحتج القائلون بقدم الأرواح بهذه الآية ، وبكل آية تشتمل على لفظ الرجوع ووجه الاستدلال ، أن لفظ الرجوع إنما يصدق لو كانت هذه الأرواح موجودة قبل الأجساد ، وكانت في حضرة جلال الله ثم تعلقت بالأبدان ، فعند انفصالها عن الأبدان يسمى ذلك رجوعاً وجوابه : أن هذا إن دل فإنما يدل على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان ، ولا يدل على قدم الأرواح.
جزء : 26 رقم الصفحة : 408
ثم قال تعالى : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ} وهو بدل من قوله : {لَحُسْنَ مَـاَابٍ} ثم قال : {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوهاً الأول : قال الفراء : معناه مفتحة لهم أبوابها ، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة ، تقول العرب : مررت برجل حسن الوجه ، فالألف واللام في الوجه يدل من الإضافة والثاني : قال الزجاج : المعنى : مفتحة لهم الأبواب منها الثالث : قال صاحب "الكشاف" {الابْوَابُ} بدل من الضمير ، وتقديره مفتحة/ هي الأبواب ، كقولك ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال.
المسألة الثانية : قرىء : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ} مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ} مبتدأ و{مُّفَتَّحَةً} خبره ، وكلاهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو جنات عدن مفتحة لهم.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء الأول : أحوال مساكنهم ، فقوله : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ} يدل على أمرين أحدهما : كونها جنات وبساتين والثاني : كونها دائمة آمنة من الانقضاء.
وفي قوله : {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ} وجوه الأول : أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام ، فيدخل كذلك محفوفاً بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة ، قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} (الزمر : 73). الثاني : أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم ، وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم الثالث : المراد من هذا الفتح ، وصف تلك المساكن بالسعة ، ومسافرة العيون فيها ، ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة.
ثم قال تعالى : {مُتَّكِـاِينَ فِيهَا} يدعون فيها ، وفيه مباحث :
(1/3818)

البحث الأول : أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة ، وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء ، فقال في آية : {عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ} (يس : 56) وقال في آية أخرى : {مُتَّكِـاِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} (الرحمن : 76).
جزء : 26 رقم الصفحة : 408
البحث الثاني : قوله : {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ} حال قدمت على العامل فيها وهو قوله : {يَدْعُونَ فِيهَا} والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها ثم قال : {بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب ، والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير ، والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة ، فرغبهم الله تعالى فيه.
ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح ، فقال : {وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ} وقد سبق تفسيره في سورة والصافات ، وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم ، وقوله : {أَتْرَابٌ} أي على سن واحد ، ويحتمل كون الجواري أتراباً ، ويحتمل كونهن أتراباً للأزواج ، قال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة ، أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية ، وذلك يقتضي عدم الغيرة.
ثم قال تعالى : {هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} يعني أن الله تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة ، ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال : {إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَه مِن نَّفَادٍ} .
جزء : 26 رقم الصفحة : 408
416
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين ، وصف بعده عقاب الطاغين ، ليكون الوعيد مذكوراً عقيب الوعد ، والترهيب عقيب الترغيب.
واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعاً فالأول : مرجعهم ومآبهم ، فقال : {هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ مَـاَابٍ} (ص : 55) وهذا في مقابلة قوله : {هَـاذَا ذِكْرٌا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} (ص : 49) فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين ، واختلفوا في المراد بالطاغين ، فأكثر المفسرين حملوه على الكفار ، وقال الجبائي : إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أو لم يكونوا كذلك ، واحتج الأولون بوجوه الأول : أن قوله : {لَشَرَّ مَـاَابٍ} يقتضي أن يكون مآبهم شراً من مآب غيرهم ، وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : {أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} وذلك لا يليق إلا بالكفار ، لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخرياً الثالث : أنه اسم ذم ، والاسم المطلق محمول على الكامل ، والكامل في الطغيان هو الكافر ، واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى : / {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة ، ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ، ذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب ، أي شر مرجع ومصير ، ثم قال : {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله : {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} ثم قال : {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} وهو كقوله : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } (الأعراف : 41) شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 416
ثم قال تعالى : {هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه وجهان الأول : أنه على التقديم والتأخير ، والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني : أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ، ثم يبتدىء فيقول : حميم وغساق.
المسألة الثانية : الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه الأول : أنه الذي يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها. وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني : قيل الحميم يحرق بحره ، والغساق يحرق ببرده ، وذكر الأزهري : أن الغاسق البارد ، ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث : أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع : قال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية.
المسألة الثالثة : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف. قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسماً أو صفة ، فإن كان اسماً فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلاً ، وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك.
ثم قال تعالى : {وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ} وفيه مسائل :
(1/3819)

المسألة الأولى : قرأ أبو عمر {وَءَاخَرُ} بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب ، وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر ، أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق ، أي من مثله في الشدة والفظاعة ، أزواج أي أجناس ، وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر ، وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله. قال صاحب "الكشاف" : وقرىء من شكله بالكسر وهي لغة ، وأما الغنجفبالكسر لا غير.
واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم/ في الدنيا أولاً ، ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانياً أما الأول : فهو قوله : {هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو قوله : {قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُم أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } ، وقيل إن قوله : {هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم ، وقوله : {لا مَرْحَبَا بِهِم إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} كلام الرؤساء ، وقوله : {هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال ، ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم ، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها ، والقحمة الشدة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 416
وقوله تعالى : {لا مَرْحَبَا بِهِمْ } دعاء منهم على أتباعهم ، يقول الرجل لمن يدعو له مرحباً أي أتيت رحباً في البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء ، وقوله : {بِهِمْ } بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } (الأعراف : 38) قالوا أي الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ } يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به ، وعللوا ذلك بقولهم : {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } والضمير للعذاب أو لصليهم ، فإن قيل ما معنى تقديمهم العذاب لهم ؟
قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى : {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (آل عمران : 181 ، 182) إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم ، والضمير في قوله : {قَدَّمْتُمُوهُ} كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله : {وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ مَـاَابٍ} وقوله : {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي : بئس المستقر والمسكن جهنم ، ثم قالت الأتباع {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا} أي مضاعفاً ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى : {رَبَّنَا هَـا ؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَـاَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} (الأعراف : 38) وكذلك قوله تعالى : {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} (الأحزاب : 67 ، 68) فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفاً ، وإن كان زائداً عليه كان ظالماً وإنه لا يجوز. قلنا المراد منه قوله عليه السلام : "ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال ، والثاني عذاب الإضلال والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 416
وههذنا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحباباً لهم في الدنيا ، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله : {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ} يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون : {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ} يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار ، إما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشراراً ثم قالوا : {أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} وفيه مسائل :
(1/3820)

/المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {مِّنَ الاشْرَارِ * أَتَّخَذْنَـاهُمْ} بوصل ألف {أَتَّخَذْنَـاهُمْ} والباقون بفتحها على الاستفهام ، قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ لأن الاستفهام متقدم في قوله : {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا} ، ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخرياً ، لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله : {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى ا أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى} (المؤمنون : 110) فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه ؟
أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ ، ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم ، أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لا بد من المصير إليه ليعادل قوله : {أَتَّخَذْنَـاهُمْ} بأم في قوله : {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ} فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله : {أَمْ زَاغَتْ} على القراءة الأولى ؟
قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون أم زاغت عنهم الأبصار.
المسألة الثانية : قرأ نافع {سِخْرِيًّا} بضم السين والباقون بكسرها ، وقيل هما بمعنى واحد وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير.
المسألة الثالثة : اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا ، أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار. ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم {أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا} وأما القراءة على سبيل الاستفهام ، فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخرياً وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار ، أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار ، واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لا بد وأن يتكلموا به ، ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو ، فقال : {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء {لا مَرْحَبَا بِهِمْ } وقول الأتباع {بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ } من باب الخصومة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 416
418
اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا الله واحد ، وإلى أنه رسول مبين من عند الله ، وإلى أن القول بالقيامة حق ، فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله ، ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين الأول : ليصير ذلك حاملاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم والثاني : ليصير ذلك رادعاً للكفار على ازصرار على الكفر والسفاهة وداعياً إلى قبول الإيمان ، ولما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقدير التوحيد والنبوة والبعث ، فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار ، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولاً ويجاب عنها ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب ، فكذا ههنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم ، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب ، لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي ، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه ، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
(1/3821)

أما قوله : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا مُنذِرٌ } يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد ، وأحوال ثواب من أقربها ، وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا } (ص : 5) فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال : {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزهاً عن الشريك والنظير ، وبيانه أن الذي يجعل شريكاً له في الإلهية ، إما أن يكون موجوداً قادراً على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك ، بل يكون جماداً عاجزاً والأول : باطل لأنه لو كان شريكه قادراً على الإطلاق لم يكن هو قادراً قاهراً ، لأن بتقدير أن يريد هو شيئاً ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر ، فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر ، وحينئذ لا يكون قادراً قاهراً بل كان عاجزاً ضعيفاً ، والعاجز لا يصلح للإلهية ، فقوله : {إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} إشارة إلى أن كونه قهاراً يدل على كونه واحداً وأما الثاني : وهو أن يقال إن الذي جعل شريكاً له لا يقدر على شيء ألبتة مثل هذه الأوثان ، فهذا أيضاً فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً فقوله : {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يدل على هذه الدلائل ، واعلم أن كونه سبحانه قهاراً مشعر بالترهيب والتخويف ، فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال : {رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّـارُ} فكونه رباً مشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود ، وكونه غفاراً مشعر بالترغيب/ وهذا الموجود هو الذي تجب عبادته ، لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى فضله وثوابه. / ونذكر طريقة أخرى في تفسير هذه الآيات ، فنقول إنه تعالى ذكر من صفاته في هذا الموضع خمسة الواحد والقهار والرب والعزيز والغفار ، أما كونه واحداً فهو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل الحق وبين المشركين واستدل تعالى على كونه واحداً بكونه قهاراً وقد بينا وجه هذه الدلالة إلا أن كونه قهاراً وإن دل على إثبات الوحدانية إلا أنه يوجب الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دالة على الرحمة والفضل والكرم أولها : كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما وهذا إنما تتم معرفته بالنظر في آثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ، وذلك بحر لا ساحل له فإذا تأملت في آثار حكمته ورحمته في خلق هذه الأشياء عرفت حينئذ تربيته للكل وذلك يفيد الرجاء العظيم وثانيها : كونه عزيزاً والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وكريم إلا أنه غير قادر على كل المقدورات ، فأجاب عنه بأنه عزيز أي قادر على كل الممكنات فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء وثالثها : كونه غفاراً والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومحسن ولكنه يكون كذلك في حق المطيعين المخلصين في العبادة ، فأجاب عنه بأن من بقي على الكفر سبعين سنة ثم تاب فإني أزيل اسمه عن ديوان المذنبين وأستر عليه بفضلي ورحمتي جميع ذنوبه وأوصله إلى درجات الأبرار ، واعلم أنه تعالى لما بين ذلك قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
{قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} وهذا النبأ العظيم يحتمل وجوهاً فيمكن أن يكون المراد أن القول بأن الإله واحد نبأ عظيم ، ويمكن أن يقال المراد أن القول بالنبوة نبأ عظيم ، ويمكن أن يقال المراد أن القول بإثبات الحشر والنشر والقيامة نبأ عظيم ، وذلك لأن هذه المطالب الثلاثة كانت مذكورة في أول السورة ولأجلها أنجز الكلام إلى كل ما سبق ذكره ، ويمكن أيضاً أن يكون المراد كون القرآن معجزاً لأن هذا أيضاً قد تقدم ذكره في قوله : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِه } (ص : 29) وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال {قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} واعلم أن قوله : {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} ترغيب في النظر والاستدلال ومنع من التقليد ، لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية ، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق يفوز بأعظم أبواب السعادة ، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل وقع في أعظم أبوبا الشقاوة فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية ، وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
(1/3822)

أما قوله تعالى : {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْما بِالْمَلا الاعْلَى ا إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربعة ، وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه : الأول : أن كل واحد منها نبأ عظيم ، والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه الثاني : أن الملأ الأعلى اختصموا وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةًا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَا قَالَ} (البقرة : 30) والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق / البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله : {مَن يُفْسِدُ فِيهَا} وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله : {وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} فقال الله سبحانه وتعالى : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وتقرير هذا الجواب والله أعلم/ أن يقال أن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة : أحدها : الذين حصل لهم العقل والحكمة ، ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم الملائكة فقط ثانيها : الذين حصل لهم النفس والشهوة ، ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي البهائم وثالثها : الأشياء الخالية عن القسمين ، وهي الجمادات وبقي في التقسيم قسم رابع : وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان والمقصود من تخليق الإنسان ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة ، فقوله {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} يعني أن هذا النوع من المخلوقات ، وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء ، لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة ، وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات ، وأن يجتهد في اكتسابها ، وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر ، وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعياً له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجراً له عن أضدادها ومقابلاتها ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذا الكلام في هذا المقام. فإن قيل الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30) فإن المخاصمة مع الله كفر ، قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب ، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز ، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ، ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم لم يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول : {إِن يُوحَى ا إِلَىَّ إِلا أَنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي ، وإنما أوحى الله إليّ هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
418
اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر ، وذلك لأن إبليس ، إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر ، والكفار إنما نازعوا محمداً عليه السلام بسبب الحسد والكبر ، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال ، ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أموراً أربعة أولها : أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه والثاني : أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر الثالث : أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما ، فهذا هو وجه النظم في هذه الآياع ، واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة ، فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه وفيها مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} سؤالات :
الأول : أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين ، كما إذا قيل أنا متخذ سواراً من ذهب ، فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة.
/الثاني : ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين ، وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله : {مِن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر : 26) وكقوله : {خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } (الأنبياء : 37).
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
(1/3823)

الثالث : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشراً من طين. لم يقولوا شيئاً ، وفي الآية الأخرى وهي التي قال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً } (البقرة : 30) بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض ، والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولاً أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية ، فلما قال : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات ، إنما أخلقه من الطين ، والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب ، وأقرب منه الطين ، وأقرب منه الحمأ المسنون ، وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل ، والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة ، وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين.
المسألة الثانية : قال {فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولاً/ ثم نفخ الروح ثانياً ، وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس.
أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني ، والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة ، وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة ، ولا بد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها ، ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها ، ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة.
وأما النفس فإليها الإشارة بقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي ، وذهبت الحلولية إلى أن كلمة (من) تدل على التبعيض ، وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله تعالى ، وهذا غاية الفساد ، لأن كل ما له جزء وكل ، فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث.
وأما كيفية نفخ الروح ، فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية ، علوية العنصر ، قدسية الجوهر ، وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء ، وسريان النار في الفحم ، فهذا القدر معلوم. أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة : الفاء في قوله : {فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ} تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود ، وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض ، أو دخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل ، والروح الأعظم المذكور في قوله : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا } (النبأ : 38) ففيه مباحث عميقة. وقال بعض الصوفية : الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم ، هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية ، فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة ، / وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل ، والكلام فيه طويل. وأما بقية المسائل وهي : كيفية سجود الملائكة لآدم ، وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا ، وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا ، وأنه هل كان كافراً ، أصلياً أم لا ، فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
المسألة الرابعة : احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } في إثبات يدين لله تعالى ، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه ، فوجب المصير إليه ، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية ، فوجب القطع به.
(1/3824)

واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأجزاء والأعضاء ، قد سبقت إلا أنا نذكر ههنا نكتاً جارياً مجرى الإلزامات الظاهرة فالأول : أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء ، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها ، وإما أن يزيد عليها ، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح ، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيوناً كثيرة لقوله : {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} (القمر : 14) وأن يثبت جنباً واحداً لقوله تعالى : {نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} (الزمر : 56) وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} (يس : 71) وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وسلّم : "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" وأن يثبت له ساقاً واحداً لقوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} (القلم : 42) فيكون الحاصل من هذه الصورة ، مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة ، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد/ ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور ، ولو كان هذا عبداً لم يرغب أحد في شرائه ، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة.
وأما القسم الثاني : وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن ، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات ، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر ، ولا بد له من قبول دلائل العقل.
الحجة الثانية : في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء لله تعالى ، فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل وأن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى ، وإن نفوهما فهو خصي أو عنين ، وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
الحجة الثالثة : أنه في ذاته سبحانه وتعالى ، إما أن يكون جسماً صلباً لا ينغمز ألبتة ، فيكون حجراً صلباً ، وإما أن يكون قابلاً للانغماز ، فيكون ليناً قابلاً للتفرق والتمزق. وتعالى الله عن ذلك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
الحجة الرابعة : أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه ، كان كالزمن المعقد العاجز ، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه ، كان محلاً للتغيرات ، فدخل تحت قوله : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76).
/الحجة الخامسة : إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت ، وإن كان يفعل هذه الأشياء ، كان إنساناً كثير التهمة محتاجاً إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل.
الحجة السادسة : أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا ، فنقول لهم حين نزوله : هل يبقى مدبراً للعرش ويبقى مدبراً للسماء الدنيا حين كان على العرش ، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة ، وإن لم يبق مدبراً للعرش فعند نزوله يصير معزولاً عن إلهية العرش والسموات.
الحجة السابعة : أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش ، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي ، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا ، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر ، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيراً بحيث تسعه السماء الدنيا ، وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش ، وكل ذلك باطل.
الحجة الثامنة : ثبت أن العالم كرة ، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كانت تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل ، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل ، فحينئذ يكون جسماً محيطاً بهذا العالم من كل الجوانب ، فيكون إله العالم على هذا القول فلكاً من الأفلاك.
الحجة التاسعة : لما كانت الأرض كرة ، وكانت السموات كرات ، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض ، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبداً نازلاً عن العرش ، وأن لا يرجع إلى العرش ألبتة.
الحجة العاشرة : أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها : كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض وثانيها : كونه محدوداً متناهياً وثالثها : كونه موصوفاً بالحركة والسكون والطلوع والغروب ، فإذا كان إله المشبهة مؤلفاً من الأعضاء والأجزاء كان مركباً ، فإذا كان العرش كان محدوداً متناهياً ، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفاً بالحركة والسكون ، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للألهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها ، وذلك يبطل قول المشبهة ، وإن لم تكن منافية للأهلية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة ، وذلك ينافي كونه مركباً من الأجزاء والأبعاض.
(1/3825)

الحجة الثانية عشرة : قوله تعالى : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } (محمد : 38) ولو كان مركباً من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجاً إليها وذلك يمنع من كونه غنياً على الإطلاق/ فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال ، ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه الله تعالى ، عن هذه الأعضاء ، فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوهاً الأول : أن اليد عبارة عن القدرة تقول العرب ما لي بهذا الأمر من يد ، أي من قوة وطاقة ، قال تعالى : {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (البقرة : 237) ، / الثاني : اليد عبارة عن النعمة يقال أيادي فلان في حق فلان ظاهرة والمراد النعم والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا الثالث : أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت يداك وكقوله تعالى : {بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } (الأعراف : 57).
ولقائل أن يقول حمل اليد على القدرة ههنا غير جائز ، ويدل عليه وجوه الأول : أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين ، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين لله وهو باطل والثاني : أن الآية تقتضي أن كون آدم مخلوقاً باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجوداً للملائكة ، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم مخلوقاً بالقدرة ، لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة الله تعالى فكما أن آدم عليه السلام مخلوق بيد الله تعالى ، فكذلك إبليس مخلوق بيد الله تعالى ، وعلى تقدير أن تكون عبارة عن القدرة ، لم تكن هذه العلة علة لكون آدم مسجوداً لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجوداً لآدم ، وحينئذٍ يختل نظم الآية ويبطل الثالث : أنه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "كلتا يديه يمنى" ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة.
وأما التأويل الثاني : وهو حمل اليدين على النعمتين فهو أيضاً باطل لوجوه الأول : أن نعم الله تعالى كثيرة كما قال : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الإثنتين الثاني : لو كانت اليد عبارة عن النعمة فنقول النعمة مخلوقة لله فحينئذٍ لا يكون آدم مخلوقاً لله تعالى بل يكون مخلوقاً لبعض المخلوقات ، وذلك بأن يكون سبباً لمزيد النقصان أولى من أن يكون سبباً لمزيد الكمال الثالث : لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله : {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك : 1) معناه تبارك الذي بنعمته الملك ولكان قوله : "بيدك الخير" معناه بنعمتك الخير ولكان قوله : {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة : 64) معناه نعمتان مبسوطتان ، ومعلوم أن كل ذلك فاسد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
وأما التأويل الثالث : وهو قوله إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد فنقول لفظ اليد قد يستعمل في حق من يكون هذا العضو حاصلاً له وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلاً في حقه أما الأول : فكقولهم في حق من جنى بلسانه هذا ما كسبت يداك والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد فطلق اسم اليد على القدرة ، وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة ، وقد تقدم إبطال هذا الوجه وأما الثاني : فكقوله {بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ : 46) وقوله : (بين يدي الساعة) إلا أنا نقول هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور والمجاز لا يقاس عليه ولا يكون مطرداً ، فلا جرم لا يجوز أن يقال إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة ، ونحن نسلم أن قوله : {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِه } (الحجرات : 1) قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة ، أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ بل قوله تعالى : {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } وإن كان القياس في المجازات باطلاً فقد سقط كلامكم بالكلية ، فهذا منتهى البحث في هذا الباب.
والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت / غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل/ فإذا كان العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازاً عنه عند قيام الدلائل القاهرة. فهذا ما لخصناه في هذا الباب ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} فالمعنى : استكبرت الآن أم كنت أبداً من المتكبرين العالين ، فأجاب إبليس بقوله : {أَنَا خَيْرٌ مِّنْه خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} فالمعنى أني لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين ، فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيراً من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة :
المقدمة الأولى : أن إبليس مخلوق من النار ، يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : {خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} وقوله تعالى : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر : 27).
(1/3826)

جزء : 26 رقم الصفحة : 418
المقدمة الثانية : أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه الأول : أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض الثاني : أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض ، فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض الثالث : أن الكيفية الفاعلة الأصلية ، إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت الرابع : الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة الخامس : النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة السادس : النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح السابع : النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط الثامن : أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي ، ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي التاسع : أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس ، مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت والأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضاً من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه ، وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر العاشر : أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار الحادي عشر : أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره الثاني عشر : أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات الثالث عشر : أن أقوى العناصر/ الأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض. أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضاً وجوهاً الأول : أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني : أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث : أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار ، وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
وأما المقدمة الثالثة : فهي أن من كان أصله خيراً من أصله فهو خير منه ، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جداً وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة وهو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد/ وأيضاً فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضاً بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه ، إلا أن الذي لا يكون نسبياً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها ، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة ، فإن قال قائل هب أن إبليس أخظأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة ؟
وبيان هذا السؤال من وجوه الأول : أن قوله : {اسْجُدُوا } أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلاً عن الكفر ، وأيضاً فالذين يقولون : إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملاً للندب احتمالاً ظاهراً ومع قيام هذا الأحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر الثاني : هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث : خب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب : هب أن صيفة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب ، وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى : {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى : {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} .
(1/3827)

واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف وههنا الحكم بكونه رجيماً ورد عقيب ما حكي عنه أنه خصص النص بالقياس ، فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم ، وقوله : {مِنْهَا} أي : من الجنة أو من السموات والرجيم المرجوم وفيه قولان :
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
الأول : أنه مجاز عن الطرد ، لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمي بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد فإن قالوا : الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله : {رَجِيمٌ} على الطرد لكان قوله بعد ذلك : {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } تكراراً والجواب من وجهين الأول : أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله والثاني : أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله : {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ولا يكون تكريراً.
والقول الثاني : في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة وهو كون الشياطين مركومين بالشهب والله أعلم. فإن قيل كلمة إلى لإنتهاء الغاية فقوله : {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين ، أجاب صاحب "الكشاف" بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية.
واعلم أن إبليس لما صار ملعوناً قال : {فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قيل إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضاً فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى : {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} ومعناه إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه ، فقال إبليس : {فَبِعِزَّتِكَ} وهو قسم بعزة الله وسلطانه {لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه وهو على مذهب القدر وقال مرة أخرى : {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبر وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة.
وأما قوله : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ففيه فوائد :
الفائدة الأولى : قيل غرض إبليس من ذكره هذا لإستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله الصالحين ، فكأن إبليس قال : إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام ، وعن هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه ؟
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ا أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِه } ؟
(الحج : 52) قلنا : إن إبليس لم يقل إني لم أقصد إغواء عباد الله الصالحين بل قال : لأغوينهم وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
الفائدة الثانية : هذه الآية تدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين ، وقال تعالى في صفة يوسف : {إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف : 24) فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوي يوسف عليه السلام ، وذلك يدل على كذب الحشوية فيما ينسبون إلى يوسف عليه السلام من القبائح.
واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى : {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة {فَالْحَقُّ} بالرفع {وَالْحَقَّ} بالنصب ، والباقون بالنصب فيهما. أما الرفع فتقديره فالحق قسمي. وأما النصب فعلى القسم ، أي فبالحق ، كقولك والله لأفعلن. وأما قوله : {وَالْحَقَّ أَقُولُ} انتصب قوله : {وَالْحَقَّ} بقوله : {أَقُولُ} .
المسألة الثانية : قوله : {مِنكَ} أي من جنسك ، وهم الشياطين {وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من ذرية آدم ، فإن قيل قوله : {أَجْمَعِينَ} تأكيد لماذا ؟
قلنا, يحتمل أن يؤكد به الضمير في {مِنْهُمْ} ، أو الكاف في {مِنكَ} مع من تبعك ، ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحداً.
(1/3828)

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول : أنه تعالى قال في حق إبليس : {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن ، فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذباً وهو محال ، فكان صدور الإيمان منه محالاً مع أنه أمر به والثاني : أنه قال : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فالله تعالى علم منه أنه يغويهم ، وسمع منه هذه الدعوى ، وكان قادراً على منعه عن ذلك ، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضياً به ، فإن قالوا : لعل ذلك المنع مفسد ، قلنا : هذا قول فاسد ، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال ، ويخلص بني آدم عن الضلال ، وهذا عين المصلحة الثالث : أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة ، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع : أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين ، وأن يميت إبليس والشياطين ، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس : أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان ، يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة ، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 418
422
اعلم أن الله تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة ، وذلك لأنه تعالى ذكر طرقاً كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين ، ثم قال عند الختم : هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي ، وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أبو باطل. أما الداعي وهو أنا. فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجراً ومالاً ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طعمه عن طلب المال ألبتة ، وكان من الظاهر أنه صلى الله عليه وسلّم كان بعيداً عن الدنيا عديم الرغبة فيها ، وأما كيفية الدعوة/ فقال : وما أنا من المتكلفين ، والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً ، والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة ، بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته ، فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود الله أولاً : ثم أعوكم ثانياً : إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به ، يقوي ذلك قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } وأمثاله ، ثم أدعوكم ثالثاً : إلى الإقرار بكونه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة ، ثم أدعوكم رابعاً : إلى الإقرار بكونه منزهاً عن الشركاء والأضداد ، ثم أعوكم خامساً : إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان ، التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها ، ثم أدعوكم سابعاً : إلى الإقرار بالبعث والقيامة : {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَا اُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم : 31) ثم أدعوكم ثامناً : إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، فهذه الأصول الثمانية ، هي الأصول القوية المعتبرة في دين الله تعالى ، ودين محمد صلى الله عليه وسلّم وبدائه العقول ، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية ، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها. بل كان عقل سليم وطبع مستقيم ، فإنه يشهد بصحتها وجلالتها ، وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} ولما بين هذه المقدمات قال : {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِين } والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد ، وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها ، فستعلمون بعد حين أنكم كمنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين ، وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب ، والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 422
427
(1/3829)

سورة الزمر
سبعون وخمس آيات مكية
جزء : 26 رقم الصفحة : 427
429
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الفراء والزجاج : في رفع {تَنزِيلُ} وجهين أحدهما : أن يكون قوله : {تَنزِيلُ} مبتدأ وقوله : {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} خبر الثاني : أن يكون التقدير هذا تنزيل الكتاب ، فيضمر المبتدأ كقوله : سورة أنزلناها} (النور : 1) أي هذه سورة ، قال بعضهم : الوجه الأول لوجوه الأول : أن الإضمار خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا لضرورة ، ولا ضرورة ههنا الثاني : أنا إذا قلنا : (النور : 1) أي هذه سورة ، قال بعضهم : الوجه الأول لوجوه الأول : أن الإضمار خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا لضرورة ، ولا ضرورة ههنا الثاني : أنا إذا قلنا : {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد قائدة شريفة ، وهي أن تنزيل/ الكتاب يكون من الله ، لا من غيره وهذا الحصر معنى معتبر ، أما إذا أضمرنا المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة الثالث : أنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير هذا تنزيل الكتاب من الله ، وحينئذ يلزمنا مجاز آخر ، لأن هذا إشارة إلى السورة ، والسورة ليست نفس التنزيل ، بل السورة منزلة ، فحينئذ يحتاج إلى أن نقول المراد من المصدر المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة.
المسألة الثانية : القائلون بخلق القرآن احتجوا بأن قالوا : إنه تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً ، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق والجواب : أنا نحمل هذه اللفظة على الصيغ والحروف.
المسألة الثالثة : الآيات الكثير تدل على وصف القرآن بكونه تنزيلاً وآيات أخر تدل على كونه منزلاً.
أما الأول : فقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين} (الشعراء : 192) ، وقال : (الشعراء : 192) ، وقال : {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت : 42) وقال : {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت : 1/ 2).
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
وأما الثاني : فقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) وقال : {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } (الإسراء : 105) وأنت تعلم أن كونه منزلاً أقرب إلى الحقيقة من كونه تنزيلاً ، فكونه منزلاً مجاز أيضاً لأنه إن كان المراد من القرآن الصفة القائمة بذات الله فهو لا يقبل الإنفصال والنزول ، وإن كان المراد منه الحروف والأصوات فهي أعراض لا تقبل الانتقال والنزول ، بل المراد من النزول نزول الملك الذي بلغها إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة العزيز هو القادر الذي لا يغلب فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى قادراً على ما لا نهاية له والحكيم هو الذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة ، وهذا إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، وأنه غني عن جميع الحاجات إذا ثبت هذا فنقول كونه تعالى : عزيزاً حكيماً يدل على هذه الصفات الثلاثة ، العلم بجميع المعلومات ، والقدرة على كل الممكنات ، والإستغناء عن كل الحاجات/ فمن كان كذلك امتنع أن يفعل القبيح وأن يحكم بالقبيح ، وإذا كان كذلك فكل ما يفعله يكون حكمة وصواباً. إذا ثبت هذا فنقول الإنتفاع بالقرآن يتوقف على أصلين أحدهما : أن يعلم أن القرآن كلام الله ، والدليل عليه أنه ثبت بالمعجز كون الرسول صادقاً ، وثبت بالتواتر أنه كان يقول القرآن كلام الله فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن القرآن كلام الله والأصل الثاني : أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها ، أم بحسب اللغة أو بحسب القرينة العرفية أو الشرعية لأنه لو لم يرد بها ذلك لكان تلبيساً ، وذلك لا يليق بالحكيم فثبت بما ذكرنا أن الانتفاع بالقرآن لا يحصل إلا بعد تسليم هذين الأصلين ، وثبت أنه لا سبيل إلى إثبات هذين الأصلين إلا بإثبات كونه تعالى حكيماً ، وثبت أن لا سبيل/ إلى إثبات كونه حكيماً إلا بالبناء على كونه تعالى عزيزاً ، فلهذا السبب قال : تنزيل الكتاب من الله العزيم الحكيم}.
أما قوله تعالى : .
أما قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ففيه سؤالان :
السؤال الأول : لفظ التنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله عليه نجماً على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله عليه دفعة واحدة فكيف الجمع بينهما والجواب : إن صح الفرق بين التنزيل وبين الإنزال من الوجه الذي ذكرتم فطريق الجمع أن يقال المعنى إنا حكمنا حكماً كلياً جزماً بأن يوصل إليك هذا الكتاب ، وهذا هو الإنزال ، ثم أوصلناه نجماً إليك على وفق المصالح وهذا هو التنزيل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
(1/3830)

السؤال الثاني : ما المراد من قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ} ؟
والجواب : فيه وجهان الأول : المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبساً بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد ، وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه الثاني : أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن التاب نازل من عند الله ، وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته ، ولو لم يكن معجزاً لما عجزوا عن معارضته.
ثم قال : {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما بين في قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ} أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف ها بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية ، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى : {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} ، وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله : {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } لأن قوله : {أَلا لِلَّهِ} يفيد الحصر ، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور ، واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها :
أما العبادة : فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتي به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله.
وأما الإخلاص : فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والإمتثال ، فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحاً على الجانب الآخر أو معادلاً له أو مرجوحاً. وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط ، وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحاً على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا ، وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص/ لأن قوله : {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} / صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة : 5) وأما بيان الوجوه المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام أحدها : أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل وثانيها : أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار وثالثها : أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيراً في إيجاب الثواب أو دفع العقاب ورابعها : وهو أن يخلص الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة ، وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
(1/3831)

المسألة الثانية : من الناس من قال : فاعبد الله مخلصاً له الدين} المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله ، واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي" وهذا قول من يقول : لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر ، وأما الأكثرون فقالوا : الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي ، وهذا الأولى لأن قوله : المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله ، واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي" وهذا قول من يقول : لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر ، وأما الأكثرون فقالوا : الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي ، وهذا الأولى لأن قوله : {فَاعْبُدِ اللَّهَ} عام ، وروي أن امرأة الفرزدق لما قرب وفاتها وأصت أن يصلي الحسن البصري عليها ، فلما صلى عليها ودفنت ، قال للفرزدق : يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر ؟
قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، فقال الحسن رضي الله عنه : هذا العمود فأين الطنب ؟
فبين بهذا أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة ، قال القاضي : فأما ما يروي أنه صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ وأبي الدرادء : "وإن زني وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء" فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يجز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن ، ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجوراً عن الزنا والسرقة ، وأن لا يكون متعدياً بفعلهما لأنه مع شدة شهوته للقبيح يعلم أنه لا يضره مع تمسكه بالشهادتين فكأن ذلك إغراء بالقبيح ، لأنا نقول إن من اعتقد أن ضرره يزول بالتوبة فقد اعتقد أن فعل القبيح مضرة إلا أنه يزيل ذلك الضرر بفعل التوبة بخلاف قول من يقول إن فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين. هذا تمام كلام القاضي ، فيقال له : أما قولك إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن فليس كذلك بل للقرآن يدل عليه قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) وقال : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } (الرعد : 6) أي : حال ظلمهم كما يقال رأيت الأمير على أكله وشربه أي حال كونه آكلاً وشارباً ، وقال : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } (الزمر : 53) ، وأما قوله : إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح ، فيقال له إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً ، وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة ، لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر وأما/الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد ، لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب ألبتة. ثم نقول مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة/ فأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه لأنه تعالى قال : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } فقطع بحصول المغفرة في الجملة ، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من شاء وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلاً فلا يكون الإغراء حاصلاً والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
(1/3832)

المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف" قريء الدين بالرفع ، ثم قال : وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام لقوله تعالى : {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} (النساء : 146) حتى يطابق قوله : {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } والخالص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر ، واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون ، واعلم أن الضمير في قوله : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله ، وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء ، أما العقلاء فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيزاً والملائكة ، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة ، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام ، إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء ، أما بغير العقلاء فلا يليق ، وبيانه من وجهين الأول : أن الضمير في قوله : {مَا نَعْبُدُهُمْ} ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام الثاني : أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى الله ، وعلى هذا التقدير فمرادهم أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله ، ويمكن أن يقال : إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر ، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية ، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صوراً لها.
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا : إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية ، ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر ، فهذا هو المراد من قولهم : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } .
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه : الأول : أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال : {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وكان مصراً عليه ، فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن/ قلبه ، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه ، فيكون هذا الطريق أقضى إلى المقصود. والأطباء يقولون : لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال ، فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام ، فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مجرى سقي المنضج أولاً ، وإسماع الدليل ثانياً يجري مجرى سقي المسهل ثانياً. فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـاذِبٌ كَفَّارٌ} والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية/ والمراد بهذا الكذب وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها ، والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض ، وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الإعتقاد ، والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب ، واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر. ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة ، والسبب فيه أن العبدة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالإشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق.
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
(1/3833)

ثم قال تعالى : {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا سُبْحَـانَه ا هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} والمراد من هذا الكلام : إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد وبيانه من وجوه الأول : أنه لو اتخذ ولداً لما رضي إلا بأكمل الأولاد وهو الإبن فكيف نسبتم إليه البنت الثاني : أنه سبحانه واحد حقيقي والواحد الحقيقي يمتنع أن يكون له ولد ، أما أنه واحد حقيقي فلأنه لو كان مركباً لاحتاج إلى كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره ، فكان يحتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يكون واجب الوجود لذاته ، وأما أن الواحد لا يكون له ولد فلوجوه الأول : أن الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشيء ينفصل عنه ، ثم يحصل له صورة مساوية لصورة الوالد. وهذا إنما يعقل في الشيء الذي ينفصل منه جزء والفرد المطلق لا يقال ذلك فيه الثاني : شرط الولد أن يكون مماثلاً في تمام الماهية للوالد فتكون حقيقة ذلك الشيء حقيقة نوعية محمولة على شخصين ، وذلك محال لأن تعيين كل واحد منهما إن كان من لوازم تلك الماهية لزم أن لا يحصل من تلك الماهية إلا الشخص الواحد ، وإن لم يكن ذلك التعيين من لوازم تلك الماهية كان ذلك التعيين معلوماً بسبب منفصل ، فلا يكون إلهاً واجب الوجود لذاته. فثبت أن كونه إلهاً واجب الوجود لذاته يوجب كونه واحداً في حقيقته ، وكونه واحداً في حقيقته يمنع من ثبوت الولد له ، فثبت أن كونه واحداً يمنع من ثبوت الولد الثالث : أن الولد لا يحصل إلا من الزوج والزوجة والزوجان لا بد وأن يكونا من جنس واحد ، فلو كان له ولد لما كان واحداً بل كانت زوجته من جنسه ، وأما أن كونه قهاراً يمنع من ثبوت الولد له ، فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيحتاج/إلى ولد يقوم مقامه ، فالمحتاج إلى الولد هو الذي يكون مقهوراً بالموت ، أما الذي يكون قاهراً ولا يقهره غيره كان الولد في حقه محالاً ، فثبت أن قوله : {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 429
434
اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً وقهاراً غالباً أي : كامل القدرة ، فلما بني تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء ، وأياً فإنه تعالى طعن في إليهة الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية ، واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في/ إثبات إليهته ، إما أن تكون فلكية أو عنصرية ، أما الفلكية فأقسام أحدها : خلق السموات والأرض ، وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة شرحناها في تفسير قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 1) والثاني : اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله : {يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ } وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة ، وذلك هذا أخرى. وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان. تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى ، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر ، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث : "نعوذ الله من الحور بعد الكور" أي : من الإدبار بعد الإقبال ، واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
{يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} وبقوله : {وَهُوَ الَّذِى} (الأعراف : 54) وبقوله : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} (فاطر : 13) وبقوله : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} (الفرقان : 62) والثالث : اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر ، فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ، وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله : كل يجري لأجل مسمى} الأجل المسمى يوم القيامة ، لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، ونظيره قوله تعالى : الأجل المسمى يوم القيامة ، لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، ونظيره قوله تعالى : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة : 9) والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطري السماء كطي السجل للكتب.
(1/3834)

ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال : {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّـارُ} والمعنى : أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان/ فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفاراً يوجب كثرة الرحمة ، وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة ، ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل ، فبدأ بذكر الإنسان فقال : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مراراً كثيرة ، فإن قيل كيف جاز أن يقول : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} والزوج مخلوق قبل خلقهم ؟
أجابوا عنه من وجوه الأول : أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية ، فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر ، كقول القائل بلغني ما صنعت اليوم ، ثم ما صنعت أمس كان أعجب ، ويقول أيضاً قد أعطيتك اليوم شيئاً ، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر الثاني : أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها الثالث : أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء.
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
واعلم أنه تعالى بما ذكر الاستدلال بخلقة الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال/ بوجود الحيوان عليه فقال : {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع في قوله : {وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} (النحل : 5) وفي تفسير قوله تعالى : {وَأَنزَلَ لَكُم} وجوه : الأول : أن قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء لأجل أنه كتب في اللوح المحفوط كال كائن يكون الثاني : أن شيئاً من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب ، والماء ينزل من السماء فصار التقدير كأنه أنزلها الثالث : أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض وقوله : {ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز ، والزوج اسم لكل واحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد منه قال تعالى : {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى } (القيامة : 39).
ثم قال تعالى : {يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ خَلْقًا مِّنا بَعْدِ خَلْقٍ} وفيه أبحاث :
الأول : قرأ حمزة بكسر الألف والميم ، والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم ، والباقون أمهاتكم بضم الألف وفتح الميم.
الثاني : أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام ، وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان ، ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم وقوله : {خَلْقًا مِّنا بَعْدِ خَلْقٍ} المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَـامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَـاهُ خَلْقًا ءَاخَرَا فَتَبَارَكَ اللَّهُ} (المؤمنون : 12 ــــ 14) وقوله : {فِى ظُلُمَـاتٍ ثَلَـاثٍ } قيل : الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل : الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } .
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي : ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم ، وفي هذه الآية : دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزهاً عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزهاً عن الجسمية والمكانية/ وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلاً لهذه الأشياء ، ولو كان جسماً مركباً من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفاً للشيء بأجزاء حقيقته ، وأما كان ذلك القسم ممكناً لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيراً ونقصاً وذلك غير جائز ، فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود ، وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعالياً عن الجسمية والأعضاء والأجزاء.
(1/3835)

ثم قال تعالى : {لَهُ الْمُلْكُ} وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ، ولما ثبت أنه لا ملك / إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر ، فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك ، فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكاً قادراً ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) وذلك محال ، وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصاً ولا يصلح للإلهية ، فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله ، وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد ، ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته ، رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه الأول : قوله : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة. أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية : أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم ، وما ذاك الغير إلا الله ، وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب ، فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه ، وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم : أن قوله : {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} تعجب من هذا الانصراف ، ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
ثم قال تعالى : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ } والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة ، وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق ، ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ، وإنما قلنا إنه غني لوجوه : الأول : واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته ، ومن كان كذلك كان غنياً على الإطلاق الثاني : أنه لو كان محتاجاً لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة. والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجاً إليه وذلك محال ، لأن الخلق والأزل متناقض. والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث : هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا ؟
أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة ، والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو ، وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك ، فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم.
ثم قال تعالى بعده : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر ، واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين : الأول : أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب ، قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضى الكفر من الوجه الذي خلقه ، وذلك ضد الآية الثاني : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضاً برضاء الله تعالى/ وأجاب / الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول : أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين ، قال الله تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا} (الفرقان : 63) وقال : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6) وقال : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) فعلى هذا التقدير قوله : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } ولا يرضى للمؤمنين الكفر ، وذلك لا يضرنا الثاني : أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنا برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله ، قال الله تعالى : {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} (الفتح : 18) أي يمدحهم ويثنى عليهم الثالث : كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول : الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض ، وليس عبارة عن الإرادة ، والديل عليه قول ابن دريد :
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
رضيت قسراً وعلى القسر رضامن كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع : هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } عام ، فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الإنسان : 30) والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر ، وفيه مسائل :
(1/3836)

المسألة الأولى : اختلف القراء في هاء {يَرْضَهُ} على ثلاثة أوجه أحدها : قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها : قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها : قرأ نافع في بعض الروايات ابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء مشبعة ، قال الواحدي رحمه الله من القراء من أشبع الهاء حتى ألحق بها واواً ، لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه وله ، فكما أن هذا مشبع عند الجميع كذلك يرضه ، ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق الواو ، لأن الأصل يرضاه والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية ، ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو فكذا ههنا.
المسألة الثانية : الشكر حالة مركبة من قول واعتقاد وعمل أما القول فهو الإقرار بحصول النعمة وأما الاعتقاد فهو اعتقاد صدور النعمة من ذلك المنعم.
ثم قال تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على فعل غيره ، فلو فعل الله كفرهم لما جاز أن يعذبهم عليه ، وأيضاً لا يجوز أن يعذب الأولاد بذنوب الآباء ، بخلاف ما يقول القوم. واحتج أيضاً من أنكر وجوب ضرب الدية على العاقلة بهذه الآية.
ثم قال تعالى : {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} واعلم أنا ذكرنا كثيراً أن أهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان ، وأن يعرف ما يضره وما ينفعه في هذه الحياة الدنيوية ، وأن يعرف أحواله بعد الموت ، ففي هذه الآية ذكر الدلائل الكثيرة من العالم الأعلى والعالم الأسفل على كمال / قدرة الصانع وعلمه وحكمته ، ثم أتبعه بأن أمره بالشكر ونهاه ع ن الكفر ثم بين أحواله بعد الموت بقوله : {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} وفيه مسائل :
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
المسألة الأولى : المشبهة تمسكوا بلفظ إلى علم أن إله العالم في جهة وقد أجبنا عنه مراراً.
المسألة الثانية : زعم القوم أن هذه الأرواح كانت قبل الأجساد وتمسكوا بلفظ الرجوع الموجود في هذه الآية وفي سائر الآيات.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على إثبات البعث والقيامة.
ثم قال : {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع ، وقوله تعالى : {إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} كالعلة لما سبق ، يعني أنه يمكنه أن ينبئكم بأعمالكم ، لأنه عالم بجميع المعلومات ، فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف ، وقال صلى الله عليه وسلّم : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
جزء : 26 رقم الصفحة : 434
439
اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد ، بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله ، وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر ، لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر ، وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا/ به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة.
أما قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ} فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره ، وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره ، لأن الكلام يخرج على معهود ، تقدم.
أما قوله {ضُرٌّ} فيدخل فيه جميع المكاره سواء كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده ، لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد {خَشِىَ رَبَّه } أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء ، فلذلك قال : {مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ} أي أعطاه ، قال صاحب "الكشاف" : وفي حقيقته وجهان أحدهما : جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال ، إذا كان متعهداً له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة" والثاني : جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر ، وفي المعنى قالت العرب :
إن الغنى طويل الذيل مياس
ثم قال تعالى : {نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه ، وما بمعنى من كقوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى } (الليل : 3) وقوله تعالى : {وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} (الكافرون : 3) وقوله تعالى : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3) وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه ، ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه ، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع ، وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله.
(1/3837)

جزء : 26 رقم الصفحة : 439
ثم قال تعالى : {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره.
المسألة الثانية : المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين ، فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواء وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه. ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر ، وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل.
المسألة الثالثة : معنى قوله : {لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه } أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك ، فيزداد إثماً على إثمه ، واللام في قوله {لِّيُضِلَّ} لام العاقبة كقوله : {فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال : {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا } وليس المراد منه الأمر بل/ الزجر ، وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا ، ثم يكون مصيره إلى النار.
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين ، ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله ، فقال : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وحمزة {مِنْ} مخففة الميم والباقون بالتشديد ، أما التخفيف ففيه وجهان الأول : أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من ، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك ، وقيل كالذي جعل لله أنداداً فاكتفى بما سبق ذكره والثاني : أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة ، وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو.
المسألة الثانية : القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة ، ومنه قوله : "أفضل الصلاة صلاة القنوت" وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائماً. عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ} وعن ابن عباس القنوت طاعة الله ، لقوله : {كُلٌّ لَّه قَـانِتُونَ} (البقرة : 116) أي مطيعون ، وعن قتادة {أَمَّنْ هُوَ} ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار ، ويؤكده وجوه الأول : أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني : أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع ، فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي ، وهو معرفة الله وخدمته الثالث : أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع : قوله تعالى : {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـاًا وَأَقْوَمُ قِيلا} (المزمل : 6) وقوله : {سُجَّدًا} حال ، وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر عبد خبر الواو للجميع بين الصفتين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 439
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة ، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم ، أما العمل فكونه قانتاً ساجداً قائماً ، وأما العلم فقوله : {هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.
الفائدة الثانية : أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظباً عليه ، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائماً بما يجب عليه من الطاعات ، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان ، وقوله : {سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا} إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله : {يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه } إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله : {يَحْذَرُ الاخِرَةَ} ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله : {مِن رَّحْمَةِ رَبِّه } ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله : {هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } .
/الفائدة الثالثة : أنه قال في مقام الخوف {يَحْذَرُ الاخِرَةَ} فما أضاف الحذر إلى نفسه ، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه ، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى.
(1/3838)

المسألة الثالثة : قيل المراد من قوله : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ} عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة ، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه.
المسألة الرابعة : لا شبهة في أن في الكلام حذفاً ، والتقدير أمن هو قانت كغيره ، وإما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه ، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجداً وقياماً ، والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون ، فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون ، لأنهم وإن آتاهم الله العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم ، فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 439
وأما قوله تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم ، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) قال صاحب "الكشاف" أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون ، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء ، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم ، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضاً إلا أولوا الألباب ، قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء ، فأجاب العالم بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 439
وأما قوله تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم ، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) قال صاحب "الكشاف" أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون ، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء ، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم ، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضاً إلا أولوا الألباب ، قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء ، فأجاب العالم بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 439
440
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام :
النوع الأول : قوله : {قُلْ يَـاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى ، وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية ، قال القاضي : أمرهم بالتقوى ليكلا يحبطوا إيمانهم ، لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط ، فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى ، لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى ، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
(1/3839)

واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد ، فقال تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } فقوله : {فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا} يحتمل أن يكون صلة لقوله : {أَحْسَنُوا } أو لحسنة ، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة ، وهي دخول الجنة ، والتنكير في قوله : {حَسَنَةٌ} للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها. وأما على التقدير الثاني : فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة ، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية ، وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلّم : "ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية" ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول : أن التنكير في قوله : {حَسَنَةٌ} يدل على النهاية والجلالة والرفعة ، وذلك لا يليق / بأحوال الدنيا ، فإنها خسيسة ومنقطعة ، وإنما يليق بأحوال الآخرة ، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني : أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } وأيضاً فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار ، وأيضاً فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن ، كما قال صلى الله عليه وسلّم : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وقال تعالى : {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف : 33) ، الثالث : أن قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } يفيد الحصر ، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا ، وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر ، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى/ ثم قال الله تعالى : {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } وفيه قولان الأول : المراد أنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان ، حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه ، قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ، ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم ، وطاعة إلى طاعتهم ، والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن ، ونظيره قوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
{قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الارْضِا قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } (النساء : 97) والقول الثاني : قال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ، وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ، ثم بين أن أرض الله ، أي جنته واسعة ، لقوله تعالى : {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } (الزمر : 74) وقوله تعالى : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران : 133) والقول الأول عندي أولى ، لأن قوله : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يليق إلا بالأول ، وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر ، فقد ذكرناه في سورة البقرة ، والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
المسألة الثانية : تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب ، لأن الأجر هو المستحق ، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب ، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجراً بحسب الوعد ، لا بحسب الاستحقاق.
(1/3840)

المسألة الثالثة : أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب ، وفيه وجوه الأول : قال الجبائي : المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلاً فهو بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حساباً ، قال القاضي هذا ليس بصحيح ، لأن الله تعالى وصف الأجر/ بأنه بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق ، والأجر غير التفضل الثاني : أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها : أنها تكون دائمة الأجر لهم ، وقوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} معناه بغير نهاية ، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب وثانيها : أنها تكون منافع كاملة في أنفسها ، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب ، قال صلى الله عليه وسلّم : "إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه ، وما لا يتوقعه الإنسان ، فقد يقال إنه ليس في حسابه ، فقوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} محمول على هذا المعنى والوجه الثالث : في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال ، روى صاحب "الكشاف" عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ينصب الله الموازين يوم القيامة ، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صباً" قال الله تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
النوع الثاني : من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى : {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟
ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فأنزل الله ، قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ، وأقول إن التكليف نوعان أحدهما : الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني : الأمر بتحصيل ما ينبغي ، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة ، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال : {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال : {إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} وهذا يشتمل على قيدين أحدهما : الأمر بعبادة الله الثاني : كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي ، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير ، وقوله تعالى : {وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها ، وفي هذه الآية فائدتان :
الفائدة الأولى : كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك ، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعاً فيه وأكثرهم مداومة عليه.
الفائدة الثانية : أنه قال : {إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح ، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح ، فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله : {مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم/ فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة ، وهو المراد بقوله في هذه الآية : {وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ {أُمِرْتُ} لأنا نقول ذكر لفظ {أُمِرْتُ} أولاً في عمل القلب وثانياً في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريراً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
الفائدة الثالثة : في قوله : {وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة ، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله ، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة ، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال : {قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وفيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن الله أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يجري هذا الكلام على نفسه ، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي ، لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفاً حذراً عن المعاصي فغيره بذلك أولى.
(1/3841)

الفائدة الثانية : دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب ، وهذا يطابق قولنا : إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة ، فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب.
الفائدة الثالثة : دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وذلك لأنه قال في أول الآية : {إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} ثم قال بعده : {قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره ، وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصياً/ والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
النوع الثالث : من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله : {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِى} فإن قيل ما معنى التكرير في قوله : {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} وقوله : {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّه دِينِى} ؟
، قلنا هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة ، والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحداً غيره ، وذلك لأن قوله : {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} لا يفيد الحصر وقوله تعالى : {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه ، والدليل عليه أنه لما قال بعد : {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ} قال بعده : {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِه } ولا شبهة في أن قوله : {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِه } ليس أمراً بل المراد منه الزجر ، كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم ، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله : {قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه ، وخسروا أهليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة ، فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده ألبتة ، وقال ابن عباس : إن لكل رجل / منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة ، فإن أطاع أعطى ذلك ، وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين ، والخاسر المغبون ، ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال : {أَلا ذَالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} كان التكرير لأجل التأكيد الثاني : أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه ، وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم ليها فتنبهوا لها الثالث : أن كلمة (هو) : في قوله : {هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران الرابع : وصفه بكونه (مبيناً) : يدل على التهويل ، وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسراناً مبيناً فلنبين فحسب المباحث العقلية كونه خسراناً مبيناً ، وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسراناً ثم كونه مبيناً أما الأول : فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل ، وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال ، أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
(1/3842)

وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر ، والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية ، فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأسه المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء ، وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح ، وأيضاً حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال ، واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال ، وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح ، إذا ثبت هذا فنقول : إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن ، ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروماً عن الربح بالكلية ، وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسراناً ، فهذا بيان كونه خسراناً وأما الثاني : وهو بيان كون ذلك الخسران مبيناً فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار ، فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضاً مزيد ضرر/ أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات ، واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد ، فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها : أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلباً في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وثانيها : أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة وثالثها : أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسباباً للعقوبة الشديدة والبلاء العظيم بعد الموت ، وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم ، ولا حرمان أعظم من حرمانهم ، ونعوذ بالله منه.
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم ، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران ، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد ، فقال : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } (الشورى : 40) ، الثاني : أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث : أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء ، أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة. قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِم إِنَّ فِى ذَالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبَـاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِا وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (العنكبوت : 55) وقوله تعالى : {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } (الأعراف : 41).
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه } أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله : {ذَالِكَ} مبتدأ وقوله : {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه } خبر ، وفي قوله : {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِه عِبَادَه } قولان الأول : التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين ، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفاً للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني : أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال ، لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء ، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم ، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال ، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع م نالعذاب في الوجود تحصيلاً لذلك المطلوب الذي هو التكليف ، والوجه الأول عندي أقرب ، والدليل عليه أنه قال بعده : {قَلِيلا وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ} وقوله : الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 440
450
(1/3843)

اعلم أن الله تعالى لما ذكر وعيد عبدة الأصنام والأوثان ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن الشرك ، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمال الترغيب والترهيب ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الطاغوت فعلوت من الطغيات كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين ، وفي هذا اللفظ أنواع من المبالغة أحدها : التسمية بالمصدر كأن عين ذلك الشيء الطغيان وثانيها : أن البناء بناء المبالغة فإن الرحموت الرحمة الواسعة والملكوت الملك المبسوط وثالثها : ما ذكرنا من تقديم اللام على العين ومثل هذا إنما يصار إليه عند المبالغة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 450
المسألة الثانية : اختلفوا في أن المراد من الطاغوت ههنا الشيطانه أم الأوثان ، فقيل إنه الشيطان فإن قيل إنهم ما عبدوا الشيطان وإنما عبدوا الصنم ، قلنا الداعي إلى عبادة الصنم لما كان هو الشيطان كان الإقدام على عبادة الصنم عبادة للشيطان ، وقيل المراد بالطاغوت الصنم وسميت طواغيت على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها ، والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان عند مشاهدتها والقرب منها ، وصفت بهذه الصفة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب بحسب الظاهر ، وقيل كل ما يعبد ويطاع من دون الله فهو طاغوت ، ويقال في التواريخ إن الأصل في عبادة الأصنام ، أن القوم كانوا مشبهة اعتقدوا في الإله أنه نور عظيم ، وفي الملائكة أنها أنوار مختلفة في الصغر والكبر ، فوضعوا تماثيل وصوراً على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على أعتقاد أنهم يعبدون الله والملائكة ، وأقول حاصل الكلام في قوله : {يَـاعِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ} أي أعرضوا عن عبودية كل ما سوى الله. قوله تعالى : {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي رجعوا بالكلية إلى الله. ورأيت في السفر الخامس من التوراة ، أن الله تعالى قال لموسى : يا موسى أجب إلهك بكل قلبك. وأقول ما دام يبقى في القلب التفات إلى غير الله فهو ما أجاب إلهه بكل قلبه ، وإنما تحصل الإجابة بكل القلب إذا أعرض القلب عن كل ما سوى الله من باب الطاعات فكيف يعرض عنها مع / أنه بالحس يشاهد الأسباب المفضية إلى المسببات في هذا العالم ، قلنا ليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقضي عليها بالعدم فإن ذلك دخول في السفسطة وهو باطل ، بل المراد أن يعرف أن واجب الوجود لذاته واحد ، وأن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكناً لذاته فإنه لا يوجد إلا بتكوين الواجب وإيجاده ، ثم إنه سبحانه وتعالى جعل تكوينه للأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات والروحانيات ، ومنها ما يكون بواسطة وهو عالم العناصر والعالم الأسفل ، فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أن الكل لله ومن الله وبالله ، وأنه لا مدبر إلا هو ولا مؤثر غيره ، وحينئذٍ ينقطع نظره عن هذه الممكنات ويبقى مشغول القلب بالمؤثر الأول والموجد الأول ، فإنه إن كان قد وضع الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إلى هذا المطلوب/ فهذا الشيء يحصل وإن كان قد وضع بحيث لا يفضي إلى حصول هذا الشيء لم يحصل ، وبهذا الطريق ينقطع نظره عن الكل ولا يبقى في قلبه التفات إلى شيء إلا إلى الموجود الأول ، وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره ، فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها ، وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقاً بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 450
أما القسم الأول : فهو حوادث هذا العالم الأسفل.
(1/3844)

وأما القسم الثاني : فهو حوادث هذا العالم الأعلى ، وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعاً لله في حكمته مخالفاً في تدبيره ، فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناءً على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب ، فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى : {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ} إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى : {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله ، ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها : قوله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى } واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها : أن هذه البشارة متى تحصل ؟
فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة ، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها : أن هذه البشارة فبماذا تحصل ؟
فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات ، أما زوال المكروهات فقوله تعالى : {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } (فصلت : 30) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله : {أَلا تَخَافُوا } يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا ، ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال : {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (فصلت : 30) وقال أيضاً في آية أخرى : {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} (الحديد : 12) وقال أيضاً : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُا وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (الزخرف : 71) والثالث : أن المبشر من هو ؟
فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة ، إما عند الموت فقوله : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ طَيِّبِينَا يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} (النحل : 32) وإما بعد دخول الجنة فقوله : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 23 ، 24) ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال : {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ } (الأحزاب : 44).
جزء : 26 رقم الصفحة : 450
واعلم أن قوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى } فيه أنواع من التأكيدات أحدها : أنه يفيد الحصر فقوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى } أي لهم لا لغيرهم ، وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى وثانيها : أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء/ ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها : أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات ، إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخباراً ، فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها ، قال تعالى : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17) ورابعها : أن المخبر بقوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى } هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطاً عظيماً. ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار ، فثبت أن قوله : {لَهُمُ الْبُشْرَى } يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه والله أعلم.
(1/3845)

واعلم أنه تعالى : لما قال : {لَهُمُ الْبُشْرَى } وكان هذا المجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا } وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى ، والإقبال بالكلية على طاعة الله ، والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا ، هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً/ على هذا الحرف ، ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون ، وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين ، وذلك لا يليق بالرحمة التامة ، لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء ، واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد :
جزء : 26 رقم الصفحة : 450
المسألة الأولى : في لفظ الآية سؤال وهو أنه يقال إنه قال : {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الإسم وعلى الخبر معاً ، فلا يقال أزيد أتقتله ، بل ههنا شيء آخر ، وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء ، فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معاً وهو قوله : {أَفَمَنْ حَقَّ} ، {أَفَأَنتَ تُنقِذُ} ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوهاً الأول : قال الكسائي : الآية جملتنا والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب ، أفأنت تحميه ، أفأنت تنقذ من في النار الثاني : قال صاحب "الكشاف" : أصل الكلام أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار موضع الضمير ، والآية على هذا جملة واحدة الثالث : لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار ، ولما كان استنكاره هذا / المعنى كاملاً تاماً. لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيهاً على المبالغة التامة في ذلك الإنكار.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال/ وذلك لأنه تعالى قال : {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة ، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً ، وانقلاب علمه جهلاً وهو محال والوجه الثاني : في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الإستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه ، ولو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى.
المسألة الثالثة : احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يشفع لأهل الكبائر ، قال لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار ، وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والإستبعاد ، فيقال له لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) ومع قوله : {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } (الزمر : 53) والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 450
(1/3846)

النوع الثاني : من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى : {لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } (الزمر : 16) فإن قيل ما معنى قوله {مَّبْنِيَّةٌ} ؟
قلنا لأن المنزل إذا بنى على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله : {مَّبْنِيَّةٌ} معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل ، والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة ، أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ونقصانه الرخاوة والسخافة ، وأما التحتاني فبالضد منه ، أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل وهي عالية مرتفعة وتكون في غاية القوة والشدة ، وقال حكماء الإسلام هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض ، مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية فإن بعضها يكون مبنياً على البعض والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية.
ثم قال : {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } وذلك معلوم ، ثم ختم الكلام فقال : {وَعْدَ اللَّه لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} فقوله : {وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد لأن قوله {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى وعدهم الله ذلك وفي الآية دقيقة شريفة ، وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية ، وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة ، فإن قالوا أليس أنه قال في جانب الوعيد {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} قلنا قوله ما يبدل القول لدي ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو كلام عام يتناول القسمين أعني الوعد والوعيد ، فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 450
451
اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة الأول الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها ، وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل كل ما كان في الأرض فهو من السماء ، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه فيسلكه ينابيع في الأرض ، أي فيدخله وينظمه ينابيع في الأرض عيوناً ، ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام ، يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ، أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم ثم يهيج ، وذلك لأنه إذا تم جفافه جاز له أن ينفصل عن منابته ، وإن لم تتفرق أجزاؤه ، فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم يصير حطاماً يابساً {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى } يعني أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ، ثم تكون عاقبته الموت. فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته ، فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها. والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوى الرغبة في الآخرة ، وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا ، فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله ، وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا ، وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا ، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات ، والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض ، والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض ، فهذا تمام الكلام في تفسير الآية ، بقي ههنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ ، قال الواحدي : والينابيع جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع وينبع وينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي والفراء ، وقوله {يَنَـابِيعَ} نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر ، والحطام ما يجف ويتفتت ويكسر من النبت.
جزء : 26 رقم الصفحة : 451
454
/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونور القلوب فقال : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه } .
(1/3847)

واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله : {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ } (الأنعام : 125) / في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية ، ولا بأس بإعادة كلام قليل ههنا ، فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات ، وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية ، والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك ، إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس ، وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلاً كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب ، مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار ، أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية ، بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للالهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية ، وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل. إذا عرفت هذه القاعدة فنقول. أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه ، وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة ، وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانياً ، وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع ألبتة بسماع الدلائل ، وربما صار سماع الدلائل سبباً لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات ، أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
المسألة الثانية : من محذوف الخبر كما في قوله : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ} (الزمر : 9) والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته ، والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى : {فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه } .
المسألة الثالثة : قوله : {فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه } فيه سؤال ، وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الإطمئنان كما قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول قسوة القلب ، والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة ، فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة ، وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح ، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره ، وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس ، ومن اختلاف أحوال تلك النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} قال كل واحد منهم {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 12 ـ 14) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم / "اكتب فهكذا أنزلت" فازداد عمر إيماناً على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفراً على كفر ، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضاً أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية ، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى ، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سبباً لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضاً لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة ، فلهذا المعنى قال تعالى : {فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّه أولئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} وهذا كلام كامل محقق ، ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان ، والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفاً بهذه الصفات ، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سبباً لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات ، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
الصفة الأولى : قوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وفيه مسائل :
(1/3848)

المسألة الأولى : القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه : الأول : أنه تعالى وصفه بكونه حديثاً في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه } (الطور : 34) ومنها قوله تعالى : {أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} (الواقعة : 81) والحديث لا بد وأن يكون حادثاً ، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق ، وهذا عتيق وليس بحادث ، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث ، وسمي الحديث حديثاً لأنه مؤلف من الحروف والكلمات ، وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة ، فهذا تمام تقرير هذا الوجه.
أما الوجه الثاني : في بيان استدلال القوم أن قالوا : إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير. وما يكون كذلك فهو محدث وحادث.
وأما الوجه الثالث : في بيان استدلال القوم أن قالوا : إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة الأخوة ويكون من جنسهم/ فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً.
أما الوجه الرابع : في الاستدلال أن قالوا : إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع ، وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف. وذلك يدل على كونه محدثاً والجواب : أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات ، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق والله أعلم.
/ المسألة الثانية : كون القرآن أحسن الحديث ، إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه.
القسم الأول : أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه وذلك من وجهين : الأول : أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة الثاني : أن يكون بحسب النظم في الأسلوب ، وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ، ولا من جنس الخطب. ولا من جنس الرسائل ، بل هو نوع يخالف الكل ، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه.
القسم الثاني : أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى ، وفيه وجوه : الأول : أنه كتاب منزه عن التناقض ، كما قال تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82) ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني : اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل الوجه الثالث : أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
وضبط هذه العلوم أن نقول : العلوم النافعة هي ما ذكره الله في كتابه في قوله : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه ا وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ} (البقرة : 285) فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة.
أما القسم الأول : وهو الإيمان بالله ، فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام : معرفة الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء. أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود الله وقدمه وبقاءه. وأما معرفة الصفات فهي نوعان :
أحدهما : ما يجب تنزيهه عنه ، وهو كونه جوهراً ومركباً من الأعضاء والأجزاء وكونه مختصاً بحيز وجهة ، ويجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة : ليس ولم وما ولا ، وهذه الأربعة المذكورة ، مذكورة في كتاب الله تعالى لبيان التنزيه.
أما كلمة ليس ، فقوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) وأما كلمة لم ، فقوله : {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ } (الإخلاص : 3 ، 4) وأما كلمة ما ، فقوله : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم : 64) ، {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35) وأما كلمة لا ، فقوله تعالى : {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } (البقرة : 255) ، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } (الأنعام : 14) ، {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} (المؤمنون : 88) ، وقوله في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن {لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} (محمد : 19).
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
(1/3849)

وأما النوع الثاني : وهي الصفات التي يجب كونه موصوفاً بها من القرآن فأولها العلم بالله ، والعلم بكونه محدثاً خالقاً ، قال تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 1) وثانيها : العلم بكونه قادراً ، قال تعالى في أول سورة القيامة {بَلَى قَـادِرِينَ عَلَى ا أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَه } (القيامة : 4) وقال في آخر هذه السورة {أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى } (القيامة : 40) وثالثها : العلم بكونه تعالى عالماً ، قال تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ } (الحشر : 22) ورابعها : العلم بكونه عالماً بكل المعلومات ، قال تعالى : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) وقوله تعالى : {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى } (الرعد : 8) وخامسها : العلم / بكونه حياً ، قال تعالى : {هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (غافر : 65) وسادسها : العلم بكونه مريداً ، قال الله تعالى : {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ } (الأنعام : 125) وسابعها : كونه سميعاً بصيراً ، قال تعالى : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى : 11) وقال تعالى : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى } (طه : 46) ىوثامنها : كونه متكلما ، قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّه } (لقمان : 27) وتاسعها : كونه أمراً ، قال تعالى : {لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ } (الروم : 4) وعاشرها : كونه رحماناً رحيماً مالكاً ، قال تعالى : { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 3 ، 4) فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
وأما القسم الثالث : وهو الأفعال ، فاعلم أن الأفعال إما أرواح وإما أجسام. أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل ، كما قال تعالى : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } (المدثر : 31) وأما الأجسام ، فهي إما العالم الأعلى وإما العالم الأسفل. أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه أحدها : البحث عن أحوال السموات ، وثانيها : البحث عن أحوال الشمس والقمر كما قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (الأعراف : 54) وثالثها : البحث عن أحوال الأضواء ، قال الله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (النور : 35) وقال تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس : 5) ورابعها : البحث عن أحوال الظلال ، قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَه سَاكِنًا} (الفرقان : 45) وخامسها : اختلاف الليل والنهار ، قال الله تعالى : {يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ } (الزمر : 50) وسادسها : منافع الكواكب ، قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (الأنعام : 97) وسابعها : صفات الجنة ، قال تعالى : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (الحديد : 21) وثامنها : صفات النار ، قال تعالى : {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر : 44) وتاسعها : صفة العرش ، قال تعالى : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه } (غافر : 7) وعاشرها : صفة الكرسي ، قال تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } (البقرة : 255) وحادي عشرها : صفة اللوح والقلم. أما اللوح ، فقوله تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 21 ، 22) وأما القلم ، فقوله تعالى : {ا وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم : 1).
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
(1/3850)

وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها : الأرض ، وقد وصفها بصفات كثيرة إحداها : كونه مهداً ، قال تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} (طه : 53) وثانيها : كونه مهاداً ، قال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَـادًا} (النبأ : 6) وثالثها : كونه كفاتاً ، قال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفَاتًا * أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا} (المرسلات : 24 ، 25) ورابعها : الذلول ، قال تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا} (الملك : 15) وخامسها : كونه بساطاً ، قال تعالى : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ بِسَاطًا * لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} (نوح : 19 ، 20) والكلام فيه طويل وثانيها : البحر ، قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (النحل : 14) وثالثها : الهواء والرياح. قال تعالى : / {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } (الأعراف : 57) وقال تعالى : {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر : 22) ورابعها : الآثار العلوية كالرعد والبرق ، قال تعالى : {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِه وَالْمَلَـا اـاِكَةُ مِنْ خِيفَتِه } (الرعد : 13) وقال تعالى : {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـالِه } ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب وخامسها : أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها ، وسادسها : أحوال الحيوانات ، قال تعالى : {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} (البقرة : 164) وقال : {وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} (النحل : 5) وسابعها : عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة ، قال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) وثامنها : العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه وتاسعها : تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة ، وعاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت ، وكيفية البعث والقيامة ، وشرح أحوال السعداء والأشقياء ، فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السموات ، وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر ، والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
وأما القسم الرابع : وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه ، فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح.
أما القسم الأول : فهو المسمى بعلم الأخلاق وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب ، قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ } (النحل : 90) ، وقال : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (الأعراف : 199).
وأما الثاني : فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح وهو المسمى بعلم الفقه والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه.
وأما القسم الخامس : وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 180) فهذا كله يتعلق بمعرفة الله.
وأما القسم الثاني : من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه } (البقرة : 285) والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال وأخرى على طريق التفصيل ، أما بالإجمال فقوله : {وَمَلَـا اـاِكَتُه } وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله قال تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) ومنها أنها مدبرات لهذا العالم ، قال تعالى : {فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا} (الذاريات : 4) {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (النازعات : 5) وقال تعالى : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا} (الصافات : 1) ومنها حملة العرش قال : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) ومنها الحافون حول العرش قال : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر : 75) ومنها خزنة النار قال تعالى : {عَلَيْهَا مَلَـا اـاِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (التحريم : 6) ومنها الكرام الكاتبون قال : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ} (الانفطار : 10 ، 11) ومنها المعقبات قال تعالى : {لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه } (الرعد : 11) وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
(1/3851)

وأما القسم الثالث : من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى : {فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ} (البقرة : 37) ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } (البقرة : 124) ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور.
وأما القسم الرابع : من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل والله تعالى قد شرح أحوال البعض وأبهم أحوال الباقين قال : {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } (غافر : 78).
القسم الخامس : ما يتعلق بأحوال المكلفين وهي على نوعين الأول : أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم وهو المراد من قوله : {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ، الثاني : أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة وهو المراد من قوله : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر ، كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر وكان قوله : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أكثر.
القسم السادس : معرفة المعاد والبعث والقيامة وهو المراد من قوله : {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة : 285) وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين ، والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتاباً يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها. ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة ، ولما كان الأمر على هذه الجملة ، لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (الزمر : 23) والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
الصفة الثانية : من صفات القرآن قوله تعالى : {كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا} (الزمر : 23) أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه } (البقرة : 2) وأما كونه متشابهاً فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه. وقوله : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ } (آل عمران : 7) يدل على كون البعض متشابهاً دون البعض. وأما كونه كله متشابهاً كما في هذه الآية ، فقال ابن عباس : معناه أنه يشبه بعضه بعضاً ، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها : أن الكاتب البليغ إذا كتب كتاباً طويلاً ، فإنه يكون بعض كلماته فصيحاً ، ويكون البعض غير فصيح ، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه وثانيها : أن الفصيح إذا كتب كتاباً في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتاباً آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول ، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة وثالثها : أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً ورابعها : أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى / الدين وتقرير عظمة الله ، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه ، فهذا هو المراد من كونه متشابهاً ، والله الهادي.
الصفة الثالثة : من صفات القرآن كونه {مَّثَانِيَ} (الزمر : 23) وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل : الأمر والنهي ، والعام والخاص ، والمجمل والمفصل ، وأحوال السموات والأرض ، والجنة والنار ، والظلمة والضوء ، واللوح والقلم ، والملائكة والشياطين ، والعرش والكرسي ، والوعد والوعيد ، والرجاء والخوف ، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه.
الصفة الرابعة : من صفات القرآن قوله : {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه } (الزمر : 23) وفيه مسائل :
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
(1/3852)

المسألة الأولى : معنى {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ} تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف ، قال المفسرون : والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله ، وأقول إن المحققين من العارفين قالوا : السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا ، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا ، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير ، فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة. فهنا يقشعر جلده ، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم ، مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود ، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فرداً أحداً ، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله. وأيضاً إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضاً بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة ، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن ، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء ، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية ، فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد ، وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال ههنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن ، فإن كان واجباً فهو دائماً منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكناً فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزلياً أبدياً ، فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة ، بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
المسألة الثانية : روى الواحدي في "البسيط" عن قتادة أنه قال : القرآن دل على أن أولياء / الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات ، تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب ، فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان ، وأقول ههنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين ، وهي أنا نرى كثيراً من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر/ وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال ، ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة ، وأنا أقول : إني خلقت محروماً عن هذا المعنى ، فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة ، وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت ألبتة في نفسي منها أثراً ، وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا ، وبيانه من وجوه الأول : أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق ، وإثباته في حق الله تعالى كفر ، وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله ، فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه ، فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) إلى آخر الآية والثاني : وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر ، لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح ، والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم ، والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث : أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} (الشورى : 52 ، 53) وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى : {وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُانَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} (الشعراء : 224 ، 226) فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة ، وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
المسألة الثالثة : في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب.
(1/3853)

السؤال الأول : كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب : قال صاحب "الكشاف" تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد يقال : اقشعر جلده من الخوف وقف شعره ، وذلك مثل في شدة الخوف.
السؤال الثاني : كيف قال : {تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه } وما الوجه في تعديه / بحرف إلى ؟
والجواب : التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك.
السؤال الثالث : لم قال إلى ذكر الله ولم يقل إلى ذكر رحمة الله ؟
والجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله ، وإنما أحب شيئاً غيره ، وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية ، فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله ، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى : {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ } (الأنعام : 125) وفي قوله : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وأيضاً قال لأمة موسى : {يَـابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} (البقرة : 40) وقال أيضاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152).
السؤال الرابع : لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معاً ؟
والجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف/ لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح والله أعلم.
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : {ذَالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُا وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} فقوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولاً لقبول هذه الهداية {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} أي من جعل قلبه قاسياً مظلماً بليد الفهم منافياً لقبول هذه الهداية {فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله : {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ } (الأنعام : 125).
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
أما قوله تعالى : {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِه سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة ، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} (الرعد : 33) وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله : {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِه سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة ، وهو أيضاً صومعة الحواس ، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه ، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (عبس : 38 ـ 42) ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب ، ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا ، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه ، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداءً له ، وإذا عرفت هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء ، ونظيره قول النابغة :
/ ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه ، فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ، ويقال أيضاً إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، إذا عرفت هذا فنقول : جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره ، وسوء العذاب شدته.
(1/3854)

ثم قال تعالى : {وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ولما بين الله تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضاً كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال : {كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله : {فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب ، فإذا كان التكذيب حاصلاً ههنا لزم حصول العذاب استدلالاً بالعلة على المعلول ، وقوله : {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضاً أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان/ والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقروناً بالهوان والذل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
ثم قال : {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره ، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع. والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب ، فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب ، بين تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام فقال : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمقصود ظاهر ، وقالت المعتزلة دلت الآية على أن أفعال الله وأحكامه معللة ، ودلت أيضاً على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل لأن قوله : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} مشعر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} مشعر بالتعليل أيضاً ، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم ، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن ، لا جرم وصف القرآن بالمدح والثناء ، فقال : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه الأول : أن قوله : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر ، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثاً ، فإن القديم هو الذي يكون موجوداً في الأزل ، وهذا يمتنع أن يقال إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا ، / والثاني : أنه وصفه بكونه عربياً وإنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم ، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقاً محدثاً الثالث : أنه وصفه بكونه قرآناً والقرآن عبارة عن القراءة والقراءة مصدر والمصدر هو المفعول المطلق فكان فعلاً ومفعولاً والجواب : أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات وهي حادثة ومحدثة.
المسألة الثانية : قال الزجاج قوله : {عَرَبِيًّا} منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أولها : كونه قرآناً ، والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قيام القيامة ، كما قال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (الحجر : 9) ، وثانيها : كونه عربياً والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88) وثالثها : كونه {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} والمراد براءته عن التناقض ، كما قال : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} وأما قوله : {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى.
وفيه بحث آخر : وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى : {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وقال في هذه الآية : {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء ، لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه ، حصل الاتقاء والاحتراز والله أعلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 454
455
اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} وفيه مسائل :
(1/3855)

/ المسألة الأولى : المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوساً وشكساً إذا عسر ، وهو رجل شكس ، أي عسر وتشاكس إذا تعاسر ، قال الليث : التشاكس التنازع والاختلاف ، ويقال الليل والنهار متشاكسان ، أي أنهما متضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ، وقوله فيه صلة شركاء كما تقول اشتركوا فيه.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالماً بالألف وكسر اللام يقال سلم فهو سالم والباقون سلماً بفتح السين واللام بغير الألف ، ويقال أيضاً بفتح السين وكسرها مع سكون العين أما من قرأ سالماً فهو اسم الفاعل تقدير مسلم فهو سالم ، وأما سائر القراءات فهي مصادر سلم والمعنى ذا سلامة ، وقوله : {لِرَجُلٍ} أي ذا خلوص له من الشركة من قولهم : سلمت له الضيعة ، وقرىء بالرفع على الابتداء أي وهناك رجل سالم لرجل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 455
المسألة الثالثة : تقدير الكلام : اضرب لقومك مثلاً وقل لهم ما يقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع ، كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحير في أمره ، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون ، وإذا احتاج في مهم إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر ، فهو يبقى متحيراً لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه ، وأيهم يعينه في حاجاته ، فهو بهذا السبب في عذاب دائم وتعب مقيم ، ورجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص ، وذلك المخدوم يعينه على مهماته ، فأي هذين العبدين أحسن حالاً وأحمد شأناً ، والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى ، فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة ، كما قال تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) وقال : {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (المؤمنون : 91) فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً ، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد وعلى ربوبية أيهم يعتمد ، وممن يطلب رزقه ، وممن يلتمس رفقه ، فهمه شفاع ، وقلبه أوزاع. أما من لم يثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما أرضاه وما أسخطه ، فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول ، وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد ، فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات ، فليس بينها منازعة ولا مشاكسة ، قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة ، فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة ، ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة ، ألا ترى أنهم يقولون زحل هو النحس الأعظم ، والمشتري هو السعد الأعظم ، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية ، والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية ، وحينئذٍ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة ، وحينئذٍ يكون المثل مطابقاً ، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا ، فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله/ والقائلون / بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هو على دينه ، وأن من سواه مبطل ، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال ، فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود.
جزء : 26 رقم الصفحة : 455
(1/3856)

أما قوله تعالى : {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا } فالتقدير هل يستويان صفة ، فقوله : {مَثَلا} نصب على التمييز ، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالتاهما ، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرىء مثلين ، ثم قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} والمعنى أنه لما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد ، وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق ، ثبت أن الحمد له لا لغيره ، ثم قال بعده : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره ، وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره ، وقيل المراد أنه لما سبقت هذه الدلائل الظاهرة والبينات الباهرة ، قال : الحمد لله على حصول هذه البيانات وظهور هذه البينات ، وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها ، ولما تمم الله هذه البيانات قال : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا ، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً سيموتون ، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى ، والعادل الحق يحكم بينكم فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه ، وحينئذٍ يتميز المحق من المبطل ، والصديق من الزنديق ، فهذا هو المقصود من الآية ، وقوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} أي إنك وإياهم ، وإن كنتم أحياء فإنك وإياهم في أعداد الموتى ، لأن كل ما هو آت آت ، ثم بين تعالى نوعاً آخر من قبائح أفعالهم ، وهو أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائل المحق. أما أنهم يكذبون ، فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء. وأما أنهم مصرون على تكذيب الصادقين ، فلأنهم يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلّم بعد قيام الدلالة القاطعة على كونه صادقاً في ادعاء النبوة ، ثم أردفه بالوعيد فقال : {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ} ومن الناس من تمسك بهذه الآية في تكفير المخالف من أهل القبلة ، وذلك لأن المخالف في المسائل القطعية كلها يكون كاذباً في قوله ، ويكون مكذباً للمذهب الذي هو الحق ، فوجب دخوله تحت هذا الوعيد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 455
457
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين ، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه } تقديره : والذي جاء بالصدق والذي صدق به ، وفيه قولان الأول : أن المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدق به هو أبو بكر ، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من المفسرين رضي الله عنهم والثاني : أن المراد منه كل من جاء بالصدق ، فالذي جاء بالصدق الأنبياء ، والذي صدق به الأتباع ، واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال : { أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
المسألة الثانية : أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة : المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه ، والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق ، فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال ، وسمعت بعض القاصين من الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة".
واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين ، أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة ، فإن أبا بكر داخل فيه".
أما على التقدير الأول : فدخول أبي بكر فيه ظاهر ، وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق ، وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي ، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى ، لأن علياً عليه السلام كان وقت البعثة صغيراً ، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ، ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة. أما أبو بكر فإنه كان رجلاً كبيراً في السن كبيراً في المنصب ، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام ، فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى.
جزء : 26 رقم الصفحة : 457
وأما على التقدير الثاني : فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفاً بهذه الصفة ، وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلاً فيه.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" قرىء وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس ، ولم / يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف ، وقيل صار صادقاً به أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقاً بسبب تلك المعجزة وقرىء وصدق.
واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاماً كثيرة.
(1/3857)

فالحكم الأول : قوله : { أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ} وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان ، وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل ، ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء ، والآتي بأحد الضدين يكون تاركاً للضد الثاني ، فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركاً للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها ، فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين.
الحكم الثاني : للمصدقين قوله تعالى : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِم ذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} / وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب المكلف فيه ، فإن قيل لا شك أن الكمال محبوب لذاته مرغوب فيه لذاته ، وأهل الجنة لا شك أنهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية التي هي للأنبياء وأكابر الأولياء عرفوا أنها خيرات عالية ودرجات كاملة ، والعلم بالشيء من حيث إنه كمال ، وخير يوجب الميل إليه والرغبة فيه ، وإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية ، وأيضاً فإن لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصة ووحشة القلب ، وأجيب عنه بأن الله تعالى يزيل الحقد والحسد عن قلوب أهل الآخرة ، وذلك يقتضي أن أحوالهم في الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا ، ومن الناس من تمسك بهذه الآية في أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة ، قالوا إن الذين يعتقدون أنهم يرون الله تعالى لا شك أنهم داخلون تحت قوله تعالى : {وَصَدَّقَ بِه } لأنهم صدقوا الأنبياء عليهم السلام ، ثم إن ذلك الشخص يريد رؤية الله تعالى فوجب أن يحصل له ذلك لقوله تعالى : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } فإن قالوا لا نسلم أن أهل الجنة يشاءون ذلك ، قلنا هذا باطل لأن الرؤية أعظم وجوه التجلي وزوال الحجاب ، ولا شك أنها حالة مطلوبة لكل أحد نظراً إلى هذا الاعتبار ، بل لو ثبت بالدليل كون هذا المطلوب ممتنع الوجود لعينه فإنه يترك طلبه ، لا لأجل عدم المقتضى للطلب ، بل لقيام المانع وهو كونه ممتنعاً في نفسه ، فثبت أن هذه الشبهة قائمة والنص يقتضي حصول كل ما أرادوه وشاءوه فوجب حصولها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 457
واعلم أن قوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} لا يفيد العندية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الصمدية والإخلاص كما في قوله تعالى : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) واعلم أن المعتزلة تمسكوا بقوله : {وَذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} على أن هذا الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة.
الحكم الثالث : قوله تعالى : {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} فقوله : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه / وقوله : {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ، فقيل المراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم فيما أوتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان ، ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب ، وقال مقاتل يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء ، واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان ، كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر ، واحتج بهذه الآية فقال : إنها تدل على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، ولا جوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق ، لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان ، فتكون هذه الآية تنصيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم أسوأ ما يأتون به وذلك هو الكبائر.
(1/3858)

الحكم الرابع : أنه جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة ، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه } وذكره بلفظ الاستفهام والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك ، لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات فهو تعالى عالم حاجات العباد وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات ، وهو ليس بخيلاً ولا محتاجاً حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد/ وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات ، فلهذا قال : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه } ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال : {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه } يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثاً وباطلاً ، قرأ أكثر القراء عبده بلفظ الواحد وهو اختيار أبي عبيدة لأنه قال له : {وَيُخَوِّفُونَكَ} روي أن قريشاً قالت للنبي صلى الله عليه وسلّم : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقرأ جماعة : {عِبَادِه } بلفظ الجميع قيل المراد بالعباد الأنبياء فإن نوحاً كفاه الغرق ، وإبراهيم النار ، ويونس بالإنجاء مما وقع له ، فهو تعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك ، وقيل أمم الأنبياء قصدوهم بالسوء لقوله تعالى : {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةا بِرَسُولِهِمْ} (غافر : 5) وكفاهم الله شر من عاداهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 457
واعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعيد والوعد والترهيب والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي الفصل الحق فقال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّ } يعني هذا الفضل لا ينفع والبينات إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق وقوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ} تهديد للكفار.
واعلم أن أصحابنا يتمسكون في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات بقوله : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّ } والمباحث فيه من الجانبين معلومة والمعتزلة يتمسكون / على صحة مذهبهم في هاتين المسألتين بقوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ} ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله لكان الانتقام والتهديد غير لائق به.
جزء : 26 رقم الصفحة : 457
458
اعلم أنه تعالى لما أطنب في وعيد المشركين وفي وعد الموحدين ، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام ، وبنى هذا التزييف على أصلين :
الأصل الأول : هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد بقوله : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } واعلم أن من الناس من قال إن العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه ، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة وفي عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة ، علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم.
(1/3859)

والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله : {قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ} فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم ، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر ، وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية ، وكان الاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله : {قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل / إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى : {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه } وقرىء : {كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه } و{مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِه } (الزمر : 38) بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف ، فإن قيل كيف قوله : {كَـاشِفَـاتُ} و{مُمْسِكَـاتُ} على التأنيث بعد قوله : {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه } ؟
قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة ، ولما أورد الله عليهم هذه الحجة التي لا دفع لها قال بعده على وجه التهديد : {قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم ، فإني عامل أيضاً في تقرير ديني {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أن العذاب والخزي يصيبني أو يصيبكم والمقصود منه التخويف.
جزء : 26 رقم الصفحة : 458
463
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال : {فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا } (الكهف : 6) وقال : {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء : 3) وقال تعالى : {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (فاطر : 8) فلما أطنب الله تعالى في هذه الآية في فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل والبينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل / ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال : {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ، ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} والمعنى أنك لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم ، وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر ، ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى ، وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم ، وكما أن الحياة واليقظة وكذلك الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله عز وجل وإيجاده فكذلك الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى ، ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم فهذا وجه النظم في الآية ، وقيل نظم الآية أنه تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه الإله العالم ليدل على أنه بالعبادة أحق من هذه الأصنام.
جزء : 27 رقم الصفحة : 463
(1/3860)

المسألة الثانية : المقصود من الآية أنه تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها فقوله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يعني أنه تعالى يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت يمسكها ولا يردها إلى البدن وقوله : {وَيُرْسِلُ الاخْرَى ا إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني أن النفس التي يتوفاها عند النوم يردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى ، وذلك الأجل هو وقت الموت فهذا تفسير لفظ الآية وهي مطابقة للحقيقة ، ولكن لا بد فيه من مزيد بيان ، فنقول النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة ، فنقول إنه في وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر هذا البدن وعن باطنه وذلك هو الموت ، وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن/ فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه ، وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها : أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك اليقظة وثانيها : أن يرتفع ضوء النفس عن ظاهر البدن من بعض الوجوه دون باطنه وذلك هو النوم وثالثها : أن يرتفع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفياً للنفس ، ثم يمتاز أحدهما عن الآخر بخواص معينة في صفات معينة ، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم ، وهو المراد من قوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ويحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلهاً موصوفاً بهذه القدرة وبهذه الحكمة / وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك ، واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً ، فقالوا نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين ، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَا قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْـاًا وَلا يَعْقِلُونَ}
جزء : 27 رقم الصفحة : 463
وتقرير الجواب أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها والأول : باطل لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها والثاني : باطل لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئاً ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله ، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة ، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى : {قُل لِّلَّهِ الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا } ثم بين أنه لا ملك لأحد غير الله بقوله : {لَّه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ومنهم من تمسك في نفي الشفاعة مطلقاً بقوله تعالى : {قُل لِّلَّهِ الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا } وهذا ضعيف لأنا نسلم أنه سبحانه ما لم يأذن في الشفاعة لم يقدر أحد على الشفاعة ، فإن قيل قوله : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} فيه سؤال لأن هذا يدل على أن المتوفى هو الله فقط ، وتأكد هذا بقوله : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) وبقوله : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (البقرة : 258) وبقوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) ثم إن الله تعالى قال في آية أخرى : {قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} (السجدة : 11) وقال في آية ثالثة : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وجوابه أن المتوفى في الحقيقة هو الله ، إلا أنه تعالى فوض في عالم الأسباب كل نوع من أنواع الأعمال إلى ملك من الملائكة ، ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو رئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في هذه الآية إلى الله تعالى بالإضافة الحقيقية ، وفي الآية الثانية إلى ملك الموت لأنه هو الرئيس في هذا العمل وإلى سائر الملائكة لأنهم هم الأتباع لملك الموت والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 463
468
(1/3861)

اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين ، وهو أنك إذا ذكرت الله وحده تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ظهرت آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم ، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم ، وذلك يدل على الجهل والحماقة ، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات ، وأما ذكر الأصنام التي هي الجمادات الخسيسة ، فهو رأس الجهالات والحماقات ، فنفرتهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر هذه الأصنام من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ والحمق الشديد ، قال صاحب "الكشاف" وقد يقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة وجهه ويتهلل ، والاشمئزاز أن يعظم غمه وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية ، ولما حكى عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بأمرين أحدهما : أنه ذكر الدعاء العظيم ، فوصفه أولا بالقدرة التامة وهي قوله : {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وثانياً بالعلم الكامل وهو قوله تعالى عالم الغيب والشهادة ، وإنما قدم فذكر القدرة على ذكر العلم لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً ، ولما ذكر هذا الدعاء قال : {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم عند سماع الشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل ، ومع ذلك ، القوم قد أصروا عليه ، فلا يقدر أحد على إزالتهم عن هذا الاعتقاد الفاسد والمذهب الباطل إلا أنت. عن أبي سلمة قال : سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاته بالليل ؟
قالت "كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك وانك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
جزء : 27 رقم الصفحة : 468
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء أولها : أن هؤلاء / الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد وثانيها : قوله تعالى : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أي ظهرت لهم أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم ، وكما أنه صلى الله عليه وسلّم قال في صفة الثواب في الجنة "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" فكذلك في العقاب حصل مثله وهو قوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وثالثها : قوله تعالى : {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا } ومعناه ظهرت لهم آثار تلك السيئات التي اكتسبوها أي ظهرت لهم أنواع من العقاب آثار تلك السيئات التي اكتسبوها. ثم قال : {وَحَاقَ بِهِم} من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به ، فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 468
470
اعلم أن هذا حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة ، وذلك لأنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى ، ويرون أن دفع ذلك لا يكون إلا منه ، ثم إنه تعالى إذا خولهم النعمة ، وهي إما السعة في المال أو العافية في النفس ، زعم أنه إنما حصل ذلك بكسبه وبسبب جهده وجده ، فإن كان مالاً قال إنما حصل بكسبي ، وإن كان صحة قال إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني ، وهذا تناقض عظيم ، لأنه كان في حال العجز والحاجة أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله ، وأسنده إلى كسب نفسه ، وهذا تناقض قبيح ، فبين تعالى قبح طريقتهم فيما هم عليه عند الشدة والرخاء بلفظة وجيزة فصيحة ، فقال {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} يعني النعمة التي خولها هذا الكافر فتنة ، لأن عند حصولها يجب الشكر ، وعند فواتها يجب الصبر ، ومن هذا حاله يوصف بأنه فتنة من حيث يختبر عنده حال من أوتي النعمة ، كما يقال فتنت الذهب بالنار ، إذا عرضته على النار لتعرف خلاصته.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} والمعنى ما قدمنا أن هذا التخويل إنما كان لأجل الاختبار. وبقي في الآية أبحاث نذكرها في معرض السؤال والجواب.
(1/3862)

السؤال الأول : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء ههنا ، وعطف مثلها في أول السورة بالواو ؟
والجواب : أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزون من سماع التوحيد ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ، ثم ذكر بفاء التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إلى الله تعالى وحده ، كان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني ، فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال ، وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني ، فهذا هو الفائدة في ذكر فاء التعقيب ههنا. فأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال ، فلا جرم ذكر الله بحرف الواو لا بحرف الفاء.
جزء : 27 رقم الصفحة : 470
السؤال الثاني : ما معنى التخويل ؟
الجواب : التخويل هو التفضل ، يعني نحن نتفضل عليه وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق.
السؤال الثالث : ما المراد من قوله : {إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْما } ؟
الجواب : يحتمل أن يكون المراد ، إنما أوتيته على علم الله بكوني مستحقاً لذلك ، ويحتمل أن يكون المراد ، إنما أوتيته على علمي بكوني مستحقاً له ، ويحتمل أن يكون المراد ، إنما أوتيته على علم لأجل ذلك العلم قدرت على اكتسابه مثل أن يكون مريضاً فيعالج نفسه ، فيقول إنما وجدت الصحة لعلمي بكيفية العلاج ، وإنما وجدت المال لعلمي بكيفية الكسب.
السؤال الرابع : النعمة مؤنثة ، والضمير في قوله : {أُوتِيتُه } عائد على النعمة ، فضمير التذكير كيف عاد إلى المؤنث ، بل قال بعده : {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} فجعل الضمير مؤنثاً فما السبب فيه ؟
والجواب : أن التقدير حتى إذا خولناه شيئاً من النعمة ، فلفظ النعمة مؤنث ومعناه مذكر/ فلا جرم جاز الأمران.
ثم قال تعالى : {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فما أغنى عنهم الضمير في قالها راجح إلى قوله : {إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْما } عندي لأنها كلمة أو جملة من المقول {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } هم قارون وقومه حيث قال : {إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْما } عندي وقومه راضون به فكأنهم قالوها ، ويجوز أيضاً أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها.
/ ثم قال تعالى : {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ما أغنى عنهم ذلك الاعتقاد الباطل والقول الفاسد الذي اكتسبوه من عذاب الله شيئاً بل أصابهم سيئات ما كسبوا ، ولما بين في أولئك المتقدمين أنهم أصابهم سيئات ما كسبوا أي عذاب عقائدهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة قال : {وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي لا يعجزونني في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى : {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } يعني : أو لم يعلموا أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة ، ويقبض تارة أخرى ، وقوله : {وَيَقْدِرُ } أي ويقتر ويضيق ، والدليل عليه أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه ولا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله ، لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ، ونرى الجاهل المريض الضعيف في أعظم السعة ، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكبير والسلطان القاهر ، قد ولد فيه أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ، ويولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات ، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة ، علمنا أنه ليس المؤثر في السعادة والشقاوة هو الطالع ، ولما بطلت هذه الأقسام ، علمنا أن المؤثر فيه هو الله سبحانه ، وصح بهذا البرهان العقلي القاطع على صحة قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } .
جزء : 27 رقم الصفحة : 470
قال الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشترى
ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السما
ء وقاضي القضاة تعالى وجل
جزء : 27 رقم الصفحة : 470
472
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق العبيد وفيه مسائل :
(1/3863)

المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر ، فقالوا : إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص العباد بالمؤمنين قال تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا} (الإنسان : 6) ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم ، فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين ، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله {فِى عِبَـادِى} مختص بالمؤمنين ، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله ، أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح ، فثبت أن قوله {فِى عِبَـادِى} لا يليق إلا بالمؤمنين ، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال : {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ} وهذا عام في حق جميع المسرفين.
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين ، وذلك هو المقصود فإن قيل هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها ، وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً ، وأنتم لا تقولون به ، فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به ، والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية ، فسقط الاستدلال ، وأيضاً إنه تعالى قال عقيب هذه الآية {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} إلى قوله {بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعاً لما أمر عقيبه بالتوبة ، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون ، وأيضاً قال : {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} ولو كانت الذنوب كلها مغفورة ، فأي حاجة به إلى أن يقول : {يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} ؟
وأيضاً فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها ، وذلك لا يليق بحكمة الله ، وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب ألبتة ، فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله ، إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة ، فمعنى قوله {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أي بالتوبة والإنابة والجواب قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به/ قلنا بل نحن نقول به ونذهب إليه ، وذلك لأن صيغة يغفر صيغة المضارع ، وهي للاستقبال ، وعندنا أن الله تعالى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعاً ، إما قبل الدخول في نار جهنم ، وإما بعد الدخول فيها ، فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا.
أما قوله لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة ، فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم ، فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية ، بل نقول لعله يعفو مطلقاً ، ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك ، وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
(1/3864)

المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه : الأول : أنه سمى/ المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة ، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج. الثاني : أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا } وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب الثالث : أنه تعالى قال : {أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ} ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه بل هو عائد إليهم ، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم ، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم الرابع : أنه قال : {لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه } نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمراً بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم الخامس : أنه تعالى قال أولاً : {فِى عِبَـادِى} وكان الأليق أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال : {لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه } لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها ، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل السادس : أنه لما قال : {لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه } كان الواجب أن يقول إنه يغفر الذنوب جميعاً ولكنه لم يقل ذلك ، بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة إن المفيدة لأعظم وجوه التأكيد ، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السابع : أنه لو قال : {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} لكان المقصود حاصلاً لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعاً وهذا أيضاً من المؤكدات الثامن : أنه وصف نفسه بكونه غفوراً ، ولفظ الغفور يفيد المبالغة التاسع : أنه وصف نفسه بكونه رحيماً والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله {إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ} إشارة إلى إزالة موجبات العقاب ، وقوله {الرَّحِيمِ} إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب العاشر : أن قوله {إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يفيد الحصر ، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو ، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة ، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية ، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران ، ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته.
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب النزول وجوهاً ، قيل إنها نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له ، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم ؟
وقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته ، فلما نزلت الآية أسلم ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه له خاصة أم للمسلمين عامة ؟
فقال بل للمسلمين عامة وقيل نزلت في أناس أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا لا يقبل الله توبتهم ، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم فتنوا فافتتنوا وكان المسلمون يقولون فيهم لا يقبل الله منهم توبتهم فنزلت هذه الآيات فكتبها عمر/ وبعث بها إليهم فأسلموا وهاجروا ، واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول هذه الآيات في هذه الوقائع لا يمنع من عمومها.
المسألة الرابعة : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم {فِى عِبَـادِى} بفتح الياء والباقون/ وعاصم في بعض الروايات بغير فتح وكلهم يقفون عليه بإثبات الياء لأنها ثابتة في المصحف ، إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء ، وقرأ أبو عمرو والكسائي تقنطوا بكسر النون والباقون بفتحها وهما لغتان ، قال صاحب "الكشاف" ، وفي قراءة ابن عباس ، وابن مسعود {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
ثم قال تعالى : "وأنيبوا إلى ربكم} قال صاحب "الكشاف" أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخصلوا له العمل ، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه ، وأقول هذا الكلام ضعيف جداً لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة ، فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلاً قطعاً لما احتيج إلى التوبة ، لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب ، فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة ، فنقول هذا ضعيف لأن مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعاً ويعفو عنها قطعاً إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه ، ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب ، فثبت أن الذي قاله صاحب "الكشاف" ضعيف ولا فائدة فيه.
(1/3865)

ثم قال : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} واعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء فالأول : أمر بالإنابة وهو قوله تعالى : {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} والثاني : أمر بمتابعة الأحسن ، وفي المراد بهذا الأحسن وجوه الأول : أنه القرآن ومعناه واتبعوا القرآن والدليل عليه قوله تعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـابًا} (الزمر : 23) الثاني : قال الحسن معناه ، والتزموا طاعة الله واجتنبوا معصية الله ، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه ، ذكر القبيح ليجتنب عنه ، والأدون لئلا يرغب فيه ، والأحسن ليتقوى به ويتبع الثالث : المراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ لأن الناسخ أحسن من المنسوخ ، لقوله تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ } (البقرة : 106) ولأن الله تعالى لما نسخ حكماً وأثبت حكماً آخر كان اعتمادنا على المنسوخ.
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
ثم قال : {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} والمراد منه التهديد والتخويف والمعنى أنه يفجأ العذاب وأنتم غافلون عنه ، واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بيّن تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات فالأول : قوله تعالى : {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله {أَن تَقُولَ} مفعول له أي كراهة أن تقول : {نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} وأما تنكير لفظ النفس ففيه وجهان الأول : يجوز أن تراد نفس ممتازة عن سائر النفوس لأجل اختصاصها بمزيد إضرار بما لا ينفي رغبتها في المعاصي والثاني : يجوز أن/ يراد به الكثرة ، وذلك لأنه ثبت في علم أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يفيد الظن بأن ذلك الحكم معلل بذلك الوصف ، فقوله يدل على غاية الأسف ونهاية الحزن وأنه مذكور عقيب قوله تعالى : {نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} والتفريط في طاعة الله تعالى يناسب شدة الحسرة وهذا يقتضي حصول تلك الحسرة عند حصول هذا التفريط ، وذلك يفيد العموم بهذه الطريقة.
المسألة الثانية : القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية ، واعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت ، فلا فائدة في الإعادة ، ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضواً مخصوصاً لله تعالى ، فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه ، فثبت أنه لا بد من المصير إلى التأويل وللمفسرين فيه عبارات ، قال ابن عباس يريد ضيعت من ثواب الله ، وقال مقاتل ضيعت من ذكر الله ، وقال مجاهد في أمر الله ، وقال الحسن في طاعة الله ، وقال سعيد بن جبير في حق الله ، واعلم أن الإكثار من هذه العبارات لا يفيد شرح الصدور وشفاء الغليل ، فنقول : الجنب سمي جنباً لأنه جانب من جوانب ذلك الشيء والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت هذه المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له ، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة قال الشاعر :
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
أما تتقين الله جنب وامق
له كبد حرا عليك تقطع المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" قرىء على الأصل وعلى الجمع بين العوض والمعوض عنه.
أما قوله تعالى : {جَنابِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ} أي أنه ما كان مكتفياً بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين ، قال قتادة لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ، ومحل {وَإِن كُنتُ} نصب على الحالة كأنه قال : فرطت في جنب الله وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي.
النوع الثاني : من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم قوله {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
النوع الثالث : قوله {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء أولها : الحسرة على التفريط في الطاعة وثانيها : التعلل بفقد الهداية وثالثها : بتمني الرجعة ، ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال بفقد الهداية باطل ، لأن الهداية كانت حاصرة والأعذار زائلة ، وهو المراد بقوله {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج بلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل/ فيه معنى النفي ، لأن معنى قوله {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} أنه ما هداني ، فلا جرم حسن ذكر لفظة {بَلَى } بعده.
(1/3866)

المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر ، وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ على التأنيث ، قال أبو عبيد لو صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلّم لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ولكنه ليس بمسند ، لأن الربيع لم يدرك أم سلمة ، وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله {سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} (طه : 96) و{إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة بِالسُّواءِ} (يوسف : 53) و(الفجر : 27).
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
المسألة الثالثة : قال القاضي هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه الأول : أنه لا يقال : فلان أسرف على نفسه على وجه الذم إلا لما يكون من قبله ، وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى ، وثانيها : أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد ، وثالثها : إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب ، ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك ورابعها : قوله تعالى : {الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع وخامسها : ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل ، وسادسها : قولهم {نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله ، وسابعها : قوله تعالى : {عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ} ومن لا يقدر على الإيمان كما يقول القوم ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون مفرطاً ، وثامنها : ذمه لهم بأنهم من الساخرين ، وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم وكان يصح منهم أن لا يفعلوه ، وتاسعها : قوله {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} أي مكنني {لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وعلى هذا قولهم إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه ، وعاشرها : قوله {لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وعلى قولهم لو رده الله أبداً كرة بعد كرة ، وليس فيه إلا قدرة الكفر لم يصح أن يكون محسناً ، والحادي عشر : قوله تعالى موبخاً لهم {بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} فبيّن تعالى أن الحجة عليهم لله لأن الحجة لهم على الله ، ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا : قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها. والثاني عشر : أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر على وجه الذم ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالاً لهم لما صح الكلام ، والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة ، بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين/ والقسوة والاستدراج ، ولما كان هذا التفسير مملوءاً منه لم يكن إلى الإعادة حاجة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 472
478
علم أن هذا نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد ، أما الوعيد فقوله تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وفيه بحثان : أحدهما : أن هذا التكذيب كيف هو ؟
والثاني : أن هذا السواد كيف هو ؟
.
البحث الأول : عن حقيقة هذا التكذيب ، فنقول : المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، ومنهم من قال هذا القدر لا يكون كذباً بل الشرط في كونه كذباً أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه ، إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية :
(1/3867)

قال الكعبي : ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} (الزمر : 58) يعني أنه ما هداني بل أضلني ، فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وجب أن يكون هذا عائداً إلى ذلك الكلام المتقدم ، ثم روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما بال أقوام يصلون ويقرأون القرآن ، يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد ، وهم كذبة على الله ، والله مسود وجوههم} واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية : واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية : {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون ، والتكبر لا يليق بمن يقول أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد ، وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى ، أما الذين يقولون إن الله يريد شيئاً وأنا أريد بضده ، فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله ، فالتكبر بهذا القائل أليق ، فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد ، ومن الناس من قال إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى ، ومنهم من قال إنه مختص بمشركي العرب ، قال القاضي يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً ، فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه ، فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية ، لأنهم كذبوا على الله ، فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود والنصارى لا يجوز ، واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي/ لزمه تكفير الأمة ، لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى ، ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى ، ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما ، فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء ، مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول ، ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات ، وكانوا يقولون إن الله تعالى حرم البحيرة والسائية والوصيلة والحام ، مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا ، وكان قائله عالماً بأنه كذب وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل (يكون) مناسباً ، أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ يبعد إلحاق هذا الوعيد به.
جزء : 27 رقم الصفحة : 478
البحث الثاني : الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم ، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد ، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله ، وأقول إن الجهل ظلمة ، والظلمة تتخيل كأنها يواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم ، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة ، فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال : {وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} الآية ، قال القاضي المراد به من اتقى كل الكبائر إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله ، فيقال له : أمرك عجيب جداً فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى : {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (الزمر : 57) وجب أن يحمل قوله (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} على الذين قالوا على الذين قالوا {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى} فعلى هذا القانون لما تقدم قوله {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } .
ثم قال تعالى بعده : {وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب ، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنته يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله {وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} وأن يكون قولك {الَّذِينَ اتَّقَوْا } المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسداً ، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة ، بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي باللاتقاء والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء ، وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى ، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم.
ثم قال تعالى : {بِمَفَازَتِهِمْ} وفيه مسائل :
(1/3868)

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم على الجمع ، والباقون بمفازتهم على التوحيد ، وحكى الواحدي عن الفرّاء أنه قال : كلاهما صواب ، إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم وأمور القوم ، قال أبو علي الفارسي : الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها ، كقوله تعالى : {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } (الأحزاب : 10) ولا شك أن لكل متق نوعاً آخر عن المفازة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 478
المسألة الثانية : المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة ، فكأن المعنى أن النجاة في القياملاة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات ، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها.
ثم قال : {لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة ، كأنه قيل كيف ينجيهم ؟
فقيل : {لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه كلمة جامعة لأنه إذا لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي ، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات ، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة ، وتأكد هذا بقوله {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103).
جزء : 27 رقم الصفحة : 478
479
واعلم أنه لما أطال الكلام في شرح الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى : {خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الأنعام : 102) على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ، وأطنبنا هناك في الأسئلة والأجوبة ، فلا فائدة ههنا في الإعادة ، إلا أن الكعبي ذمكر ههنا كلمات فنذكرها ونجيب عنها ، فقال إن الله تعالى مدح نفسه بقوله {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح أن يحتج المخالف به ، وأيضاً فلم يكن في صدر هذه الأمة خلاف في أعمال العباد ، بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام ، فأراد الله تعالى أن يبين أنها جمع من خلقه ، وأيضاً لفظة {كُلُّ} قد لا توجب العموم لقوله تعالى : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23) {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء } (الأحقاف : 25) وأيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما ضافها إليهم بقوله {كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم} (البقرة : 109) ولما صح قوله {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران : 78) ولما صح قوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} (ص : 27) فهذا جملة ما ذكره الكعبي في تفسيره ، وقال الجبائي : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} سوى أفعال خلقه التي صح فيها الأمر والنهي واستحقوا بها الثواب والعقاب ، ولو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى ما جاز ذلك فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم وصورهم ، وقال أبو مسلم : الخلق هو التقدير لا الإيجاد ، فإذا أخبر الله عن عباده أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل ، فيصح أن يقال إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجداً له.
جزء : 27 رقم الصفحة : 479
واعلم أن الجواب عن هذه الوجوه قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة الأنعام ، فمن أراد الوقوف عليه فليطالع هذا الموضوع من هذا الكتاب ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} فالمعنى أن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك ، وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، لأن فعل العبد لو وقع بتخليق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى وكيلاً عليه ، وذلك ينافي عموم الآية.
ثم قال تعالى : {لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } والمعنى أنه سبحانه مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية ، لأن حالفظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت مقاليد الملك إليه وهي المفاتيح ، قال صاحب "الكشاف" : ولا واحد لها من لفظها ، وقيل مقليد ومقاليد ، وقيل مقلاد ومقاليد مثل مفتاح ومفاتيح ، وقيل إقليد وأقاليد ، قال صاحب "الكشاف" : والكلمة أصلها فارسية ، إلا أن القوم لما عربوها صارت عربية.
(1/3869)

واعلم أن الكلام في تفسير قوله {لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } قريب من الكلام في قوله تعالى : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (الأنعام : 59) وقد سبق الاستقصاء هناك ، قيل سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله {لَّه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فقال : "يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر ، سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير ، يحيي ويميت هو على كل شيء قدير" هكذا نقله صاحب "الكشاف".
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : صريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر ، وهذا يدل على أن كل من لم يكن كافراً فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله.
المسألة الثانية : أورد صاحب "الكشاف" سؤالاً ، وهو أنه بم اتصل قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا } ؟
وأجاب عنه بأنه اتصل بقوله تعالى : {وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا } (الزمر : 61) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} واعترض ما بينهما أنه خالق للأشياء كلها ، وأن له مقاليد السموات والأرض. وأقول هذا عندي ضعيف من وجهين الأول : أن وقوع الفاصل الكبير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد الثاني : أن قوله {وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} جملة فعلية ، وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} جملة إسمية ، وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية لا يجوز ، بل الأقرب عندي أن يقال إنه لما وصف الله تعالى نفسه بالصفات الإلهية والجلالية ، وهو كونه خالقاً للأشياء كلها ، وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها ، قال بعده : والذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة أولئك هم الخاسرون.
جزء : 27 رقم الصفحة : 479
ثم قال تعالى : {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر تأمرونني بنونين ساكنة الياء وكذلك هي في مصاحف الشام ، قال الواحدي وهو الأصل ، وقرأ ابن كثير تأمروني بنون مشددة على إسكان الألألى وإدغامها في الثانية ، وقرأ نافع تأمروني بنون واحدة خفيفة ، على حذل إحدى النونين والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة.
المسألة الثانية : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} منصوب بأعبد وتأمروني اعتراض ، ومعناه : أفغير الله أعبد بأمركم ؟
وذلك حين قال له المشركون أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، وأقول نظير هذه الآية ، قوله تعالى : {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 14) وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل.
المسألة الثالثة : إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء وبكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض ، وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع ، ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة ، واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة ، فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيد عليه ، فلهذا السبب قال : {أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ} ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع.
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} واعلم أن الكلام التام مع الدلائل القوية ، والجواب عن الشبهات في مسألة الإحباط قد ذكرناه في سورة البقرة فة نعيده ، قال صاحب "الكشاف" قرىء {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} على البناء للمفعول وقرىء بالياء والنون أي : ليحبطن الله أو الشرك وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين ؟
والجواب تقدير الآية : أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت ، كما تقول كسانا حلة أي كل واحد منا.
السؤال الثاني : ما الفرق بين اللامين ؟
الجواب الأولى : موطئة للقسم المحذوف والثانية : لام الجواب.
السؤال الثالث : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم ؟
والجواب أن قوله { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكاتنت منقسمة بمتساويين قضشية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق ، قال الله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وبأنهما قد فسدتا.
جزء : 27 رقم الصفحة : 479
(1/3870)

السؤال الرابع : ما معنى قوله {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} ؟
والجواب كما أن طاعات الأنبياء والرسل إفضل من طاعات غيرهم ، فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى : {إِذًا لاذَقْنَـاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} (الإسراء : 75) فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه ، وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم.
واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال : {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} ، والمقصود منه ما أمروه به من اوسلام ببعض آلهتهم ، كأنه قال إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله لأن قوله {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ} يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله ، فقال الله إنهم بئسما قالوا ولكن أنت على الضد مما قالوا ، فلا تعبد إلا الله ، وذلك لأن قوله {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} يفيد الحصر. ثم قال : {وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر عن الإطلاق العليم الحكيم ، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله.
جزء : 27 رقم الصفحة : 479
482
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئاً آخر سواه ، بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية ، فقال : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج بعض الناس بهذه الآية على أن الخلق لا يعرفون حقيقة الله ، قالوا لأن قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدرن وصف المؤمنين بذلك ، فسقط هذا الكلام.
المسألة الثانية : قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدره وصف المؤمنين بذلك ، فسقط هذا الكلام.
المسألة الثانية : قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } أي ما عظموه حق تعظيمه ، وهذه الآية مذكورة في سور ثلاث ، في سورة الأنعام ، وفي سورة الحج ، وفي هذه السورة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
(1/3871)

واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال تظمته ونهاية جلالته ، فقال : {وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه } قال القفال : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} كقول القائل وما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا ، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت ، فوجب أن لا تحطني عن قدري ومنزلتي ، ونظيره قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) أي كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه فكذا ههنا ، والمعنى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسموات في قبضته وقدرته ، قال صاحب "الكشاف" الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز ، وكذلك ما روي أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم تعجباً مما قال ، قال صاحب "الكشاف" وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة/ التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها الأذهان هينة عليه ، قال ولا نرى باباً في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ، فيقال له هل تسلم أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة ، وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع ، فحينئذ يجب حمله على المجاز ، فإن أنكر هذا الأصل فحينئذ يخرج القرآن بالكلية عن أن يكون حجة ، فإن لكل أحد أن يقول المقصود من الآية الفلانية كذا وكذا فأنا أحمل الآية على ذلك المقصود ، ولا ألتفت إلى الظواهر ، مثاله من تمسك بالآيات الواردة في ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار ، قال المقصود بيان سعادات المطيعين وشقاوة المذنبين ، وأنا أحمل هذه الآيات على هذا المقصود ولا أثبت الأكل والشرب ولا سائر الأحوال الجسمانية ، ومن تمسك بالآيات الوردة في إثبات وجوب الصلاة فقال المقصود منه إيجاب تنوير القلب بذكر الله ، فأنا أكتفي بهذا القدر ولا أوجب هذه الأعمال المخصوصة ، وإذا عرفت الكلام في هذين المثالين فقس عليه سائر المسائل الأصولية والفروعية ، وحينئذ يخرج القرآن عن أن يكون حجة في المسائل الأصولية والفروعية ، وذلك باطل قطعاً ، وأما إن سلم أن اوصل في علم القرآن أن يعتقد أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته ، فإن قام دليل منفصل على أنه يتعذر حمله على حقيقته ، فحينئذ يتعين صرفه إلى مجازه ، فإن حصلت هناك مجازات لم يتعين صرفه إلى مجاز معين إلا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيين ، فنقول ههنا لفظ اليمين حقيقة في الجارحة المخصوصة ، ولا يمكنك أن تصرف ظاهر الكلام عن هذا المعنى إلا إذا أقمت الدلالة على أن حمل هذه الألفاظ على ظواهرها ممتنع فحينئذ يجب حملها على المجازات ، ثم تبين بالدليل أن المعنى الفلاني يصح جعله مجازاً عن تلك الحقيقة ، ثم تبين بالدليل أن هذا المجاز أولى من غيره ، وإذا ثبتت هذه المقدملات وترتيبها على هذا الوجه فهذا هو الطريق الصحيح الذي عليه تعويل أهل التحقيق فأنت ما أتيت في هذا الباب بطريقة جديدة وكلام غريب ، بل هو عين ما ذكره أهل التحقيق ، فثبت أن الفرح الذي أظهره من أنه اهتدى إلى الطريق الذي لم يعرفه غيره طريق فاسد ، دال على قلة وقوفه على المعاني ، ولنرجع إلى الطريق الحقيقي فنقول لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح ، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى ، فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز ، فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره. قال تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
(1/3872)

{إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المعارج : 30) والمراد منه كونه مملوكاً له ، ويقال هذه الدار في يد فلان ، وفلان صاحب اليد ، والمراد من الكل القدرة ، والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته ، ولا يريدون إلا خلوص ملكه ، وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صوناً لهذه النصوص عن التعطيل ، فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب ، ولنا كتاب مفرد في إثبات تنزيه الله تعالى عن الجسمية والمكان ، سميناه بتأسيس التقديس ، من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه.
المسألة الثالثة : في تفسير ألفاظ الآية قوله {وَالارْضِ} المراد منه الأرضون السبع ، ويدل عليه وجوه الأول : قوله {جَمِيعًا} فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله {كُلُّ الطَّعَامِ} (آل عمران : 93) وقوله تعالى : {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ } (النور : 31) وقوله تعالى : {وَالنَّخْلَ بَاسِقَـاتٍ} (ق : 10) وقوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (العصر : 2 ، 3) فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع فكذا ههنا والثاني : أنه قال بعده {وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ } فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون الثالث : أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهذا مقتضى المبالغة ، وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض ، قال تعالى : {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (طه : 96) والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف ، ويقال أيضاً أعطني قبضة من كذا ، يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته ، يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته ، أما إذا أُريد معنى القبضة ، فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة فإن قيل ما وجه قراءة من قرأ قبضته بالنصب ، قلنا جعل القبضة ظرفاً وقوله {مَطْوِيَّـاتُ } من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
{يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ} (الأنبياء : 104) وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، ثم قال صاحب الكشاف : وقيل قبضته ملكه ويمينه قدرته ، وقيل مطويات بيمينه أي مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يقبضها ، ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجه ركيكة ، وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى ، وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب ، وأقول إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته ، وتقبيح طريقة القدماء عجيب جداً ، فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك الظاهر اللفظ ، والمصير إلى المجاز من غير دليل فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء ، وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة ، وأنه لا يجوز الدول عنه إلا لدليل منفل ، فهذا هو الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين ، فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه ؟
وأين العلم الذي لم يعرفه غيره ؟
مع أنه وقع في التأويلات العسر والكلمات الركيكة ، فإن قالوا المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس المراد من لفظ القبضة واليمين هذه الأعضاء ، وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد ، بل نفوض علمه إلى الله تعالى ، فنقول هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء ، فأما تعيين المراد ، فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى ، وهذا هو طريقة السلف المعرضين عن التأويلات ، فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلاً ، والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته تنزّه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية ، فإن قيل السؤال على هذا الكلام من وجوه الأول : أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع ، ثم إنه قال في صفة العرش {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم ، فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملاً للسموات والأرض ؟
(1/3873)

السؤال الثاني : أن قوله {وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه } شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة ، والقوم ما شاهدوا ذلك ، فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى ، فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم/ وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوّة وهم ينكرون قوله {وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك ؟
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
السؤال الثالث : حاصل القول في القبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة ، وكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرة الله فكذلك الآن ، فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة ؟
الجواب عن الأول : أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة ، ثم بعد تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
الجواب عن الثاني : أن المقصود أن الحق سبحانه هو المتولي لإبقاء السموات والأرضين على وجوه العمارة في هذا الوقت ، وهو المتولي بتخريبها وإفنائها في يوم القيامة فذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ، وتنبيه أيضاً على كونه غنياً على الإصلاق ، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها ، وذلك يدل على كمال الاستغناء.
الجواب عن الثالث : أنه إنما خصص تلك بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا ، فكذلك ظهر كمال قدرته عند خراب الدنيا والله أعلم.
واعمل أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضاً على كمال قدرته وعظمته ، وذلك شرح مقدمات يوم القيامة لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم ، فقال : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} واختلفوا في الصعقة ، منهم من قال إنها غير الموت بدليل قوله تعالى في موسى عليه السلام {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } (الأعراف : 143) مع أنه لم يمت ، فهذا هو النفخ الذي يورث الفزع الشديد ، وعلى هذا التقدير فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد ، وهو المذكور في سورة النمل في قوله {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ} (النمل : 87) وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين.
والقول الثاني : أن الصعقة عبارة عن الموت والقائلون بهذا القول قالوا إنهم يموتون من الفزع وشدة الصوت ، وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها : نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النمل والثانية : نفخة الصعق والثالثة : نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
وأما قوله {إِلا مَن شَآءَ اللَّه } ففيه وجوه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : عند نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل ويمكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يميت الله ميكائيل وإسرافيل ويبقي جبريل وملك الموت ثم يميت جبريل.
والقول الثاني : أنهم هم الشهداء لقوله تعالى : {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش".
القول الثالث : قال جابر هذا المستثنى هو موسى عليه السلام لأنه صعق مرة فلا يصعق ثانياً.
القول الرابع : أنهم الحور العين وسكن العرش والكرسي.
والقول الخامس : قال قتادة الله أعلم بأنهم من هم ، وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم. ثم قال تعالى : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وفيه أبحاث :
الأول : لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى ، لأن لفظ {ثُمَّ} يفيد التراخي/ قال الحسن رحمه الله القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أن بينهما أربعين" ولا أدري أربعون يوماً أو شهراً أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة.
الثاني : قوله {أُخْرَى } تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى ، وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة.
الثالث : قوله {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله {فَإِذَا هُم} تدل على التعقيب.
(1/3874)

الرابع : قوله {يُنظَرُونَ} وفيه وجهان الأول : ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم والثاني : ينظرون ماذا يفعل بهم ، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والخمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم.
ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} (إبراهيم : 48) وبدليل قوله تعالى : {وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة : 14) بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
المسألة الثانية : قالت المجسمة : إن الله تعالى نور محض ، فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله ، وأكدوا هذا بقوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (النور : 35).
واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه الأول : أنا بينا في تفسير قوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نوراً بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة ، وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور ههنا على العدل ، فنحتاج ههنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى ، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور ههنا ليس إلا هذا المعنى ، أما بيان الإستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون أظلمت البلاد بجورك ، وقال صلى الله عليه وسلّم : "الظلم ظلمات يوم القيامة" وأما بيان أن المراد من النور ههنا العدل فقط أنه قال : {وَجِا ى ءَ بِالنَّبِيِّـانَ وَالشُّهَدَآءِ} ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل ، وأيضاً قال في آخر الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم والوجه الثاني : في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى ، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى ، لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب ، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله ، كقوله : بيت الله ، وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول ، لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهات إلى المجاز. والوجه الثالث : أنه قد قال فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية ، ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكاً من الملوك ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نوراً.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
(1/3875)

المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء : أولها : قوله {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} وقد سبق الكلام فيه وثانيها : قوله {وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} وفي المراد بالكتاب وجوه الأول : أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة الثاني : المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه ا وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا} (الإسرار : 13) وقال أيضاً في آية أخرى {مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا } (الكهف : 49) وثالثها : قوله {وَجِا ى ءَ بِالنَّبِيِّـانَ} والمراد أن يكونوا شهداء على الناس ، قال تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) وقال تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } (المائدة : 109) ورابعها : قوله {وَالشُّهَدَآءُ} والمراد ما قاله في {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143) أو أراد بالشهداء المؤمنين ، وقال مقاتل : يعني الحفظة ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق : 21) وقيل أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله ، ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات ، بيّن تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه ، وعبّر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها : قوله تعالى : {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} وثانيها : قوله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وثالثها : قوله {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي وفيت كل نفس جزاء ما علمت ، ورابعها : قوله : {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} يعني أنه تعالى إذا لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي بالحق لأجل عدم العلم ، أما إذا كان عالماً بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ في ذلك الحكم ، فثبت أنه تعالى عبّر عن هذا المقصود بهذه العبارات المختلفة ، والمقصود المبالغة في تقرير أن كل مكلف فإنه يصل إلى حقه.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
482
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال فقال : {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} (الزمر : 70) بين بعده كيفية أحوال أهل العقاب ، ثم كيفية أحوال أهل الثواب وختم السورة.
أما شرح أحوال أهل العقاب فهو المذكور في هذه الآية ، وهو قوله {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا } قال ابن زيدان : سوق الذين كفروا إلى جهنم يكون بالعنف والدفع ، والدليل عليه قوله تعالى : {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} (الطور : 13) أي يدفعون دفعاً ، نظيره قوله تعالى : {فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (الماعون : 2) أي يدفعه ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} (مريم : 86).
وأما الزمر ، فهي الأفواج المتفرقة بعض في أثر بعض ، فبين الله تعالى أنهم يساقون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابها ، وهذا يدل على أن أبواب جهنم إنما تفتح عند وصول أولئك إليها ، فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنة جهنم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} أي من جنسكم {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا } فإن قيل فلم أضيف اليوم إليهم ؟
قلنا أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار ، لا يوم القيامة ، واستعمال لفظ اليوم والأيام في أوقات الشدة مستفيض ، فعند هذا تقول الكفار : بلى قد أتونا وتلوا علينا {وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ} وفي هذه الآية مسألتان :
المسألة الأولى : تقدير الكلام أنه حقت علينا كلمة العذاب ، ومن حقت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب ، وهذا صريح في أن السعيد لا ينقلب شقياً ، والشقي لا ينقلب سعيداً ، وكلمات المعتزلة في دفع هذا الكلام معلومة ، وأجوبتنا عنها أيضاً معلومة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
(1/3876)

المسألة الثانية : دلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع ، لأن الملائكة بينوا أنه ما بقي لهم علة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام ، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة ، ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا فهم {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} قالت المعتزلة : لو كان دخولهم النار لأجل أنه حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقول الملائكة {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فائدة ، بل هذا الكلام إنما يبقى مقيداً إذا قلنا إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم ، وذلك يدل على صحة قولنا ، والله أعلم بالصواب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 482
487
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة ، شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية ، فقال : {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } فإن قيل السوق في أهل النار للعذاب معقول ، لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بدّ وأن يساقوا إليه ، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة ، فأي حاجة فيه إلى السوق ؟
والجواب من وجوه الأول : أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67) فإذا قيل لواحد منهم إذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب ، فحينئذٍ يجتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثاني : أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار ، فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال الجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة ، فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار" فلهذا السبب يساقون إلى الجنة والرابع : أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد ، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين ، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك ، فشتان ما بين السوقين.
جزء : 27 رقم الصفحة : 487
ثم قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} الآية ، واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود : القيد الأول : هو مجيئهم إلى الجنة والقيد الثاني : قوله تعالى : {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو ، وقال ههنا بالواو فما الفرق ؟
قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على وصولهم إليها بدليل قوله {جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ} (ص : 50) فلذلك جيء بالواو كأنه قيل : حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها. القيد الثالث : قوله {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} فبيّن تعالى أن خزنة الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث فأولها : قولهم {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات وثانيها : قولهم {طِبْتُمْ} والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وثالها : قولهم {فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} والفاء في قوله {فَادْخُلُوهَا} يدل على كون ذلك الدخول معللاً بالطيب والطهارة ، قالت المعتزلة هذا يدل على أن أحداً لا يدخلها إلا إذا كان طاهراً عن كل المعاصي/ قلنا هذا شعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات ، وحينئذٍ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى ، فإن قيل فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب ؟
قلنا فيه وجهان الأول : أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني : أن الجواب هو قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} والواو محذوف ، والصحيح هو الأول ، ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات ، قال المتقون عند ذلك {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه } في قوله {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت : 30) {وَأَوْرَثَنَا الارْضَ}
جزء : 27 رقم الصفحة : 487
(1/3877)

والمراد بالأرض أرض الجنة ، وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه الأول : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام ، لأنه تعالى قال : دوكلا منها رغداً حيث شئتما} (البقرة : 35) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة ، لا جرم قالوا (البقرة : 35) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً لتسميتها بالإرث الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة ، لا جرم قالوا {وَأَوْرَثَنَا الارْضَ} والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة الثالث : أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غي منازع ولا مدافع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا ، والمشابهة علة حسن المجاز فإن قيل ما معنى قوله {حَيْثُ نَشَآءُ } وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره ؟
قلنا يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة عيره ، قال حكماء الإسلام : الجنات نوعان ، الجنات الجسمانية والجنات الروحانية فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها ، أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين ، ولما بيّن الله تعالى صفة أهل الجنة قال : {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} قال مقاتل ليس هذا من كلام أهل الجنة ، بل من كلام الله تعالى لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ولما قال تعالى : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة ، فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه ، فلهذا قال : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي محفين بالعرش. قال الليث : يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفاً إذا طافوا به.
إذا عرفت هذا ، فنقول بيّن تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال : {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح ، وحينئذٍ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد دي درجات التنزيه ومنازل التقديس.
جزء : 27 رقم الصفحة : 487
ثم قال : {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة ، فلكل واحد منهم في درجات المرعفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه ، وهو المراد من قوله {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا الحمد لله ربّ العالمين على قضائه بيننا بالحق ، وههنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق ، فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء ، بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه رباً للعالمين/ فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام ، وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فههنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد ، هذا إذا قلنا إن قوله {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} شرح أحوال الملائكة في الثواب ، أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين ، فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه وَأَوْرَثَنَا الارْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء ، فبيّن تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد ، فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح ، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة ، وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه ، فكان ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد.
ثم قال : {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} أي بين البشر ، ثم قال : {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} والمعنى أنهم يقدمون التسبيح ، والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية.

وأما قوله تعالى : {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فالمراد وصفه بصفات الإلهية ، فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال ، وقوله {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عبارة عن الإقرار بكونه موصوفاً بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام ، ومجموعهما هو المذكور في قوله {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 78) وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) وفي قوله {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو ، والمقصود من هذا الإبهام التنبيه ، على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة {دَعْوَا هُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } (يونس : 10).
جزء : 27 رقم الصفحة : 487
493
(1/3878)

سورة المؤمن
ثمانون وخمس آيات مكية
بِسمِ الَّلهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
جزء : 27 رقم الصفحة : 493
496
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي حم بكسر الحاء ، والباقون بفتح الحاء ، ونافع في بعض الروايات ، وابن عامر بين الفتح والكسر وهو أن لا يفتحها فتحاً شديداً ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء بفتح الميم وتسكينها ، ووجه الفتح التحريك لالتقاء الساكنين وإيثار أخف الحركات نحو : أين وكيف ، أو النصب بإضمار إقرأ ، ومنع الصرف إما للتأنيث والتعريف ، من حيث إنها اسم للسورة وللتعريف ، وإنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل ، وأما السكون فلأنا بينا أن الأسماء المجردة تذكر موقوفة الأواخر.
المسألة الثانية : الكلام المستقصى في هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ، والأقرب ههنا أن يقال حم اسم للسورة ، فقوله {حم } مبتدأ ، وقوله {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} خبر والتقدير أن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب ، فقوله {تَنزِيلَ} مصدر ، لكن المراد منه المنزل.
وأما قوله {مِنَ اللَّهِ} فاعلم أنه لما ذكر أن {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ} وجب بيان أن المنزل من هو ؟
فقال : {مِنَ اللَّهِ} ثم بيّن أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملاً على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه ، فبين أن المنزل هو {اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم بالله ما هو ؟
فقال جمع عظيم ، أنه العلم بكونه قادراً وبعده العالم بكونه عالماً ، إذا عرفت هذا فنقول {الْعَزِيزُ} له تفسيران أحدهما : الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة والثاني : الذي لا مثل له ، ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر ، لأن قوله تعالى : {اللَّهِ} يدل على كونه قادراً ، فوجب حمل {الْعَزِيزُ} على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل ، وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسماً ، والذي لا يكون جسماً يكون منزّهاً عن الشهوة والنفرة ، والذي يكون كذلك يكون منزّهاً عن الحاجة. وأما {الْعَلِيمُ} فهو مبالغة في العلم ، والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالماً بكل المعلومات ، فقوله {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق ، الغني المطلق ، العالم المطلق ، ومن كان كذلك كان عالماً بوجوه المصالح والمفاسد ، وكان عالماً بكونه غنياً عن جر المصالح ودفع المفاسد ، ومن كان كذلك كان رحيماً جواداً ، وكانت أفعاله حكمة وصواباً منزّهة عن القبيح والباطل ، فكأن سبحانه إنما ذكر عقيب قوله {تَنزِيلَ} هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقاً وصواباً ، وقيل الفائدة في ذكر {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أمران أحدهما : أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز/ ولولا كونه عزيزاً عليماً لما صح ذلك والثاني : أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف ، وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزاً لا يغلب وبكونه عليماً لا يخفى عليه شيء ، ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ، فقال : {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِا لا إِلَاهَ إِلا هُوَا إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فهذه ستة أنواع من الصفات :
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
(1/3879)

الصفة الأولى : قوله {غَافِرِ الذَّنابِ} قال الجبائي : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه ، ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها ، وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة ، ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة ، وهذه الآية تدل على ذكل وبيانه من وجوه الأول : أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد ، وجميع الأنبياء والألياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات ، فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبقبينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل ، فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب الثاني : أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي يكون باقياً موجوداً فيستر ، والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها ، فمعنى الغفر فيها غير معقول ، ولا يمكن حمل قوله {غَافِرِ الذَّنابِ} على الكبيرة بعد التوبة ، لأن معنى كونه قابلاً للتوب ليس إلا ذلك ، فلو كان المراد غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافراً للذنوب الكبائر قبل التوبة الثالث : أن قوله {غَافِرِ الذَّنابِ} مذكور في معرض المدح العظيم ، فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح ، وذلك هو كونه غافراً للكبائر قبل التوبة ، وهو المطلوب.
الصفة الثانية : {وَقَابِلِ التَّوْبِ} وفيه بحثان :
الأول : في لفظ التوب قولان : الأول : أنه مصدر وهو قول أبي عبيدة ، والثاني : أنه جماعة التوبة وهو قول الأخفش ، قال المبرد يجوز أن يكون مصدراً يقال تاب يتوب توباً وتوبة مثل قال يقول قولاً وقولة ، ويجوز أن يكون جمعاً لتوبة فيكون توبة وتوب مثل ثمرة وثمر إلا أن المصدر أقرب لأن على هذا التقدير يكون تأويله أنه يقبل هذا الفعل.
الثاني : مذهب أصحابنا أن قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضل ، وليس بواجب على الله ، وقالت المعتزلة إنه واجب على الله واحتج أصحابنا بأنه تعالى ذكر كونه قابلاً للتوب على سبيل المدح والثناء ، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل ، وهو القدر الذي يحصل لجميع الصالحين عند أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات.
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
الصفة الثالثة : قوله {شَدِيدُ الْعِقَابِ} وفيه مباحث :
البحث الأول : في هذه الآية سؤال وهو أن قوله {شَدِيدُ الْعِقَابِ} يصلح أن يكون نعتاً للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتاً للمعرفة تقول مررت برجل شديد البطش ، ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش ، وقوله الله تسم علم فيكون معرفة فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفاً لنكرة ؟
قالوا وهذا بخلاف قولنا غافر الذنب وقابل التوب لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غداً ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش/ وأما {شَدِيدُ الْعِقَابِ} فمشكل لأنه في تقدير شديد عقابه فيكون نكرة فلا يصح جعله صفة للمعرفة ، وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه الأول : أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج : 14 ـ 16) والثاني : قال الزجاج إن خفض {شَدِيدُ الْعِقَابِ} على البدل ، لأن جعل النكرة بدلاً من المعرفة وبالعكس أمر جائز ، واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلاً من الصفات فيه نبوّة ظاهرة الثالث : أنه لا نزاع في أن قوله {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} يحسن جعلهما صفة ، وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار ، فكذلك قوله {شَدِيدُ الْعِقَابِ} يفيد معنى الدوام والاستمرار ، لأن صفات الله تعالى منزّهة عن الحدوث والتجدد ، فكونه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} معناه كونه بحيث يشتد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبداً ، وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك ، فهذا ما قيل في هذا الباب/
البحث الثاني : هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل ، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب ، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة ، وهو قوله {ذِى الطَّوْلِ } ، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقاً بتينك الصفتين وملحوقاً بهذه الصفة ، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح.
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
(1/3880)

البحث الثالث : لقائل أن يقول ذكر الواو في قوله {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} ولم يذكرها في قوله {شَدِيدُ الْعِقَابِ} فما الفرق ؟
قلنا إنه لو لم يذكر الواو في قوله {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلاة كونه قابل التوب ، أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال ، لأن عطف الشيء على نفسه محال ، أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه {غَافِرِ الذَّنابِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} فاستغنى به عن ذكر الواو.
الصفة الرابعة : {ذِى الطَّوْلِ } أي ذي التفضل يقال طال علينا طولاً أي تفضل علينا تفضلاً ، ومن كلامهم طل علي بفضلك ، ومنه قوله تعالى : {أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} (الزمر : 86) ومضى تفسيره عند قوله {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا} (النساء : 25) واعلم أنه لم يصف نفسه بكونه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتياً بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به ، بل لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتياً لفعل القبيح ، وإذا ثبت هذا فنقول : ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل ، فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول فيماذا فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره ، وهو فعل العقاب الحسن دفعاً للإجمال ، وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي حسن منه تعالى فعله ، وذلك يدل على أن العفو عن أصحاب الكبائر جائز وهو المطلوب.
الصفة الخامسة : التوحيد المطلق وهو قوله {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} والمعنى أنه وصف نفسه بصفات ارحمة والفضل ، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، أما إذا كان واحداً وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة ، فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد.
الصفة السادسة : قوله {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وهذه الصفة أيضاً مما يقوى الرغبة في الإقرار بعبوديته/ لأنه بتقدير أن يكون موصوفاً بصفات الفضل والكرم وكان واحداً لا شريك له ، إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلاً لم يكن الخوف الشديد حاصلاً من عصيانه ، أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلاً كان الخوف أشد والحذر أكمل ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الالصفات ، واحتج أهل التشبيه بلفظة إلى ، وقالوا إنها تفيد انتهاء الغاية ، والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
واعلم أنه تعالى لما قرر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله وإخفاء أمره فقال : {مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الجدال نوعان جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل ، أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النمل : 125) وقال حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام {يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (هود : 32) وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال : {مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا } وقال : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف : 58) وقال : {وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} وقال صلى الله عليه وسلّم : "إن جدالاً في القرآن كفر" فقوله إن جدالاً على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال لأجل تقريره والذب عنه ، قال صلى الله عليه وسلّم : "إن جدالاً في القرآن كفر" وقال : "لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر".
المسألة الثانية : الجدال في آيات الله هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر ، وأشباه هذا مما كانوا يقولون من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق.
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
(1/3881)

ثم قال تعالى : {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ} أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأمرالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش ، فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية ، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون ، ثم كشف عن هذا المعنى فقال : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالاحْزَابُ مِنا بَعْدِهِمْ } فذكر من أولئك المكذبين قوم نوح والأحزاب من بعدهم أي الأمم المستمرة على الكفر كقوم عاد وثمود وغيرهم ، كما قال في سورة ص (12 ، 13) {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الاوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِا أولئك الاحْزَابُ} وقوله {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةا بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوه } أي وعزنت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه {وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ} أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بأيراد الشبهات {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق {فَأَخَذْتُهُم فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل ، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا ، فكيف كان عقابي إياهم ، أليس كان مهلكاً مستأصلاً مهيباً في الذكر والسماع ، فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله ، ثم كشف عن هذا المعنى فقال : {وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} أي ومثل الذي حق على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقت كلمتي أيضاً على هؤلاء الذين كفروا من قومك فهم على شرف نزول العقاب بهم قال صاحب "الكشفا" {أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} في محل الرفع بدل من قوله {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ} أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار/ ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل ، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة ، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن قضاء الله بالسعادة والشاقوة لازم لا يمكن تغييره ، فقالوا إنه تعالى أخبر أنه حقت كلمة العذاب عليهم وذلك يدل على أنهم لا قدرة لهم على الإيمان ، لأنهم لو تمكنوا منه لتمكنوا من إبطال هذه الكلمة الحقة ، ولتمكنوا من إبطال علم الله وحكمته ، ضرورة أن المتمكن من الشيء يجب كونه متمكناً من كل ما هو من لوازمه ، ولأنهم لو آمنوا لوجب عليهم أن يؤمنوا بهذه الآية فحينئذ كانوا قد آمنوا بأنهم لا يؤمنون أبداً ، وذلك تكليف ما لا يطاق ، وقرأ نافع وابن عامر {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} على الجمع والباقون على الواحد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 496
497
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين ، بيّن أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين ، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبا لغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزناً ، فإن حملة العرش والحافون من حول العرش معك ينصرونك وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى حكى عن نوعين من فرق الملائكة هذه الحكاية :
القسم الأول : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} وقد حكى تعالى أن الذين يحملون العرش يوم القيامة ثمانية ، فيمكن أن يقال الذين يحملون في هذا الوقت هم أولئك الثمانية الذين يحملونه يوم القيامة ، ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم ، روى صاحب "الكشاف" أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع ولا يرفعون طرفهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية العرش على كاهله ، وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوضع" قيل إنه طائر صغير ، وروي أن الله أمر جميع الملائكة أن يغدو ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة ، وقيل خلق الله العرش ممن جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف وقد وضعوا الأيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا ويسبح بما لا يسبح به الآخر ، هذه الآثار نقلتها من "الكشاف".
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
(1/3882)

وأما القسم الثاني : من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقوله تعالى : {وَمَنْ حَوْلَه } والأظهر أن المراد منهم ما ذكره في قوله {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } (الزمر : 75) وأقول العقل يدل على أن حملة العرش ، والحافين حول العرش يجب أن يكونوا أفضل الملائكة ، وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد ، فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد ، وأيضاً يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعيلة لجسم العرش أرواح أُخر من جنسها ، وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر : 75) وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية ، وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد/ إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد ، فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح.
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزّه عن أن يكون في العرش ، وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} وقال في آية أخرى {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) ولا شك أن حامل العرش يكون حاملاً لكل من في العرش ، فلو كان إله العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإله العالم فحينئذ يكونون حافظين لإله العالم والحافظ القادر أولى بالإلهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية ، فحينئذ ينقلب الإله عبداً والعبد إلهاً ، وذلك فاسد ، فدل هذا على أن إله العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام.
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش ، وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء :
النوع الأول : قوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ونظيره قوله حكاية عن الملائكة {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} (البقرة : 30) وقوله تعالى : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } (الزمر : 75) فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي ، والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق ، فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام ، فقوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } قريب من قوله {تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ} (الرحمن : 78).
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
النوع الثاني : مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى : {وَيُؤْمِنُونَ بِه } فإن قيل فأي فائدة في قوله {وَيُؤْمِنُونَ بِه } فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله ؟
قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب "الكشاف" ، وقد أحسن فيه جداً فقال إن المقصود منه التنبه على أن الله تعالى لو كان حاضراً بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه ، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء ، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم ، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضراً جالساً هناك ، ورحم الله صاحب "الكشاف" فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخراً وشرفاً.
النوع الثالث : مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة عللى خلق الله ، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدماً على الشفقة على خلق الله فقوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه } مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } مشعر بالشفقة على خلق الله.
ثم في الآية مسائل :
(1/3883)

المسألة الأولى : احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن الملك أفضل من البشر ، قالوا لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون ، وهذا يدل على أنهم مستغنون على الاستغفار لأنفسهم إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلّم : "ابدأ بنفسك" وأيضاً قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } (محمد : 19) فأمر محمداً أن يذكر أولاً الاستغفار لنفسه ، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره ، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال : {رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} (نوح : 28) وهذا يدل على أن كل من كان محتاجاً إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره ، فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفا ر لكان اشتغالهم لأنفسهم مقدماً على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم ، ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار ، وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى استغفار بدليلل قوله تعالى لمحمد عليه السلام {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
المسألة الثانية : احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين ، قال وذلك لأن الملائكة قالوا {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} قال وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر سواء كان مصراً عللى الفسق أو لم يكن كذلك ، لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعاً سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه ، وأيضاً إن الملائكة يقولون {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ} وهذا لا يليق بالفاسقين ، لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك ، فثبت أن شفاعة الملائكة لا يتناول إلا أهل الطاعة ، فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والجواب أن نقول هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين ، فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره الكعبي ، أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه الأول : قوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب. أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً الثاني : قوله تعالى : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان ، فإذا دلنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة الثالث : قوله تعالى : {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } طلب المغفرة للذين تابوا ، ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة ، لأن ذلك واجب على الله عند الخصم ، وما كان فعله واجباً كان طلبه بالدعاء قبيحاً ، ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر ، لأن ذلك أيضاً واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء ، ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب ، لأن ذلك لا يسمى مغفرة ، فثبت أنه لا يمكن حممل قوله {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة ، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق ، أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا ، فنقول يجب أن يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان ، وقوله إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائباً ولا متبعاً سبيل الله ، قلنا لا نسلم قوله ، بل يقال إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة ، وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب ، ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضارباً وضاحكاً صدور الضرب والضحك عنه واحدة ، ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه فكذا ههنا.
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
المسألة الثالثة : قال أهل التحقيق : إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت ، وذلك لأنهم قالوا في أول تخلليق البشر {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30) فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره ، فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه.
(1/3884)

واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا ، بيّن كيفية ذلك الاستغفار ، فحكى عنهم أنهم قالوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الدعاء في أكثر الأمور مذكور بلفط {رَبَّنَآ} ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا {رَبَّنَآ} بدليل هذه الآية ، وقال آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) وقال نوح عليه السلام {رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ } (هود : 47) وقال أيضاً : {رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا} (نوح : 5) وقال أيضاً : {رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ} (نوح : 28) وقال عن إبراهيم عليه السلام : {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى } (البقرة : 260) وقال : {رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم : 41) وقال : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة : 128) وقال عن يوسف {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ} (يوسف : 101) وقال عن موسى عليه السلام : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } (الأعراف : 143) وقال في قصة الوكز {قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَه ا إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} (القصص : 16 ، 17) وحكى تعالى عن داود {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } (ص : 24) وعن سليمان أنه قال : {رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا} (ص : 35) وعن ذكريا أنه {نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} (مريم : 3) وعن عيسى عليه السلام أنه قال : {رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآاـاِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} (المائدة : 114) وعن محمد صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى قال له : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ} (المؤمنون : 97) وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} (آل عمران : 191) وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات ، وحكى أيضاً عنهم أنهم قالوا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة : 285) إلى آخر السورة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
فثبت بما ذكرنا أن من أرضى الدعاء أن ينادي العبد ربه بقوله يا رب وتمام الإشكال فيه أن يقال لفظ الله أعظم من لفظ الرب ، فلم صار لفظ الرب مختصاً بوقت الدعاء ؟
، والجواب كأن العبد يقول : كنت في كتم العدم والمحض والنفي الصرف ، فأخرجتني إلى الوجود ، وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك.
المسألة الثانية : السنة في الدعاء ، يبدأ في بالثناء على الله تعالى ، ثم يذكر الدعاء عقيبه ، والدليل عليه هذه الآية ، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدأوا بالثناء فقالوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} وأيضاً أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولاً فقال : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء : 78 ـ 82) فكل هذا ثناء على الله تعالى ، ثم بعده ذكر الدعاء فقال : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83).
واعلم أن العقل يدل أيضاً على رعاية هذا الترتيب ، وذلك ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس ، فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهباً إبريزاً فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية ، انقلب من ننحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة ، فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح ، يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقاً ، ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل ، فكان حصول الشيء المطلوب أقرب وأكمل ، وهذا هو السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء.
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
(1/3885)

المسألة الثالثة : اعلم أن الملائكة وصفوا الله تعالى بثلاثة أنواع من الصفات : الربوبية والرحمة والعلم ، أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع ، وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم {رَبَّنَآ} إشارة إلى التربية ، والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكل أحواله وأحسن صفاته ، وهذا يدل على أن هذه الممكنات ، كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده ، فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء الله ، وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر ، وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير ، لا للاضرار والشر ، فإن قيل قوله {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} فيه سؤال ، لأن العلم وسع كل شيء ، أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء ، لأن المضرور حال وقوعه في الضر لا يكون ذلك الضرر رحمة ، وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } (الأعراف : 156) قلنا كل وجود فقد ننال من رحمة الله تعالى نصيباً وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى ، وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده ، وذلك رحمة ، فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله ، فلهذا قال : {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} وفي الآية دقيقة أخرى ، وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب ، فالمطلوب بالذات هو الرحمة ، والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم ، والمطلوب بالذات مقدم على المطلوب بالعرض ، ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوباً بالذات وإزالة المرض مطلوباً بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض ، فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة ، فكذا ههنا المطلوب بالذات هو الرحمة ، وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض ، لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب ، فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقاً على ذكر العلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم ، ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره ، والجمع بين هذين الأصلين في غاية اللصعوبة ، فعند هذا قالت الحكماء : الخير مراد مرضي ، والشر مراد مكروه ، والخير مقضي به بالذات ، والشر مقضي به باللعرض ، وفيه غور عظيم.
المسألة الخامسة : قوله {وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} يدل على كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات ، وأيضاً فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء ، فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن الله سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة ألبتة.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على الله تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم ، وهو أنهم قالوا {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} واعلم أن الملائكة طلبوا بالدعاء من الله تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين ، فالمطلوب الأول الغفران وقد سبق تفسيره في قوله {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} فإن قيل لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب ، وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله : فاغفر لهم ، وبين قوله {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} قلنا دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة ، فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة ، واعلم أنهم لما طلبوا من الله إزالة العذاب عنهم أردفوه بأن طلبوا من الله إيصال الثواب إليهم فقالوا {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ} فإن قيلل أنتم زعمتم أن هذه الشفاعة إنما حصلت للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم في جنّات عدن ، قلنا لا نسلم أنه ما وعدهم بذلك ، لأنا بينا أن الدلائل الكثيرة في القرآن دلّت على أنه تعالى لا يخلد أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله في النار ، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعداً من الله تعالى لهم بأن يدخلهم في جنّات عدن ، إما من غير دخول النار وإما بعد أن يدخلهم النار. قال تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
(1/3886)

{وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ } يعني وأدخل معهم في الجنة هؤلاء الطوائف الثلاث ، وهم الصالحون من الآباء والأزواج والذريا ، وذلك لأن الرجل إذا حضر معه في وضع عيشه وسروره أهله وعشيرته كان ابتهاجه أكمل ، قال الفرّاء والزجاج {وَمَن صَلَحَ} نصب من مكانين فإن شئت رددته على الضمير في قوله {وَأَدْخِلْهُمْ} وإن شئت في {وَعَدْتَّهُمْ} والمراد من قوله {وَمَن صَلَحَ} أهل الإيمان ، ثم قالوا : {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين لأنه للو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ، ولو لم يكن حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة ، ثم قالوا بعد ذلك {وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } قال بعضهم المراد وقهم عذاب السيئات ، فإن قيل فعللى هذا التقدير لا فرق بين قوله {وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } وبين ما تقدم من قوله {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وحينئذ يلزم التكرار الخالي عن الفائدة وإنه لا يجوز ، قلنا بل التفاوت حاصل من وجهين الأول : أن يكون قوله {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} دعاء مذكور للأصول وقوله {وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } دعاءً مذكوراً للفروع الثاني : أن يكون قوله {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} مقصوراً على إزالة الجحيم وقوله {وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة وعذاب الحساب والسؤال.
والقول الثاني : في تفسير {وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وطلبوا إيصال ثواب الجنة إليهم بقولهم {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ} ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة/ والأعمال الفاسدة ، وهو المراد بقولهم {وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } ثم قالوا {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَـاـاِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَه } يعني ومن تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة ، ثم قالوا {وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً ، وبأعمال حقيرة ملكاً لا تصل العقول إلى كنه جلالته.
جزء : 27 رقم الصفحة : 497
502
اعلم أنه تعالى لما عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله وهم الذين ذكرهم الله في قوله {مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا } (غافر : 4) بين أنهم في القيامة يتعرفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف وفيها أيضاً تقديم وتأخير ، أما الحذف فتقديره لمقت الله إياكم ، وما التقديم والتأخير فهو أن التقدير أن يقال لمقت الله لكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم وفي تفسير مقتهم أنفسهم وجوه الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا الثاني : أن الاتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم ، كما أنه تعالى قال : {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } (البقرة : 54) والمراد قتل بعضهم بعضاً الثالث : قال محمد بن كعب إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } (إبراهيم : 22) ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم ، واعلم أنه لا نزاع أن مقتهم أنفسهم إنما يحصل في يوم القيامة ، أما مقت الله لهم ففيه وجهان الأول : أنه حاصل في الآخرة ، والمعنى لمقت الله لكم في هذا الوقت أشد من مقتكم أنفسكم في هذا الوقت والثاني : وعليه الأكثرون أن التقدير لمقت الله لكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، أكبر من مقتكم أنفسكم الآن ففي تفسير الألفاظ المذكورة في الآية أوجه الأول : أن الذين ينادونهم ويذكرون لهم هذا الكلام هم خزنة جهنم الثاني : المقت أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه أبلغ الإنكار والزجر الثالث : قال الفراء {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ} معناه إنهم ينادون إن مقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتأتون بالكفر أكبر من مقتكم الآن أنفسكم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 502
ثم إنه تعالى بيّن أن الكفار إذا خاطبوا بهذا الخطاب {قَالُوا رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} إلى آخر الآية ، والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا لكي يشتغلوا عند الرجوع إليها بالأعمال الصالحة ، وفي الآية مسائل :
(1/3887)

المسألة الأولى : احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر ، وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي يحصل عقيبها موتاً ثانياً ، وذلك يدل على حصول حياة في القبر ، فإن قيل قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا/ فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك ، والذي يدل على أن الأمر ما ذكرناه قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} (البقرة : 28) والمراد من قوله {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} الحالة الحاصلة عند كونه نطفة وعلقة وتحقيق الكلام أن الإماتة تستعمل بمعنيين أحدهما : إيجاد الشيء ميتاً والثاني : تصيير الشيء ميتاً بعد أن كان حياً كقولك وسع الخياط ثوبي ، يحتمل أنه خاطه واسعاً ويحتمل أنه صيره واسعاً بعد أن كان ضيقاً ، فلم لا يجوز في هذه الآية أن يكون المراد بالإماتة خلقها مية ، ولا يكون المراد تصييرها ميتة بعد أن كانت حية.
السؤال الثاني : أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة.
السؤال الثالث : أن هذه الآية تدل على المنع من حصول الحياة في القبر ، وبيانه أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها : في الدنيا ، وثانيها : في القبر ، وثالثها : في القيامة ، والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط ، فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا.
السؤال الرابع : أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فههنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فمن وجوه الأول : قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه } (الزمر : 9) فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة ، ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلاً ، ولو كان الأمر كذلك لذكره ، ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل الثاني : أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى } (الصافات : 58 ، 59) ولا شك أن كلام أهل الجنة حق وصدق ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين ، وذلك على خلاف قوله {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى } قالوا والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها ، لأنه الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة والآية التي تسمكتم بها حكاية قول الاكافرين الذين دخلوا النار.
جزء : 27 رقم الصفحة : 502
وأما المعقول فمن وجوه الأول : وهو أن الذي افترسه السباع وأكلته لو أعيد حياً لكان إما أن يعاد حياً بمجموعة أو بأحاد أجزائه ، والأول باطل لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع ، والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع ، فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها ، وذلك في غاية الاستبعاد. الثاني : أن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقياً على موته ، فلو جاوزنا مع هذه الحالة أنه يقال إنه صار حياً لكان هذا تشكيكاً في المحسوسات ، وإنه دخول في السفسطة (والجواب) قوله لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى وهي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة ؟
فنقول هذا لا يجوز ، وبيانه أن المذكور في الآية أن الله أماتهم ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة إذ لو كان الموت حاصلاً قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة ، وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال وهذا بخلاف قوله {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتاً وليس فيها أن الله أماتهم بخلاف الآية التي تحن في تفسيرها ، لأنهت تدل على أن الله تعالى أماتهم مرتين ، وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة فظهر الفرق.
(1/3888)

أما قوله ءن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة ، قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم/ ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كذبهم الله في ذلك فقال : {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا } (الأنعام : 23 ، 24) وأما قوله ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبرة إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين ، فنقول (الجواب) عنه من وجوه : الأول : هو أن مقصودهم تعديل أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة ، فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة ، فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة فلهذا السبب لم يذكروها الثاني : لعلهم ذركوا الحياتين : وهي الحياة في الدنيا ، والحياة في القيامة ، أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها الثالث : لعلهم لما صاروا أحياء في القبول لم يموتوا بل بقوا أحياء ، إما في السعادة ، إما في لاشقاوة ، واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم الله بالاستثناء في قوله {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه } (الزمر : 68) الرابع : لو لم يثبت الحياة في القبر لزم أن لا يحصل الموت إلا مرة واحدة فكان إثبات الموت مرتين كذباً وهو على خلاف لفظ القرآن ، أما لو أثبتنا الحياة في القبر لزمنا إثبات الحياة ثلاث مرات والمذكور في القرآن مرتين ، أما المرة الثالثة فليس في اللفظ ما يدل على ثبوتها أو عدمها ، فثبت أن نفي حياة القبر يقتضي ترك ما دل اللفظ عليه ، فأما إثبات حياة القبر فإنه يقتضي إثبات شيء زائد على ما دل عليه اللفظ مع اللفظ لا إشعار فيه بثبوته ولا بعدمه فكان هذا أولى ، وأما ما ذكروه في المعارضة الأولى فنقول قوله {يَحْذَرُ الاخِرَةَ} (الزمر : 9) تدخل فيه الحياة الآخرة سواء كانت في القبر أو في القيامة ، وأما المعارضة الثانية فجوابها أنا نرجح قولنا بالأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر.
جزء : 27 رقم الصفحة : 502
وأما الوجهان العقليان فمدفوعان ، لأنا إذا قلنا إن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو عبارة عن جسم نوراني سار في هذا البدن كانت الإشكالات التي ذكراتموها غير واردة في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أنا لما أثبتنا حياة القبر فيكون الحاصل في حق بعضهم أربعة أنواع من الحياة وثلاثة أنواع من الموت ، والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ } (البقرة : 243) فهؤلاء أربعة مراتب في الحياة ، حياتان في الدنيا ، وحياة في القبر ، وحياة رابعة في القيامة.
المسألة الثالثة : قوله {اثْنَتَيْنِ} نعت لمصدر محذوف والتقدير إماتتين اثنتين ، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} فإن قيل الفاء في قوله {فَاعْتَرَفْنَا} تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سبباً لهذا الاعتراف فبينوا هذه السببية ، قلنا لأنهم كانوا منكرين للبعث فلما شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث ، فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن ذلك الإحياء وتلك الإماتة ، ثم قال : {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} أي هل إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل ، أم اليأس وقع فلا خروج ، ولا سبيل إليه ؟
وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، واعلم أن الجواب الصريح عنه أن يقال لا أو نعم وهو تعالى لم يفعل ذلك بل ذكر كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج فقال : {ذَالِكُم بِأَنَّه ا إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَه كَفَرْتُم وَإِن يُشْرَكْ بِه تُؤْمِنُوا } أي ذلكم الذي أنتم فيه/ وهو أن لا سبيل لكم إلى الخروج قط ، إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى ، وإيمانكم الإشراك به {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ} حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي ، وقوله {الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقابه لا يكون إلا كذلك ، والمشبهة استدلوا بقوله تعالى : {الْعُلَى} على العلو الأعلى في الجهة ، وبقوله {الْكَبِيرُ} على كبر الجثة والذات ، وكل ذلك باطل ، لأنا دللنا على أن الجسمية والمكان محالان في حق الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد من {الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} العلو والكبرياء بحسب القدرة والإلهية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 502
506
(1/3889)

اعلم أنه تعالى لما ذكر ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ، ليصير ذلك دليلاً على أنه يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء لله تعالى في المعبودية ، فقال : {هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـاتِه } واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان ، ومصالح الأبدان ، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات ، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء ، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان ، فالآيات لحياة الأديان ، والأرزاق لحياة الأبدان ، وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات.
ثم قال : {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ} والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله تعالى كالأمر المركوز في العقل ، إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار ، فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام ، ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال : {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} من الشرك ، ومن الإلتفات إلى غير الله {وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 506
508
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ} قال صاحب "الكشاف" ثلاثة أخبار لقوله {هُوَ} مرتبة على قوله {الَّذِى يُرِيكُمْ} (غافر : 13) أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً ، قرىء {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} بالنصب على المدح ، وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة :
الصفة الأولى : قوله {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع ، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول : : أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء درجة معينة ، كما قال : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ } (المجادلة : 11) وعين لكل جسم درجة معينة ، فجعل بعضها سفلية عنصرية ، وبعضها فلكية كوكبية ، وبعضها من جواهر العرش والكرسي ، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني ، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل ، فقال : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـا اـاِفَ الارْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ} (الأنعام : 165) وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة ، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء ، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه ، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال ، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات ، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه ، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات ، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي ، الذي هو أول لكل ما سواه ، وليس له أول وآخر لكل ما سواه ، وليس له آخر ، أما في العلم : فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات ، كما قال :
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
{وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) وأما في القدرة : فهو أعلى القادرين وأرفعهم ، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه ، وأما في الوحدانية : فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير ، وأقول : الحق سبحانه له صفتان أحدهما : استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني : افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده ، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع ، كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام ، وإن فسرناه بالرافع ، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه ، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته.
(1/3890)

الصفة الثانية : قوله {ذُو الْعَرْشِ} ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه ، واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ} وحملوه على أن المراد بالدرجات/ السموات ، وبقوله {ذُو الْعَرْشِ} أنه موجود في العرش فوق سبع سموات ، وقد ىعظموا الفرية على الله تعالى ، فأنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسماً وفي جهة محال ، وأيضاً فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه ، لأن قوله {ذُو الْعَرْشِ} لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكاً له ومخرجاً له من العدم إلى الوجود ، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد ، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام ، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته ، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم ، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى.
الصفة الثانية : قوله {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } وفيه مباحث :
البحث الأول : اختلفوا في المراد بهذا الروح ، والصحيح أن المراد هو الوحي ، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } (النحل : 2) وقال أيضاً : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الانعام : 122) وحاصل الكلام فيه : أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية ، فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح سمي بالروح ، فإن الروح سبب لحصول الحياة ، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات ، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام ، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي ، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضداً للعقل ، فههنا أيضاً كذلك ، فقوله {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} إما أن يكون بمعنى كونه رافعاً للدرجات ، وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على احتلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها ، أو إلى كونه تعالى مرتفعاً في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات ، فهذا الكلام عقلي برهاني ، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير ، وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وءما روحانيات ، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى ، أما الجسمانيات فأعظمها العرش ، فقوله {ذُو} يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام ، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكداً لذلك العقول ، أعني قوله {رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ} وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه ، وإليه الإشارة بقوله {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه } .
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي ، والوحي إنما يتم بأركان أربعة فأولها : المرسل وهو الله سبحانه وتعالى ، فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال : {يُلْقِى الرُّوحَ} والركن الثاني : الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح والركن الثالث : أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة ، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله {مِنْ أَمْرِه } فالركن الروحاني يسمى أمراً ، قال تعالى : {وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } (فصلت : 12) وقال : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } (الأعراف : 54) والركن الرابع : الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله {عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } والركن الخامس : تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم ، وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات/ وإليه الإشارة بقوله {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ } فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
وبقي ههنا أن نبين أنه ما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ؟
وكم الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ليوم التلاق ؟
أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه :
(1/3891)

الأول : أن الأرواح كانت متباينة عن الأجساد فإذا جاء يوم القيامة صارت الأرواح ملاقية للأجساد فكان ذلك اليوم يوم التلاق الثاني : أن الخلائق يتلاقون فيه فيقف بعضهم على حال البعض الثالث : أن أهل السماء ينزلون على أهل الأرض فيلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض قال تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ وَنُزِّلَ الْمَلَـا اـاِكَةُ تَنزِيلا} (الفرقان : 25) الرابع : أن كل أحد يصل إلى جزاء عمله في ذلك اليوم فكان ذلك من باب التلاق هو مأخوذ من قولهم فلان لقي عمله الخامس : يمكن أن يكون ذلك مأخوذاً من قوله {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه } (الكهف : 110) ومن قوله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ } (الأحزاب : 44) السادس : يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون السابع : يوم يلتقي فيه آدم عليه السلام وآخر ولده الثامن : قال ميمون بن مهران يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم فربما ظلم الرجل رجلأْ وانفصل عنه ولو أراد أن يجده لم يقدر عليثه ولم يعرفه ففي يوم القيامة يحضران ويلقى بعضهم بعضاً ، قرأ ابن كثير عنه التلاقي والتنادي بإثبات الياء في الوصل والوقف ، وهادي وواقي بالياء في الوقف وبالتنوين في الوصل.
وأما بين أن الله تعالى كم عدد من الصفات ووصف بها يوم القيامة في هذه الآية ، فنقول :
الصفة الأولى : كونن يوم التلاق وقد ذكرنا تفسيره.
الصفة الثانية : قوله {يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ } وفي تفسير هذا البروز وجوه الأول : أنهم برزوا عن بواطن القبور الثاني : بارزون أي ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأن الأرض بارزة قاع صفصف ، وليس عليهم أيضاً ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث : "يحشرون عراة حفاة غرلا" الثالث : أن يجعل كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} (الطارق : 9) الرابع : أن هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الجسمانيات وتوجهت بالكلية إلى عالم القيامة ومجمع الروحانيات ، فكأنها برزت بعد أن كانت كامنة في الجسمانيات مستترة بها.
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
الصفة الثالثة : قوله {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ } والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء ، والمقصود منه الوعيد فإنه تعالى بيّن أنهم إذا برزوا من قبورهم واجتمعوا وتلاقوا فإن الله تعالى يعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلاً بحسبه إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فهم وإن لم يعلموا تفصيل ما فعلوه ، فالله تعالى عالم بذلك ونظيره قوله {يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة : 18) وقال : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} (الطارق : 9) وقال : {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} (العاديات : 9 ، 10) وقال : {يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة : 4) فإن قيل الله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء في جميع الأيام ، فما معنى تقييد هذا المعنى بذلك اليوم ؟
قلنا إنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم ، فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدينا/ قال تعالى : {وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت : 22) وقال : {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} (النساء : 108) وهو معنى قوله : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم : 48).
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} والتقدير يوم ينادي فيه لمن الملك اليوم ؟
وهذا النداء في أي الأوقات يحصل فيه قولان :
(1/3892)

الأول : قال المفسرون إذا هلك كل من السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ؟
يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول : أنه تعالى بيّن أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت ، والناس في ذلك الوقت أحياء ، فبطل قولهم إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السموات والأرض والثاني : أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير ، أو حال ما لا يحضر الغير ، والأول : باطل ههنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل ، والثاني : أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئاً كالذي يكرر على الدرس وذلك على الله محال ، أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضاً على الله محال ، أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر وذلك أيضاً على الله محال ، فثبت أن قول من يقول إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له.
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
والقول الثاني : أن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فالمؤمنون يقولون تلذذاً بهذا الكلام ، حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة ، والكفار يقولونه على الصغار والذلة على وجه التحسر والندامة على أن فاتهم هذا الذكر في الدنيا ، وقال القائلون بهذا القول إن صح القول الأول عن ابن عباس وغيره لم يمتنع أن يكون المراد أن هذا النداء يذكر بعد فناء البشر إلا أنه حضر هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ، وأقول أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى ، ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمعاً آخرين ، الكل ممكن وليس على التعيين دليل ، فإن قيل وما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذا النداء ؟
فنقول الناس كانوا مغرورين في الدنيا بالأسباب الظاهرة ، وكان الشيخ الإمام الوالد عمر رضي الله عنه يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، وفي يوم القيامة زالت الأسباب ، وانعزلت الأرباب ، ولم يبق ألبتة غير حكم مسبب الأسباب ، فلهذا اختص النداء بيوم القيامة ، واعلم أنه وإن كان ظاهر اللفظ يدل على اختصاص ذلك النداء بذلك اليوم إلا أن قوله {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يفيد أن هذا النداء حاصل من جهة المعنى أبداً ، وذلك لأن قولنا : الله اسم لواجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود لذاته واحد وكل ما سواه ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، ومعنى الإيجاد هو ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، وذلك الترجيح هو قهر للجانب المرجوح فثبت أن الإله القهار واحد أبداً ، ونداء لمن الملك اليوم إنما ظهر من كونه واحداً قهاراً ، فإذا كان كونه قهاراً باقياً من الأزل إلى الأبد لا جرم كان نداء {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } باقياً في جانب المعنى من الأزل إلى الأبد.
الصفة الخامسة : من صفات ذلك اليوم قوله {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } .
واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } وفيه مسألتان :
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
(1/3893)

المسألة الأولى : هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة : أولها : إثبات الكسب للإنسان والثاني : أن كسبه يوجب الجزاء والثالث : أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب ، وهي أصول عظيمة الموقع في الدين ، وقد سبق تقرير هذه الأصول مراراً ، ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول أما الأول : فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه ، فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذكل الفعل أو الترك عنه. وأما الثاني : وهو بيان ترتب الجزاء عليه ، فاعلم أن الأفعال على قسمين منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا ، ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة ، فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رحمته رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات ، فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ويعظم عليه البلاء ، ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء ، فهذا هو معنى الكسب ، ومعنى كون ذلك الكسب موجباً للجزاء ، فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة ، فهذا قانون كلي عقلي ، والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال والله أعلم.
المسألة الثانية : هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه ، وذلك لأنا نقول لو كان شيء من أنواع الضرر مشروعاً لكان إما أن يكون مشروعاً لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه مشروعاً ، أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروهاً ليكون جزاء على شيء من الأعمال فلأن هذا النص يقتضي تأخير الإجزية إلى يوم القيامة ، فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص ، وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعاً للجزاء لقوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) ولقوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) ولقوله صلى الله عليه وسلّم : "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية ، وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات ، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه ، فثبت بما ذكرنا أن الأصل في المضار والآلام التحريم ، فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على الشرعية قضينا به تقديماً للخاص على العام ، وإلا فهو باق على أصل التحريم ، وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة والله علم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
الصفة السادسة : من صفات ذلك اليوم قوله {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ } والمقصود أنه لما قال : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك نوع من أنواع الظلم ، قال المحققون وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام أحدها : أن يستحق الرجل ثواباً فيمنع منه وثانيها : أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل إُى حقه بالتمام وثالثها : أن يعذب من لا يستحق العذاب ورابعها : أن يكون الرجل مستحقاً للعذاب فيعذب ويزداد على قدر حقه فقوله تعالى : {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ } يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة/ قال القاضي هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة لأن على قولهم لا ظلم غالباً وشاهداً إلا من الله ، ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم والجواب عنه معلوم.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جداً ، لأنه تعالى لما بيّن أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب. وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 508
510
اعلم أن المقصود من هذه الآية وصف يوم القيامة بأنواع أخرى من الصفات الهائلة المهيبة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير يوم الآزفة وجوهاً الأول : أن يوم الآزفة هو يوم القيامة ، والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر لقوله في صفة يوم القيامة {أَزِفَتِ الازِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم : 57 ، 58) وقال شاعر :
فأزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
والمقصود منه التنبيه على أن يوم القيامة قريب ونظيره قوله تعالى : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (القمر : 1) قال الزجاج إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها ، وما هو كائن فهو قريب.
(1/3894)

واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث على تقدير يوم القيامة الآزفة أو يوم المجازاة الآزفة قال القفال : وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها يرجع معناها إلى الداهية والقول الثاني : أن المراد بيوم الآزفة وقت الآزفة وهي مسارعتهم إلى دخول النار ، فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها من شدة الخوف والقول الثالث : قال أبو مسلم يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل ، والذي يدل عليه أنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ، و{يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ } ثم قال بعده {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ} فوجب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم ، وأيضاً هذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَـاـاِذٍ تَنظُرُونَ} (الواقعة : 83 ، 84) وقال : {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ} (القيامة : 26) وأيضاً فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب ، وأيضاً الصفات المذكورة بعد قوله الآزفة لائقة بيوم حضور الموت لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يعظم خوفه ، فكأن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف ، ويبقوا كاظمين ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف ولا يكون لهم حميم ولا شفيع يدفع ما بهم من أنواع الخوف والقلق.
جزء : 27 رقم الصفحة : 510
المسألة الثانية : اختلفوا في أن المراد من قوله {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَ } كناية عن شدة الخوف أو هو محمول على ظاهره ، قيل المراد وصف ذلك اليوم بشدة الخوف والفزع ونظيره قوله تعالى : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } (الأحزاب : 10) وقال : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَـاـاِذٍ تَنظُرُونَ} (الواقعة : 83 ، 84) وقيل بل هو محمول على ظاهره ، قال الحسن : القلوب انتزعت من الصدور بسبب شدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا ولكنها مقبوضة كالسجال كما قال : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِى ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الملك : 27) وقوله {كَـاظِمِينَ } أي مكروبين والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً فإن قيل بم انتصب {كَـاظِمِينَ } قلنا أن يكون حال عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر ، وإنما جمع الكاظمة جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء كما قال : {رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4) وقال : {فَظَلَّتْ أَعْنَـاقُهُمْ لَهَا خَـاضِعِينَ} (الشعراء : 4) ويعضده قراءة من قرأ كاظمون وبالجملة فالمقصود من الآية تقرير أمرين أحدهما : الخوف الشديد وهو المراد من قوله {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} ، والثاني : العجز عن الكلام وهو المراد من قوله {كَـاظِمِينَ } فإن الملهوف إذا قدر على الكلام حصلت له خفقة وسكون ، أما إذا لم يقدر على الكلام وبث الشكوى عظم قلقه وقوي خوفه.
المسألة الثالثة : احتج أكثر المعتزلة في نفي الشفاعة عن المذنبين بقوله تعالى : {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} قالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا تحصل لهم هذا الشفيع أجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع ، ألا ترى أنك إذا قلت ما عندي كتاب يباع فهذا يقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب وقالت العرب :
جزء : 27 رقم الصفحة : 510
ولا ترى الضب بها ينجحر
(1/3895)

ولفط الطاعة يقتضي حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله ، لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه الوجه الثاني : في الجواب أن المراد من الظالمين ، ههنا الكفار والدليل عليه أن هذه الآية وردت في زجر الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن يكون مختصاً بهم ، وعندنا أنه لا شفاعة في حق الكفار والثالث : أن لفظ الظالمين ، إما أن يفيد الاستغراق ، وإما أن لا يفيد فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار ، وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع لأن بعض هذا المجموع هم الكفار ، وليس لهم شفيع فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع ، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفاً بهذه الصفة ، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع وهم الكفار ، أجاب المستدلون عن السؤال الأول ، فقالوا يجب حمل كلام الله تعالى على محمل مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالاً من المطاع ، وليس في الوجود شيء أعلى مرتبة من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه وإذا كان هذا المعنى معلوماً بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجاً لها عن الفائدة فوجب حمل الطاعة على الإجابة والذي يدل على ورود لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قول الشاعر :
رب من أنضجت غيظاً صدره
قد تمنى لي موتاً لم يطع أما السؤال الثاني : فقد أجابوا عنه بأن لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم ، أقصى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكفار لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما السؤال الثالث : فجوابه أن قوله {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع ، فهذا تمام كلام القوم في تقرير ذلك الاستدلال.
جزء : 27 رقم الصفحة : 510
أجاب أصحابنا عن السؤال الأول فقالوا إن القوم كانوا يقولون في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله وكانوا يقولون إنها تشفع لنا عند الله من غير حاجة فيه إلى إذن الله ، ولهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } (البقرة : 255) فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله إجابة الأصنام في تلك الشفاعة ، وهذا نوع طاعة ، فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وأجابوا عن الكلام الثاني بأن قالوا الأصل في حرف التريف أن ينصرف إلى المعهود السابق ، فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع ، وكان هناك معهود سابق انصرف إليه ، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله ، فوجب أن ينصرف إليه وأجابوا عن الكلام الثالث بأن قالوا قوله {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} يحتمل عموم السلب ، ويحتمل سلب العموم ، أما الأول : فعلى تقدير أن يكون المعنى أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع ، وأما الثاني : فعلى تقدير أن يكون المعنى أن مجموع الطالمين ليس لهم حميم ولا شفيع ، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع والذي يؤكد ما ذكرناه قوله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6) فقوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، إن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في كلام الله ، لأن كثيراً ممن كفر فقد آمن بعد ذلك ، أما لو حملناه على أن مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخلف ، فلا جرم حملنا هذه الآية على سلب العموم ولم نحملها على عموم السلب فكذا قوله {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب ، وحينئذ استدلال المعتزلة بهذه الآية فهذا غاية الكلام في هذا الباب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 510
(1/3896)

المسألة الرابعة : في بيان نظم الآية ، فنقول إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف فأولها : أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة ، أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم ، لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف ، حتى قيل إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة والثاني : قوله {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعاً من دخول النفس والثالث : قوله {كَـاظِمِينَ } والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف ، وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب الرابع : قوله {مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم ، ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته والخامس : قوله {يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} والمعنى أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديداً جداً ، قال صاحب "الكشاف" : الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة ، كالعافية المعاناة ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحلة كما يفعل أهل الريب ، والمراد بقوله {وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} مضمرات القلوب ، والحاصل أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، أما أفعال الجوارح ، فأخفاها خائنة الأعين والله أعلم بها ، فكيف الحال في سائر الأعمال. وأما أفعال القلوب ، فهي معلومة لله تعالى لقوله {وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} فدل هذا على كونه تعالى عالماً بجميع أفعالهم السادس : قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ } وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف ، لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوالل ، وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل ، كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى السابع : أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام ، وقد بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة ، فقال : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ } الثامن : قوله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
جزء : 27 رقم الصفحة : 510
أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم ، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله ، فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغاً في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه ، ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردفع ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره ، فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى آثاراً في الأرض منهم ، والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلاً حتى إن هؤلاء الحالضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار ، فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول ، وبين بقوله {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم ، ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل ، فحذر قوم الرسوم من مثله ، وختم الكلام بـ {إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} مبالغة في التحذير والتخويف ، والله أعلم.
وقرأ ابن عامر وحده {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ} بالكاف ، والباقون بالهاء أما وجه قراءة ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب ، كقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد قوله والولجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن أهل مكة ، فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم ، وهذه الآية في المعنى كقوله {قَرْنٍ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الارْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} (الأنعام : 6) وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 510
512
واعلم أنه تعالى لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم ، سلاه أيضاً بذكر موسى عليه السلام ، وأنه مع قوة معجزاته بعثه إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوا وكابروه ، وقالوا هو ساحر كذاب.
(1/3897)

واعلم أن موسى عليه السلام ، لما جاءهم بتلك المعجزات الباهرة وبالنبوّة وهي المراد بقوله {فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا} حكى الله تعالى عنهم ما صدر عنهم من الجهالات فالأول : أنهم وصفوه بكونه ساحراً كاذباً ، وهذا في غاية البعد ، لأن تلك المعجزات كانت قد بلغت في القوة والظهور إلى حيث يشهد كل ذي عقل سليم بأنه ليس من السحر ألبتة الثاني : أنهم قالوا {اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ } والصحيح أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام ، لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه ، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت ، وأما في هذا الوقت فموسى عليه السلام قد جاءه وأظهر المعجزات الظاهرة ، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه لئلا ينشئوا على دين موسى فيقوى بهم ، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات ، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء.
ثم قال تعالى : {وَمَا كَيْدُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل ، لأن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها النوع الثالث : من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله ، وفيه احتمالان.
جزء : 27 رقم الصفحة : 512
والاحتمال الأول : أنهم منعوه من قتله لوجوه الأول : لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً ، فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتله الثاني : قال الحسن : أن أصحابه قالوا له لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه الثالث : لعلّهم كانوا يحتالون في منعه من قتله ، لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام ، فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك.
والاحتمال الثاني : أن أحداً ما منع فرعون من قتل موسى وأنه كان يريد أن يقتله إلا أنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرة تمنعه عن قتله فيفتضح إلا أنه لوقاحته قال : {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } وغرضه منه أنه إنما امتنع عن قتله رعاية لقلوب أصحابه وغرضه منه إخفاء خوفه.
أما قوله {وَلْيَدْعُ رَبَّه ا } فإنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني.
وأما قوله {إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : فتح ابن كثير الياء من قوله {ذَرُونِى } وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من {إِنِّى أَخَافُ} وأيضاً قرأ نافع وابن عمرو {وَإِن يَظْهَرُوا } بالواو وبحذف أو ، يعني أنه يجمع بين تبديل الدين وبين إظهار المفاسد ، والذين قرأوا بصيغة أو فمعناه أنه لا بد من وقع أحد الأمرين وقرىء يظهر بضم الياء وكسر الهاء والفساد بالنصب على التعدية ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلفظ أو يظهر بفتح الياء والهاء والفساد بالرفع ، أما وجه القراءة الأولى فهو أنه أسند الفعل إلى موسى في قوله {يُبَدَّلُ} فكذلك في يظهر ليكون الكلام على نسق واحد ، وأما وجه القراءة الثانية فهو أنه إذا بدل الدين فقد ظهر الفساد الحاصل بسبب ذلك التبديل.
المسألة الثانية : المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا ، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه ، فلما كان موسى ساعياً في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن ، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال : {إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال : {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 512
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذا الكلام حكى بعده ما ذكره موسى عليه السلام فحكى عنه أنه قال : {إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار.
المسألة الثانية : المعنى أنه لم يأتِ في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله ، واعتمد على فضل الله لا جرم صانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية ، وعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها موسى عليه السلام تشتمل على فوائد :
(1/3898)

الفائدة الأولى : أن لفظة {إِنِّى } تدل على التأكيد فهذا يدلل على أن الطريق المؤكد المعتبر في دفع الشرور والآفات عن النفس الاعتماد على الله والتوكل على عصمة الله تعالى.
الفائدة الثانية : أنه قال : {إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم} فكما أن عند القراءة يقول المسلم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن ، فكذلك عند توجه الآفات والمخافات من شياطين الإنس إذا قال المسلم : أعوذ بالله فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات.
الفائدة الثالثة : قوله {بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} والمعنى كأن العبد يقول إن الله سبحانه هو الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني ، ومن الآفات وقاني ، وأعطاني نعماً لا حد لها ولا حصر ، فلما كان المولى ليس إلا الله وجب أن لا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى.
الفائدة الرابعة : أن قوله {وَرَبِّكُمْ} فيه بعث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة با لله ، والمعنى فيه أن الأرواح الطاهرة القوية إذا تطابقت على همة واحدة قوي ذلك التأثير جداً ، وذلك هو السبب الأصلي في أداء الصلوات في الجماعات.
الفائدة الخامسة : أنه لم يذكر فرعون في هذا الدعاء ، لأنه كان قد سبق له حق تربية على موسى من بعض الوجوه ، فترك التعيين رعاية لذلك الحق.
الفائدة السادسة : أن فرعون وإن كان أظهر ذلك الفعل إلا أنه لا فائدة في الدعاء على فرعون بعينه ، بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفاً بتلك الصفة ، حتى يدخل فيه كل من كان عدواً سواء كان مظهراً لتلك العداوة أو كان مخفياً لها.
جزء : 27 رقم الصفحة : 512
الفائدة السابعة : أن الموجب للاقدام على إيذاء الناس أمران أحدهما : كون الإنسان متكبراً قاسي القلب والثاني : كونه منكراً للبعث والقيامة ، وذلك لأن التكبر القاسي قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقراً بالعبث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبره ، فإذا لم يحصل عنده الإيمان بالعبث والقيامة كانت الطبيعة داعية له إلى الإيذاء والمانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلاً ، وإذا كان الخوف من السؤال والحساب زائلاً فلا جرم تحصل القسوة والإيذاء.
الفائدة الثامنة : أن فرعون لما قال : {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } قال على سبيل الاستهزاء {خَشِىَ رَبَّه } فقال موسى ن الذي ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين المبين والحق المنير ، وأنا أدعو ربي وأطلب منه أن يدفع شرك عني ، وسترى أن ربي كيف يقهرك ، وكيف يسلطني عليك.
واعلم أن من أحاط عقله بهذه الفوائد علم أنه لا طريق أصلح ولا أصوب في دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم إلا الاستعاذة بالله والرجوع إلى حفظ الله والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 512
514
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله ، بيّن أنه تعالى قيض إنساناً أجنبياً غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة واجتهد في إزالة ذلك الشر.
يقول منصف هذا الكتاب رحمه الله ، ولقد جربت في أحوال نفسي أنه كلما قصدني شرير بشر ولم أتعرض له وأكتفي بتفويض ذلك الأمر إلى الله ، فإنه سبحانه يقيض أقواماً لا أعرفهم ألبتة ، يبالغون في دفع ذلك الشر ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في ذلك الرجل الذي كان من آل فرعون ، فقيل إنه كان ابن عم لله ، وكان جارياً مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة ، وقيل كان قبطياً من آل فرعون وما كان من أقاربه ، وقيل إنه كان من بني إسرائيل ، والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة قال تعالى : {إِلا ءَالَ لُوطٍا نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ} (القمر : 34) وعن رسول الله أنه قال : "الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ} والثالث علي بن أبي طالب وهو أفضلهم" وعن جعفر بن محمد أنه قال : كان أبو بكر خيراً من مؤمن آل فرعون لأنه كان يكتم إيمانه وقال أبو بكر جهاراً {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ} فكان ذلك سراً وهذا كان جهاراً.
المسألة الثانية : لفظ من في قوله {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} يجوز أن يكون متعلقاً بقوله {مُؤْمِنٍ} أي كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله {يَكْتُمُ إِيمَـانَه } والتقدير رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون ، وقيل إن هذا الاحتمال غير جائز لأنه يقال كتمت من فلان كذا ، إنما يقال كتمته كذا قال تعالى : {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (النساء : 42).
جزء : 27 رقم الصفحة : 514
المسألة الثالثة : رجل مؤمن الأكثرون قرأوا بضم الجيم وقرىء رجل بكسر الجيم كما يقال عضد في عضد.
(1/3899)

المسألة الرابعة : قوله تعالى : {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ} استفهام على سبيل الإنكار ، وقد ذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الاستنكار ، وذلك لأنه ما زاد على أن قال : {رَبِّىَ اللَّهُ} وجاء بالبينات وذلك لا يوجب القتل ألبتة وقوله {وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ مِن رَّبِّكُمْ } يحتمل وجهين الأول : أن قوله {رَبِّىَ اللَّهُ} إشارة إلى التوحيد ، وقوله {وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ} إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد ، وهو قوله في سورة طه {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } وقوله في سورة اللشعراء {رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} إلى آخر الآيات ، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية في أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم ، فقال إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً علليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ، فثبت أن على كلا التقديرين كان الأولى إبقاؤه حياً.
فإن قيل السؤال على هذا الدليل من وجهين الأول : أن قوله {وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُه } معناه أن ضرر كذبه مقصور عليه ولا يتعداه/ وهذا الكلام فاسد لوجوه أحدها : أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً كان صضلالا كذبه مقصوراً عليه ، لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ، فيغتر به جماعة منهم ، ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد الفاسد ، ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يمكن ضرر كذبه مقصوراً عليه ، بل كان متعدياً إلى الكل ، ولهذا السبب العلماء أجمعوا على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله وثانيها : أنه إن كان الكلام حجة له ، فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة ، فوجب تمكن جميع الزنادقة والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة وثالثها : أن الكفار الذين أنكروا نبوّة موسى عليه السلام وجب أن لا يجوز الإنكار عليهم ، لأنه يقال : إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه ، وإن يك صادقاً انتفعتم بصدقه ، فثبت أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً.
جزء : 27 رقم الصفحة : 514
السؤال الثاني : أنه كان من الواجب أن يقال وإن يك صادقاً يصبكم كل الذي يعدكم لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض هم أصحاب الكهانة والنجوم ، أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله {يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ } غير لائق بهذا المقام والجواب : عن الأسئلة الثلاثة بحرف واحد وهو أن تقدير الكلام أن يقال إنه لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه عن إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه ، وإن يك صادقاً انتفعتم به ، والحاصل أن المقصود من ذكر ذلك التقسيم بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه فبهذا الطريق (تكون) الأسئلة الثلاثة مدفوعة.
وأما السؤال الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال يصبكم كل الذي يعدكم ، فالجواب عنه من وجوه الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج لأن المقصود منه إن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه ، وإن كان صادقاً فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم ، وإن كان المقصود من هذا الكلام ما ذكر صح ، ونظيره قولله تعالى : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (سبأ : 24) ، والوجه الثاني : أنه عليه السلام كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة ، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به ، الوجه الثالث : حُكي عن أبي عبيدة أنه قال ورود لفظ البعض بمعنى الكل جائز ، واحتج بقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها والجمهور على أن هذا القول خطأ ، قالوا وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم.
ثم حكى الله تعالى عن هذا المؤمن حكاية ثالثة في أنه لا يجوز إيذاء موسى عليه السلام فقال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وتقرير هذا الدليل أن يقال : إن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بهذه المعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً فهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين ، فكان قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض ، ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمة على قتل موسى ، كذاب في إقدامه على ادعاء الإلهية ، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته ، بل يبطله ويهدم أمره.
جزء : 27 رقم الصفحة : 514
517
(1/3900)

اعلم أن مؤمن آل فرعون لما أقام أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى ، خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال : {يَـاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ فِى الارْضِ} يعني قد علوتم الناس وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه ، فإنه لا قبل لكم به ، وإنما قال : {يَنصُرُنَا} و{جَآءَنَا } لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه ، ولما قال ذلك المؤمن لمادة الفتنة {وَمَآ أَهْدِيكُمْ} بهذا الرأي {إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} والصلاح ، ثم حكى تعالى أن ذلك المؤمن رد هذا الكلام على فرعون فقال : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} .
وأعلم أنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ، ولهذا السبب حصل ههنا قولان الأول : أن فرعون لما قال : {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } (غافر : 26) لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى ، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى ، لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة وهذا لا يوجب القتل ، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات ، بل الأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه ، لأن على هذا التقدير إن كان كاذباً كان وبال كذبه عائداً إليه ، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه ، ثم أكد ذلك بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر : 28) يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب ، فأوهم فرعون أنه أراد بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد به فرعون {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى ، وشافه فرعون بالحق.
جزء : 27 رقم الصفحة : 517
واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعاً من الكلمات ذكرها لفرعون الأول : قوله {ءَامَنَ يَـاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} والتقدير مثل أيام الأحزاب ، إلا أنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد ثمود ، فحينئذٍ ظهر أن كل حزب كان له يوم معين في البلاء ، فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس ، ثم فسّر قوله {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ} بقوله {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} ودأب هؤلاء دونهم في عملهم من الكفار والتكذيب وسائر المعاصي ، فيكون ذلك دائباً ودائماً لا يفترون عنه ، ولا بد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم ، والحاصل أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا ، ثم خوفهم أيضاً بهلاك الآخرة ، وهو قوله {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} والمقصود منه التنبيه على عذاب الآخرة.
والنوع الثاني : من كلمات ذلك المؤمن قوله تعالى : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} يعني أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً ، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء ، فتلك الجملة قائمة ههنا ، فوجب حصول الحكم ههنا ، قالت المعتزلة : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} يدل على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً ، ويدل على أنه لا يريد ظلم أحد من العباد ، فلو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً ، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد ، لأنه لو خلقها لأرادها ، وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم ، إذ لو لم يقدر عليه لما حصل المدح بترك الظلم ، وهذا الاستدلال قد ذكرناه مراراً في هذا الكتاب مع الجواب ، فلا فائدة في الإعادة.
النوع الثالث : من كلمات هذا المؤمن قوله {لِّلْعِبَادِ * وَيَـاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} وفيه مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 517
(1/3901)

المسألة الأولى : التنادي تفاعل من النداء ، يقال تنادي القوم ، أي نادى بعضهم بعضاً ، والأصل الياء وحذف الياء حسن في الفواصل ، وذكرنا ذلك في {يَوْمَ التَّلاقِ} (غافر : 15) وأجمع المفسرون على أن {يَوْمَ التَّنَادِ} يوم القيامة ، وفي سبب تسمية ذلك اليوم بذلك الاسم وجوه الأول : أن أهل النار ينادون أهل الجنة ، وأهل الجنة ينادون أهل النار ، كما ذكر الله عنهم في سورة الأعراف {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ} (الاعراف : 50) ، {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ} (الاعراف : 44) ، الثاني : قال الزجاج : لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ } (الإسرار : 71) ، الثالث : أنه ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والبثور فيقولون ، (الأنبياء : 14) ، الرابع : ينادون إلى المحشر ، أي يدعون الخامس : ينادي المؤمن {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ} (الحاقة : 19) والكافر {فَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ} (الحاقة : 25) ، السادس : ينادى باللعنة على الظالمين السابع : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، ثم يذبح وينادى يا أهل القيامة لا موت ، فيزداد أه لالجنة فرحاً على فرحهم ، وأهل النار حزناً على حزنهم الثامن : قال "أبو علي الفارسي : التنادي مشتق من التناد ، من قولهم ند فلان إذا هرب ، وهو قراءة ابن عباس وفسرها ، فقال يندون كما تند الإبل ، ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (عبس : 34) الآية. وقوله تعالى بعد هذه الآية {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} لأنهم إذا سمعوا زفير النار يندون هاربين ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه.
المسألة الثانية : انتصب قوله {يَوْمَ التَّنَادِ} لوجهين أحدهما : الظرف للخوف ، كأنه خاف عليهم في ذلك اليوم ، لما يلحقهم من العذاب ، إن لم يؤمنوا والآخر أن يكون التقدير إني أخاف عليكم ـ عذاب ـ يوم التناد وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم انتصاب المعفول به ، لا انتصاب الظرف ، لأن إعرابه إعراب المضاف المحذوف ، ثم قال : {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} وهو بدل من قوله {يَوْمَ التَّنَادِ} عن قتادة : منصرفين عن موقف يوم الحساب إلى النار ، وعن مجاهد : فارين عنالنار غير معجزين ، ثم أكد التهديد فقال : {مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 517
521
واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ} (غافر : 33) ذكر لهذا مثلاً ، وهو أن يوسف لما جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على الشك والشبهة ، ولم ينتفعوا بتلك الدلائل ، وهذا يدل على أن من أضله الله فما له من هاد وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قيل إن يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، ونقل صاحب "الكشاف" يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة ، وقيل إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بقي حياً إلى زمانه وقيل فرعون آخر ، والمقصود من الكل شيء واحد وهو أن يوف جاء قومه بالبينات ، وفي المراد بها قولان الأول : أن المراد بالبينات قوله {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} (يوسف : 39) ، والثاني : المراد بها المعجزات ، وهذا أولى ، ثم إنهم بقوا في نبوته شاكين مرتابين ، ولمي ينتفعوا ألبتة بتلك البينات ، فلما مات قالوا إنه {لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنا بَعْدِه رَسُولا } وءنما حكموا بهذا الحكم على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ور برهان ، بل إنما ذكروا ذلك ليكون ذلك أساساً لهم في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعد ذلك وليس في قولهم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} لأجل تصديق رسالة يوسف وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها وإنما هو تكذيب لرسالة من هو بعده مضموماً إلى تكذيب رسالته ، ثم قال : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه ، قال الكعبي هذه الآية حجة لأهل القدر لأنه تعالى بين كفرهم ، ثم بين أنه تعالى إنما أضلهم لكونهم مسرفين مرتابين ، فثبت أن العبد ما لم يضل عن الدين ، فإن الله تعالى لا يضله.
جزء : 27 رقم الصفحة : 521
ثم بيّن تعالى ما لأجله بقوا في ذلك الشك والإسراف فقال : {الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ} أي بغير حجة ، بل إما بناء على التقليد المجرد ، وإما بناء على شبهات خسيسة {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ} والمقت هو أن يبلغ المرء في القوم مبلغاً عظيماً فيمقته الله ويبغضه ويظهر خزيه وتعسه.
وفيه مسائل :
(1/3902)

المسألة الأولى : في ذمة لهم بأنهم يجادلون بغير سلطان دلالة على أن الجدال بالاحجة حسن وحق وفيه إبطال للتقليد.
المسألة الثانية : قال القاضي مقت الله أياهم يدل على أن فعلهم ليس بخلق الله لأن كونه فاعلاً للفعل وماقتاً له محال.
المسألة الثالثة : الآية تدل على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد يمقت بعض عباده إلا أن ذلك صفة واجبة التأويل في حق الله كالغضب والحياء والتعجب والله أعلم. ثم بيّن أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك قد حصل عند الذين آمنوا.
ثم قال : {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وأبو عمرون وفتيبة عن الكسائي {قَلْبٌ} منوناً {مُتَكَبِّرٍ} صفة للقلب والباقون بغير تنوين على إضافة القلب إلى المتكبر قال أبو عبيد الاختيار الإضافة لوجوه الأول : أن عبد الله قرأ {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} وهو شاهد لهذه القراءة الثاني : أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما ، وأما الذين قرأوا بالتنوين فقالوا إن الكبر قد أضيف إلى القلب في قوله {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} (غافر : 56) وقال تعالى : {وَإِن كُنتُمْ عَلَى } (البقرة : 283) وأيضاً فيمكن أن يكون ذلك على حذف المضاف أي على كل ذي قلب متكبر ، وأيضاً قال قوم الإنسان الحقيقي هو القلب وهذا البحث طويل وقد ذكرناه في تفسير قوله {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الاشعراء : 193 ، 194) قالوا ومن أضاف ، فلا بد له من تقدير حذف ، والتقدير يطبع الله على قلب كل متكبر.
المسألة الثانية : الكلام في الطبع والرين والقسوة والغشاوة قد سبق في هذا الكتاب بالاستقصاء ، وأصحابنا يقولون قوله {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ} يدل على أن الاكل من الله والمعزلة يقولون إن قوله {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} يدل على أن هذا الطبع إنما حصل من الله لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً وعند هذا تصير الآية حجة لكل واحد من هذين الفريقين من وجه ، وعليه من وجه رخر ، والاقول الذي يخرج عليه الوجهان ما ذهبنا إليه وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب ، فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعون إلى الطاعة والانقياد لأمر الله ، فيكون القول بالقضاء والقدر حياً ويكون تعليل الصد عن الدين بكونه متجبراً متكبراً باقياً ، فثبت أن هذا المذهب الذي اخترناه في القضاء والقدر هو الذي ينطبق لفظ القرآن من أوله إلى آخره عليه.
جزء : 27 رقم الصفحة : 521
المسألة الثالثة : لا بد من بيان الفرق بين المتكبر والجبار ، قال مقابل {مُتَكَبِّرٍ} عن قبول التوحيد {جَبَّارٍ} في غير حق ، وأقول كما السعادة في غير خق ، وأقول كمال السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل التكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 521
523
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبراً جباراً بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج الجمع الكثير من المشبها بهذه الآية في إثبات أن الله في السموات وقرروا ذلك من وجوه الأول : أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله ، وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما يذكره لأجل أنه سمع أن موسى يصف الله بذلك ، فهو أيضاً يذكره كما سمعه ، فلولا أنه سمع موسى يصف الله بأنه موجود في السماء وإلا لما طلبه في السماء ، الوجه الثاني : أنه قال وإني لأظنه كاذباً ، ولم يبين أنه كاذب فيماذا ، والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه فكأن التقدير فأطلع إلى الإله الذي يزعم موسى أنه موجود في السماء ، ثم قال : {وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا } أي وإني لأظن موسى كاذباً في إدعائه أن الإله موجود في السماء ، وذلك يدل على أن دين موسى هو أن الإله موجود في السماء الوجه الثالث : العلم بأنه لو وجد إله لكان موجوداً في السماء علم يديهي متقرر في كل العقول ولذلك فإن الصبيان إذا تضرعوا إلى الله رفعوا وجوههم وأيديهم إلى السماء ، وإن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء ، وهذا يدل على أن العلم بأن الإله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والموحد والعالم والجاهل.
(1/3903)

فهذا جملة استدلالات المشبهة بهذه الآية ، والجواب : أن هؤلاء الجهال يكفيهم في كمال الخزي والضلال أن جعلوا قول فرعون اللعين حجة لهم على صحة دينهم ، وأما موسى عليه السلام فإنه لم يزد في تعريف إله العالم على ذكر صفة الخلاقية فقال في سورة طه {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } (طه : 50) وقال في سورة الشعراء {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (الشعراء : 26 ، 28) فظهر أن تعريف ذات الله بكونه في السماء دين فرعون وتعريفه بالخلاقية والموجودية دين موسى ، فمن قال بالأول كان على دين فرعون ، ومن قال بالثاني كان على دين موسى ، ثم نقول لا نسلم أن كل ما يقوله فرعون في صفات الله تعالى فذلك قد سمعه من موسى عليه السلام ، بل لعله كان على دين المشبهة فكان يعتقد أن الإله لو كان موجوداً لكان حاصلاً في السماء ، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام.
جزء : 27 رقم الصفحة : 523
وأما قوله {وَإِنِّى لاظُنُّه كَـاذِبًا } فنقول لعله لما سمع موسى عليه السلام قال : {رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ظن أنه عنى أنه رب السموات ، كما يقال للواحد منا إنه رب الدار بمعنى كونه ساكناً فيه ، فلما غلب على ظنه ذلك حكى عنه ، وهذا ليس بمستبعد ، فإن فرعون كان بلغ في الجهل والحماقة إلى حيث لا يبعد نسبة هذا الخيال إليه ، فإن استبعد الخصم نسبة هذا الخيال إليه كان ذلك لائقاً بهم ، لأنهم لما كانوا على دين فرعون وجب عليهم تعظيمه. وأما قوله إن فطرة فرعون شهدت بأن الإله لو كان موجوداً لكان في السماء ، قلنا نحن لا ننكر أن فطرة أكثر الناس تخيل إليهم صحة ذلك لا سيما من بلغ في الحماقة إلى درجة فرعون فثبت أن هذا الكلام ساقط.
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا ؟
أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك ، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح ، والذي عندي أنه بعيد والدليل عليه أن يقال فرعون لا يخلو إما أن يقال إنه كان من المجانين أو كان من العقلاء ، فإن قلنا إنه كان من المجانين لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه ، لأن العقل شرط في التكليف ، ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن ، وإما إن قلنا إنه كان من العقلاء فنقول إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي ، ويعلم أيضاً ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال ، وإذا كان هذا العلمان بديهيين امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء ، وإذا كان فساد هذا معلوماً بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون ، والذي عندي في تفسير هذه الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من ذكر هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال : إنا لا نلاى شيئاً نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله ، أما إنه لا نراه فلأنه لو كان موجوداً لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه ، ثم إنه لأجل المبالغة في بيان أنه لا يمكنه صعود السموات {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ} والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحس ممتنعاً ، ونظيره قوله تعالى : {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى} (الأنعام : 35) وليس المراد منه أن محمداً صلى الله عليه وسلّم طلب نفقاً في الأرض أو وضع سلماً إلى السماء ، بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيبل لك إلى تحصيل ذلك المقصود ، فكذا ههنا غرض فرعون من قوله {فِرْعَوْنُ يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا} يعني أن الاطلاع على إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق وكان هذا الطريق ممتنعاً ، فحينئذٍ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى فنقول هذا ما حصلته في هذا الباب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 523
(1/3904)

واعلم أن هذه الشبهة فاسدة لأن طرق العلم ثلاثة الحس والخبر والنظر ، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب ، وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بيّن لفرعون أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجة والدليل كما قال : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (الشعراء : 26 ، 28) إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل ، وألقى إلى الجهال أنه لما كان لا طريق إلا الإحساس بهذا الإله وجب نفيه ، فهذا ما عندي في هذا الباب وبالله التوفيق والعصمة.
المسألة الثالثة : ذهب قوم إلى أنه تعالى خلق جواهر الأفلاك وحركاتها بحيث تكون هي الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم الأسفل ، واحتجوا بقوله تعالى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ * أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ} ومعلوم أنها ليست أسباباً إلا لحوادث هذا العالم قالوا ويؤكد هذا بقوله تعالى في سورة ص {فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ} (ص : 10) أما المفسرون فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى : {لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ * أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ} أن المراد بأسباب السموات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها ، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه.
المسألة الرابعة : قالت اليهود أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أن هامان ما كان موجوداً ألبتة في زمان موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر ، فالقول بأن هامان كان موجوداً في زمان فرعون خطأ في التاريخ ، وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الإسم في زمانه ، قالوا لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجوداً في زمان فرعون ما كان شخصاً خسيساً في حضرة فرعون بل كان كالوزير له ، ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية فلو كان موجوداً لعرف حاله ، وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجوداً في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أن غلط وقع في التواريخ ، قالوا ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلّم فلو أن قائلاً أدعى أن أبا حنيفة كان موجوداً في زمان محمد عليه السلام وزعم أنه شخص آخر سوى الأول وهو يسمى بأبي حنيفة ، فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا ههنا والجواب : أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها واضطربت الأحوال والأدوار فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب ، فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى بخلاف حال رسولنا مع أبي حنيفة فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة بل هي مضبوطة فظهر الفرق بين البابين ، فهذا جملة ما يتعلق بالمباحث المعنوية في هذه الآية ، وبقي ما يتعلق بالمباحث اللفظية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 523
قيل الصرح البناء الظاهر لا يخفى على الناظر وإن بعد ، اشتقوه من صرح الشيء إذ ظهر و{أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ} طرقها ، فإن قيل ما فائدة هذا التكرير. لو قيل : لعلي أبلغ الأسباب السموات ، كان كافياً ؟
أجاب صاحب "الكشاف" عنه فقال : إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه ، فلما أراد تفخيم أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها ، وقوله {فَأَطَّلِعَ إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى } قرأ حفص عن عاصم {فَأَطَّلِعَ} بفتح العين والباقون بالرفع ، قال المبرد : من رفع فقد عطفه على قوله والتقدير لعلي أبلغ الأسباب ثم أطلع إلا أن حرف ثم أشد تراخياً من الفاء ، ومن نصب جعله جواباً ، والمعنى لعلي أبلغ الأسباب فمتى بلغتها أطلع والمعنى مختلف ، لأن الأول : لعلي أطلع والثاني : لعلي أبلغ وأنا ضامر أني متى بلغت فلا بد وأن أطلع.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذه القصة قال بعدها {كَـاذِبًا وَكَذَالِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وَصُدَّ} بضم الصاد ، قال إبو عبيدة : وبه يقرأ ، لأن ما قبله فعل مبني للمفعول به فجعل ما عطف عليه مثله ، والباقون {وَصُدَّ} بفتح الصاد على أنه منع الناس عن الإيمان ، قالوا ومن صده قوله {لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم} (الأعراف : 124) ويؤيد هذه القراءة قوله {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء : 167) وقوله {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الفتح : 25).
(1/3905)

المسألة الثانية : قوله تعالى : {زُيِّنَ} لا بد له من المزين ، فقالت المعتزلة : إنه الشيطان ، فقيل لهم إن كان المزين لفرعون هو الشيطان ، فالمزين للشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال ، ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود ، وأيضاً فقوله {زُيِّنَ} يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفاً بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه ، إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صواباً فهو العلم/ وإن كان خطأ فهو الجهل ، ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان ، لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه ، ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلاً ، ومتى عرف كونه جهلاً امتنع بقاؤه جاهلاً ، فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان ، ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان ، لأن البحث الأول بعينه عائد فيه ، فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى والله أعلم. ويقوي ما قلناه أن صاحب "الكشاف" نقل أنه قرىء {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِه } على البناء للفاعل والفعل لله عزّ وجلّ ، ويدل عليه قوله {إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى } .
جزء : 27 رقم الصفحة : 523
ثم قال تعالى : {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ} والتباب الهلاك والخسران ، ونظيره قوله تعالى : {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (هود : 101) وقوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} (المسد : 1) والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 523
525
اعلم أن هذا من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون ، وقد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته. واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات : في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال ، وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل.
أما الإجمال فهو قوله {ءَامَنَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} وليس المراد بقوله {اتَّبِعُونِ} طريقة التقليد ، لأنه قال بعده {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} والهدى هو الدلالة ، ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه ، وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه ، لأن الرشاد نقيض الغي ، وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي.
وأما التفصيل فهو أنه بين حقارة حال الدينا وكمال حال الآخرة ، أما حقارة الدنيا فهي قوله {سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَـاقَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة ، ثم تنقطع وتزول ، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام ، وحاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة والدنيا منقضية منقرضة ، والدائم خير من المنقضي ، وقال بعض العارفين : لو كانت الدينا ذهباً فانياً ، والآخرة خزفاً باقياً ، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا ، فكيف والدنيا خزف فان ، والآخرة ذهب باق.
جزء : 27 رقم الصفحة : 525
واعلم أن الآخرة كما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فيها دائم ، وإن الترغيب في النعيم الدائم والترهيب عن العذاب الدائم من أقوى وجوه الترغيب والترهيب ، ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة ، وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال : {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا } والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق ، فإن قيل كيف يصح هذا الكلام ، مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد ؟
قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيماناً فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصراً على ذلك الاعتقاد أبداً ، فلا جرم كان عقابه مؤبداً بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصراً عليه ، فلا جرم قلنا أن عقاب الفاسق منقطع. أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل ، لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضاً ليس دائماً بل منقطعاً فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا } ، واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإآنها تقتضي أن يكون المثل مشروعاً/ وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع ، ثم نقول ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين ، مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة ، ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاماً مخصوصاً ، وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في مواضع التخصيص ، وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس ، وعلى الأعضاء ، وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 525
(1/3906)

ثم نقول إنه تعالى لما بيّن أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال : {وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَ أولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} واحتج أصحابنا بهذه الآية فقالوا قوله {وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا} نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجرى مجرى أن يقال من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا فإنه يدخل فيه كل من أتى بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة ، فكذلك ههنا وجب أن يقال كل من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة والخصم يقول إنه يبقى مخلداً في النار أبد الآباد فكان ذلك على خلاف هذا النص الصريح. قالت المعتزلة إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً وصاحب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن فلا يدخل في هذا الوعد والجواب : أنا بينا في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3) أن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط هذا الكلام ، واختلفوا في تفسير قوله {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} فمنهم من قال لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب ، وقال الآخرون لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله {بِغَيْرِ حِسَابٍ} واقع في مقابلة {إِلا مِثْلَهَا } يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة ، وأقول هذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجح على جانب القهر والعقاب ، فإذا عارضنا عمومات الوعد بعمومات الوعيد ، وجب أن يكون الترجيح بجانب عمومات الوعد وذلك يهدم قواعد المعتزلة ، ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال : {فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَـاقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ} يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار ، فإن قيل لم كرر نداء قومه ، ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ؟
قلنا أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ من سنة الغفلة ، وإظهار أن له بهذا المهم مزيد اهتمام ، وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة ، وأما المجيء بالواو العاطفة فلأن الثاني يقرب من أن يكون عين الأول ، لأن الثاني بيان للأول والبيان عين المبين ، وأما الثالث فلأنه كلام مباين للأول والثاني فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ، ولما ذكر هذا المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار ، فسّر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به ، أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الإله ، ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام وقوله تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 525
(1/3907)

{وَأُشْرِكَ بِه مَا لَيْسَ لِى بِه عِلْمٌ} المراد بنفي العلم نفي المعلوم ، كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله ؟
ولما بيّن أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بيّن أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله {الْعَزِيزُ} إشارة إلى كونه كامل القدرة ، وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة ، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً ، وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله {الْغَفَّـارُ} إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة ، فإن إله العالم وإن كان عزيزاً لا يغلب قادراً لا يغالب ، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة ، ثم قال ذلك المؤمن {لا جَرَمَ} والكلام في تفسير لا جرم مرّ في سورة هود في قوله {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ} (هود : 22) وقد أعاده صاحب "الكشاف" ههنا فقال {لا جَرَمَ} مساقه على مذهب البصريين أن يجعل (لا) رداً لما دعاه إليه قومه و{جَرَمَ} فعل بمعنى حق و{إِنَّمَآ} مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته أو بمعنى كسب من قوله تعالى : {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْىَ وَلا الْقَلَـا اـاِدَ وَلا ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (المائدة : 2) أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، ويجوز أن يقال إن {لا جَرَمَ} نظيره لا بد فعل من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق ، وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله ، فكذلك {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} (النحل : 62) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام ، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقل حقاً ، وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب "الكشاف".
ثم قال : {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ} والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان.
جزء : 27 رقم الصفحة : 525
الأول : أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنه جمادات والجمادات لا تدعو أحداً إلى عبادة نفسها وقوله {فِى الاخِرَةِ} يعني أنه تعالى إذا قلبها حيواناً في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين.
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله {لَيْسَ لَه دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ} معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقاً لاسم أحد المتضايقين على الآخر ، كقوله {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) ثم قال : {وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ} فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها ألبتة ، ومع ذلك فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد ، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه ؟
وقوله {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكلمة والكيفية ، أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار ، ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال : {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ } وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت ، وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد ، ثم قال : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه } وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضاً خوفهم بقوله {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ } ثم عول في ذفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه } وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام ، فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال : {إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} (غافر : 27) فتح نافع وأبو عمرو الياء من {أَمْرِى} والباقون بالإسكان.
جزء : 27 رقم الصفحة : 525
(1/3908)

ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم ، وتمسك أضحابنا بقوله تعالى : {وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّه } على أن الكل من الله ، وقالوا إن المعتزلة الذين قالوا إن الخير والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى الله ، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن قوله اعتراف بكونه فاعلاً مستقلاً بالفعل ، والمباحث المذكورة في قوله أعوذ بالله عائدة بتمامها في هذا الموضع. وههنا آخر كلام مؤمن آل فرعون والله الهادي.
جزء : 27 رقم الصفحة : 525
527
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن ذلك الرجل لم يقصر في تقرير الدين الحق ، وفي الذب عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين ، وقوله تعالى : {بِالْعِبَادِ * فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا } يدل على أنه لما صرّح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء ، قال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات فصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه ، وقيل المراد بقوله {فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا } أنهم قصدوا إدخاله في الكفر وصرفه عن الإسلام فوقاه الله عن ذلك إلا أن الأول أولى لأن قوله بعد ذلك {وَحَاقَ بِـاَالِ فِرْعَوْنَ سُواءُ الْعَذَابِ} لا يليق إلا بالوجه الأول ، وقوله تعالى : {وَحَاقَ بِـاَالِ فِرْعَوْنَ} أي أحاط بهم {سُواءُ الْعَذَابِ} أي غرقوا في البحر ، وقيل بل المراد منه النار المذكورة في قوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} قال الزجاج {النَّارِ} بدل من قوله {سُواءُ الْعَذَابِ} قال : وجائز أيضاً أن تكون مرتفعة على إضمار تفسير {سُواءُ الْعَذَابِ} كأن قائلاً قال : ما سوء العذاب ؟
فقيل : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 527
قرأ حمزة بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح أما قوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشياً ، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا لأن عرض النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا ، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة ، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء ، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق ، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض النصائح عليهم في الدنيا ؟
لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار ، ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين : الأول : أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع ، وقوله {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين ، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني : أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدينا ، أما في القبر فلا وجود لهما ، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب : عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار/ لا أنه يعرض عليهم نفس النار ، فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم ، وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز ، أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز ، قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين ، ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك ، وأيضاً لا يمتنع يأن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم : 62) أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية ، قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب ؟
والله أعلم.
المسألة الثانية : قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي يقال لخزنة جهنم : أدخلوهم في أشد العذاب ، والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار : أدخلوا أشد العذاب ، والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة ، واحتج عليها بقوله تعالى : {يُعْرَضُونَ} فهذا يفعل بهم فكذلك {أَدْخِلُوا } وأما وجه القراءة الثانية فقوله {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ، وههنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون.
جزء : 27 رقم الصفحة : 527
(1/3909)

واعلم أن الكلام في تلك القصة لما انجر إلى شرح أحوال النار ، لا جرم ذكر الله عقيبها قصة المناظرات التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار فقال : {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ} والمعنى اذكر يا محمد لقومك إذ يتحاجون أي يحاجج بعضهم بعضاً ، ثم شرح خصومتهم وذلك أن الضعفاء يقولون للرؤساء {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} في الدنيا ، قال صاحب "الكشاف" تبعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي أتباع أو وصفاً بالمصدر {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} أي فهل تقدرون على أن تدفعوا أيها الرؤساء عنا نصيباً من العذاب ، واعلم أن أولئك الأتباع يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف ، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم ، لأنهم هم الذين سعوا في إيقاع هؤلاء الأتباع في أنواع الضلالات فعند هذا يقول الرؤساء {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} يعني أن كلنا واقعون في هذا العذاب ، فلو قدرت على إزالة العذاب عنك لدفعته عن نفسي ، ثم يقولون {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} يعني يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم أو من العذاب ، ثم عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنم ويقولون لهم {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ} فإن قيل لم لم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها بل قال : {وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} ؟
قلنا فيه وجهان الأول : أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع والثاني : أن يكون جهنم اسماً لموضع هو أبعد النار قعراً ، من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر ، وفيها أعظم أقسام الكفار عقوبة وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة ، فإذا عرف الكفار أن الأمر كذلك استغاثوا بهم ، فأولئك الملائكة يقولون لهم {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـاتِ } والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه {مَا جَآءَنَا مِنا بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } (المائدة : 19) أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 527
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع ، ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترىء على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين أحدهما : كون المشفوع له مؤمناً والثاني : حصول الإذن في الشفاعة ولم يوجد واحد من هذين الشرطين فإقدامنا على هذه الشفاعة ممتنع لكن ادعوا أنتم ، وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة ، ولكن للدلالة على الخيبة ، فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكفار ، ثم يصرحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون {وَمَا دُعَآءُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} فإن قيل إن الحاجة على الله محال ، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : إنه تأذى من هؤلاء المجرمين بسبب جرمهم ، وإذا كان التأذي محالاً عليه كانت شهوة الانتقام ممتنعة في حقه ، إذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضار العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار لا منفعة فيه إلى الله تعالى ولا لأحد من العبيد ، فهو إضرار خال عن جميع الجهات المنتفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يبقى على ذلك الإيلام أبد الآباد ودهر الداهرين ، من غير أن يرحم حاجتهم ومن غير أن يسمع دعاءهم ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم ، ولو أن أقصى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عبيده لدعاه كرمه ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيد في محل النفع والضرر والحاجة ، فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار ؟
قلنا أفعال الله لا تعلل و{لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23) فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم بالصواب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 527
529
اعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول : أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى صلوات الله عليه وذلك المؤمن من مكر فرعون بين في هذه الآية أنه ينصر رسله والذين آمنوا معه والثاني : لما بين من قبل ما يقع بين أهل الناء من التخاصم وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَـاتِ } (غافر : 50) أتبع ذلك بذكر الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة والثالث : وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله {مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ} (غافر : 4) وامتد الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً كانوا مشغولين بدفع كيد المبطلين ، وكل لذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم وتصبيراً له على تحمل أذى قومه.
(1/3910)

ولما بلغ الكلام في تقرير المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } الآية ، أما في الدنيا فهو المراد بقوله {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} ، وأما في الآخرة فهو المراد بقوله {وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ} فحاصل الكلام أنه تعالى وعد بأنه ينصر الأنبياء والرسل ، وينصر الذين ينصرونهم نصرة يظهر أثرها في الدنيا وفي الآخرة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 529
واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه أحدها : النصرة بالحجة ، وقد سمى الله الحجة سلطاناً في غير موضع ، وهذه الصرة عامة للمحقين أجمع ، ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطاناً لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل ، وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور ، أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها وثانيها : أنهم منصورون بالمدح والتعظيم ، فإن الظلمة وإن قهروا شخصاً من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس وثالثها : أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين ، فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة السموات إلى أخس الأشياء ورابعها : أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين ، ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمراً وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق وخامسها : أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سبباً لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته وسادسها : أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر. وأما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمنحهم يتركون فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدينا وسابعها : أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم ، كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل به سبعون ألفاً ، وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله/ كمال قال : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـالِحِينَا وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا} (النساء : 69).
واعلم أن في قوله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} إلى قوله {وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ} دقيقة معتبرة وهي أن السلطان العظيم إذا خص بعض خواصه بالإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب كان ذلك ألذ وأبهج فقوله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ} المقصود منه هذه الدقيقة ، واختلفوا في المراد بالأشهاد ، والظاهر أن المراد كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن ، ما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا ، وأما الأنبياء فقال تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) وقال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) قال المبرد يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهداً كأطيار وطائر وأصحاب وصاحب ، ويجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيداً كأشراف وشريف وأيتام ويتيم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 529
ثم قال تعالى : {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر لا تنفع بالتاء لتأنيث المعذرة والباقون بالياء كأنه أريد الاعتذار.
(1/3911)

واعلم أن المقصود أيضاً من هذا شرح تعظيم ثواب أهل الثواب ، وذلك لأنه تعالى بيّن أنه ينصرهم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون ، فحالهم في علو الدرجات في ذلك اليوم ما ذكرناه وأما حال أعدائهم فهو أنه حصلت لهم أمور ثلاثة أحدها : أنه لا ينفعهم شيء من المعاذير ألبتة وثانيها : أن {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} وهذا يفيد الحصر يعني اللعنة مقصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال وثالثها : سوء الداء وهو العقاب الشديد فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثلاثة من الوحشة والبلية ، ثم إنه خص الأنبياء والأولياء بأنواع التشريفات الواقعة في الجمع الأعظم فهنا يظهر أن سرور المؤمن كم يكون ، وأن غموم الكافرين إلى أين تبلغ. فإن قيل قوله {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } يدل على أنهم يذكرون الأعذار إلا أن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات : 36) قلنا قوله {لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار ، بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول نافع ، وهذا القدر لا يدل على أنهم ذكروه أم لا. وأيضاً فيقال يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر ، ولما بين الله تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } ويجوز أن يكون المراد من الهدى ما آتاه الله من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، ويجوز أن يكون المراد تلك الدلائل القاهرة التي أوردها على فرعون وأتباعه وكادهم بها ، ويجوز أن يكون المراد هو النبوّة التي هي أعظم المناصب الإنسانية ، ويجوز أن يكون المراد إنزال التوراة عليه.
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ * هُدًى وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ} يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى لما أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العلم فيهم وتوارثوه خلفاً عن سلف/ ويجوز أن يكون المراد سائر الكتب التي أنزلها الله عليهم وهي كتب أنبياء بني إسرائيل التوراة والزبور والإنجيل ، والفرق بين الهدى والذكرى وأن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار منسياً ، وأما الذكرى فهي الذي يكون كذلك فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة. ولما بيّن أن الله تعالى ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى وخاطب بعد ذلك محمداً صلى الله عليه وسلّم فقال : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } فالله ناصرك كنا نصرهم ومنجز وعده في حقك كما كان كذلك في حقهم ، ثم أمره بأن يقبل على طاعة الله النافعة في الدنيا والآخرة فإن من كان لله كان الله له.
جزء : 27 رقم الصفحة : 529
واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي ، والاشتغال بما ينبغي ، والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية فوجب أن يكون مقدماً عليه في الذكر ، أما التوبة عما لا ينبغي فهو قوله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} والطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون به ونحن نحمله على التوبة عن ترك الأولى والأفضل ، أو على ما كان قد صدر عنهم قبل النبوة ، وقيل أيضاً المقصود منه محض التعبد كما في قوله {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} (آل عمران : 194) فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ثم إنه أمرنا بطلبه ، وكقوله {رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } (الأنبياء : 112) من أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق ، وقيل إضافة المصدر إلى الفاعل والمفعول فقوله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} من باب إضافة المصدر إلى المفعول أي واستغفر لذنب أمتك في حقك ، وأما الاشتغال بما ينبغي فهو قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ} والتسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل ما لا يليق به ، والعشي والإبكار ، قيل صلاة العصر وصلاة الفجر ، وقيل الإبكار ، عبارة عن أو النهار إلى النصف ، والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار ، فيدخل فيه كل الأوقات ، وقيل المراد طرفا النهار ، كما قال : {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ} (هود : 114) وبالجملة فالمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله ، وأن لا يفتر اللسان عنه ، وأن لا يغفل القلب عنه ، حتى يصير الإنسان بهذا السبب داخلاً في زمرة الملائكة ، كما قال في وصفهم {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء : 20) والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 529
531
(1/3912)

اعلم أنا بينا أن الكلام في أول هذه السورة إنما ابتدىء رداً على الذين يجادلون في آيات الله ، واتصل البعض بالبعض وامتد على الترتيب الذي لخصناه ، والنسق الذي كشفنا عنه إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى نبّه في هذه الآية على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ} إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدرهم فذلك الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل ، ولذك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك ، لأن النبوّة تحتها كل ملك ورياسة وفي صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك ، فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة.
ثم قال تعالى : {مَّا هُم بِبَـالِغِيه } يعني أنهم يريدون أن يكونوا تحت يدك ولا يصلون إلى هذا المراد ، بل لا بدّ وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك ، ثم قال : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} بما يقولون ، أو تقول {الْبَصِيرُ} بما تعمل ويعملون ، فهو يجعلك نافذ الحكمم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 531
واعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً ، فقال {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} والقادر على الأكبر قادر على الأصغر لا محالة ، وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها : أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد وثانيها : أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله ، فهذا استدلال حق لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله وثالثها : أن يقال لما قدر على الأقوى الأكملل فبأن يقدر على الأقل الأرذل كان أولى ، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل ألبتة ، ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السموات والأرض هو الله سبحانه وتعالى ، ويعلمون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً ، فهذا برهان جلي في إفادة هذا المطلوب ، ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس ، والمراد منهم الذين ينكرون الحشر والنشر ، فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة ، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب ، ولما بيّن الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون ، وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون ، نبّه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال : {وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ، ثم قال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُ } فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل/ والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة ، ثم قال : {قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} يعني أنهم وإن كان يعلمون أن العلم خير من الجهل ، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد ، إلا أنه قليلاً ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل ، والنوع المعين من العمل أنه عمل صالح أو فاسد ، فإن الحسد يعمي قلوبهم ، فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة ، وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة ، فهذا هو المراد من قوله {قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي {تَتَذَكَّرُونَ} بالتاء على الخطاب ، أي قل لهم قليلاً ما تتذكرون ، والباقون بالياء على الغيبة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 531
ولما قرر الديل الدال على إمكان وجود يوم القيامة ، أردفه بأن أخبر عن وقوعها ودخولها في الوجود فقال : {إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 531
532
(1/3913)

اعلم أنه تعاللى لما بيّن أن القوم بالقيامة حق وصدق ، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى ، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات ، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع ، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } واختلف الناس في المراد بقوله {ادْعُونِى } فقيل إنه الأمر بالدعاء ، وقيم إنه الأمر بالعبادة ، بدليل أنه قال بعده {الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق اللعبادة لما بقي لقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} معنى ، وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِه إِلا إِنَـاثًا} (النساء : 117) وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة ، فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى اللعبادة كثير في القرآن ، بأن ترك الظاهرة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل ، فإن قيل كيف قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقد يدعى كثيراً فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال : الدعاء إنما يصح على شرط ، ومن دعا كذلك استجيب له ، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة ، ثم سأل نفسه فقال : فما هو أصلح يفعله بلا دعاء ، فما الفائدة في الدعاء وأجاب : عنه من وجهين الأول : أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني : أن هذا أيضاً وارد على الكل ، لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله ، فلا فائدة في الدعاء ، وإن علم أنه لا يفعله فإنه ألبتة لا يفعله ، فلا فائدة في الدعاء ، وكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا ، هذا تمام ما ذكره ، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده ، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان ، أما بالقلب فإنه معولل في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله ، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت ، أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله ، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة ، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة ، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت ، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى ، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولاً عند الله ، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت ، واعلم أن الكلام السمتقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 532
(1/3914)

ثم قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء ، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال : {إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُم إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـالِغِيه فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُا قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول : كأنه تعالى قال : إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة ، ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني : أنه تعالى لما أمر بالدعاء ، فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة ، فما الدليل على وجود الإله القادر ، وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته ، واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته ، إما فلكية ، وإما عنصرية ، أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها : تعاقب الليل والنهار ، و(لما) كان أكثر مصالح العالم مربوطاً بهما فذكرهما الله تعالى في هذا المقام ، وبيّن أن الحكمة في خلق الليل حصول الراحة بسبب النوم والسكون ، والحكمة في خلق النهار ، إبصار الأشياء ليحصل مكنة التصرف فيها على الوجه الأنفع ، أما أن السكون في وقت النوم سبب للراحة فبيانه من وجهين : الأول : أن الحركات توجب الإعياء من حيث إن الحركة توجب السخونة والجفاف ، وذلك يوجب التألم والثاني : أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس ، ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات ، وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء ، وأيضاً الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات ، فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 532
{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} وأما قوله {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع ، ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه ، وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة ، وتلك الأعمال تصرفات في أمور ، وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه ، فهذا هو الحكمة في قوله {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه ، أو فجعل لكم الليل ساكناً ولكنه لم يقل كذلك بل قالل في الليل لتسكنوا فيه ، وقال في النهار مبصراً فما الفائدة فيه ؟
وأيضاً فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل ؟
قلنا : أما الجواب عن الأول : فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات ، أما اليقظة فأمور وجودية ، وهي مقصودة بالذات ، وقد بيّن الشيخ عبد القاهر النحوي في "دلائل الإعجاز" أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما/ فهذا هو السبب في هذا الفرق والله أعلم ، وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود ، ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1).
جزء : 27 رقم الصفحة : 532
(1/3915)

واعلم أنه تعالى لما ذكر ما في الليل والنهار من المصالح والحكم البالغة قال : {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} والمراد أن فضل الله على الخلق كثيراً جداً ولكنهم لا يشكرونه ، وأعلم أن ترك الشكر لوجوه : أحدها : أن يعتقد الرجل أن هذه النعم ليست من الله تعالى مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها وواجبة الدوران لذواتها ، فحينئذٍ هذا الرجل لا يعتقد أن هذه النعم من الله وثانيها أن الرجل وءن اعتقد أن كل العالم حصل بتخليق الله وتكونيه إلا أن هذه النعم العظيمة ، أعني نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان ، فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يتفق لبعض الناس والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في آبار عميقة مظلمة مدة مديدة ، فحينئذٍ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء ، ورأيت بعض الملوك كان يمعذب بعض خدمه بأن أمر أقواماً حتى ينمعونه عن الإستناد إلى الجدار ، وعن النوم فعظم وقع هذا التعذيب وثالثها : أن الرجل وإن كان عارفاً بمواقع هذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا محباً للمال والجاه ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة ، ولما كان أكثر الخلق هالكين في أحد هذه الأودية الثلاثة التي ذكرناها ، لا جرم قال تعالى : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ونظيره قوله تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وقول إبليس {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ} (لأعراف : 17) ولما بيّن الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر الرحيم الحكيم قال : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } قال صاحب "الكشاف" ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} والمراد فأنى تصرفون ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها ، ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ذ يعني أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة لطلب الحق وخوف العاقبة أفكر كما أفكوا.
جزء : 27 رقم الصفحة : 532
533
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته ءما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس ، أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة ، والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها : الأرض والسماء وهو المراد من قوله {اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} قال ابن عباس في قوله {قَرَارًا} أي منزلاً في حال الحياة وبعد الموت {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} كالقبة المضروبة على الأرض ، وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها {وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} أي قائمئاً ثابتاً وإلا لوقعت علينا ، وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم ، والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها : ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله والثاني : ما كان حاصلاً في ابتداء خلقته وتكوينه.
أما القسم الأول : فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها : حدوث صورته وهو المراد من قوله {وَصَوَّرَكُمْ} وثانيها : حسن صورته وهو المراد من قوله {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } ، وثالثها : أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسرار : 70) ولما ذكر الله تعالى هذه الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} وتفسير بتارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات ، ثم قال : {هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو ، فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعاً ذاتياً وحينئذٍ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 533
(1/3916)

واعلم أن الحي عبارة عن الدارك الفعال والدارك إشارة إلى العلم التام ، والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة ، ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي : الوحدانية بقوله لا إله إلا هو ، ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها : بالدعاء والثاني : بالإخلاص فيه ، فقال : {فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ثم قال : دالحمد لله رب العالمين} فيجوز أن يكون المراد قول : فيجوز أن يكون المراد قول : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ولماب يّن صفات الجلال والعظمة قال : {قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه } فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان ، وبيّن أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات ، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره ، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليف إلا به ، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل.
ولما بيّن أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال : {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر ، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه ألا الأفضل الأكمل ، فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله ولإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه ، ثم قال : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} .
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس ، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه لآية أربعة : الليل والنهار والأرض والسماء ، وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها : الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة ، والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع : الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات.
وأما القسم الثاني : وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} فقيل المراد آدم ، وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تيولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان ، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبت إنما يكون من التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم ، فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الأبيات.
جزء : 27 رقم الصفحة : 533
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها : كونه طفلاً ، وثانيها : أن يبلغ أشده ، وثالثها : الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل ، وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية : أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف والنقص ، وهذه المرتبة هي المراد من قوله {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا } وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التفسيم لا تزيد على هذه الثلاثة ، قال صاحب الكشاف" قوله {لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا.
ثم قال : {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ } أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطاً.
ثم قال : {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى} ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة.
ثم قال : {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل.
جزء : 27 رقم الصفحة : 533
533
(1/3917)

اعلم أنه تعالى لما ذكر انتقال الإنسان من كونه تراباً إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة ثم إلى كونه طفلاً ثم إلى بلوغ الأشد ثم إلى الشيخوخة واستدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر قال بعده : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ} يعني كما أن الأتنقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات التي تقدم ذكرها يدل على الإله القادر ، فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر وقوله {فَإِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} فيه وجوه الأول : معناه أنه لما نقل هذه الأجسام من بعض هذه الصفات إلى صفة أخرى لم يتعب في ذلك التصرف ولم يحتج إلى آلة وأداة ، فعبّر عن نفاذ قدرته في الكائنات والمحدثات من غير معارض ولا مدافع بما إذا قال : دكن فيكون} الوجه الثاني : أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول الوجه الثاني : أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول {كُن فَيَكُونُ} فكأنه قيل الإنتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفة ، ثم إلى كونه علقة انتقالات تحصل على التدرج قليلاً قليلاً ، وأما صيرورة الحياة فهي إنما تحصل لتعليق جوهر الروح النطقية به ، وذلك يحدث دفعة واحدة ، فلهذا السبب وقع التعبير عنه بقوله {كُن فَيَكُونُ} الوجه الثالث : أن من الناس من يقول إن تكون الإنسان إنما ينعقد من المني والدم في الرحم في مدة معينة وبحسب انتقالاته من حالات إلى حالات ، فكأنه قيل إنه يتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخر ، لأن التسلسل محال ، ووقوع الحادث في الأزل محال ، فلا بد من الاعتراف بإنسان هو أول الناس ، فحينئذٍ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المني والدم ، بل بإيجاد الله تعالى ابتداء ، فعبّر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله {كُن فَيَكُونُ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 533
534
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} وهذا ذم لهم على أن جادلوا في آيات الله ودفعها والتكذيب بها ، فعجب تعالى منهم بقوله {أَنَّى يُصْرَفُونَ} كما يقول الرجل لمن لا يبين : أنى يذهب بك تعجباً من غفلته ، ثم بيّن أنهم هم {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ} أي بالقرآن {وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِه رُسُلَنَا } من سائر الكتب ، فإن قيل سوف للاستقبال ، وإذ للماضي فقوله {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ} مثل قولك : سوف أصوم أمس قلنا المراد من قوله {إِذْ} هو إذاً ، لأن الأمور المستقبلة لما كان في أخبا رالله تعالى متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد ، والمعنى على الاستقبال ، هذا لفظ صاحب "الكشاف".
جزء : 27 رقم الصفحة : 534
ثم إنه تعالى وصف كيفية عقابهم فقال : {إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ وَالسَّلَـاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ} والمعنى : أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ، ثم يسحبون بتلك السلاسل في الحميم ، أي في الماء المسخن بنار جهنم {ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} والسجر في اللغة الإيقاد في التور ، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم ، ويقرب منه قوله تعالى : {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْـاِدَةِ} (الهمزة : 6 ، 7) {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّه } فيقولون {ضَلُّوا عَنَّا} أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم ، ثم قالوا {بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئًا } أي تبيّن أنهم لو لم يكونوا شيئاً ، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً ، كما تقول حسبت أن فلاناً شيء ، فإذا هو ليس بشيء إذا جربته فلم تجد عنده خيراً ، ويجوز أيضاً أن يقال ءنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله ، كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأنعام أنهم قالوا {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} قال القاضي : معناه أنه يضلهم عن طريق الجنة ، إذ لا يجوز أن يقال يضلهم عن الحجة إذ قد هداهم في الدنيا إليها ، وقال صاحب "الكشاف" {كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ} مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم ، حتى أنهم لو طلبوا الآلهة أو طلبتم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر ، ثم قال : {ذَالِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارْضِ} أي ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق ، وهو الشرك وعبادة الأصنام {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} السبعة المقسومة لكم ، قال الله تعالى : {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر : 44) ، {خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} والمراد منه ما قال في الآية المتقدمة في صفة هؤلاء المجادلين {إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} (غافر : 56).
(1/3918)

جزء : 27 رقم الصفحة : 534
537
اعلم أنه تعالى لما تكلم من أول السورة إلى هذا لاموضع في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله ، أمر في هذه الآية رسوله بأي يصبر على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات ، ثم قال : {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } وعنى به ما وعد به الرسول من نصرته ، ومن إنزال العذاب على أعدائه ، ثم قال : {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} يعني أولئك الكفار من أنواع العذاب ، مثل القتل يوم بدر ، فذلك هو المطلوب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل إنزال العذاب عليهم {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام ، ونظيره قوله تعالى : {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَـاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} (الزخرف : 41/ 42).
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } والمعنى أنه قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : أنت كالرسل من قبلك ، وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين ، وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا ، وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظهار لمعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت ، ثم إن الله تعالى لم علم أن لصلاح في إظهار ما أظهره ، وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحاً في نبوتهم ، فكذلك الحال في اقترح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً ، لا جرم ما أظهرناها ، وهذا هو المراد من قوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا} ثم قال : {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ} وهذا وعيد ورد عقيب اقتراح الآيات {أَمْرُ اللَّهِ} القيامة هم المعاندون لذين يجادلون في آيات الله ، ويقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت.
جزء : 27 رقم الصفحة : 537
537
اعلم أنه تعالى لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم ، وإلى كذر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد ، قال الزجاج الإبل خاصة ، وقال القاضي هي الأزواج الثمانية ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أنه لم أدخل لام الغرض على قوله {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا } ولم يدخل على البواقي فما السبب فيه ؟
الجواب : قال صاحب "الكشاف" الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً ، فهذان القسمان أغراض دينية فلا جرم أدخل عليهما حرف التعليل ، وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المابحات ، فلا جرم ما أدخل عليه حرف التعليل ، نظيره قوله تعالى : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } (النحل : 8) فأدخل التعليل على الركوت ولم يدخله على الزنية.
السؤال الثاني : قوله تعالى : {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} معناه تحملون في البر والبحر إذا عرفت هذا فنقول : لم لم يقل وفي الفلك كما قال {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (هود : 40) والجواب : أن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع في الفلك كما يصح أن يقال وضع فيه يصح أن يقال وضع عليه ، ولما صح الوجهان كانت لفظة أولى حتى يتم المراد في قوله {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثير قال : {وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِه فَأَىَّ ءَايَـاتِ} يعني أن هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ، فقوله {وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِه فَأَىَّ ءَايَـاتِ} تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره ، قل صاحب "الكشاف" قوله {ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا} جاء على اللغة المستفيضة ، وقولك : فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحوحمار وحمارة غريب ، وهي في أي أغرب لإبهامه والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 537
543
(1/3919)

اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا" لطيفاً في آخر هذه السورة ، وذلك أنه ذكر فصلاً في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ، ثم أردفه بفضل التهديد والوعيد وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد ، والمقصود أن هؤلاء الكفار لذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا ، والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه ، فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا ، فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة ، لأن الدنيا فانية ذاهبة ، واحتج عليه بقوله تعالى : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين ، ليست إلا الهلاك والبوار ، مع أنهم كانوا أكثر عددً ومالاً وجاهاً من هؤلاء المتأخرين ، فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار ، والحسرة والبوار ، فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين ، أما بيان أنهم كانوا أكثر من هؤلاء عدداً فإنما يعرف في الأخبار ، وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثاراً في الأرض ، فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم ، مثل الأهرام الموجودة بمصر ، ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون ، ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً.
ثم قال تعالى : {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ما في قوله {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ} نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب ، وما في قوله {مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 543
ثم بيّن تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم ، واعلم أن الضمير في قوله {فَرِحُوا } يحتمل أن يكون عائداً إلى الكفار ، وأن يكون عائداً إلى الرسل ، أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان ؟
وفيه وجوه الأول : أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم ، وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ } (الجاثية : 24) وقولهم {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا} (الأنعام : 148) وقولهم {مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} (يعس : 78) ، {وَلَا ِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} (الكهف : 36) وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال : {كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون : 53) ، الثاني : يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة ، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم/ وعن سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له لو هاجرت فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا الثالث : يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم : 7) ، {ذَالِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } (النجم : 30) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة العماد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به. أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان الأول : أن يجعل الفرح للرسل ، ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلاً كاملاً ، وإعراضاً عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم ، فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه ، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم الثاني : أن يكون المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال استهزؤا بالبينات ، وبما جاؤا به من علم الوحي فرحين ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 543

ثم قال تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَه وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِه مُشْرِكِينَ} البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى : {بِعَذَابا بَئِيس } (الأعراف : 165) فإن قيل أي فرق بين قوله {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم ؟
قلنا هو مثل كان في نحو قوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35) والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم ، فإن قيل اذكروا ضابطاً في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه ، قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب ، لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه ، حتى يكون المرء مختاراً ، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا.
ثم قال تعالى : {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِه } والمعنى أن عدم قبول الإيمان حالل اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم.
ثن قال : {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} فقوله {هُنَالِكَ} مستعار للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس ، والله الهادي للصواب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 543
550
(1/3920)

سورة فصلت ( السجدة )
خمسون وأربع آيات مكيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 27 رقم الصفحة : 550
554
اعلم أن في أول هذه السورة احتمالات أحدها : وهو الأقوى أن يقال حم اسم للسورة وهو في موضع المبتدأ وتنزيل خبره ، وثانيها : قال الأخفش : تنزيل رفع بالابتداء وكتاب خبره ، وثالثها : قال الزجاج : تنزيل رفع بالابتداء وخبره كتاب فصلت آياته ووجهه أن قوله {تَنزِيلٌ} تخصص بالصفة وهو قوله {مِّنَ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ} فجاز وقوعه مبتدأ.
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
(1/3921)

واعلم أنه تعالى حكم على السورة المسماة بحم بأشياء أولها : كونه تنزيلاً والمراد المنزّل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ، يقال هذا بناء الأمير أي مبنيه ، وهذا الدرهم ضرب السلطان أي مضروبه ، والمراد من كونها منزلاً أن الله تعالى كتبها في اللوم المحفوظ وأم جبريل عليه السلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على محمد صلى الله عليه وسلّم ويبلغها إليه ، فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلاً وثانيها : كون التنزيل من الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على كون التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة ، فكونه تعالى رحماناً رحيماً صفتان دالتان على كمال الرحمة ، فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالاً على أعظم وجوه النعمة ، والأمر في نفسه كذلك ، لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والزمنى والمحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية ، فكان أعظم النعم عند الله تعالى على أهل هذا اللعالم إنزال القرآن عليهم وثالثها : كونه كتاباً وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع وإنما سمي كتاباً لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين ورابعها : قوله {فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه ا } والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات الله تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السموات والأرض والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان ، وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح ، وبعضها في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أهل الجنة ودرجات أهل النار ، وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ، وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين ، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن وخامسها : قوله {قُرْءَانًا} والوجه في تسميته قرآناً قد سبق وقوله تعالى : {قُرْءَانًا} نصب على الاختصاص والمدح أي أُريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت ، وقيل هو نصب على الحال وسادسها : قوله {عَرَبِيًّا} والمعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه } (إبراهيم : 4) وسابعها : قوله تعالى : {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} والمعنى إنا جعلناه عربياً لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد ، فإن قيل قوله {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} متعلق بماذا ؟
قلنا يجوز أن يتعلق بقوله {تَنزِيلٌ} أو بقوله {فُصِّلَتْ} أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم ، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب ، لئلا يفرق بين الصلات والصفات وثامنها وتاسعها : قوله {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} يعني بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب ، والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة ، كما يقال شعر شاعر وكلام قائل.
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
الصفة العاشرة : كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه ، فهذه هي الصفات العشرة التي وصف الله القرآن بها ، ويتفرع عليها مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول : أنه وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً والمنزل والتنزيل مشعر بالتصيرر من حال ، فوجب أن يكون مخلوقاً الثاني : أن التنزيل مصدر والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين الثالث : المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول الرابع : أن قوله {فُصِّلَتْ} يدل على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز ، وذلك لا يليق بالقديم الخامس : أنه إنما سمي قرآناً لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل السادس : وصفه عربيباً ، وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم ، وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بدّ وأن يكون محدثاً ومخلوقاً الجواب : أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات ، وهي عندنا محدثة مخلوقة ، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ والله أعلم.
(1/3922)

المسألة الثانية : ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية ، فأما حملها على معان أُخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعاً ، وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن ، مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر ، وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدلل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} وإنما سماه عربياً لكونه دالاً على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم ، وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة ، وأن ما سواه فهو باطل.
المسألة الثالثة : ذهب قم إلى أنه حصلل في القرآن من سائر اللغات كقوله {إِسْتَبْرَقٍ } (الكهف : 31) و{سِجِّيلٍ} (هود : 82) فإنهما فارسيان ، وقوله (النور : 35) فإنها من لغة الحبشة وقوله (الإسراء : 35) فإنه من لغة الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله {يَتَذَكَّرُونَ * قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ، وقوله {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه } (إبراهيم : 4).
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة لفظ الإيمان والكفر واللصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية ، والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى ، وعندنا أن هذا باطل ، وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا من وجه واحد ، وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلاً/ الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق ، والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء ، كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى : {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ، وقوله {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِه } .
المسألة الخامسة : إنما وصف الله القرآن بكونه {عَرَبِيًّا} في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات.
واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم ، ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره ، فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة ، وهي مركبة من الحروف ، فالكلمة لها مادة وهي الحروف ، ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب. فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها ، أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف ، واعلم أن الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع وبعضها خفية المخارج مشتبهة المقاطع ، وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع ، ولا يشتبه شيء منها بالآخر. وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض ، وذلك يخل بكمال الفصاحة ، وأيضاً الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر ، وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازاً ظاهراً جلياً ، وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب ، وذلك أيضاً من جنس ما يوجب الفصاحة ، وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع :
أحدها : أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج ، وأيضاً الحروف على قسمين منها صلبة ومنها رخوة ، فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة ، وا لرخوة المتقاربة ، والصلبة المتباعدة ، والرخوة المتباعدة ، فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان. صعب اللفظ بها ، لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جارياً مجرى ما إذا كان الإنسان مقيداً ثم يمشي ، وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج ، وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الشضعف والإعياء ، ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل وثانيها : أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع ، وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب وثالثها : الوزن فنقول : الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ، وأعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة ، والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى ، فهذه ثلاث مراتب ، فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة ، أما الثانائية فهي ناقصة وأما الرباعية فهي زائدة ، والغائب في كلام العرب الثلاثيات ، فثبت بما ذكرنا ضبط فصائل اللغات ، والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها ، وأما سائر اللغات فليست كذلك ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
(1/3923)

المسألة السادسة : قوله {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يعني إنما جعلناه {عَرَبِيًّا} لأجل أن يعلموا المراد منه ، والقائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح والحكم ، تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله {عَرَبِيًّا} لهذه الحكمة ، فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز.
المسألة السابعة : قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم ، وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم ، والدليل عليه قوله تعالى : {كِتَـابٌ فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه قُرْءَانًا} يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقوم بأنه غير معلوم يقدح فيه.
المسألة الثامنة : قوله تعالى : {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه/ لأنا بينا أن كونه نازلاً من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب ، وكونه {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} مفصلاً يدل على أنه في غاية الكشف والبيان ، وكونه {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات ، لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات ، وقد حصلت هذه الموجبات اللثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به ، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم ، وذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هذاه الله ، ولا ضال إلا من أضله الله.
واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم عرضوا عنه ولا يسمعونه ، بيّن أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها : أنهم قالوا {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء ، والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها : قولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى } أي صمم وثقل من استماع قولك وثالثها : قولهم {وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة {مَنْ} في قوله {وَمِنا بَيْنِنَا} أنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجاباً حصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة لفظ {مَنْ} كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب ، وما بقي جزء منها فارغاً عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب ، هكذا ذكره صاحب "الكشاف" وهو في غاية الحسن.
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة ، وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف ، فلما بيّن أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب.
واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاماً لم يفهم معناه كما ينبغي ، وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سبباً للوقوف على دقائق أحوالك ذلك المرئي ، وذلك المدرك والشاعر هو النفس ، وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء ، فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد ، فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم ، وذكر أيضاً ما يقرب منه في معرض الذم فقال : {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُا بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} (البقرة : 88).
ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير والإثبات في سورة الأنعام فقال : {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } (الأنعام : 25) فكيف الجمع بينهما ؟
قلنا إنه لم يقل ههنا أنهم كذبوا في ذلك إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا : إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل ، أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه.
واعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة قالوا {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ} والمراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا ، ويجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ، والحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} بل إنما أتوا بالكفر والكلام الباطل في قولهم {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
(1/3924)

ولما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ} وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً وقهراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عزّ وجلّ أوحى إليّ وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا النحي إليكم ، ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه ، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه ، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ، ثم بيّن أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين : العلم والعمل ، أما العلم فالرأس والرئيس فيه معرفة التوحيد ، ذلك لأن الحق هو أن الله واحد وهو المراد من قوله {أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك وجب علينا أن نعترف به ، وهو المراد من قوله {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} ونظيره قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة : 6) وقوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } (فصلت : 30) وقوله تعالى : {وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه } (الأنعام : 153) وفي قوله تعالى : {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} وجهان الأول : فاستقيموا متوجهين إليه الثاني : أن يكون قوله {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض.
واعلم أن الكليف له ركنان أحدهما : الاعتقاد والرأس والرئيس فيه اعتقاد التوحيد ، فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل والرأس والرئيس فيه الاستغفار ، فلهذا السبب قال : {وَاسْتَغْفِرُوه } فإن قيل المقصود من الاستغفار والتوبة إزالة ما لا ينبغي وذلك مقدم على فعل ما ينبغي ، فلم عكس هذا الترتيب ههنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما ينبغي ؟
قلنا ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر ، بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما قال صلى الله عليه وسلّم : "وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" ولما رغب الله تعالى في الخير والطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي ، فقال : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} وفي هذه الآية مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
(1/3925)

المسألة الأولى : وجه النظم في هذه الآية من وجوه الأول : أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وذلك لأن الموجودات ، إما الخالق وإما الخلق ، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة ، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر الله ، وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم ، وذلك هو المراد من الشفقة على خلق الله ، فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله ، وأفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بكونه واحداً وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها ، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال ، لأنه ضد الشفقة على خلق الله ، إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفاً بصفات ثلاثة أولها : أن يكون مشركاً وهو ضد التوحيد. وإليه الإشارة بقوله {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} وثانيها : كونه ممتنعاً من الزكاة وهو ضد الشفقة على خلق الله ، وإليه الإشارة بقوله {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} وثالثها : كونه منكراً للقيامة مستغرقاً في طلب الدنيا ولذاتها ، وإليه الإشارة بقوله {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام : الأمس واليوم والغد. أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة الله تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم. وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة ، وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة ، وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال ، فلهذا حكم الله عليه بالويل ، فقال : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} وهذا ترتيب في غاية الحسن ، والله أعلم الوجه الثاني : في تقرير كيفية النظم أن يقال المراد بقوله {لا يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم : لا إله إلا الله ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا} (الشمس : 7) الثالث : قال الفرّاء : إن قريشاً كانت تطعم الحاج ، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
المسألة الثانية : احتج أصحابنا في إثبات أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام بهذه الآية ، فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين أحدهما : كونه مشركاً والثاني : أنه لا يؤتي الزكاة ، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد ، وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيراً عظيماً في زيادة الوعيد ، وذلك هو المطلوب.
المسألة الثالثة : احتج بعضهم على أن الامتناع من إيتاء الزكاة يوجب الكفر ، فقال إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر ، وهو قوله {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} وذكر أيضاً بعدها ما يوجب الكفر ، وهو قوله {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ} فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً ، لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه ، ثم أكذوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة والجواب : لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان وهما حاصلان عند عدم إيتام الزكاة ، فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدنم إيتاء الزكاة ، والله أعلم.
ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع ، من قولك مننت الحبل ، أي قطتعه ، ومنه قولهم قد منه السفر ، أي قطعه ، وقيل لا يمن عليهم ، لأنه تعالى لما سماه أجراً ، فإذاً الأجر لا يوجب المنّة ، وقيل نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون.
جزء : 27 رقم الصفحة : 554
557
(1/3926)

اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم في الآية الأولى أن يقول {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (الكهف : 110) {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه } (فصلت : 6) أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية ، وذلك بأن بيّن كمال قدرته وحكته في خلق السموات والأرض في مدة قليلة ، فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية والمعبودية ؟
فهذا تقرير النظم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير : أينكم لتكفرون بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد ، وأما نافع في رواية قالون وأبو عمرو فعلى هذه الصورة ، إلا أنهما يمدان ، والباقون همزتين بلا مد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
المسألة الثانية : قوله تعالى : {أَاـاِنَّكُمْ} استفهام بمعنى الإنكار ، وقد ذكر عنخم شيئين منكرين أحدهما : الكفر بالله. وهو قوله {لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} وثانيهما : إثبات الشركاء والأنداد له ، ويجب أن يكون الكفر المذكور أولاً مغايراً لإثبات الأنداد له ، ضرورة أن عطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير ، والأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول : قولهم إن الله تعالى لا يقدر على حشر الموتى ، فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا بالله الثاني : أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف ، وفي بعثة الأنبياء ، وكل ذلك قدح في اصفات المعتبرة في الإلهية ، وهو كفر بالله الثالث : أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد ، وذلك أيضاً قدح في الإلهية وهو يوجب الكفر بالله ، فالحاصل أنهم كفروا بالله لأجل قولهم بهذه الأشياء ، وأثبتوا الأنداد أيضاً لله لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام ، واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر بالله ، وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً لله تعالى ، مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين ، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين ؟
فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة ، كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر ، وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء ، وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أنداداً له في المعبودية والإلهية ، فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء ، فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به ، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا ينكن إثباته بالعقل المحض ، وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء ، والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوّة ، فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم ، وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم ، قلنا إثبات كون السموات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن ، فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم/ وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية ؟
بقي أن يقال : فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر ، فنقول هذا أيضاً له أثر في هذا الباب ، وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى ، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب ، فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق ، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة ، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإلهية ؟
فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
(1/3927)

وأما قوله تعالى : {ذَالِكَ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم ، فكيف أثبتم له أنداداً من الخشب والحجر ؟
ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول : قوله {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا} والمراد منها الجبال ، وقد تقدم تفسير كونها {رَوَاسِىَ} في سورة النحل ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله {مِن فَوْقِهَا} ولم لم يقتصر على قوله {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَـامِخَـاتٍ} (المرسلات : 27) {وَجَعَلْنَا فِى الارْضِ رَوَاسِىَ} (الرعد : 3) قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني : مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله {وَبَـارَكَ فِيهَا} والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان ، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث : قوله تعالى : {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} وفيه أقوال الأول : أن المعنى وقد فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، قال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني : قال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر ، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان ، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول الثالث : أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض ، وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى ، فقوله {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها ، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة ، حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس ، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال ، ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة ، لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال : {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً ، ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده : {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ} وههنا سؤالات :
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
السؤال الأول : أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر ، وذكر أنه خلق السموات في يومين ، فيكون المجموع ثمانية أيام ، لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض ، واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} مع اليومين الأولين ، وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً يريد كلا المسافتين ، ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفاً في شهر وألوفاً في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين.
السؤال الثاني : أنه ملا ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط ، فلم ترك هذا التصريح ، وذكر ذلك الكلام المجمل ؟
والجواب : أن قوله {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ} فيه فائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين ، وذلك لأنه لو قال خلقت هذه الأشياء في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل ، أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قاتل بعده : {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآاـاِلِينَ} دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان.
السؤال الثالث : كيف القراءات في قوله {سَوَآءً} ؟
والجواب : قال صاحب "الكشاف" قرىء {سَوَآءً} بالحركات الثلاثلا الجر على الوصف والنصب على المصدر استوت سواء والرفع على هي سواء.
السؤال الرابع : ما المراد من كون تلك الأيام الأربعة سواء ؟
فنقول إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام الموجودة في أماكن خط الاستواء وقد تكون مختلفة كالأيام الموجودة في سائر الأماكن ، فبيّن تعالى أن تلك الأيام الأربعة متساوية غير مختلفة.
(1/3928)

السؤال الخامس : بم يتعلق قوله {لِّلسَّآاـاِلِينَ} ؟
الجواب فيه وجهان : الأول : أن الزجاج قال قوله {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي في تتمة أربعة أيام ، إذا عرفت هذا فالتقدير {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني : أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها ، ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال : {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ} وفيه مباحث :
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
البحث الأول : قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ} من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ، ومنه قوله تعالى : {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} (فصلت : 6) والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها ، من غير صرف يصرفه ذلك.
البحث الثاني : ذكر صاحب "الأثر" أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات.
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن ، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا ، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة ، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة ، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية/ بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة ، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلماً ، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالساً في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئاً ، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين ، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً ، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة ، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس والقمر كانت مظلمة ، فصح تسميتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور ، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان ، والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
(1/3929)

البحث الثالث : قوله {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ} مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض ، وقوله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30) مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض ، واختلف العلماء في هذه المسألة ، والجواب المشهور : أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولاً ثم خلق بعدها السماء ، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ، وبهذا الطريق يزول التناقض ، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول : أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثلث فِيهَا رَوَاسِىَ رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَتَهَا وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة ، وقوله تعالى : {وَبَـارَكَ فِيهَا} مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة ، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ} فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة ، وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني : أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة ، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضاً فهي منذ خلقت كانت مدحوة ، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة ، وذلك باطل الثالث : أن الأرض جسم في غاية العظم ، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحواً ، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة ، ثم صارت مدحوة قول باطل ، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس ، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع ، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال ، وإن كان المراد منه أنه خلق أولاً أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أحزائها ، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً ، فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام ، فإذا حصل دحو الأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس : أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} كناية عن إيجاد السماء والأرض ، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور ، ونقل الواحدي في "البسيط" عن مقاتل أنه قال : خلق الله السموات قبل الأرض وتأويل قوله {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ} ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان ، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان لما قال تعالى : {قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ } (يوسف : 77) معناه إن يكن سرق ، وقال تعالى : {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} (الأعراف : 4) والمعنى فكان قد جاءها ، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف ، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء ، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة {ثُمَّ} تقتضي التأخير ، وكلمة كان تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض ، وذلك دليل على أنه لم يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} إنما حصل قبل وجودهما ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله على الأمر والتكليف ، فوجب حمله على ما ذكرناه ، بقي على لفظ الآية سؤالات.
(1/3930)

السؤال الأول : ما الفائدة في قوله تعالى : {دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} ؟
الجواب : المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير : ائتي شئتما ذلك أو أبيتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين {قَالَتَآ أَتَيْنَا} على الطوع لا على الكره ، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكر ، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها : أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف ، تشبه حيواناً مطيعاً لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال ، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها : أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة ، قال تعالى : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النحل : 50) وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك وثالثها : السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور ، قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة ، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة ، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي ، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات ، فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره ، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبداً بما ويجب الكره والكرب والقهر والقسر.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
السؤال الثاني : ما المراد من قوله {ائْتِيَا} ومن قوله {ءَاتَيْنَا} ؟
الجواب : المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله {كُن فَيَكُونُ} (البقرة : 117) وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي بأرض مدحوة قراراً ومهاداً وأي بسماء مقبية سقفاً لهم ، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد ، كما تقول أتى عمله مرضياً وجاء مقبولاً ، ويجوز أيضاً أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء وكون السماء سقفاً للأرض.
السؤال الثالث : هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى ، لأنهما سموات وأرضون ؟
الجواب : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله {سَـاجِدِينَ} (الأعراف : 120) ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير ، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة ، إلا أن هذا القول باطل ، لإجماع المتكلمين على فساده.
ثم قال تعالى : {فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ} وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله {فَقَضَـاـاهُنَّ} يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال : {طَآاـاِعِينَ} ونحوه {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الحاقة : 7) ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سموات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال والثاني على التمييز.
ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفزع في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، فإن قيل اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها ، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم ؟
قلنا معناه إنه مضى من المدة ما لوم حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراف بيوم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
(1/3931)

ثم قال تعالى : {وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } قال مقاتل أمر في كل سماء بما أراد ، وقال قتادة خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ، وقال السدي خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد ، قال والله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة ، والأقرب أن يقال قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، والله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص ، فمن الملائكة من هو في القيام في أول خلق العالم إلى قيام القيامة ، ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون ، وإذا كان ذلك الأمر مختصاً بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصاً بتلك السماء ، وقوله تعالى : {وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} (الأعرف : 4) والمعنى فكان قد جاءها ، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى ، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض ، ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيداً ثم ضربت عمراً بالأمس ، فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه ، والمختار عند أي يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض ، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية ؟
فنقول : الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد ، بل هو عبارة عن التقدير ، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله {خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} معناه أنه قضى بحدوثه في يومين ، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا ، لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال ، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء ، ولا يزم منه تقدم إحداث الأرض على إحدث السماء ، وحينئذٍ يزول السؤال ، فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل/
ثم قال تعالى : {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} .
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان :
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
القول الأول : أن تجري هذه الآية على ظاهرنا فنقول : إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد ، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال : {فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه وَالطَّيْرَ } (سبأ : 10)والله تعالى تجلى للجبل قال : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} (الأعراف : 143) والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور : 24) وإذ كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلاً وفهماً ، ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما ، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع ، وههنا لا مانع ، فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني : أنه تعالى أخبر عنهما ، فقال : {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث : قوله تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} (الأحزاب : 72) وهذا يدل على كونها عارفة بالله ، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها ، والإشكال عليه أن يقال : المراد من قوله {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة ، إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال : يا موجود كن موجوداً ، وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة ، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب ، فلم يجز توجيه الأمر عليها ، فإن قال قائل : روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : قال سبحانه للسموات أطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك ، وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها ، فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله {أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} حدوثهما في داتهما ، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما ، إلا أن هذا الكلام باطل ، لأنه تعالى قال : {فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ} والفاء للتعقيب ، وذلك يدل على أن حدوث المسوات إنما حصل بعد قوله {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
(1/3932)

القول الثاني : أنقوله تعالى : {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع ، ونظيره قول القائل : قال الجدار للوتد لم تشقني ؟
قال الوتد : أسألمن يدقني ، فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي.
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر ، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، وقد بينا أن قوله {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} إنما حصل قبل وجودهما ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} على الأمر والتكليف ، فوجب حمله على ما ذكرنا.
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما ، وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السموات والملائكة ، أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء ، وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات ، أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات ، ثمإنه تعالى أسكنهم فيها ، وأيضاً ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها ، وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر ، بل هي أعلى من مصاعد أفهمامهم ومرامي أوهامهم ، ثم قال : {وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ} وهي النيرات التي خلقها في السموات ، وخص كل واحد بضوء معين ، وسر معين ، وطبيعة معينة ، لايعرفها إلا الله ، ثم قال : {وَحِفْظًا } يعني وحفظناها حفظا ، يعني من الشياطين الذين يسرتقون السمع ، فأعد لكل شيطان نجماً يرميه به ولا يخطئه ، فمنها ما يحرق ، ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلاً ، وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلّم عن خلق السموات والأرض فقال : "خلق الله تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين/ وخلق الجبال والشجر في يومين وخلق في يوم الخميس السماء ، وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، ثم خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة ـ ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد ؟
قال ـ ثم استوى على العرش ـ قالوا : ثم استراح ـ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم" فنزل قوله تعلاى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38).
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل ، قال : {ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} والعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والعليم إشارة إلى كمال العلم ، وما أحسن هذه الخاتمة ، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.
جزء : 27 رقم الصفحة : 557
559
اعلم أن الكلام إنما ابتدىء من قوله {أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ} (فصلت : 6) واحتج عليه بقوله {قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} (فصلت : 9) وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به ، وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية ؟
ولما تمم تلك الحجة قال : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه ، فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذٍ علاج في حقهم إلا إنزال لعذاب عليهم فلهذا السبب قال : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} بمعنى أن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها وأصروا على الجهل والتقليد {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ} والإنذار هو : التخويف ، قال المبرد والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان ، وقرىء {صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} قال صاحب"الكشاف" وهي المرة من الصعق.
ثم قال : {إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} وفيه وجهان الأول : المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض ، كما جكى الله تعالى عن الشيطان قوله {ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (الأعراف : 17) يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة ، ويقول الرجل : استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه.
جزء : 27 رقم الصفحة : 559
السؤال الثاني : المعنى : أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم ، فإن قيل : الرسل الذين جاؤا من قبلهم ومن بعدهم ، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤهم ؟
قلنا : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤهم.
(1/3933)

ثم قال : {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } يعني أن الرسل الذي جاؤهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك ، قال صاحب "الكشاف" أنفي قوله {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله.
ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا {لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لانزَلَ ملائكة } يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل ، وقالوا الدليل على كونهم كاذبي أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زرمة الملائكة/ لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة ، ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا {فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ} معناه : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة ، فأنتم لستم برسل ، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم ، وهو المراد من قوله {فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ} .
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام ، وقوله {أُرْسِلْتُم بِه } ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأبياء رسلاً ، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء ، كما قال فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء : 27). روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والسحر والكهانة فكلمه ، ثم أتانا بيان عن أمره ، فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟
أنت خير أم عبد المطلب ؟
أنت خير أم عبد الله ؟
لم تشتم ألهتنا وتضللنا ؟
فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا ، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن ، أي بنات من شئت من قريش ، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به ، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ساكت ، فلما فزع قال : بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم} إلى قوله إلى قوله {صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فلم احتبس عنهم قالوا ، لا نرى عتبة إلا قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت : فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدتهبالرحم ، ولقد علمت أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 559
واعلم أنه تعالى لما بيّن كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بيّن خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال : {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وهذا لاستكبار فيه وجهان الأول : إظهارالنخوة والكبر ، وعدم الالتفات إلى الغير والثاني : الاستعلاء على الغير واستخدامهم ، ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالو {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة ، ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم ، فقال : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم ، فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ، فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل ، فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى ، خاضعين لأوامره ونواهيه.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة صلى الله عليه وسلّم ، فقالوا القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله {اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذريات : 58) فإن قيل صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة ، لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها ، والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي ، فما معنى قوله إن الله أشد منهم قوة ؟
قلنا هذا ورد على قانون قولنا الله أكبر.
ثم قال : {وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ} والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة.
واعلم أن نظم الكلام أن يقال : أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون ، وقوله {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } واعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار.
جزء : 27 رقم الصفحة : 559
(1/3934)

واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق ، فقوله {فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله {وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ} مضاد للتعظيم للخالق ، وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى ، فلهذا المعنى سلّط الله العذاب عليهم فقال : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} وفي الصرصر قولان أحدهما : أنها العاصفة التي تصرصر أن تصوت في هبوبها ، وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم وقيل هو من صرير الباب ، وقيل من الصرة والصيحة ، ومنه قوله تعالى : {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُه فِى صَرَّةٍ} (الذاريات : 29) والقول الثاني : أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها ، وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى : {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} (آل عمران : 117) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الرياح ثمان أربع منها عذاب العاصف والصرصر والعقيم والسموم ، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات" وعن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي ، والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته.
وأما قوله {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {نَّحِسَاتٍ} بسكون الحاء والباقون بكسر الحاء ، قال صاحب "الكشاف" يقال نحس نحساً نقيض سعد سعداً فهو نحس ، وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو نصف بمصدر.
المسألة الثانية : استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه ا لآية على أن بعض الأيام قد يكون نحساً وبعضها قد يكون سعداً ، وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى ، أجاب المتكلمون بأن قالوا {أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف ، وأيضاً قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها ، أجاب المستدل ا لأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشؤمات لأن السعد يقابله السعد ، والكدر يقابله الصافي ، وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات ، فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايراً لذلك العذاب الذي وقع فيها.
جزء : 27 رقم الصفحة : 559
ثم قال تعالى : {عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} أي عذاب الهوا ن والذل ، والسبب فيه أنهم استكبروا ، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم.
ثم قال تعالى {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى } أي أشد إهانة وخزياً {وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم.
ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال : {وَأَمَّا ثَمُودُ} قال صاحب "الكشاف" قرىء {ثَمُودُ} بالرفع والنصب منوناً وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرىء بضم الثاء وقوله {فَهَدَيْنَـاهُمْ} أي دللناهم على طريق الخير والشر {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
واعلم أن صاحب "الكشاف" ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية ، وهذه الآية تبطل قوله ، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإقضاء إلى البغية لم يحصل ، فثبت أن قيد مفضياً إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى.
(1/3935)

وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جواباً شافياً فتركناه ، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل ، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ} يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد ، وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل ، على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد ، وبيانه من وجهين : الأول : أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى ، لأنهم أحبوا تحصيله ، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده ، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل ، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب ، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب الثاني : أنه تعالى قال : {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلاً ، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلماً لا يرغب فيه ، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقاً بجهل آخر ، فإن كان ذلك الجهل الثاني باختياره أيضاً لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب ، ولما وصف الله كفرهم قال : {فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} و{صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ} أي داهية العذاب و{الْهُونِ} الهوان ، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يريد من شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة ، وشرع صاحب "الكشاف" ههنا في سفاهة عظيمة. والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى صعياً حسناً فيما يتعلق بالألفاظ ، إلا أن المسكين كان بعيداً من المعاني.
جزء : 27 رقم الصفحة : 559
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال : {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود ، فإن قيل : كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلّم أن ينذر قومه مثل صا عقة عاد وثمود ، مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقد صرّح الله تعالى بذلك في قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال : 33) وجاء في الأحاديث الصحيحة أن اللهلله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك ، وإن كان أقل درجة مهم وهذا القدر يكفي في التخويف.
جزء : 27 رقم الصفحة : 559
562
واعلم أنه تعالى لما بيّن كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة ، ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير ، وقرأ نافع {نَحْشُرُ} بالنون {أَعْدَآءِ} بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه ، والتقدير يحشر الله عزّ وجلّ أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله {وَنَجَّيْنَا} (فصلت : 18) فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ، ويقويه قوله {وَيَوْمَ نَحْشُرُ} (مريم : 85) {وَحَشَرْنَـاهُمْ} (الكهف : 47) وأما الباقون فقرؤا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله {وَيَوْمَ يُحْشَرُ} ابتداء كلام آخر ، وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله {احْشُرُوا } (اللصفات : 22) وهم الملائكة ، وأيضاً أن هذه القراءة موافقة لقوله {فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت : 19) وأيضاً فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال : {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء الله يحشرون إلى النار قال : {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على آخرهم ، أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم ، والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 562
ثم قال : {حَتَّى ا إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاؤنا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وعلى هذا التقدير فكلمة {مَّا} صلة ، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله} أثم إذا ما وقع آمنتم به} (يونس : 51) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.
(1/3936)

المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني ، فيقول الله تعالى فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه با لأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله أثم إذا ما وقع آمنتم به} (يونس : 51) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.
المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني ، فيقول الله تعالى فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه با لأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله (يونس : 51) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.
جزء : 27 رقم الصفحة : 562
المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني/ فيقول الله تعالى فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه با لأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم} واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال أحدها : أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة والثالث : أن يظهر تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان ، وتلك الأمارات تسمى شهادات ، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه ، واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما القول الأول : فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لساناً يمتنع أن يكون محلاً للعلم والعقل ، فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لساناً وجلداً ، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجولد ، فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة ، وأما القول الثاني : وهو أن يقالل إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء ، وهذا أيضاً باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام ، لا ما كان موصوفاً بالكلام ، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة ، فههنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ، ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء ، وظاهر القراآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال : {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم} وأيضاً أنهم قالوا لتلك الأعضاء {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } فقالت الأعضاء {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ} وكل هذه الآيا ت دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء ، وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى ، فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين ، وأما القول الثالث : وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه ، فهذا منتهى الكلام في هذا البحث ، أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم ، لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة ولا للعلم ولا للقدرة ، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطاً للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 562
(1/3937)

المسألة الثالثة : ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة ، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم ، لأن الذوق دالخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام ، فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان ، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة ا لفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال : {وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (البقرة : 235) وأراد النكاح وقال : {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآاـاِطِ} (النساء : 43) والمراد قضاء الحاجة وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه" وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في الإتيان بالزنا ، لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ.
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء ؟
ثم قال تعالى : {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة ، إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ، ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار. عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عللى ثقفيان وقرشي فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما تقولون ؟
فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 562
ثم قال تعالى : {وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ} وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين ، قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد ، أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل ، قال صلى الله عليه وسلّم حكاية عن الله عزّ وجلّ : "أنا عند ظن عبدي بي" وقال صلى الله عليه وسلّم : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" ، والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال ، وقال قتادة : الظن نوعان ظن منج وظن مرد ، فالمنح قوله {إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ} (الحاقة : 20) وقوله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) ، وأما الظن المردي فهو قوله {وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ} قال صاحب "الكشاف" {تَعْمَلُونَ * وَذَالِكُمْ} رفع بالابتداء و{بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ} خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلاً من ذلكم وأرداكم الخبر.
ثم قال : {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } يعني إن أمسكوا عن الاستغالثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاماً لهم {وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} أي لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ، ونظيره قوله تعالى : {أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم : 21) وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من الممعتبين أي أن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك.
جزء : 27 رقم الصفحة : 562
565
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر فقال : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الصحاح" : يقال قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما يقال بيعان ، وقيض الله فلاناً أي جاءه به وأتى به له ، ومنه قوله تعالى : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} .
(1/3938)

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر ، فقالوا إنه تعالى ذكر أنه قيض لهم أولئك القرناء ، وكان عالماً بأنه متى قيض لهم أولئك القرناء فإن يزينوا الباطل لهم ، وكل من فعل فعلاً وعلم أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر لا محالة ، فإن فاعل ذلك الفعل لا بد وأن يكون مريداً لذلك الأثر فثبت أنه تعالى لما قيض لهم قرناء فقد أراد منهم ذلك الكفر ، أجاب الجبائي عنه بأن قال لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين إذ الفاعل لما أراده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له ، وبأن قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) يدل على أنه لم يرد منهم إلا العبادة ، فثبت بهذا أنه تعالى لم يرد منهم المعاصي ، وأما هذه الآية فنقول : إنه تعالى لم يقل وقيضنا لهم قرناء ليزينوا لهم ، وإنما قال : {فَزَيَّنُوا لَهُم} فهو تعالى قيض القرناء لهم بمعنى أنه تعالى أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه ، فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بيّن تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض.
جزء : 27 رقم الصفحة : 565
واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه ، وهو أن من فعل فعلاً وعلم قطعاً أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر ، فاعل ذلك الفعل يكون مريداً لذلك الأثر ، فههنا الله تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال ، وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك ، وقلوه ولو أراد الله منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين لله ، قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل ، وأيضاً فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه ، وأن أردت غيره فلا بد ، من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا.
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله {فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وذكر الزجاج فيه وجهين : الأول : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنّة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا ، فزينوا أن الدنيا قديمة ، وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك الثاني : زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونه/ وعبّر ابن زيد عنه ، فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة.
ثم قال تعالى : {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم ، والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة {أُمَمٍ} من المتقدمين {إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ} واحتج أصحابنا أيضاً بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا القول الحق باطلاً وهذا العلم جهلاً ، وهذا الخبر الصدق كذباً ، وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال ، فثبت أن صدور الإيمان عنهم ، وعدم صدور الكفر عنهم محال.
واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدىء من قوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ} (فصلت : 5) فأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة ، واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع ، ثم إنه حكى عنهم شبهة أخرى فقال : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ، قال صاحب "الكشاف" قرىء {وَالْغَوْا فِيهِ} بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغي ويلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته.
جزء : 27 رقم الصفحة : 565
(1/3939)

واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كالم في المعنى ، وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه ، وأْاط عقله بمعانيه ، وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول ، فدبروا تدببيراً في منع الناس عن استماعه ، فقال بعضهم لبعض {لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ} إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة ، حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته ، كا نت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً ، والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغواً وباطلاً ، لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس ، فبهذا الطريق تغلبون محمداً صلى الله عليه وسلّم ، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلون بالغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ، ولما ذكر الله تعالى ذلك هددهم بالعذاب الشديد فقال : {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة ، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد ، فإذا كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه ، ثم قال : {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} واختلفوا فيه فقال الأكثرون المراد جزاء سوء أعمالهم ، وقال الحسن بل المراد أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم ، لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت تلك الأعمال الحسنة عنهم ، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة الباطلة ، فلا جرم لم يتحصلوا إلا على جزاء السيئات.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ } والمعنى أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار.
ثم قال تعالى : {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ } أي لهم في جملة النار دار السيئات معينة وهي دار العذاب المخلد لهم {جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُا لَهُمْ} أي جزاء بما كانوا يلغون في القراءة ، وإنما مساه جحوداً لأنهم لما علموا أن القررن بالغ إلى حد الإهجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة/ وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوا للحسد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 565
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين أن الكفار عند الوقوع في العذاب الشديد يقولون {رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ} والسبب في ذكر هذين القسمين أن الشيطان على ضربين جني وإنسي ، قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} (الانعام : 112) وقال : {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس : 5) وقيل هما إبليس وقابيل لأن الكفر سنة إبليس ، والقتل بغير حق سنة قابيل.
وقرىء {أَرِنَا} بسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ ، وقيل معناه أعطنا الذين أضلانا وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر ، فالمعنى بصرنيه وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك.
ثم قال تعالى : {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} قال مقاتل يكونان أسفل منا في النار {لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ} قال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل من النار ، وكان بعض تلامذتي ممن يميل إلى الحكمة يقول المراد باللذين يضلان الشهوة والغضب ، وإليهما الإشارة في قصة الملائكة بقوله {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30) ثم قال والمراد بقوله {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} يعني يا ربنا أعنا حتى نجعل الشهوة والغضب تحت أقدام جوهر النفس القدسية ، والمراد بكونهما تحت أقدمه كونهما مسخرين للنفس القدسية مطيعين لها ، وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها.
جزء : 27 رقم الصفحة : 565
567
(1/3940)

أعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف ، وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه ، وقد ذكرنا مراراً أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية ، وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح ، فإن أهل التحقيق قالوا كما الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراض والتفريط ، كما قال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) وقال أيضاً : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله {ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } وسمعت أن القارىء قرأ في مجلس العبادي هذه الآية ، فقال العبادي : والقيامة في القيامة ، بقدر الاستقامة ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة ، فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقروناً باليقين التام والمعرفة الحقيقية ، إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان أحدهما : أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة الثاني : أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره ، قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقعفي أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير ألبتة عن دينه ، فكان هو الذي قال : {رَبُّنَا اللَّهُ} وبقي مستقيماً عليه لم يتغير بسبب من الأسباب ، وأقول يمكن فيه وجوه أخرى ، وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلهاً بقيت له مقامات أخرى فأولها : أن لا يتوغل في جانب الاثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه ، بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل ، وأيضاً يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر ، وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المتسقيم ، فهذا هو المراد من قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة ، فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} متناولاً للقول والاعتقاد ويكون قوله {ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } متناولاً للأعمال الصالحة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 567
ثم قال : {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ} قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة {أَلا تَخَافُوا } أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير لشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع/ ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جبل المصحلة ، والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي ، وههنا دقيقة عقلية وهي أن المتسقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي ، فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلاً ، فإذا وجد يصير حاضراً ، فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضياً ، وأيضاً المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولاً والماضي في كل حالة أبعد حصولاً ، ولهذا قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد
(1/3941)

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية ، وأيضاً الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل ، والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجوداً في الماضي ، وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم ، إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة ، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا ، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى : {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع ، فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كانالإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة ، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة ، فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة ، قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقياً كان له الجنة ، أما من لم يسمع ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد ، بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق.
جزء : 27 رقم الصفحة : 567
ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} (فصلت : 25) ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن الملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية ، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية ، والمقامات الحقيقية ، كما أن للشياطين تأثيرات في الأوراح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها. وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطبية الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات ، فهم يقولون : كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدينا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال ، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى ، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة ، وهي كالشعلة بالنسبة إلى المشي ، والقطرة بالنسبة إلى البحر ، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة ، كما قال صلى الله عليه وسلّم : "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية ، فقد زال الغطاء والوطاء ، فيتصل الأثر بالمؤثر ، والقطرة بالبحر ، والشعلة بالشمس ، فهذا هو المراد من قوله {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } ثم قال : {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} قال ابن عباس : {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي ما تتمنون ، كقوله تعالى : {لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (يس : 57) فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} وبين قوله {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} قلنا : الأقرب عندي أن قوله {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} إشارة إلى الجنة الجسمانية ، وقوله {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌا وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (يونس : 10).
جزء : 27 رقم الصفحة : 567
ثم قال : {نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} والنزل : رزق النزيل وهو الضيف ، وانتصابه على الحال ، قال العارفون : دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل ، والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفسية بعدها ، وتلك الخلع النفسية ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلاً بفضله وكرمه ، إنه قريب مجيب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 567
568
اعلم أن في الآية مسائل :
(1/3942)

المسألة الأولى : أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدىء حيث قالوا للرسول {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} (فصلت : 5) ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك ، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة ، فقالوا {لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ} (فصلت : 26) وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية ، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات ، ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة ، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة ، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات ، وعبّر عن هذا المعنى فقال : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة. وفيه وجه آخر وهو أن مراتب السعادات اثنان : التام ، وفوق التام ، أما التام : فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته ، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام ، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } (فصلت : 30) إشارة إلى المرتبة الأولى ، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها ، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين ، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق ، وهو المراد من قوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} فهذا أيضاً وجه حسن في نظم هذه الآيات.
جزء : 27 رقم الصفحة : 568
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصاباً وافياً من العلوم الإلهية الكشفية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن.
المسألة الثانية : من الناس من قال المراد من قوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} هو الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ومنهم من قال هم المؤذنون ، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه ، والدعوة إلى الله مراتب :
فالمرتبة الأولى : دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها : أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولاً ، ثم الدعوة بالسيف ثانياً ، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها : أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة ، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء ، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها : أن نفوسهم أققوى قوة ، وأرواحهم أصفى جورهاً ، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل ، فكانت دعوتهم أفضل ورابعها : أن النفوس على ثلاثة أقسام : ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول : العوام والقسم الثاني : هم الأولياء والقسم الثالث : هم الأنبياء/ ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلّم : "علماء أمتي كأنبياء إسرائيل" وإذا عرفت هذا فنقول : إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان : الكمال في الذات ، والتكميل للغير ، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى ، وكانت ادرجاتهم أفضل وأكمل ، إذا عرفت هذا فنقول : الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان : العلم والقدرة ، أما العلماء ، فهم نواب الأنبياء في العلم ، وأما الملوك ، فهم نواب الأنبياء في القدرة ، والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح ، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد ، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأوراح ، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد. وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء ، ثم العلماء على ثلاثة أقسام : العلماء بالله ، والعلماء بصفات الله ، والعلماء بأحكام الله. أما العلماء بالله ، فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 229) وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول ، وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء ، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا ينهاية لها ، فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجت لا نهاية لها ، وأما الملوك فهم أيضاً يدعون إلى دين الله بالسيف ، وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار ، وإما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل ، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولاً ضعيفاً ، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة ، فكان ذلك داخلاً تحت الدعاء إلى الله ، وأما كون هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطاً بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة ، فهذا هو الكلام ، في مراتب الدعوة إلى الله.
(1/3943)

جزء : 27 رقم الصفحة : 568
المسألة الثالثة : قوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سوها ، إذا عرفت هذا فنقول : كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية ، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة ، ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج لأذان واجب ، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب ، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية ، والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال ، وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال ، لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان ، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان.
المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله ، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولاً ممن قال إني من المسلمين ، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال ، ولو كان قولنا إن شاء الله معتبراً في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية.
المسألة الخامسة : الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها : الدعوة إلى الله وثانيها : العمل الصالح وثالثها : أن يكون من المسلمين ، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية.
وأما قوله {وَعَمِلَ صَـالِحًا} فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة ، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات.
وأما قوله {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان/ فيكون هذا الرجل موصوفاً بخصال أربعة أحدها : الإقرار باللسان ، والثاني : الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث : الاعتقاد الحق بالقلب والرابع : الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم ، وكمال الدرجة في هذه المراتبالأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 568
ثم قال تعالى : {وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} (فصلت : 5) فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردافها بالوعد والوعيد ، ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم {لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ} (فصلت : 26) وأجاب عنها أيضاً بالوجوه الكثيرة ، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمداً صلى الله عليه وسلّم في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولاً بأن قال : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ} فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات ، فصار الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب ، ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة ، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به ، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال : {الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى الدين الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام ، وترك الالتفات إليهم ، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} وما ذكروه في قولهم {لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ} فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضد من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة.
ثم قال : {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق ، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 568
(1/3944)

ثم قال : {فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ} يعني إذا قابلت إسائتهم بالإحسان ، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ، ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال : {وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ} قال الزجاج : أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام.
ثم قال : {وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ} من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية ، فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس ، وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية/ وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام ، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات ، ويحتمل أن يكون المراد : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة ، فعلى هذا الوجه قوله {وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } مدح بفعل الصبر ، وقوله {وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ} وعد بأعظم الحظ من الثواب.
ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام ، وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقاً آخر عظيم النفع أيضاً في هذا الباب ، فقال : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء ، قال صاحب "الكشاف" النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان ، كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغاً ، كما قيل : جد جده أو أُريد {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ} نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر ، وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن ، فاستعذ بالله من شره ، وامض على شأنك ولا تطعه ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 568
570
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوا هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته ، تنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته ، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات ، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن ، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض ، فبدأ ههنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدم ، والنور وجود ، والعدم سابق على الوجود ، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء ، وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع ، فقد شرحناها في هذا الكتاب مراراً ، لا سيما في تفسير قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الفاتحة : 2) وفي تفسير قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 1).
جزء : 27 رقم الصفحة : 570
(1/3945)

ولما بيّن أن الشمس والقمر محدثان ، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال : {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله ، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات ، فقال : {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} لأنهما عبدان مخلوقان {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} الخالق القادر الحكيم ، والضمير في قوله {خَلَقَهُنَّ} لليل والنهار والقمر ، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث ، يقال للأقلام بريتها وبريتهن ، ولما قال : {مِّنْ ءَايَـاتِه } كن في معنى الإناث فقال : {خَلَقَهُنَّ} وإنما قال : {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} لأن ناساً كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء ، فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة ، فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى ، قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة ، فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات ، فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله ، فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود ، بخلاف الحجر المعني فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية ، فكان المقصود من القبلة حاصلاً والمحذور المذكور زائلاً فكان هذا أولى ، واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله {تَعْبُدُونَ} لأجل أن قوله {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} متصل به ، وعند أبي حنيفة هو قوله {وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَ } لأن الكلام إنما يتم عنده.
ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَه بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَ } وفيه سؤالات :
السؤال الأول : إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقل وأذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى ، ولكنا عبيد للشمس وهما عبدان لله ، وإذا كان قول هؤلاء هكذا ، فكيف يليق أن يقال إنهم استكبروا عن السجود لله ؟
والجواب : ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم ، بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر.
جزء : 27 رقم الصفحة : 570
السؤال الثاني : أن المشبهة تمسكوا بقوله {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} في إثبات المكان والجهة لله تعالى والجواب : أنه يقال عند الملك من الجند كذا وكذا ، ولا يراد به قرب المكان. فكذا ههنا. ويدل عليه قوله "أنا عند ظن عبدي بي وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر" ويقال عند الشافعي رضي الله عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي.
السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر ؟
الجواب : نعم ، لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون ، فيقال هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه ويعترفون بتقدمه ، فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون.
السؤال الرابع : قال ههنا في صفة الملائكة {يُسَبِّحُونَ لَه بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَ } فهذا يدل على أنهم مواظبون على التسبيح ، لا ينفكون عنه لحظة واحدة ، واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) وقال : {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} (الحجر : 51) وقوله تعالى : {عَلَيْهَا مَلَـا اـاِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (التحريم : 6) الجواب : إن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة وهم الأشراف الأكابر منهم ، لأنه تعالى وصفهنم بكونهم عنده ، والمراد من هذه العندية كمال الشرف والمنقبة ، وهذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال ، فإن قالوا هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لا بد وأن يتنفسوا ، فاشتغلهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر فذكر الله تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم ، ولا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها وإشراق ذواتها واستغراقها في معارج معارف الله بأحوال البشر ، فإن بين الحالتين بعد المشرقين.
ثم قال تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 570
(1/3946)

واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر ، أتبعها بذكر آية أرضية فقال : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً} والخشوع التذلل والتصاغر ، واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي تحركت بالنبات ، وربت : انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ، ثم تصدعت عن النبات ، ثم قال : {إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا} يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها ، وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مراراً لا حصر لها ، ثم قال : {إِنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته ، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الاْجزاء بعد اجتماعها أيضاً أمر ممكن لذاته ، والله تعالى قادر على الممكنات ، فوجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء/ وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه ألبتة ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 570
575
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب ، ثم بيّن أن الدعوة إلى دين الله تعالى ، إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة ، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ، ويحاول إلقاء الشبهات فيها ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا} يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق ، فالملحد هو المنحرف ، ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل ، وقوله {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } تهديد كما إذا قال الملك المهيب : إن الذين ينازعونن في ملكي أعرفهم ، فإنه يكون ذلك تهديداً ، ثم قال : {أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهذا استفهام بمعنى التقرير ، والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار ، والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة. ثم قال : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهذا أيضاً تهديد ثالث ، ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإه هذا مما يدل على الوعيد الشديد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 575
ثم قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ } وهذا أيضاً تهديد ، وفي جوابه وجهان : أحدهما : أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني : أن جوابه قوله {أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} والأول أصوب ، ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن ، فقال : {وَإِنَّه لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ} والعزيز له معنيان أحدهما : الغالب القاهر والثاني : الذي لا يوجد نظيره ، أما كون القرآن عزيزاً بمعنى كونه غالباً ، فالأمر كذلك لأنه بقورة حجته غلب على كل ما سواه ، وأما كونه غزيزاً بمعنى عديم النظير ، فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته ، ثم قال : {لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه } وفيه وجوه : الأول : لا تكذبه الكتب المتقدملاة كالتوراة والإنجيل والزبور ، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني : ما حكم القرآن بكونه حقاً لا يصير باطلاً ، وما حكم بكونه باطلاً لا يصير حقاً الثالث : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. والدليل عليه قوله {وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (الحجر : 9) فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع : يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب ينكن جعله معارضاً وله ولم يوجد فيما تقدم كتاب يصلح جعله معارضاً له الخامس : قال صاحب "الكشاف" هذا تمثيل ، والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه ، ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات حتى يتصل إليه.
واعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وإنه على خلاف هذه الآية.
ثم قال تعالى : {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي حكيم في جميع أحواله وأفعاله ، حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه ، ولهذا السبب جعل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الفاتحة : 2) فاتحة كلامه ، وأخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة ، وهو قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الزمر : 75).
(1/3947)

جزء : 27 رقم الصفحة : 575
575
واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات الله ، ثم بيّن شرف آيات الله ، وعلو درجة كتاب الله رجع إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن يصبر على أذى قومه وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من أنهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ} (فصلت : 5) فقال : {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } وفيه وجهان : الأول : وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب الممزّلة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} للمحقين {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى الثاني : أن يكون المراد ما قال الله لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته ، وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة ، هو ذكر الأجوبة عن قولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَـامِلُونَ} فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة ، وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه ، وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل ، ثم إنه تعالى ذكر جواباً آخر عن قولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} فقال : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُه ا ءَا عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } وفيه مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 575
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : أأعجمي بهمزتين على الاستفهام ، والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله ، كقوله {ءَأَنذَرْتَهُمْ} (البقرة : 6) ونحوها على الاستفهام ، وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة ، وأما القراءة بهمزتين : فالهمزة الأولى همزة إنكار ، والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وأما القراءة بغير همزة الاستفهام ، فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي.
المسألة الثانية : نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت ، قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية ، وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن ، لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض ، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتاباً منتظماً/ فضلاً عن ادعاء كونه معجزاً ؟
بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد ، على ما حكى الله تعلاى عنهم من قولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} وهذا الكلام أيضاً متعلق به ، وجواب له ، والتقدير : أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ، ويصح لهم أن يقولوا {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} أي من هذا الكلام {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى } منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه ، أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب ، وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة ، فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها ، وفي آذانكم وقر منها ، فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام ، بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم ، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جداً.
ثم قال تعالى : {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَآءٌا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 575
(1/3948)

واعلم أن هذا متعلق بقولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} إلى آخر الآية ، كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم ، فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة ، فبقي أن يقال إن كل من آتاه الله طبعاً مائلاً إلى الحق ، وقلباً مائلاً إلى الصدق ، وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين ، فإن هذا القرآن يكون في حقه هدىً شفاء. أما كونه هدىً فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات ، وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى ، فذلمك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل ، وأما من كان غارقاً في بحر الخذلان ، وتائهاً في مفاوز الحرمان ، ومشغوفاً بمتابعة الشيطان ، كان هذا القرآن في آذانه وقراً ، كما قال : {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى } (فصلت : 5) وكان القرآن عليهم عمى كما قال : {وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت : 5) ، {أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن ، وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً نحو غرض واحد ، فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه ، وقرأ الجمهور {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } على المصدر ، وقرأ ابن عباس عم على النعت ، قال أبو عبيد والأول هو الوجه ، كقوله {هُدًى وَشِفَآءٌ } وكذلك {عَمًى } وهو مصدر مثلها ، ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في {عَمًى } أجود فيكون نعتاً مثلهما ، وقوله تعالى : {أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} قال ابن عباس : يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء ، وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع ، وإن سمع لم يفهم ، فكذا حال هؤلاء.
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيه } وأقول أيضاً إن هذا متعلق بما قبله ، كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه ، فقبله بعضهم ورده الآخرون ، فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك ، ورده الآخرون ، وهم الذين يقولون {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 575
ثم قال تعالى : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة ، كما قال : {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} (القمر : 46) {لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب/ فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} .
ثم قال : {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } يعني خفف على نفسك إعراضهم ، فإنهم إن آمنا فنفع إيمانهم يعود عليهم ، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم ، والله سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 575
579
واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في هذه الآية المتقدمة بقوله {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } (فصلت : 46) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة ، وكأن سائلاً قال ومتى يكون ذلك اليوم ؟
فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال : {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله ، وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى ، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما : قوله {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} والثاني : قوله {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه } قال أبو عبيدة أكمامه أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة ، قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم من ثمرات بالألف على الجمع والباقون من ثمرة بغير ألف على الواحد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
(1/3949)

واعلم أن نظير هذه الآية قوله {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (القمان : 34) إلى آخر لآية ، فإن قيل أليس أن المنجمين قد يتعرفون من طالع سنة العالم أحوالاً كثيرة من أحوال العالم ، وكذلك قد يتعرفون من طوالع الناس أشياء من أحوالهم ، وههنا شيء آخر يسمى علم الرمل وهو كثير الإصابة وأيضاً علم التعبير بالاتفاق قد يدل على أحوال المغيبات ، فكيف الجمع بين هذه العلوم المشاهدة وبين هذه الآية ؟
قلنا إن أصحاب هذه العلوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما الغاية القصوى ادعاء ظن ضعيف والمذكور في هذه الآية أن علمها ليس إلا عند الله والعلم هو الجزم واليقين وبهذ لطريق زالت المنافاة والله أعلم ، ثم إنه تعالى لما ذكر القيامة أردفه بشيء من أحوال يوم القيامة ، وهذا ا لذي ذكره ههنا شديد التعلق أيضاً بما وقع الابتداء به في أول السورة ، وذلك لأن أول السورة يدل على أن شدة نفورهم عن استماع القرآن إنما حصلت من أجل أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى البراءة عن الأصنام والأوثان بدليل أنه قال في أول السورة {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (فصلت : 6) فذكر في خاتمة السورة وعيد القائلين بالشركاء ولأنداد فقال : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى} أي بحسب زعمكم واعتقادكم {قَالُوا } قال ابن عباس أسمعناك كقوله تعالى : {انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (الانشقاق : 2) بمعنى سمعت ، وقال الكلبي أعلمناك وهذا بعيد ، لأن أهل القيامة يعلمون الله ويعلمون أنه يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالأعلام في حقه محال.
ثم قال : {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} وفيه وجوه الأول : ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً ، فالمقصود أنهم في ذلك اليوم بترءون من إثبات الشريك لله تعالى الثاني : ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ الثالث : أن قوله {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} كلام الأصنام فإن الله يحييها ، ثم إنها تقولم ما منا من أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة ، وعلى هذا التقدير فمعنى أنها لا تنفعهم فكأنهم ضلوا عنهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
ثم قال : {وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} وهذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول إن الكفار ظهوا أولاً ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب ، ومنهم من قال إنهم ظنوا أولاً أنه لا محيص لهم عن النار ثم أيقنوا ذلك بعده ، وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم ، ولما بيّن الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرءوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متبدل الأحوال متغير المنهج ، فإن أحس بخير وقدرة انتفخ وتعظم وإن أحس ببلاء ومحنة ذبل ، كما قيل في المثل : إن هذا كالقرلى ، إن رأى خيراً تدلى ، وإن رأى شراً تولى ، فقال : {لا يَسْـاَمُ الانسَـانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} مبالغة من وجهين أحدهما : من طريق بناء فعول والثاني : من طريق التكرير واليأس من صفة القلب ، والقنوط أن يظهر آثار ليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.
ثم بيّن تعالى أن هذا الذي صار آيساً قانطاً لو عاودته النعمة والدولة ، وهو المراد من قوله {وَ لئن أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} فإن هذا الرجل يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة والمذاهب الباطلة الموجبة للكفر والبعد عن الله تعالى فأولها أنه لا بد وأن يقول هذا لي وفيه وجهان الأول : معناه أن هذا حقي وصل إلي ، لأني اسوجبته بما حصل عندي من أنواع الفضائل وأعمال البر والقربة من الله ولا يعلم المسكين أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً ، وذلك لأنه إن كان ذلك الشخص عارياً عن الفضائل ، فهذا الكلام ظاهر الفساد وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة ، فهي بأسرها إنما حصلت له بفضل الله وإحساتنه ، وإذ تفضل الله بشيء على بعض عبيده ، امتنع أن يصير تفضله عليه بتلك العطية سبباً لأن يستحق على الله شيئاً آخر ، فثبت بهذا فساد قوله إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي والوجه الثاني : أن هذا لي أي لا يزول عني ويبقى علي وعلى أولادي وذريتي.
والنوع الثاني : من كلماتهم الفاسدة أن يقول {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآاـاِمَةً} يعني أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة ، فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا نيقول إنها لي وإذا آل الاْمر إلى الآخرة يقول {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآاـاِمَةً} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
(1/3950)

والنوع الثالث : من كلماتهم الفاسدة أن يقول {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى } يعني أن الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل ، وبتقدير أن يكون حقاً فإن لي عنده للحسنى ، وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه الأول : أن كلمة إن تفيد التأكيد الثاني : أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث : قوله {عِندَه } يدل على أن تكل الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير ، فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده ، فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع : اللام في قوله {لَلْحُسْنَى } تفيد التأكيد الخامس : للحسنى يفيد الكمال في الحسنى.
ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال : {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا } أي نظهر لهم "أن الأمر على ضد ما اعتقدون وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23) {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في مقابلة قولهم {إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى } .
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد ووقعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال : {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ} عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا} أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم ، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الاتبهال والتضرع ، وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار به الطول أيضاً كما استعير الغلظ لشدة العذاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة ، ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم ، وبين أن الإنسان جبل على التبدل ، فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم ، وإن أحسّ بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبة كلاماً آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد ، وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ} وتقرير هذا الكلام أنكم كلم مسعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} (فصلت : 5) ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً علماً بديهياً ، وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهياً ، فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وأن كيون فاسداً بتقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب ، فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركو هذه الثغرة ، وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه ، وإن دل على فساده تركتموه ، فأما قبل الدليل فالإصار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل ، وقوله {مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقا بَعِيدٍ} موضوع موضع منكم بياناً بحالهم وصفاتهم ، ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة ، وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض ، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها ، وفي تفسير قوله {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} قولان الأول : أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيت الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة ، وقد أكثر الله منها في القرآن ، وقوله {وَفِى أَنفُسِهِمْ}
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
(1/3951)

المراد منها الدلائل المأخوذة منن كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة/ كما قال تعالى : {وَفِى أَنفُسِكُم أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات : 21) يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العلمي المنزّه عن المثل والضد ، فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ} يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك ، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه ، قلنا ءن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زماناً فزماناً ، ومثاله كل أحد رأى بعينه بينة الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفاً على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} والقول الثاني : أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجّحوه على القول الأول لأجل أن قوله {سَنُرِيهِمْ} يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله {سَنُرِيهِمْ} لائق بالوجه الأول كما قررناه ، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صلى الله عليه وسلّم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة ، ثم استولى على مكة ، إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً ، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم ، وذلك لا يدل على كونهم محقين ، ولهذا السبب قلنا ءن حمل الآية على الوجه الأول أولى ، ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه ، قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلّم على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة ، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلّم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء ، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقاً لخبره ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجزة ، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً.
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
ثم قال : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} وقوله {بِرَبِّكَ} في موضع الرفع على أنه فاعل {يَكْفِ} وأنه على كل شيء شهيد} بد منه ، وتقديره : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها ، وقد اسقصينا ذلك في تفسير قوله بد منه ، وتقديره : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، ومعنى كونه تعالى شهيداً على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها ، وقد اسقصينا ذلك في تفسير قوله {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةًا قُلِ اللَّه } (الأنعام : 19) والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة.
ثم ختم السورة بقوله {أَلا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } أي إن القوم في كش عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة ، وقرىء {فِى مِرْيَةٍ} بالضم.
ثم قال : {أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ } أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم ، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن حيزاً فخير ، وإن شراً فشر فإن قيل قوله {أَلا إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ } يقتضي أن تكون علومه متناهية/ قلنا قوله {بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ } يقتضي أن يكون علمه محيطاً بكل شيء من الأشياء فهذا يقتضي كون كل واحد منها متناهياً ، لا كون مجموعها متناهياً ، والله أعلم بالصواب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 579
586
(1/3952)

سورة الشورى
خمسون وثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 27 رقم الصفحة : 586
590
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول : أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله {حم } فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد {عاساق } ؟
الثاني : أنهم اجمعوا على أنه لا يفصل بين {كاهيعاص } (مريم : 1( وههنا يفصل بين {حم } وبين {عاساق } فما السبب فيه ؟
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف ، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه ، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود {حم * عسق } .
أما قوله تعالى : {كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ} فالكاف معناه الثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره ، فيكون المعنى : مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان :
الأول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : "لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عشق" وهذا عندي بعيد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
الثاني : أن يكون المعنى : مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك ، وهذه المماثة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة ، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) أو أولها في تقرير التوحيد ، وأوسطها في تقرير النبوة ، وآخرها في تقرير المعاد ، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال : {إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (الأعلى : 18 ، 19) يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة ، فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء ، والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية ، قال صاحب "الكشاف" ولم يقل أوحي إليك ، ولكن قال : {يُوحِى إِلَيْكَ} على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته ، وقرأ ابن كثير {كَذَالِكَ يُوحِى } بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم {نُوحِى } بالنون ، وقرأ الباقون {يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} بكسر الحاء ، فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى ؟
قلنا ما دل عليه بوحي ، كأن قائلاً قال من الموحي ؟
فقيل الله ونظيره قراءة السلمي {وَكَذَالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} (الأنعام : 137) على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم ، فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ {نُوحِى } بالنون ؟
قلنا يرفع بالابتداء ، والعزيز وما بعده أخبار ، أو {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان والظرف خبره ، ولما ذلك أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات عنياً عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصواباً/ وكانت مبرأة عن العيب والعبث ، قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة :
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
الحمد لله دي الآلاء والنعم
والفضل والجود والإحسان والكرممنزّه الفعل عن عيب وعن عبث
مقدس الملك عن عزل وعن عدم والصفة الثالثة قوله {لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما : كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني : أنه لما بيّن بقوله {لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } أن كل ما في السموات وما في الأرض فهو ملكه وملكله ، وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السموات وفي الأرض ، وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه ، وإذا ثبت أنه ليس في شيء من لمسوات امتنع كونه أيضاً في العرش ، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السموات كان في الحقيقة سماء ، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له ، وفجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش ، وإن قالوا إنه تعالى قال : {لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ} وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول : ىن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَا هَا * وَالارْضِ وَمَا طَحَا هَا} (الشمس : 5 ، 6) وقال : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ، (الكافرون : 2 ، 3) والثاني : أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَن ِ عَبْدًا} (مريم : 93) وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في المسوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السمواتوالأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في المسوات فوجب أن يكون عبد الله ، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السموات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي.
(1/3953)

والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} ولا يجوز أن يكون المراد بكونه علياً العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده ، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم ، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض ، وذلك ضد قوله {اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات ، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلهية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
ثم قال : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر {تَكَادُ} بالتاء {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والنون ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة {تَكَادُ} بالتاء {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والتاء ، وقرأ نافع والكسائي : {يَكَادُ} بالياء {يَتَفَطَّرْنَ} أيضاً بالتاء ، قال صاحب "الكشاف" : وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة بالتاءين مع النون ، ونظيرها حرف نادر ، روي في نوادر ابن الإعرابي : الإبل تتشمسن.
المسألة الثانية : في فائدة قوله {يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } وجوه الأول : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها.
واعلم أن هذا القول سخيف ، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه ، ويدل على فساده وجوه : الأول : أن قوله {مِن فَوْقِهِنَّ } لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها : هب أنه يحمل على ذلك ، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها ، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها ، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "أطلت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد" وثالثها : لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السموات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلهية والقهر والقدرة ؟
فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني : في تأويل الآية ما ذكره صاحب "الكشاف" : وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السموات ، وكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، ودع الجهة التي تحتهن ، ونظيره في المبالغة قوله تعالى ؛ {هَـاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِم فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِه مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (الحج : 19 ، 20) فجعلل مؤثراً في أجزائه الباطنة الوجه الثالث : في تأويل الآية أن يقال {مِن فَوْقِهِنَّ } أي من فوق الأرضين ، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } ثم قال : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي من فوق الأرضين والوجه الرابع : في التأويل أن يقال معنى {مِن فَوْقِهِنَّ } أي من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها ، وتلك الجهة هي فوق ، فقوله {مِن فَوْقِهِنَّ } أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها.
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
المسألة الثالثة : ا ختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت ؟
وفيه قولان الأول : أنه تعالى لما بيّن أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم ، بيّن وصف جلاله وكبريائه ، فقال : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي من هيبته وجلالته والقول الثاني : أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} (مريم : 90) ، وههنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله ، لقوله بعد هذه الآية {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ} والصحيح هو الأول ، ثم قال : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } .
(1/3954)

واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان : عالم الجسمانيات وأعظمها السموات ، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة ، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات ، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات ، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (النبأ : 1) لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات ، فقال : {رَّبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـانِا لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} (النبأ : 37) ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات ، فقا ل {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا} (النبأ : 38) فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات ، فقال : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات ، فقال : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فهذا ترتيب شريف وبيان باهر.
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يقبل الأثر ، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام ، ومتأثر لا يؤثر ، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام ، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول/ ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة ، وهو المرتبة المتوسطة ، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان : تعلق بعالم الجلال والكبرياء ، وهو تعلق القبول ، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها ، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية ، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات ، وإذا كان كذلك فلها وجهان : وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال ، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني. إذا عرفت هذا فنقول :
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
قوله تعالى : {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء ، وقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } إشا رة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام ، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق ، إذا عرفت هذا فنقول : أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة ، فقد اشتملت على أمرين : أحدهما : التسبيح ، وثانيهما : التحميد ، لأن قوله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يفيد هذين الأمرين ، والتسبيح مقدم على التحميد ، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي ، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضاً لكل الخيرات وكونه منزّهاً في ذاته عما لا ينبغي ، مقدم بالرتبة على كونه فياضاً للخيرات والسعادات ، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره ، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره ، فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد ، ولهذا قال : {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .
وأما الجهة الثانية : وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات ، فالإشارة إليها بقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها ، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة ، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير ، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار ، وقد قال تعالى : { أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة } فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم ؟
، قلنا الجواب : عنه من وجوه :
الأول : أن قوله {لِمَن فِى الارْضِ } لا يفيد العموم ، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ، ولو كان قوله {لِمَن فِى الارْضِ } صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني : هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حم المؤمن فقال : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} (غافر : 7) الثالث : يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا } إلى أن قال : {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر : 41) الرابع : يجوز أن يقال إنهم ستغفرون لكل من في الأرض ، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم ، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم ، فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر ، وهذا في الحقيقة استغفار.
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
(1/3955)

واعلم أن قوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض ، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض/ وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم.
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال : {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول : أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة ، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني : أن الملائكة قالوا في أول الأمر {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض ، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال : {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة.
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان ، إنما أنت منذر فحسب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 590
598
واعلم أن كلمة (ذلك) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء ههنا قد سبق ذكره ، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الشورى : 6) يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم ، فكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتكون نذيراً لهم وقوله تعالى : {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) وأم القرى أصل القرى وهيب مكة وسميت بهذا الاسم إجلالاً للها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم ، والعرب تسمي أصل كل شيء أمة حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان ، ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر ، والإنذار التخويف ، فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحي إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولاً إليهم فقط وأن لا يكون رسولاً إلى كل العالمين الجواب : أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه ، فهذه الآية تدل على كونه رسولاً إلى هؤلاء خاصة وقوله {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ : 28) يدل على كونه رسولاً إلى كل العالمين ، أيضاً لما ثبت كونه رسولاً إلى أهل مكة وجب كونه صادقاً ، ثم ءنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين ، والصادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه ، فثبت أنه رسول إلى كل العالمين.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
(1/3956)

ثم قال تعالى : {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} الأصل أن يقال أنذرت فلاناً بكذا فكان الواجب أن يقال لتننذر أم القرى بيوم الجمع وأيضاً فيه إضمار والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي تسميته بيوم الجمع وجوه الأول : أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } (التغابن : 9) فيجتمع فيه أهل السموات من أهل الأرض الثاني : أنه يجمع بين الأرواح والأجساد الثالث : يجمع بين كل عامل وعمله الرابع : يجمع بين الظالم والمظلوم وقوله {لا رَيْبَ فِيه } صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه ، وقوله {فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير/ فإن قيل قوله {يَوْمَ الْجَمْعِ} يقتضي كون القوم مجتمعين وقوله {فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} يقتضي كونهم متفرقين ، والجمع بين الصفتين محال ، قلنا إنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين.
ثم قال : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} والمراد تقرير قوله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الشورى : 6) أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان ، فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك ، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً ، فقوله {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه } يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة ، وقوله {وَالظَّـالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ} يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته ، وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته ، لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة ، وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته.
ثم قال تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ } والمعنى أنه تعالى حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ، ثم قال بعده لمحمد صلى الله عليه وسلّم لست علليهم رقيباً ولا حافظاً ، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان شاءوا أم أبوا ، فإن هذا المعنى لو كان واجباً لفعله الله ، لأنه أقدر منك ، ثم إنه أعاد بعده ذلك الكلام على سبيل الاستنكار ، فإن قوله {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ } استفهام على سبيل الإنكار.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
ثم قال تعالى : {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ} والفاء في قوله {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ} جواب شرط مقدر ، كأنه قال : إن أرادوا أولياء بحق الله هو الولي بالحق لا ولي سواه ، لأنه يحيى الموتى وهو على كل شيءً قدير ، فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء.
ثم قال : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُه ا إِلَى اللَّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً ، فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخصومات والمنازعات فقال : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُه ا إِلَى اللَّه } وهو إثابة المحقين فيه ومعاقبة المبطلين ، وقيل وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ولا تؤثر حكومة غيره على حكومته ، وقيل وما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا تصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى عمله كحقيقة الروح ، فقولوا الله أعلم به ، قال تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85).
المسألة الثانية : تقدير الآية كأنه قال : قل يا محمد {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُه ا إِلَى اللَّه } والدليل عليه قوله تعالى : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
المسألة الثالثة : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا قوله تعالى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُه ا إِلَى اللَّه } إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه ، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه ، والثاني باطل لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس بأنه باطل فيعتبر الأول ، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالنص وذلك ينفي العمل القياس ، ولقائل أن يقوم لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه يعرف من بيان الله تعالى ، سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس ؟
أجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف/ والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه ، فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نصوص الله تعالى.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
(1/3957)

ثم قال تعالى : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى} أي ذلكم الحاكم بينكم هو ربي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإليه أرجع في كل المهمات ، وقوله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} يفيد الحصر ، أي لا أتوكل إلا عليه ، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً.
ثم قال : {فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } قرىء بالرفع والجر ، فالرفع على أنه خبر ذلكم ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السموات والأرض وقوله {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبِّى} اعتراض وقع بين الصفة والموصوف ، {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم من الناس {أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا } أي خلق من الأنعام أزواجاً ، ومعناه وخلق أيضاً للأنعام من أنفسها أزواجاً {يَذْرَؤُكُمْ} أي يكثركم ، يقال : ذرأ الله الخلق ، أي كثرهم ، وقوله {فِيه } أي في هذا التدبير ، وهو اللتزويج وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، والضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين ، إلى أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين الأول : أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء الثاني : أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين ، فإن قيل ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ، ولم لم يقل يذرؤكم به ؟
قلنا جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير ، ألا ترى أنه يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} (البقرة : 179).
ثم قال تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وهذه الآية فيها مسائل :
المسألة الأولى : احتج علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء وحاصلاً في المكان والجهة ، وقالوا لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام ، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له ، وذلك باطل بصريح قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر ، فيقال إما أن يكون المراد {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } في ماهيات الذات ، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء ، والثاني باطل ، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين ، كما أن الله تعالى يوسف بذلك ، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين ، مع أن الله تعالى يوصف بذلك ، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات ، فيكون المعنى أن شيئاً من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية ، فول كان الله تعالى جسماً ، لكان كونه جسماً ذاتاً لا صفة ، فإذا كان ساشر الأجسام مساوية له في الجسمية ، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة ، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتاً ، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسماً.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه "بالتوحيد" ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأن كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل ، فقال : "نحن نثبت لله وجهاً ونقول : إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ، ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء ، ونفى عنها الجلال والإكرام ، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً/ لكان قد شبّه وحوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب. ثم قال : ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له : وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء ، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه".
(1/3958)

وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب "أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة ، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً فكذا ههنا" ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء فالأول : أنه تعالى قال في هذه الآية {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال في حق الإنسان {فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} (الإنسان : 2) ، الثاني : قال : {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه } (التوبة : 105) وقال في حق المخلوقين {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ} (النحل : 79) الثالث : قال : {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (هود : 37) {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ} (الطور : 48) وقال في حق المخلوقين {الرَّسُولِ تَرَى ا أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} (المائدة : 83) الرابع : قال لإبليس {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } (ص : 75) وقال : {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة : 64) وقال : في حق المخلوقين {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
آل عمران : 182) ، {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} ، (الحج : 10) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ، (الفتح : 10) الخامس : قال تعالى : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) وقال في الذين يركبون الدواب {لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه } (الزخرف : 13) وقال في سفينة نوح {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ } (هود : 44) ، السادس : سمى نفسه عزيزاً فقال : {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} (الحشر : 23) ، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله {قَالُوا يَـا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَه ا أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} (يوسف : 78) ، {قَالُوا يَـا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} (يوسف : 88) ، السابع : سمى نفسه بالملك وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِه } (يوسف : 50) وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال : {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة : 129) وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال : {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر : 35) ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس ، وقال ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها ، فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية ، فنقول المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته ، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول : المعتبر في كل شيء ، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته ، ولكنه من لوازم تلك الماهية ، وأما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة ، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلاوة ، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة ، وأيضاً نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض/ فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل ، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات. إذا عرفت هذا فنقول : اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة ، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكناً ثم يصير متحركاً ، ثم يسكن بعد ذلك ، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد ، والصفات متعاقبة متزايلة ، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات ، إذا عرفت هذا فنقول : الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس وإنما حصل الاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض ، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات ، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار ، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات ، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية ، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها ، بقي ههنا أن يقال فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة ؟
فنقول لنا ها هنا مقامان :
(1/3959)

المقام الأول : أن نقول هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة ، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود ، وإن كانت ممنوعة ، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي ، ويكون ذلك الجسم مخالفاً لماهية سائر الأجسام فكان هو قديماً أزلياً واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة ، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه ؟
فإن قالوا هذا بالطل لأن القرآن دلّ على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوّة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله ، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
والمقام الثاني : أن علماء الأصلو أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والقيقة ، وإذا ثبت هذا طهر أنه لو كان إله العالم جمساً لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل ، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام ، فيلزم كونه محدثاً مخلوقاً قابلاً للعدم والفناء قابلاً للتفرق والتمزق. وأما النقل فقوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة إلا أنا نقول لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فلو كانت ذاته جسماً لكن ذلك الجسم مساوياً لسائر الأجسام في تمام الماهية ، وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلاً له ، لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي ، لا اعتبار الصفات القائمة بها فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة ، وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه كان بعيداً عن معرفة الحقائق ، فجرى على منهج كلمات العوام فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
المسألة الثانية : في ظاهر هذه الآية إشكال ، فإنه يقال المقصود منها نفي المثل عن الله تعالى وظاهرها يوجب إثبات المثل لله ، فإنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه ، وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى ، وأجاب الغعماء عنه بأن قالوا إن العرب تقول مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل فنوفا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عنه/ ويقول الرجل : هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر :
"ومثلي كمثل جذوع النخيل"
والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفياً عمن كان مشابهاً بسبب كونه مشابهاً له ، فلأن يكون منتفياً عنه كان ذلك أولى ، ونظيره قولهم : سلام على المجلس العالي ، والمقصود أن سلام الله إذا كتن واقعالً على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعاً عليه كان ذلك أولى ، فكذا ههنا قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه ، وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا الفظ ساقطاً عديم الأثر ، بل كان مفيداً للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه ، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسنم الشيء قال لأن كل شيء فإنه يكون مثلاً لمثل نفسه فقول {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } معناه ليس نثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو مسمى بالسم الشيء ، وعندي فيه طريقة أخرى ، وهي أن المقصود من ذكر الجمع بين حرفي التشبيه الدليل الدال على كونه منزّهاً عن المثل ، وتقريره أن يقال لو كان له مثل لكن هو مثل نفسه ، وهذا محال فإثبات المثل له محال ، أما بيان أنه لو كان له مثل لكان هو مثل نفسه فالأمر فيه ظاهر ، وأما بيان أن هذا محال فلأنه لو كان مثل مثل نفسه لكان مساوياً لمثله في تلك الماهية ومبايناً له في نفسه ، وما به المشاركة غير ما به المباينة. فتكون ذات كل واحد منهما مركباً وكل مركب ممكن ، فثبت أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان هو في نفسه واجب الوجود ، إذا عرفت هذا فقوله ليس مثله مثله شيء إشارة إلى أنه لو صدق عليه أنه مثل مثل نفسه لما كان هو شيئاً بناءً على ما بينا أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان واجب الوجود ، فهذا ما يحتمله اللفظ.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى : {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } (الروم : 27) يقتضي إثبات المثل فلا بد من الفرق بينهما ، فنقول المثل هو الذي يكون مساوياً للشيء في تمام الماهية والمثل هو الذي يكون مساوياً له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفاً في تمام الماهية.
(1/3960)

المسألة الرابعة : قوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يدل على كونه تعالى سامعاً للمسموعات مبصراً للمرئيات ، فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على طاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلاباً يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو السماع ، وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي ، فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة ، وذلك على الله محال ، فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب : الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه ، وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تتموج ذلك الهواء. وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة ، فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه ، فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة ، وهذا يدل على أن الرؤية مغايرة لنفس ذلك الانطباع ، وإذا ثبت هذا فنقول لا يلزم من امتناع التأثر في حق الله امتناع السمع والبصر في حقه ، فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر ، فلما كان حصول ذلك التأثر في حق الله تعالى ممتنعاً كان حصول السمع والبصر في حق الله ممتنعاً ، فنقول ظاهر قوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يدل على كونه سميعاً بصيراً فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر/ والتأثر في حق الله تعالى ممتنع ، فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعاً ، وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله ، وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه ، فإن قال قائل قوله {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يفيد الحصر ، فما معنى هذا الحصر ، مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين ؟
فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال ، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله ، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
أما قوله تعالى : {لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فاعلم أن المراد من الآية أنه تعالى : فاطر السموات والأرض والأصنام ليست كذلك ، وأيضاً فهو خالق أنفسنا وأزواجنا وخالق أولادنا منا ومن أزواجنا ، والأصنام ليست كذلك ، وأيضاً فله مقاليد السموات والأرض والأصنام ليست كذلك ، والمقصود من الكل بيان القادر المنعم الكريم الرحيم ، فكيف يجوز جعل الأصنام التي هي جمادات مساوية له في المعبودية ؟
فقوله {لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } يريد مفاتيح الرزق من السموات والأرض ، فمقاليد السموات الأمطار ، ومقاليد الأرض النبات ، وذكرنا تفسير المقاليد في سورة الزمر عند قوله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } (الزمر : 52) لأن مفاتيح الأرزاق بيده {إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ} من البسط والتقدير {عَلِيمٌ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 598
601
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله {كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى : 3) ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا} والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحاً ومحمداً وآبراهيم وموسى وعيسى ، هذا هو المقصود من لفظ الآية ، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة ، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها : أنه قال في أول الآية
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
(1/3961)

{مَا وَصَّى بِه نُوحًا} وفي آخرها {وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ} وفي الوسط {وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} فما الفائدة في هذا التفاوت ؟
وثانيها : أنه ذكر نوحاً عليه السلام على سبيل الغيبة فقال : {مَا وَصَّى بِه نُوحًا} والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال : {وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ} وثالثها : أنه يصير تقدير الآية : شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله {شَرَعَ لَكُم} خطاب الغيبة وقوله {وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} خطاب الحضور ، فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد ، وهو مشكل ، فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها ، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته ، وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام ، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (المائدة : 48) فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع/ وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال ، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله {وَلا تَتَفَرَّقُوا } أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة ، كما قال يوسف عليه السلام : {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا} (يوسف : 39) وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء : 25) واحتج بعضهم بقوله {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا} على أن النبي صلى الله عليه وسلّم في أول الأمر كان مبعوثاً بشريعة نوح عليه السلام ، والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل ، ومحل {يَوْمِ الدِّينِ} إما نصب بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين عليه ، وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع ؟
فقيل هو إقامة الدين {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} عظم عليهم وشق عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه } من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع ، بدليل أن الكفار قالوا {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} (ص : 5) وههنا مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
المسألة الأولى : احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع ، والله تعالى ذكر في معرض المنّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة ، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة ، فوجب أن يكون ذلك محرماً ممنوعاً عنه.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه ، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان ، كالقول بحسن اصدق والعدل والإحسان ، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء ، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان ، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني ، لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه } مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل ، وبيان منفعته من وجوه الأول : أن للنفوس تأثيرات ، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني : أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معيناً للآخر في ذلك المقصود المعين ، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود ، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث : أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب ، فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى {وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا } (الأنفال : 46).
(1/3962)

ثم قال تعالى : {اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} وفيه وجهان الأول : أنه تعالى لما أرشضد أمة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى التمسك بالدين المتفق عليه بيّن أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير ، لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني : أنه إنما كبّر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من الانقياد لهم تكبراً وأنفة فبيّن تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم/ ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى ، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى ، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع ، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله {اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ} أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة ، وقوله {مَن يَشَآءُ} كقوله تعالى : {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } (العنكبوت : 21).
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
ثم قال : {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} وهو كما روي في الخبر "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره.
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه ، كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟
فأجاب الله تعالى عنهم بقوله {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية ، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلباً للذكر والرياسة ، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف ، ثم أخب تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل ، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب ، لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى ، أي وقتاً معلوماً ، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا ، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة ، وهو معنى قوله {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ } والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة ، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم ؟
فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى ، والدليل قوله تعالى في آل عمران {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } (آل عمران : 19) وقال في سورة لم يكن {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة : 4) ولأن قوله {إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} لائق بأهل الكتاب ، وقال آخرون : إنهم هم العرب ، وهذاباطل للوجوه المذكورة ، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِهِمْ} لا يليق بالعرب ، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ، هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} من كتابهم {مُرِيبٍ} لا يؤمنون به حق الإيمان.
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
ثم قال تعالى : {فَلِذَالِكَ فَادْعُا وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل مات حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين ، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليهاوعلى الدعوة إليها ، كما أمرك الله ، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة {وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍ } أي بأي كتاب صح أن الله أنزله ، يعني لإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ونظيره قوله {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله { أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} (النساء : 151) ثم قال : {وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي ، قل القفال : معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله ، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه ، لكني أسوي بينكم وبين نفسي ، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله.
(1/3963)

ثم قال : {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُم لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُم لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُا اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} والمعنى أن إله الكل واحد/ وكل واحد مخصوص بعمل نفسه ، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه ، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله ، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه ، فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء ؟
قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ، ودخل فيه التوحيد ، وترك عبادة الأصنام ، والإقرار بنبوة الأنبياء ، وبحصة البعث والقيامة ، فلما لم يقبلوا هذا الدين ، فحينئذٍ فات الشرط ، فلا جرم فات المشروط.
وأعلم أنه ليس المراد من قوله {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } تحريم ما يجري مجرى محاجتهم ، ويدل عليه وجوه الأول : أن هذا الكلام مذكور فيمعرض المحاجة ، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة ، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني : أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث : أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه ، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ، وإنما تركوا تصديقه بغياً وعناداً ، فبيّن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة ، ومما يقوي قولنا : أنه لا يجوز تحريم المحاجة ، قوله {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النحل : 125) وقوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل : 125) وقوله {تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46) وقوله {قَالُوا يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (هود : 32) وقوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه } (الأنعام : 83).
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ} أي يخاصمون في دينه {مِنا بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَه } أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولن إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف ؟
فنبوّة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق ، ونبوة محمد ليست متفقاً عليها ، فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى ، وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى ، فبيّن تعالى أن هذه الحجة داحضة ، أي باطلة فاسدة ، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وقف قوله ، وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه السلام ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات ، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق ، فههنا يجب الإعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته. وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضاً ، ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة ، فقال : {اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات ، وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم ، وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك ، وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال ، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد ، ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك ، وأنهم ما رأوا منه أثراً قالوا على سبيل السخرية : فمتى تقوم القيامة ، وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه ، فلدفع هذه الشبهة قال تعالى : {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } والمعنى ظهر/ وإنما يشفقون ويخافون لعلمهمأن عندها تمتنع التوبة ، وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف.
ثم قال : {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} والممارة الملاجة ، قال الزجاج : الذين تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة ، فيمارون فيها ويجحدون {لَفِى ضَلَـالا بَعِيدٍ} لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل ، فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى ، وهذا من أمحل المحالات ، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً.
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
(1/3964)

ثم قال : {اللَّهُ لَطِيفُا بِعِبَادِه } أي كثير الإحسان بهم ، وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة ، فكان ذلك من لطف الله بعباده ، وأيضاً المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد ، ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف ا لله تعالى ، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم ، لا جرم حسن ذكره ههنا ، ثم قال : {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد ، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم ، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق ، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم ، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة.
ثم قال : دهو القوي} أي القادر على كل ما يشاء أي القادر على كل ما يشاء {الْعَزِيزُ} الذي لا يغالب ولا يدافع.
جزء : 27 رقم الصفحة : 601
604
اعلم أنه تعالى لما بيّن كون لطيفاً بعبداه كثير الإحسان إليهم بيّن أنه لا بد لهم من أن يسعوا في طلب الخيرات وفي الاحتراز عن القبائح فقال : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } قال صاحب "الكشاف" إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به القائدة حرثاً على سبيل المجاز وفي الآية مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
المسألة الأولى : أنه تعالى أظهر الفرق في هذه الآية بين من أراد الآخرة وبين من أراد الدنيا من وجوه الأول : أنه قدم مريد حرث الآخرة في الذكر على مريد حرث الدنيا ، وذلك يدل على التفضيل ، لأنه وصفه بكونه آخرة ثم قدمه في الذكر تنبيهاً على قوله "نحن لآخرون السابقون" الثاني : أنه قال في مريد حرث الآخرة {نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } وقال في مريد حرث الدينا {نُؤْتِه مِنْهَا} وكلمة من للتبعيض ، فالمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يؤتين كله ، وقال في سورة بني إسرائيل {عَجَّلْنَا لَه فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} (الإسرار : 18) وأقوال البرهان العقلي مساعد على البابين ، وذلك لأن كل من عمل للآخرة وواظب على ذلك العمل ، فكثرة الأعمال سبب لحصول الملكات ، فكل من كانت مواظبته على تلك الأعمال أكثر كان ميل قلبه إلى طلب الآخرة أكثر ، وكلما كان الأمر كذلك كان الابتهاج أعظم والسعادات أكثر ، وذلك هو المراد بقوله {نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } وأما طالب الدنيا فكلما كانت مواظبته على أعمال ذلك الطلب أكثر كانت رغبته في الفوز بالدنيا أكثر وميله إليها أشد ، وإذا كان الميل أبداً في التزايد ، وكان حصول المطلوب باقياً على حالة واحدة كان الحرمان لازماً لامحالة الثالث : أنه تعالى قال في طالب حرث الآخرة {نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } ذ ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا ، بل بقي الكلام ساكتاً عنه نفياً وإثباتاً ، وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص ، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول الآخرة أصل والدنيا تبع ، فواجد الأصل يكون واجداً للتبع بقدر الحاجة/ إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدنيا أخس من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة والرابع : أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه ، وبيّنأن طالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه من الدنيا ، وأما افي الآخرة فإنه لا يحصل له نصيب ألبتة ، فبيّن بالكلام الأول أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في الترقي والتزايد وبيّن بالكلام الثاني أن طالب الدني يكون حاله في المقام الأول في النقصان وفي المقام الثاني في البطلان التامالخامس : أن الآخرة نسيئة والدنيا نقد والنسيئة مرجوجة بالنسبة إلى النقد ، لأنالناس يقولون النقد خير من النسيئة فبيّن تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا ، فالآخرة وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام فكانت أفضل وأكمل ، والدنيا وإن كانت نقداً إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان فكانت أخس وأرذل ، فهذا يدل على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا ألبتة ، وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم كما هو مروي عن ابن عباس السادس : الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث ، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية ، فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق ، ثم بيّن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وإن مصير الدنيا إلى النقصان ثم الفناء ، فكأنه قيل إذا كان لا بد في القسمين جميعاً من تحمل متاعب الحراثة والتسمية والتنمية والحصد والتنقية ، فلأن تصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يكون في النقصان والانقضاء والفناء.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
(1/3965)

المسألة الثانية : في تفسير قوله {نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } قولان الأول : المعنى أنا نزيد في توقيفه وإعانته وتسهيل سبل الخيرات والطاعات عليه ، وقال مقاتل {نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه } بتضعيف الثواب ، قال تعالى : {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه } (فاطر : 30) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من أصبح وهمه الدنيا شئت لله تعالى عليه همه وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له ، ومن أصبح همه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة عن أنفها" أو لفظً يقرب من أن يكون هذا معناه.
المسألة الثالثة : ظاهر اللفظ يدل على أن من صلّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته ، وأجمعوا على أنها لا تصح والجواب : أنه تعالى قال : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ} والحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض ، والبذر الصحيح لجميع الخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى.
المسألة الرابعة : قال أصحابنا إذا توضأ بغير نية لم يصح ، قالوا لأن هذا الإنسان ما أراد حرث الآخرة ، لأن الكلام فيما إذا كان غافلاً عن ذكر الله وعن الآخرة ، فوجب أن لا يحصل له نصيب فيما يتعلق بالآخرة والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة ، فوجب أن لا يحصل في الوضوء العاري عن النية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
وأعلم أن الله تعالى لما بيّن القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بالتنبيه على ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَـا ؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّه } ومعنى الهمزة في أم التقرير والتقريع و{شُرَكَآؤُهُمْ} شياطينهم الذين زينوا الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم يعلمون غيرها ، وقيل {شُرَكَآؤُهُمْ} أوثانهم ، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء الله ، ولما كان سبباً لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36) وقوله {شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنا بِهِ اللَّه } يعني أن تكل الشرائع بأسرها على ضدين لله ، ثم قال : {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ، أو يقال ولولا الوعد بأن الفصل أن يكون يوم القيمة {لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم {وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقرأ بعضهم ، وأن بفتح الهمزة في أن عطفاً له على كلمة الفصل يعني {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} وأن تقريره تعذيب الظالمين في الآخرة {لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ } في الدنيا إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب الأول : فهو قوله {تَرَى الظَّـالِمِينَ مُشْفِقِينَ} خائفين خوفاً شديداً {مِمَّا كَسَبُوا } من السيئات {وَهُوَ وَاقِعُا بِهِمْ } يريد أن وباله واقع بهم سواء أشفقوا أو لم يشفقو ، أما الثاني : فهو أحوال أهل الثواب وهو قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ } لأن روضة الجنة أطيب بقعة فيها ، وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة ، إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات ، وهي البقاع الشريفة من الجنة ، فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم قال : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } وهذا يدل على أن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة ، ثم قال تعالى في تعظيم هذه الدرجة {ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} وأصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الثواب غير واجب على الله ، وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى قال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِا لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } فهذا يدل على أن روضات الجنات ووجدان كل ما يريدونه إنما كان جزاءً على الإيمان والأعمال الصالحات.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} وهذا تصريح بأن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل لا بطريق الاستحقاق.
ثم قال : {ذَالِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } قال صاحب "الكشاف" قرىء يبشر من بشره ويبشر من أبشره ويبشر من بشره.
(1/3966)

واعلم أن هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه الأول : أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصاحات روضات الجنات ، والسلطان الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاء ، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كنهه إلا الله تعالى الثاني : أنه تعالى قال : {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } وقوله {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ} يدخل في باب غير المتناهي لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها لثالث : أنه تعالى قال : {ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق كان في غاية الكبر الرابع : أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم فقال : {الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} وذلك يدل أيضاً على غاية العظمة ، نسأل الله الفوز بها والوصول إليها.
واعمل أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم هذا الكتاب الشريف العالي وأودع فيه الثلاثة أقسام الدلائل وأصناف التكاليف ، ورتب على الطاعة الثواب ، وعلى المعصية العقاب ، بين أني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً عاجلاً ومطلوباً حاضراً ، لئلا يتخيل جاهل أن مقصود محمد صلى الله عليه وسلّم من هذا التبليغ المال والجاه فقال : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الناس في هذه الآية ثلاثة أقوال :
الأول : قال الشعبي أكثر الناس علينا في هذه الآية ، فكتبنا إلى بن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ} على ما أدعوكم إليه {أَجْرًا إِلا} أن تودوني لقرابتي منكم ، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني ، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
والقول الثاني : روى الكلبي عن بن عباس رضي الله عنهما قال إن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق وليس في يده سعة ، فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم ، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه به فرده عليهم ، فنزل قوله تعلى : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي على الإيمان إلا أنتودوا أقاربي فحثهم على مودة أقاربه.
القول الثالث : ما ذكره الحسن فقال : إلا أن تودوا إلى الله فيما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح ، فالقربى على القول الأول القرابة التي هي بمعنى الرحم وعلى الثاني القرابة التي هي بمعنى الأقارب ، وعلى الثالث هي فعلى من القرب والتقريب ، فإن قيل الآية مشكلة ، ذلك لأن طلب الأجر على تبليغ الوحي لايجوز ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم صرّحوا بنفي طلب الأجرة ، فذكر في قصة نوح عليه السلام {وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍا إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 109) وكذا في قصة هود وصالح ، وفي قصة لوط وشعيب عليهم السلام ، ورسولنا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فكان بأن لا يطلب الأجر على النوبة والرسالة أولى الثاني : أنه صلى الله عليه وسلّم صرح بنفي طلب الأجر في سائر الآيات فقال : {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } (سبأ : 47) وقال : {قُلْ مَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (ص : 86) الثالث : العقل يدل عليه وذلك لأن ذلك التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى : {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَا وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه } (المائدة : 67) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء الرابع : أن النبوة أفضل من الحكمة وقد قال تعالى في صفة الحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 269) وقال في صفة الدنيا {قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} (النساء : 77) فكيف يحسن في العقل مقابلة أشرف الأشياء بأخس الأشياء الخامس : أن طلب الأجر كان يوجب التهمة ، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة ، وظاهر هذه الآية يقتضي أنه طلب أجراً على التبليغ والرسالة ، وهو المودة في القربى هذا تقرير السؤال ، والجواب عنه : أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ والرسالة ، بقي قوله {إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } نقول الجواب عنه من وجهين الأول : أن هذا من باب قوله :
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
ولا عيب غير أن سيوفهم
(1/3967)

بها من قراع الدارعين فلول المعنى أنا لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) وقال صلى الله عليه وسلّم : "المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً" والآيات والأخبار في هذا الباب كثيرة وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجباً فحصولها في حق أشرف المسلمين وأكابرهم أولى ، وقوله تعلى : {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } تقديره والمودة في القربى ليست أجراً ، فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر ألبتة الوجه الثاني : في الجواب أن هذا استثناء منقطع ، وتم الكلام عند قوله {قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} .
ثم قال : {إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } أي لكن أذكركم قرابتي منكم وكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر.
المسألة الثالثة : نقل صاحب "الكشاف" : عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من مات على حب آل محمد مات شهيداً ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة" هذا هو الذي رواه صاحب "الكشاف" ، وأنا أقول : آل محمد صلى الله عليه وسلّم هم الذين يؤول أمرهم إليه فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم أشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ، وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته ، فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل ، وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل ؟
فمختلف فيه. وروى صاحب "الكشاف" أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟
فقال علي وفاطمة وابناهما ، فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلى الله عليه وسلّم وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه : الأول : قوله تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
ولنرجع إلى التفسير : أورد صاحب "الكشاف" : على نفسه سؤالاً فقال : هلا قيل إلا مودة القربى ، أو إلا مودة للقربى ، وما معنى قوله {إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } ؟
وأجاب عنه بأن قال جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقوله لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد أحبهم وخم مكان حبي ومحله.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَه فِيهَا حُسْنًا } قيل نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه ، والظاهر العموم في أي حسنة كانت ، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى ذل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعاً كثيرة من التفضيل.
(1/3968)

وقال تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } واعلم أن الكلام في أول السورة إنما اتبدىء في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله وهو قوله تعالى : {كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى : 3) واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى ههنا ، ثم حكى ههنا شبهة القوم وهي قولهم : إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال : {أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} قال صاحب "الكشاف" : أم منقطعة ، ومعنى الهمزة نفس التوبيخ كأنه قيل : أيقع في قلوبهم ويجري في ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله الذي هو أقبح أنواع الفرية وأفحشها ، ثم أجاب عنه بأن قال : {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } وفيه وجوه الأول : قال مجاهد يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إن مفتر كذاب والثاني : يعني بهذا الكلام أنه إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى يفتري عليه الكذب فإن لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل هذه الحالة ، والمقصود من ذكر هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد ، ومثاله أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين/ لعلّ الله خذلني لعلّ الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه ، وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة عنه.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
ثم قال تعالى : {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} أي ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق فلو كان محمد مبطلاً كذاباً لفضحه الله ولكشف عن باطله ولما أيده بالقوة والنصرة ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس من الكاذبين المفترين على الله ، ويجوز أن يكون هذا وعداً من الله لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ويثبت الحق الذي كان محمد صلى الله عليه وسلّم عليه.
ثم قال : {إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم فيجري الأمر على حسب ذلك ، وعن قتادة يختم على قلبك ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي ، بمعنى لو افترى على الله الكذب لفعل الله به ذلك.
واعلم أنه تعالى لما قال : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقاباً عظيماً ، لا جرم ندبهم الله على التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته ، فقال : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه ، فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبلو ومنشأه ، ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه وقد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التوبة في سورة البقرة ، وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل ، وروى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال اللّهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي عليه السلام يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين فتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟
فقال اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة يجب على الله تعالى عقلاً قبول التوبة ، وقال أصحابنا لا يجب على الله شيء وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل ، واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية فقالوا إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل التمدح العظيم ، ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً ولا يقتلهم غضباً ، كان ذلك مدحاً قليلاً ، أما إذا قال إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب عليَّ كان ذلك مدحاً وثناءً.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة ، أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر ، أو المراد منته أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة ، والأول باطل وإلا لصار قوله {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} عين قوله {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} والتكرار خلاف الأصل ، والثاني أيضاً باطل لأن ذلك واجب وأداء الواجب لا يتمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة.
(1/3969)

ثم قال : {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة والباقون بالياء على المغايبة ، والمعنى أنه تعالى يعلمه فيثيبه على حسناته ويعاقبه على سيئاته.
ثم قال : {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِه } وفيه قولان أحدهما : الذين آمنوا وعملوا الصالحات رفع على أنه فاعل تقديره ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه. والثاني : محله نصب والفاعل مضمر وهو الله وتقديره ، ويستجيب الله للمؤمنين إلا أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وَإِذَا كَالُوهُمْ} (المطففين : 3) وهذا الثاني أولى لأن الخبر فيما قبل وبعد عن الله لأن ما قبل الآية قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} وما بعدها قوله {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِه } فيزيد عطف على ويستجيب ، وعلى الأول ويجيب العبد ويزيد الله من فضله.
أما من قال إن الفعل للذين آمنوا ففيه وجهان : أحدهما : ويجيب المؤمنون ربهم فيما دعاهم إليه والثاني : يطيعونه فيما أمرهم به ، والاستجابة الطاعة.
وأما من قال إن الفعل لله فقد اختلفوا ، فقيل يجيب الله دعاء المؤمنين ويزيدهم ما طلبوه من فضله ، فإن قالوا تخصيص المؤمنين بإجابة الدعاء هل يدل على أنه تعالى لا يجيب دعاء اكفار ؟
قلنا قال بعضهم لا يجوز لأن إجابة الدعاء تعظيم ، وذلك لا يليق بالكفار ، وقيل يجوز على بعض الوجوه ، وفائدة التخصيص أن إجابة دعاء المؤمنين تكون على سلبيل التشريف ، وإجابة دعاء الكافرين تكون على سبيل الاستدراج ، ثم قال : {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِه } أي يزيدهم على ما طلبوه بالدعاء {وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} والمقصود التهديد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 604
608
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : إنه يجيب دعاء المؤمنين ورد عليه سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يشاهد أثر الإجابة فكيف الحال فيه مع ما تقدم من قوله {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } ؟
فأجاب تعالى عنه بقوله {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ} أي ولأقدموا على المعاصي ، ولما كان ذلك محذوراً وجب أن يعطيهم ما طلبوه ، قال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول المجبرة من وجهين : الأول : أن حاصل الكلام أنه تعالى : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ} والبغي في الأرض غير مراد فإرادة بسط الرزق غير حاصلة ، فهذا الكلام إنما يتم إذا قلنا إنه تعالى يريد البغي في الأرض ، وذلك يوجب فساد قول المجبرة الثاني : أنه تعالى بيّن أنه إنما لم يرد بسط الرزق لأنه يفضي إلى المفسدة فلما بيّن تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى ، أجاب أصحابنا بأن الميل الشديد إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن فلا بد لها من فاعل ، وفاعل هذه الأحوال إما العبد أو الله والأول باطل لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليها فيعود السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني ؟
ويلزم التسلسل ، وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم ولاقسوة عيوب ونقصانات ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى ، ثم أورد الجبائي في "تفسيره" على نفسه سؤالاً قال : فإن قيل أليس قد بسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه بغى ؟
وأجاب عنه بأن الذي عنده الرزق وبغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أعطى ذلك الرزق أو لم يعط ، وأقول هذا الجواب فاسد ويدل عليه القرآن والعقل ، أما القرآن فقوله تعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) حكم مطلقاً بأن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان. وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلة إلى الشر لكنها كانت فاقدة للآلات والأدوات كان الشر أقل ، وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر ، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان.
جزء : 27 رقم الصفحة : 608
المسألة الثانية : في بيان الوجه الذي لأجله كان التوسع موجباً للطغيان ذكروا فيه وجوهاً الأول : أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادماً للبعض ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم وتعطلت المصالح الثاني : أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم أقدموا على النهب والغارة الثالث : أن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر ، وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع.
(1/3970)

المسألة الثالثة : قال خباب بن الأرث فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها ، وقيل نزلت في أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُنَزِّلُ} خفيفة والباقون بالتشديد ، ثم نقول {بِقَدَرٍ} بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً {إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ} يعني أنه عالم بأحوال الناس وبطباعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم ، ولما بيّن تعالى أنه لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنه علم أن تلك الزيادة تضرهم في دينهم بين أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه فقال : {وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا } قرأ نافع وابن عامر وعاصم {يُنَزِّلُ} مشددة والباقون مخففة ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء {قَنَطُوا } بفتح النون وكسرها ، وإنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتم ، فكان إقدام صاحبه على الشكر أكثر {وَيَنشُرُ رَحْمَتَه } أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب ، وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له "اشتد القحط وقنط الناس فقال : إذن مطروا" أراد هذه الآية ، ويجوز أن يريد رحمته الواسعة في كل شيء كأنه قيل ينزل الرحمة التي هي الغيث وينشر سائر أنواع الرحمة {وَهُوَ الْوَلِىُّ} الذي يتولى عباده بإحسانه و{الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة ، ثم ذكر آية أخرى تدل على إلهيته فقال : {وَمِنْ ءَايَـاتِه خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } فنقول : أما دلالة خلق السموات والأرض على وجود الإله الحكيم فقد ذكرناها وكذلك دلالة وجود الحيوانات على وجود الإله الحكيم ، فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة ؟
قلنا فيه وجوه الأول : أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم يقال بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله واحد منهم ومنه قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن : 22) الثاني : أن الدبيب هو الحركة ، والملائكة لهم حركة الثالث : لا يبعد أن يقال إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض.
جزء : 27 رقم الصفحة : 608
ثم قال تعالى : {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} قال صاحب "الكشاف" : إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي ، قال تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } (الليل : 1) ومنه {إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} والمقصود أنه تعالى خلقها متفرقة ، لا لعجز ولكن لمصلحة ، فلهذا قال : {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} يعني الجمع للحشر والمحاسبة ، وإنما قال : {عَلَى جَمْعِهِمْ} ولم يقل على جمعها ، لأجل أن المقصود من هذا الجمع المحاسبة ، فكأنه تعالى قال : وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير ، واحتج الجبائي بقوله {إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} على أن مشيئته تعالى محدثة بأن قال : إن كلمة {إِذَآ} تفيد ظرف الزمان ، وكلمة {يَشَآءُ } صيغة المستقبل ، فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المعين من المستقبل فائدة ، ولما دل قوله {إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} على هذا التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة والجواب : أن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة ، أي مشيئة الله ، فقد دخلتا أيضاً على لفظ القدير فلزم على هذا أن يكون كونه قادراً صفة محدثة ، ولما كان هذا باطلاً ، فكذا القول فيما ذكره ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر {بِمَا كَسَبَتْ} بغير فاء ، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة ، والباقون بالفاء وكذلك هي في مصاحفهم ، وتقدير الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي ، وبما كسبت خبره ، والمعنى والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم ، وتقدير الثاني تضمين كلمة : ما معنى الشرطية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 608
(1/3971)

المسألة الثانية : المراد بهذه الصمائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام القحط والغرق والصواعق وأشباهها ، واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا ؟
منهم من أنكر ذلك لوجوه الأولى : قوله تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (غافر : 17) بيّن تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة ، وقال تعالى في سورة الفاتحة {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) أي يوم الجزاء ، وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة والثاني : أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق ، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب ، بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم : "خص البلاء بالأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل" الثالث : أن الدنيا دار التكليف ، فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدينا دار التكليف ودار الجزاء معاً ، وهو محال ، وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدنمة ، فقد تمسكوا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن قال : "لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ" هذا معناه وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } (الشورى : 34) وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم ، وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية ، فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف ، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء ، ويحمل قوله {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم ، وكذا الجواب عن بقية الدلائل ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج أهل التناسخ بهذه الآية ، وكذلك الذين يقولون إن الأطفال البهائم لا تتألم ، فقالوا دلّت الآية على أن حصول المصائب لا يكون إلا لسابقة الجرم ، ثم إن أهل التناسخ قالوا : لكن هذه المصائب حاصلة للأطفال والبهائم ، فوجب أن يكون قد حصل لها ذنوب في الزمان السابق ، وأما القائلون بأن الأطفال والبهائم ليس لها ألم قالوا قد ثبت أن هذه الأطفال والبهائم ما كانت موجودة فيبدن آخر لفساد القول بالتناسخ فوجب القطع بأنها لا تتألم إذ الألم مصيبة والجواب : أن قوله تعالى : {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} خطاب مع من يفهم ويعقل ، فلا يدخل فيه البهائم والأطفال ، ولم يقل تعالى : إن جميع ما يصيب الحيوان من المكاره فإنه بسبب ذنب سابق ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 608
المسألة الرابعة : قوله {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يقتضي إضافة الكسب إلى اليد ، قال والكسب لا يكون باليد ، بل بالقدرة القائمة باليد ، وإذا كان المراد من لفظ اليد ههنا القدرة ، وكان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء والأجزاء ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} ومعناه أنه تعالى قد يترك الكثير من هذه التشديدات بفضله ورحمته ، وعن الحسن قال : دخلنا على عمران بن حصين في الوجع الشديد ، فقيل له : إنا لنغتم لك من بعض ما نرى ، فقال لا تفعلوا فوالله إن أحبه إلى الله أحبه إلي ، وقرأ {وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فهذا بما كسبت يداي/ وسيأتيني عفو ربي ، وقد روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وقال : "ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة ، وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة" رواه الواحدي في "البسيط" ، وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره عنهم بالمصائب في الدنيا ، وصنف عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم لا يرجع في عفوه ، وهذه سنّة الله مع المؤمنين ، وأما الكافر فلأنه لا يعجل عليه عقوبة ذنبه حتى يوافي ربه يوم القيامة.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِ } يقول ما أنتم معشر المشركين بمعجزين في الأرض ، أي لا تعجزونني حيثما كنتم ، فلا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ} والمراد بهم من يعبد الأصنام ، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة ، والنصير هو الله تعالى ، فلا جرم هو الذي تحسن عبادته.
جزء : 27 رقم الصفحة : 608
611
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل والوقف ، فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف.
المسألة الثانية : الجواري ، يعني السفن الجواري ، فحذف الموصوف لعدم الالتباس.
(1/3972)

المسألة الثالثة : اعمل أٌّه تعالى ذكر من آياته أيضاً هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح ، واعلم أن المقصود من ذكره أمران أحدهما : أن يستدل به على وجود القادر الحكيم والثاني : أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة لله تعالى على العباد أما الوجه الأول : فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال ، قالت الخنساء في مرثية أخيها :
وإن صخراً لتأتم لهداة به
كأنه علم في رأسه نار ونقل أن النبي صلى الله عليه وسلّم استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت ، قال : "قاتلها الله ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه ناراً!" إذا عرفت هذا فنقول : هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه ، وعند سكون هذه الرياح تقف ، وقد بينا بالدليل في سورة النحل ، أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى ، إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها ، وذلك يدل على وجود الإله القادر ، وأيضاً أن السفينة تكون في غاية الثقل ، ثم إنها معثقلها بقيت على وجه الماء ، وهو أيضاً دلالة أخرى وأما الوجه الثاني : وهو معرفة ما فيها من المنافع ، فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة ، وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 611
ثم قال تعالى : {كَالاعْلَـامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِه } قرأ أبو عمرو والجمهور : بهمزة {إِن يَشَأْ} لأن سكون الهمزة علامة للجزم ، وعن ورش عن نافع بلا همزة ، وقرأ نافع وحده {يُسْكِنِ الرِّيحَ} على الجمع ، والباقون {الرِّيحَ} على الواحد ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء بفتح اللام وكسرها من ظل يظل ويظل ، وقوله تعالى : {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} أي رواتب ، أي لا تجري على ظهره ، أي على ظهر البحر {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على بلاء الله {شَكُورٌ} لنعمائه ، والمقصود التنبيه ، على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلاً عن دلائل معرفة الله ألبتة ، لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء ، وإما في الآلاء ، فإن كان في البلاء كان من الصابرين ، وإن كان من النعماء كان من الشاكرين ، وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون ألبتة من الغافلين.
ثم قال تعالى : {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } يعني أو يهلكهن ، يقال أوبقه ، أي أهلكه ، ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه ، أي أهلكته ، والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فتركد الجواري على متن البحر وتقف ، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق ، وعلى هذا التقدير فقوله {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} معطوف على قوله {يُسْكِنِ} لأن التقدير إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها ، وقوله {وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً عن طريق العفو عنهم ، فإن قيل فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله ، قلنا معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ فقد استأنف الكلام.
ثم قال : {كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} قرأ نافع وابن عامر : يعلم بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالنصب ، فالقراءة بالرفع على الاستئناف ، وأما بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون في آياتنا والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى : {وَلِنَجْعَلَه ا ءَايَةً لِّلنَّاسِ} (مريم : 21) وقوله تعالى : {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ} (الجاثية : 22) قال صاحب "الكشاف" : ومن قرأ على جزم {وَيَعْلَمَ} فكأنه قال أو إن يشأ ، يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين. إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ} أي ينازعون على وجه التكذيب ، أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن ، وءذا عصفت الرياح فيصير ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله.
جزء : 27 رقم الصفحة : 611
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها ، لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه ، فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها ، فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل ، فقال : {فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته ، ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء.
(1/3973)

ثم قال تعالى : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة ، ونبه على خساستها بتسميتها بالممتاع ، ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا ، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى ، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني ، ثم بيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات :
الصفة الأولى : أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا } .
الصفة الثانية : أن يكون من المتوكلين على فضل الله ، بدليل قوله تعالى : {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب ، فهو متكل على عمل نفسه لا على الله ، فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثالثة : أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ، عن ابن عباس : كبير الإثم ، هو الشرك ، نقله صاحب "الكشاف" : وهو عندي بعيد ، لأن شرط الإيمان مذكور أولاً وهو يغني عن عدم الشرك ، وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات ، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية ، وبقوله {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ما يتعلق بالقوة الغضبية ، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران ، لأن الغضب على طبع النار ، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة/ فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ ، والله أعلم.
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} والمراد منه تمام الانقياد ، فإن قالوا أليس أنه لما جعل الإيمان شرطاً فيه فقد دخل في الإيمان إجابة الله ؟
قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء الله من صميم القلب ، وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور. ولما ذكر هذا الشرط قال : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة ، لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 611
وأما قوله تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم ، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم ، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، ومعنى قوله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي ذو شورى.
الصفة الخامسة : قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه ، وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء ، فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول : أنه لما ذكر قبله {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} ؟
الثاني : وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (البقرة : 237) وقال : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) وقال : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (الأعراف : 199) وقال {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ} (النحل : 126) فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب : أن العفو على قسمين أحدهما : أن يكون العفو سبباً لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه ، والآيات في العفو محمولة على القسم الأول ، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني ، وحينئذ يزول التناقض والله أعلم ، ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره ، فلو أن رجلاً وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموماً ، وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلّم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "دونك فانتصري" وأيضاً إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنه مشروع فقط ، ثم بيّن بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة ، ثم بيّن أن العفو أولى بقوله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّه } فزال السؤال والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 611
616
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} (الشورى : 39) أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل فإن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السموات والأرض ، فلهذا السبب قال : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وفي الآية مسائل :
(1/3974)

المسألة الأولى : لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه ، فكيف سمي بالسيئة ؟
أجاب صاحب "الكشاف" : عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به ، قال تعالى : {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـاذِه مِنْ عِندِكَ } (النساء : 78) يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا ، وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر ، والحق ما ذكره صاحب "الكشاف".
والمسألة الثانية : هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان ، لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان ، فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه ، وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزّه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل ، ثم تأكد هذا النص بنصوص أُخر ، كقوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه } (النحل : 126) وقوله تعالى : {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا } (غافر : 40) وقوله عزّ وجلّ : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 178) والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى : {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } (المائدة : 45) وقوله تعالى : {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} (البقرة : 179) فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ثم ههنا دقيقة : وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فههنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه ، فأيهما أولى ؟
فههنا محل اجتهاد المجتهدين ، ويختلف ذلك باختلاف الصور ، وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيهاً على الباقي.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
المثال الأول : احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد ، بأن قال المماثلة شرط لجريان اللقصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين ، فوجب أن لا يجري القصاص بينهما ، أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة/ وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين ، والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية ، فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال ، ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص ، ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص ، فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصّه دليل العقل ودليل نقلي منفصل ، وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي ، وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل ، لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي ، ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضاً الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة ، فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة ههنا فوجب المنع من القصاص.
المثال الثاني : احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحد ، فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل ، بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى.
المثال الثالث : شريك الأب شرع في حقه القصاص ، والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى : {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } (المائدة : 45) وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال الرابع : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.
المثال الخامس : شهود القصا ص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه ، فوجب أن يصير دمهم مهدراً لقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
المثال السادس : قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلماً فوجب أن يجب عليه مثله ، أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلماً فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد ، وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .
(1/3975)

المثال السابع : قال الشافعي رضي الله عنه القتل بالمثقل يوجب القود ، والدليل عليه أن الجاني أبطل حياته فوجب أن يتمكن ولي المقتول من إبطال حياة القاتل لقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .
المثال الثامن : الحر لا يقتل بالعبد قصاصاً ونحن وإن ذكرنا هذه المسألة في المثال الأول إلا أنا نذكر ههنا وجهاً آخر من البيان ، فنقول إن القاتل أتلف على مالك العبد شيئاً يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب عليه أداء عشرة دنانير لقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وإذا وجب الضمان وجب أن لا يجب القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال التاسع : منافع الغضب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أن الغاضب فوت على المالك منافع تقابل في العرب بدينار فوجب أن يفوت على الغاضب مثله من المال لقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} وكل من أوجب تفويت هذا القدر على الغاضب قال بأنه يجب أداؤه إلى المغصوب منه.
المثال العاشر : الحر لا يقتل بالعبد قصاصاً لأنه لو قتل بالعبد هو مساوياً للعبد في المعاني الموجبة للقصاص لقوله {الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى ا إِلا مِثْلَهَا } (غافر : 40) ولسائر النصوص التي تلوناها ثم إن عبده يقتل قصاصاً بعبد نفسه فيجب أن يكون عبد غيره مساوياً لعبد نفسه في المعاني الموجبة للقصاص لعين هذه النصوص التي ذكرناها ، فعلى هذا التقدير يكون عبد نفسه مساوياً لعبد غيره في المعاني الموجبة للقصاص ، فكان عبد نفسه مثلاً لمثل نفسه ، ومثل المثل مثل فوجب كون عبد نفسه مثلاً لنفسه في المعاني الموجبة للقصاص ، ولو قتل الحر بعبد غيره لقتل بعبد نفسه بالبيان الذي ذكرناه ولا يقتل بعبد نفسه فوجب أن لا يقتل بعبد غيره ، فقد ذكرنا هذه الأمثلة العشرة في التفريع على هذه الآية ، ومن أخذت الفطانة بيده سهل عليه تفريع كثير من مسائل الشريعة على هذا الأصل والله أعلم ، ثم ههنا بحث وهو أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال في قطع الأيدي لا شك أنه صدر كل القطع أو بعضه عن كلهم أو عن بعضهم إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك الحق إلا باستيفاء الزيادة لأن تفويت عشرة من الأيدي أزيد من تفويت يد واحدة ، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة ، فقال الشافعي رضي الله عنه لو كان تفويت عشرة من الأيدي من الأويدي في مقابلة يد واحدة حراماً لكان تفويت عشرة من النفوس في مقابلة نفس واحدة حراماً ، لأن تفويث النفس يشتمل على تفويث اليد فتفويت عشرة من النفوس في مقابلة النفس الواحدة يوجب تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة فلو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة حراماً لكان تفويت عشرة من النفوس لأجل النفس الواحدة مشتملاً على الحرام وكل ما اشتمل على الحرام فهو حرام فكان يجب أن يحرم قتل النفوس العشرة في مقابلة النفس الواحدة ، وحيث أجمعنا على أنه لا يحرم علمنا أن ما ذكرتم من استيفاء الزيادة غير ممنوع منه شراً ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
المسألة الثالثة : قد بينا أن قوله {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } يتقضي وجوب رعاية المماثلة مطلقاً في كل الأحوال إلا فيما خصه الدليل ، والفقهاء أدخلوا التخصيص فيه في صور كثيرة فتارة بناء على نص آخر أخس منه وأخرى بناء على القياس ، ولا شك أن من اعدى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بهذا النص في جميع المطالب ، قال مجاهد والسدي إذا قال له أخزاه الله ، فليقل له أخزاه الله ، أما إذا قذفه قذفاً يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله به.
ثم قال تعالى : {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى : {فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت : 34) ( ، {فَأَجْرُه عَلَى اللَّه } وهو وعد مبهم لا يقاس أمره في التعظيم.
ثم قال تعالى : {إِنَّه لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} وفيه قولان الأول : أن المقصود منه التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم والانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية والتعدي خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية ، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالماً ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم ، قال فيقوم خلق فقال لهم ما أجركم على الله ؟
فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا ، فيقال لهم ادخلوا الجنة بإذن الله تعالى" الثاني : أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم أخبر أنه مع ذلك لا يحبه تنبيهاً على أنه إذ كان لا يحبه ومع ذلك فإنه يندب على عفوه ، فالمؤمن الذي هو حبيب الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو عنه.
(1/3976)

ثم قال تعالى : {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِه } أي ظالم الظالم إياه ، وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول {فَ أولئك } يعني المنتصرين {مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} كعقوبة ومؤاخذة لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار واحتج الشافعي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في بيان أن سراية القود مهدرة/ فقال الشرع إما أن يقال إنه أذن له في القطع مطلقاً أو بشرط عدم السريان ، وهذا الثاني باطل لأن الأصل في القطع الحرمة ، فإذا كان تجويزه معلقاً بشرط عدم السريان ، وكان هذا الشرط مجهولاً وجبأن يبقى ذلك القطع على أصل الحرمة ، لأن الأصل فيها هو الحرمة ، والحل إنما يحصل معلقاً على شرط مجهول فوجب أن يبقى ذبك أصل الحرمة ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الشرع أذن له في القطع كيف كان سواء سرى أو لم يسر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون ذلك السريان مضموناً لأنه قد انتصر من بعد ظلمه فوجب أن لا يحصل لأحد عليه سبيل.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
ثم قال : {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي يبدأون بالظلم {وَيَبْغُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّا أُوالَـا ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ثم قال تعالى : {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} يعني أن عزمه على ترك الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن فكان المسبوب يكظم ويعرقة فيمسح العرق ثم قام وتلا هذه الآية ، فقال الحسن عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون.
ثم قال تعالى : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِه } أي فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه أي من بعد إضلاه الله أياه ، وهذا صريح في جواز الإضلال من الله تعالى ، وفي أن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى ، قال القاضي المراد من يضلل الله عن الجنة فما له من ولي من بعده ينصره والجواب : أن تتقيد الإضلال بهذه الصورة المعينة خلاف الدليل ، وأيضاً فاللهتعالى ما أضله عن الجنة على قولكم بل هوأضل نفسه عن الجنة.
ثم قال تعالى : {وَتَرَى الظَّـالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} والمراد أنهم يطلبون لرجوع إلى الدنيا لعظم ما يشاهدون من العذاب ، ثم ذكر حالهم عند عرض النار عليهم فقال : {وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أي حال كونهم خاشعين حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذل ، ثم قال : {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة كما ترى الذي يتيقن أن يقتل فإنه ينظر إلى السيف كأنه لا يقدر على أن يفتح أجفانه عليه ويملأ عينيه منه كما يفعل في نظره إلى الحبوبات ، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار إنهم يحشرون عمياً فكيف قال ههنا إنهم ينظرون من طرف خفي ؟
قلنا لعلهم حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال : {وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } قال صاحب "الكشاف" : {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } إما أن يتعلق بخسروا أو يكون قول المؤمنين واقعاً في الدنيا ، وإما أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
ثم قال : {أَلا إِنَّ الظَّـالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ} أي دائم قال القاضي ، وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب : أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكفر قال تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} (البقرة : 254) والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال بعده هذه الآية {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّه } والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لأجل أن تشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة ومعلوم أن هذا لا يليق إلا بالكفار ثم قال : {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن سَبِيلٍ} وذلك يدل على أن المضل والهادي هو الله تعالى على ما هو قولنا ومذهبنا والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
616
(1/3977)

اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال : {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّه } وقوله {مِنَ اللَّه } يجوز أن يكون صلة لقوله {لا مَرَدَّ لَه } يعني لا يرده الله بعد ما حكم به ، ويجوز أن يكون صلة لقوله {يَأْتِىَ} أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده ، واختلفوا في المراد بذلك اليوم فقيل يوم ورود الموت ، وقيل يوم القيامة لأنه وصف ذلك اليوم بأنه لا مرد له وهذا الوصف موجود في كلا اليومين ، ويحتمل أن يكون معنى قوله {لا مَرَدَّ لَه } أنه لا يقبل التقديم والتأخير أو أن يكون معناه أن لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلافي.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
ثم قال تعالى في وصف ذلك اليوم {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ} ينفع في التخلص من العذاب {وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} ممن ينكر ذلك حتى يتغير حالكم بسبب ذلك المنكر ، ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما افترفتموه من الأعمال {فَإِنْ أَعْرَضُوا } أي هؤلاء الذين أمرتهم بالاستجابة أي لم يقبلوا هذا الأمر {فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } بأن تحفظ أعمالهم وتحصيها {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُ } وذلك تسلية من الله تعالى ، ثم أنه تعالى بيّن السبب في إصرارهم على مذاهبهم الباطلة ، وذلك أنهم وجدوا في الدنيا سعادة وكرامة الفوز بمطالب الدنيا يفيد الغرور والفجور والتكبر وعدم الانقياد للحق فقال : {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } ونعم الله في الدنيا وإن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى السعادات المعدة في الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سماها ذوقاً فبيّن تعالى أن الإنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير الذي حصل في الدنيا فإنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر ، ويظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقاصي السعادات ، وهذه طريقة من يضعف اعتقاده في سعادات الآخرة ، وهذه الطريقة مخالفة لطريقة المؤمن الذي لا يعد نعم الدنيا إلا كالوصلة إلى نعم الآخرة ، ثم بيّن أنه متى أصبتهم سيئة أي شيء يسوءهم في لحال كالمرض والفقر وغيرهما فإنه يظهر منه الكفر وهو معنى قوله {فَإِنَّ الانسَـانَ} والكفور الذي يكون مبالغاً في الكفران ولم يقل فإنه كفور ، ليبين أن طبيعة الإنسان تقتضي هذه الحالة إلا إذا أدبها الرجل بالآداب التي أرشد الله إليها ، ولما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك بقوله {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك الله ومله ، وأنه إنما حصل ذلك القدر تحت يده لأن الله أنعم عليه به فحينئذٍ يصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة والخدمة/ وأما إذا اعتقد أن تلك النعم ، إنما تحصل بسبب عقله وجده واجتهاده بقي مغروراً بنفسه معرضاً عن طاعة الله تعالى ، ثم ذكر من أقسام تصرف الله في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض بأن يجعله محروماً من الكل ، وهو المراد من قوله .
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
واعلم أن أهل الطبائع يقولوه السبب في حدوث الولد صلاح حال النطفة والرحم وسبب الذكورة استيلاء الحرارة ، وسبب الأنوثة استيلاء البرودة ، وقد ذكرنا هذا الفصل بالاستقصاء التام في سورة النحل ، وأبطلناه بالدلائل اليقينية ، وظهر أن ذكل من الله تعالى لا أنه من الطبائع والأنجم والأفلاك وفي الآسة سؤالات :
السؤال الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور فقال : {وَالارْضِا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} ثم في الآية الثانية قدم الذكور على الاناث فقال : {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا } فما السبب في هذا التقديم والتأخير ؟
السؤال الثاني : أنه ذكر الإناث على سبيل التنكير فقال : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا} وذلك الذكور بلفظ التعريف فقال : {وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} فما السبب في هذا الفرق ؟
السؤال الثالث : لم قال في إعطاء الإناث وحدهن ، وفي إعطاء الذكور وحدهم بلفظ الهبة فقال : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} وقال في إعطاء الصنفين معاً {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا } .
والسؤال الرابع : لما كان حصول الولد هبة من الله فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي حاجة في عدم حصوله إلى أن يقول {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ} ؟
.
السؤال الخامس : هل المراد من هذا الحكم جمع معينون أو المراد الحكم على الإنسان المطلق ؟
(1/3978)

والجواب : عن السؤال الأول من وجوه الأول : أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة والسرور والبهجة فإذا وهب الولد الأنثى أولاً ثم أعطاه الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم ، أما إذا أعطى الولد أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم فذكر تعالى هبة الولد الأنثى أولاً وثانياً هبة الولد الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون ذلك أليق بالكرم الوجه الثاني : أنه إذا أعطى الولد الأنثى أولاً علم أنه لا اعتراض له على الله تعالى فيرضى بذلك فإذا أعطاه الولد الذكر بعد ذلك علم أن هذه الزيادة فضل من الله تعالى وإحسان إليه فزيداد شكره وطاعته ، ويعلم أن ذلك إنما حصل بمحض الفضل والكرم والوجه الثالث : قال بعض المذكرين الأنثى ضعيفة ناقصة عاجزة فقدم ذكرها تنبيهاً على أنه كلما كان العجز والحاجة أتم كانت عناية الله به أكثر الوجه الرابع : كأنه يقال أيتها المرأة الضعيفة العاجزة إن أباك وأمك يكرهان وجودك فإن كانا قد كرها وجودك فأنا قدمتك في الذكر لتعلمي أن المحسن المكرم هو الله تعالى ، فإذا علمت المرأة ذلك زادت في الطاعة والخدمة والبعد عن موجبات الطعن والذم ، فهذه المعاني هي التي لأجلها وقع ذكر الإناث مقدماً على ذكر الذكور وإنما قدم ذكر الذكور بعد ذلك على ذكر الإناث لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل الأكمل مقدم على الأخس الأرذل ، والحاصل أن النظر إلى كونه ذكراً أو أنثى يقتضي تقديم ذكر الذكر على ذكر الأنثى ، أما العوارض الخارجية التي ذكرناها فقد أوجبت تقديم ذكر الأنثى على ذكر الذكر ، فلما حصل المقتضي للتقديم والتأخير في البابين لا جرم قدم هذا مرة وقدم ذلك مرة أخرى والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
وأما السؤال الثاني : وهو قوله لم عبر عن الإناث بلفظ التنكير/ وعن الذكور بلفظ التعريف ؟
فجوابه أن المقصود منه التنبيه على كون الذكر أفضل من الأنثى.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله لم قال تعالى في إعطاء الصنفين {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا } ؟
فجوابه أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان ، وكل واحد منهما يقال له زوج والكناية في {يُزَوِّجُهُمْ} عائدة على الإناث والذكور التي في الآية الأولى ، والمعنى يقرن الإناث والذكور فيجعلهم أزواجاً.
وأما السؤال الرابع : فجوابه أن العقيم هو الذي لا يولد له ، يقال رجل عقيم لا يلد ، وامرأة عقيم لا تلد وأصل العقم القطع ، ومنه قيل الملك عقيم لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق.
وأما السؤال الخامس : فجوابه قال ابن عباس {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا} يريد لوطاً وشعيباً عليهم السلام لم يكن لهما إلا النبات {وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} يريد إبراهيم عليه السلام لم يكن له إلا الذكور {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا } يريد محمداً صلى الله عليه وسلّم كان له من البنين أربعة القاسم ولطاهر وعبد الله وإبراهيم ، ومن البنات أربعة زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا } يريد عيسى ويحيى ، وقال الأكثرون من المفسرين هذ الحكم عام في حق كل الناس ، لأن المقصود بيان قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد فلم يكن للتخصيص معنى والله أعلم. ثم ختم الآية بقوله {إِنَّه عَلِيمٌ قَدِيرٌ} قال ابن عباس عليم بما خلق قدير على ما يشاء أن يخلقه والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 616
619
اعلم أنه تعالى لما بيّن كمال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه وفي الآية مسائل :
(1/3979)

المسألة الأولى : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} وما صح لأحد من البشر {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} إلا على أحد ثلاثة أوجه ، إما على الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام كما أوحى الله إلى أم موسى وإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده ، وعن نجاهد أوحى الله تعالى الزبور إلى داود عليه السلام في صدره ، وإما على أن يسمعه كلامه من غير واسطة مبلغ ، وهذا أيضاً وحي بدليل أنه تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحياً ، قوله تعالى : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } (طه : 13) وإما على أن يرسل إليه رسولاً من الملائكة فيبلغ ذلك الملك الذي الوحي إلى الرسول البشري فطريق الحصر أن يقال وصول الوحي من الله إلى البشر إما أن يكون من غير واسطة مبلغ أو يكون بواسطة مبلغ ، وإذا كان الأول هو أن يصل إليه وحي الله لا بواسطة شخص آخر فههنا إما أن يقال إنه لم يسمع عين كلام الله أو يسمعه ، أما الأول : وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر وما سمع عين كلام لله فهو المراد بقوله {إِلا وَحْيًا} وأم الثاني : وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه مسع عين كلام الله فهو المراد من قوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} وأما الثالث : وهو أنه وصل إليه لوحي بواسطة شخص آخر فهو المراد بقوله {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُ } واعلم أن كل واحد من هذه الأ"قسام الثلاثة وحي ، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي ، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة فكن تخصيص لفظ الوحي به أولى فهذا هو الكلام في تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض.
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
المسألة الثانية : القائلون بأن الله في مكان احتجوا بقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} وذلك لأن التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون الله من وراء حجاب ، وإنما يصحب ذلك لو كان مختصاً بمكان معين وجهة معينة والجواب : أن ظاهر اللفظ وإن أوهم ما ذكرتم إلا أنه دلت الدلائل العقلية والنقلية على أنه تعالى يمتنع حصوله في المكان والجهة ، فوجب حمل هذا اللفظ على التأويل ، والمعنى أن الرجل سمع كلاماً مع أنه لا يرى ذلك المتكلم كان ذلك شبيهاً بما إذا تكلم من وراء حجاب ، والمشابهة سبب لجواز المجاز.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يرى ، وذلك لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة ولو صحت رؤية الله تعالى لصح من الله تعالى أنه يتكلم مع العبد حال ما يراه العبد ، فحينئذٍ يكون ذلك قسماً رابعاً زائداً على هذه الأقسام الثلاثة ، والله تعالى نفى القسم الرابع بقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} إلا على هذه الأوجه الثلاثة الجواب : نزيد في اللفظ قيداً فيكون التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله في الدنيا إلا على أحد هذه الأقسام الثلاثة وحينئذٍ لا يلزم ما ذكرتموه/ وزيادة هذا القيد وإن كانت على خلاف الظاهر لكنه يجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآيات وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة والله أعلم.
المسألة الرابعة : أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم ، ومن سوى الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة ، وأما الأشعري وأتباعه فإنهم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهذه الحروف والأصوات.
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
(1/3980)

أما الفريق الأول : وهم الذين قالوا كلام الله تعالى هو هذه الحروف والكلمات فهم فريقان أحدهما : الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف وهؤلاء أخس من أن يذكروا في زمرة العقلاء ، واتفق أني قلت يوماً لبعضهم لو تكلم الله بهذه الحروف إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على هذ التعاقب والتوالي ، فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية كلام الله تعالى ، والثاني : باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة ، ولما سمع ذلك لرجل هذا الكلام قال لواجب علينا أن نقر ونمر ، يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل ، وأما العقلاء من الناس فقد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن حاصلة بعد أن كانت معدومة ، ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة ، أو لا يقال ذلك ، بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى ، واختلفوا أيضاً في أن هذه الحروف هل هي قائمة بذات الله تعالى أو يخلقها في جسم آخر ، فالأول : هو قول الكرامية والثاني : قول المعتزلة ، وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه الألفاظ والعبارات فقد اتفقوا على أن قوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} هو أن الملك والرسول يسمع ذلك الكلام المنزّه عن الحرف والصوت من وراء حجاب ، قالوا وكما لا يبعد أن ترى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفاً ولا صوتاً ؟
وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها مسموعة ، وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة وهذا القول قريب من قول المعتزلة والله أعلم.
المسألة الخامسة : قال القاضي هذه الآية تدل على حدوث كلام الله تعالى من وجوه الأول : أن قوله تعالى : {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} يدل عليه لأن كلمة أن مع المضرع تفيد الاستقبال الثاني : أنه وصف الكلام بأنه وحي لأن لفظ الوحي يفيد أنه وقع على أسرع الوجوه الثالث : أن قوله {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُ } يقتضي أن يكون الكلام الذي يبلغه الملك إلى الرسول البشر مثل الكلام الذي سمعه من الله والذي يبلغه إلى الرسول البشري حادث ، فلما كان الكلام الذي سمعه من الله مماثلاً لهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري ، وهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري حادث ومثل الحادث حادث ، وجب أن يقال إن الكلام الذي سمعه من الله حادث الرابع : أن قوله {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ} يقتضي كون الوحي حاصلاً بعد الإرسال ، وما كان حصوله متأخراً عن حصول غيره كان حادثاً والجواب : أنا نصرف جملة هذه الوجوه التي ذكرتموها إلى الحروف والأصوات ونعترف بأنها حادثة كائنة بعد أن لم تكن وبديهة العقل شاهدة بأن الأمر كذلك ، فأي حاجة إلى إثبات هذا المطلوب الذي علمت صحته ببديهة العقل وبظواهر القرآن ؟
والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
المسألة السادسة : ثبت أن الوحي من الله تعالى ، إما أن لا يكون بواسطة شخص آخر ، ويمتنع أن يكون كل وحي حاصلاً بواسطة شخص آخر/ وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور ، هما محالان ، فلا بد من الاعتراف بحصول وحي يحصل لا بواسطة شخص آخر ، ثم ههنا أبحاث :
البحث الأول : أن الشخص الأول الذي سمع وحي الله لا بواسطة شخص آخر كيف يعرف أن الكلام الذي سمعه كلام الله ، فإن قلنا إنه سمع تلك الصفة القديمة المنزّنة عن كونها حرفاً وصوتاً ، لم يبعد أنه إذا سمعها علم بالضرورة كونها كلام الله تعالى ، ولم يبعد أن يقال إنه يحتاج بعد ذلك إلى دليل زائد ، أما إن قلنا إن المسموع هو الحرف والصوت امتنع أن يقطع بكونه كلاماً لله تعالى ، إلا إذا ظهرت دلالة على أن ذلك المسموع هو كلام الله تعالى.
البحث الثاني : أن الرسول إذاسمعه من الملك كيف يعرف أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان مضل ؟
والحق أنه لا يمكنه القطع بذلك إلا بناء على معجزة تدل على أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان خبيث ، وعلى هذا التقدير ، فالوحي من الله تعالى لا يتم إلا بثلاث مراتب في ظهور المعجزات :
المرتبة الأولى : أن الملك إذا سمع ذلك الكلام من الله تعالى ، فلا بد له من معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى.
المرتبة الثانية : أن ذلك الملك إذا وصل إلى الرسول ، لا بد له أيضاً من معجزة.
المرتبة الثالثة : أن ذلك الرسول إذا أوصله إلى الأمة ، فلا بد له أيضاً من معجزة ، فثبت أن التكليف لا يتوجه على الخلق إلا بعد وقوع ثلاث مراتب في المعجزات.
البحث الثالث : أنه لا شك أن ملكاً من الملائكة قد سمع الوحي من الله تعالى ابتداء ، فذلك الملك هو جبريل ، ويقال لعل جبريل سمعه من ملك آخر ، فالكل محتمل ولو بألف واسطة ، ولو يوج ، ما يدل على القطع بواحد من هذه الوجوه.
(1/3981)

البحث الرابع : هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة ؟
المشهور أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من غير واسطة ، بدليل قوله تعالى : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } (طه : 13) وقيل إن محمداً صلى الله عليه وسلّم سمعه أيضاً لقوله تعالى : {فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى } (النجم : 10).
البحث الخامس : أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة ، فبتقدير أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلّم في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة ، ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى ، وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى ، لاحتمال أنه حصل الاشتباه في الصوت ، إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
المسألة السابعة : دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة ، فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا ، الأظهر منعه ، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل.
المسألة الثامنة : قرأ نافع {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} برفع اللام ، فيوحي بسكون الياء ومحله رفع على تقدير ، وهو يرسل فيوحي ، والباقون بالنصب على تأويل المصدر ، كأنه قيل ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً إو إسماعاً لكلامه من وراء حجاب أو يرسل ، لكن فيه إشكال لأن قوله وحياً أو إسماعاً اسم وقوله {أَوْ يُرْسِلَ} فعل ، وعطف الفعل على الاسم قبيح ، فأجيب عنه بأن التقدير : وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحياً أو يسمع إسماعاً من وراء حجاب أو يرسل رسولاً.
المسألة التاسعة : الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول ، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي ، وقال بعضهم : يجوز ذلك لقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ا أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِه فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَـاتِه ا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله/ وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة ، باطل من وجهين آخرين الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي" فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول ، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى ؟
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر" فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد ، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى ؟
المسألة العاشرة : قوله تعالى : {فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُ } يعني فويحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله ، وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه ، وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه ، بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص ، وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله {مَّا يَشَآءُ } والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
ثم قال تعالى في آخر الآية {إِنَّه عَلِىٌّ حَكِيمٌ} يعني أنه علي عن صفات المخلوقين حكيم يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام ، وأخرى بإسماع الكلام ، وثالثاً بتوسيط الملائكة الكرام ، ولما بيّن الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام ، قال : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } والمراد به القرآن وسماه روحاً ، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر.
ثم قال تعالى : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} واختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر ، وذكروا في الجواب وجوهاً الأول : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ} أي القرآن {وَلا الايمَـانُ} أي الصلاة ، لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } (البقرة : 143) أي صلاتكم الثاني : أن يحمل هذا على حذف المضاف ، أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان ، يعني من الذي يؤمن ، ومن الذي لا يؤمن الثالث : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد الرابع : الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به ، وإنه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى ، بل إنه كان عارفاً بالله تعالى ، وذلك لا ينافي ما ذكرناه الخامس : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية. فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوّة.
(1/3982)

ثم قال تعالى : {وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } واختلفوا في الضمير في قوله {وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ} منهم من قال إنه راجع إلى القرآن دون الإيمان لأنه هو الذي يعرف به الأحكام ، فلا جرم شبه بالنور الذي يهتدي به ، ومنهم من قال إنه راجع إليهما معاً ، وحسن ذلك لأن معناهما واحد كقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} (الجمعة : 11).
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
ثم قال : {نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدىً كما قال : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة لأنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله {نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله {نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله {نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } أمراً مغايراً لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار/ ولا يجوز أيضاً أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنّة لأنه تعالى قال : {وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } أي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء ، وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدينا ، وأيضاً فالهذاية إلى الجنّة عندكم في حق البعض واجب ، وفي حق الآخرين محظور ، وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله {مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } فائدة ، فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه.
ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فبيّن تعالى أنه كما أن القرآن يهدي فكذلك الرسول يهدي ، وبيّن أنه يهدي إلى صراط مستقيم وبيّن أن ذلك الصراط هو {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } نبّه بذلك على أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض ، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله.
ثم قال : {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} وذلك كالوعيد والزجر ، فبيّن أن أمر من لا يقبل هذه التكاليف يرجع إلى الله تعالى ، أي إلى حيث لا حاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 619
622
(1/3983)

سورة الزخرف
وهي تسع وثمانون آية مكية
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
جزء : 27 رقم الصفحة : 622
625
اعلم أن قوله {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} يحتمل وجهين الأول : أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون القسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم ويكتن قوله {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} ابتداء لكلام رخر الثاني : أن يكون التقدير هذه حم.
ثم قال : {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} فيكون المقسم عليه هو قوله {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} وفي المراد بالكتاب قولان أحدهما : أن المراد به القرآن ، وعلى هذا التقدير فقد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً الثاني : أن المراد بالكتاب الكتابة والخط وأقسم بالكتابة لكثرة ما فيثا من المنافع ، فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط فإن المتقدم إذا استنبط علماً وأثبته في كتاب ، وجاء المتأخر ووقف عليه أمكنه أن يزيد في استنباط الفوائد ، فبهذا الطريق تكاثرت الفوائد وانتهت إلى الغايات العظيمة ، وفي وصف الكتاب بكونه مبيناً من وجوه الألأل : أنه المبين للذين أنزل إليهم لأنه بلغتهم ولسانهم والثاني : المبين هو الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان كل باب عما سواه وجعلها مفصلة ملخصة.
واعلم أن وصفه بكونه مبيناً نجاز لأن المبين هو الله تعالى وسمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده.
أما قوله {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول : أن الآية تدل على أن القرآن مجعول ، والمجعول هو المصنوع المخلوق ، فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد أنه سماه عربياً ؟
قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول : أنه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أن من سماه عجمياً أن يصير عجمياً وإن كان بلغة العرب ومعلوم أنه باطل الثاني : أنه لو صرف الجعل إلى التسمية لزم كون التسمية مجعولة ، والتسمية أيضاً كلام الله ، وذلك يوجب أنه فعل بعض كلامه ، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل الثاني : أنه وصفه بكونه قرآناً ، وهو إنما سمي قرآناً لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعاً معمولاً الثالث : أنه وصفه بكونه عربياً ، وهو إنما كان عربياً لأن هذه الألفاظ إنما اختصت بمسمياتهم بوضع العرب واصطلاحاتهم ، وذلك يدل على كونه معمولاً ومجعولاً والرابع : أن القسم بغير الله لا يجوز على ما هو معلوم فكان التقدير حم ورب الكتاب المبين ، وتأكد هذا أيضاً بما روي أنه عليه السلام كان يقول يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم والجواب : أن هذا الذي ذكرتموه حق ، وذلك لأنكم إنما استدللتم بهذه الوجوه على كون هذه الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة محدثة مخلوقة ، وذلك معلوم بالضرورة ومن ينازعكم فيه ، بل كان كلامكم يرجع حاصله إلى إقامة الدليل على ما عرف ثبوته بالضرورة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 625
المسألة الثانية : كلمة لعلّ للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور ، فكان المراد منها ههنا : كي أي أنزلناه قرآناً عربياً لكي تعقلوا معناه/ وتحيطوا بفحواه ، قالت المعتزلة فصار حاصل الكلام إنا أنزلناه قرآناً عربياً لأجل أن تحيطوا بمعناه ، وهذا يفيد أميرين أحدهما : أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والدواعي والثاني : أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليهتدي به الناس ، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من الكل الهداية والمعرفة ، خلاف قول من يقول إنه تعالى أراد من البعض الكفر والإعراض ، واعلم أن هذا النوع من استدلالات المعتزلة مشهور ، وأجوبتنا عنه مشهورة ، فلا فائدة في الإعادة والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يدل على أن القرآن معلوم وليس فيه شيء مبهم مجهول خلافاً لمن يقول بعضه معلوم وبعضه مجهول.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {أُمِّ الْكِتَابِ} بكسر الألف والباقون بالضم.
المسألة الثانية : الضمير في قوله {وَإِنَّه } عائد إلى الكتاب الذي تقدم ذكره في {أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} واختلفوا في المراد بأم الكتاب على قولين : فالقول الأول : إنه اللوح المحفوظ لقوله {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } (البروج : 22).
واعلم أن على هذا التقدير فالصفات المذكورة ههنا كلها صفات اللوح المحفوظ.
الصفة الأولى : أنه أم الكتاب والسبب فيه أن أصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، ثم نقل إلى سماء الدنيا ، ثم أنزل حالاً بحسب المصلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه : "إن أول ما خلق الله القلم ، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق" فالكتاب عنده فإن قيل وما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علاّم الغيوب ويستحيل عليه السهو والنسيان ؟
قلنا إنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ، ثم إن الملائكة يشاهدون أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب ، استدلوا بذلك على كمال حكمة الله وعلمه.
الصفة الثانية : من صفات اللوح المحفوظ قوله {لَدَيْنَا} هكذا ذكره ابن عباس ، و"إنما خصه الله تعالى بهذا التشريف لكونه كتاباً جامعاً لأحوال جميع المحدثات ، فكأنه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته ، فلا جرم حصل له هذا التشريف ، قال الواحدي ، ويحتمل أن يكون هذا صفة القرآن والتقدير إنه لدينا في أم الكتاب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 625
الصفة الثالثة : كونه علياً والمعنى كونه عالياً عن وجوه الفساد والبطلان وقيل المراد كونه عالياً على جميع الكتب بسبب كونه معجزاً باقياً على وجه الدهر.
الصفة الرابعة : كونه حكيماً أي محكماً في أبواب البلاغة والفصاحة ، وقيل حكيم أي ذو حكمة بالغة ، وقيل إن هذه الصفات كلها صفات القرآن على ما ذكرناه والقول الثاني : في تفسير أم الكتاب أنه الآيات المحكمة لقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (آل عمران : 7) ومعناه أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
ثم قال تعالى : {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} وفيه مسائل :
(1/3984)

المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة والكسائي {أَن كُنتُمْ} بكسر الألف تقديره : ءن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحاً ، وقيل (إن) بمعنى إذ كقوله تعالى : {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة : 278) وبالجملة فالجزاء مقدم على الشرط ، وقرأ الباقون بفتح الألف على التعليل أي لأن كنتم مسرفين.
المسألة الثانية : قال الفرّاء والزجاج يقول ضربت عنه وأضربت عنه أي تركته وأمسكت عنه وقوله {صَفْحًا} أي إعراضاً والأصل فيه أنك توليت بصفحة عنقك وعلى هذا فقوله {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} تقديره : أفنضرب عنكم إضرابنا أو تقديره أفنصفح عنكم صفحاً ، واختلفوا في معنى الذكر فقيل معناه أفنرد عنكم ذكر عذاب الله ، وقيل أفنرد عنكم النصائح والمواعظ ، وقيل أفنرد عنكم القرآن ، وهذا استفهام رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة إذا عرفت هذا فنقول هذا الكلام يحتمل وجهين : الأول : الرحمة يعني أن لا نترككم مع سوء اختياركم بل نذكركم ونعظكم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق الثاني : المبالغة في التغليظ يعني أتظنون أن تتركوا مع ما تريدون ، كلا بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : الفاء في قوله {أَفَنَضْرِبُ} للعطف على محذوف تقديره أنهملكم فنضرب عنكم الذكر.
جزء : 27 رقم الصفحة : 625
ثم قال تعالى : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ} والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء لأن المصيبة إذا عمت خفت.
ثم قال تعالى : {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا} يعني أن أولئك المتقدمين الذين أرسل الله إليهم الرسل كانوا أشد بطشاً من قريش يعني أكثر عدداً وجلداً ، ثم قال : {وَمَضَى مَثَلُ الاوَّلِينَ} والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال : {وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الامْثَـالَ } (الفرقان : 39) وكقوله {وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} إلى قوله {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ} (إبراهيم : 45) والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 625
628
اعلم أنه قد تقدم ذكر المسرفين وهم المشركون وتقدم أيضاً ذكر الأنبياء فقوله {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم} يحتمل أن يرجع إلى الأنبياء ، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار إلا أن الأقرب رجوعه إلى الكفار ، فبيّن تعال أنهم مقرون بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الله العزيز الحكيم ، والمقصود أنهم مع كونهم مقرين بهذا المعنى يعبدون معه غيره وينكرون قدرته على البعث ، وقد تقدم الإخبار عنهم ، ثم إنه تعالى ابتدأ دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} ولو كان هذا من جملة كلام الكفار ولوجب أن يقولوا : الذي جعل لنا الأرض مهداً ، ولأن قوله في أثناء الكلام {فَأَنشَرْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا } لا يتعلق إلا بكلام الله ونظيره من كلام الناس يأن يسمع الرجل رجلاً يقول الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السامع لهذا الكلام الزاهد الكريم كأن ذلك السامع يقول أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد. إذا عرفت كيفية النظم في الآية فنقول إنها تدل على أنواع من صفات الله تعالى.
الصفة الأولى : كونه خالقاً للسموات والأرض والمتكلمون بينوا أن أول العمل بالله العلم بكونه محدثاً للعالم فاعلاً له ، فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر كونه خالقاً ، وهذاإنما يتم إذا فسرنا الخلق بالإحداث والإبداع.
الصفة الثانية : العزيز وهو الغالب وما لأجله يحصل المكنة من الغلبة هو القدرة وكان العزيز إشارة إلى كمال القدرة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 628
الصفة الثالثة : العليم وهو إشارة إلى كمال العلم ، واعلم أن كمال العلم والقدرة إذا حصل كان الموصوف به قادراً على خلق جميع الممكنات ، فلهذا المعنى أثبت تعالى كونه موصوفاً بهاتين الصفتين ثم فرع عليه سائر التفاصيل.
الصفة الرابعة : قوله {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كون الأرض مهداً إنما حصل لأجل كونها واقفة ساكنة ولأجل كونها موصوفة بصفات مخصوصة باعتبارها يمكن الانتفاع بها في الزراعة وبناء الأبنية في كونها ساترة لعيوب الأحياء والأموات ، ولما كان المهد موضع الراحة للصبي جعل الأرض مهداً لكثرة ما فيها من الراحات.
(1/3985)

الصفة الخامسة : قوهل {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} والمقصود أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا قدر كل أحد أن يذهب من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم ، ولولا أن الله تعالى هيأ تلك السبل ووضع عليها علامات مخصوصة وإلا لما حصل هذا الانتفاع.
ثم قال تعالى : {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} يعني المقصود من وضع السبل أن يحصل لكم المكنة من الاهتداء ، والثاني المعنى لتهتدوا إلى الحق في الدين.
الصفة السادسة : قوله تعالى : {وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا } وههنا مباحث أحدها : أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن الماء ينزل من السماء ، فهل الأمر كذلك أو يقال إنه ينزل من السحاب وسمي نازلاً من السماء لأن كل ماسماك فهو سماء ؟
وهذا البحث قد مرّ ذكره بالاستقصاء وثانيها : قوله {بِقَدَرٍ} أي إنما ينزل من السماء بقدر ما يحتاج إليه أهل تلك البقعة من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم بل يقدر حتى يكون معاشاً لكم ولأنعامكم وثالثها : قوله {فَأَنشَرْنَا بِه بَلْدَةً مَّيْتًا } أي خالية من النبات فأحييناها وهو الإنشار.
ثم قال : {كَذَالِكَ تُخْرَجُونَ} يعني أن هذا الدليل كما يدل على قدرة الله وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي أنشرت بعد ما كانت ميتة ، وقال بعضهم بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر ، وهذا الوجه ضعيف لأنه ليس في ظاهر اللفظ إلا إثبات الإعادة فقط دون هذه الزيادة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 628
الصفة السابعة : قوله تعالى {وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} قال ابن عباس الأزاج الضروب والأنواع كالحلو الحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى ، وقال بعض المحققين كل ما سوى الله فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف ، وكونها أزواجاً يدل على كونها ممكنة الوجود في ذواتها مخدثة مسبوقة بعدم ، فأما الحق سبحانه فهو الفرد المنزّه عن الشد والند والمقابل والمعاضد فلهذا قال سبحانه : {وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} أي كل ما هو زوج فهو مخلوق ، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزّه عن الزوجية ، وأقول أيضاً العلماء بعلم الحساب بينوا أن الفرد أفضل من الزوج من وجوه الأول : أن أقل الأزواج هو الإثنان وهو لا يوجد إلا عند ، حصول وحدتين فالزوج يحتاج إلى الفرد وهو الوحدة غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج الثاني : أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد هو الذي لا يقل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة ومقاومة فكان الفرد أفضل من الزوج الثالث : أن العدد الفرد لا بد وأن يكون أحد قسميه زوجاً والثاني فرداً فالعدد الفرد حصل فيه الزوج والفرد معاً ، وأما العدد الزوج فلا بد وأن يكون كل واحد من قسميه وزجاً والمشتمل على القسمين أفضل من الذي لا يكون كذلك الرابع : أن الزوجية عبارة عن كون كل واحد من قسميه معادلاً للقسم الآخر في الذات والصفات والمقدار ، وإذا كان كل ما حصل له من الكمال فمثله حاصل لغيره لم يكن هو كاملاً على الإطلاق ، أما الفرد فالفردية كائنة له خاصة لا لغيره ولا لمثله فكماله حاصلاً له لا لغيره فكان أفضل الخامس : أن الزوج لا بد وأن يكون كل واحد من قسميه مشاركاً للقسم الآخر في بعض الأمور ومغايراً له في أمور أخرى وما به المشاركة غير ما به المخالفة فكل زوجين فهما ممكنا الوجود لذاتيهما وكل ممكن فهو محتاج فثبت أن الزوجية منشأ الفقر والحاجة ، وأما الفردانية فهي منشأ الاستغناء والاستقلال لأن العدد محتاج إلى كل واحد من تلك الوحدات ، وأما كل واحد من تلك الوحدات فإنه غني عن ذلك العدد ، فثبت أن الأزواج ممكنات ومحدثات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقبل بنفسه الغين عن كل ما سواه ، فلهذا قال سبحانه : {وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 628
الصفة الثامنة : قوله {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ} وذلك لأن السفر إما سفر البحر أو البر ، أما سفر البحر فالحامل هو السفينة ، وأما سفر البر فالحامل هو الأنعام وههنا سؤالان :
السؤال الأول : لم لم يقل على ظهورها ؟
أجابوا عنه من وجوه الأول : قال أبو عبيدة التذكير لقوله ما والتقدير ما تركبون الثاني : قال الفرّاء أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزل الجيش والجند ، ولذلك ذكر وجمع الظهور الثالث : أن هذا التأنيث ليس تأنيثاً حقيقياً فجاز أن يختلف اللفظ فيه كما يقال عندي من النساء من يوافقك.
(1/3986)

السؤال الثاني : يقال ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك وقد ذكر الجنسين فكيف قال تركبون ؟
والجواب : غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المعتدي بواسطة.
ثم قال تعالى : {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ومعنى ذكر نعمة الله ، أن يذكروها في قلوبهم ، وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق وجه البحر ، وخلق الرياح ، وخلق جرم السفينة على وجه يتمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء وأراد ، فإذا تذكروا أن خلق البحر ، وخلق الرياح ، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصريفات الإنسان ولتحريكاته ليس من تدبير ذلك الإنسان ، وإنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير ، عرف أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى ، فيحمله ذلك على الانقياد والطاعة له تعالى ، وعلى الاشتغال بالشكر لنعمه التي لا نهاية لها.
ثم قال تعالى : {وَتَقُولُوا سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 628
واعلم أنه تعالى عين ذكراً معيناً لركوب السفينة ، وهو قوله {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } (هود : 41) وذكراً آخر لركوب الأنعام ، وهو قوله {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا} وذكر عند دخول المنازل ذكراً آخر ، وهو قوله {رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} (المؤمنون : 29) وتحقيق القول فيه أن الدابة التي يركبها الإنسان ، لا بد وأن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير ، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان ، ولكنه سبحانه خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر ، وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع ، أما خلقها الظاهر : فلأنها تمشي على أربع قوائم ، فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه ، وأما خلقها الباطن ، فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها الله سبحانه بحث تصير منقادة للإنسان ومسخّرة له ، فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار ، عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية ، فلا بد وأن يقول {سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ} قال أبو عبيدة : فلان مقرن لفلان ، أي ضابط له. قال الواحدي : وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرناً ، ومعن أنا قرن لفلان ، أي مثاله في الشدة ، فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها ، فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته ، روى صاحب "الكشفا" : عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال : "بسم الله ، فإذا استوى على الدابة ، قال الحمد لله على كل حال ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، إلى قوله لمنقلبون" وروى القاضي في "تفسيره" : عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام : رأى رجلاً ركب دابة ، فقال سبحان الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، ثم تقول : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وروي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أنه كان إذا سافر وركب راحلته ، كبر ثلاثاً ، ثم يقول : سبحان الذي سخّر لنا هذا ، ثم قال : اللّهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى ، اللّهم هون علينا السفر واطوِ عنا بعد الأرض/ اللّهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل ، اللّهم أصحبنا في سفرنا ، وأخلفنا في أهلنا" وكان إذا رجع إلى أهله يقول "آيبون تائبون ، لربنا حامدون" قال صاحب "الكشاف" : دلّت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه الأول : أنه تعالى قال : {لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} فذكره بلام كي ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل ، وهذايدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه ، وأراد الإصرار على الإنكار الثاني : أن قوله {لِتَسْتَوُا } يدل على أن فعله معلل بالأغراض الثالث : أنه تعالى بيّن أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد ، فلو كان فعل القبد فعلاً لله تعالى ، لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان الله في لسان العبد : وهذا بالطل ، لأنه تعالى قارد على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسايط.
جزء : 27 رقم الصفحة : 628
واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم ، فلا فائدة في الإعادة.
(1/3987)

ثم قال تعالى : {وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} واعلم أن وجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك في خطر الهلاك ، فإنه كثيراً ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان وراكب الدابة أيضاً كذلك لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب ، وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة يوجب تعريض النفس للهلاك ، فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت ، وأن يقطع أنه هالك لا محالة ، وأنه منقلب إلى الله تعالى وغير منقلب من قضائه وقدره ، حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان قد وطن نفسه على الموت.
جزء : 27 رقم الصفحة : 628
629
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف : 9) بين أنهم مع إقرارهم بذلك ، جعلوا له من عباده جزءاً والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : {جُزْءٌ} بضم الزاي والهمزة في كل القرآن وهما لغتان ، وأما حمزة فإذا وقف عليه قال جزا بفتح الزاي بلا همزة.
المسألة الثانية : في المراد من قوله {وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا } قولان : الأول : وهو المشهور أن المراد أنهم أثبتوا له ولداً ، وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه ، قال عليه السلام : "فاطمة بضعة مني" ولأن المعقول من الوابد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ، ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك اوصل ، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه ، فقوله {وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا } معنى جعلوا حكموا وأثبتوا وقالوا به ، والمعنى أنهم أثبتوا له جزءاً ، وذلك الجزء هو عبد من عباده.
واعلم أنه لو قال وجعلوا لعباده منه جزءاً ، أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض عباده وذلك هو الولد ، فكذا قوله {وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا } معناه وأثبتوا له جزءاً ، وذلك الجزء هو عبد من عباده ، والحاصل أنهم أثبتوا لله ولداً ، وذكروا في تقرير هذا القول وجوهاً أُخر ، فقالوا الجزء هو الأنثى في لغة العرب ، واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين فالأول قوله :
إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب
قد تجزىء الحرة المذكاة أحياناً وقوله :
جزء : 27 رقم الصفحة : 629
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
للعوسج اللدن في أبياتها غزل وزعم الزجاج والأزهري وصاحب "الكشاف" : أن هذه اللغة فاسدة ، وأن هذه الأبيات مصنوعة والقول الثاني : في تفسير الآية أن المراد من قوله {وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا } إثبات الشركاء لله ، وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله ، بل بعضها لله ، وبعضها لغير الله ، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم ، بل جعلوا له منهم بعضاً وجزءاً منهم ، قالوا والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول ، أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله ، وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله ، كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين.
ثم قال تعالى : {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَـاكُم بِالْبَنِينَ} .
واعلم أنه تعهالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه ، وذلك لأنه تعالى بيّن أن إثبات الولد لله محال ، وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتاً أيضاً محال ، أما بيان أن إثبات الولد لله محال ، فلأن الولد لا بد وأن يكون جزءاً من الوالد ، وما كان له جزء كان مركباً ، وكل مركب ممكن ، وأيضاً ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق ، وما كان كذلك فهو عبد محدث ، فلا يكون إلهاً قديماً أزلياً.
وأما المقام الثاني : وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتاً ، وذلك أن الابن أفضل من البنت ، فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده ، لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله ، وذلك مدفوع في بديهة العقل ، يقال أصفيت فلاناً بكذا ، أي آثرته به إيثاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك ، وهو كقوله {أَفَأَصْفَـاـاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} (الإسراء : 40) ثم بيّن نقصان البنات من وجوه الأول : قوله {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى ، فهجر البيت الذي فيه المرأة ، فقالت :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنيناليس لنا من أمرنا ماشينا
(1/3988)

وإنما نأخذ ما أعطينا وقوله {ظَلَّ} أي صار ، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء مسود مسواد ، والتقدير وهو مسود ، فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني : قوله {أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} وفيه مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 629
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ينشؤ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله ، أي يربى ، والباقون ينشأ ، بضم الياء وسكون النون وفتح الشين ، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء يناشأ ، قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء ، المغالاة بمعنى الإغلاء.
المسألة الثانية : المراد من قوله {أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ} التنبيه على نقصانها ، وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات ، لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ، ثم بيّن نقصان حالها بطريق آخر ، وهو قوله {وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين ، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها ، ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها ، فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها ، فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليه.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء ، وأنه حرام للرجال ، لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان ، وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام ، لقوله عليه السلام : "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله ، والتزين بزينة التقوى ، قال الشافعي :
فتدرعت يوماً للقنوع حصينة
أصون بها عرضي أوجعلها ذخراً
فولم أحذر الدهر الخئون وإنما
قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا
ففأعددت للموت الإله وعفوه
وأعددت للفقر التجلد والصبرا
ثم قال تعالى : {وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بقوله : {جَعَلُوا } ، أي حكموا به ، ثم قال : {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية ، وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوّة ، وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة ، فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية/ فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل ، ثم إنه تعالى هددهم فقال : {سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ وَيُسْـاَلُونَ} وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر ، وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد. قال أهل التحقيق : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه أولها : إثبات الولد لله تعالى وثانيها : أن ذلك الولد بنت وثالثها : الحكم على الملائكة بالأنوثة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 629
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : (عند الرحمن) بالنون ، وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه الأول : أنه يوافق قوله {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} (الأعراف : 206) وقوله {وَمَنْا عِندَهُ} (الأنبياء : 19) والثاني : أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه والثالث : أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمن ، لا عند هؤلاء الكفار ، فكيف عرفوا كونهم إناثاً ؟
وأما الباقون فقرأوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد ، كقائم وقيام ، وصائم وصيام ، ونائم ونيام ، وهي قراءة ابن عباس ، واختيار أبي عبيد ، قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم : إنهم بنات الله ، وأخبر أنهم عبيد ، ويؤيد هذه القراءة قوله {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} (الأنبياء : 26).
المسألة الثالثة : قرأ نافع وحده : بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة ، أي (أ) أحضروا خلقهم ، وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله ، والباقون : أشهدوا ، بفتح الألف ، من (أ) شهدوا ، أي أحضروا.
المسألة الرابعة : احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية ، فقال أما قراءة (عند) بالنون ، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ، ولفظة {قَرْنٍ هُمْ} توجب الحصر ، والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر ، وأما من قرأ (عباد) جمع العبد ، فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله {هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ} يفيد حصر العبودية فيهم ، فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالاً على الفضل والشرف ، كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالاً على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 629
630
اعلم أنه تعالى حكى نوعاً آخر من كفرهم وشبهاتهم ، وهو أنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، وفيه مسائل :
(1/3989)

المسألة الأولى : قالت المعتزلة هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين الأول : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } وهذا صريح قول المجبرة ، ثم إنه تعالى أبطله بقوله {مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} فثبت أنه حكى مذهب المجبرة ، ثم أردفه بالإبطال والإفساد ، فثبت أن هذا المذهب باطل ، ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا} إلى قوله {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآا إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} ، (الأنعام : 148) والوجه الثاني : أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم فأولها : قوله {وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا } (الزخرف : 15) ، وثانيها : قوله {وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا } (الزخرف : 19) ، وثالثها : قوله تعالى : {وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } فلما حكى هذه الأقاويل الثلاثة بعضها على إثر بعض ، وثبت أن القولين الأولين كفر محض فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً ، واعلم أن الواحدي أجاب في "البسيط" عنه من وجهين الأول : ما ذكره الزجاج : وهو أن قوله تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 630
{مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ } عائد إلى قولهم الملائكة إناث وإلى قولهم الملائكة بنات الله والثاني : أنهم أرادوا بقولهم {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } أنه أمرنا بذلك ، وأنه رضي بذلك ، وأقرنا عليه ، فأنكر ذلك عليهم ، فهذا ما ذكره الواحدي في الجواب ، وعندي هذان الوجهان ضعيفان أما الأول : فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين ، وبين وجه بطلانهما ، ثم حكى بعده مذهباً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين ، ثم حكم بالبطلان والوعيد فصرف هذا الإبطال عن هذا الذي ذكره عقيبه إلى كلام متقدم أجنبي عنه في غاية البعد وأما الوجه الثاني : فهو أيضاً ضعيف ، لأن قوله {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } ليس فيه بيان متعلق بتلك المشيئة ، والإجمال خلاف الدليل ، فوجب أن يكون التقدير لو شاء الله ألاة نعبدهم ما عبدناهم ، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة الله لعدم عبادتهم ، وهذا عين مذهب المجبرة ، فالإبطال والإفساد يرجع إلى هذا المعنى ، ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال إنهم إنما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية/ فلهذا السبب استوجبوا الطعن والذم ، وأجاب صاحب "الكشاف" عنه من وجهين الأول : أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوا مستهزئين ، وادعاء ما لا دليل عليه باطل الثاني : أنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء وهي : أنهم جعلوا له من عباده جزءاً وأنهم جعلوا الملائكة إناثاً ، وأنهم قالوا {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم ذكروه على طريق الجد ، وجب أن يكون الحال في حكاية القولين الأولين كذلك ، فلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين ، ومعلوم أنه كفر ، وأما القول بأن الطعن في القولين الأولين إنما توجه على نفس ذلك القول ، وفي القول الثالث لا على نفسه بل على سبيل الاستهزاء ، فهذايوجب تشويش النظم ، وأنه لا يجوز في كلام الله.
واعلم أن الجواب الحق عندي عن هذا الكلام ما ذكرناه في سورة الأنعام ، وهو أن القوم إنما ذكروا هذا الكلام لأنهم استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين ، وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم إن الله يريد الكفر من الكافر بل لأجل أنهم قالوا لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان ، وإذا صرفنا الذم والطعن إلى هذا المقام سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية ، وتمام التقرير مذكور في سورة الأنعام والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 630
(1/3990)

المسألة الثانية : أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال : {مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد الله الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفدر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحاً في الغائب فقال تعالى : {مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم ، وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى الله فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد ، فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح ، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى : {مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم.
ثم قال : {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزّه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل.
ثم قال : {أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ} يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله تعالى عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل ، أما إثباته بالعقل فهو باطل لقوله {مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍا إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} وأما إثباته بالنقل فهو أيضاً بالطل لقوله {أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِه فَهُم بِه مُسْتَمْسِكُونَ} والضمير في قوله {مِّن قَبْلِه } للقرآن أو للرسول ، والمعنى أنهم (هل) وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزّل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه ، وأن يتمسكوا به ، والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار ، ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلاً.
ثم قال تعالى : {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم مُّهْتَدُونَ} والمقصود أنه تعالى لما بيّن أن تمسك الجهال بطريقة التقليد أمر كان حاصلاً من قديم الدهر فقال : {وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى } وفي الآية مسائل :
جزء : 27 رقم الصفحة : 630
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {عَلَى ا أُمَّةٍ} بالكسر وكلتاهما من الأم وهو القصد ، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد كالرحلة للمرحول إليه ، والإمة الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد.
المسألة الثانية : لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى بيّن أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي ، ثم بيّن أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف ، وإنم ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين ، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ، ومما يدل عليه أيضاً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً ومعلوم أن ذلك باطل.
المسألة الثالثة : أنه تعالى بيّن أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه ، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله {وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن} والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق ، وإذاعرفت هذا علمت أن رأسي جميع الآفات حب الدينا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة ، فلهذا قال عليه السلام : "حب الدنيا رأس كل خطيئة".
ثم قال تعالى لرسوله : {قَـالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ } أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذات حكى الله عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى {قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ} وإن كان أهدى مما كنا عليه ، فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة ، فلهذا قال تعالى : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُم فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} والمراد منه تهديد الكفار والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 630
634
(1/3991)

اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف ، ثم بيّن أنه طريق باطل ومنهج فاسد ، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد ، أردفه بهذه الآية والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد وتقريره من وجهين : الأول : أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل فنقول : إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرماً أو جائزاً ، فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد ، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام ، وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده ، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء ، وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول إنه ترك دين الآباء ، وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء ، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ووجب تقليدعه في ترجيح الدليل على التقليد ، وإذا ثبت هذا فنقول : فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً ، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلاً ، فهذا طريق رقيق في إبطال التقليد وهو المراد بهذه الآية.
الوجه الثاني : في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا وفي الدين ، أنه تعالى بيّن أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جرم جعل الله دينه ومذهله باقياً في عقبه إلى يوم القيامة ، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت ، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة ، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدينا خير ولا أير ، فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى ، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية ، ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية.
جزء : 27 رقم الصفحة : 634
أما قوله {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} فقال الكسائي والفرّاء والمبرد والزجاج {بَرَآءٌ} مصدر لا يثنى وا يجمع مثل عدل ورضا وتقول العرب أنا البراء منك والخلاء منك ونحن الراء منك والخلاء ولا يقولون البراآن ولا البرؤن لأن المعنى ذوا البراء وذوو البراء فإن قلت برىء وخلى ثنيت وجمعت.
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال : {إِلا الَّذِى فَطَرَنِى} والمعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزّ وجلّ ، ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في آية أخرى أنه قال : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) وحكى عنه ههنا أنه قال : {سَيَهْدِينِ} فأجمع بينهما وقدر كأنه قال : فهو يهدين وسيهدين ، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال {وَجَعَلَهَا} أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} جارياً مجرى لا إله وقوله {إِلا الَّذِى فَطَرَنِى} جارياً مجرى قوله إلا الله فكان مجموع قوله {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى} جارياً مجرى قوله لا إله إلا الله ثم بيّن تعالى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في عقبه أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم/ وقيل وجعلها الله ، وقرىء كلمة على التخفيف وفي عقيبه.
ثم قال تعالى : {بَلْ مَتَّعْتُ هَـا ؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ} يعني أهل مكة وهم عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد {حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ} وهو القرآن {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والبينات فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً وكفروا به ، ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدينا فأعرضوا عن الحق ، قال صاحب "الكشاف" : إن قيل ما وجه قراءة من قرأ متعت بفتح التاء ؟
قلنا كأن الله سبحانه اعترض على ذاته في قوله {وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً فِى عَقِبِه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فقال بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد ، وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً ، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ثم يقبل على نفسه فيقول أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعل نفسه.
(1/3992)

جزء : 27 رقم الصفحة : 634
635
اعلم أن هذا هو النوع الرابع : من كفرياتهم التي حكاها الله تعالى عنهم في هذه السورة ، وهؤلاء المساكين قالوا منصب رسالة الله منصب شريف فلا يليق إلا برجل شريف ، وقد صدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة وهي أن الرجل الشريف هو الذي يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فلا تليق رسالة الله به ، وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال في إحدى القريتين وهي مكة والطائف ، قال المفسرون والذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي ، ثم أبطل الله تعالى هذه الشبهة من وجهين الأول : قوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } وتقرير هذا الجواب من وجوه أحدها : أنا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا ولم يقدر أحد من الخلق على تغييره فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوّة بأن لا يقدروا على التصريف فيه كان أولى وثانيها : أن يكون المراد أن اختصاص ذلك الغنى بذلك المال الكثير إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا إليه ، فكيف يليق بالعقل أن نجلع إحساننا إليه بكثرة المال حجة علينا في أن نحسن إليه أيضاً بالنبوّة ؟
وثالثها : إنا لما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمناصب الدينا لا لسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن نوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوّة لا لسبب سابق ؟
فهذا تقرير الجواب ، ونرجع إلى تفسير الألفاظ فنقول الهمزة في قوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } للإنكار الدال على التجهيل والتعجب من إعراضهم وتحكمهم أن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة ، ثم ضرب لهذا مثالاً فقال : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنا أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول ، وإنما فعلنا ذلك لأنا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحداً ولم يصر أحد منهم مسخراً لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدينا ، ثم إن أحداً من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا ، فإن عجزوا عن الإعراض عن حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها ودناءتها ، فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا وقضائنا في تخصيص العباد بمنصب النبوة والرسالة ؟
.
جزء : 27 رقم الصفحة : 635
المسألة الثانية : قوله تعالى : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواةِ} يقتضي أن تكون كل أقسام معايشهم إنتما تحصل بحكم الله وتقديره ، وهذا يقتضي أن يكون الرزق الحرام والحلال كله من الله تعالى والوجه الثاني : في الجواب ما هو المراد من قوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَا نَحْنُ} ؟
، وتقريره أن الله تعالى إذا خص بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدين فهذه الرحمة خير من الأموال التي يجمعها لأن الدينا على شرف الانقضاء والانقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآباد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 635
638
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أجاب عن الشبهة التي ذكروها بناء على تفضيل الغني على الفقير بوجه ثالث وهو أنه تعالى بيّن أن منافع الدينا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله وبين حقارتها بقوله {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم أحدها : أن يكون سقفهم من فضة وثانيها : معارج أيضاً من فضة عليها يظهرون وثالثها : أن نجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً أيضاً من فضة عليها يتكئون.
ثم قال : {وَزُخْرُفًا } وله تفسيران أحدها : أنه الذهب والثاني : أنه الزينة ، بدليل قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} (يونس : 24) فعلى التقدير الأول يكون المعنى ونجعل بهم مع ذلك ذهباً كثيراً ، وعلى الثاني أنا نعطيهم زينة عظيمة في كل باب ، ثم بيّن تعالى أن كل ذلك متاع الحياة الدينا ، وإنما سماه متاعاً لأن الإنسان يستمتع به قليلاً ثم ينقضي في الحال ، وأما الآخرة فهي باقية دائمة ، وهي عند الله تعهالى وفي حكمه للمتقين عن حب الدينا المقبلين على حب المولى ، وحاصل الجواب أن أولئك الجهال ظنوا أن الرجل الغني أولى بمنصظب الرسالة من محمد بسبب فقره ، فبيّن تعالى أن المال والجاه حقيران عند الله ، وأنهما شرف الزوال فحصولهما لا يفيد حصول الشرف والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 638
(1/3993)

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {سُقُفًا} بفتح السين وسكون القاف على لفظ الواحد لإرادة الجنس ، كما في قوله {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} (النحل : 26) والباقون سقفاً على الجمع واختلفوا فقيل هو جمع سقف ، كرهن ورهن ، قال أبو عبيد : ولا ثالث لهما ، وقيل السقف جمع سقوف ، كرهن ورهون وزبر وزبور ، فهو جمع الجمع.
المسألة الثالثة : قوله {لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ} فقوله {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله {لِمَن يَكْفُرُ} قال صاحب "الكشاف" : قرىء معارج ومعاريج ، والمعارج كمع معرج ، أو اسم جمع لمعراج ، وهي المصاعد إلى المساكن العالية كالدرج والسلالم عليها يظهرون ، أي على تلك المعارج يطهرون ، وفي نصب قوله {وَزُخْرُفًا } قولان : قيل لجعلنا لبيوتهم سقفاً من فضة ، ولجعلنا لهم زخرفاً وقيل من فضة وزخرف ، فلما حذف الخافض انتصب. وأما قوله {وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ} قرأ عاصم وحمزة {لَمَّا} بتشديد الميم ، والباقون بالتخفيف ، وأما قراءة حمزة بالتشديد فإنه جعل لما في معنى إلا ، وحكى سيبويه : نشدتك بالله لما فعلت ، بمعنى إلا فعلت ، ويقوي هذه القراءة أن في حرف أبي ، وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا/ وهذايدل على أن لما بمعنى إلا ، وأما القراءة بالتخفيف ، فقال الواحدي لفظة ما لغو ، والتقدير لمتاع الحياة الدنيا ، قال أبو الحسن : الوجه التخفيف ، لأن لما بمعنى إلا لا تعرف ، وحكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه تعالى إنما لم يعط الناس نعم الدنيا ، لأجل أنه لو فعل بهم ذلك لدعاهم ذلك إلى الكفر ، فهو تعالى لم يفعل بهم ذلك لأجل أن يدعوهم إلى الكفر ، وهذا يدل على أحكام أحدها : أنه إذا لم يفعل بهم ما يدعوهم إلى الكفر فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى وثانيها : أنه ثبت أن فعل اللطلفل قائم مقام إزاحة العذر والعلة ، فلما بيّن تعالى أنه لم يفعل ذلك إزاحة للعذر والعلة عنهم ، دل ذلك على أنه يجب أن يفعل بهم كل ما كان لطفاً داعياً لهم إلى الإيمان ، فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أنه يجب على الله تعالى فعل اللطف وثالثها : أنه ثبت بهذه الآية ، أن الله تعالى إنما يفعل ما يفعله ويترك ما يتركه لأجل حكمة ومصلحة ، وذلك يدل على تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله بالمصالح والعلل ، فإن قيل لما بيّن تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم ، لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر ، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سبباً لاجتماع الناس على الإسلام ؟
قلنا لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا ، وهذا الإيمان إيمان المنافقين ، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين ، حتى أن كل من دخل الإسلام ، فإنما يدخل فيه لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى ، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 638
ثم قال تعالى : {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـن ِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ} والمراد منه التنبيه على آفات الدنيا ، وذلك أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله ، ومن صار كذلك صار من جلساء الشياطين الضالين المضلين ، فهذا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء {وَمَن يَعْشُ} بضم الشين وفتحها ، والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشي ، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به ، قيل عشى ونظيره عرج لمن به الآفة ، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج ، قال الحطيئة :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
أي تنظر إليه نظر العشي ، لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ، وقرىء يعشو على أن من موصولة غير مضنة معنى الشرط ، وحق هذا القارىء أن يرفع {نُقَيِّضْ} ومعنى القراءة بالفتح ، ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو القرآن ، كقوله {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} (البقرة : 18) وأما القراءة بالضم فمعناها ومن يتعام عن ذكره ، أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتعامى ، كقوله تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} (النمل : 14) ، و{نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا} قال مقاتل : نضم إليه شيطاناً {فَهُوَ لَه قَرِينٌ} .
(1/3994)

ثم قال : {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} يعني وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى والحق وذكر الكناية عن الإنسان والشياطين بلفظ الجمع ، لأن قوله {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـن ِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا} يفيد الجمع ، وإن كان اللفظ على الواحد {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} يعني الشياطين يصدون الكفار عن السبيل ، واتلكفار يحسبون أنهم مهتدون ، ثم عاد إلى لفظ الواحد ، فقال : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَنَا} يعني الكافر ، وقرىء (جاءانا) ، يعني الكافر وشيطانه ، روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده ، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار ، فذلك حيث يقول {قَالَ يَـالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} والمراد يا ليت حصل بيني وبينك بعد على أعظم الوجوه/ واختلفوا في تفسير قوله {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} وذكروا فيه وجوهاً الأول : قال الأكثرون : المراد بعد المشرق والمغرب ، ومن عادة العرب تسمية الشيئين المتقابلين باسم أحدهما ، قال الفرزدق :
جزء : 27 رقم الصفحة : 638
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر ، ويقولون للكوفة والبصرة : البصرتان ، وللغداة والعصر : العصران ، ولأبي بكر وعمر : العمران ، وللماء والتمر : الأسودان الثاني : أن أهل النجوم يقولون : الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب ، هي حركة الفلك الأعظم ، والحركة التي من المغرب إلى المشرق ، هي حركة الكواكب الثابتة ، وحركة الأفلاك الممثلة التي للسيارات سوى القمر ، وإذاكان كذلك فالمشرق والمغرب كل واحد منهما مشرق بالنسبة إلى شيء آخر ، فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة الثالث : قالوا يحمل ذلك على مشرق الصيف ومشرق الشتاء وبينهما بعد عظيم ، وهذا بعيد عندي ، لأن المقصود من قوله {قَالَ يَـالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} المبالغة في حصول البعد ، وهذه المبالغة إنما تحصل عن ذكر بعد لا يمكن وجود بعد آخر أزيد منه ، والبعد بين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ليس كذلك ، فيبعد حمل اللفظ عليه الرابع : وهو أن الحس يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب ، وأما القمر فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب ، ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق ، وذلك يدل على أن مشرق حركة القمر هو المغرب ، وإذا ثبت هذا فالجانب المسمى بالمشرق هو مشرق الشمس ، ولكنه مغرب القمر ، وأما الجانب المسمى بالمغرب ، فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس ، وبهذا التقدير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين ، ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ ورعاية المقصود من سائر الوجوه ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أي الكافر يقول لذلك الشيطان يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت ، فهذا ما يتعلق بتفسير الألفاظ ، والمقصود من هذا الكلام تحقير الدنيا وبيان ما في المال والجاه من المضار العظيمة ، وذلك لأن كثرة المال والجاه تجعل الإنسان كالأعشى عن مطالعة ذكر الله تعالى ومن صار كذلك صار جليساً للشيطان ومن صار كذلك ضل عن سبيل الهدى والحق وبقي جليس الشيطان في الدنيا وفي القيامة ، ومجالسة الشيطان حالة توجب الضرر الشديد في القيامة بحيث يقول الكافر يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت فثبت بما ذكرنا أن كثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا ، وإذا ظهر هذا فقد ظهر أن الذين قالوا {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) ، قالوا كلاماً فاسداً وشبهة باطلة.
جزء : 27 رقم الصفحة : 638
ثم قال تعالى : {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} فقوله {أَنَّكُمْ} في محل الرفع على الفاعلية يعني ولن ينفعكم اليوم كونكم مشتركين في العذاب والسبب فيه أن الناس يقولون المصيبة إذا عمت طابت ، وقالت الخنساء في هذا المعنى :
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسيولا يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي فبيّن تعالى أن حصول الشركة في ذلك العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا والسبب فيه وجوه الأول : أن ذلك العذاب شديد فاشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر ، فلا جرم الشركة لا تفيد الخفة الثاني : أن قوماً إذا اشتركوا في العذاب أعان كل واحد منهم صاحبه بما قدر عليه فيحصل بسببه بعض التخفيف وهذا المعنى متعذر في القيامة الثالث : أن جلوس الإنسان مع قرينه يفيده أنواعاً كثيرة من السلوة. فبيّن تعالى أن الشيطان وإن كان قريناً إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقنبة وفي كتاب ابن مجاهد عن ابن عامر قرأ {إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ} بكسر الألف وقرأ الباقون أنكم بفتح الألف والله أعلم.
(1/3995)

جزء : 27 رقم الصفحة : 638
640
اعلم أنه تعالى لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمم والعمى وما أحسن هذا الترتيب ، وذلك لأن الإنسان في أول اشتغاله بطلب الدينا يكون كمن حصل بعينه رمد ضعيف ، ثم كلما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثركان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل ، لما ثبت في علوم العقل أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة فينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى فإذا واظب على تلك الحالة أياماً أخرى انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى ، فهذا ترتيب حسن موافق لما ثبت بالبراهين اليقينية ، روي أنه صلى الله عليه وسلّم كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وتمادياً في الغي ، فقال تعالى : {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ} يعني أنهم بلغوا في النفرة عنك وعن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالأصم ، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالأعمى ، ثم بيّن تعالى أن صممهم وعماهم إنما كان بسبب كونهم في ضلال مبين.
ولما بيّن تعالى أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم قال : {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} يريد حصول الموت قبل نزول النقمة بهم {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} بعدك أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فإنا مقتدرون على ذلك ، واعلم أن هذا الكلام يفيد كمال التسلية للرسول عليه السلام لأنه تعالى بيّن أنهم لا تؤثر فيهم دعوته واليأس إحدى الراحتين ، ثم بيّن أنه لا بد وأن ينتقم لأجله متهم إما حال حياته أو بعد وفاته ، وذلك أيضاً يوجب التسلية ، فبعد هذا أمره أن يستمسك بما أمره تعالى ، فقال : {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ } بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين.
جزء : 27 رقم الصفحة : 640
ولما بيّن تأثير التمسك بهذا الدين فيمنافع الدين بيّن أيضاً تأثيره في منافع الدنيا فقال : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي إنه يوجب الشرف العظيم لك ولقولنك حيث يقال إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله على رجل من قوم هؤلاء ، واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل ، ولو لم يكن الذكر الجميل أمراً مرغوباً فيه لما منَّ الله به على محمد صلى الله عليه وسلّم حيث قال : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ولما طلبه إبراهيم عليه السلام حيث قال : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84) ولأن الذكر الجميل قائم مقام الحياة الشريفة ، بل الذكر أفضل من الحياة لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي ، أما أثر الذكر الجميل فإنه يحصل في كل مكان وفي كل زمان.
ثم قال تعالى : {وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ} وفيه وجوه الأول : قال الكلبي تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل الثاني : قال مقاتل المراد أن من كذب به يسأل لم كذبه ، فيسأل سؤال توبيخ الثالث : تسألون هل عملتم بما دل عليه من التكاليف/ واعلم أن السبب الأقوى في إنكار الكفار لرسالة محمد صلى الله عليه وسلّم ولبغضهم له أنه كان ينكر عبادة الأصنام ، فبيّن تعالى أن إنكار عبادة الأصنام ليس من خواص دين محمد صلى الله عليه وسلّم ، بل كل الأنبياء والرسل كانوا مطبقين على إنكاره فقال : {وَسْـاَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـن ِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} وفيه أقوال الأول : معناه واسأل مؤمني أهل الكتاب أي أهل التوراة والإنجيل فإنهم سيخبرونك أنه لم يرد في دين أحد من الأنبياء عبادة الأصنام ، وإذا كان هذا الأمر متفقاً عليه بين كل الأنبياء والرسل وجب أن لا يجعلوه سبباً لبغض محمد صلى الله عليه وسلّم.
والقول الثاني : قال عطاء عن ابن عباس "لما أسرى به صلى الله عليه وسلّم إلى المسجد الأقصى بعث الله له آدم وجميع المرسلين من ولده ، فأذن جبريل ثم أقام فقال : يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الصلاة قال له جبريل عليه السلام واسأل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية ، فقال صلى الله عليه وسلّم لا أسأل لأني لست شاكاً فيه".
جزء : 27 رقم الصفحة : 640
والقول الثلث : أن ذكر السؤال في موضع لا يمكن السؤال فيه يكون المراد منه النظر والاستدلال ، كقول من قال : سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، فإنها إن لم تجبك جواباً أجابتك اعتباراً ، فههنا سؤال النبي صلى الله عليه وسلّم عن الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع ، فكان المراد منه انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبر فيها بفهمك والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 640
641
في الآية مسائل :
(1/3996)

المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من إعادة قصة موسى عليه السلام وفرعون في هذا المقام تقرير الكلام الذي تقدم ، وذلك لأن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بسبب كونه فقيراً عديم المال والجاه ، فبيّن الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة الباهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد فرعون عليه هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال : إني غني كثير المال والجاه ، ألا ترون أنه حصل لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ، وأما موسى فإنه فقير مهين وليس له بيان ولسان ، والرجل الفقير كيفليكون رسولاً من عند الله إلى الملك الكبير الغني ، فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفارمكة وهي قولهن {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) وقد أوردها بعينها فرعون على موسى ، ثم إنا انتقمنا منهم فأغرقناهم ، والمقظصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين أحدهما : أن الكفار والجهال أبداً يحتجون على الأنبياء بهذه الشبهة الركيكة فلا يبالي بها ولا يلتفت إليها والثاني : أن فرعون على غاية كمال حاله في الدنيا صار مقهوراً باطلاً ، فيكون الأمر في حق أعدائك هكذا ، فثبت أنه ليس المقصود من إعادة هذه القصة عين هذه القصة ، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة ، وعلى هذا فلا يكون هذا تقريراً للقصة ألبتة وهذا من نفائس الأبحاث والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 641
المسألة الثانية : في تفسير الألفاظ ذكر تعالى أنه أرسل موسى بآياته وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إلى فرعون وملائه أي قومه ، فقال موسى إني رسول ربّ العالمين ، فلما جاءهم بتلك الآيات إذا هم منها يضحكون ، قيل إنه لما ألقى عصاه صار ثعباناً ، ثم أخذ فعاد عصاً كما كان ضحكوا ، ولم عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا ، فإن قيل كيف جاز أن يجاب عن لما بإذا الذي يفيد المفاجأة ؟
قلنا لأن فعل المفاجأة معها مقدر كأنه قيل فلما جاءهم بآياتنا فاجأوا وقت ضحكهم.
ثم قال : {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } فإن قيل ظاهر اللفظ يقتضي كون كل واحد منها أفضل من التالي وذلك محال ، قلنا إذا أُريد المبالغة في كون كل من تلك الأشياء بالغاً إلى أقصى الدرجات في الفضيلة ، فقد يذكر هذا الكلام بمعنى أنه لا يبعد في أناس ينظرون إليها أن يقول هذا إن هذا أفضل من الثاني/ وأن يقول الثاني لا بل الثاني أفضل ، وأن يقول الثالث أفضل ، وحينئذ يصير كل واحد من تلك الأشياء مقولاً فيه إنه أفضل من غيره.
ثم قال تعالى : {وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عن الكفر إلى الإيمان ، قالت المعتزلة هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل وأنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا من الكفر إلى الإيمان ، قال المفسرون ومعنى قوله {وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ} أي بالأشياء التي سلطها عليها كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس.
ثم قال تعالى : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} فإن قيل كيف سموه بالساحر مع قولهم {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} ؟
قلنا فيه وجوه الأول : أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر ، لأنهم كانوا يستعظمون السحر ، وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر الثاني : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَ السَّاحِرُ} في زعم الناس ومتعارف قوم فرعون كقوله {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر : 6) أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه الثالث : أن قولهم {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} وقد كانوا عازمين على خلافه ألا ترى إلى قوله {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} فتسميتهم إياه بالسحر لا ينافي قولهم {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} ثم بيّن تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ذلك العهد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 641
ولما حكى الله تعالى معاملة فرعون مع موسى ، حكى أيضاً معاملة فرعون معه فقال : {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِه } والمعنى أنه أظهر هذا القول فقال : {قَالَ يَـاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى } يعني الأنهار التي فصلوها من النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس ، قيل كانت تجري تحت قصره ، وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
(1/3997)

ثم قال : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} وعنى بكونه مهيناً كونه فقيراً ضعيف الحال ، وبقوله {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} حبسة كانت في لسانه ، واختفلوا في معنى أم ههنا فقال أبو عبيدة مجازها بل أنا خير ، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ثم ابتدأ فقال : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} بمعنى بل أنا خير ، وقال الباقون أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وصع قوله {أَنَا خَيْرٌ} موضع تبصرون ، لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء ، وقال آخرون إن تمام الكلام عند قوله {أَمْ} وقوله {أَنَا خَيْرٌ} ابتداء الكلام والتقدير أفلا تبصرون لكنه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك : أتأكل أم أي أتأكل أم لا تأكل ، تقتصر على ذكر كلمة أم إيثاراً للاختصار فكذا ههنا ، فإن قيل أليس أن موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يزيل الرتة عن لسانه بقوله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه : 27) فأعطاه الله تعالى ذلك بقوله {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } (طه : 36) فكيف عابه فرعون بتلك الرتة ؟
والجواب : عنه من وجهين : الأول : أن فرعون أراد بقوله {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام والثاني : أنه عابه بما كان عليه أولاً ، وذلك أن موسى كان عند فرعون زماناً طويلاً وفي لسانه حبسة ، فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرتة لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عنه.
جزء : 27 رقم الصفحة : 641
ثم قال : {فَلَوْلا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب ، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة ، واختلف القراء في أسورة فبعضهم قرأ وآخرون أساورة فأسورة جمع سوار لأدنى العدد ، كقولك حمار وأحمرة وغراب وأغربة ، ومن قرأ أساورة فذاك لأن أساوير جمع أسوار وهو السوار فأساورة تكون الهاء عوضاً عن الياء ، نحو بطريق وبطارقة وزنديق وزنادقة وفرزين وفرازنة فتكون أساورة جمع أسوار ، وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالاً وجاهاً ، فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولاً من الله ، لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية ، والأخس لا يكون مخدوماً للأشرف ، ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالاً وجاهاً فهو أفضل وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) ثم قال : {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَـا اـاِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يجوز أن يكون المراد مقرنين به ، من قولك قرنته به فاقترن وأن يكون من قولهم اقترنوا بمعنى تقارنوا ، قال الزجاج معناه يمشون معه فيدلون على صحة نبوته.
ثم قال تعالى : {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَه فَأَطَاعُوه } أي طلب منهم الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به فأطاعوه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ} حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا} أغضبونا ، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له أتغضب يا أبا خالد ؟
فقال قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا} أي أغضبونا.
ثم قال تعالى : {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى محال وذكر لفظ الانتقام وكل واحد منهما من المتشابهات التي يجب أن يصار فيها إلى التأويل ، ومعنى الغضب في حق الله إرادة العقاب ، ومعنى الانتقام إرادة العقاب لجرم سابق.
ثم قال تعالى : {فَجَعَلْنَـاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا} السلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض فهو سلف والسلف أيضاً من تقدم من آبائك وأقاربك واحدهم سالف ، ومنه قول طفيل يرثي قومه :
جزء : 27 رقم الصفحة : 641
مضواً سلفاً قصد السبيل عليهم
وصرف المنايا بالرجال تقلب فعلى هذا قال الفراء والزجاج يقول : جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون ، أي جعلناهم سلفاً لكفار أمة محمد عليه السلام. وأكثر القراء قرأوا بالفتح وهو جمع سالف كما ذكرناه ، وقرأ حمزة والكسائي {سَلَفًا} بالضم وهو جمع سلف ، قال الليث : يقال سلف بضم اللام يسلف سلوفاً فهو سلف أي متقدم ، وقوله {وَمَثَلا لِّلاخِرِينَ} يريد عظة لمن بقي بعدهم وآية وتبرة ، قال أبو علي الفارسي المثل واحد يراد به الجمع ، ومن ثم عطف على سلف ، والدليل على وقوعه على أكثر من واحد قوله تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَـاهُ} (النحل : 75) فأدخل تحت المثل شيئين والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 641
643
في الآية مسائل :
(1/3998)

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها : قوله تعالى : {وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا } (الزخرف : 15) وثانيها : قوله تعالى : {وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا } (الزخرف : 19) وثالثها : قوله {وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } (الزخرف : 20) ورابعها : قوله {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) وخامسها : هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها ، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلاً أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم ، فأما أن ذلك المثل كيف كان ، وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً كلها محتملة فالأول : أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى ، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني : روي أنه لما نزل قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الأنبياء : 98) قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم : "بل لجميع الأمم" فقال خصمتك ورب الكعبة ، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيراً وعلى أمه ، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيراً والملائكة يعبدون ، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم وفرح القوم وضحكوا وضجوا ، فأنزل الله تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 643
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى ا أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء : 101) ونزلت هذه الآية أيضاً والمعنى ، ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحاً وجدلاً وضحكاً بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج ، وقالوا أآلهتنا أهون الوجه الثالث : في التأويل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهاً لأنفسهم ، قال كفار مكة إن محمداً يريد أن يجعل لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إلهاً لأنفسهم ، ثم عند هذا قالوا {خَيْرٌ أَمْ هُوَا مَا} يعني أآلهتنا خير أم محمد ، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا : إن محمداً يدعونا إلى عبادة نفسه ، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام ، وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى ، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه ، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى ، ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل/ فإن عيسى ليس إلا عبداً أنعمنا عليه ، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم : إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه ، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية.
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس ، واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون ، ومنهم من فرق ، أما القراءة بالضم فمن الصدود ، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه ، وأما بالكسر فمعناه يضجون.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاماً بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاماً بهمزة ومدة.
ثم قال تعالى : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا } أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} مبالغون في الخصومة ، وذلك لأن قوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} لا يتناول الملائكة وعيسى ، وبيانه من وجوه الأول : أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني : أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه ، فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله ، أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث : أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع : أن قوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه ، والخاص مقدم على العام.
جزء : 27 رقم الصفحة : 643
(1/3999)

المسألة الرابعة : القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا } (غافر : 4) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء ، وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق ، وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
ثم قال تعالى : {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم} لولدنا منك يا رجال {ضَلَلْنَا فِى الارْضِ} كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالية عن ذلك {وَإِنَّه } أي عيسى {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علماً لحصول العلم به ، وقرأ ابن عباس : {لَعِلْمٌ} وهو العلامة وقرىء للعلم وقرأ أبي : لذكر ، وفي الحديث : "أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به" {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} من المرية وهو الشك {وَاتَّبِعُونِ } واتبعوا هداي وشرعي {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور.
جزء : 27 رقم الصفحة : 643
645
اعلم أنه تعالى ذكر أنه لما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله {وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيه } يعني أن قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحق في تلك المسائل الخلافية ، وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين {لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} معناه فروع الدين ، فإن قيل لم لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه ؟
قلنا لأن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها ، فلا يجب على الرسول بيانها ، ولما بين الأصول والفروع قال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ} في الكفر به والإعراض عن دينه {وَأَطِيعُونِ} فيما أبلغه إليكم من التكاليف {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} والمعنى ظاهر {فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ} أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية ، وقيل اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وهو وعيد بيوم الأحزاب ، فإن قيل قوله {مِنا بَيْنِهِمْ } الضمير فيه إلى من يرجع ؟
قلنا إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله {قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} وهم قومه.
ثم قال : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} فقوله أن تأتيهم بدل من الساعة والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قالوا قوله {بَغْتَةً} يفيد عين ما يفيده قوله {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فما الفائدة فيه ؟
قلنا يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
جزء : 27 رقم الصفحة : 645
651
(1/4000)

اعلم أنه تعالى لما قال : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} (الزخرف : 66) ذكر عقيبه بعض ما يتعلق بأحوال القيامة فأولها : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} والمعنى {الاخِلاءُ} في الدنيا {يَوْمَـاـاِذ } يعني في الآخرة {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة {إِلا الْمُتَّقِينَ} يعني الموحدين الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى ، فإن خلتهم لا تصير عداوة ، وللحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن ، قالوا إن المحبة أمر لا يحصل إلا عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر ، فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبة لا محالة ، ومتى حصل اعتقاد أنه يوجب ضرراً حصل البغض والنفرة ، إذا عرفت هذا فنقول : تلك الخيرات التي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبة ، إما أن تكون قابلة للتغير والتبدل ، أو لا تكون كذلك ، فإن كان الواقع هو القسم الأول ، وجب أن تبدل تلك المحبة بالنفرة ، لأن تلك المحبة إنما حصلت لاعتقاد حصول الخير والراحة ، فإذا زال ذلك الاعتقاد ، وحصل عقيبه اعتقاد أن الحاصل هو الضرر والألم ، وجب أن تتبدل تلك المحبة بالبغضة ، لأن تبدل العلة يوجب تبدل المعلول ، أما إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبة ، خيرات باقية أبدية ، غير قابلة للتبدل والتغير ، كانت تلك المحبة أيضاً محبة باقية آمنة من التغير ، إذا عرفت هذا الأصل فنقول الذين حصلت بينهم محبة ومودة في الدنيا ، إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدينا وطيباتها ولذاتها ، فهذه المطالب لا تبقى في القيامة ، بل يصير طلب الدنيا سبباً لحصول الآلام والآفات في يوم القيامة ، فلا جرم تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة ونفرة في القيامة ، أما إن كان الموجب لحصول المحبة في الدنيا الاشتراك في محبة الله وفي خدمته وطاعته ، فهذا السبب غير قابل للنسخ والتغير ، فلا جرم كانت هذه المحبة باقية في القيامة ، بل كأنها تصير أقوى وأصفى وأكمل وأفضل مما كانت في الدنيا ، فهذا هو التفسير المطابق لقوله تعالى :
جزء : 27 رقم الصفحة : 651
{الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} وقد ذكرنا مراراً أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد ، بالمؤمنين المطيعين المتقين ، فقوله {فَبَشِّرْ عِبَادِ} كلام الله تعالى ، فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم {الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح أولها : أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وثانيها : أنه تعالى وصفهم بالعبودية ، وهذا تشريف عظيم ، بدليل أنه لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج ، قال : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } (الإسراء : 1) وثالثها : قوله {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} فأزال عنهم الخوف في يوم القيامة بالكلية/ وهذا من أعظم النعم ورابعها : قوله {وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية.
ثم قال تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} قيل {الَّذِينَ كَفَرُوا } مبتدأ ، وخبره مضمر ، والتقدير يقال لهم : أدخلوا الجنة ، ويحتمل أن يكون المعنى أعني الذين آمنوا ، قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة ، نادى منادٍ {الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم ، فيقال {الَّذِينَ ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فتنكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الحكم الثالث : من وقائع القيامة ، أنه تعالى إذا أمن المؤمنين من الخوف والحزن ، وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها ، ثم يقال لهم {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} والحبرة المبالغة في الإكرام فيما وصف بالجميل ، يعني يكرمون إكراماً على سبيل المبالغة ، وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم.
ثم قال : {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } قال الفراء : الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له ، فقوله {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} إشارة إلى المطعوم ، وقوله {وَأَكْوَابٍ } إشارة إلى المشروب ، ثم إنه تعالى ترك التفصيل وذكر بياناً كلياً ، فقال : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُا وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} .
جزء : 27 رقم الصفحة : 651
(1/4001)

ثم قال : {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله { أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (المؤمنون : 10 ، 11) ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم ، ذكر ههنا حال الفاكهة ، فقال : {لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} .
واعلم أنه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلّم إلى العرب أولاً ، ثم إلى العالمين ثانياً ، والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ، فلهذا السبب تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى ، تكميلاً لرغبتهم وتقوية لدواعيهم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 651
651
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد ، أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج القاضي على القطع بوعيد الفسق بقوله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ولفظ المجرم يتناول الكافر والفاسق ، فوجب كون الكل في عذاب جهنم ، وقوله {خَـالِدُونَ} يدل على الخلود ، وقوله أيضاً {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} يدل على الخلود والدوام أيضاً والجواب : أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ، يدل على أن المراد من لفظ المجرمين ههنا الكفار ، أما ما قبل هذه الآية فلأنه قال : {عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا} (الزخرف : 68 ، 69) فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين ، فإنهم يدخلون تحت قوله {الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم ، فوجب أن يكون داخلاً تحت ذلك الوعد ، ووجب أن يكون خارجاً عن هذا الوعيد ، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله {جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ} والمراد بالحق ههنا إما الإسلام وإما القرآن ، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن ، فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ، يدل على أن المراد من المجرمين الكفار ، والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 651
المسألة الثانية : أنه تعالى وصف عذاب جهنم في حق المجرمين بصفات ثلاثة أحدهما : الخلود ، وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أنه عبارة عن طول المكث ولا يفيد الدوام وثانيها : قوله : {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفف ولا ينقص من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت ونقص حرها وثالثها : قوله {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} والمبلس اليائس الساكت سكوت يائس من فرج ، عن الضحاك يجعل المجرم في تابوت من نار ، ثم يقفل عليه فيبقى فيه خالداً لا يرى ، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء {وَهُمْ فِيهَا} أي وهم في النار.
المسألة الثالثة : احتج القاضي بقوله تعالى : {وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ} فقال إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفه بقوله {وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ} وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عن نفسه ؟
أو ليس لو أثبتناه ظلماً لهم كان لا يزيد على ما يقوله القوم ، فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجل فقط ، بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً ، فلم يكن ذلك ظلماً من الله. قلنا : عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم ، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى ، فكأنه لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالماً لهم ، وذلك محال لأن من يكون ظالماً في فعل ، فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق ، فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين ؟
فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجع لزم نفي الصانع ، وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه ، ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله في العبد ، وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذٍ يلزمك ما أوردته علينا.
واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره ، إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده ، فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يذكره والله أعلم.
المسألة الرابعة : قرأ ابن مسعود {مِّن مَّالِ} بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ {وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا} فقال : ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم واجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها.
جزء : 27 رقم الصفحة : 651
(1/4002)

المسألة الخامسة : اختلفوا في أن قولنم {وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني ، وقال آخرون على وجه الاستغاثة ، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب ، وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بيّن أن مالكاً يقول لهم {إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ} وليس في القرآن متى أجابهم ، هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة ، فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافاً بهم وزيادة في غمهم ، فعن عبد الله بن عمر بعد أربعين سنة ، وعن غيره بعد مائة سنة ، وعن ابن عباس بعد ألف سنة والله أعلم بذلك المقدار.
ثم بيّن تعالى أن مالكاً لما أجابهم بقوله {إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ} ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال : {لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ} والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق ، فإن قيل كيف قال : {وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ} بعد ما وصفهم بالإبلاس ؟
قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة ، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم ، روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيقولون ادعوا مالكاً فيدعون {وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال : {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} والمعنى أم أبرموا أي مشركون مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله ، فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى : {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (الطور : 42) قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة ، وهو ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الأنفال : 30) وقد ذكرنا القصة.
ثم قال : {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُم } السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ، والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم {بَلَى } نسمعها ونطلع عليها {وَرُسُلُنَا} يريد الحفظة {يَكْتُبُونَ} عليهم تلك الأحوال ، وعن يحيى بن معاذ من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
جزء : 27 رقم الصفحة : 651
656
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {وَلَدٌ} بضم الواو وإسكان اللام والباقون بفتحها {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} قرأ نافع {فَأَنَا } بفتحة طويلة على النون والباقون بلا تطويل.
المسألة الثانية : اعلم أن الناس ظنوا أن قوله {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} لو أجريناه على ظاهره فإنه يقتضي وقوع الشك في إثبات ولد لله تعالى ، وذلك محال فلا جرم افتقروا إلى تأويل الآية ، وعندي أنه ليس الأمر كذلك وليس في ظاهر اللفظ ما يوجب العدول عن الظاهر ، وتقريره أن قوله {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} قضية شرطية والقضية الشرطية مركبة من قضيتين خبريتين أدخل على إحداهما حرف الشرط وعلى الأخرى حرف الجزاء فحصل بمجموعها قضية واحدة ، ومثاله هذه الآية فإن قوله {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ} قضية مركبة من قضيتين : إحداهما : قوله {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ} ، والثانية : قوله {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} ثم أدخل حرف الشرط وهو لفظة إن على لقضية الأولى وحرف الجزاء وهو الفاء على القضية الثانية فحصل من مجموعها قضية الأولى واحدة ، وهو القضية الشرطية ، إذ عرفت هذا فنقول القضية الشرطية لا تفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء ، وليس فيه إشعار بكون الشرط حقاً أو باطلاً أو بكون الجزاء حقاً أو باطلاً ، بل نقول القضية الشرطية الحقة قد تكون مركبة من قضيتين حقيتين أو من قضيتين باطلتين أو من شرط باطل وجزاء حق أو من شرط حق وجزاتء باطل ، فأما القسم الرابع وهو أن تكون القضية الشرطية الحقة مركبة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
(1/4003)

ولنبين أمثال هذه الأقسام الأربعة ، فإذا قلنا إن كان الإنسان حيواناً فالإنسان جسم فهذه شرطية حقة وهي مركبة من قضيتين حقيتين ، إحداهما قولنا الإنسان حيوان ، والثانية قولنا الإنسان جسم ، وإذا قلنا إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فهذه شرطية حقة لكنها مركبة من قولنا لخمسة زوج ، ومن قولنا لخمسة منقسمة بمتساويين وهما باطلان ، وكونهم باطلين لا يمنع من أن كيون استلزام أحدهما للآخر حقاً ، وقد ذكرنا أن القضية الشرطية لا تفيد إلا مجرد الاستلزام وإذا قلنا إن كان الإنسان حجراً فهو جسم ، فهذ جسم ، فهذا أيضاً حق لكنها مركبة من شرط باطل وهو قولنا الإنسان حجر ، ومن جزء حق وهو قولنا الإنسان جسم ، وإنما جاز هذالأن الباطل قد يكون بحيث يلزم من فرض وقوعه وقوع حق ، فإنا فرضنا كون لإنسان حجراً وجب كونه جسماً فهذا شرط باطل يستلزم جزءاً حقاً.
وأما القسم الرابع : وهو تركيب قضية شرطية حقة من شرط حق وجزاء باطل ، فهذا محال ، لأن هذا التركيب يلزم منه كون الحق مستلزماً للباطل وذلك محال بخلاف القسم الثالث فإنه يلزم منه كون الباطل مستلزماً للحق وذلك ليس بمحال ، إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى الآية فنقول قوله {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} قضية شرطية حقة من شرط باطل ومن جزاء باطل لأن قولنا كان للرحمن ولد باطل ، وقولنا أنا أول العابدين لذلك الولد باطل أيضاً إلا أنا بينا أن كون كل واحد منهما باطلاً لا يمنع من أن يكون استلزام أحدهما للآخر حقاً كما ضربنا من المثال في قولنا إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين ، فثبت أن هذا لكلام لا امتناع في إجرائه على ظاهره ، ويكون المراد منه أنه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لذلك الولد ، فإن لسلطان إذا كان له ولد فكما يجب على عبده أن يخدمه فكذلك يجب عليه أن يخدم ولده ، وقد بينا أن هذا التركيب لا يدل على الاعتراف بإثبات ولد أم لا.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
(1/4004)

ومما يقرب من هذا الباب قوله {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) فهذا الكلام قضية شرطية والشرط هو قولنا {فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ} والجزاء هو قولنا فالشرط في نفسه باطل والجزاء أيضاً باطل لأن الحق أنه ليس فيهما آلهة ، وكلمة لو تفيد الشيء باتنفاء غيره لأنهما ما فسدتا ثم مع كون الشرط باطلاً وكون الجزاء باطلاً كان استلزام ذلك الشرط لهذا الجزء حقاً فكذا ههنا ، فإن قالوا الفرق أن هننا ذكر الله تعالى هذه الشرطية بصيغة لو فقال : {يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ} وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، وأما في لآية التي نحن في تفسيرها إنما ذكر الله تعالى كلمة إن وهذه الكلمة لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، بل هذه الكلمة تفيد الشك في أنه هل حصل الشرط أم لا ، وحصول هذا الشك للرسول غير ممكن ، قلنا القرف الذي ذكرتم صحيح إلا أن مقصودنا بيان أنه لا يلزم من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صادقتين أو كذبتين على ما قررناه أما قوله إن لفظة أن تفيد حصول الشرط هل حصل أم لا ، قلنا هذا ممنوع فإن حرف ءن حرف الشرط وحرف الشرط لا يفيد كون الشرط مستلزماً للجزار ، وأما بيان أن ذلك الشرط معلوم الوقوع أو مشكوك الوقوع ، فاللفظ لا دلالة فيه عليه البتة ، فظهر من المباحث التي لخصناها أن الكلام ههنا ممكن الإجراء على ظاهره من جميع الوجوه وأنه لا حاجة فيه ألبتة إلى التأويل ، والمعنى أنه تعالى قال : {قُلْ} يا محمد {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} لذلك الولد وأنا أول الخادمين له ، والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته ألبتة ، فكيف أقول به ؟
بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده ؟
وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر ، فهذا ما عندي في هذ الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى لتأويل ، والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي قاله هو الحق ، أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً الأول : قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية ، والأقوى أن يقال المعنى {إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ} في زعمكم {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ} أي الموحدين لله المكذبين لوقلكم بإضافة الولد إليه ، ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام : إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له ، والأول : باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له ، لأن قوله إن كان الشيء إثباتاً في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول ، والثاني : أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد ، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
الوجه الثاني : قالوا معناه : إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد ، وقرأ بعضهم (عبدين).
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد : إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به ، فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب ، وإن كن المرد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين ، فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل ، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً.
والوجه الثالث : قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النفية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة ، وقد بينا أنه لا ضرورة ألبتة فلم يجز المصير إليها والله أعلم.
(1/4005)

ثم قال سبحانه وتعالى : {سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} والمعنى أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزأ بوجه من الوجوه ، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله ، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتجزىء والتبعيض ، وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد له ، ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال : {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} والمقصود منه التهديد ، يعني قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا وهم لم يلتفتوا إليها لأجل كونهم مستغرقين في طلب المال والجاه والرياسة فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الذي وعدوا فيه بما وعدوا ، والمقصود منه التهديد.
ثم قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ} وفي أبحاث :
البحث الأول : قال أبو علي نظرت فيما يرتفع به إله فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير وهو الذي في السماء هو إله.
والبحث الثاني : هذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في المساء ، لأنه تعالى بيّن بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالإلهية كنسبته إلى الأرض ، فلما كان إلهاً للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك يجب أن يكون إلهاً للسماء مع أنه لا يكون مستقراً فيها ، فإن قيل وأي تعلق لهذا الكلام بنفي الولد عن الله تعالى ؟
قلنا تعلقه به أنه تعالى خلق عيسى بمحض كن فيكون من غير واسطة النطفة والأب ، فكأنه قيل إن هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولداً لله سبحانه ، لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السموات والأرض وما بينهما من انتفاء حصول الولدية هناك.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
ثم قال تعالى : {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} وقد ذركنا في سورة الأنعام أن كون تعالى حكيماً عليماً ينافي حصول الولد له.
ثم قال : {وَتَبَارَكَ الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} واعلم أن قوله تبارك إما أن يكون مشتقاً من الثبات والبقاء/ وإما أن يكون مشتقاً من كثرة الخير ، وعلى التقديرين فكل واحد من هذين الوجهين ينافي كون عيسى عليه السلام ولداً لله تعالى ، لأنه إن كان المراد منه الثبات والبقاء فعيس عليه السلام لم يكن واجب البقاء والدوام ، لأنه حدث بعد أن لم يكن ، ثم عند النصارى أنه قتل ومات ومن كان كذلك لم يكن بينه وبين الباقي الدائم الأزلي مجانسة ومشابهة ، فامتنع كونه ولداً له ، وإن كان المراد بالبركة كثرة الخيرات مثل كونه خالقاً للسموات والأرض وما بينهما فعيسى لم يكن كذلك بل كان محتاجاً إلى الطعام وعند النصارى أنه كان خائفاً من اليهود وبالآخرة أخذوه وقتلوه ، فالذي هذا صفته كيف يكون ولدً لمن كان خالقاً للسموات والأرض وما بينهما
وأما قوله {وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} فالمقصود منه أنه لما شرح كمال قدرته فكذلك شرح كمال علمه ، والمقصود التنبيه على أن من كان كاملاً في الذات والعلم والقدرة على الحد الذي شرحناه امتنع أن يكون ولده في العجز وعدم الوقوف على أحوال العالم بالحد الذي وصفه النصارى.
ولما أطنب الله تعالى في نفي الولد أردفه ببيان نفي الشركاء فقال : {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَـاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ} ذكر المفسرون في هذه الآية قولين أحدهما : أن الذين يدعون من دونه الملائكة وعيسى وعزيز ، والمعنى أن الملائكة وعيس وعزيزاً لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق ، روي أن النصر بن الحرث ونفراً معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد ، فأنزل الله هذه الآية يقول لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد ثم استثنى فقال : {الشَّفَـاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} والمعنى على هذا القول هؤلاء لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق ، فأضمر اللام أو يقال التقدير إلا شفاعة من شهد بلحق فحذف المضاف ، وهذ على لغة من يعدي الشفاعة بغير لام ، فيقول شفعت فلاناً بمعنى شفعت له كما تقول كلمته وكلمت له ونصحته ونصحت له والقول الثاني : ىن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله ، وقوله {إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} الملائكة وعيسى وعزيز ، والمعنى أن الأشياء التي عبدها الكفار لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق ، وهم الملائكة وعيسى وعزيز فإن لهم شفاعة عند الله ومنزلة ، ومعنى من شهد بالحق من شهد أنه لا إله إلا الله.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
(1/4006)

ثم قال تعالى : {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد ألبتة ، واحتج القائلون بأن إيمان المقلد لا ينفع ألبتة ، فقالوا بيّن الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك ، وهذا لم يحصل إلا عند الدليل ، فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع ألبتة.
ثم قال تعالى : {وَلَا ِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرون إلى الاعتراف بوجود الإله للعالم ، قال الجبائي وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا لا إله لهم غيره ، وقوم إبراهيم قالوا {وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ} (إبراهيم : 9) فيقال لهم لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله ، والدليل على قولنا قوله تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا} (النمل : 14) وقال موسى لفرعون {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَا ؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ بَصَآا ِرَ} (الإسراء : 102) فالقراءة بفتح التاء في علمت تدل على أن فرعون كان عارفاً بالله ، وأما قوم إبراهيم حيث قالوا {وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ} فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوة.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى ذكر هذا الكلام في أول هذه السورة وفي آخرها ، والمقصود التنبيه على أنهم لما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام خبيثة لا تضر ولا تنفع ، بل هي جمادات محضة.
وأما قوله {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} معناه لم تكذبون على الله فتقولون إن الله أمرنا بعبادة الأصنام ، وقد احتج بعض أصحابنا به على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم بقوله {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وأجاب القاضي بأن من يضل في فهم الكلام أو في الطريق يقال له أين يذهب بك ، والمراد أين تذهب ، وأجاب الأصحاب بأن قول القائل أين يذهب بك ظاهره يدل على أن ذاهباً آخر ذهب به ، فصرف الكلام عن حقيقته خلاف الأصل الظاهر ، وأيضاً فإن الذي ذهب به هو الذي خلق تلك الداعية في قلبه ، وقد ثبت بالبرهان الباهر أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
ثم قال تعالى : {وَقِيلِه يَارَبِّ إِنَّ هَا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} وفيه مباحث :
الأول : قرأ الأكثرون {وَقِيلِه } بفتح اللام وقرأ عاصم وحمزة بكسر اللام ، قال الواحدي وقرأ أناس من غير السبعة بالرفع ، أما الذين قرؤا بالنصب فذكر الإخفش والفراء فيه قولين أحدهما : أنه نصب على المصدر بتقدير وقال قيله وشكا شكواه إلى ربه يعني النبي صلى الله عليه وسلّم فانتصب قيله بإضمار قال والثاني : أنه عطف على ما تقدم من قوله {أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَا هُم } (الزخرف : 80) وذكر الزجاج فيه وجهاً ثالثاً : فقال إنه نصب على موضع الساعة لأن قوله {وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} معناه أنه علم الساعة ، والتقدير علم الساعة ، وقيله ، ونظيره قولك عجبت من ضرب زيد وعمراً ، وأما القراءة يبالجر فقال الأخفش والفراء والزجاج إنه معطوف على الساعة ، أي عنده علم الساعة ، وعلم قيله يا رب ، قال المبرد العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه لأنه يجوز أن يفصل بين المنصوب وعامله والمجرور يجوز ذلك فيه على قبح ، وأما القراءة بالرفع ففيها وجهان الأول : أن يكون {وَقِيلِه } مبتدأ وخبره ما بعده والثاني : أن يكون معطوفاً على علم الساعة على تقدير حذف المضاف معناه وعنده علم الساعة وعلم قيله ، قال صاحب "الكشاف" : هذه الوجوه ليست قوية في المعنى لا سيما وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضاً ، ثم ذكر وجهاً آخر وزعم أنه أقوى مما سبق ، وهو أن يكون النصب والجر على إضمار حرف القسم وحذفه والرفع على قولهم أيمن الله وأمانة الله ويمين الله ، يكون قوله {إِنَّ هَا ؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم كأنه قيل وأقسم بقيله يا رب أو وقيله يا رب قسمي ، وأقوله هذا الذي ذكره صاحب "الكشاف" متكلف أيضاً وههنا إضمار امتلأ القرآن منه وهو إضمار اذكر ، والتقدير واذكر قيله يا رب ، وأما القراءة بالجر ، فالتقدير واذكر وقت قيله يا رب ، وإذا وجب التزام الإضمار فلأن يضمر شيئاً جرت العادة في القرآن بالتزام إضمار أولى من غيره ، وعن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله {وَقِيلِه يَارَبِّ} المراد وقيل يا رب والهاء زيادة.
البحث الثاني : القيل مصدر كالقول ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم : "نهى عن قيل وقال" قال الليث تقول العرب كثر فيه القيل والقال ، وروى شمر عن أبي زيد يقال ما أحسن قيلك وقولك وقالك ومقالتك خمسة أوجه.

جزء : 27 رقم الصفحة : 656
البحث الثالث : الضمير في قيله لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
البحث الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما ضجر منهم وعرف إصرارهم أخبر عنهم أنهم قوم لا يؤمنون وهو قريب مما حكى الله عن نوح أنه قال : {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُه وَوَلَدُهُ ا إِلا خَسَارًا} (نوح : 21).
ثم إنه تعالى قال له : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} فأمره بأن يصفح عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب ، والصفح هو الإعراض.
ثم قال : {وَقُلْ سَلَامٌ } قال سيبويه إنما معناه المتاركة ، ونظيره قول إبراهيم لأبيه {سَلَامٌ عَلَيْكَا سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } (مريم : 47) وكقوله {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ} (القصص : 55).
قوله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} والمقصود منه التهديد. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر تعلمون بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون.
المسألة الثانية : احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر ، وأقول إن صظح هذا الاستدلال فهذا يوجب الاقتصار على نجرد قوله سلام وأن يقال للمؤمن سلام عليكم. والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر.
المسألة الثالثة : قال ابن عباس قوله تعالى : {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ } منسوخ بآية السيف ، وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل ، لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ ، فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ ، وأيضاً فمثله يمين الفور مشهورة عند الفقهاء وهي دالة على أن اللفظ قد يتقيد بحسب قرينة العرف ، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ والله أعلم بالصواب.
جزء : 27 رقم الصفحة : 656
658
(1/4007)

سورة الدخان
خمسون وتسع آيات مكية
إلا قوله {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
جزء : 27 رقم الصفحة : 658
660
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} وجوه من الاحتمالات أولها : أن يكون التقدير : هذه حم والكتاب المبين كقولك هذا زيد والله وثانيها : أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله {حم } ثم يقال {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} ، وثالثها : أن يكون التقدير : وحم ، والكتاب المبين ، إنا أنزلناه ، فيكون ذلك في التقدير قسمين على شيء واحد.
المسألة الثانية : قالوا هذا يدل على حدوث القرآن لوجوه الأول : أن قوله {حم } تقديره : هذه حم ، يعني هذاشيء مؤلف من هذه الحروف ، والمؤلفد من الحروف المتعاقبة محدث الثاني : أنه ثبت أن الحلف لا يصح بهذه الأشياء بل بإله هذه الأشياء فيكون التقدير ورب حم ورب الكتاب المبين ، وكل من كان مربوباً فهو محدث الثالث : أنه وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الجمع فمعناه أنه مجموع والمجموع محل تصرف الغير ، وما كان كذلك فهو محدث الرابع : قوله {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} والمنزل محل تصرف الغير ، وما كان كذلك فهو محدث ، وقد ذكرنا مراراً أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروف المتعاقبة والأصوات المتوالية محدث ، والعلم بذلك ضروري بديهي ، لا ينازع فيه إلا من كان عديم العقل وكان غير عارف بمعنى القديم والمحدث ، وإذا كان كذلك فكيف ينازع في صحة هذه الدلائل ، إنما الذي ثبت قدمه شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات.
المسألة الثالثة : يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله على أنبيائه ، كما قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} (الحديد : 25) ويجوز أن يكون المراد اللوح المحفوظ ، كما قال : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُا وَعِندَه ا أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد : 39) وقال : {وَإِنَّه فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} (الزخرف : 4) ويجوز أن يكون المراد به القرآن ، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة ، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن ، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم رجل له حاجة إليه : أستشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك.
جزء : 27 رقم الصفحة : 660
(1/4008)

المسألة الرابعة : {الْمُبِينِ} هو المشتمل على بيان ما بالناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم ، فوصفه بكونه مبيناً ، وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى ، لأجل أن الإبانة حصلت به ، كما قال تعالى : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى } (النمل : 76) وقال في آية أخرى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف : 3) وقال : {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ} (الروم : 35) فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة ، فكأنه ذو لسان ينطق ، والمعنى فيه المبالغة في وصفه بهذا المعنى.
المسألة الخامسة : اختلفوا في هذه الليلة المباركة ، فقال الأكثرون : إنها ليلة القدر/ وقال عكرمة وطائفة آخرون : إنها ليلة البراءة ، وهي ليلة النصف من شعبان أما الأولون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه أولها : أنه تعالى قال : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) وههنا قال : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر ، لئلا يلزم التناقض وثانيها : أنه تعالى قال : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (البقرة : 185) فبيّن أن إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان ، وقال ههنا {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } فوجب بأن تكون هذه الليلة واقعة في شهر رمضان ، وكل من قال إن هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان ، قال إنها ليلة القدر ، فثبت أنها ليلة القدر وثالثها : أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر {تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَـامٌ هِىَ} (القدر : 4 ، 5) وقال أيضاً ههنا {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وهذا مناسب لقوله {تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وههنا قال : {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ } وقال في تلك الآية {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} وقال ههنا {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ }
جزء : 27 رقم الصفحة : 660
(1/4009)

وقال في تلك الآية {سَلَـامٌ هِىَ} وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى ورابعها : نقل محمد بن جرير الطبري في "تفسيره" : عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه ، والإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه ، والقرآن لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان ، والليلة المباركة هي ليلة القدر وخامسها : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم ، لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ، ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب ذلك الزمان ، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات ، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته ، فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم ومرتبة رفيعة ، ومعلوم أن منصب الدين أعلى وأعظم من منصب الدينا ، وأعلى الأشياء وأشرفها منصباً في الدين هو القرآن ، لأجل أن به ثبتت نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل في سائر كتب الله المنزّلة ، كما قال في صفته {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه } (المائدة : 48) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ، ودركات أرباب الشقاوات ، فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً منه فلو كان نزوله إنما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر ، لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الأولى ، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر التي وقعت في رمضان ، علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة ، وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية ، هي ليلة النصف من شعبان ، فما رأيت لهم فيه دليلاً يعول عليه ، وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس ، فإن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه كلام فلا مزيد عليه ، وإلا فالحق هو الأول ، ثم إن هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أن ليلة النصف من شعبان لها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصك ، وليلة الرحمة ، وقيل إنما سميت بليلة البراءة ، وليلة الصك ، لأن البندار إذا استوفى الخلاج من أهله كتب لهم البراءة ، كذلك الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة ، وقيل هذه الليلة مختصة بخمس خصال الأول : تفريق كل أمر حكيم فيها ، قال تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والثانية : فضيلة العبادة فيها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا ، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان" ، الخصلة الثالثة : نزول الرحمة ، قال عليه السلام : "إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب" والخصلة الرابعة : حصول المغفرة ، قال صلى الله عليه وسلّم : "إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة ، إلا لكاهن ، أو مشاحن ، أو مدمن خمر ، أو عاق للوالدين ، أو مصر على الزنا" والخصلة الخامسة : أنه تعالى أعطى رسوله في هذه الليلة تمام الشفاعة ، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر ، فأعطي الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر ، فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير ، هذا الفصل نقلته من "الكشاف" ، فإن قيل لا شك أن الزمان عبارة عن المدة الممتدة التي تقديرها حركات الأفلاك والكواكب ، وأنه في ذاته أمر متشابه الأجزاء فيمتنع كون بعضها أفضل من بعض ، والمكان عبارة عن الفضاء الممتد والخلاء الخالي فيمتنع كون بعض أجزائه أشرف من البعض ، وإذا كان كذلك كان تخصيص بعض أجزائه بمزيد الشرف دون الباقي ترجيحاً لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وإنه محال ، قلنا القول بإثبات حدوث العالم وإثبات أن فاعله فاعل مختار بناء على هذا الحرف وهو أنه لا يبعد من الفاعل المختار تخصيص وقت معين بإحداث العالم فيه دون ما قبله وما بعده ، فإن بطل هذا الأصل فقد بطل حدوث العالم وبطل الفاعل المختار وحينئذ لا يكون الخوض في تفسير القرآن فائدة ، وإن صح هذا الأصل فقد زال ما ذكرتم من السؤال ، فهذا هو الجواب لالمعتمد ، والناس قالوا لا يبعد "أن يخص الله تعالى بعض الأوقات بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعياً للمكلف إلى الإقدام على الطاعات في ذلك الوقت ، ولهذا السبب بيّن أنه تعالى أخفاه في الأوقات وماعيته لأنه لم يكن معيناً جوز المكلف في كل وقت معين أن يكون هو ذلك الوقت الشريف فيصير ذلك حاملاً له على المواظبة على الطاعات في كل الأوقات ، وإذا وقعت على هذا الحرف ظهر عندك أن الزمان والمكان إنما فازا بالتشريفات الزائدة تبعاً لشرف الإنسان فهو الأصل وكل ما سواه فهو تبع له والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 660
(1/4010)

المسألة السادسة : روي أن عطية الحروري سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) وقوله {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور ؟
فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع هذا في نفسك ولم تجد جوابه هلكت ، نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور ، وهو في السماء الدنيا ، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالا. والله أعلم.
المسألة السابعة : في بيان نظم هذه الآيات ، اعلم أن المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها : بيان تعظيم القرآن بحسب ذاته الثاني : بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الذي نزل فيه الثالث : بيان تعظيمه بحسب شرف منزلته ، أما بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه أحدها : أنه تعالى أقسم به وذلك يدل على شرفه وثانيها : أنه تعالى أقسم به على كونه نازلاً في ليلة مباركة ، وقد ذكرنا أن القسم بالشيء على حالة من أحوال نفسه يدل على كونه في غاية الشرف وثالثها : أنه تعالى وصفه بكونه مبيناً وذلك يدل أيضاً على شرفه في ذاته.
وأما النوع الثاني : وهو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الذي أنزل فيه فهو قوله {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } وهذا تنبيه على أن نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه وجلالته/ ثم نقول إن قوله {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } يقتضي أمرين : أحدها : أنه تعالى أنزله والثاني : كون تلك الليلة مباركة فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجرى مجرى البيان لكل واحد منهما ، أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} يعني الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به ، وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران : أحدهما : أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم ، والثاني : أن ذلك الأمر الحكيم مخصوصاً بشرف أنه إنما يطهر من عنده ، وإليه الإشارة بقوله {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ } .
وأما النوع الثالث : فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} فبيّن أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى ، ثم بيّن أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } وكان الواجب أن يقال رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ، ثم بيّن أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم ، ويعلم أنواع حاجاتهم ، فلهذا قال : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض.
جزء : 27 رقم الصفحة : 660
المسألة الثامنة : في تفسير مفردات هذه الألفاظ ، أما قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } فقد قيل فيه إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة ، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف ، وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرائيل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدينا وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
أما قوله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ} أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قوله فرقت الشيء أفرقه فرقاً وفرقاناً ، قال صاحب "الشكاف" وقرىء يفرق بالتشديد ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصل كل والفارق هو الله عز وجل ، وقرأ زيد بن علي نفرق بالنون.
أما قوله {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} فالحكيم معناه ذو الحكمة ، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى ، فما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة ، وهذا من الإسناد بالمجازي ، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجاز ، ثم قال : {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ } وفي انتصاب قوله {أَمْرًا} وجهان : الأول : أنه نصب على الاختصاص ، وذلك أنه تعالى بيّن شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة ، ثم زاد في بين شرفها بأن قال أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كائناً من لدنا ، وكما اقتضه علمنا وتدبيرنا والثاني : أنه نصب على الحال وفيه ثلاثة أوجه : الأول : أن يكون حال من أحد الضميرين في {أَنزَلْنَـاهُ} ، إما من ضمير الفاعل أي : إنا أنزلناه آمرين أمراً أو من ضمير المفعول أي : إنا أنزلناه في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل والثالث : ما حكاه أبوعلي الفارسي عن أبي الحسن زحمهما الله أنه حمل قوله {أَمْرًا} على الحال وذو الحال قوله {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وهو نكراً.
(1/4011)

ثم قال : {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} يعني أنا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء.
جزء : 27 رقم الصفحة : 660
ثم قال : {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولاً له.
ثم قال : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين ، إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم ، وإما أن لا يذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم ، وإن لم يذكروها فهي تعالى عالم بها فثبت أن كونه سمعيعاً عليماً يقتضي أن ينزل رحمته عليهم.
ثم قال : {رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} وفيه مسائل :
المسألة لأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الباء من رب عطفاً على قوله {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } والباقون بالرفع عطفاً على قوله {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية أن المنزل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة.
المسألة الثالثة : الفائدة في قوله {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} من وجوه الأول : قال أبو مسلم معناه إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه ، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا ، كقولهم فلان منجد منهم أي يريد نجداً وتهامة والثاني : قال صاحب "الكشاف" كانوا يقرون بأن للسموت والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب سبحانه وتعالى ، ثم قيل إن هذا هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون يأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين ، كما تقول هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وسمعت قصته ، ثم إنه تعالى رد أن يكونوا موقنين بقوله {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ} وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن جد وحقيقة بل قول مخلوط بهزء ولعب والله أعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 660
663
اعلم أن المراد بقوله {فَارْتَقِبْ} انتظر ويقال ذلك في المكروه ، والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله {هَـاذَا عَذْبٌ} ويجوز أيضاً أن يكون {يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ} مفعول الارتقاب وقوله {بِدُخَانٍ} فيه قولان :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال : "اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف" فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشاً شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف ، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الرويات ومقاتل مجاهد واختيار الفراء والمزجاج وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وكان ينكر أن يكنن الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخاناً ، فالحاصل أن هذا الدخان هو الصلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع ، وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجيهن الأول : أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء ، وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء الثاني : أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول كان بيننا أمر ارتفع له دخان ، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
جزء : 27 رقم الصفحة : 663
(1/4012)

والقول الثاني : في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة ، قالو فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام ، وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ ، وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طلب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول : أن قوله {يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ} يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل ، وإنه لا يجوز الثاني : أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً ، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم ، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخاناً مبيناً والثالث : أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس ، وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر ، قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا رسلو الله صلى الله عليه وسلّم الآية وقال دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" رواه صاحب "الشكاف" وروى القاضي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "باكروا بالأعمال ستاً ، وذلك منه طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة" أما القائلون بالقول الأول ، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز ، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً ، فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه ، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون {رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} وهذ إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سيفان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به ، فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم ، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك ، لأن عند صهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا {رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} ولم يصح أيضاً أن يقال لهم {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ} والجواب : لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة ، ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون ، فإاذ زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق ، وإذ كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه والله اعلم.
جزء : 27 رقم الصفحة : 663
ولنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى : {يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله {بِدُخَانٍ} وفي قوله {هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قولان الأول : أنه منصوب لمحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك الثاني : قال الجرجاني صاحب "النظم" هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال هذا العدو فاستقبله والغرض منه التنبيه على القرب.
ثم قال : {رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} فإن قلنا التقدير : يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه ههنا والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد ، وعلى القول الثاني الدخان المهلك {إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي بمحمد وبالقرآن ، والمراد منه الوعيد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
ثم قال تعالى : {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى } يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من لمعجزات القاهرة والبينات الباهرة {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} ولم يلتفتوا إليه {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان منهم من كان يقول إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله {إِنَّمَا يُعَلِّمُه بَشَرٌا لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} (النحل : 103) وكقوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ} (الفرقان : 4) ومنهم من كان يقول إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.
(1/4013)