الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
وأجاب الكعبي عنه من وجهين : الأول : أنه تعالى لما حلم عنهم ، وترك البحر لهم يبساً وطمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مراراً فيحلم عنه ، فإذا تمادى في غيه وأراه قدرته عليه قال له أنا أحوجتك إلى هذا وصيرتك إليه بحلمي ، لا يريد بذلك أنه أراد ما فعل الثاني : يحتمل أنه أزلفهم أي جمعهم ليغرقهم عند ذلك ولكي لا يصلوا إلى موسى وقومه والجواب : عن الأول أن الذي فعله بنو إسرائيل هل له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم أوليس له أثر فيه فإن كان الأول فقد حصل المقصود لأن لفعل الله تعالى أثراً في حصول الداعية المستلزمة لذلك الإزلاف ، وإن لم يكن له فيه أثر ألبتة فقد زال التعلق فوجب أن لا تحسن الإضافة ، وأما إذا تعب أحدنا في طلب غلام له ، فإنما يجوز أن يقول أتعبني ذلك الغلام لما أن فعل ذلك الغلام صار كالمؤثر في حصول ذلك التعب لأنه متى فعل ذلك الفعل فالظاهر أنه يصير معلوماً للسيد ، ومتى علمه صار علمه داعياً له إلى ذلك التعب ومؤثراً فيه فصحت الإضافة. وبالجملة فعندنا القادر لا يمكنه الفعل إلا بالداعي فالداعي مؤثر في صيرورة القادر مؤثراً في ذلك الفعل فلا جرم حسنت الإضافة والجواب : عن الثاني وهو أنه أزلفهم ليغرقهم فهو أنه تعالى ما أزلفهم بل هم بأنفسهم ازدلفوا ثم حصل الغرق بعده ، فكيف يجوز إضافة هذا الإزلاف إلى الله تعالى ؟
أما على قولنا فإنه جائز لأنه تعالى هو الذي خلق الداعية المستعقبة لذلك الازدلاف والجواب : عن الثالث وهو أن حلمه تعالى عنهم وحملهم على ذلك ، فنقول ذلك الحلم هل له أثر في استجلاب هذه الداعية أم لا ؟
وباقي التقرير كما تقدم والجواب : عن الرابع هو بعينه الجواب عن الثاني والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 511
أما قوله تعالى : {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَه ا أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ} فالمعنى أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى وقومه حتى خرجوا منه وأغرق فرعون وقومه لأنه لما تكامل دخولهم البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا في ذلك الماء.
/ أما قوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً } فالمعنى أن الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرته لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته من حيث وقع ما كان مصلحة في الدين والدنيا ، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له ، وعلى اعتبار المعتبرين به أبداً فيصير تحذيراً من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله ، ويكون فيه اعتبار لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، فإنه قال عقيب ذلك : {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} وفي ذلك تسلية له فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره/ فإن الذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام التي تبهر العقول لم يمنع من أن أكثرهم كذبوه وكفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر وغيره. فكذلك أنت يا محمد لا تعجب من تكذيب أكثرهم لك واصبر على إيذائهم فلعلهم أن يصلحوا ويكون في هذا الصبر تأكيد الحجة عليهم.
وأما قوله : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فتعلقه بما قبله أن القوم مع مشاهدة هذه الآية الباهرة كفروا ، ثم إنه تعالى كان عزيزاً قادراً على أن يهلكهم ، ثم إنه تعالى ما أهلكهم بل أفاض عليهم أنواع رحمته فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله.
القصة الثانية ـ قصة إبراهيم عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 511
514
(1/3431)

اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد صلى الله عليه وسلّم بسبب كفر قومه / ثم إنه ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى : ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضاً أن حزن إبراهيم عليه السلام بهذا السبب كان أشد من حزنه ، لأن من عظيم المحنة على إبراهيم عليه السلام أن يرى أباه وقومه في النار وهو لا يتمكن من إنقاذهم إلا بقدر الدعاء والتنبيه فقال لهم : {مَا تَعْبُدُونَ} وكان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول لتاجر الرقيق ما مالك ؟
وأنت تعلم أن ماله الرقيق ، ثم تقول : الرقيق جمال وليس بمال. فأجابوا إبراهيم عليه السلام بقولهم : {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَـاكِفِينَ} والعكوف : الإقامة على الشيء ، وإنما قالوا : لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل ، واعلم أنه كان يكفيهم في الجواب أن يقولوا نعبد أصناماً ، ولكنهم ضموا إليه زيادة على الجواب وهي قولهم : {أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَـاكِفِينَ} وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهاراً لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بعبادة الأصنام فقال إبراهيم عليه السلام منبهاً على فساد مذهبهم {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} قال صاحب "الكشاف" : لا بد في يسمعونكم من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم وقرأ قتادة {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك وتقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة ، فقال لهم فإذا كان من تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر فكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه ؟
فعند هذه الحجة القاهرة لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى أن قالوا : {وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال ، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذماً لطريقة إبراهيم عليه السلام التي مدحها الله تعالى فأجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله : {قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ} أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ، ولا بأن يكون في فاعلية كثرة أو قلة.
جزء : 24 رقم الصفحة : 514
أما قوله : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} ففيه أسئلة :
السؤال الأول : كيف يكون الصنم عدواً مع أنه جماد ؟
جوابه من وجهين : أحدهما : أنه تعالى قال في سورة مريم (82) في صفة الأوثان {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم/ فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل وثانيها : أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب / المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار ، ثم إنها صارت أسباباً لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة ، فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء ، فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو وثالثها : المراد في قوله : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى } عداوة من يعبدها ، فإن قيل فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة ؟
جوابه : لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين.
السؤال لثاني : لم قال : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى } ولم يقل فإنها عدو لكم ؟
جوابه : أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ، (وآثرت عبادة من الخير كله منه) وأراهم (بذلك) أنها نصيحة نصح بها نفسه ، فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، فيكون ذلك أدعى للقبول.
السؤال الثالث : لم لم يقل فإنهم أعدائي ؟
جوابه العدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجماعة ، قال :
وقوم عليَّ ذوي (مرة)
أراهم عدواً وكانوا صديقاً
ومنه قوله تعالى : {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّا } (الكهف : 50) وتحقيق القول فيه ما تقدم في قوله : {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 16).
السؤال الرابع : ما هذا الاستثناء ؟
جوابه أنه استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 514
517
(1/3432)

اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين ، حكى عنه أيضاً ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله ، ثم حكى عنه ما سأله عنه ، أما الأوصاف فأربعة : أولها : قوله : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} .
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله : {الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } (الأعلى : 2 ، 3) واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه ، فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق ، فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات ، ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات ، وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم / الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (ص : 72) فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج ، ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر ، وأيضاً قال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون : 14) وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة ، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح ، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية.
جزء : 24 رقم الصفحة : 517
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية ، فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث ، وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها ، فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلاً ، وما في كل واحد منها من القوى كاسراً سورة كيفية الآخر ، فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار ، وكذا القول في الرطب واليابس ، وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي تجذب الغذاء ، ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية ، ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها ، ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولاً وعرضاً ، ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك ، ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر ، وبعضها فاعلة : إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات ، ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة ، والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية ، ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني ، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها ، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي ، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية. أما الخلق فبتصييره موجوداً بعد أن كان معدوماً ، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله : {خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين ، ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال : {خَلَقَنِى} فذكره بلفظ الماضي وقال : {يَهْدِينِ} ذكره بلفظ المستقبل ، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا ، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم. أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية ، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر ، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة ، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها : قوله :
جزء : 24 رقم الصفحة : 517
(1/3433)

{وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق ، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه ، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة / والتمييز لم تكمل هذه النعمة ، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها : قوله : {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وفيه سؤال وهو أنه لم قال : {مَرِضْتُ} دون أمرضني ؟
وجوابه من وجوه : الأول : أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ، ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم ؟
لقالوا التخم الثاني : أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض ، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي. أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها ، إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع ، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضاً بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع ، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى ، وما أضاف المرض إليه وثالثها : وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم ، والمرض مكروه وليس من النعم ، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى ، فإن نقضته بالإماتة فجوابه : أن الموت ليس بضرر ، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به ، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض ، وأيضاً فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها : قوله : {وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها ، والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها : قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} فهو إشارة إلى ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة ، ثم ههنا أسئلة :
السؤال الأول : لم قال : {وَالَّذِى أَطْمَعُ} والطمع عبارة عن الظن والرجاء ، وإنه عليه السلام كان قاطعاً بذلك ؟
جوابه : أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا ، حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء ، وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله ، وأجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : أن قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى} أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني : المراد من الطمع اليقين ، وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب "الكشاف" : بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً منه لأمته كيفية الدعاء.
جزء : 24 رقم الصفحة : 517
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة ، أما الأول : فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولاً والدعاء ثانياً ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده/ وأما الثاني : وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة ، وأما الثالث : وهو أن الغرض منه تعليم / الأمة فباطل أيضاً لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة ، وهو باطل قطعاً.
السؤال الثاني : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعاً ؟
، وفي جوابه ثلاثة وجوه : أحدها : أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله : {فَعَلَه كَبِيرُهُمْ} (الأنبياء : 63) وقوله : {إِنِّى سَقِيمٌ} (الصافات : 89) وقوله لسارة : (إنها أختي) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال ، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية وثالثها : وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار ، قيل إنه أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
السؤال الثالث : لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، وإنما تغفر في الدنيا ؟
جوابه : لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم.
(1/3434)

السؤال الرابع : ما فائدة (لي) في قوله : {يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى} ؟
وجوابه من وجوه : أحدها : أن الأب إذا عفا عن ولده والسيد عن عبده والزوج عن زوجته فذلك في أكثر الأمر إنما يكون طلباً للثواب وهرباً عن العقاب أو طلباً لحسن الثناء والمحمدة أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية وإذا كان كذلك لم يكن المقصود من ذلك العفو رعاية جانب المعفو عنه بل رعاية جانب نفسه ، إما لتحصيل ما ينبغي أو لدفع ما لا ينبغي ، أما الإله سبحانه فإنه كامل لذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن أو يزول عنه نقصان كان ، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه فقوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى} يعني هو الذي إذا غفر كان غفرانه لي ولأجلي لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة وثانيها : كأنه قال خلقتني لا لي فإنك حين خلقتني ما كنت موجوداً وإذا لم أكن موجوداً استحال تحصيل شيء لأجلي ثم مع هذا فأنت خلقتني ، أما لو عفوت كان ذلك العفو لأجلي ، فلما خلقتني أولاً مع أني كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى وثالثها : أن إبراهيم عليه السلام كان لشدة استغراقه في بحر المعرفة شديد الفرار عن الالتفات إلى الوسائط ، ولذلك لما قال له جبريل عليه السلام : "ألك حاجة ؟
قال أما إليك فلا" فههنا قال : {أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} أي لمجرد عبوديتي لك واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي لا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع.
جزء : 24 رقم الصفحة : 517
519
/ اعلم أن الله تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام ثناءه على الله تعالى ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات وتحقيق الكلام فيه أن هذه الأرواح البشرية من جنس الملائكة فكلما كان اشتغالها بمعرفة الله تعالى ومحبته والانجذاب إلى عالم الروحانيات أشد كانت مشاكلتها للملائكة أتم ، فكانت أقوى على التصرف في أجسام هذا العالم ، وكلما كان اشتغالها بلذات هذا العالم واستغراقها في ظلمات هذه الجسمانيات أشد كانت مشاكلتها للبهائم أشد فكانت أكثر عجزاً وضعفاً وأقل تأثيراً في هذا العالم ، فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدم عليه ثناء الله تعالى وذكر عظمته وكبريائه حتى أنه بسبب ذلك الذكر يصير مستغرقاً في معرفة الله ومحبته ويصير قريب المشاكلة من الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوة إلهية سماوية فيصير مبدأ لحدوث ذلك الشيء الذي هو المطلوب بالدعاء فهذا هو الكشف عن ماهية الدعاء وظهر أن تقديم الثناء على الدعاء من الواجبات وطهر به تحقيق قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" فإن قال قائل : لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء ، لا سيما ويروى عنه أيضاً أنه قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ؟
فالجواب : أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين كان مشتغلاً بدعوة الخلق إلى الحق ألا ترى أنه قال : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) ثم ذكر الثناء ، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع ، فأما حين ما خلا بنفسه ، ولم يكن غرضه تعليم الشرع كان يقتصر على قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
البحث الثاني : في الأمور التي طلبها في الدعاء وهي مطاليب :
جزء : 24 رقم الصفحة : 519
(1/3435)

المطلوب الأول : قوله : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} ، ولقد أجابه الله تعالى حيث قال : {وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} (البقرة : 130) وفيه مطالب : أحدها : أنه لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأن النبوة كانت حاصلة فلو طلب النبوة لكانت النبوة المطلوبة ، أما عين النبوة الحاصلة أو غيرها ، والأول محال لأن تحصيل الحاصل محال ، والثاني محال لأنه يمتنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين ، بل المراد من الحكم ما هو كمال القوة النظرية ، وذلك بإدراك الحق ومن قوله / {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} كمال القوة العملية ، وذلك بأن يكون عاملاً بالخير فإن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وإنما قدم قوله : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا} على قوله : {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} لما أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف وبالذات ، وأيضاً فإنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعلم بالخير وعكسه غير ممكن ، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن ، ولما كان الروح أشرف من البدن كان العلم أفضل من العمل ، وإنما فسرنا معرفة الأشياء بالحكم وذلك لأن الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيات ، ثم نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات ، وتلك النسبة وهي الحكم ، ثم إن كانت النسب الذهنية مطابقة للنسب الخارجية كانت النسب الذهنية ممتنعة التغير فكانت مستحكمة قوية/ فمثل هذا الإدراك يسمى حكمة حكماً ، وهو المراد من قوله عليه السلام : "أرنا الأشياء كما هي" وأما الصلاح فهو كون القوة العاقلة متوسطة بين رذيلتي الإفراط والتفريظ ، وذلك لأن الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر وبالعكس فالصلاح لا يحصل إلا بالاعتدال ، ولما كان الاعتدال الحقيقي شيئاً واحداً لا يقبل القسمة ألبتة والأفكار البشرية في هذا العالم قاصرة على إدراك أمثال هذه الأشياء ، لا جرم لا ينفك البشر عن الخروج عن ذلك الحد وإن قل ، إلا أن خروج المقربين عنه يكون في القلة بحيث لا يحس به وخروج العصاة عنه يكون متفاحشاً جداً فقد ظهر من هذا تحقيق ما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وظهر احتياج إبراهيم عليه السلام إلى أن يقول : {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} .
جزء : 24 رقم الصفحة : 519
المطلب الثاني : لما ثبت أن المراد من الحكم العلم ، ثبت أنه عليه السلام طلب من الله أن يعطيه العلم بالله تعالى وبصفاته ، وهذا يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل في قلب العبد إلا بخلق الله تعالى ، وقوله : {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} يدل على أن كون العبد صالحاً ليس إلا بخلق الله تعالى وحمل هذه الأشياء على الألطاف بعيد ، لأن عند الخصم كل ما في قدرة الله تعالى من الألطاف فقد فعله فلو صرفنا الدعاء إليه لكان ذلك طلباً لتحصيل الحاصل وهو فاسد.
المطلب الثالث : أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل ، لأن الإنسان حال كونه مستحضراً للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضراً للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى ، والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلباً لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى ، وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله ، ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره ، والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلاً لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلاً عند إبراهيم عليه السلام ، وإذا كان حاصلاً عنده امتنع طلب تحصيله ، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم / بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي ، وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة في القلب. ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال ، ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين ، دون السامعين للأثر.
المطلوب الثاني : قوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} وفيه ثلاث تأويلات :
جزء : 24 رقم الصفحة : 519
(1/3436)

التأويل الأول : أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم ، ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة ، فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية ، أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والحلق الباطن والحلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية ، فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن ، وهو المراد بقوله : {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} وأما الخارجية فهي المال والجاه ، والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر ، وهو المراد بقوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ} فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح ؟
جوابه من وجهين : الأول : وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفاً فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه ، وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية ، إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثنى عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه ، فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سبباً لحصول زيادة كمال له الثاني : وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحاً فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل ، فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعياً لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل.
التأويل الثاني : أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى ، وذلك هو محمد صلى الله عليه وسلّم فالمراد من قوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم.
التأويل الثالث : قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه ، ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام ، وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه : أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر ، بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب.
جزء : 24 رقم الصفحة : 519
المطلوب الثالث : قوله : {وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا / طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا ، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
المطلوب الرابع : قوله : {وَاغْفِرْ لابِى ا إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به وهو أبوه فقال : {وَاغْفِرْ لابِى } ثم فيه وجوه : الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله : {وَاغْفِرْ لابِى } يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني : أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} (التوبة : 114) فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه } (التوبة : 114) وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطاً لما منعه الله عنه الثالث : أن أباه قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقية وخوفاً ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، لذلك قال في دعائه : {إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
المطلوب الخامس : قوله : {وَلا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} قال صاحب "الكشاف" : الإخزاء من الخزي وهو الهوان ، أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث :
أحدها : أن قوله : {وَلا تُخْزِنِى} يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء : 82).
وثانيها : أن لقائل أن يقول لما قال أولاً : {وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} ومتى حصلت الجنة ، امتنع حصول الخزي ، فكيف قال بعده : {وَلا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} وأيضاً فقد قال تعالى : {إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّواءَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (النحل : 27) فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم ؟
جوابه : كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به.
جزء : 24 رقم الصفحة : 519
وثالثها : قال صاحب "الكشاف" : في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين.
(1/3437)

أما قوله : {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال : {وَإِنَّ مِن شِيعَتِه لابْرَاهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الصافات : 83/84).
ثم في هذا الاستثناء وجوه : أحدها : أنه إذا قيل لك : هل لزيد مال وبنون ؟
فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك ، فكذا في هذه الآية وثانيها : أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه وثالثها : أن نجعل (من) مفعولاً لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى ، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين ، ويجوز على هذا {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من فتنة المال والبنين ، أما السليم ففي ثلاثة أوجه : الأول : وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة ، وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل ومرضه عبارة عن زوال أحدهما فقوله : {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أن يكون خالياً عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجياً وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه : أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع فلو كان القلب سليماً لكانا سليمين لا محالة ، وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب التأويل الثاني : أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى التأويل الثالث : أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 519
522
/ اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أموراً : أحدها : قوله : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في صفة أهل الثواب {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (ق : 31) وقال في صفة أهل العقاب : {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِى ئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الملك : 27) وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سروراً معجلاً للمؤمنين وغماً عظيماً للكافرين ثانيها : قوله : {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} إلى قوله : {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُانَ} أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم ، والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} متبعوه من عصاة الإنس والجن وثالثها : قوله : {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} .
جزء : 24 رقم الصفحة : 522
(1/3438)

واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام ، فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جماداً يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم : {إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار ، وذلك أيضاً غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها. فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة ، والذي يحمل على أنه خطاب في الحقيقة قولهم : {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلا الْمُجْرِمُونَ} وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم : {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب : 67) فأما قولهم : {فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ} كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين {وَلا صَدِيقٍ} كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون ، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67) أو {فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (الشعراء : 100 ، 101) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى ، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس ، أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم ، فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع ، لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم ، والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك ، أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص ، وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ، فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له ، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك ، فأعز من بيض الأنوق ، ويجوز أن / يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم : {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا ، ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة ، وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير ، ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت. قال الجبائي : إن قولهم {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً ، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة ، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام. ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال : {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم ، فيما يجده من تكذيب قومه.
جزء : 24 رقم الصفحة : 522
فأما قوله : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا.
القصة الثالثة ـ قصة نوح عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 522
524
/ اعلم أنه تعالى لما قص على محمد صلى الله عليه وسلّم خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح عليه السلام ، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره ، لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، ومع ذلك كذبه قومه فقال : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} وإنما قال (كذبت) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة ، وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين : أحدهما : أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره ، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما : أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى ، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة.
وأما قوله : {أَخُوهُمْ} فلأنه كان منهم ، من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ، ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولاً خوفهم ، وثانياً أنه وصف نفسه ، أما التخويف فهو قوله : {أَلا تَتَّقُونَ} .
(1/3439)

واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف ، وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال ، فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله : {أَلا تَتَّقُونَ} . وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين : أحدهما : قوله : {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} وذلك لأنه كان فيهم مشهوراً بالأمانة كمحمد صلى الله عليه وسلّم في قريش فكأنه قال كنت أميناً من قبل ، فكيف تتهموني اليوم ؟
وثانيهما : قوله : {وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة ، فإن قيل : ولماذا كرر الأمر بالتقوى ؟
جوابه : لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله ، وفي الثاني : ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه ، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً! ألا تتقي الله في / عقوقي وقد علمتك كبيراً ، وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول ، ثم إن نوحاً عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} .
جزء : 24 رقم الصفحة : 524
قال صاحب "الكشاف" : وقرى {وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في {وَاتَّبَعَكَ} وقد جمع ألأرذل على الصحة وعلى التكسير في قولهم : {الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} (هود : 27) والرذالة الخسة ، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة.
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة ، لأن نوحاً عليه السلام بعث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها ، فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله : {وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله : {الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} (هود : 27) ثم قال : {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى } معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى ، ولما قال : {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى } وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله : {لَوْ تَشْعُرُونَ} ثم قال : {وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك ، فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله : {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني ، فمن قبل فهو القريب ، ومن رد فهو البعيد ، ثم إن نوحاً عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد ، فقالوا : {لَـاـاِن لَّمْ تَنْتَهِ يَـانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة ، فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم ، وقال : {رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ، ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني ، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك {فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ} أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة ، والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق ، والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه : {وَنَجِّنِى} ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى ، وقد تقدم القول في قصته مشروحاً في سورة الأعراف وسورة هود.
جزء : 24 رقم الصفحة : 524
ثم قال تعالى : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَمَن مَّعَه فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} قال صاحب "الكشاف" : الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى : {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (فاطر : 12) فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلاً ورجالاً ، فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة ، وأن / الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم ، وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم.
القصة الرابعة ـ قصة هود عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 524
525
(1/3440)

/ اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة : فأولها : قوله : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ} قرىء {بِكُلِّ رِيعٍ} بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع ، ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها ، والآية العلم ، ثم فيه وجوه : أحدها : عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني : أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث : أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع : بنوا بكل ريع بروج الحمام وثانيها : قوله : {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} المصانع مآخذ الماء ، وقيل القصور المشيدة والحصون {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد ، وفي مصحف أبي : (كأنكم) ، وقرىء (تخلدون) بضم التاء مخففاً ومشدداً ، واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف ، أو على الخيلاء ، والثاني : إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر وثالثها : قوله :
جزء : 24 رقم الصفحة : 525
{وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين ، وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحاً فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار ، وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية ، يدل على حب العلو ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء ، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو ، فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية ، وهي ممتنعة الحصول للعبد ، فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه وخرجوا عن حد العبودية وحاموا حول ادعاء الربوبية ، وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل كفر ومعصية ، ثم لما ذكر هود عليه السلام هذه الأشياء قال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والحرص والتجبر ، ثم وصل بهذا الوعظ ما يؤكد القبول وهو التنبيه على نعم الله تعالى عليهم بالإجمال أولاً ثم التفصيل ثانياً فأيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حيث قال : {أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ} ثم فصلها من بعد بقوله : {أَمَدَّكُم بِأَنْعَـامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فبلغ في دعائهم بالوعظ والترغيب والتخويف والبيان النهاية فكان جوابهم {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ} أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه ، واستخفافهم بما أورده فإن قيل لو قال أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد جوابه : ليس المعنى بواحد (وبينهما فرق) لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله (ومباشرته) ، فهو أبلغ في / قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ ، ثم احتجوا على قلة اكتراثهم بكلامه بقولهم : {إِنْ هَـاذَآ إِلا خُلُقُ الاوَّلِينَ} فمن قرأ {خُلُقُ الاوَّلِينَ} بالفتح فمعناه أن ما جئت به اختلاق الأولين ، وتخرصهم كما قالوا {أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} (الأنعام : 25) أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب ، ومن قرأ {خُلُقُ} بضمتين وبواحدة ، فمعناه ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا به يدينون ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر ، أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ويسطرونه ، ثم قالوا : {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد ، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم ، وقد سبق شرح كيفية الهلاك في سائر السور. والله أعلم.
القصة الخامسة ـ قصة صالح عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 525
527
/ اعلم أن صالحاً عليه السلام خاطب قومه بأمور : أحدها : قوله : {أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَـاهُنَآ ءَامِنِينَ} أي أتظنون أنكم تتركون في دياركم آمنين وتطمعون في ذلك وأن لا دار للمجازاة.
(1/3441)

وقوله : {فِى مَا هَـاهُنَآ ءَامِنِينَ} في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ، ثم فسره بقوله : {فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل ، فإن قيل : لم قال {وَنَخْلٍ} بعد قوله : {فِي جَنَّـاتِ} والجنة تتناول النخل جوابه من وجهين : الأول : أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على فضله على سائر الأشجار والثاني : أن يراد بالجنات غيرها من الشجر ، لأن اللفظ يصلح لذلك ، ثم يعطف عليها النخل ، والطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ ، والهضيم اللطيف أيضاً من قولهم : كشح هضيم ، وقيل الهضيم اللين النضيج كأنه قال : ونخل قد أرطب ثمره وثانيها : قوله تعالى : {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَـارِهِينَ} قرأ الحسن {وَتَنْحِتُونَ} بفتح الحاء ، وقرىء {فَـارِهِينَ} و{فَـارِهِينَ} والفراهة الكيس والنشاط ، فقوله : {فَـارِهِينَ} حال من الناحيتين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 527
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية ، وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر ، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية ، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة وثالثها : قوله تعالى : {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} وهذا إشارة إلى أنه يجب الاكتفاء من الدنيا بقدر الكفاف ، ولا يجوز التوسع في طلبها والاستكثار من لذاتها وشهواتها ، فإن قيل ما فائدة قوله : {وَلا يُصْلِحُونَ} جوابه : فائدته بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح ، كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح ، ثم إن القوم أجابوه من وجهين : أحدهما : قولهم : {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} وفيه وجوه : أحدها : المسحر هو الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله وثانيها : {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي من له / سحر ، وكل دابة تأكل فهي مسحرة ، والسحر أعلى البطن ، وعن الفراء المسحر من له جوف ، أراد أنك تأكل الطعام وتشرب الشراب وثالثها : عن المؤرج المسحر هو المخلوق بلغة بجيلة وثانيهما : قولهم : {مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِـاَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} وهذا يحتمل أمرين : الأول : أنك بشر مثلنا فكيف تكون نبياً ؟
وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين ، لكانوا من جنس الملائكة الثاني : أن يكون مرادهم إنك بشر مثلنا ، فلا بد لنا في إثبات نبوتك من الدليل ، فقال صالح عليه السلام : {هَـاذِه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} وقرىء بالضم ، روي أنهم قالوا : نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً ، فقعد صالح يتفكر ، فقال له جبريل عليه السلام : صل ركعتين وسل ربك الناقة ، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم وحصل لها سقب مثلها في العظم ، ووصاهم صالح عليه السلام بأمرين : الأول : قوله : {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} قال قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، وشربهم في اليوم الذي لا تشرب هي والثاني : قوله : {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ} أي بضرب أو عقر أو غيرهما {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} عظم اليوم لحلول العذاب فيه ، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب ، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد ، ثم إن الله تعالى حكى عنهم أنهم عقروها. روي أن (مصدعاً) ألجأها إلى مضيق (في شعب) فرماها بسهم (فأصاب رجلها)(2) فسقطت ، ثم ضربها قدار ، فإن قيل لم أخذهم العذاب وقد ندموا جوابه من وجهين : الأول : أنه لم يكن ندمهم ندم التائبين ، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل الثاني : أن الندم وإن كان ندم التائبين ، ولكن كان ذلك في غير وقت التوبة ، بل عند معاينة العذاب ، وقال تعالى : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ} (النساء : 18) الآية. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.
القصة السادسة ـ قصة لوط عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 527
529
/ أما قوله تعالى : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـالَمِينَ} فيحتمل عوده إلى الآتي : أي أنتم من جملة العالمين صرتم مخصوصين بهذه الصفة ، وهي إتيان الذكران ، ويحتمل عوده إلى المأتي ، أي أنتم اخترتم الذكران من العالمين لا الإناث منهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 529
(1/3442)

وأما قوله تعالى : {مِّنْ أَزْوَاجِكُم } فيصلح أن يكون تبييناً لما خلق وأن يكون للتبعيض ، ويراد بما خلق العضو المباح منهن ، وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم ، والعادي هو المتعدي في ظلمه ، ومعناه أترتكبون هذه المعصية على عظمها بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي فهذا من جملة ذاك ، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة ، فقالوا له عليه السلام : {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ يَـالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أي لتكونن من جملة من أخرجناه من بلدنا ، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ الأحوال ، فقال لهم لوط عليه السلام : {إِنِّى لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} القلي البغض الشديد ، كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد ، وقوله : {مِّنَ الْقَالِينَ} أبلغ من أن يقول إني لعملكم قال ، كما يقال فلان من العلماء فهو أبلغ من قولك فلان عالم ، ويجوز أن يراد من الكاملين في قلاكم ، ثم قال تعالى : {فَنَجِّيْنَـاهُ وَأَهْلَه } والمراد : فنجيناه وأهله من عقوبة عملهم {إِلا عَجُوزًا فِى الْغَـابِرِينَ} فإن قيل : {فِى الْغَـابِرِينَ} صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً غابرة ، ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه : معناه إلا عجوزاً مقدراً غبورها ، قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة ، قال القاضي عبد الجبار في "تفسيره" في قوله / تعالى : {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم } دلالة على بطلان الجبر من جهات أحدها : أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه ، ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء ، كما يقال له لم تذر الدخول والخروج وثانيها : أنه قال : {مَا خَلَقَ لَكُمْ} ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه وثالثها : قوله تعالى : {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا ، وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك ؟
فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه ، ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص/ فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص ، وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين الأول : أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال ، وإذا كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال الثاني : أن القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك ، فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله والله أعلم.
القصة السابعة ـ قصة شعيب عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 529
533
/ قرىء {كَذَّبَ أَصْحَـابُ} بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد يعرف فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف لكن قد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف ، روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وتلك الشجر هي التي حملها المقل ، فإن قيل هلا قال أخوهم شعيب كما في سائر المواضع جوابه : أن شعيباً لم يكن من أصحاب الأيكة ، وفي الحديث : "إن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة" ثم إن شعيباً عليه السلام أمرهم بأشياء أحدها : قوله : {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} وذلك لأن الكيل على ثلاثة أضرب واف وطفيف وزائد فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله : {أَوْفُوا الْكَيْلَ} ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} ولم يذكر الزائد لأنه بحيث إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه ، ثم إنه لما أمر بالإيفاء بين أنه كيف يفعل فقال :
جزء : 24 رقم الصفحة : 533
(1/3443)

{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} قرىء {بِالْقِسْطَاسِ} مضموماً ومكسوراً وهو الميزان ، وقيل القرسطون وثانيها : قوله تعالى : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه وهذا عام في كل حق يثبت لأحد أن لا يهضم وفي كل ملك أن لا يغصب (علية) مالكه (ولا يتحيف منه)(1) ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفاً شرعياً وثالثها : قوله تعالى : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} يقال عثا في الأرض وعثى وعاث وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع ، وكانوا يفعلون ذلك مع / توليتهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك ورابعها : قوله تعالى : {وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاوَّلِينَ} وقرىء (الجبلة) بوزن الأبلة وقرىء (الجبلة) بوزن الخلقة ومعناهن واحد أي ذوي الجبلة ، والمراد أنه المتفضل بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين ، فلم يكن للقوم جواب إلا ما لو تركوه لكان أولى بهم وهو من وجهين : الأول : قولهم : {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} {مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فإن قيل : هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود ؟
جوابه : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم السحر والبشرية وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحداً وهو كونه مسحراً ثم قرره بكونه بشراً مثلهم الثاني : قولهم : {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـاذِبِينَ} ومعناه ظاهر ، ثم إن شعيباً عليه السلام كان يتوعدهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب فقالوا : {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ} قرىء {كِسَفًا} بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة وهي القطعة والسماء السحاب أو الظلة ، وهم إنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنوا أنه إذا لم يقع ظهر كذبه فعنده قال شعيب عليه السلام : {رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلم يدع عليهم بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى فلما استمروا على التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب ، وإن أرادوا الظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم يروى أنه حبس عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الرمل فأخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم ظل ولا ماء فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا ، وروي أن شعيباً بعث إلى أمتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة ، وههنا آخر الكلام في هذه القصص السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلّم فيما ناله من الغم الشديد ، بقي ههنا سؤالان :
جزء : 24 رقم الصفحة : 533
السؤال الأول : لم لا يجوز أن يقال : إن العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان ذلك بسبب كفرهم وعنادهم ، بل كان ذلك بسبب قرانات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم ؟
وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص ، لأن الاعتبار إنما يحصل أن لو علمنا أن نزول هذا العذاب كان بسبب كفرهم وعنادهم.
(1/3444)

الثاني : أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاء لهم على ما قال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ} (محمد : 31) ولأنه تعالى قد ابتلى المؤمنين بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة وإذا كان كذلك لم يدل نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين والجواب : أن الله / تعالى أنزل هذه القصص على محمد صلى الله عليه وسلّم تسلية وإزالة للحزن عن قلبه ، فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم ، وأنه إنما أنزله عليهم جزاء على كفرهم ، على محمد صلى الله عليه وسلّم أن الأمر كذلك ، فحينئذ يحصل به التسلية والفرح له عليه السلام ، واحتج بعض الناس على القدح في علم الأحكام / بأن قال المؤثر في هذه الأشياء ، إما الكواكب أو البروج أو كون الكوكب في البرج المعين ، والأول باطل ، وإلا لحصلت هذه الآثار أين حصل الكوكب والثاني أيضاً باطل ، وإلا لزم دوام الأثر بدوام البرج والثالث أيضاً باطل ، لأن الفلك على قولهم بسيط لا مركب فيكون طبع كل برج مساوياً لطبع البرج الآخر في تمام الماهية ، فيكون حال الكوكب وهو في برجه كحاله وهو في برج آخر ، فيلزم أن يدوم ذلك الأثر بدوام الكوكب ، وللقوم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون صدور الأثر عن الكوكب المعين موقوفاً على كونه مسامتاً مسامتة مخصوصة لكوكب آخر ، فإذا فقدت تلك المسامتة فقد شرط التأثير فلا يحصل التأثير ؟
ولهم أن يقولوا هذه الدلالة ، إنما تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب ذواتها وطبائعها ، ولكنها لا تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب جري العادة ، فإذا أجرى الله تعالى عادته بحصول تأثيرات مخصوصة عقيب اتصالات الكواكب وقراناتها وأدوارها لم يلزم من حصول هذه الآثار القطع بأن الله تعالى إنما خلقها لأجل زجر الكفار بل لعله تعالى خلقها تكريراً لتلك العادات والله أعلم.
القول فيما ذكره الله تعالى من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 533
534
اعلم أن الله تعالى لما ختم ما قتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلّم وهو من وجهين : الأول : قوله : {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين ، أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم ألبتة ، فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى ، وقوله بعده : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} كأنه مؤكد لهذا الاحتمال ، وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد ، دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى ، فهذا هو المقصود من الآية.
فأما قوله تعالى : {وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فالمراد بالتنزيل المنزل ، ثم قد كان يجوز في القرآن وهذه القصص أن يكون تنزيلاً من الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم بلا واسطة فقال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ} والباء في قوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} و{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} على القراءتين للتعدية ، ومعنى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} جعل الله الروح نازلاً به {عَلَى قَلْبِكَ} (حفظكه و) أي فهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله تعالى : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } (الأعلى : 6) والروح الأمين جبريل عليه السلام وسماه روحاً من حيث خلق من الروح ، وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة ، وقيل لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام ، وإلى غيرهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 534
(1/3445)

وأما قوله : {عَلَى قَلْبِكَ} ففيه قولان : الأول : أنه إنما قال : {عَلَى قَلْبِكَ} وإن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغيير فيوثق بالإنذار الواقع منه الذي بين الله تعالى أنه هو المقصود ولذلك قال : {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} الثاني : أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختبار ، وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول ، أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى في سورة البقرة (97) : {فَإِنَّه نَزَّلَه عَلَى قَلْبِكَ} وقال ههنا : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} وقال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} (ق : 37) ، وثانيها : أنه ذكر أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال : {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } (البقرة : 225) وقال : {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } (الحج : 37) والتقوى في القلب لأنه تعالى قال : { أولئك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } (الحجرات : 3) وقال تعالى : {وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} (العاديات : 10). وثالثها : قوله حكاية عن أهل النار : {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} (الملك : 10) ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه ، وقال : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا} (الإسراء : 36) ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب ، فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالاً عن القلب وقال تعالى : {يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} (غافر : 19) ، ولم تخف الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها ورابعها : قوله : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} (
جزء : 24 رقم الصفحة : 534
السجدة : 9) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة منها واستدعاء الشكر عليها ، وقد قلنا لا طائل في السمع والأبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضي فيه والمتحكم عليه ، وقال تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَـارُهُمْ وَلا أَفْـاِدَتُهُم} (الأحقاف : 26) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته ، والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر وخامسها : قوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى ا أَبْصَـارِهِمْ} (البقرة : 7) فجعل العذاب لازماً على هذه الثلاثة وقال : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ } (الأعراف : 179) وجه الدلالة أنه قصد إلى نفي العلم عنهم رأساً ، فلو ثبت العلم في غير القلب كثباته في القلب لم يتم الغرض فهذه الآيات ومشاكلها ناطقة بأجمعها أن القلب هو المقصود بإلزام الحجة ، وقد بينا أن ما قرن بذكره من ذكر السمع والبصر فذلك لأنهما آلتان للقلب في تأدية صور المحسوسات والمسموعات.
وأما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته عليه السلام يقول : "ألا وإن في الجسد مضغة / إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وأما المعقول فوجوه : أحدها : أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن سائر الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك ، وكذا القول في سائر الأعراض النفسانية وثانيها : أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادىء للأفعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب وثالثها : أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب.
جزء : 24 رقم الصفحة : 534
(1/3446)

أما المقدمة الأولى : ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ والذي يدل على قولنا وجوه : الأول : قوله تعالى : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} (الحج : 46) وقوله : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف : 179) وقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} (ق : 37) أي عقل ، أطلق عليه اسم القلب لما أنه معدنه الثاني : أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب ، وقال : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} (البقرة : 10) ، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة : 7) وقولهم : {قُلُوبُنَا غُلْفُا بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} (النساء : 155) ، {يَحْذَرُ الْمُنَـافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } (التوبة : 64) ، {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } (الفتح : 11) ، {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} (المطففين : 14) ، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (محمد : 24) ، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46) فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضاً هو القلب الثالث : وهو أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب ، ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر وأكثر منه أحس من قلبه ضيقاً وضجراً حتى كأنه يتألم بذلك ، وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب ، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم الرابع : وهو أن القلب أول الأعضاء تكوناً ، وآخرها موتاً ، وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو أوسط الجسد ، ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب فيكونوا أبعد من الآفات ، واحتج من قال العقل في الدماغ بأمور : أحدها : أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب وثانيها : أن الأعصاب التي هي الآلات في الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب وثالثها : أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل ورابعها : أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل قيل إنه خفيف الدماغ خفيف الرأس وخامسها : أن العقل أشرف فيكون مكانه أشرف ، والأعلى هو الأشرف وذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل هو الدماغ والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى الدماغ ، ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب ، فالدماغ آلة قريبة للقلب / للقلب والحواس آلات بعيدة فالحس يخدم الدماغ ، ثم الدماغ يخدم القلب وتحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه ، فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك ، ونحن نجد التعقلات من جانب القلب لا من جانب الدماغ وعن الثاني : أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ ، ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه ، وعن الثالث : لا يبعد أن يكون سلامة الدماغ شرطاً لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء ، وعن الرابع : أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاحه بما يستمد من الدماغ من برودته ، فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضاً ، إما لازدياد حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حراراته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل وعن الخامس : أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع العقل هو القحف ، ولما بطل ذلك ثبت فساد قولهم والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 534
(1/3447)

فرع : اعلم أن المعاني التي بينا كونها مختصة بالقلوب قد تضاف إلى الصدر تارة وإلى الفؤاد أخرى ، أما الصدر فلقوله تعالى : {وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} (العاديات : 10) وقوله : {وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ} (آل عمران : 154) وقوله تعالى : {إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} (هود : 5) ، {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} (آل عمران : 29) وأما الفؤاد فقوله : {وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ وَأَبْصَـارَهُمْ} ومن الناس من فرق بين القلب والفؤاد فقال : القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم ، ومجموع ذلك هو الفؤاد ومنهم من قال القلب والفؤاد لفظان مترادفان ، وكيف كان فيجب أن يعلم أن من جملة العضو المسمى قلباً وفؤاداً موضعاً هو الموضع في الحقيقة للعقل والاختيار ، وأن معظم جرم هذا العضو مسخر لذلك الموضع ، كما أن سائر الأعضاء مسخرة للقلب ، فإن العضو قد تزيد أجزاؤه من غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه أعني العقل والفرح والحزن وقد ينقص من غير نقصان في تلك المعاني ، فيشبه أن يكون اسم القلب اسماً للأجزاء التي تحل فيها هذه المعاني بالحقيقة/ واسم الفؤاد يكون اسماً لمجموع العضو ، فهذا هو الكلام في هذا الباب والله الموفق للصواب.
وأما قوله تعالى : {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} فيدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل والمنع من كل قبيح لأن في الوجهين جميعاً يدخل الخوف من العقاب.
وأما قوله تعالى : {بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} فالباء إما أن تتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان ، وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام ، وإما أن تتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي (لتجافوا عنه أهلاً و) لقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به ، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه ويفهمه قومك ، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك ، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها.
/ وأما قوله تعالى : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} فيحتمل هذه الأخبار خاصة ، ويحتمل أن يكون المراد صفة القرآن ، ويحتمل صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ويحتمل أن يكون المراد وجوه التخويف ، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 534
535
اعلم أن قوله تعالى : {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَه عُلَمَـا ؤُا بَنِى إسرائيل } المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه ، وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته ، وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر ، وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعاً على نبوته ، واعلم أنه قرىء {يَكُن} بالتذكير ، وآية النصب على أنها خبره و(أن يعلمه) هو الاسم ، وقرىء {تَكُن} بالتأنيث وجعلت (آية) اسماً و(أن يعلمه) خبراً ، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ، ويجوز مع نصب الآية تأنيث (يكن) كقوله : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا } (الأنعام : 23).
وأما قوله : {وَلَوْ نَزَّلْنَـاهُ عَلَى بَعْضِ الاعْجَمِينَ} فاعلم أنه تعالى لما بين بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وصدق لهجته بين بعد ذلك أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين ، فقال : {وَلَوْ نَزَّلْنَـاهُ عَلَى بَعْضِ الاعْجَمِينَ} يعني إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين ، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته ، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله ، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به ، فلم يؤمنوا به وجحدوه ، وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى ، فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضاً ولتمحلوا لجحودهم عذراً ، ثم قال : {كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم ، وهكذا مكناه وقررناه فيها / وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار ، وهذا أيضاً مما يفيد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر ، وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس ، وفي المثل : اليأس إحدى الراحتين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 535
(1/3448)

المسألة الرابعة : قوله : {كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه ، قال صاحب "الكشاف" : أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمناً في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشيء الجبلي والجواب : أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم ، فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود ، فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح ألبتة ، امتنع قوله : {كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ} كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم ، امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران.
المسألة الخامسة : قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت : ما موقع {لا يُؤْمِنُونَ بِه } من قوله {سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} ؟
قلت موقعه منه موقع الموضح (والمبين) ، لأنه مسوق (لبيانه مؤكد للجحود) في قلوبهم ، فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد.
جزء : 24 رقم الصفحة : 535
535
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال : {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ ، لكنهم يذكرون ذلك استرواحاً.
فأما قوله تعالى : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب ، مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به ، ثم بين / تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا ، إلا أن ذلك جهل ، وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة ، ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية ، وليس في العقل ترجيح لذات متناهية قليلة على آلام غير متناهية ، وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف ، فقال له عظني ، فلم يزد على تلاوة هذه الآية ، فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت ، وقرىء {يُمَتَّعُونَ} بالتخفيف ، ثم بين أنه لم يهلك قرية إلا وهناك نذير يقيم عليهم الحجة.
أما قوله تعالى : {ذِكْرَى } فقال صاحب "الكشاف" : ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة ، إما لأن أنذر وذكر متقاربان ، فكأنه قيل مذكرون تذكرة ، وإما لأنها حال من الضمير في {مُنذِرُونَ} ، أي ينذرونهم ذوي تذكرة ، وإما لأنها مفعول له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة ، أو مرفوعة عل أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى ، وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ، ووجه آخر وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له ، والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية قوم ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ، {وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ} فنهلك قوماً غير ظالمين ، وهذا الوجه عليه المعول ، فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنه في قوله : {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} (الحجر : 4) قلت : الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف.
جزء : 24 رقم الصفحة : 535
537
(1/3449)

اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم بكون القرآن تنزيل رب العالمين ، وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى ، ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت ، مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة ، فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة ؟
، فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء ، ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق ، فإذا أثبتنا كون / محمد صلى الله عليه وسلّم صادقاً بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب ، ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك ، لزم الدور وهو باطل وجوابه : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو ، ونعلم بالضرورة أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم ، فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين ، لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم ، فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى ، فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك ، وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ} وذلك في الحقيقة خطاب لغيره ، لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر ، وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع ، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك ، فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة.
جزء : 24 رقم الصفحة : 537
538
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولاً ، ثم أقام الحجة على نبوته ، ثانياً ثم أورد سؤال المنكرين ، وأجاب عنه ثالثاً ، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة : الأول : قوله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلهاً آخر ، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب ، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً ، ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً ، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع ، وروي "أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال : يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، يا عباس عم محمد ، يا صفية عمة محمد ؛ إني لا أملك لكم من الله شيئاً ، سلوني من المال / ما شئتم" وروي "أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً على رجل شاة وقعب من لبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس ، فأكلوا وشربوا ، ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً ، أكنتم مصدقي ؟
قالوا نعم فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
الثاني : قوله : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب ، فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال : {لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ؟
جوابه : لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 538
(1/3450)

فأما قوله : {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} فمعناه ظاهر ، قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئاً من معاصيهم ، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفاً لله ، كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك ، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ومريداً له ؟
الجواب : أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها ، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها ، وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال ، وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث : قوله : {وَتَوكَّلْ} والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره ، وقوله : {عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة ، وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه : أحدها : المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال (المجتهدين) ليطلع على أسرارهم ، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات ، فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها : المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم وثالثها : أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين ورابعها : المراد تقلب بصره فيمن (يلي) خلفه من قوله صلى الله عليه وسلّم : "أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي" ثم قال : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} أي لما تقوله {الْعَلِيمُ} أي بما تنويه وتعمله ، وهذا يدل عى أن كونه سميعاً أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيداً فائدته. واعلم أنه قرىء .
جزء : 24 رقم الصفحة : 538
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية / وبالخبر ، أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى : {تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ} يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن ، وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان ، وأما الخبر فقوله عليه السلام : "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة : 28) قالوا : فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ} (الأنعام : 74) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له : {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} (البقرة : 133) فسموا إسماعيل أباً له مع أنه كان عماً له ، وقال عليه السلام : "ردوا على أبي" يعني العباس ، ويحتمل أيضاً أن يكون متخذاً لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى : {وَمِن ذُرِّيَّتِه دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ} إلى قوله : {وَعِيسَى} (الأنعام : 84 ، 85) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم.
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى : {لابِيهِ ءَازَرَ} وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره ، وأما حمل قوله : {وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ} على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز ، وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن.
جزء : 24 رقم الصفحة : 538
540
(1/3451)

اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين : الأول : قوله : {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان ، ومحمداً عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني : قوله : {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ} والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلّم على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول صلى الله عليه وسلّم كذلك أيضاً ، فلما لم يظهر في إخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة ، ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوهاً : أحدها : أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما طلعوا عليه من الغيوب ، ثم يوحون به إلى أوليائهم {وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ} فيما (يوحى) به إليهم ، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا وثانيها : يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة وثالثها : الأفاكون / يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم ورابعها : يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس ، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم ، فإن قلت {يُلْقُونَ} ما محله ؟
قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع ، وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع ، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلاً قال : لم ننزل على الأفاكين ؟
فقيل يفعلون كيت وكيت ، فإن قلت كيف قال : {وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ} بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك ؟
قلت : الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب ، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 540
540
اعلم أن الكفار لما قالوا : لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ؟
ثم إنه سبحانه فرق بين محمد صلى الله عليه وسلّم وبين الكهنة ، فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء ، وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون ، أي الضالون ، ثم بين تلك الغواية بأمرين : الأول : {أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد ، وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس ، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس ، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا الثاني : {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} وذلك أيضاً من علامات الغواة ، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه ، وينفرون عن البخل ويصرون عليه ، ويقدحون في الاس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش ، وذلك يدل على الغواية والضلالة.
/ وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} (الشعراء : 213) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} (الشعراء : 214) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء ، فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد صلى الله عليه وسلّم ما كان يشبه حال الشعراء ، ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة : أحدها : الإيمان وهو قوله : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ، وثانيها : العمل الصالح وهو قوله : {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} ، وثالثها : أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق ، وهو قوله : {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} ، ورابعها : أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم ، وهو قوله : {وَانتَصَرُوا مِنا بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال الله تعالى : {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظُلِمَ } (النساء : 148) ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة : 194) وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً ، وعن كعب بن مالك : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له : أهجهم ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل" وكان يقول لحسان بن ثابت "قل وروح القدس معك".
جزء : 24 رقم الصفحة : 540
(1/3452)

فأما قوله تعلى : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلّم من الدلائل العقلية ، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين/ ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً صلى الله عليه وسلّم تارة بالكاهن ، وتارة بالشاعر ، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم ، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات ، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور : المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء ، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 540
فأما قوله تعلى : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلّم من الدلائل العقلية ، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين/ ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً صلى الله عليه وسلّم تارة بالكاهن ، وتارة بالشاعر ، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم ، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات ، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور : المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء ، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 540
فأما قوله تعلى : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلّم من الدلائل العقلية ، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين/ ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً صلى الله عليه وسلّم تارة بالكاهن ، وتارة بالشاعر ، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم ، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات ، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور : المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء ، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
جزء : 24 رقم الصفحة : 540
541
(1/3453)

سورة النمل
تسعون وثلاث أو أربع أو خمس آيات مكية
جزء : 24 رقم الصفحة : 541
542
اعلم أن قوله : {تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن ، فالملائكة الناظرون فيه يبينون الكائنات ، وإنما نكر الكتاب المبين ليصير مبهماً بالتنكير فيكون أفخم له كقوله : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) وقرأ ابن أبي عبلة {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} بالرفع على تقدير وآيات كتاب مبين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فإن قلت : ما الفرق بين هذا وبين قوله : {الارَا تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ} (الحجر : 1) ؟
قلت : لا فرق لأن واو العطف لا تقتضي الترتيب.
أما قوله : {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فهو في محل النصب أو الرفع فالنصب على الحال أي هادية ومبشرة ، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، والرفع على ثلاثة أوجه على معنى هي هدى وبشرى ، وعلى البدل من الآيات ، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر ، أي جمعت آياتها آيات الكتاب وأنها هدى وبشرى ، واختلفوا في وجه تخصيص الهدى بالمؤمنين على وجهين : الأول : المراد أنه يهديهم إلى الجنة وبشرى لهم كقوله تعالى : {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (النساء : 175) فلهذا اختص به المؤمنون الثاني : المراد بالهدى الدلالة ثم ذكروا في تخصيصه بالمؤمنين وجوهاً : أحدها : أنه إنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى ، والبشرى / إنما تكون للمؤمنين وثانيها : أن وجه الاختصاص أنهم تمسكوا به فخصهم بالذكر كقوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَا هَا} (النازعات : 45) ، وثالثها : المراد من كونها {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أنها زائدة في هداهم ، قال تعالى : {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} (مريم : 76).
أما قوله : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك ، وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها ، وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة ، وإقامتها وضعها في حقها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 542
أما قوله : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ففيه سؤال وهو : أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة ، فما الوجه من ذكره مرة أخرى ؟
جوابه من وجهين : الأول : أن يكون من جملة صلة الموصول ، ثم فيه وجهان : الأول : أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخبر لأجل العمل به ، وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ ، ومعرفة المعاد ، وأما الخير الذي يعمل به فأقسام كثيرة وأشرفها قسمان : الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله : {لِلْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله : {يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال ، وقوله : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً ، ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما الثاني : أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، منهم من هو جازم بالحشر والنشر ، ومنهم من يكون شاكاً فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط ، فيقول إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة ، وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة/ فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتدياً بالقرآن ، أما من كان حازماً بالآخرة كان مهتدياً به ، فلهذا السبب ذكر هذا القيد الثاني : أن يجعل قوله : {وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو {هُمُ} حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
جزء : 24 رقم الصفحة : 542
545
(1/3454)

/ اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال : {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ} ، واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله : {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} (النحل : 63) ؟
فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة ، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين : الأول : أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال الثاني : وهو أن العلم إما أن يكون ضرورياً أو كسبياً ، فإن كان ضرورياً فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً لأن المكتسب إن كان شاعراً به فهو متصور له ، وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعراً به كان غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له ، فإن قلت هو مشعور به من وجه دون وجه ، قلت فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين ، وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافياً في حصول التصديق ، فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات ، فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة ، ومتى لم تحصل لم يحصل التصديق ألبتة ، فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب ، ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة للتصديقات النظرية لم تكن التصديقات النظرية كسبية ، لأن لازم الضروري ضروري ، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك بل هي اعتقادات تقليدية ، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني يفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية ، وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم فأفعال العباد بأسرها ضرورية ، والإنسان مضطر في صورة مختار ، فثبت أن الله تعالى هو الذي زين لكل عامل عمله. والمراد من التزيين هو أنه يخلق في قلبه العلم بما فيه من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من المضار والآفات ، فقد ثبت بهذه الدلائل القاطعة العقلية وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها ، أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تأويلها وجوهاً : أحدها : أن المراد بينا لهم أمر الدين وما يلزمهم أن يتمسكوا به وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب ، لأن التزيين من الله تعالى للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن وواجب وحميد العاقبة ، وهو المراد من قوله :
جزء : 24 رقم الصفحة : 545
{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات : 7) ومعنى {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يدل على ذلك لأن المراد فهم يعدلون وينحرفون عما زينا من أعمالهم وثانيها : أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق جعلوا إنعام الله تعالى بذلك عليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف ، فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم وإليه إشارة الملائكة عليهم السلام في قولهم : {وَلَـاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} (الفرقان : 18) وثالثها : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة / للتزيين فأسند إليه والجواب : عن الأول أن قوله تعالى : {أَعْمَـالَهُمْ} صيغة عموم توجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً كان العمل أو قبيحاً ومعنى التزيين قد قدمناه ، وعن الثاني أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور أثر في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أوليس لها فيه أثر ، فإن كان الأول فقد دللنا على أن الترجيح متى حصل فلا بد وأن ينتهي إلى حد الاستلزام وحينئذ يحصل الغرض وإن لم يكن فيه أثر صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب ، وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه والله أعلم.
أما قوله تعالى : {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} فالعمه التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق.
أما قوله : { أولئك الَّذِينَ لَهُمْ سُواءُ الْعَذَابِ} ففيه وجهان : الأول : أنه القتل والأسر يوم بدر والثاني : مطلق العذاب سواء كان في الدنيا أو في الآخرة والمراد بالسوء شدته وعظمه.
وأما قوله : {هُمُ الاخْسَرُونَ} ففيه وجهان : الأول : أنه لا خسران أعظم من أن يخسر المرء نفسه بأن يسلب عنه الصحة والسلامة في الدنيا ويسلم في الآخرة إلى العذاب العظيم الثاني : المراد أنهم خسروا منازلهم في الجنة لو أطاعوا ، فإنه لا مكلف إلا وعين له منزل في الجنة لو أطاع فإذا عصى عدل به إلى غيره فيكون قد خسر ذلك المنزل.
جزء : 24 رقم الصفحة : 545
546
(1/3455)

أما قوله : {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} فمعناه لتؤتاه (وتلقاه) من عند أي حكيم وأي عليم ، وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص ، و(إذ) منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ، ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة أما أن تكون نفس العلم ، والعلم إما أن يكون / داخلاً فيها ، فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم ؟
جوابه : الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط والعلم أعم منه ، لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية ، فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية ، ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات ، وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى.
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعاً من القصص.
القصة الأولى ـ قصة موسى عليه الصلاة والسلام
أما قوله : {إِذْ قَالَ مُوسَى لاهْلِه } فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام ، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله {امْكُثُوا } (القصص : 29).
أما قوله : {إِنِّى ءَانَسْتُ نَارًا} فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلاً ، وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق ، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال : {إِنِّى ءَانَسْتُ نَارًا} وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت ، وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به ، والأول أقرب ، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري.
جزء : 24 رقم الصفحة : 546
أما قوله : {إِذْ قَالَ مُوسَى } فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل ، ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال : {إِذْ قَالَ مُوسَى } يعرف به الطريق.
أما قوله : {إِذْ قَالَ مُوسَى لاهْلِه } فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة. وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلاً أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة :
السؤال الأول : {إِذْ قَالَ مُوسَى } و{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ} (القصص : 29) كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن ؟
نقول جوابه : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
السؤال الثاني : كيف جاء بسين التسويف ؟
جوابه : عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة.
السؤال الثالث : لماذا أدخل (أو) بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معاً ؟
جوابه : بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما ، إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده.
/ وأما قوله تعالى : {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد.
أما قوله تعالى : {نُودِىَ أَنا بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} ففيه أبحاث :
البحث الأول : {ءَانٍ} أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول ، والمعنى قيل له بورك.
البحث الثاني : اختلفوا فيمن في النار على وجوه : أحدها : {أَنا بُورِكَ} بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور ، وذلك هو الله سبحانه {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها : {مَن فِى النَّارِ} هو نور الله ، {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكة ، وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها : أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلاً للكلام ، والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة. ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال : {بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وهو قول الجبائي ورابعها : {مَن فِى النَّارِ} هو موسى عليه السلام لقربه منها {وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني الملائكة ، وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها : قول صاحب "الكشاف" : {بُورِكَ مَن فِى النَّارِ} أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : {مِن شَـاطِى ِ الْوَادِ الايْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ} (القصص : 30) ويدل عليه قراءة أبي (تباركت الأرض ومن حولها) وعنه أيضاً (بوركت النار).
جزء : 24 رقم الصفحة : 546
(1/3456)

البحث الثالث : السبب الذي لأجله بوركت البقعة ، وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولاً وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله : {وَنَجَّيْنَـاهُ وَلُوطًا إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 71) وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ، ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتاً.
البحث الرابع : أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله : {بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها. وقوله : {وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} فيه فائدتان : إحداهما : أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية : أن يكون ذلك إيذاناً بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع.
أما قوله : {إِنَّه ا أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فقال صاحب "الكشاف" الهاء في (إنه) يجوز أن يكون ضمير الشأن و{أَنَا اللَّهُ} مبتدأ وخبر ، و{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} صفتان للخبر ، وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان (للتعيين) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية ، الفاعل (كل) ما أفعله بحكمة وتدبير. فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى ، فكيف علم موسى / عليه السلام أنه من الله ؟
جوابه : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني : قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور : أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحداً منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً ، وهو أيضاً ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها : أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك ، فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز ، وهذا هو الأصح والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 546
550
اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قدر مر شرحه ، ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع : يقال علام عطف قوله : {وَأَلْقِ عَصَاكَ } ؟
جوابه : على {بُورِكَ مَن فِى النَّارِ} (النمل : 8) (وأن ألق عصاك ، كلاهما تفسير لنودي).
/ أما قوله : {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} فالجان الحية الصغيرة ، سميت جاناً ، لأنها تستتر عن الناس ، وقرأ الحسن {جَآنٌّ} على لغة من يهرب من التقاء الساكنين ، فيقول شأبة ودأبة.
أما قوله : {وَلَمْ يُعَقِّبْ } معناه لم يرجع ، يقال عقب المقاتل إذا (مر) بعد الفرار ، وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به ، ويدل عليه {إِنِّى لا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ} وقال بعضهم : المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
أما قوله تعالى : {إِلا مَن ظَلَمَ} معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة ، ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة. قال الحسن رحمه الله : كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل ، فإنه عليه السلام قال : {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى} (القصص : 16) وقرىء (ألا من ظلم) بحرف التنبيه.
أما قوله تعالى : {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا بَعْدَ سُواءٍ} فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب ، وعن أبي بكر في رواية عاصم (حسناً). أما قوله : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى} فهو كلام مستأنف ، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف ، والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون ، ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة ، اثنتان منها اليد والعصا ، والتسع : الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 550
أما قوله : {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـاتُنَا مُبْصِرَةً} فقد جعل الإبصار لها ، وهو في الحقيقة لمتأملها ، وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها ، أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي ، وقرأ علي بن الحسين وقتادة {مُبْصِرَةً} وهو نحو مجبنة ومبخلة ، أي مكاناً يكثر فيه التبصر.
(1/3457)

أما قوله : {وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} فالواو فيها واو الحال ، وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم ، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
أما قوله : {ظُلْمًا وَعُلُوًّا } فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى ، ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً. وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله : {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} (المؤمنون : 46) وقرىء (علياً) و(علياً) بالضم والكسر ، كما قرىء (عتياً) {عِتِيًّا} (مريم : 8 ، 69) والله أعلم.
القصة الثانية ـ قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 550
552
/ أما قوله تعالى : {عِلْمًا} فالمراد طائفة من العلم أو علماً سنياً (عزيزاً) ، فإن قيل أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك أعطيته فشكر (ومنعته)(1) فصبر ؟
جوابه : أن الشكر باللسان إنما يحسن موقعه إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية ، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات ، ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقاً بهما فلا جرم صار كأنه قال : ولقد آتيناهما علماً ، فعملا به قلباً وقالباً ، وقالا باللسان الحمد لله الذي فعل كذا وكذا.
وأما قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} ففيها أبحاث :
أحدها : أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما ، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها : في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها : أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها : أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم ، ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره ، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم ، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سبباً لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جلياً بحيث يصير المرء مستغرقاً / فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات.
جزء : 24 رقم الصفحة : 552
أما قوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ } فقد اختلفوا فيه ، فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث ، وقال غيره بل النبوة ، وقال آخرون بل الملك والسياسة ، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً ، لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط ، وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان ، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته ، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله : {وَقَالَ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} معنى ، وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه ، وكذلك قوله تعالى : {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ } لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص ، وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه ، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال ، فأما إذا قيل ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها ، بل بظاهر قوله عليه السلام : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
فأما قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، قال صاحب "الكشاف" المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وقد ترجم يعقوب كتابه "بإصلاح المنطق" وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم ، وقالت العرب نطقت الحمامة (وكل صنف من) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه.
أما قوله تعالى : {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ } فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة ، والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23).
جزء : 24 رقم الصفحة : 552
(1/3458)

أما قوله : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} فهو تقرير لقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا} والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" فإن قيل كيف قال : {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا} وهو من كلام المتكبرين ؟
جوابه من وجهين : الأول : أن يريد نفسه وأباه والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً ، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجباً.
/ وأما قوله : {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـانَ جُنُودُه مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ وَالطَّيْرِ} فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة ، والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده ، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف ، أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل ، وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره.
وأما قوله تعالى : {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع ، ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه ، فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع.
أما قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} فقيل هو واد بالشام كثير النمل ، ويقال لم عدي {أَتَوْا } بعلى ؟
فجوابه من وجهين : الأول : أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا (أنفذه و) بلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، وقرىء {نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ} بضم الميم وبضم النون والميم وكان الأصل النمل بوزن الرجل والنمل الذي عليه الاستعمال تخفيف عنه (كقولهم السبع في السبع)(1).
أما قوله تعالى : {قَالَتْ نَمْلَةٌ} فالمعنى أنها تكلمت بذلك وهذا غير مستبعد ، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق. وعن قتادة : أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً وهو غلام حدث فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟
فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى فقيل له من أين عرفت ؟
فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله : {قَالَتْ نَمْلَةٌ} ولو كان ذكراً لقال (قال نملة) ، وذلك لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي.
جزء : 24 رقم الصفحة : 552
أما قوله تعالى : {ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} فاعلم أن النملة لما قاربت حد العقل ، لا جرم ذكرت بما يذكر به العقلاء فلذلك قال تعالى : {ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} فإن قلت {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} ما هو ؟
قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة : لا أرينك ههنا. وفي هذه الآية تنبيه على أمور : أحدها : أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز ، وإنما يلزم من في الطريق التحرز وثانيها : أن النملة قالت : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} كأنها عرفت أن النبي معصوم فلا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو ، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء عليهم السلام وثالثها : ما رأيت في بعض الكتب أن تلك النملة إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته ، فربما وقعت في كفران نعمة الله تعالى وهذا هو المراد بقوله : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـانُ} فأمرتها بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى ، وهذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة ورابعها : قرىء (مسكنكم) و(لا يحطمنكم) بتخفيف النون ، وقرىء (لا يحطمنكم) بفتح الطاء وكسرها وأصلها يحطمنكم.
أما قوله تعالى : {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا} يعني تبسم شارعاً في الضحك (وآخذاً فيه) ، بمعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك ، وإنما ضحك لأمرين : أحدهما : إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده (وشفقتهم) وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى ، وذلك قولها : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} والثاني : سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه.
أما قوله تعالى : {رَبِّ أَوْزِعْنِى } فقال صاحب "الكشاف" : حقيقة أوزعنى : اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه عن أن ينقلب عني ، حتى أكون شاكراً لك أبداً ، وهذا يدل على مذهبنا فإن عند المعتزلة كل ما أمكن فعله من الألطاف فقد صارت مفعولة وطلب تحصيل الحاصل عبث.
جزء : 24 رقم الصفحة : 552
(1/3459)

وأما قوله تعالى : {وَعَلَى وَالِدَىَّ} فذلك لأنه عد نعم الله تعالى على والديه نعمة عليه. ومعنى قوله : {وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} طلب الإعانة في الشكر وفي العمل الصالح ، ثم قال : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} فلما طلب في الدنيا الإعانة على الخيرات طلب أن يجعل في الآخرة من الصالحين ، وقوله : {بِرَحْمَتِكَ} يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق من جانب العبد واعلم أن سليمان عليه السلام طلب ما يكون وسيلة إلى ثواب الآخرة أولاً ثم طلب ثواب الآخرة ثانياً ، أما وسيلة الثواب فهي أمران : أحدهما : شكر النعمة السالفة والثاني : الاشتغال بسائر أنواع الخدمة ، أما الاشتغال بشكر النعمة السالفة ، فهي قوله تعالى : {رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} ولما كان الإنعام على الآباء إنعاماً على الأبناء لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن ، لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء بقوله : {وَعَلَى وَالِدَىَّ} وأما الاشتغال بسائر أنواع الخدمة ، فقوله : {وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ} وأما طلب ثواب الآخرة فقوله : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} فإن قيل درجات الأنبياء أعظم من درجات الأولياء والصالحين/ فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين فقال يوسف : {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} وقال سليمان : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} ؟
جوابه : الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية ، والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 552
554
/ اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير ، واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه : أحدها : قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده وثانيها : أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه ، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده ، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها : أنه كان يظله من الشمس ، فلما فقد ذلك تفقده.
أما قوله : {فَقَالَ مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآاـاِبِينَ} فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه ، على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟
كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ، ومثله قولهم : إنها لإبل أم شاء.
أما قوله : {لاعَذِّبَنَّه عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لا ذْبَحَنَّه ا أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ} فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب ، ثم اختلفوا في قوله : {لاعَذِّبَنَّه } فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس ، وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس ، وقيل أن يلقى للنمل فتأكله ، وقيل إيداعه القفص ، وقيل التفريق بينه وبين إلفه ، وقيل لألزمنه صحبة الأضداد ، وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، وقيل لألزمنه خدمة أقرانه.
أما قوله : {فَمَكَثَ} فقد قرىء بفتح الكاف وضمها {غَيْرَ بَعِيدٍ} (غير زمان بعيد) كقولك عن قريب ، / ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخراً له.
جزء : 24 رقم الصفحة : 554
أما قوله : {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه } ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به ، فيكون ذلك لطفاً في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته.
أما قوله : {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإا بِنَبَإٍ يَقِينٍ} فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه ، وقد روي بسكون الباء ، وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسماً للحي أو للأب الأكبر صرف ، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، والنبأ الخبر الذي له شأن.
وقوله : {مِن سَبَإا بِنَبَإٍ} من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى ، ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن لفظاً ومعنى ، ألا ترى أنه لو وضع مكان (بنبأ) بخبر لكان المعنى صحيحاً ، ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
أما قوله : {إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} فالمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس ، والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر/ وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها.
(1/3460)

وأما قوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} ففيه سؤال وهو أنه كيف قال : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} مع قول سليمان {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ } (النمل : 16) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه : أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا.
وأما قوله : {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ففيه سؤال ، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟
وأيضاً فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم ؟
والجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش ، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان ، وعن الثاني : أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض ، واعلم أن ههنا بحثين :
جزء : 24 رقم الصفحة : 554
البحث الأول : أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه : أحدها : أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة ، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا ، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس ، وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القملة والصئبان ، ويجوز أن يكون فيهم / الأنبياء والتكاليف والمعجزات ، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها : أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه ؟
وثالثها : كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان ، وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف ، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها : من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟
والجواب عن الأول : أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع ، وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.
البحث الثاني : قالت المعتزلة قوله : {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها : أنه متروك الظاهر ، فإنه قال : {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدوداً ممنوعاً لسقط عنه التكليف ، فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب : قد تقدم عنه مراراً فلا فائدة في الإعادة والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 554
555
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله تعالى : {أَلا يَسْجُدُوا } قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف (ألا) للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف ، كما حذفه من قال :
ألا يا اسلمى يا دار ميَّ على البلى
(ولا زال منهلاً بجرعائك القطر)
/ وثانيها : بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا ، فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون (إلا) أن يسجدوا وثالثها : وهي حرف عبدالله و(هي) قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء ، وعن عبدالله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها : قراءة أبي {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .
المسألة الثانية : قال أهل التحقيق قوله : {أَلا يَسْجُدُوا } يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادراً على إخراج الخبء عالماً بالأسرار معنى.
المسألة الثالثة : الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم ، أما القدرة فقوله : {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وسمي المخبوء بالمصدر ، وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث ، ومن الأرض بالنبات. وأما العلم فقوله : {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .
جزء : 24 رقم الصفحة : 555
(1/3461)

واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا : الإله يجب أن يكون قادراً على إخراج الخبء وعالماً بالخفيات ، والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلهاً وإذا لم تكن إلهاً لم يجز السجود لها ، أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادراً عالماً على الوجه المذكور ، فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض ، وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه ، وكل ما كان متناهياً في الذات كان متناهياً في الصفات ، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات ، فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار ، فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) وفي قوله : {لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (البقرة : 258) وفي قوله : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة : 258) وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السموات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) ومن قوله : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ومن قوله موسى عليه السلام : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (الشعراء : 28) وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى ، وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه ، فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} ثم قال : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} وموسى عليه السلام قال : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 26) ثم قال : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السموات على خبء الأرض ؟
جوابه : أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظراً مع من ادعى إلهية البشر ، فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السموات ، وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله : {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات.
جزء : 24 رقم الصفحة : 555
أما قوله : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السموات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه والله أعلم.
المسألة الرابعة : قيل من {أَحَطتُ} إلى {الْعَظِيمِ } كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة.
المسألة الخامسة : الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة ، وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه.
المسألة السادسة : يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين ؟
جوابه : نعم إذا خفف وقف على {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} (النمل : 24) ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على (العرش العظيم).
أما قوله : {سَنَنظُرُ} فمن النظر الذي هو التأمل ، وأراد صدقت أم كذبت إلا أن {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} أبلغ ، لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به ، وإنما قال : {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} على لفظ الجمع لأنه قال : {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} (النمل : 24) فقال : {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} أي إلى الذين هذا دينهم.
أما قوله : {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك و{يَرْجِعُونَ} من قوله تعالى : {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} (سبأ : 30) ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة.
جزء : 24 رقم الصفحة : 555
556
(1/3462)

/ اعلم أن قوله : {قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ} بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت ، روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وقيل نقرها فانتبهت فزعة.
أما قوله : {كِتَـابٌ كَرِيمٌ} ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : حسن مضمونه وما فيه وثانيها : وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها : أن الكتاب كان مختوماً وقال عليه السلام : "كرم الكتاب ختمه" وكان عليه السلام "يكتب إلى العجم ، فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتماً".
أما قوله : {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} ففيه أبحاث :
البحث الأول : أنه استئناف وتبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إليَّ كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت ، وقرأ عبدالله {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه بِسْمِ اللَّهِ} عطفاً على {إِنِّى } وقرىء {إِنَّه مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّه } بالفتح وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إليَّ أنه من سليمان وثانيهما : أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم الله كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله وقرأ أبي (أن من سليمان وأن بسم الله) على أن المفسرة ، وأن في (ألا تعلوا) مفسرة أيضاً ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك ، وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد.
البحث الثاني : يقال لما قدم سليمان اسمه على قوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} ؟
جوابه : حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب والله تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية.
جزء : 24 رقم الصفحة : 556
البحث الثالث : أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود ، وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود ، وذلك لأن المطلوب من الخلق ، إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً.
/ وأما قوله : {أَلا تَعْلُوا عَلَىَّ} فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر.
وأما قوله : {وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن ، فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا ، فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه : معاذ الله أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز ، والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلاً آخر.
أما قوله : {قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى ، وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} إلا بمحضركم.
أما قوله : {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات (والعدد) والمراد بالبأس النجدة (والثبات) في الحرب ، وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين : أحدهما : إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد ، والآخر قولهم : {وَالامْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ} وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم ، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 556
557
/ اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها ، وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها ، أي خربوها وأذلوا أعزتها ، فذكرت لهم عاقبة الحرب.
وأما قوله : {وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ} فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام الله تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها ، وأنها ذكرته تأكيداً لما وصفته من حال الملوك. أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها : {فَنَاظِرَة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد ، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان ، ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين : الأول : قوله : {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال.
(1/3463)

أما قوله : {بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الهدية اسم للمهدي ، كما أن العطية اسم للمعطي ، فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى إليه ، والمضاف إليه ههنا هو المهدى إليه ، والمعنى أن الله تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى ، وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه ، فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية ، بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم ، لكن حالي خلاف حالكم وثانيها : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثلها وثالثها : كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها الثاني : قوله : {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} فقيل ارجع خطاب للرسول ، وقيل للهدهد محملاً كتاباً آخر.
أما قوله تعالى : {لا قِبَلَ} أي لا طاقة ، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة ، أي لا يقدرون أن يقابلوهم. وقرأ ابن مسعود : (لا قبل لهم بهم) ، والضمير في (منها) لسبأ ، والذل أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك ، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً.
جزء : 24 رقم الصفحة : 557
558
/ اعلم أن في قوله تعالى : {قَالَ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان ، ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهوراً ، فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها ، واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه : أحدها : أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام ، حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت وثانيها : أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر ، ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره ، والمقصود اختبار عقلها ، وقوله تعالى : {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى } (النمل : 41) كالدلالة على ذلك وثالثها : قال قتادة : أراد أن يأخذه قبل إسلامها ، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ورابعها : أن العرش سرير المملكة ، فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه.
أما قوله : {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ، ومن الشياطين الخبيث المارد.
أما قوله : {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } فالمعنى من مجلسك ، ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت ، فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس ، وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس ، وقيل إلى انتصاف النهار.
وأما قوله : {لَقَوِىٌّ} أي على حمله {أَمِينٌ} آتي به كما هو لا أختزل منه شيئاً.
أما قوله : {قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ} ففيه بحثان :
جزء : 24 رقم الصفحة : 558
الأول : اختلفوا في ذلك الشخص على قولين : قيل كان من الملائكة ، وقيل كان من الإنس ، فمن قال بالأول اختلفوا ، قيل هو جبريل عليه السلام ، وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام ، ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه : أحدها : قول ابن مسعود : إنه الخضر عليه السلام وثانيها : وهو المشهور من قول ابن عباس : إنه آصف بن برخيا وزير سليمان ، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب وثالثها : قول قتادة : رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم ورابعها : قول ابن زيد : كان رجلاً صالحاً في جزيرة في البحر ، خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان وخامسها : بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه ، وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولاً ، ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت ، وهذا القول أقرب لوجوه : أحدها : أن لفظة (الذي) موضوعة في / اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام ، فوجب انصرافه إليه ، أقصى ما في الباب أن يقال ، كان آصف كذلك أيضاً لكنا نقول إن سليمان عليه السلام ، كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي ، فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني : أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية/ فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام ، وأنه غير جائز الثالث : أن سليمان عليه السلام ، لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع : أن سليمان قال : {هَـاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
البحث الثاني : اختلفوا في الكتاب ، فقيل اللوم المحفوظ ، والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام. وقيل كتاب سليمان ، أو كتاب بعض الأنبياء ، ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح ، وأن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش ، فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات.
(1/3464)

أما قوله تعالى : {قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا ءَاتِيكَ} ففيه بحثان :
الأول : (آتيك) في الموضعين ، يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل.
جزء : 24 رقم الصفحة : 558
الثاني : اختلفوا في قوله : {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } على وجهين : الأول : أنه أراد المبالغة في السرعة ، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة ، وهذا قول مجاهد الثاني : أن نجريه على ظاهره ، والطرف تحريك الأجفان عند النظر ، فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي ، وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين ، فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وههنا سؤال : وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان ، وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه : أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ، ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة ، وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال ، ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة ، ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى ، أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه : أحدها : أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر وثانيها : أنه يستمد به المزيد على ما قال : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } (إبرهيم : 7) ، وثالثها : أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف ، ثم قال : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ} غني عن شكره لا يضره كفرانه ، كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر.
جزء : 24 رقم الصفحة : 558
559
اعلم أن قوله : {نَكِّرُوا } معناه اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه ، وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة ، وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل ، ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد ، فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها.
أما قوله : {نَنظُرْ} فقرىء بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف ، واختلفوا في {أَتَهْتَدِى } على وجهين : أحدهما : أتعرف أنه عرشها أم لا ؟
كما قدمنا الثاني : أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال : {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة ، فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلاً من المكان البعيد إلى هناك ، وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام ، ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها لأغراض كانت له ، فعند ذلك سألها.
أما قوله : {أَهَـاكَذَا عَرْشُكِ } فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات ، حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة ، ولم يقل أهذا عرشك ، ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً فقالت : {كَأَنَّه هُوَ } ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف.
أما قوله : {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا} ففيه سؤالان ، وهو أن هذا الكلام كلام من ؟
وأيضاً فعلى أي شيء عطف هذا الكلام ؟
وعنه جوابان : الأول : أنه كلام سليمان وقومه ، وذلك لأن بلقيس / لما سئلت عن عرشها ، ثم إنها أجابت بقولها : {كَأَنَّه هُوَ } فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام ، ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني : أنه من كلام بلقيس موصولاً بقولها : {كَأَنَّه هُوَ } والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة ، ثم أن قوله : {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّه } إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة.
جزء : 24 رقم الصفحة : 559
(1/3465)

أما قوله تعالى : {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّه } ففيه وجهان : الأول : المراد : وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل ، وقرىء أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها ، واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار ، بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب : أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال ، وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سبباً لحصول الداعية المستلزمة للكفر ، وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقاً لقولنا والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 559
561
اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعياً لها إلى الإسلام وهو قوله {قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ } والصرح القصر كقوله : {فِرْعَوْنُ يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا} وقيل صحن الدار ، وقرأ ابن كثير عن {سَاقَيْهَا } بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد ، والممرد المملس ، روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضاً ، ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير ، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته ، وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي / إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية ، وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد ، فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ، ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءاً راكداً فكشفت عن ساقيها لتخوضه ، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً ، وهذا على طريقة من يقول تزوجها ، وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت ، وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة ، فقالت : {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت : {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة ، فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان ، واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا ، وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها ، والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها ، وليس لذلك ذكر في الكتاب ، ولا في خبر مقطوع بصحته ، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني ، فقال النكاح من الإسلام ، فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ، ولم يزل بها ملكاً والله أعلم.
القصة الثالثة ـ قصة صالح عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 561
562
/ قرىء {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} بالضم على اتباع النون الباء.
أما قوله : {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} ففيه قولان : أحدهما : المراد فريق مؤمن وفريق كافر الثاني : المراد قوم صالح قبل أن يؤمن منهم أحد.
أما قوله : {يَخْتَصِمُونَ} فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها ، وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون خصماً لمن لم يقبلها ، وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد.
أما قوله : {قَالَ يَـاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } ففيه بحثان : الأول : في تفسير استعجال السيئة قبل الحسنة وجهان : أحدهما : أن الذين كذبوا صالحاً عليه السلام لما لم ينفهم الحجاج توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب فقالوا : {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ} (العنكبوت : 29) على وجه الاستهزاء ، فعنده قال صالح : {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } والمراد أن الله تعالى قد مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه ، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه وثانيهما : أنهم كانوا يقولون لجهلهم إن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه أتينا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ويدفع العذاب عنا ، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم ، وقال هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر.
جزء : 24 رقم الصفحة : 562
(1/3466)

البحث الثاني : أن المراد بالسيئة العقاب وبالحسنة الثواب ، فأما وصف العذاب بأنه سيئة فهو مجاز وسبب هذا التجويز ، إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً ، وأما وصف الرحمة بأنها حسنة فمنهم من قال إنه حقيقة ومنهم من قال إنه مجاز والأول أقرب ، ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرر هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد ، وهو قولهم : {اطَّيَّرْنَا بِكَ} أي / تشاءمنا بك لأن الذي يصيبنا من شد وقحط فهو بشؤمك وبشؤم من معك.
قال صاحب "الكشاف" كان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيمن وإن مر بارحاً تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته ، فأجاب صالح عليه السلام بقوله : {طَـا اـاِرُكُمْ عِندَ اللَّه } أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وقيل بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب/ والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيجب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره ، ثم بين أهذا جهل منهم بقوله : {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته ، ثم إنه سبحانه قال : {وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الارْضِ} والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفتهم وأحوالهم لا لاختلاف السبب ، فبين تعالى أنهم يفسدون في الأرض ولا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح ، فلهذا قال : {يُفْسِدُونَ فِى الارْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} ثم بين تعالى أن من جملة ذلك ما هموا به من أمر صالح عليه السلام.
أما قوله : {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} فيحتمل أن يكون أمراً أو خبراً في محل الحال بإضمار قد ، أي قالوا متقاسمين ، والبيات متابعة العدو ليلاً.
أما قوله : {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّه مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِه } يعني لو اتهمنا قومه حلفنا لهم أنا لم نحضر. وقرىء (مهلك) بفتح الميم واللام وكسرها من هلك ومهلك بضم الميم من أهلك ، ويحتمل المصدر والمكان والزمان ، ثم إنه سبحانه قال : {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وقد اختلفوا في مكر الله تعالى على وجوه : أحدها : أن مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون ، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة ، روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ، ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله تعالى صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فهلكوا وهلك الباقون بالصيحة وثانيها : جاؤا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة ، يرون الأحجار ولا يرمون رامياً وثالثها : أن الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 562
أما قوله : {أَنَّا دَمَّرْنَـاهُمْ} استئناف ، ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هي تدمرهم أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر كان أي كان عاقبة مكرهم الدمار.
أما قوله : {خَاوِيَةَ } فهو حال عمل فيها ما دل عليه تلك ، وقرأ عيسى بن عمر (خاوية) بالرفع على خبر المبتدأ المحذوف والله أعلم.
/ القصة الرابعة ـ قصة لوط عليه السلام
جزء : 24 رقم الصفحة : 562
563
قال صاحب "الكشاف" ، واذكر لوطاً أو أرسلنا لوطاً بدلالة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ} (النمل : 45) عليه ، و(إذ) بدل على الأول ظرف على الثاني.
أما قوله : {أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} فهو على وجه التنكير وإن كان بلفظ الاستفهام وربما كان التوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ.
(1/3467)

أما قوله : {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ففيه وجوه : أحدها : أنهم كانوا لا يتحاشون من إظهار ذلك على وجه الخلاعة ولا يتكاتمون وذلك أحد ما لأجله عظم ذلك الفعل منهم فذكر في توبيخه لهم ماله عظم ذلك الفعل وثانيها : أن المراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها وأن الله تعالى لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادة لله في حكمته وثالثها : تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم ، فإن قلت فسرت (تبصرون) بالعلم وبعده {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فكيف يكونون علماء وجهلاء ؟
قلت أراد تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك أو تجهلون العاقبة أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها ، ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جواباً له فقال : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُم إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال : إنما قالوا ذلك على / وجه الهزء ، ثم بين تعالى أنه نجاه وأهله إلا امرأته وأهلك الباقين وقد تقدم كل ذلك مشروحاً والله أعلم ، وههنا آخر القصص في هذه السورة والله أعلم.
القول في خطاب الله عز وجل مع محمد صلى الله عليه وسلّم
جزء : 24 رقم الصفحة : 563
563
في هذه الآية قولان : الأول : أنه متعلق بما قبله من القصص والمعنى الحمد لله على إهلاكهم وسلام على عباده الذين اصطفى بأن أرسلهم ونجاهم الثاني : أنه مبتدأ فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وكان محمد صلى الله عليه وسلّم كالمخالف لمن قبله في أمر العذاب لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه ، أمره تعالى بأن يشكر ربه على ما خصه بهذه النعم ، وبأن يسلم على الأنبياء عليهم السلام الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فأما قوله : {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} فهو تبكيت للمشركين وتهكم بحالهم ، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً على نهاية ضلالهم وجهلهم وقرىء {يُشْرِكُونَ} بالياء والتاء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قرأها قال : "بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم".
ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى تكلم بعد ذلك في عدة فصول :
الفصل الأول : في الرد على عبدة الأوثان ، ومدار هذا الفصل على بيان أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لأصول النعم وفروعها ، فكيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه ألبتة ، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر أنواعا :
النوع الأول ـ ما يتعلق بالسموات
جزء : 24 رقم الصفحة : 563
565
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الفرق بين أم وأم في {أَمَّا يُشْرِكُونَ} و{أَمَّنْ خَلَقَ} أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل ، والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة ، وقيل {ذَاتَ} لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة ، كما يقال النساء ذهبت / والبهجة الحسن ، لأن الناظر يبتهج به {مَّعَ اللَّه بَلْ} أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له وقرىء {أَنَّ مَعَ اللَّهِ} بمعنى (تدعون أو تشركون).
المسألة الثانية : أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السموات والأرض ، وجعل السماء مكاناً للماء ، والأرض للنبات ، وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة ، ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة ، ثم قال : {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} وقد اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل ، يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام.
المسألة الثالثة : يقال ما حكمة الالتفات في قوله : {فَأَنابَتْنَا} ؟
جوابه : أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى ، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان ، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها ، وفاعل السبب فاعل للمسبب ، فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً ، لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله : {فَأَنابَتْنَا} وقال : {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ } لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها ، فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا.
النوع الثاني ـ ما يتعلق بالأرض
جزء : 24 رقم الصفحة : 565
566
(1/3468)

قال صاحب "الكشاف" {أَمَّن جَعَلَ} وما بعده بدل من {أَمَّنْ خَلَقَ} (النمل : 6) فكان (حكمها) حكمه.
واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أموراً أربعة :
المنفعة الأولى : كونها قراراً وذلك لوجوه : الأول : أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني : أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث : أنه تعالى جعلها كثيفة / غبراء ليستقر عليها النور ، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها ، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع : أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ، ولولا ذلك لما اختلفت الفصول ، ولما حصلت المنافع الخامس : أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة ، وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس : أنه سبحانه جعلها كفاتاً للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح.
المنفعة الثانية الأرض : قوله : {وَجَعَلَ خِلَـالَهَآ أَنْهَـارًا} فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة : الأول : ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة ، ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءاً الثاني : ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث : مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض ، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذاً تندفع إليه بأدنى حركة الرابع : مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 566
المنفعة الثالثة للأرض : قوله : {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} والمراد منها الجبال ، فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها ، أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به ، فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض ، فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء ، ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل ، ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري ، وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة. وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة : أحدها : أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها : أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها : أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر/ والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل ، فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر. وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر / وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال.
(1/3469)

المنفعة الرابعة للأرض : قوله : {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط ، وأيضاً فلينتفع بذلك الحاجز ، وأيضاً المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزاً لكي لا يفسد أحدهما بالآخر ، وقال بعض الحكماء في قوله : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} (الرحمن : 19 ، 20) قال عند عدم البغي {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن : 22) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر ، فإن قيل ولم جعل البحر ملحاً ؟
قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام ، واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار ، والأنهار تستمد في الأكثر من العيون ، وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل ، ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهاً مستمراً فإن كثيراً من العيون يغور ، وكثيراً ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار ، وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب ، ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية ، ونبه بقوله تعالى : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر.
النوع الثالث ـ ما يتعلق باحتياج الخلق إليه سبحانه
جزء : 24 رقم الصفحة : 566
567
اعلم أنه سبحانه نبه في هذه الآية على أمرين : أحدهما : قوله : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} قال صاحب "الكشاف" : الضرورة الحالة المحوجة إلى الالتجاء والاضطرار افتعال منها : يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر ، واعلم أن المضطر هو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى ، وعن السدي : الذي لا حول له ولا قوة ، وقيل المذنب إذا استغفر ، فإن قيل قد عم المضطرين بقوله : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} وكم من مضطر يدعو فلا يجاب ؟
جوابه : قد بينا في أصول الفقه أن المفرد المعرف لا يفيد / العموم وإنما يفيد الماهية فقط ، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية ، وأيضاً فإنه تعالى وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال وتمام القول في شرائط الدعاء والإجابة مذكور في قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) فأما قوله تعالى : {وَيَكْشِفُ السُّواءَ} فهو كالتفسير للاستجابة ، فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة وضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز والقاهر الذي لا ينازع وثانيهما : قوله : {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الارْضِ } فالمراد توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وأراد بالخلافة الملك والتسلط ، وقرىء {يَذَّكَّرُونَ} بالياء مع الإدغام وبالتاء مع الإدغام وبالحذف وما مزيدة أي يذكرون تذكرا قليلاً ، والمعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي.
النوع الرابع ـ ما يتعلق أيضاً باحتياج الخلق ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص
جزء : 24 رقم الصفحة : 567
567
(1/3470)

اعلم أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين : الأول : قوله : {أَمَّن يَهْدِيكُمْ} والمراد يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر الثاني : قوله : {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} فإنه سبحانه هو الذي يحرك الرياح فتثير السحاب ثم تسوقه إلى حيث يشاء ، فإن قيل لا نسلم أنه تعالى هو الذي يحرك الرياح ، فإن الفلاسفة قالت الرياح إنما تتولد عن الدخان وليس الدخان كله هو الجسم الأسود المرتفع مما احترق بالنار ، بل كل جسم أرضي يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان قالوا وتولد الرياح من الأدخنة على وجهين أحدهما أكثري ، والآخر أقلي ، أما الأكثري فهو أنه إذا صعدت أدخنة كثيرة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء أو لا ينكسر فإن انكسر فلا محالة يثقل وينزل فيحصل من نزولها تموج الهواء فتحدث الريح ، وإن لم ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء فلا بد وأن يتصاعد إلى أن يصل إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك وحينئذ لا يتمكن من الصعود بسبب حركة النار فترجع تلك الأدخنة وتصير ريحاً ، لا يقال لو كان اندفاع هذه الأدخنة بسبب حركة الهواء العالي لما كانت حركتها إلى أسفل بل إلى جهة حركة الهواء العالي لأنا نقول الجواب من وجهين : أحدهما : أنه ربما أوجبت هيئة صعود تلك الأدخنة وهيئة لحوق المادة بها أن يتحرك إلى خلاف جهة المتحرك / المانع ، كالسهم يصيب جسماً متحركاً فيعطفه تارة إلى جهته إن كان الحابس كما يقدر على صرف المتحرك عن متوجهه يقدر أيضاً على صرفه إلى جهة حركة نفسه وتارة إلى خلاف تلك الجهة إذا كان المفارق يقدر على الحبس ولا يقدر على الصرف الثاني : أنه ربما كان صعود بعض الأدخنة من تحت مانعاً للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يتسفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرك إلى سائر الجوانب ، واعلم أن لأهل الإسلام ههنا مقامين : الأول : أن يقيم الدلالة على فساد هذه العلة وبيانه من وجهين : الأول : أن الأجزاء الدخانية أرضية فهي أثقل من الأجزاء البخارية المائية ، ثم إن البخار لما يبرد ينزل على الخط المستقيم مطراً فالدخان لما برد فلماذا لم ينزل على الخط المستقيم بل ذهب يمنة ويسرة ؟
الثاني : أن حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعية وحركتها يمنة ويسرة عرضية والطبيعية أقوى من العرضية ، وإذا لم يكن أقوى فلا أقل من المساواة ، ثم إن الريح عند حركتها يمنة ويسرة ربما تقوى على قلع الأشجار ورمي الجدار بل الجبال ، فتلك الأجزاء الدخانية عندما تحركت حركتها الطبيعية التي لها وهي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقف ، ولكنا نرى الغبار الكثير ينزل من الهواء ويسقط على السقف ولا يحس بنزوله فضلاً عن أن يهدمه فثبت فساد ما ذكروه المقام الثاني : هب أن الأمر كما ذكروه ولكن الأسباب الفاعلية والقابلية لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى ، فإنه لولا الشمس وتأثيرها في تصعيد الأبخرة والأدخنة ولولا طبقات الهواء ، وإلا لما حدثت هذه الأمور ، ومعلوم أن من وضع أسباباً فأدته إلى منافع عجيبة وحكم بالغة فذلك الواضع هو الذي فعل تلك المنافع ، فعلى جميع الأحوال لا بد من شهادة هذه الأمور على مدبر حكيم واجب لذاته ، قطعاً لسلسلة الحاجات.
النوع الخامس ـ ما يتعلق بالحشر والنشر
جزء : 24 رقم الصفحة : 567
568
اعلم أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة بقوله : {أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } لأن نعم الآخرة بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف فقد تضمن الكلام كل هذه النعم ، ومعلوم أنها لا تتم إلا بالأرزاق فلذلك قال : {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } ، ثم قال : {مَّعَ اللَّه بَلْ} منكراً لما هم عليه ، ثم بين بقوله : {قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} أن لا برهان لكم فإذن هم مبطلون ، وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوى من / وعلى فساد التقليد ، فإن قيل كيف قيل لهم : {اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ا } وهم منكرون للإعادة ؟
جوابه : كانوا معترفين بالابتداء ، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية ، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار ، وههنا آخر الدلائل المذكورة على كمال قدرة الله تعالى.
جزء : 24 رقم الصفحة : 568
570
(1/3471)

اعلم أنه تعالى لما بين أنه المختص بالقدرة فكذلك بين أنه هو المختص بعلم الغيب ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود ، لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب ، فإن قيل الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السموات والأرض فوجب كونه ممن في السموات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان والجواب : هذه الآية متروكة الظاهر لأن من قال إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السموات ، ومن قال إنه ليس في مكان فقد نزهه عن كل الأمكنة ، فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السموات والأرض فإذن وجب تأويله فنقول إنه تعالى ممن في السموات والأرض كما يقول المتكلمون : الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها ، لا يقال إن كونه في السموات والأرض مجاز وكونهم فيهن حقيقة وإرادة المتكلم بعبارة واحدة ومجازاً غير جائزة ، لأنا نقول كونهم في السموات والأرض ، كما أنه حاصل حقيقة وهو حصول ذواتهم في الأحياز فكذلك حاصل مجازاً ، وهو كونهم عالمين بتلك الأمكنة فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه فصح الاستثناء.
أما قوله : {وَمَا يَشْعُرُونَ} فهو صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم الغيب وذكر في جملة الغيب متى البعث بقوله : {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فأيان بمعنى متى وهي كلمة مركبة من أي والآن وهو الوقت وقرىء {أَيَّانَ} بكسر الهمزة.
أما قوله : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الآخِرَةِ } فاعلم أن كلام صاحب "الكشاف" فيه مرتب على ثلاثة أبحاث :
/ البحث الأول : فيه اثنتا عشرة قراءة بل أدرك بل أدرك بل ادارك بل تدارك بل أأدرك بهمزتين بل آأدرك بألف بينهما بل آدرك بالتخفيف والنقل بل ادرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل أدرك على الاستفهام بلى أدرك بلى أأدرك أم تدارك أو أدرك.
جزء : 24 رقم الصفحة : 570
البحث الثانث : ادارك أصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وادَّرك افتعل.
البحث الثالث : معنى ادَّرك علمهم انتهى وتكامل وأدرك تتابع واستحكم ثم فيه وجوه : أحدها : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفتها وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} يريد المشركين ممن في السماوات والأرض لأنهم لما كانوا من جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم. فإن قيل الآية سيقت لاختصاص الله تعالى بعلم الغيب وإن العباد لا علم لهم بشيء منه وإن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به ، فكيف ناسب هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة ؟
والجواب : كأنه سبحانه قال كيف يعلمون الغيب مع أنهم شكوا في ثبوت الآخرة التي دلت الدلائل الظاهرة القاهرة عليها فمن غفل عن هذا الشيء الظاهر كيف يعلم الغيب الذي هو أخفى الأشياء الوجه الثاني : أن وصفهم باستحكام العلم تهكم بهم كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزء وذلك حيث شكوا في إثبات ما الطريق إليه واضح ظاهر الوجه الثالث : أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى من قولك أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك/ أما وجه قراءة من قرأ بل أأدرك على الاستفهام فهو أنه استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم وكذا من قرأ أم أدرك وأم تدارك لأنها أم هي التي بمعنى بل والهمزة وأما من قرأ بلى أدرك فإنه لما جاء ببلى بعد قوله : {وَمَا يَشْعُرُونَ} كان معناه بلى يشعرون ثم فسر الشعور بقوله أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون ، وأما من قرأ بلى أأدرك على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها وإذ أنكر علمهم بكونها وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها. فإن قلت هذه الإضرابات الثلاث ما معناها ؟
قلت ماهي إلا بيان درجاتهم وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وفيه نكتة وهي أنه تعالى جعل الآخرة مبدأ عماهم فلذلك عداه بمن دون عن لأن الفكر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 570
571
(1/3472)

اعلم أنه سبحانه لما تكلم في حال المبدأ تكلم بعده في حال المعاد ، وذلك لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من الشك في كمال القدرة ، أو في كمال العلم فإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات ، وعالماً بكل المعلومات ، ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره ، وثبت أنه قادر على أن يعيد التركيب والحياة إليها وإذا ثبت إمكان ذلك ثبت صحة القول بالحشر فلما بين الله تعالى هذين الأصلين فيما قبل هذه الآية ، لا جرم لم يحكه في هذه الآية ، فحكى عنهم أنهم تعجبوا من إخراجهم أحياء وقد صاروا تراباً وطعنوا فيه من وجهين : الأول : قولهم : {لَقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا} أي هذا كلام كما قيل لنا فقد قيل لمن / قبلنا ، ولم يظهر له أثر فهو إذن من أساطير الأولين يريدون ما لا يصح من الأخبار ، فإن قيل ذكر ههنا {لَقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا} وفي آية أخرى : {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَـاذَا} (المؤمنون : 83) فما الفرق ؟
قلنا التقديم دليل على أن المقدم هو المقصود الأصلي وأن الكلام سيق لأجله ، ثم إنه سبحانه لما كان قد بين الدلالة على هذين الأصلين ، ومن الظاهر أن كل من أحاط بهما فقد عرف صحة الحشر والنشر ثبت أنهم أعرضوا عنها ولم يتأملوها ، وكان سبب ذلك الإعراض حب الدنيا وحب الرياسة والجاه وعدم الانقياد للغير ، لا جرم اقتصر على بيان أن الدنيا فانية زائلة فقال : {قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} وفيه سؤالان :
جزء : 24 رقم الصفحة : 571
السؤال الأول : لم لم يقل : كيف كانت عاقبة المجرمين ؟
جوابه : لأن تأنيثها غير حقيقي ولأن المعنى كيف كان آخر أمرهم.
السؤال الثاني : لم لم يقل عاقبة الكافرين ؟
جوابه : الغرض أن يحصل التخويف لكل العصاة ثم إنه تعالى صبر رسوله على ما يناله من هؤلاء الكفار فقال : {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} فجمع بين إزالة الغم عنه بكفرهم وبين إزالة الخوف من جانبهم ، وصار ذلك كالتكفل بنصرته عليهم وقوله : {وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ} أي في حرج قلب يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر والضيق تخفيف الضيق ، ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم الوجه الثاني : للكفار قولهم : {مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ} وقوله : {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} دل على أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله : {عَسَى ا أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} وهو عذاب يوم بدر ، فزيدت اللام للتأكيد كالباء في {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} (البقرة : 195) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم/ ومعناه تبعكم ولحقكم ، وقرأ الأعرج {رَدِفَ لَكُم} بوزن ذهب وهما لغتان ، والكسر أفصح ، وههنا بحثان :
البحث الأول : أن عسى ولعل في وعد الملوك ووعيدهم يدلان على صدق الأمر ، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ، وأنهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم ، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.
الثاني : أنه قد ثبت بالدلائل العقلية أن عذاب الحجاب أشد من عذاب النار ، ولذلك قال : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} (المطففين : 15 ، 16) فقدم الحجاب على الجحيم ، ثم إنهم كانوا محجوبين في الحال ، فكان سبب العذاب بكماله حاصلاً ، إلا أن الاشتغال بالدنيا ولذاتها كالعائق عن إدراك ذلك الألم ، كما أن العضو الخدر إذا مسته النار ، فإن سبب الألم حاصل في الحال ، لكنه لا يحصل الشعور بذلك الألم لقيام العائق ، فإذا زال العائق عظم البلاء ، فكذا ههنا إذا زال البدن عظم عذاب الحجاب ، فقوله سبحانه : {عَسَى ا أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} يعني المقتضي له والمؤثر فيه حاصل ، وتمامه إنما يحصل بعد الموت ، ثم إنه سبحانه بين / السبب في ترك تعجيل العذاب فقال : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} والفضل الإفضال ومعناه أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة ، وأكثرهم لا يعرفون هذه النعمة ولا يشكرونها ، وهذه الآية تبطل قول من قال إنه لا نعمة لله على الكفار ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في قلوبهم فقال : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} وههنا بحث عقلي ، وهو أنه قدم ما تكنه صدورهم على ما يعلنون من العلم والسبب أن ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود ، وهي أسباب لما يعلنون ، وهي أفعال الجوارح ، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، فهذا هو السبب في ذلك التقديم ، قرىء (تكن) يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته ، يعني أنه تعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 571
(1/3473)

أما قوله : {وَمَا مِنْ غَآاـاِبَةٍ} فقال صاحب "الكشاف" : سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية ، فكانت التاء فيها بمنزلتها في العاقبة والعافية والنطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية في قولهم : ويل للشاعر من راوية السوء ، كأنه تعالى قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء ، إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به ، وأثبته في اللوح المحفوظ والمبين الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.
جزء : 24 رقم الصفحة : 571
573
اعلم أنه سبحانه لما تمم الكلام في إثبات المبدإ والمعاد ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة ، ولما كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم هو القرآن ، لا جرم بين الله تعالى أولاً كونه / معجزة من وجوه : أحدها : أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً ، وأنه لم يخالط أحداً من العلماء ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم ، فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى ، واختلفوا فقال بعضهم أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا ، وقال آخرون أراد به ما حرفه بعضهم ، وقال بعضهم بل أراد به أخبار الأنبياء ، والأول أقرب وثانيها : قوله : {وَإِنَّه لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} وذلك لأن بعض الناس قال إنا لما تأملنا القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنبوة ، وشرح صفات الله تعالى وبيان نعوت جلاله ما لم نجده في شيء من الكتب ، ووجدنا ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول موافقة لها ، وجدناه مبرأ عن التناقض والتهافت ، فكان هدى ورحمة من هذه الجهات ووجدنا القوى البشرية قاصرة على جمع كتاب على هذا الوجه ، فعلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى ، فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة وثالثها : أنه هدى ورحمة للمؤمنين ، لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزوا عن معارضته وذلك معجز ، ثم إنه تعالى لما بين كونه معجزاً دالاً على الرسالة ذكر بعده أمرين : الأول : قوله : {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِه ا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} والمراد أن القرآن وإن كان يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، لكن لا تكن أنت في قيدهم ، فإن ربك هو الذي يقضي بينهم ، أي بين المصيب والمخطىء منهم ، وذلك كالزجر للكفار فلذلك قال :
جزء : 24 رقم الصفحة : 573
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي القادر الذي لا يمنع العليم بما يحكم فلا يكون إلا الحق ، فإن قيل القضاء والحكم شيء واحد فقوله : {يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِه } كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه والجواب : معنى قوله : {بِحُكْمِه } أي بما يحكم به وهو عدله ، لأنه لا يقضي إلا بالعدل ، أو أراد بحكمه ، ويدل عليه قراءة من قرأ (بحكمه) جمع حكمة الثاني : أنه تعالى أمره بعد ظهور حجة رسالته بأن يتوكل على الله ، ولا يلتفت إلى أعداء الله ، ويشرع في تمشية مهمات الرسالة بقلب قوي ، فقال {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه } ثم علل ذلك بأمرين : أحدهما : قوله : {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} وفيه بيان أن المحق حقيق بنصرة الله تعالى وأنه لا يخذل وثانيهما : قوله : {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وإنما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل ، وذلك لأن الإنسان ما دام يطمع في أحد أن يأخذ منه شيئاً فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته ، فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته ، فالله سبحانه وتعالى قطع محمداً صلى الله عليه وسلّم عنهم بأن بين له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمى فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل/ وهذا سبب لقوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي ، فإن قيل ما معنى قوله : {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} جوابه : هو تأكيد لحال الأصم ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته.
أما قوله تعالى : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ } فالمعنى ما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته ، أي يصدقون بها فهم مسلمون ، أي مخلصون من قوله : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ} (البقرة : 112) / يعني جعله سالماً لله تعالى خالصاً له ، والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 573
574
(1/3474)

اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم ، ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر ، ثم بين الوجه في كون القرآن معجزاً ، ثم فرع عليه نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة ، وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة ، لما أن هذه الاْشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق وهذا هو النهاية في جودة الترتيب. واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة ، وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة ، فذكر أولاً من علامات القيامة دابة الأرض ، والناس تكلموا فيها من وجوه : أحدها : في مقدار جسمها ، وفي الحديث أن طولها ستون ذراعاً ، وروي أيضاً أن رأسها تبلغ السحاب. وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب وثانيها : في كيفية خلقتها ، فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها : رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن إيَّل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة (بقرة) وذنب كبش وخف بعير وثالثها : في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنه تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام ورابعها : في موضع خروجها "سئل النبي صلى الله عليه وسلّم من أين تخرج الدابة ؟
فقال من أعظم المساجد / حرمة على الله تعالى المسجد الحرام" وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية وخامسها : في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات ، تخرج بأقصى اليمن ، ثم تكمن ، ثم تخرج بالبادية ، ثم تكمن دهراً طويلاً ، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون (نظارة).
جزء : 24 رقم الصفحة : 574
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور ، فإن صح الخبر فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل وإلا لم يلتفت إليه.
أما قوله تعالى : {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله ، والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها ، أما دابة الأرض فقد عرفتها.
وأما قوله : {تُكَلِّمُهُمْ} فقرىء (تكْلِمهم) من الكلم وهو الجرح ، روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ، وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه. واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً على معنى التكثير يقال فلان مكلم ، أي مجرح. وقرأ أبي (تنبئهم) ، وقرأ ابن مسعود تكلمهم بأن الناس ، والقراءة بإن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك ، أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة. فإن قيل إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف يقول (بآياتنا) ؟
جوابه : أن قولها حكاية لقول الله تعالى ، أو على معنى بآيات ربنا ، أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها ، كما يقال بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا ، وإنما هي خيل مولاه وبلاده ، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار ، أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وأما قوله : {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـاَايَـاتِنَا} فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة ، فالفرق بين من الأولى والثانية ، أن الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين كقوله : {مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30).
أما قوله : {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار ، وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه ، كما وصفت جنود سليمان بذلك وقوله : {حَتَّى ا إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـاَايَـاتِى} فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم ، فالمراد كل الآيات فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها.
أما قوله : {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} فالواو للحال كأنه قال أكذبتم بها ، بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 574
(1/3475)

أما قوله : {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم ، فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ؟
كأنه قال كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل ، ثم قال : {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} يريد أن / العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله : {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} (المرسلات : 35) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال : {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } أما وجه دلالته على التوحيد فلما ظهر في العقول أن التقليب من النور إلى الظلمة ، ومن الظلمة إلى النور ، لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وإما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس ، فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة ، ومن الموت إلى الحياة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة ، فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع ؟
فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كفرهم واستحقاقهم العذاب ، ثم في الآية سؤالان :
السؤال الأول : ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله ؟
جوابه : تنبيهاً على كمال هذه الصفة فيه.
السؤال الثاني : لما قال : {جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} فلم لم يقل والنهار لتبصروا فيه ؟
جوابه : لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل ، وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية.
وأما قوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خص المؤمنين بالذكر ، وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره.
جزء : 24 رقم الصفحة : 574
574
اعلم أن هذا هو العلامة الثانية لقيام القيامة.
أما قوله : {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ} ففيه وجوه : أحدها : أنه شيء شبيه بالقرن ، وأن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن الله تعالى ، فإذا سمع الناس ذلك الصوت وهو في الشدة بحيث لا تحتمله طبائعهم يفزعون عنده ويصعقون ويموتون وهو كقوله تعالى : {فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ} (المدثر : 8) وهذا قول الأكثرين وثانيها : يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموت فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش / عند سماع صوت الآلة وثالثها : أن الصور جمع الصور وجعلوا النفخ فيها نفخ الروح والأول أقرب لدلالة الظاهر عليه ولا مانع يمنع منه.
أما قوله : {فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ} فاعلم أنه إنما قال (ففزع) ولم يقل فيفزع للإشعار بتحقيق الفزع وثبوته ، وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به والمراد فزعهم عند النفخة الأولى.
أما قوله : {إِلا مَن شَآءَ اللَّه } فالمراد إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وملك الموت ، وقيل الشهداء ، وعن الضحاك الحور وخزنة النار وحملة العرش ، وعن جابر موسى منهم لأنه صعق مرة ومثله قوله تعالى : {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه } (الزمر : 68) وليس فيه خبر مقطوع ، والكتاب إنما يدل على الجملة.
أما قوله : {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} فقرىء (أتوه) و(أتاه) ودخرين وداخرين فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ والداخر والدخر الصاغر ، وقيل معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية ، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمر الله وانقيادهم له.
جزء : 24 رقم الصفحة : 574
575
اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة وهي تسيير الجبال ، والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً.
أما قوله : {صُنْعَ اللَّهِ} فهو من المصادر المؤكدة كقوله : {وَعَدَ اللَّهُ} (النساء : 95) و{صِبْغَةَ اللَّه } (البقرة : 138) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب قال القاضي عبد الجبار فيه دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه والجواب : أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات فيمتنع وصف الأعراض بها والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 575
577
(1/3476)

/ اعلم أنه تعالى لما تكلم في علامات القيامة شرح بعد ذلك أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكون مطيعاً أو عاصياً ، أما المطيع فهو الذي جاء بالحسنة وله أمران : أحدهما : أن له ما هو خير منها وذلك هو الثواب ، فإن قيل الحسنة التي جاء العبد بها يدخل فيها معرفة الله تعالى والإخلاص في الطاعات والثواب ، إنما هو الأكل والشرب فكيف يجوز أن يقال الأكل والشرب خير من معرفة الله جوابه من جوابه : أحدها : أن ثواب المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ، ولذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى ، وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ، ولو لم تحمل الآية على ذلك لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى وأنه باطل وثانيها : أن الثواب خير من العمل من حيث إن الثواب دائم والعمل منقضي ولأن العمل فعل العبد ، والثواب فعل الله تعالى وثالثها : {فَلَه خَيْرٌ مِّنْهَا} أي له خير حاصل من جهتها وهو الجنة.
السؤال الثاني : الحسنة لفظة مفردة معرفة ، وقد ثبت أنها لا تفيد العموم بل يكفي في تحققها حصول فرد ، وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً وأعلاها درجة وهو الإيمان ، فلهذا قال ابن عباس من أفراد الحسنة كلمة الشهادة ، وهذا يوجب القطع بأن لا يعاقب أهل الإيمان وجوابه : ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً الأمر الثاني : للمطيع هو أنهم آمنون من كل فزع ، لا كما قال بعضهم إن أهوال القيامة تعم المؤمن والكافر ، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول الآية : {فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ} (النمل : 87) فكيف نفى الفزع ههنا ؟
جوابه : أن الفزع الأول هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس لشدة تقع وهو يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه كما قيل ، يدخل الرجل بصدر هياب وقلب وجاب ، وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة ، وأما الثاني فالخوف من العذاب. أما قراءة من قرأ من فزع بالتنوين فهي تحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العقاب ، وأما ما يلحق الإنسان من الهيبة والرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد ، وفي الأخبار ما يدل عليه ، ومن فزع شديد مفرط الشدة لا يكتنهه الوصف ، وهو خوف النار وأمن يعدي بالجار وبنفسه كقوله تعالى : {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} (الأعراف : 99) فهذا شرح حال المطيعين ، أما شرح حال العصاة فهو قوله : {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} قيل السيئة الإشراك وقوله : {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} فاعلم أنه يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة فكأنه قيل فكبوا في النار كقوله : {فَكُبْكِبُوا } (الشعراء : 94) ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذاناً بأنهم يلقون على وجوههم فيها (مكبوبين).
/
جزء : 24 رقم الصفحة : 577
أما قوله : {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيجوز فيه الالتفات ، وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.
جزء : 24 رقم الصفحة : 577
577
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب ، وذلك كمال ما يتعلق ببيان أصول الدين ختم الكلام بهذه الخاتمة اللطيفة فقال : قل يا محمد إني أمرت بأشياء : الأول : أني أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكاً ، وأن الله تعالى لما قدم دلائل التوحيد فكأنه أمر محمداً بأن يقول لهم هذه الدلائل التي ذكرتها لكم إن لم تفد لكم القول بالتوحيد فقد أفادت لي ذلك فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها ، فإني مصر عليها غير مرتاب فيها ثم إنه وصف الله تعالى بأمرين : أحدهما : أنه رب هذه البلدة والمراد مكة وإنما اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه.
(1/3477)

أما قوله : {الَّذِى حَرَّمَهَا} فقرىء (التي حرمها) ، وإنما وصفها بالتحريم لوجوه : أحدها : أنه حرم فيها أشياء على من يحج وثانيها : أن اللاجيء إليها آمن وثالثها : لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله تعالى ، فكأنه قال لما علمت وعلمتم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليَّ أن أخصه بالعبادة وثانيها : وصف الله تعالى بقوله : {وَلَه كُلُّ شَىْءٍ } وهذا إشارة إلى ما تقدم من الدلائل المذكورة في هذه السورة على التوحيد من كونه تعالى خالقاً لجميع النعم فأجمل ههنا تلك المفصلات ، وهذا كمن أراد صفة بعض الملوك بالقوة فيعد تلك التفاصيل ثم بعد التطويل يقول إن كل العالم له وكل الناس في طاعته الثاني : أمر بأن يكون / من المسلمين الثالث : أمر بأن يتلو القرآن عليهم ، ولقد قام بكل ذلك صلوات الله عليه أتم قيام فمن اهتدى في هذه المسائل الثلاث المتقدمة وهي التوحيد والحشر والنبوة {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه } أي منفعة اهتدائه راجعة إليه {وَمَن ضَلَّ} فلا علي وما أنا إلا رسول منذر ، ثم إنه سبحانه ختم هذه (السورة) بخاتمة في نهاية الحسن وهي قوله : {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة وبالإنذار {سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِه } القاهرة {فَتَعْرِفُونَهَا } لكن حين لا ينفعكم الإيمان {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} لأنه من وراء جزاء العاملين ، والله أعلم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 577
تم تفسير السورة والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي
وعلى آله وصحبه أجمعين على أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
جزء : 24 رقم الصفحة : 577
579
(1/3478)

سورة القصص
مكية كلها إلا قوله {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِه هُم بِه يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِه إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِه مُسْلِمِينَ} وقيل إلا آية وهي {إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} الآية وهي سبع
أو ثمان وثمانون آية
جزء : 24 رقم الصفحة : 579
581
/ اعلم أن قوله تعالى : {طسام } كسائر الفواتح وقد تقدم القول فيها و{تِلْكَ} إشارة إلى آيات السورة و{الْكِتَابِ الْمُبِينِ} هو إما اللوح وإما الكتاب الذي وعد الله إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلّم فبين أن آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام ، أو لأنه بين بفصاحته أنه من كلام الله دون كلام العباد ، أو لأنه يبين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم أو لأنه يبين خبر الأولين والآخرين ، أو لأنه يبين كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال.
/
جزء : 24 رقم الصفحة : 581
أما قوله تعالى : {نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي على لسان جبريل عليه السلام لأنه كان يتلو على محمد حتى يحفظه ، وقوله : {مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} فهو مفعول {نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نتلو عليك بعض خبرهما بالحق محقين ، كقوله : {تَنابُتُ بِالدُّهْنِ} (المؤمنون : 20) وقوله : {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى قد أراد بذلك من لا يؤمن أيضاً لكنه خص المؤمنين بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا فهو كقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) ، والثاني : يحتمل أنه تعالى علم أن الصلاح في تلاوته هو إيمانهم وتكون إرادته لمن لا يؤمن كالتبع ، قوله تعالى : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ} قرىء فرعون بضم الفاء وكسرها ، والكسر أحسن وهو كالقسطاس والقسطاس {عَلا} استكبر وتجبر وتعظم وبغى ، والمراد به قوة الملك والعلو في الأرض يعني أرض مملكته ، ثم فصل الله تعالى بعض ذلك بقوله : {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم مخالفته أو يشيع بعضهم بعضاً في استخدامه أو أصنافاً في استخدامه أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع أو المراد ما فسره بقوله : {يَسْتَضْعِفُ طَآا ِفَةً مِّنْهُمْ} أي يستخدمهم {يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا} فهذا هو المراد بالشيع. قوله : {يَسْتَضْعِفُ طَآا ِفَةً مِّنْهُمْ} تلك الطائفة بنو إسرائيل ، وفي سبب ذبح الأبناء وجوه : أحدها : أن كاهناً قال له يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب ملكك على يده ، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم ، وعند أكثر المفسرين بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة ، قال وهب قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفاً من بني إسرائيل. قال بعضهم في هذا دليل على حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل ؟
وهذا السؤال قد يذكر في تزييف علم الأحكام من علم النجوم ونظيره ما يقوله نفاة التكليف إن كان زيد في علم الله وفي قضائه من السعداء فلا حاجة إلى الطاعة ، وإن كان من الأشقياء فلا فائدة في الطاعة ، وأيضاً فهذا السؤال لو صح لبطل علم التعبير ومنفعته ، وأيضاً فجواب المنجم أن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا ، وعلى هذا التقدير لا يكون السعي في قتله عبثاً.
جزء : 24 رقم الصفحة : 581
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأن إسناد مثل هذا الخبر إلى الكاهن اعتراف بأنه قد يخبر عن الغيب على سبيل التفصيل ، ولو جوزناه لبطلت دلالة الأخبار عن الغيب على صدق الرسل وهو بإجماع المسلمين باطل وثانيها : وهو قول السدي أن فرعون رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس واشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقالوا يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر ، فأمر بقتل الذكور وثالثها : أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل ، وهذا الوجه هو الأولى بالقبول ، قال صاحب "الكشاف" : {يَسْتَضْعِفُ} حال من الضمير في {وَجَعَلَ} أو صفة لشيعا ، أو كلام مستأنف و{يُذَبِّحُ} بدل من {يَسْتَضْعِفُ} / وقوله : {إِنَّه كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} يدل على أن ذلك القتل ما حصل منه إلا الفساد ، وأنه لا أثر له في دفع قضاء الله تعالى.
أما قوله : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} فهو جملة معطوفة على قوله : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ} لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى عليه السلام وفرعون واقتصاصاً له ، واللفظ في قوله : {وَنُرِيدُ} للاستقبال ولكن أريد به حكاية حال ماضية ويجوز أن يكون حالاً من {يَسْتَضْعِفُ} أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم ، فإن قيل كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يتوقف إلى وقت آخر ؟
قلنا لما كان منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.
أما قوله : {وَنَجْعَلَهُمْ أَا ِمَّةً} أي متقدمين في الدنيا والدين وعن مجاهد دعاة إلى الخير وعن قتادة ولاة كقوله : {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} (المائدة : 20) ، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} يعني لملك فرعون وأرضه وما في يده.
أما قوله : {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الارْضِ} فاعلم أنه يقال مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه(أو يرقد) فوطأه ومهده ، ونظيره أرض له ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام أن ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم وقوله : {وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} قرىء {وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} أي يرون منهم ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود بني إسرائيل.
جزء : 24 رقم الصفحة : 581
582
(1/3479)

/ اعلم أنه تعالى لما قال : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ} (القصص : 5) ابتدأ بذكر أوائل نعمه في هذا الباب بقوله : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى } والكلام في هذا الوحي ذكرناه في سورة طه (37 ، 38) في قوله : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّكَ مَا يُوحَى } وقوله : {أَنْ أَرْضِعِيه } كالدلالة على أنها أرضعته وليس في القرآن حد ذلك ، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} أن يفطن به جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء {فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ} قال ابن جريج : إنه بعد أربعة أشهر صاح فألقى في اليم والمراد باليم ههنا النيل {وَلا تَخَافِى وَلا تَحْزَنِى } والخوف غم يحصل بسبب مكروه يتوقع حصوله في المستقبل ، والحزن غم يلحقه بسبب مكروه حصل في الماضي ، فكأنه قيل ولا تخافي من هلاكه ولا تحزني بسبب فراقه {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} لتكوني أنت المرضعة له {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى أهل مصر والشام وقصة الإلقاء في اليم قد تقدمت في سورة طه. وقال ابن عباس : إن أم موسى عليه السلام لما تقارب ولادها كانت قابلة من القوابل التي وكلهم فرعون بالحبالى مصافية لأم موسى عليه السلام فلما أحست بالطلق أرسلت إليها وقالت لها قد نزل بي ما نزل ولينفعني اليوم حبك إياي فجلست القابلة فلما وقع موسى عليه السلام إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى عليه السلام قلبها فقالت يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ، ولكني وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحتفظي بابنك ، فإنه أراه عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس فلفته ووضعته في تنور مسجور فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع ، فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لم دخلت القابلة عليك ؟
قالت إنها حبيبة لي دخلت للزيارة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى أين الصبي ؟
قالت لا أدري فسمعت بكاء في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً فأخذته ، ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت فرعون جد في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل ، فذهبت إلى نجار من أهل مصر فاشترت منه تابوتاً فقال لها ما تصنعين به ؟
فقالت ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه وما عرفت أنه يفشي ذلك الخبر ، فلما انصرفت ذهب النجار ليخبر به الذباحين فلما جاءهم أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده ، فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله نطقه ، فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فأخذ الله بصره ولسانه ، فجعل لله تعالى أنه إن رد عليه بصره ولسانه فإنه لا يد لهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق فرد عليه بصره ولسانه وانطلقت أم موسى وألقته في النيل/ وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها ، فقالوا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم / كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطىء إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة ، فقال فرعون ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته وفتحته ، فإذا هي بصبي صغير في المهد وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر فرقاً منك فهم فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله.
جزء : 24 رقم الصفحة : 582
أما قوله : {ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ} فالالتقاط إصابة الشيء من غير طلب ، والمراد بآل فرعون جواريه.
أما قوله : {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } فالمشهور أن هذه اللام يراد بها العاقبة قالوا وإلا نقض قوله : {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ } ونقض قوله : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} (طه : 39) ونظير هذه اللام قوله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (الأعراف : 179) وقوله الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب
(1/3480)

واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن هذه اللام هي لام التعليل على سبيل المجاز ، وذلك لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه ، كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع والبليد على الحمار ، قرأ حمزة والكسائي (حزناً) بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بالفتح وهما لغتان مثل السقم والسقم.
أما قوله : كانوا خاطئين ففيه وجهان : أحدهما : قال الحسن معنى {كَانُوا خَـاطِاِينَ} ليس من الخطيئة بل المعنى وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم ، وأما جمهور المفسرين فقالوا معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم ، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم ، وقرىء تخفيف خاطئين أي خاطين الصواب إلى الخطأ وبين تعالى أنها التقطته ليكون قرة عين لها وله جميعاً ، قال ابن إسحق إن الله تعالى ألقى محبته في قلبها لأنه كان في وجهه ملاحة كل من رآه أحبه ، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور ، ولأنها لما فتحت التابوت رأته يمتص إصبعه ، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال برصها ويقال ما كان لها ولد فأحبته ، قال ابن عباس لما قالت : {فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ } فقال فرعون يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه ، فقال عليه السلام "والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت لهداه الله تعالى كما هداها" قال صاحب "الكشاف" {قُرَّتُ عَيْنٍ} خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن يجعل مبتدأ {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ} خبراً ولو نصب لكان أقوى ، وقراءة ابن مسعود دليل على أنه خبر ، قرأ {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَا لا تَقْتُلُوهُ} ، وذلك لتقديم لا تقتلوه ، ثم قالت المرأة {عَسَى ا أَن يَنفَعَنَآ} فنصيب / منه خيراً {أَوْ نَتَّخِذَه وَلَدًا} لأنه أهل للتبني.
جزء : 24 رقم الصفحة : 582
أما قوله : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فأكثر المفسرين على أنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده ، وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل ، وقال ابن عباس يريد لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون هذا من تمام كلام المرأة أي لا يشعر بنو إسرائيل وأهل مصر أن التقطناه ، وهذا قول الكلبي.
جزء : 24 رقم الصفحة : 582
583
ذكروا في قوله : {فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا } وجوهاً : أحدها : قال الحسن فارغاً من كل هم إلا من هم موسى عليه السلام وثانيها : قال أبو مسلم فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله : {وَأَفْـاِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} (إبراهيم : 43) ، وثالثها : قال صاحب "الكشاف" فارغاً صفراً من العقل ، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف ورابعها : قال الحسن ومحمد بن إسحق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن ألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك فجاءها الشيطان فقال لها كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه ، ولما أتاها خبر موسى عليه السلام أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها ، وخامسها : قال أبو عبيدة : فارغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل اعتماداً على تكفل الله بمصلحته قال ابن قتيبة : وهذا من العجائب كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن والله تعالى يقول : {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله لم تخف عند إظهار اسمه ، وأيقنت أنها وإن أظهرت فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار يضر فربط الله على قلبها ، ويحتمل قوله : {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِه لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالوحي فأمنت وزال عن قلبها الحزن ، فعلى هذا الوجه يصح أن يتأول على أن قلبها سلم من الحزن على موسى أصلاً ، وفيه وجه ثالث : وهو أنها سمعت أن امرأة فرعون عطفت عليه وتبنته إن كادت لتبدي به بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً بما سمعت ، لولا أن سكنا ما بها من شدة الفرح والابتهاج {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الواثقين / بوعد الله تعالى لا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها ، وقرىء (قرعاً) أي خالياً من قولهم أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء وفرغاً من قولهم : دماؤهم بينهم فرغ أي هدر يعني بطل قلبها من شدة ما ورد عليها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 583
(1/3481)

أما قوله : {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِه } فاعلم أن على قول من فسر الفراغ بالفراغ من الحزن ، قد ذكرنا تفسير قوله : {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى} وأما على قول من فسر الفراغ بحصول الخوف فذكروا وجوهاً : أحدها : قال ابن عباس كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني ، وقال في رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع ، وقال الكلبي ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون وقال السدي لما أخذ ابنها كادت تقول هو ابني فعصمها الله تعالى ، ثم قال : {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من المصدقين بوعد الله وهو قوله : {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} (القصص : 7).
أما قوله : {وَقَالَتْ لاخْتِه قُصِّيه } أي اتبعي أثره وانظري إلى أن وقع وإلى من صار وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم {فَبَصُرَتْ بِه } قال ابن عباس رضي الله عنهما أبصرته ، قال المبرد : أبصرته وبصرت به بمعنى واحد وقوله : {عَن جُنُبٍ} أي عن بعد وقرىء عن جانب وعن جنب والجنب الجانب أي نظرت نظرة مزورة متجانبة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بحالها وغرضها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 583
586
اعلم أن قوله : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} يقتضي تحريمها من قبله فإذا لم يصح بالتعبد والنهي لتعذر التمييز فلا بد من فعل سواه وذلك الفعل يحتمل أنه تعالى مع حاجته إلى اللبن أحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء ، فلذلك لم يرضع أو أحدث في لبنهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمه لذة فلما تعودها لا جرم كان يكره لبن غيرها ، وعن الضحاك كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها والمراضع جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع أي الثدي أو الرضاع وقوله : {مِن قَبْلُ} أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام ، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا فعند ذلك قالت أخته {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى ا أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَه لَكُمْ} أي يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه وهم له ناصحون لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه ، ولا يخونونكم فيه والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد ، وقال السدي إنها لما قالت : {وَهُمْ لَه نَـاصِحُونَ} دل ظاهر ذلك على أن أهل البيت يعرفونه فقال لها هامان قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه ، ولكني إنما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه ، وكل ما روي في هذا الباب يدل على أن فرعون كان بمنزلة آسية في شدة محبته لموسى عليه السلام ، لا على ما قال من زعم أنها كانت مختصة بذلك فقط ثم قال تعالى : {فَرَدَدْنَـاهُ إِلَى ا أُمِّه } بهذا الضرب من اللطف {كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فيما كان وعدها من أنه يرده إليها ، ولقد كانت عالمة بذلك ، ولكن ليس الخبر كالعيان فتحققت بوجود الموعود {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فيه وجوه أربعة : أحدها : ولكن أكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله وثانيها : قال الضحاك ومقاتل يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها برده إليها وثالثها : هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى عليه السلام فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً ورابعها : أن يكون المعنى إنا إنما رددناه إليها {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني ، ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي ، وأن ما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع ، قال الضحاك لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه ، قالت لا قال فما بالك قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي ، قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.
جزء : 24 رقم الصفحة : 586
587
(1/3482)

/ اعلم أن في قوله : {بَلَغَ أَشُدَّه وَاسْتَوَى } قولين : أحدهما : أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة واعتدال المزاج والبنية والثاني : وهو الأصح أنهما معنيان متغايران ثم اختلفوا على وجوه : أحدها : وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية ، والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية وثانيها : الأشد عبارة عن كمال القوة ، والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة وثالثها : الأشد عبارة عن البلوغ ، والاستواء عبارة عن كمال الخلقة ورابعها : قال ابن عباس الأشد ما بين الثمان عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان ، ومن الأربعين يأخذ في النقصان ، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق ، لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان ، ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلاً والقوة قوية جداً ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي ، ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر ، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكلمة فيكون الإنسان منجذباً إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص ، والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي.
جزء : 24 رقم الصفحة : 587
المسألة الثانية : اختلفوا في واحد الأشد ، قال الفراء : الأشد واحدها شد في القياس ولم يسمع لها بواحد. وقال أبو الهيثم : واحد الأشد شدة ، كما أن واحدة الأنعم نعمة ، والشدة القوة والجلادة.
أما قوله : {حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَالِكَ} ففيه وجهان الأول : أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق ، وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده ، لأن الواو في قوله : {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} لا تفيد الترتيب الثاني : آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } (الأحزاب : 34) وهذا القول أولى لوجوه : أحدها : أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي / أخلاق الكبراء والحكماء وثانيها : أن قوله : {وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل وثالثها : أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة ، لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله : {وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} لأن قوله : {وَكَذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ، ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في المدينة فالجمهور على أنها هي المدينة التي كان يسكنها فرعون ، وهي قرية على رأس فرسخين من مصر ، وقال الضحاك : هي عين شمس.
المسألة الثانية : اختلفوا في معنى قوله : {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} على أقوال : فالقول الأول : أن موسى عليه السلام لما بلغ أشده واستوى وآتاه الله الحكم والعلم في دينه ودين آبائه ، علم أن فرعون وقومه على الباطل ، فتكلم بالحق وعاب دينهم ، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن أخافوه وخافهم ، وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به ويسمعون منه ، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفاً ، فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها ، ثم الأكثرون على أنه عليه السلام دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون ، وعن ابن عباس يريد بين المغرب والعشاء والأول أولى ، لأنه تعالى أضاف الغفلة إلى أهلها ، وإذا دخل المرء مستتراً لأجل خوف ، لا تضاف الغفلة إلى القوم القول الثاني : قال السدي : إن موسى عليه السلام حين كبر كان يركب مراكب فرعون ، ويلبس مثل ما يلبس ، ويدعى موسى ابن فرعون ، فركب يوماً في أثره فأدركه المقيل في موضع ، فدخلها نصف النهار ، وقد خلت الطرق ، فهو قوله : {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} القول الثالث : قال ابن زيد : ليس المراد من قوله : {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} حصول الغفلة في تلك الساعة ، بل المراد الغفلة من ذكر موسى وأمره ، فإن موسى حين كان صغيراً ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته ، فأراد فرعون قتله ، فجيء بجمر فأخذه وطرحه في فيه ، فمنه عقدة لسانه ، فقال فرعون : لا أقتله ، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد ، فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر ، والقوم نسوا ذكره وذلك قوله : {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الروايات على بعض ، لأنه ليس في القرآن ما يدل على شيء منها.
(1/3483)

جزء : 24 رقم الصفحة : 587
المسألة الثالثة : قال تعالى : {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَـاذَا مِن شِيعَتِه وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّه } قال الزجاج : قال : هذا وهذا وهما غائبان على وجه الحكاية ، أي وجد فيها رجلين يقتتلان ، إذا نظر الناظر إليهما قال هذا من شيعته وهذا من عدوه ، ثم اختلفوا فقال مقاتل : الرجلان كانا كافرين ، إلا أن أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من القبط ، واحتج عليه بأن موسى عليه السلام قال له في اليوم الثاني {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} (القصص : 18) والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً ، لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقه : إنه من شيعته ، وقيل إن القبطي الذي سخر الإسرائيلي كان / طباخ فرعون ، استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه ، وقيل الرجلان المقتتلان : أحدهما السامري وهو الذي من شيعته ، والآخر طباخ فرعون والله أعلم بكيفية الحال ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، أي سأله أن يخلصه منه واستنصره عليه ، فوكزه موسى عليه السلام ، الوكز الدفع بأطراف الأصابع ، وقيل بجمع الكف. وقرأ ابن مسعود : (فلكزه موسى) ، وقال بعضهم : الوكز في الصدر واللكز في الظهر ، وكان عليه السلام شديد البطش ، وقال بعض المفسرين : فوكزه بعصاه ، قال المفضل هذا غلط ، لأنه لا يقال وكزه بالعصا {فَقَضَى عَلَيْه } أي أماته وقتله.
المسألة الرابعة : احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء عليه السلام من وجوه : أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول فلم قال : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } ولم قال : {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَه ا } ولم قال في سورة أخرى {فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ} (الشعراء : 20) ؟
وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً وثانيها : أن قوله : {وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّه } يدل على أنه كان كافراً حربياً فكان دمه مباحاً فلم استغفر عنه ، والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز ، لأنه يوهم في المباح كونه حراماً ؟
وثالثها : أن الوكز لا يقصد به القتل ظاهراً ، فكان ذلك القتل قتل خطأ ، فلم استغفر منه ؟
والجواب : عن الأول لم لا يجوز أن يقال إنه كان لكفره مباح الدم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 587
أما قوله : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } ففيه وجوه : أحدها : لعل الله تعالى وإن أباح قتل الكافر إلا أنه قال الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر ، فلما قتل فقد ترك ذلك المندوب فقوله : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان وثانيها : أن قوله (هذا) إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه فقوله : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان ، المراد منه بيان كونه مخالفاً لله تعالى مستحقاً للقتل وثالثها : أن يكون قوله (هذا) إشارة إلى المقتول ، يعني أنه من جند الشيطان وحزبه ، يقال فلان من عمل الشيطان ، أي من أحزابه.
أما قوله : {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى} فعلى نهج قول آدم عليه السلام : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) والمراد أحد وجهين ، إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه ، وإن لم يكن هناك ذنب قط ، أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب.
أما قوله : {فَاغْفِرْ لِى} أي فاغفر لي ترك هذا المندوب ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون المراد رب إني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون ، فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به {فَاغْفِرْ لِى} أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون {فَغَفَرَ لَه ا } أي ستره عن الوصول إلى فرعون ، ويدل على هذا التأويل أنه على عقبه قال : {رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سبباً للمعصية لما قال ذلك.
(1/3484)

وأما قوله : {فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ} فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً ، ولكن فرعون لما / ادعى أنه كان كافراً في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافراً في ذلك الوقت ، واعترف بأنه كان ضالاً أي متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك. أما قوله إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله ؟
قلنا كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع فلعل قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت ، أو إن كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررنا ، قوله ذلك القتل كان قتل خطأ ، قلنا لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة ، فوكزه كان قاتلاً قطعاً. ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه ، فلهذا أقدم على الاستغفار على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل ألبتة على أنه كان رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك صادراً منه قبل النبوة ، وذلك لا نزاع فيه
جزء : 24 رقم الصفحة : 587
المسألة الخامسة : قالت المعتزلة الآية دلت على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله تعالى لأنه عليه السلام قال : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } فنسب المعصية إلى الشيطان ، فلو كانت بخلق الله تعالى لكانت من الله لا من الشيطان وهو كقول يوسف عليه السلام {مِنا بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } (يوسف : 100) وقول صاحب موسى عليه السلام : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ} (الكهف : 63) وقوله تعالى : {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 27).
أما قوله : {رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} ففيه وجوه : أحدها : أن ظاهره يدل على أنه قال إنك لما أنعمت علي بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين ، وهذا يدل على أن ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية ، إذ لو كانت معصية ، لنزل الكلام منزلة ما إذا قيل إنك لما أنعمت علي بقبول توبتي عن تلك المعصية فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية وثانيها : قال القفال : كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً ، والباء للقسم أي بنعمتك علي وثالثها : قال الكسائي والفراء إنه خبر ، ومعناه الدعاء كأنه قال فلا تجعلني ظهيراً ، قال الفراء وفي حرف عبدالله {فَلا تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} ، واعلم أن في الآية دلالة على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة. وقال ابن عباس : لم يستثن ولم يقل فلن أكون ظهيراً إن شاء الله ، فابتلي به في اليوم الثاني ، وهذا ضعيف لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة ، وإنما خاف منه ذلك العدو فقال : {إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ} (القصص : 19) لا أنه وقع منه.
جزء : 24 رقم الصفحة : 587
592
/ اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفاً من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به ، وخرج على استتار {فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَه } وهو الإسرائيلي {بِالامْسِ يَسْتَصْرِخُه } يطلب نصرته بصياح وصراخ ، قال له موسى : {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} قال أهل اللغة الغوي يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل أي إنك لمغو لقومي فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك ، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي. واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، فقال كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} ؟
الجواب من وجهين : الأول : أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظاً جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات {اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } (الأعراف : 138) فالمراد بالغوي المبين ذلك الثاني : أنه عليه السلام إنما سماه غوياً لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد. واختلفوا في قوله تعال : {قَالَ يَـامُوسَى ا أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ} أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي ؟
فقال بعضهم لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده ، فقال هذا القول ، وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو ، وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف ، وقال آخرون بل هو / قول القبطي ، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي ، والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال : {فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَـامُوسَى } فهذا القول إذن منه لا من غيره وأيضاً فقوله : {إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ} لا يليق إلا بأن يكون قولاً للكافر.
(1/3485)

جزء : 24 رقم الصفحة : 592
واعلم أن الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر أحد ، ولما وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله.
أما قوله : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى } قال صاحب "الكشاف" يسعى يجوز ارتفاعه وصفاً لرجل ، وانتصابه حالاً عنه ، لأنه قد تخصص بقوله : {مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} والائتمار التشاور يقال الرجلان (يتآمران) يأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر والمعنى يتشاورون بسببك. وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون ، فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك.
أما قوله : {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآاـاِفًا يَتَرَقَّبُ } أي خائفاً على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ/ ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال : {رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنباً ، وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصاً.
جزء : 24 رقم الصفحة : 592
596
/ اعلم أن الناس اختلفوا في قوله : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} فال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله تعالى إلى مدين ، وهذا قول ابن عباس ، وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام ، وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى ، ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام ، وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح ، فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين ، واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين : أحدهما : قوله : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} ولو كان قاصداً للذهاب إلى مدين لقال ، ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال : {تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني : قوله : {عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ} وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالماً بالطريق. ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل ، ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر ، وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر.
/
جزء : 24 رقم الصفحة : 596
(1/3486)

أما قوله : {عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ} فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99) وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاماً في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام ، وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئراً فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي فوق شفيره ومستقاه {أُمَّةٍ} جماعة كثيرة العدد {مِّنَ النَّاسِ} من أناس مختلفين {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} في مكان أسفل من مكانهم {امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } والذود الدفع والطرد فقوله (تذودان) أي تحبسان ثم فيه أقوال : الأول : تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه : أحدها : قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها : لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني : كانتا تذودان عن وجوههما نظراً الناظر ليراهما والقول الثالث : تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع : قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطباً كما يسمى المشئون شأناً في قولك ما شأنك {قَالَتَا لا نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُا وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه : أحدها : أن العادة في السقي للرجال ، والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها : ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها : قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها : انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها : قولهما : {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ودلالة ذلك على أنه لو كان قوياً حضر ولو حضر لم يتأخر السقي ، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء ، وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد. قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال ، وقرأ الباقون بضم الياء ، وكسر الدال فالمعنى في القرارة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد ، ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 596
أما قوله : {فَسَقَى لَهُمَا} أي سقى غنمهما لأجلهما ، وفي كيفية السقي أقوال : أحدها : أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما : قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة ، وقيل أربعون ، وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها : أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن والله أعلم بالصحيح منه ، لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته ، وقال تعالى : {ثُمَّ تَوَلَّى ا إِلَى الظِّلِّ} وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر ، وفيه دلالة أيضاً على كمال قوة موسى عليه السلام ، قال الكلبي : أتى موسى أهل الماء فسألهم دلواً من ماء ، فقالوا له إن / شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم ، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية ؟
قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيباً والناس مختلفون فيه ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر ، لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة.
وأما قوله : {فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير ، وإنما عدى فقيراً باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
(1/3487)

واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة ، إما إلى الطعام أو إلى غيره ، إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعاماً يأكله ، وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض/ وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك ، فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم ، فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام ، أليس أنه عليه السلام قال : "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي" ؟
قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام ألبتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى ، وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيراً في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، فقال ذلك رضي بهذا البدل وفرحاً به وشكراً له ، وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام.
جزء : 24 رقم الصفحة : 596
أما قوله تعالى : {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} فقوله {عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} في موضع الحال أي مستحيية ، قال عمر بن الخطاب قد استترت بكم قميصها ، وقيل ماشية على بعد مائلة عن الرجال وقال عبد العزيز بن أبي حازم على إجلال له ومنهم من يقف على قوله : {تَمْشِى} ثم يبتدىء فيقول : {عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} قالت : {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ} يعني أنها على الاستحياء قالت هذا القول لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحيي ، لا سيما المرأة وفي ذلك دلالة على أن شعيباً لم يكن له معين سواهما وروي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس ، قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي ، أما الاختلاف في أن ذلك الشيخ كان شعيباً عليه السلام أو غيره فقد تقدم ، والأكثرون على أنه شعيب. وقال محمد بن إسحاق في البنتين اسم الكبرى صفورا ، والصغرى ليا ، وقال غيره صفرا وصفيرا ، وقال الضحاك صافورا والتي جاءت إلى / موسى عليه السلام هي الكبرى على قول الأكثرين ، وقال الكلبي الصغرى ، وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل.
أما قوله : {قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ففيه إشكالات : أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية ، فإن ذلك يورث التهمة العظيمة ، وقال عليه السلام : "اتقوا مواضع التهم" ؟
وثانيها : أنه سقى أغنامهما تقرباً إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه فإن ذلك غير جائز في المروءة ، ولا في الشريعة ؟
وثالثها : أنه عرف فقرهن وفقر أبيهن وعجزهم وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث كان يمكنه الكسب الكثير بأقل سعي ، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من السقي من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ؟
ورابعها : كيف يليق بشعيب النبي عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟
والجواب : عن الأول أن نقول : أما العمل بقول امرأة فكما نعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار وما كانت إلا مخبرة عن أبيها ، وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع والجواب : عن الثاني ، أن المرأة وإن قالت ذلك فلعل موسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ ، وروي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك ، ولما قدم إليه الطعام امتنع ، وقال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ، ولا نأخذ على المعروف ثمناً ، حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا ، وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق تحمله فقبل ذلك على سبيل الاضطرار وهذا هو الجواب : عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات والجواب : عن الرابع لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 596
أما قوله : {فَلَمَّا جَآءَه } قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فكشفت عنها فقال موسى عليه السلام إني من عنصر إبراهيم عليه السلام فكوني من خلفي حتى لا ترفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحل لي ، فلما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع ، فقال شعيب تناول يا فتى ، فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله قال شعيب ولم ؟
قال لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً ، فقال شعيب ولكن عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف فجلس موسى عليه السلام فأكل ، وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله ، ولم يكره ذلك مع الخضر حين قال : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الكهف : 77) والفرق أن أخذ الأجر على الصدقة لا يجوز ، أما الاستئجار ابتداء فغير مكروه.
(1/3488)

أما قوله : {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} فالقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص ، قال الضحاك لما دخل عليه قال له من أنت يا عبدالله ، فقال أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم ، وقتل / القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه ، فقال شعيب : {لا تَخَفْا نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} أي لا سلطان له بأرضنا فلسنا في مملكته وليس في الآية دلالة على أنه قال ذلك عن الوحي أو على ما تقتضيه العادة. فإن قيل : المفسرون قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى عليه السلام ركب في ألف ألف وستمائة ألف ، فالملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام من دار مملكته ؟
قلنا هذا وإن كان نادراً إلا أنه ليس بمحال.
أما قوله : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَـا أَبَتِ اسْتَـاْجِرْه إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَـاْجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : وصفته بالقوة لما شاهدت من كيفية السقي وبالأمانة لما حكينا من غض بصره حال ذودهما الماشية وحال سقيه لهما وحال مشيه بين يديها إلى أبيها.
المسألة الثانية : إنما جعل {خَيْرَ مَنِ اسْتَـاْجَرْتَ} اسماً و{الْقَوِىُّ الامِينُ} خبراً مع أن العكس أولى لأن العناية هي سبب التقديم.
المسألة الثالثة : القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة ، فلم أهمل أمر الكياسة ؟
ويمكن أن يقال إنها داخلة في الأمانة ، عن ابن مسعود رضي الله : "أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف وأبو بكر في عمر".
جزء : 24 رقم الصفحة : 596
أما قوله : {قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ} فلا شبهة في أن هذا اللفظ ، وإن كان على الترديد لكنه عند التزويج عين ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين ، فكانت الزيادة كالتبرع ، والفقهاء ربما استدلوا به على أن العمل قد يكون مهراً كالمال وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ، ولكنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا ، ويدل على أنه قد كان جائزاً في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة ، وعلى أنه كان جائزاً في تلك الشريعة نكاح المرأة بغير بدل تستحقه المرأة وعلى أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد ، ثم قال : {هَـاتَيْنِ عَلَى ا أَن تَأْجُرَنِى ثَمَـانِىَ حِجَجٍ } تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيراً وثماني حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه ومنه أجركم الله ورحمكم وثماني حجج مفعول به ومعناه رعية ثماني حجج ثم قال : {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } وفيه وجهان : الأول : لا أريد أن أشق عليك بإلزام أثم الرجلين ، فإن قيل ما حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر ؟
قلنا حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين ، تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه الثاني : لا أريد أن أشق عليك في الرعي ولكني أساهلك فيها وأسامحك بقدر الإمكان ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي/ وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس ، ومنه الحديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم شريكي فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري" ثم قال : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـالِحِينَ} وفيه وجهان : الأول : يريد بالصلاح حسن المعاملة ولين الجانب والثاني : يريد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة ، وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته.
/ فإن قيل فالعقد كيف ينعقد مع هذا الشرط ، فإنك لو قلت امرأتي طالق إن شاء الله لا تطلق ؟
قلنا هذا مما يختلف بالشرائع.
أما قوله تعالى : {قَالَ ذَالِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ } فاعلم أن ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب عليه السلام ، يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك ، ثم قال : {أَيَّمَا الاجَلَيْنِ قَضَيْتُ} من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان {فَلا عُدْوَانَ عَلَىَّ } أي لا يعتدي عليَّ في طلب الزيادة أراد بذلك تقرير أمر الخيار يعني إن شاء هذا وإن شاء هذا ويكون اختيار الأجل الزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحد عليه إجبار ، ثم قال : {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب.
جزء : 24 رقم الصفحة : 596
598
(1/3489)

/ اعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "تزوج صغراهما وقضى أوفاهما" أي قضى أوفى الأجلين ، وقال مجاهد قضى الأجل عشر سنين ومكث بعد ذلك عنده عشر سنين وقوله : {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِه ءَانَسَ} يدل على أن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين ولا يدل على أنه حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ، فبطل ما قاله القاضي من أن ذلك يدل على أنه لم يزد عليه وقوله : {وَسَارَ بِأَهْلِه } ليس فيه دلالة على أنه خرج منفرداً معها وقوله : {امْكُثُوا } فيه دلالة على الجمع.
أما قوله : {إِنِّى ءَانَسْتُ نَارًا} فقد مر تفسيره في سورة طه والنمل.
أما قوله : {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِه ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ} ففيه أبحاث :
الأول : قال صاحب "الكشاف" الجذوة باللغات الثلاث وقد قرىء بهن جميعاً وهو العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن ، قال الزجاج الجذوة القطعة الغليظة من الحطب.
الثاني : قد حكينا في سورة طه أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة فرقت ماشيته وضل وأصابهم مطر فوجدوا برداً شديداً فعنده أبصر ناراً بعيدة فسار إليها يطلب من يدله على الطريق وهو قوله : {مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ} أو آتيكم من هذه النار بجذوة من الحطب لعلكم تصطلون وفي قوله : {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ} دلالة على إنه ضل وفي قوله : {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دلالة على البرد.
جزء : 24 رقم الصفحة : 598
أما قوله : {فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا نُودِىَ مِن شَـاطِى ِ الْوَادِ الايْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَـامُوسَى ا إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} فاعلم أن شاطىء الوادي جانبه وجاء النداء عن يمين موسى من شاطىء الوادي من قبل الشجرة وقوله : {مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من قوله : {مِن شَـاطِى ِ الْوَادِ} بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء كقوله : {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ} (الزخرف : 33) وإنما وصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله تعالى إياه وههنا مسائل :
المسألة الأولى : احتجت المعتزلة على قولهم إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله : {مِنَ الشَّجَرَةِ} فإن هذا صريح في أن موسى عليه السلام سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وهو تعالى منزه أن يكون في جسم فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا لنا مذهبان الأول : قول أبي منصور الماتريدي وأئمة ما وراء النهر وهو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع إنما المسموع هو الصوت والحرف وذلك كان مخلوقاً في الشجرة ومسموعاً منها/ وعلى هذا التقدير زال السؤال / الثاني : قول أبي الحسن الأشعري وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً ، كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين ، واحتج أهل السنة بأن محل قوله : {إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله ، والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله وهذا هو أصل المسألة ، أجاب أهل السنة بأن الذراع المسموم قال لا تأكل مني فإني مسموم ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى ، فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال لا تأكل مني فإني مسموم ، وهذا باطل وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت إني أنا الله وكل ذلك باطل.
جزء : 24 رقم الصفحة : 598
(1/3490)

المسألة الثانية : يحتمل أن يقال إنه تعالى خلق فيه علماً ضرورياً بأن ذلك الكلام كلام الله ، والمعتزلة لا يرضون بذلك قالوا لأنه لو علم بالضرورة أن ذلك الكلام كلام الله لوجب أن يعلم بالضرورة وجود الله تعالى لأنه يستحيل أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالنظر ولو علم موسى أنه الله تعالى بالضرورة لزال التكليف ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت عرف أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن يكون كلام الخلق ويحتمل أن يقال إن ظهور الكلام من الشجرة كظهور التسبيح من الحصى في أنه يعلم أن مثل ذلك لا يكون إلا من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون المعجز هو أنه رأى النار في الشجرة الرطبة فعلم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وبين خضرة الشجرة إلا الله تعالى ، ويحتمل أن يصح ما يروى أن إبليس لما قال له كيف عرفت أنه نداء الله تعالى ؟
قال لأني سمعته بجميع أجزائي ، فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم أن ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى ، وهذا إنما يصح على مذهبنا حيث قلنا البنية ليست شرطاً.
المسألة الثالثة : قال في سورة النمل (8) {نُودِىَ أَنا بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال ههنا {يَـامُوسَى ا إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} وقال في طه (11 ، 12) : {إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.
المسألة الرابعة : قال الحسن إن موسى عليه السلام نودي نداء الوحي لا نداء الكلام والدليل عليه قوله تعالى : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } قال الجمهور إن الله تعالى كلمه من غير واسطة والدليل عليه قوله تعالى : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء : 164) وسائر الآيات ، وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف لأن قوله : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } لم يكن بالوحي لأنه لو كان ذلك أيضاً بالوحي لانتهى آخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي وإلا لزم التسلسل بل المراد من قوله : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي.
/
جزء : 24 رقم الصفحة : 598
(1/3491)

أما قوله : {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَا فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْا يَـامُوسَى ا أَقْبِلْ وَلا تَخَفْا إِنَّكَ مِنَ الامِنِينَ} فقد تقدم تفسير كل ذلك ، وقوله {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ولم يقل إنه في نفسه جان ، فلا يكون هذا مناقضاً لكونه ثعباناً بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة لا من حيث المقدار ، وقد تقدم الكلام في خوفه/ ومعنى {وَلَمْ يُعَقِّبْ } لم يرجع ، يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفر ، وقال وهب إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها وسمع قعقعة الصخر في جوفها فحينئذ ولى ، واختلفوا في العصا على وجوه : أحدها : قالوا إن شعيباً كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام ، فقال لموسى بالليل إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي ، فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فقال أرني العصا فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له معها شأناً. وروي أيضاً أن شعيباً عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم يقع في يدها غيرها ، فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك وخرج يطلب موسى عليه السلام فلما لقيه قال أعطني العصا ، قال موسى هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما ، ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال ضعوها على الأرض فمن حملها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطق وأخذها موسى عليه السلام بسهولة ، فتركها الشيخ لع ورعى له عشر سنين وثانيها : روى ابن صالح عن ابن عباس قال كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا بيرون وابنته التي زوجها من موسى عليه السلام ، وأنها كانت تكنسه وتنطفه ، وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا ، وكان لبيرون أحد عشر ولداً من الذكور فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي فرجع موسى ذات يوم إلى منزله ، فلم يجد أهله واحتج إلى عصا لرعيه فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها فلما علمت المرأة ذلك انطلقت إلى أبيها وأخبرته بذلك فسر بذلك بيرون وقال لها إن زوجك هذا لنبي ، وإن له مع هذه العصا لشأناً وثالثها : في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغد وأراد الرعي قال له شعيب عليه السلام اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنيناً عظيماً فأخشى عليك وعلى الأغنام منه ، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشباً كثيراً ، ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى عليه السلام فقاتلته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى عليه السلام رأى العصا دامية والتنين / مقتولاً فارتاح لذلك وعلم أن لله تعالى في تلك العصا قدرة وآية ، وعاد إلى شعيب عليه السلام وكان ضريراً فمس الأغنام فإذا هي أحسن حالاً مما كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى عليه السلام بالقصة ففرح بذلك وعلم أن لموسى عليه السلام وعصاه شأناً ، فأراد أن يجازي موسى عليه السلام على حسن رعيه إكراماً وصلة لابنته فقال إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ففعل ثم سقى الأغنام منه فما أخطت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى عليه السلام وامرأته فوفى له شرطه ورابعها : قال بعضهم تلك العصا هي عصا آدم عليه السلام وإن جبريل عليه السلام أخذ تلك العصا بعد موت آدم عليه السلام فكانت معه حتى لقي بها موسى عليه السلام ربه ليلاً وخامسها : قال الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً أي أخذها من عرض الشجر يقال اعترض إذا لم يتخير/ وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الوجوه على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة والله أعلم بها.
جزء : 24 رقم الصفحة : 598
(1/3492)

أما قوله تعالى : {اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ} فاعلم أن الله تعالى قد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات أحدها : هذه وثانيها : قوله في طه (22) {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} وثالثها : قوله في النمل (12) {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} قال العزيزي في غريب القرآن : {اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} أدخلها فيه.
أما قوله : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } فأحسن الناس كلاماً فيه ، قال صاحب "الكشاف" : فيه معنيان أحدهما : أن موسى عليه السلام لما قلب الله له العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء ، فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه الثاني : أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر ، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران ، ومعنى قوله : {مِنَ الرَّهْبِ } من أجل الرهب ، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك وقوله : {اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} على أحد التفسيرين واحد ، ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرهب ، فإن قيل قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين / مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وقوله : {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (طه : 22) فما التوفيق بينهما ؟
قلنا المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح ، هذا كله كلام صاحب "الكشاف" وهو في نهاية الحسن.
أما قوله تعالى : {فَذَانِكَ} قرىء مخففاً ومشدداً ، فالمخفف مثنى (ذا) ، والمشدد مثنى (ذان) ، قوله : {بُرْهَـانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} حجتان نيرتان على صدقه في النبوة وصحة ما دعاهم إليه من التوحيد ، وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون حتى عرف ما الذي يظهره عنده من المعجزات ، لأنه تعالى حكى بعد ذلك عن موسى عليه السلام أنه قال : {إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (القصص : 33) قال القاضي : وإذا كان كذلك فيجب أن يكون في حال ظهور البرهانين هناك من دعاه إلى رسالته من أهله أو غيرهم ، إذا المعجزات إنما تظهر على الرسل في حال الإرسال لا قبله ، وإنما تظهر لكي يستدل بها غيرهم على الرسالة وهذا ضعيف ، لأنه ثبت أنه لا بد في إظهار المعجزة من حكمة ولا حكمة أعظم من أن يستدل بها الغير على صدق المدعي ، وأما كونه لا حكمة ههنا فلا نسلم ، فلعل هناك أنواعاً من الحكم والمقاصد سوى ذلك ، لا سيما وهذه الآيات متطابقة على أنه لم يكن هناك مع موسى عليه السلام أحد.
جزء : 24 رقم الصفحة : 598
602
/ اعلم أنه تعالى لما قال : {فَذَانِكَ بُرْهَـانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْه } (القصص : 32) تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه ، فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه فقال : {رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِى هَـارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا} لأنه كان في لسانه حبسة ، إما في أصل الخلقة ، وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون.
أما قوله : {فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِى } ففيه أبحاث :
البحث الأول : الردء اسم ما يستعان به ، فعل بمعنى مفعول به ، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به ، يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط.
البحث الثاني : قرأ نافع (رداً) بغير همز والباقون بالهمز ، وقرأ عاصم وحمزة (يصدقني) برفع القاف ، ويروى ذلك أيضاً عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو ، فمن رفع فالتقدير ردءاً مصدقاً لي ، ومن جزم كان على معنى الجزاء ، يعني أن أرسلته صدقني ونظيره قوله : {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِى} (مريم : 5 ، 6) بجزم الثاء من يرثني. وروى السدي عن بعض شيوخه ردءاً كيما يصدقني.
البحث الثالث : الجمهور على أن التصديق لهرون ، وقال مقاتل : المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان ، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون.
جزء : 24 رقم الصفحة : 602
(1/3493)

البحث الرابع : ليس الغرض بتصديق هرون أن يقول له صدقت ، أو يقول للناس صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ، ألا ترى إلى قوله : {وَأَخِى هَـارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ} وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله : صدقت.
البحث الخامس : قال الجبائي : إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هرون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هرون للبعثة أم لا ؟
فلم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة ، ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سأله لا مطلقاً بل مشروطاً على معنى ، إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه.
البحث السادس : قال السدي : إن نبيين وآيتين أقوى من نبي يواحد وآية واحدة. قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى ، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين ، لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم ، وإن لم ينظر فالحالة واحدة ، هذا إذا / كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة ، فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى ، فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي/ لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهرون عليهما السلام ، لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة.
أما قوله : {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد ، يقال في دعاء الخير شد الله عضدك ، وفي ضده فت الله في عضدك. ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به ، فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور ، وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة.
أما قوله : {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة ، قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهرون عليهما السلام ، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة فجمعت بين الأمرين ، فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك ولكنه تعالى قال : {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه ، ثم قال : {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـالِبُونَ} والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال ، أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال والأول أقرب إلى اللفظ.
جزء : 24 رقم الصفحة : 602
أما قوله : {فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِـاَايَـاتِنَا بَيِّنَـاتٍ} فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد.
أما قوله : {قَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّفْتَرًى} فقد اختلفوا في مفترى ، فقال بعضهم المراد أنه إذا كان سحراً وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى ، وقال الجبائي المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله فكأنهم قالوا هو كذب من هذا الوجه ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم : {وَمَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى ءَابَآاـاِنَا الاوَّلِينَ} أي ما حدثنا بكونه فيهم ، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله ، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته ، أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به.
(1/3494)

واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين ، إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ / لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة ، فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد {رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِه وَمَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ } فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضاً عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعاً ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله : {وَمَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ } من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى : { أولئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِم وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} (الرعد : 22 ، 23) وقوله : {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّـارُ لِمَنْ عُقْبَى} (البلد : 42) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار/ لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر ، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر ؟
قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق ، فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف ، فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير ، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار ، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله : {بِـاَايَـاتِه ا إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ} والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم.
جزء : 24 رقم الصفحة : 602
605
/ اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر ههنا شبهتين الأولى : قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين : أحدهما : نفى إله غيره والثاني : إثبات إلهية نفسه ، فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته ، أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع ، وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر.
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب ، وعرفنا بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث فحينئذ نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع ، والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه ، قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً ، فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه ، وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه ، ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل. أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه ، فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم ، فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل ، بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره ، فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض ، لا سيما وقد دللنا في سورة طه (49) في تفسير قوله : {فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى } على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية : قوله : {فَأَوْقِدْ لِى يَـاهَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه مِنَ الْكَـاذِبِينَ} وههنا أبحاث :
جزء : 24 رقم الصفحة : 605
الأول : تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب : أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله : / {رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الشعراء : 24) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض ، فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء/ وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه.
(1/3495)

الثاني : اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح ؟
فال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك ، ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم ، فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه. ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض ، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل ، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخاً بالدم ، فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء ، وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل ، فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القرآن ، فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل ، فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس ، فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه ، ثم قال عند ذلك لهامان : {ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ * أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى } وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ، ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال : {وَإِنِّى لاظُنُّه مِنَ الْكَـاذِبِينَ} فهذا التأويل أولى مما عداه.
جزء : 24 رقم الصفحة : 605
الثالث : إنما قال : {غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَـاهَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ} ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان ، وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر ، والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد.
أما قوله : {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُه فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن ، قال عليه السلام فيما حكى عن ربه "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار" وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
/ المسألة الثانية : قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب ، لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق ، واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه ، إما أن يكون منه أو من الله تعالى ، أو لا منه ولا من الله تعالى ، فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره ، فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر ؟
وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض ، وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر ؟
واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل.
أما قوله : {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا.
أما قوله : {فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَه فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ } فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه ، شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم ، وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَـامِخَـاتٍ} (المرسلات : 27) {وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة : 14) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُا بِيَمِينِه } (الزمر : 67) سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته.
جزء : 24 رقم الصفحة : 605
(1/3496)

أما قوله : {وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقاً للخير والشر ، قال الجبائي المراد بقوله : {وَجَعَلْنَـاهُمْ} أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به ، ومنه قوله : {وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا } (الزخرف : 19) وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقاً وبخيلاً ، لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالاً ، وقال الكعبي : إنما قال : {وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً} من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة ، ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر ، وذلك كقوله : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} (التوبة : 125) لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه ، وإن أمكنه فإذا بخل به قيل للسائل جعلت فلاناً بخيلاً أي قد بخلته ، وقال أبو مسلم معنى الإمامة التقدم فلما عجل الله تعالى لهم العذاب صاروا متقدمين لمن وراءهم من الكافرين. واعلم أن الكلام فيه قد تقدم في سورة مريم (83) في قوله : {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} ومعنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة ، وإنما جعلهم الله تعالى أئمة في هذا الباب لأنهم بلغوا في هذا الباب أقصى النهايات ، ومن كان كذلك استحقق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب ، ثم بين تعالى أن ذلك العقاب سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه وهو معنى قوله : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ لا يُنصَرُونَ} أو يكون معناه ويوم القيامة لاينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة.
/ أما قوله : {وَأُتْبِعُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} معناه لعنة الله والملائكة لهم وأمره تعالى بذلك فيها للمؤمنين ، وبين أنهم يوم القيامة من المقبوحين أي المبعدين الملعونين ، والقبح هو الإبعاد ، قال الليث يقال قبحه الله ، أي نحاه عن كل خير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من المشئومين بسواد الوجه وزرقة العين ، وعلى الجملة فالأولون حملوا القبح على القبح الروحاني وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى ، والباقون حملوه على القبح في الصور. وقيل فيه إنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم ويجمع بين الفضيحتين. ثم بين تعالى أن الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى عليه السلام فقال : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ مِنا بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاولَى } والكتاب هو التوراة ، ووصفه تعالى بأنه بصائر للناس ، من حيث يستبصر به في باب الدين ، وهدى من حيث يستدل به ، ومن حيث إن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب ، ووصفه بأنه رحمة لأنه من نعم الله تعالى على من تعبد به. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما أهلك الله تعالى قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة ، غير أهل القرية التي مسخها قردة".
جزء : 24 رقم الصفحة : 605
أما قوله : {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فالمراد لكي يتذكروا ، قال القاضي : وذلك يدل على إرادة التذكر من كل مكلف سواء اختار ذلك أو لم يختره ، ففيه إبطال مذهب المجبرة الذين يقولون ما أراد التذكر إلا ممن يتذكر ، فأما من لا يتذكر فقد كره ذلك منه ، ونص القرآن دافع لهذا القول ، قلنا أليس أنكم حملتم قوله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (الأعراف : 179) على العاقبة ، فلم لا يجوز حمله ههنا على العاقبة ، فإن عاقبة الكل حصول هذا التذكر له وذلك في الآخرة.
جزء : 24 رقم الصفحة : 605
5
اعلم أن في الآية سؤالات :
(1/3497)

/ السؤال الأول : الجانب موصوف ، والغربي صفة ، فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة ؟
الجواب : هذه مسألة خلافية بين النحويين ، فعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى الصفة إلا بشرط خاص سنذكره ، وعند الكوفيين يجوز ذلك مطلقاً حجة البصريين ، أن إضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه ، وهذا غير جائز فذاك أيضاً غير جائز ، بيان الملازمة أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف ، فلفظ الظريف يدل على شيء معين في نفسه مجهول بحسب هذا اللفظ حصلت له الظرافة ، فإذا نصصت على زيد عرفنا أن ذلك الشيء الذي حصلت له الظرافة هو زيد ، إذا ثبت هذا ، فلو أضفت زيداً إلى الظريف ، كنت قد أضفت زيداً إلى زيد ، وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة ، فإضافة الموصوف إلى صفته وجب أن لا تجوز ، إلا أنه جاء على خلاف هذه القاعدة ألفاظ ، وهي قوله تعالى في هذه الآية : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} وقوله : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة : 5) وقوله : {حَقُّ الْيَقِينِ} (الواقعة : 95) {وَلَدَارُ الاخِرَةِ} (النحل : 30) ويقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء ، فقالوا التأويل فيه جانب المكان الغربي ودين الملة القيمة وحق الشيء اليقين ودار الساعة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد المكان الجامع وبقلة الحبة الحمقاء ، ثم قالوا في هذه المواضع : المضاف إليه ليس هو النعت ، بل المنعوت ، إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه فههنا ينظر إن كان ذلك النعت كالمتعين لذلك المنعوت ، حسن ذلك وإلا فلا ، ألا ترى أنه ليس لك أن تقول عندي جيد على معنى عندي درهم جيد ، ويجوز مررت بالفقيه على معنى مررت بالرجل الفقيه ، لأن الفقيه يعلم أنه لا يكون إلا من الناس والجيد قد يكون درهماً وقد يكون غيره ، وإذا كان كذلك حسن قوله جانب الغربي ، لأن الشيء الموصوف بالغربي الذي يضاف إليه الجانب لا يكون إلا مكاناً أو ما يشبهه ، فلا جرم حسنت هذه الإضافة ، وكذا القول في البواقي والله أعلم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 5
السؤال الثاني : ما معنى قوله : {إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ} ؟
الجواب : الجانب الغربي هو المكان الواقع في شق الغرب ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور ، وكتب الله (له) في الألواح والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام الوحي الذي أوحى إليه ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم يقول : وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على (الموحى) إليه ، (وهي لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً) ، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات.
/ السؤال الثالث : لما قال {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} ثبت أنه لم يكن شاهداً ، لأن الشاهد لا بد أن يكون حاضراً ، فما الفائدة في إعادة قوله : {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـاهِدِينَ} ؟
الجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ، ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع ، فإنه يجوز أن يكون هناك ، ولا يشهد ولا يرى.
السؤال الرابع : كيف يتصل قوله : {وَلَـاكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُونًا} بهذا الكلام ومن أي وجه يكون استدراكاً له ؟
الجواب : معنى الآية : ولكنا أنشأنا بعد عهد موسى عليه السلام إلى عهدك قروناً كثيرة فتطاول عليهم العمر وهو القرن الذي أنت فيه ، فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وعرفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى ، فالحاصل كأنه قال وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب ، فإذن هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده. واعلم أن هذا تنبيه على المعجز كأنه قال إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله ، دلالة ظاهرة على نبوتك كما قال : {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى } (طه : 133).
أما قوله : {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} فالمعنى ما كنت مقيماً فيه.
وأما قوله : {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا} ففيه وجهان : الأول : قال مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم {وَلَـاكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ، ولولا ذلك لما علمتها الثاني : قال الضحاك : يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً ، فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء.
جزء : 25 رقم الصفحة : 5
(1/3498)

أما قوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه {وَلَـاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي علمناك رحمة ، وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة ، وذكر المفسرون في قوله : {إِذْ نَادَيْنَا} وجوهاً أخر أحدها : إذ نادينا أي قلنا لموسى {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } إلى قوله : { أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف : 156 ، 157). وثانيها : قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم : "يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني" قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات ربه وثالثها : قال وهب : "لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلّم قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال : أجبتكم قبل أن تدعوني" الحديث كما ذكره ابن عباس ورابعها : روى سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قال كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم / نادى "يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخلته الجنة".
أما قوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية. واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـاهِدِينَ} فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله : {إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ} إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله : {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة ، ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين ثم فسر تلك الرحمة بأن قال : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم : وقال بعضهم : حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم ، وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريراً للتكاليف وإزالة لتلك الفترة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 5
أما قوله : {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ } الآية فقال صاحب "الكشاف" : (لولا) الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثانية تحضيضية ، والفاء في قوله {فَيَقُولُوا } للعطف ، (وفي قوله للعطف). وفي قوله : {فَنَتَّبِعَ} جواب (لولا) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل ، والباعث والمحضض من واد واحد ، والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي : هلا أرسلت إلينا رسولاً ، محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم ، يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله : {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) {أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنا بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } (المائدة : 19) {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ} واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا ، بل قال : {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا } هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك ، بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفاً على كفرهم ، بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا : هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ، إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك.
(1/3499)

/ المسألة الثانية : احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء : 23) ما يظنه أهل السنة ، وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 5
المسألة الثالثة : قال القاضي : فيه إبطال القول بالجبر من جهات : إحداها : أن اتباعهم وإيمانهم موقوف على أن يخلق الله ذلك فيهم سواء أرسل الرسول إليهم أم لا وثانيتها : أنه إذا خلق القدرة على ذلك فيهم وجب سواء أرسل الرسول أم لا وثالثتها : إذا أراد ذلك وجب أرسل الرسول إليهم أم لا ، فأي فائدة في قولهم هذا لو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى ؟
فيقال للقاضي هب أنك نازعت في الخلق والإرادة ولكنك وافقت في العلم فإذا علم الكفر منهم فهل يجب أم لا ، فإن لم يجب أمكن أن لا يوجد الكفر مع حصول العلم بالكفر وذلك جمع بين الضدين وإن وجب لزمك ما أوردته علينا ، واعلم أن الكلام وإن كان قوياً حسناً إلا أنه إذا توجه عليه النقض الذي لا محيص عنه ، فكيف يرضى العاقل بأن يعول عليه ؟
جزء : 25 رقم الصفحة : 5
7
/ اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عند الخوف قالوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ، بين أيضاً أنه بعد الإرسال إلى أهل مكة قالوا {لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى ا } فهؤلاء قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى ، فظهر أنه لا مقصود لهم سوى الزيغ والعناد.
أما قوله : {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا} أي جاءهم الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر وتظليل الغمام وانفجار الحجر بالماء والمن والسلوى ومن أن الله كلمه وكتب له في الألواح وغيرها من الآيات فجاؤا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد كما قالوا {لَوْلا أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَه مَلَكٌ } (هود : 12) وما أشبه ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 7
واعلم أن الذي اقترحوه غير لازم لأنه لا يجب في معجزات الأنبياء عليهم السلام أن تكون واحدة ولا فيما ينزل إليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد إذ الصلاح قد يكون في إنزاله مجموعاً كالتوراة ومفرقاً كالقرآن ، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله : {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ } واختلفوا في أن الضمير في قوله : {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا } إلى من يعود ، وذكروا وجوهاً : أحدها : أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أوتي موسى عليه السلام فقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى } يعني أو لم تكفروا يا هؤلاء اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال بموسى عليه السلام مع تلك الآيات الباهرة وثانيها : أن الذين أوردوا هذا الاقتراح كفار مكة ، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد وثالثها : قال الكلبي إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة ليسألهم عن محمد وشأنه فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما / رجع الرهط إليهم وأخبروهم بقول اليهود قالوا إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر ، فقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى } ورابعها : قال الحسن قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام فمعناه على هذا أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهرون ساحران وخامسها : قال قتادة أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام فقالوا ساحران وسادسها : وهو الأظهر عندي أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلّم معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ } بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل ، فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت ، ثم إنه تعالى حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى من وجهين : الأول : قولهم : {وَإِن تَظَـاهَرَا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة (ساحران) بالألف وقرأ أهل الكوفة بغير ألف وذكروا في تفسير الساحرين وجوهاً : أحدها : المراد هرون وموسى عليهما السلام تظاهرا أي تعاونا وقرىء (اظاهرا) على الإدغام وسحران بمعنى ذوي سحر وجعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر وكثير من المفسرين فسروا قوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 7
(1/3500)

{سِحْرَانِ} بأن المراد هو القرآن والتوراة واختار أبو عبيدة القراءة بالألف لأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب وجوابه : إنا بينا أن قوله : {سِحْرَانِ} يمكن حمله على الرجلين وبتقدير أن يكون المراد الكتابين لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما تقول تظاهرت الأخبار وهذه التأويلات إنما تصح إذا حملنا قوله : {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى } إما على كفار مكة أو على الكفار الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام ولا شك أن ذلك أليق بمساق الآية الثاني : قولهم : {إِنَّا بِكُلٍّ كَـافِرُونَ} أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين لا باليهود وذلك مبالغة في أنهم مع كثرة آيات موسى عليه السلام كذبوه فما الذي يمنع من مثله في محمد صلى الله عليه وسلّم وإن ظهرت حجته ، ولما أجاب الله تعالى عن شبههم ذكر الحجة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم فقال : {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَـابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ} وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله ، قال الزجاج (أتبعه) بالجزم على الشرط ومن قرأ (أتبعه) بالرفع فالتقدير أنا أتبعه ، ثم قال : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج ، وقال مقاتل فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما وهذا أشبه بالآية فإن قيل الاستجابة تقتضي دعاء فأين الدعاء ههنا ؟
قلنا قوله : {فَأْتُوا بِكِتَـابٍ} أمر والأمر دعاء إلى الفعل ثم قال : {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } يعني قد صاروا ملزمين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى ثم زيف طريقتهم بقوله : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاـاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه } وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد وأنه لا بد من الحجة والاستدلال {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} وهو عام يتناول الكافر لقوله : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} واحتج الأصحاب به في أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين.
/
جزء : 25 رقم الصفحة : 7
وقالت المعتزلة : الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه قوله : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) فقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول ، لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم/ فبأن يكون عدم الهداية عذراً لهم أولى ، ولما بين تعالى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بهذه الدلالة قال : {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان ، وهو من وصل البعض بالبعض ، وهذا القول الموصل يحتمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجماً مفرقاً يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه ، فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر ، وعلى هذا التقدير يكون هذا جواباً عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك ، ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيراً لمواضع الاتعاظ والانزجار ويحتمل أن يكون المراد : بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون. ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال : {الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِه } أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك ، واختلفوا في المراد بقوله : {الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث الله تعالى محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبدالله بن سلام وثانيها : قال مقاتل نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاؤا من الحبشة مع جعفر وثالثها : قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم ، وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلاً في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم : {بِه إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِه مُسْلِمِينَ * أولئك }
جزء : 25 رقم الصفحة : 7
(1/3501)

فقوله : {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ} يدل على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به وقوله : {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِه مُسْلِمِينَ} بيان لقوله : {بِه إِنَّهُ} لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه ، ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال : { أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضاً أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها : يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلّم ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم وثالثها : قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان ، يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه ، قال السدي اليهود / عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال : {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} والمعنى (يدفعون) بالطاعة المعصية المتقدمة ، ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى ، ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة ، ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها ، ثم قال : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} .
واعلم أنه تعالى مدحهم أولاً بالإيمان ثم بالطاعات البدنية في قوله : {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ثم بالطاعات المالية في قوله : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقاً جوابه : أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقاً ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلاله ، ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال : {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضاً جميلاً فلذلك قال تعالى : {وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ} وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين ، وعلامة الاحتمال من الجاهلين ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} (الفرقان : 63) ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكياً عنهم {لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم ، قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب ، وإن كان القتال واجباً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 7
8
/ اعلم أن في قوله تعالى : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ثم قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال عليه السلام "يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي ؟
قال أريد منك كلمة واحدة ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله تعالى ، قال يا أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني إبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف".
المسألة الثانية : أنه تعالى قال في هذه الآية : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} وقال في آية أخرى : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى : 52) ولا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والبيان والذي نفى عنه هداية التوفيق ، وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا} (الأنعام : 122) الآية.
جزء : 25 رقم الصفحة : 8
(1/3502)

المسألة الثالثة : احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال ، فقالوا : قوله {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من الهداية في قوله : {إِنَّكَ لا تَهْدِى} شيئاً وفي قوله : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } شيئاً آخر لاختل النظم ، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الدلالة أو الدعوة إلى الجنة أو تعريف / طريق الجنة أو خلق المعرفة في القلوب على سبيل الإلجاء أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء لا جائز أن يكون المراد بيان الأدلة لأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير الهداية التي نفى الله عمومها ، وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة ، وأما الهداية بمعنى تعريف طريق الجنة فهي أيضاً غير مرادة من الآية لأنه تعالى علق هذه الهداية على المشيئة وتعريف طريق الجنة غير معلق على المشيئة لأنه واجب على الله تعالى والواجب لا يكون معلقاً على المشيئة فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير ، لا يجوز أن يقول إني أعطي عشرة دنانير إن شئت ، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان ومستلزم المحال محال فذلك محال من الله تعالى والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة ، ولما بطلت الأقسام لم يبق إلا أن المراد أنه تعالى يخص البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها ، ولا يسأل عما يفعل ، ومتى أوردت الكلام على هذا الوجه سقط كل ما أورده القاضي عذراً عن ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 8
أما قوله : {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فالمعنى أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي/ ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة ، وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى ، حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم : {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } (القصص : 57) قال المبرد : الخطف ، الانتزاع بسرعة ، روى أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ، ولكن يمنعنا من ذلك تخطفنا من أرضنا ، أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا من أرضنا ، فأجاب الله سبحانه وتعالى عنها من وجوه الأول : قوله : {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا} أي أعطيناكم مسكناً لا خوف لكم فيه ، إما لأن العرب كانوا يحترمون الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكانه ، فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنهب والغارة ، وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحر ، أو لقوله تعالى : {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا } (آل عمران : 97) وأما قوله : {يُجْبَى ا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ} فهو تعالى كما بين كون ذلك الموضع خالياً عن المخاوف والآفات بين كثرة النعم فيه ، ومعنى : {يُجْبَى } يجمع من قولهم : جبيت الماء في الحوض إذا جمعته ، قرأ أهل المدينة تجبى بالتاء ، وأهل الكوفة ، وأبو عمرو بالياء ، وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث جمع وليس بتأنيث حقيقي ، فيجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى ، ومعنى الكلية الكثرة كقوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23) وحاصل الجواب : أنه تعالى لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان ، فلو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى ، قال القاضي : ولو أن الرسول قال لهم إن الذي ذكرتم من التخطف لو كان حقاً لم يكن عذراً لكم في أن لا تؤمنوا وقد ظهرت الحجة لانقطعوا ، أو قال لهم إن تخطفهم لكن بالقتل وغيره ، وقد آمنتم كالشهادة لكم فهو / نفع عائد علكيم لانقطعوا أيضاً ، ولو قال لهم ما قدر مضرة التخطف في جنب العقاب الدائم الذي أخوفكم منه إن بقيتم على كفركم لانقطعوا ، لكنه تعالى احتج بما هو أقوى من حيث بين كذبهم في أنهم يتخطفون من حيث عرفوا من حال البقعة بالعادة ، أن ذلك لا يجري إن آمنوا ، ومثل ذلك إذا أمكن بيانه للخصم فهو أولى من سائر ما ذكرنا ، فلذلك قدمه الله تعالى ، والآية دالة على صحة الحجاج الذي يتوصل به إلى إزالة شبهة المبطلين. بقي ههنا بحثان :
جزء : 25 رقم الصفحة : 8
الأول : قال صاحب "الكشاف" في انتصاب رزقاً إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله ، لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء ، ويرزق ثمرات كل شيء واحد ، وأن يكون مفعولاً له ، وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصيصها بالإضافة ، كما ينتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.
(1/3503)

الثاني : احتج الأصحاب بقوله : {رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا} في أن فعل العبد خلق الله تعالى ، وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم ، لأن الناس كانوا يحملونها إليهم فلو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لما صحت تلك الإضافة ، فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم ، قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان ، فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب وحينئذ يحصل المقصود ، وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية. واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى ، لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحداً سوى الله تعالى ولا يرجون أحداً غير الله تعالى ، فيبقى نظرهم منقطعاً عن الخلق متعلقاً بالخالق ، وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 8
8
/ اعلم أن هذا هو الجواب الثاني : عن تلك الشبهة ، وذلك لأنه تعالى لما بين لأهل مكة ما خصوا به من النعم أتبعه بما أنزله الله تعالى بالأمم الماضية الذين كانوا في نعم الدنيا ، فلما كذبوا الرسل أزال الله عنهم تلك النعم والمقصود أن الكفار لما قالوا إنا لا نؤمن خوفاً من زوال نعمة الدنيا ، فالله تعالى بين لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم ، لا الإقدام على الإيمان ، قال صاحب "الكشاف" : البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه } (الأعراف : 155) أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها ، وإما تضمين بطرت معنى كفرت.
فأما قوله : {فَتِلْكَ مَسَـاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنا بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا } ففي هذا الاستثناء وجوه أحدها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة. وثانيها : يحتمل أن شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم ، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين لها بعد هلاك أهلها ، وإذا لم يبق للشيء مالك معين قيل إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه ، ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها ، فكأن سائلاً أورد السؤال من وجهين الأول : لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد صلى الله عليه وسلّم مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد ؟
الثاني : لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلّم ؟
فأجاب عن السؤال الأول بقوله : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا } وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم ، فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة ، ثم ذكر المفسرون وجهين أحدهما : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا} أي في القرية التي هي أمها وأصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولاً لإلزام الحجة وقطع المعذرة الثاني : وما كان ربك مهلك القرى التي في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء ، ومعنى : {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا } يؤدي ويبلغ ، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله : {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى ا إِلا وَأَهْلُهَا ظَـالِمُونَ} أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمناً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 8
10
(1/3504)

اعلم أن هذا هو الجواب الثالث : عن تلك الشبهة لأن حاصل شبهتهم أن قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى ، أما أنه خير فلوجهين أحدهما : أن المنافع هناك أعظم وثانيهما : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار فيها أكثر ، وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر ، فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة ألبتة فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ، ورحم الله الشافعي حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى ، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة فكأنه رحمه الله إنما أخذه من هذه الآية ، ثم إنه تعالى أكد هذا الترجيح من وجه آخر وهو أنا لو قدرنا أن نعم الله كانت تنتهي إلى الانقطاع والفناء وما كانت تتصل بالعذاب الدائم لكان صريح العقل يقتضي ترجيح نعم الآخرة على نعم الدنيا فكيف إذا اتصلت نعم الدنيا بعقاب الآخرة فأي عقل يرتاب في أن نعم الآخرة راجحة عليها ، وهذا هو المراد بقوله : {أَفَمَن وَعَدْنَـاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَـاقِيهِ} (الصافات : 57) فهو يكون كمن أعطاه الله قدراً قليلاً من متاع الدنيا ثم يكون في الآخرة من المحضرين للعذاب ، والمقصود أنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا فقال الله لهم لو لم يحصل عقيب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقتضي ترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا ، فكيف وهذه الدنيا يحصل بعدها العقاب الدائم ، وأورد هذا الكلام على لفظ الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح وتخصيص لفظ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن قال تعالى : {لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (الصافات : 57) {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصافات : 127) وفي لفظه إشعار به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام ، وذلك لا يليق بمجالس اللذة إنما يليق بمجالس الضرر والمكاره.
جزء : 25 رقم الصفحة : 10
12
/ اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه يسأل الكفار يوم القيامة عن ثلاثة أشياء أحدها : قوله : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} لما ثبت أن الكفار يوم القيامة قد عرفوا بطلان ما كانوا عليه وعرفوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة فيقول لهم أين ما كنتم تعبدونه وتجعلونه شريكاً في العبادة وتزعمون أنه يشفع ؟
أين هو لينصركم ويخلصكم من هذا الذي نزل بكم. ثم بين تعالى ما يقوله من حق عليه القول ، والمراد من القول هو قوله : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود : 119) ومعنى حق عليه القول أي حق عليه مقتضاه ، واختلفوا في أن الذين حق عليهم هذا القول من هم ؟
فقال بعضهم الرؤساء الدعاة إلى الضلال ، وقال بعضهم الشياطين قوله : {رَبَّنَا هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ} هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصوف محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا والمراد كما أن غينا باختيارنا فكذا غيهم باختيارهم يعني أن أغواءنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد والأعمال ، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال : {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا} وقال تعالى لإبليس : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (
جزء : 25 رقم الصفحة : 12
(1/3505)

إبراهيم : 22) فقوله : {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ} (الحجر : 42) يدل على أن ذلك الاتباع لهم من قبل أنفسهم لا من قبل إلجاء الشيطان إلى ذلك ، ثم قال تبرأنا إليك منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم ، والحاصل أنهم يتبرءون منهم كما قال تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } (البقرة : 166) وأيضاً فلا يمتنع في قوله تعالى : {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ} (النحل : 27) أن يريد به هؤلاء الرؤساء والشياطين فإنهم لما أطاعوهم فقد صيروهم لمكان الطاعة بمنزله الشريك لله تعالى ، وإذا حمل الكلام على هذا الوجه كان جوابهم أن يقولوا إلهنا هؤلاء ما عبدونا إنما عبدوا أهواءهم الفاسدة / وثانيها : قوله تعالى : {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} والأقرب أن هذا على سبيل التقرير لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم ، فالمراد أنهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة وأن العذاب ثابت فيهم ، وكل ذلك على وجه التوبيخ ، وفي ذكره ردع وزجر في دار الدنيا ، فأما قوله تعالى : {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} فكثير من المفسرين زعموا أن جواب لو محذوف وذكروا فيه وجوهاً أحدها : قال الضحاك ومقاتل يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة وثانيها : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق وثالثها : ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون ورابعها : لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب وخامسها : قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله تعالى : {لا يُؤْمِنُونَ بِه حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} (الشعراء : 201) وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقريره وجوه أحدها : أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله : {ادْعُوا } فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً فقال تعالى : {لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} شيئاً أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب وثانيها : أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم
جزء : 25 رقم الصفحة : 12
(1/3506)

{وَرَأَوُا الْعَذَابَا لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله : {وَرَأَوُا الْعَذَابَ } ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام ؟
قلنا هذا كقوله : {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا ههنا وثالثها : أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية الأمر الثالث : من الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ} (القصص : 65 ، 66) أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعاً في عمي الأنباء عليهم والعجز عن الجواب ، وقرىء فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ، ويفوضون الأمر إلى علم الله وذلك قوله تعالى : {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُم قَالُوا لا عِلْمَ لَنَآا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} (المائدة : 109) فما ظنك بهؤلاء الضلال ، قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك ، فكانت حجتهم على الله تعالى طاهرة وكذلك القول فيما تقدم لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك في الغواية ، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك / فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهراً والجواب : أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها ، وكما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف فكذا وجه جوابنا حرف واحد وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين ، والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن بل الواجب السكوت ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت ، فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً فثبت أن الإشكال مشترك والله أعلم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 12
13
اعلم أنه تعالى لما بين حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة وزجراً عن الثبات على الكفر فقال : {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَعَسَى ا أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} وفي عسى وجوه : أحدها : أنه من الكرام تحقيق والله أكرم الأكرمين وثانيها : أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح وثالثها : عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا ، واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون : {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه ألبتة ، وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصواباً فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر / والخيرة أيضاً اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان : الأول : وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله : {وَيَخْتَارُ } ويكون ما نفياً ، والمعنى : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني : أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} ثم يقول : {وَيَخْتَارُ }
جزء : 25 رقم الصفحة : 13
(1/3507)

ما كان لهم الخيرة ، قال أبو القاسم الانصاري وهذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه ، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله ، فإن قيل لما كلفه استوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا إذا علم قطعاً إنه لا يحصل ذلك الأفضل فتوريطه في العقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة ، ثم قولهم المستحق خير من المتفضل به جهل لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله ، أما الذي ما حصل الذات والصفات إلا بخلقه وبفضله وإحسانه فكيف يستنكف من تفضله ، ثم قال : {سُبْحَـانَ اللَّهِ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والاعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه يعلم ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما يعلنون من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير غيره في النبوة ، ولما بين علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال : {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } وفيه تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات ، وعالماً بكل المعلومات ، منزهاً عن النقائص والآفات يجازي المحسنين على طاعتهم ويعاقب العصاة على عصيانهم وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ونهاية تقوية القلب للمطيعين ، ويحتمل أيضاً أن لما بين فساد طريق المشركين من قوله : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} فيقول : {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ} (النحل : 27) ختم الكلام في ذلك بإظهار هذا التوحيد وبيان أن الحمد والثناء لا يليق إلا به.
أما قوله : {لَهُ الْحَمْدُ فِى الاولَى وَالاخِرَةِ } فو ظاهر على قولنا لأن الثواب غير واجب عليه بل هو سبحانه يعطيه فضلاً وإحساناً فله الحمد في الأولى والآخرة ، ويؤكد ذلك قول أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } (فاطر : 34) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه } (الزمر : 74) {وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (يونس : 10) أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة ، وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم ، قال القاضي إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار أيضاً بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والإلطاف وسائر النعم ، لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر ، وهذا فيه نظر ، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن بذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة ؟
كلا ، بل لا بد أن يتوبوا وأن يشتغلوا بالشكر ، ومتى فعلوا ذلك فقد بطل العقاب.
/
جزء : 25 رقم الصفحة : 13
أما قوله : {وَلَهُ الْحُكْمُ} فهو إما في الدنيا أو في الآخرة فأما في الدنيا فحكم كل أحد سواه إنما نفذ بحكمه ، فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ولا على الزوجة حكم زوجها ولا على الابن حكم أبيه ولا على الرعية حكم سلطانهم ولا على الأمة حكم الرسول ، فهو الحاكم في الحقيقة ، وأما في الآخرة فلا شك أنه هو الحاكم ، لأنه الذي يتولى الحكم بين العباد في الآخرة ، فينتصف للمظلومين من الظالمين.
أما قوله : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالمعنى وإلى محل حكمه وقضائه ترجعون ، فإن كلمة إلى لانتهاء الغاية وهو تعالى منزه من المكان والجهة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 13
13
(1/3508)

اعلم أنه تعالى لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله : {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا لَهُ الْحَمْدُ فِى الاولَى وَالاخِرَةِا وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص : 70) فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه فقال لرسوله : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} فنبه على أن الوجه في كون الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان ، لأن المرء في الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ، ولأجله يحصل الاجتماع فيمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم لولا الراحة والسكون بالليل فلا بد منهما والحالة هذه ، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات ، فبين تعالى أنه لا قادر على ذلك إلا الله تعالى ، وإنما قال : {أَفَلا تَسْمَعُونَ} / {أَفَلا تُبْصِرُونَ} لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر قال الكلبي قوله : {أَفَلا تَسْمَعُونَ} معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك وقوله : {أَفَلا تُبْصِرُونَ} معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال ، قال صاحب "الكشاف" السرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة ، ومنه قولهم في الأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد ، فإن قيل هلا قال : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل : بليل تسكنون فيه ؟
قلنا ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ، وإنما قرن بالضياء أفلا تسمعون ، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ، ومن رحمته زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضله في الآخر وهو النهار ولأداء الشكر على المنفعتين معاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 13
واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً وابتغاء فضل الله بالليل ممكناً إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى به فلهذا خصه به.
جزء : 25 رقم الصفحة : 13
16
اعلم أنه سبحانه لما هجن طريقة المشركين ، أولاً ثم ذكر التوحيد ودلائله ، ثانياً عاد إلى تهجين طريقتهم مرة أخرى وشرح حالهم في الآخرة فقال : {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} أي القيامة فيقول : {أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} والمعنى أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصكم ، أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول.
أما قوله : {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} فالمراد ميزنا واحداً ليشهد عليهم ، ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلغوا القوم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زائداً في غمهم ، وقال آخرون بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب لأنه تعالى عم كل أمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد / محمد صلى الله عليه وسلّم فعلموا حينئذٍ أن الحق لله ولرسله {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب عنهم غيبة الشىء الضائع {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من الباطل والكذب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 16
18
اعلم أن نص القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه السلام ، وظاهر ذلك يدل على أنه كان ممن قد أمن به ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة ، قال الكلبي : إنه كان ابن عم موسى عليه السلام ، لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى ، وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوى وقال محمد بن إسحق إنه كان عم موسى عليه السلام ، لأن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث وقارون بن يصهر بن قاهث. وعن ابن عباس أنه كان ابن خالته ، ثم قيل إنه كان يسمى المنور لحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، إلا أنه نافق كما نافق السامري.
(1/3509)

أما قوله : {فَبَغَى عَلَيْهِمْ } ففيه وجوه أحدها : أنه بغى بسبب ماله ، وبغيه أنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله والثاني : أنه من الظلم ، قيل ملكه فرعون على / بني إسرائيل فظلمهم الثالث : قال القفال : بغى عليهم ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده الرابع : قال الضحاك : طغى عليهم واستطال عليهم فلم يوفقهم في أمر الخامس : قال ابن عباس : تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم السادس : قال شهر بن حوشب : بغيه عليهم أنه زاد عليهم في الثياب شبراً ، وهذا يعود إلى التكبر السابع : قال الكلبي : بغيه عليهم أنه حسد هرون على الحبورة ، يروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر وأغرق الله تعالى فرعون جعل الحبورة لهرون ، فحصلت له النبوة والحبورة وكان صاحب القربان والمذبح ، وكان لموسى الرسالة ، فوجد قارون من ذلك في نفسه ، فقال يا موسى لك الرسالة ، ولهرون الحبورة ، ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا ، فقال موسى عليه السلام : والله ما صنعت ذلك لهرون ولكن الله جعله له ، فقال والله لا أصدقك أبداً حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهرون ، قال فأمر موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل أن يجىء كل رجل منهم بعصاه ، فجاءوا بها ، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له ، وكان ذلك بأمر الله تعالى ، فدعا ربه أن يريهم بيان ذلك ، فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هرون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون أما ترى ما صنع الله لهرون فقال والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير ، وولى هرون الحبورة والمذبح والقربان ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هرون فيضعها في المذبح وتنزل النار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه ، وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "كان قارون من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى".
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
أما قوله : {إِنَّ قَـارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِم وَءَاتَيْنَـاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَه لَتَنُواأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ} ففيه أبحاث :
الأول : قال الكعبي : ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف الله مال قارون إلى نفسه بقوله : {وَءَاتَيْنَـاهُ} وأجاب بأنه لا حجة في أنه كان حراماً ، ويجوز أن من تقدمه من الملوك جمعوا وكنزوا فظفر قارون بذلك ، وكان هذا الظفر طريق التملك ، أو وصل إليه بالإرث من جهات ، ثم بالتكسب من جهة المضاربات وغيرها وكان الكل محتملاً.
البحث الثاني : المفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به ، وقيل هي الخزائن وقياس واحدها مفتح بفتح الميم ، ويقال ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة الجماعة الكثيرة والعصابة مثلها ، فالعشرة عصبة بدليل قوله تعالى في إخوة يوسف عليه السلام : {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} (يوسف : 8) وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم.
(1/3510)

إذا عرفت معنى الألفاظ فنقول : ههنا قولان أحدهما : أن المراد بالمفاتح المفاتيح وهي التي يفتح بها الباب ، قالوا كانت مفاتيحه من جلود الإبل وكل مفتاح مثل إصبع ، وكان لكل خزانة مفتاح ، وكان إذا ركب قارون حملت المفاتيح على ستين بغلاً ، ومن الناس من طعن في هذا القول / من وجهين الأول : أن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح الثاني : أن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض ، فلا يجوز أن يكون لها مفاتيح والجواب : عن الأول أن المال إذا كان من جنس العروض ، لا من جنس النقد جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد ، وأيضاً فهذا الذي يقال إن تلك المفاتيح بلغت ستين حملاً ، ليس مذكوراً في القرآن فلا تقبل هذه الرواية ، وتفسير القرآن أن تلك المفاتيح كانت كثيرة ، وكان كل واحد منها معيناً لشيء آخر ، فكان يثقل على العصبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها ، وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد ، وعن الثاني أن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق القول الثاني : وهو اختيار ابن عباس والحسن أن تحمل المفاتح على نفس المال وهذا أبين وعن الشبهة أبعد. قال ابن عباس : كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء ، وكانت خزائنه أربعمائة ألف فيحمل كل رجل عشرة آلاف القول الثالث : وهو اختيار أبي مسلم : أن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (الأنعام : 59) والمراد آتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أولي القوة والهداية ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها والقائمين عليها أن يحفظوها ، ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور أحدها : قوله : {لا تَفْرَحْا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة أصلاً ، وقال بعضهم : إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها ، فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح بها وما أحسن ما قال المتنبي :
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } (الحديد : 23) قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركاً ، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى وثانيها : قوله : {وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَـاـاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاخِرَةَ } والظاهر أنه كان مقراً بالآخرة ، والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة ويسلك طريقة التواضع وثالثها : قوله : {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } وفيه وجوه أحدها : لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا فلأجل ذلك ما كان يتفرغ للتنعم والالتذاذ فنهاه الواعظ عن ذلك وثانيها : لما أمره الواعظ بصرف المال إلى الآخرة بين له بهذا الكلام أنه لا بأس بالتمتع بالوجوه المباحة وثالثها : المراد منه الإنفاق في طاعة الله فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب قال عليه السلام : "فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار" ورابعها : قوله : {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } لما أمره / بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر ، وإنما قال : {كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } تنبيهاً على قوله : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } (إبراهيم : 7) وخامسها : قوله : {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الارْضِ } والمراد ما كان عليه من الظلم والبغي وقيل إن هذا القائل هو موسى عليه السلام ، وقال آخرون بل مؤمنو قومه ، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما لو قيل لم يكن عليه مزيد ، لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه بكفر النعمة فقال : إنما أوتيته على علم عندي وفيه وجوه : أحدها : قال قتادة ومقاتل والكلبي : كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال : إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك وثانيها : قال سعيد بن المسيب والضحاك : كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وكالب ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة والنحاس فيجعله ذهباً وثالثها : أراد به علمه بوجوه المكاسب والتجارات ورابعها : أن يكون قوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
(1/3511)

{إِنَّمَآ أُوتِيتُه عَلَى عِلْمٍ عِندِى } أي الله أعطاني ذلك مع كونه عالماً بي وبأحوالي فلو لم يكن ذلك مصلحة لما فعل وقوله : {عِندِى } أي عندي أن الأمر كذلك ، كما يقول المفتى عندي أن الأمر كذلك أي مذهبي واعتقادي ذلك ، ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله : {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِه مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } وفيه وجهان : الأول : يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله تعالى قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة وأخبر به موسى عليه السلام وسمعه من حفاظ التواريخ كأنه قيل له : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته الثاني : يجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك كأنه لما قال أوتيته على علم عندي فتصلف بالعلم وتعظم به ، قيل أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين ؟
.
أما قوله : {وَأَكْثَرُ جَمْعًا } فالمعنى أكثر جمعاً للمال أو أكثر جماعة وعدداً ، وحاصل الجواب أن اغتراره بماله وقوته وجموعه من الخطأ العظيم ، وأنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً.
فأما قوله : {وَلا يُسْـاَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} فالمراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها ، لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة به إلى السؤال ، فإن قيل كيف الجمع بينه وبين قوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92) قلنا يحمل ذلك على وقتين على ما قررناه ، وذكر أبو مسلم وجهاً آخر فقال : السؤال قد يكون للمحاسبة ، وقد يكون للتقرير والتبكيت ، وقد يكون للاستعتاب ، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله : {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (النحل : 84) {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات 35/ 36).
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
18
/ أما قوله : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِه فِى زِينَتِه } فيدل على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر ، إلا أن الناس ذكروا وجوهاً مختلفة في كيفية تلك الزينة ، قال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول وعليها الثياب الأرجوانية ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلى والثياب الحمر على البغال الشهب ، وقال بعضهم : بل خرج في تسعين ألفاً هكذا ، وقال آخرون بل على ثلثمائة. والأولى ترك هذه التقريرات لأنها متعارضة ، ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا {الدُّنْيَا يَـالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـارُونُ} من هذه الأمور والأموال ، والراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا ، وأما العلماء وأهل الدين فقالوا للذين تمنوا هذا ويلكم ثواب الله خير من هذه النعم ، لأن للثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار ودائمة ، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاث ، قال صاحب "الكشاف" : ويلك أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى.
أما قوله : {وَلا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا الصَّـابِرُونَ} فقال المفسرون : لا يوفق لها والضمير في يلقاها إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان أحدهما : إلى ما دل عليه قوله : {وَعَمِلَ صَـالِحًا فَ أولئك } يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصابرون والثاني : قال الزجاج : يعني ، ولا يلقى هذه الكلمة وهي قولهم ثواب الله خير إلا الصابرون على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات ، وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار.
/
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
(1/3512)

وأما قوله : {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} ففيه وجهان أحدهما : أنه لما أشر وبطر وعتا خسف الله به وبداره الأرض جزاء على عتوه وبطره ، والفاء تدل على ذلك ، لأن الفاء تشعر بالعلية وثانيها : قيل إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت نفسه فجمع بني إسرائيل ، وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت سيدنا وكبيرنا فمرنا بما شئت ، قال : نبرطل فلانة البغي حتى تنسبه إلى نفسها فيرفضه بنو إسرائيل فجعل لها طستاً من ذهب مملوءاً ذهباً فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن زنى وهو (غير) محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه ، فقال قارون وإن كنت أنت ؟
قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يقولون إنك فجرت بفلانة فأحضرت فناشدها موسى بالله الذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله تعالى ، فقالت : كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجداً يبكي ، وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله عز وجل إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك ، فقال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعاً غير رجلين/ ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ، ثم قال : خذيهم فانطبقت الأرض عليهم فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ما أفظك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم ، أما وعزتي لودعوني مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله ، ثم إن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة ، قال القاضي : إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك فإنه لا يمتنع ما روى على وجه المبالغة في الزجر ، وأما قولهم إنه تعالى قال لو استغاث بي لأغثته ، فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف لأن موسى عليه السلام ما فعله إلا عن أمره فبعيد ، وقولهم إنه يتجلجل في الأرض أبداً فبعيد لأنه لا بد له من نهاية وكذا القول فيما ذكر من عدد القامات ، والذي عندي في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين ، وليست المسألة مسألة عملية حتى يكتفى فيها بالظن ، ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
أما قوله : {وَمَا كَانَ مِنَ} فالمراد من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب / الله تعالى يقال نصره من عدوه فانتصر ، أي منعه منه فامتنع.
جزء : 25 رقم الصفحة : 18
23
اعلم أن القوم الذين شاهدوا قارون في زينته لما شاهدوا ما نزل به من الخسف صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى عليه السلام وداعياً إلى الرضا بقضاء الله تعالى وقسمته وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبياء الله ورسله.
أما قوله : {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} فاعلم أن وي كلمة مفصولة عن كأن وهي كلمة مستعملة عند التنبه للخطأ وإظهار التندم ، فلما قالوا : {الدُّنْيَا يَـالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـارُونُ} (القصص : 79) ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم فقالوا : وي ثم قالوا : كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الحرف فقال إن وي مفصولة من كان وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم وي. وذكر الفراء وجهين أحدهما : أن المعنى ويلك فحذف اللام وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم أن الله ، وهذا قول قطرب حكاه عن يونس الثاني : وي منفصلة من كأن وهو للتعجب يقول الرجل لغيره وي أما ترى ما بين يديك فقال الله وي ثم استأنف كان الله يبسط فالله تعالى إنما ذكرها تعجيباً لخلقه ، قال الواحدي : وهذا وجه مستقيم غير أن العرب لم تكتبها منفصلة ولو كان على ما قالوه لكتبوها منفصلة ، وأجاب الأولون بأن خط المصحف لا يقاس عليه ، ثم قالوا : {لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّه لا يُفْلِحُ الْكَـافِرُونَ} وهذا تأكيد لما قبله.
(1/3513)

أما قوله : {تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ} فتعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما ، وعن علي / عليه السلام : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها ، قال صاحب "الكشاف" : ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون لقوله : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ} (القصص : 4) والفساد لقارون لقوله : {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الارْضِ } (القصص : القصص : 77) ويقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله : {وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كما تدبره علي بن أبي طالب عليه السلام.
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
23
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً ، بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل لهم فقال : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه خَيْرٌ مِّنْهَا } وفيه وجوه أحدهما : المعنى من جاء بالحسنة حصل له من تلك الكلمة خير وثانيها : حصل له شيء هو أفضل من تلك الحسنة ، ومعناه أنهم يزادون على ثوابهم وقد مر تفسيره في آخر النمل ، وأما قوله : {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فظاهره أن لا يزادوا على ما يستحقون. / وإذا صح ذلك في السيئات دل أن المراد في الحسنات بما هو خير منها ما ذكرناه من مزيد الفضل على الثواب ، قال صاحب "الكشاف" تقدير الآية : ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون ، لكنه كرر ذلك لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين ، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) كرر ذلك الإحسان واكتفى بذكر الإساءة بمرة واحدة ، وفي هذه الآية كرر ذكر الإساءة مرتين واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة ، فما السبب ؟
الجواب : لأن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة ، فكانت المبالغة في الزجر عن المعصية لائقة بهذا الباب ، لأن المبالغة في الزجر عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة. وأما الآية الآخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
السؤال الثاني : كيف قال : لا تجزي السيئة إلا بمثلها ؟
مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد والجواب : لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه. قال الجبائي : وهذا يدل على بطلان مذهب من يجوز على الله تعالى أن يعذب الأطفال عذاباً دائماً بغير جرم ، قلنا لا يجوز أن يفعله وليس في الآية ما يدل عليه ، ثم إنه سبحانه لما شرح لرسوله أمر القيامة واستقصى في ذلك ، شرح له ما يتصل بأحواله فقال : {إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال أبو علي : الذي فرض عليك أحكامه وفرائضه لرادك بعد الموت إلى معاد ، وتنكير المعاد لتعظيمه ، كأنه قال إلى معاد وأي معاد ، أي ليس لغيرك من البشر مثله. وقيل المراد به مكة ، ووجهه أن يراد برده إليها يوم الفتح ، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن عظيم لاستيلاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليها وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفر والسورة مكية/ فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهراً ظافراً. وقال مقاتل : إنه عليه السلام خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : تشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال عليه السلام : نعم ، فقال جبريل عليه السلام : فإن الله تعالى يقول : {إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } يعني إلى مكة ظاهراً عليهم وهذا أقرب ، لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل العود ، وذلك لا يليق إلا بمكة ، وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب ، قال أهل التحقيق : وهذا أحد ما يدل على نبوته ، لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ، ثم قال {قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} ووجه تعلقه بما قبله أن / الله تعالى وعد رسوله الرد إلى معاد ، قال : {قُلْ} للمشركين {رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى } يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة {وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ}
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
(1/3514)

يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ، ثم قال لرسوله {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى ا إِلَيْكَ الْكِتَـابُ إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } ففي كلمة إلا وجهان أحدهما : أنها للاستثناء ، ثم قال صاحب "الكشاف" : هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل : (وما ألقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) ويمكن أيضاً إجراؤه على ظاهره ، أي وما كنت ترجو إلا أن يرحمك الله برحمته فينعم عليك بذلك ، أي ما كنت ترجو إلا على هذا والوجه الثاني : أن إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أي ولكن رحمة من ربك ألقى إليك ونظيره قوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} (القصص : 46) خصصك به ، ثم إنه كلفه بأمور أحدها : كلفه بأن لا يكون مظاهراً للكفار فقال : {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَـافِرِينَ} وثانيها : أن قال : {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } الميل إلى المشركين ، قال الضحاك وذلك حين دعوه إلى دين آبائه ليزوجوه ويقاسموه شطراً من مالهم ، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله وثالثها : قوله : {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } أي : إلى دين ربك ، وأراد التشدد في دعاء الكفار والمشركين ، فلذلك قال : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم ورابعها : قوله : {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } وهذا وإن كان واجباً على الكل إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل التعظيم ، فإن قيل الرسول كان معلوماً منه أن لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة فما فائدة هذا النهي ؟
قلنا لعل الخطاب معه ولكن المراد غيره ، ويجوز أن يكون المعنى لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك ، فإن من وثق بغير الله تعالى فكأنه لم يكمل طريقه في التوحيد ، ثم بين أنه لا إله إلا هو ، أي لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو ، كقوله : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} (المزمل : 9) فلا يجوز اتخاذ إله سواء ، ثم قال : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } وفيه مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
المسألة الأولى : اختلفوا في قوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم ، والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه ، ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به ، إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء/ وإن كانت أجزاؤه باقية ، فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه ، بل خروجه عن كونه منتفعاً به ، ومنهم من قال : معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته ، فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للعدم فكان قابلاً للهلاك ، فأطلق عليه اسم الهلاك نظراً إلى هذا الوجه.
(1/3515)

واعلم أن المتكلمين لما أرادوا إقامة الدلالة على أن كل شيء سوى الله تعالى يقبل العدم والهلاك قالوا : ثبت أن العالم محدث ، وكل ما كان محدثاً فإن حقيقته قابلة للعدم والوجود ، وكل ما كان كذلك وجب أن يبقى على هذه الحالة أبداً ، لأن الإمكان من لوازم الماهية ، ولازم الماهية / لا يزول قط ، إلا أنا لما نظرنا في هذه الدلالة ما وجدناها وافية بهذا الغرض ، لأنهم إنما أقاموا الدلالة على حدوث الأجسام والأعراض ، فلو قدروا على إقامة الدلالة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز أو قائم بالمتحيز لتم غرضهم ، إلا أن الخصم يثبت موجودات لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ، فالدليل الذي يبين حدوث المتحيز والقائم بالمتحيز لا يبين حدوث كل ما سوى الله تعالى إلا بعد قيام الدلالة على نفي ذلك القسم الثالث ، ولهم في نفي هذا القسم الثالث طريقان أحدهما : قولهم لا دليل عليه فوجب نفيه وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية والثاني : قولهم لو وجد موجود هكذا لكان مشاركاً لله تعالى في نفي المكان والزمان والإمكان ، ولو كان كذلك لصار مثلاً لله تعالى وهو ضعيف ، لاحتمال أن يقال إنهما وإن اشتركا في هذا السلب إلا أنه يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية وحقيقة ، وإذا كان كذلك ظهر أن دليلهم العقلي لا يفي بإثبات أن كل شيء هالك إلا وجهه ، والذي يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول ثبت أن صانع العالم واجب الوجود لذاته فيستحيل وجود موجود آخر واجب لذاته ، وإلا لاشتركا في الوجوب وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بخصوصيته ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً عما به المشاركة وعما به الممايزة وكل مركب ممكن مفتقر إلى جزئه ، ثم إن الجزأين إن كانا واجبين كانا مشتركين في الوجوب ومتمايزين باعتبار آخر فيلزم تركب كل واحد منهما أيضاً ويلزم التسلسل وهو محال ، وإن لم يكونا واجبين فالمركب عنهما المفتقر إليهما أولى أن لا يكون واجباً ، فثبت أن واجب الوجود واحد وأن كل ما عداه فهو ممكن وكل ممكن فلا بد له من مرجح ، وافتقاره إلى المرجح ، إما حال عدمه أو حال وجوده ، فإن كان الأول ثبت أنه محدث ، وإن كان الثاني فافتقار الموجود إلى المؤثر ، إما حال حدوثه أو حال بقائه ، والثاني باطل لأنه يلزم إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن الافتقار لا يحصل إلا حال الحدوث ، وثبت أن كل ما سوى الله تعالى محدث سواء كان متحيزاً أو قائماً بالمتحيز أو لا متحيزاً ولا قائماً بالمتحيز ، فإن نقضت هذه الدلالة بذات الله وصفاته ، فاعلم أن هناك فرقاً قوياً وإذا ثبت حدوث كل ما سواه وثبت أن كل ما كان محدثاً كان قابلاً للعدم ثبت بهذا البرهان الباهر أن كل شيء هالك إلا وجهه ، بمعنى كونه قابلاً للهلاك والعدم ، ثم إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا هذا أولى وذلك لأنه سبحانه حكم بكونها هالكة في الحال ، وعلى ما قلناه فهي هالكة في الحال ، وعلى ما قلتموه أنها ستهلك لا إنها هالكة في الحال ، فكان قولنا أولى وأيضاً فالممكن إذا وجد من حيث هو لم يكن مستحقاً لا للوجود ولا للعدم من ذاته ، فهذه الاستحقاقية مستحقة له من ذاته ، وأما الوجود فوارد عليه من الخارج فالوجود له كالثوب المستعار له وهو من حيث هو هو كالإنسان الفقير الذي استعار ثوباً من رجل غني ، فإن الفقير لا يخرج بسبب ذلك عن كونه فقيراً كذا الممكنات عارية عن الوجود من حيث هي هي/ وإنما الوجود ثوب حصل لها بالعارية فصح أنها أبداً هالكة من حيث هي هي ، أما الذين حملوه على أنها / ستعدم فقد احتجوا بأن قالوا : الهلاك في اللغة له معنيان أحدهما : خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به الثاني : الفناء والعدم لا جائز حمل اللفظ على الأول لأن هلاكها بمعنى خروجها عن حد الانتفاع محال ، لأنها وإن تفرقت أجزاؤها فإنها منتفع بها لأن النفع المطلوب كونها بحيث يمكن أن يستدل بها على وجود الصانع القديم ، وهذه المنفعة باقية سواء بقيت متفرقة أو مجتمعة ، وسواء بقيت موجودة أو صارت معدومة. وإذا تعذر حمل الهلاك على هذا الوجه وجب حمله على الفناء. أجاب من حمل الهلاك على التفرق قال : هلاك الشيء خروجه عن المنفعة التي يكون الشيء مطلوباً لأجلها ، فإذا مات الإنسان قيل هلك لأن الصفة المطلوبة منه حياته وعقله ، وإذا تمزق الثوب قيل هلك ، لأن المقصود منه صلاحيته للبس ، فإذا تفرقت أجزاء العالم خرجت السموات والكواكب والجبال والبحار عن صفاتها التي لأجلها كانت منتفعاً بها انتفاعاً خاصاً ، فلا جرم صح إطلاق اسم الهالك عليها فأما صحة الاستدلال بها على الصانع سبحانه فهذه المنفعة ليست منفعة خاصة بالشمس من حيث هي شمس والقمر من حيث هو قمر ، فلم يلزم من بقائها أن لا يطلق عليها اسم الهالك ثم احتجوا على بقاء أجزاء العالم بقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
(1/3516)

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} (إبراهيم : 48) وهذا صريح بأن تلك الأجزاء باقية إلا أنها صارت متصفة بصفة أخرى فهذا ما في هذا الموضع.
المسألة الثانية : احتج أهل التوحيد بهذه الآية على أن الله تعالى شيء ، قالوا لأنه استثنى من قوله : {كُلِّ شَىْءٍ} استثناء يخرج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت اللفظ ، فوجب كونه شيئاً يؤكده ما ذكرناه في سورة الأنعام ، وهو قوله : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةًا قُلِ اللَّه } (الأنعام : 19) واحتجاجهم على أنه ليس بشيء بقوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) والكاف معناه المثل فتقدير الآية ليس مثل مثله شيء ومثل مثل الله هو الله فوجب أن لا يكون الله شيئاً ، جوابه : أن الكاف صلة زائدة.
المسألة الثالثة : استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين الأول : قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه وذلك يقتضي الجسمية والثاني : قوله : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وكلمة إلى لانتهاء الغاية وذلك لا يعقل إلا في الأجسام والجواب : لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه إلا الوجه ، وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة. وهو بيان ابن سمعان وذلك لا يقول به عاقل ، ثم من الناس من قال الوجه هو الوجود والحقيقة يقال وجه هذا الأمر كذا أي حقيقته ، ومنهم من قال الوجه صلة ، والمراد كل شيء هالك إلا هو ، وأما كلمة إلى فالمعنى وإلى موضع حكمه وقضائه ترجعون.
المسألة الرابعة : استدلت المعتزلة به على أن الجنة والنار غير مخلوقتين ، قالوا لأن الآية تقتضي فناء الكل فلو كانتا مخلوقتين لفنيتا ، وهذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة : {أُكُلُهَا دَآا ِمٌ} (الرعد : 35) والجواب : هذا معارض بقوله تعالى في صفة الجنة : {أُعِدَّتْ} (آل عمران : 133) وفي صفة النار {الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة : 24) ثم إما أن يحمل قوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} على الأكثر ، كقوله : / {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} (النمل : 23) أو يحمل قوله : {أُكُلُهَا دَآا ِمٌ} على أن زمان فنائهما لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائهما لا جرم أطلق لفظ الدوام عليه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
المسألة الخامسة : قوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} يدل على أن الذات ذات بالفعل ، لأنه حكم بالهلاك على الشيء فدل على أن الشيء في كونه شيئاً قابل للهلاك/ فوجب أن لا يكون المعدوم شيئاً والله أعلم. والحمد لله رب العالمين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 23
26
(1/3517)

سورة العنكبوت
مكية وقيل مدنية وقيل نزلت من أولها إلى رأس عشر بمكة
وباقيها بالمدينة أو نزل إلى آخر العشر بالمدينة
وباقيها بمكة وبالعكس ، وهي سبعون أو تسع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 25 رقم الصفحة : 26
27
المسألة الأولى : في تعلق أول هذه السورة بما قبلها وفيه وجوه الأول : لما قال الله تعالى قبل هذه السورة : {إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } (القصص : 85) وكان المراد منه أن يرده إلى مكة ظاهراً غالباً على الكفار ظافراً طالباً للثأر ، وكان فيه احتمال مشاق القتال صعب على البعض ذلك فقال الله تعالى : {الام * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا} ولا يؤمروا بالجهاد الوجه الثاني : هو أنه تعالى لما قال في أواخر السورة المتقدمة {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } (القصص : 87) وكان في الدعاء إليه الطعان والحراب والضراب ، لأن النبي عليه السلام وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن الكفار بمجرد الدعاء فشق على البعض ذلك فقال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا } الوجه الثالث : هو أنه تعالى لما قال في آخر السورة المتقدمة {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) ذكر بعده ما يبطل قول المنكرين للحشر فقال : {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يعني ليس كل شيء هالكاً من غير رجوع بل كل هالك وله رجوع إلى الله. إذا تبين هذا ، فاعليم أن منكري الحشر يقولون لا فائدة في التكاليف فإنها مشاق في الحال ولا فائدة لها في المآل إذ لا مآل ولا مرجع بعد الهلاك والزوال ، فلا فائدة فيها. فلما بين الله أنهم إليه يرجعون بين أن الأمر ليس على ما حسبوه ، بل حسن التكليف ليثيب / الشكور ويعذب الكفور فقال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا } غير مكلفين من غير عمل يرجعون به إلى ربهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 27
المسألة الثانية : في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي ، ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول : الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه ، ثم يشرع في المقصود. إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفعوم ، كقول القائل اسمع ، واجعل بالك إلى ، وكن لي ، وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد ، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه ، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم ، كان المقدم على المقصود أكثر. ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد ، والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد. إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات ، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى ، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه. أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود ، فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة ، فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف ؟
فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز والله أعلم بجميع الأشياء ، لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى : { الر * ذَالِكَ الْكِتَابُ} (البقرة : 1 ، 2) { الر * اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} (آل عمران : 1 ـ 3) ، { المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} (
جزء : 25 رقم الصفحة : 27
(1/3518)

الأعراف : 1 ، 2) ، {يس * وَالْقُرْءَانِ} (يس : 1 ، 2) ، {ا وَالْقُرْءَانِ} (ص : 1) {قا وَالْقُرْءَانِ} (ق : 1) ، {الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ} (السجدة : 1 ، 2) ، {حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ} (الجاثية : 1 ، 2) إلا ثلاث سور (مريم : 1) ، {الاـم * أَحَسِبَ النَّاسُ} ، {الاـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (الروم : 1 ، 2) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى : {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} (المزمل : 5) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه ، لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظاً أو لم يكن ، فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه ، وأيضاً فقد وردت / سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} (الكهف : 1) وقوله : {سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا} (النور : 1) وقوله : {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} (الفرقان : 1) وقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) لأنا نقول جواباً عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى : {طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} (ط : 1 ، 2) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما ، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه : إنا كتبنا إليك كتباً إليك كتباً فيها أوامرنا فامتثلها ، لا شك أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله : {الْحَمْدُ لِلَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} تسبيحات مقصودة وتسبيح الله لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي ، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح {سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا} قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر انزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن فهو أعظم في النفس وأثقل.
جزء : 25 رقم الصفحة : 27
وأما قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ} فنقول هذا ليس وارداً على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ} الهاء راجع إلى معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلّم فكان متنبهاً له فلم ينبه ، واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى : {تَصِفُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} (الحج : 1) وقوله {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} (لأحزاب : 1) {عِلْمَا * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ} (التحريم : 1) لأنها أشياء هائلة عظيمة ، فإن تقوى الله حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيهاً ، وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الإبتداء بالكتاب والقرآن ، وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني/ وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا} يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام ، وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ} (التوبة : 16) ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور ، وهو أن هذا ابتداء كلام ، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال {أَحَسِبَ} وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه ، وأما {الاـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (الروم : 1 ، 2) فسيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في الحروف.
المسألة الثالثة : في إعراب {الاـم } وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد ههنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 27
(1/3519)

المسألة الرابعة : في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال : الأول : أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني : / أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث أنها نزلت في مهجع بن عبد الله قتل يوم بدر.
المسألة الخامسة : في التفسير قوله : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا } يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ} لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية ، واختلف أئمة النحو في قوله : {أَن يَقُولُوا } فقال بعضهم : أن يتركوا بأن يقولوا ، وقال بعضهم : أن يتركوا يقولون آمنا ، ومقتضى ظاهر هذا أنهم يمنعون من قولهم آمنا ، كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أن تمنع من ذلك ، وهذا بعيد فإن الله لا يمنع أحداً من أن يقول آمنت ، ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم.
المسألة السادسة : في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله كما ورد في الخبر "لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله ، لكن للقلب ترجمان وهو اللسان ، وللسان مصدقات هي الأعضاء ، ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة الله في الجنان ، فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الاتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في سبيل الله نفسه وماله ، وزكى بترك ما سواه أعماله ، زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله ، فيحرر في جرائد المحبين اسمه ، ويقرر في أقسام المقربين قسمه ، وإليه الإشارة بقوله : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا} يعني أظنوا أن تقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهودهم بلا مزكين ، بل لا بد من ذلك جميعه ليكونوا من المحبين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 27
فائدة ثانية : وهي أن أدنى درجات العبد أن يكون مسلماً فإن ما دونه دركات الكفر ، فالإسلام أول درجة تحصل للعبد فإذا حصل له هذه المرتبة كتب اسمه وأثبت قسمه ، لكن المستخدمين عند الملوك على أقسام منهم من يكون ناهضاً في شغله ماضياً في فعله ، فينقل من خدمة إلى خدمة أعلى منها مرتبة ، ومنهم من يكون كسلاناً متخلفاً فينقل من خدمة إلى خدمة أدنى منها ، ومنهم من يترك على شغله من غير تغيير ، ومنهم من يقطع رسمه ويمحى من الجرائد اسمه/ فكذلك عباد الله قد يكون المسلم عابداً مقبلاً على العبادة مقبولاً للسعادة فينقل من مرتبة المؤمنين إلى درجة الموقنين وهي درجة المقربين ومنهم من يكون قليل الطاعة مشتغلاً بالخلاعة ، فينقل إلى مرتبة دونه وهي مرتبة العصاة ومنزلة القساة ، وقد يستصغر العيوب ويستكثر الذنوب فيخرج من العبادة محروماً ويلحق بأهل العناد مرجوماً ، ومنهم من يبقى في أول درجة الجنة وهم البله ، فقال الله بشارة للمطيع الناهض {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا } يعني أظنوا أنهم يتركون في أول المقامات لا ، بل ينقلون إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ } (المجادلة : 11) {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَـاعِدِينَ دَرَجَةً } (النساء : 95). وقال بضده للكسلان {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا} يعني إذا قال آمنت ويتخلف / بالعصيان يترك ويرضى منه ، لا بل ينقل إلى مقام أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 27
28
(1/3520)

ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال : كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم {مِنْ} بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } وجوه : الأول : قول مقاتل فليرين الله الثاني : فليظهرن الله الثالث : فليميزن الله ، فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان ، فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع ، فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيداً مثلا سيطيع وعمراً سيعصي ، ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال ، وإنما المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى ، وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض ، وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت ، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت ، أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت ، لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات ، فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال ، فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقاً عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقاً كذلك يبين ، وفي قوله : {الَّذِينَ صَدَقُوا } بصيغة الفعل وقوله {الْكَـاذِبِينَ} باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة ، وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ ، ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين {الَّذِينَ صَدَقُوا } بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر {الْكَـاذِبِينَ} بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال : {يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ صِدْقُهُمْ } (المائدة : 119) بلفظ اسم الفاعل ، وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب / المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام.
جزء : 25 رقم الصفحة : 28
29
لما بين حسن التكليف بقوله : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا } بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الإستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل ، وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزاً عن العذاب عاجلاً فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد ، وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الإستعجال.
ثم قال تعالى : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه ، فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة.
ثم قال : {مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاتٍا وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
لما بين بقوله : أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى ، وبين في قوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله ، وفي الآية مسائل :
(1/3521)

المسألة الأولى : أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي الأول وهو الله تعالى ووحدانيته والأصل الآخر وهو اليوم الآخر والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض ، فقوله : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا} (العنكبوت : 2) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول وقوله {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } (العنكبوت : 2 ، 3) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} مع قوله : {مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللَّهِ} فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 29
المسألة الثانية : ذكر بعض المفسرين في تفسير لقاء الله أنه الرؤية وهو ضعيف فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر.
/ المسألة الثالثة : قال بعض المفسرين المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله : {مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللَّهِ} من كان يخاف الله وهو أيضاً ضعيف ، فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل الله ولا يفهم منه أخاف فضل الله ، وإذا كان وارداً لهذا لا يكون لغيره دفعاً للاشتراك.
المسألة الرابعة : يمكن أن يكون المراد بأجل الله الموت ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر ، فإن كان هو الموت فهذا ينبىء عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار وذلك لأن القائل إذا قال من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلاً بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل ، أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير/ فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال ، وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء.
المسألة الخامسة : قوله : {مَن كَانَ يَرْجُوا } شرط وجزاؤه {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاتٍ } والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتياً له ، وهذا باطل فما الجواب عنه ؟
نقول المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب ، يعني من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت بثواب الله يثاب على طاعته عنده ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتياً على وجه يثاب هو.
المسألة السادسة : قال : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما ، وذلك لأنه سبق القول في قوله : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا } وسبق الفعل بقوله : {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} وبقوله : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } وبقوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ولا شك أن القول يدرك بالسمع والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه وهو العليم يعلم من صدق فيما قال : ممن كذب وأيضاً عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة وهي أن العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته أحدها : عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع ، وإنما يعلم وعمل لسانه وهو يسمع وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ، ولمرئيه ما لا عين رأت ، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد ، كما وصف في الخبر في وصف الجنة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 29
31
لما بين أن التكليف حسن واقع وأن عليه وعداً وإيعاداً ليس لهما دافع ، بين أن طلب الله ذلك / من المكلف ليس لنفع يعود إليه فإنه غني مطلقاً ليس شيء غيره يتوقف كما له عليه ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى : {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه } (فصلت : 46) وقوله تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ } (الإسراء : 7 وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الآية السابقة مع هذه الآية يوجبان إكثار العبد من العمل الصالح وإتقانه له ، وذلك لأن من يفعل فعلاً لأجل ملك ويعلم أن الملك يراه ويبصره يحسن العمل ويتقنه ، وإذا علم أن نفعه له ومقدر بقدر عمله يكثر منه ، فإذا قال الله إنه سميع عليم فالعبد يتقن عمله ويخلصه له وإذا قال بأن جهاده لنفسه يكثر منه.
(1/3522)

المسألة الثانية : لقائل أن يقول هذا يدل على أن الجزاء على العمل لأن الله تعالى لما قال : {وَمَن جَـاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـاهِدُ لِنَفْسِه } فهم منه أن من جاهد ربح بجهاده ما لولاه لما ربح فنقول هو كذلك ولكن بحكم الوعد لا بالاستحقاق ، وبيانه هو أن الله تعالى لما بين أن المكلف إذا جاهد يثيبه فإذا أتى به هو يكون جهاداً نافعاً له ولا نزاع فيه ، وإنما النزاع في أن الله يجب عليه أن يثيب على العمل لولا الوعد ، ولا يجوز أن يحسن إلى أحد إلا بالعمل ولا دلالة للآية عليه.
المسألة الثالثة : قوله : {فَإِنَّمَا} يقتضي الحصر فينبغي أن يكون جهاد المرء لنفسه فحسب ولا ينتفع به غيره وليس كذلك فإن من جاهد ينتفع به ومن يريد هو نفعه ، حتى أن الوالد والولد ببركة المجاهد وجهاده ينتفعان فنقول ذلك نفع له فإن انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر ههنا معناه أن جهاده لا يصل إلى الله منه نفع ويدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} وفيه مسائل :
الأولى : تدل الآية على أن رعاية الأصلح لا يجب على الله لأنه بالأصلح لا يستفيد فائدة وإلا لكان مستكملاً بتلك الفائدة وهي غيره وهي من العالم فيكون مستكملاً بغيره فيكون محتاجاً إليه وهو غني عن العالمين ، وأيضاً أفعاله غير معللة لما بينا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 31
المسألة الثانية : تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص فإنه من العالم والله غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال ، وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز العقل إدراك جسم لا في مكان وإنه محال.
المسألة الثالثة : لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجاً إلى قدرة هي غيره وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجاً وهو غني ، نقول لم قلتم إن قدرته من العالم وهذا لأن العالم كل موجود سوى الله بصفاته أي كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر ، والعلم ليس خارجاً عن مفهوم العالم.
المسألة الرابعة : الآية فيها بشارة وفيها إنذار ، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنياً عن / العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم وهذا يوجب الخوف العظيم ، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنياً ، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه ، وهذا يوجب الرجاء التام.
جزء : 25 رقم الصفحة : 31
32
لما بين إجمالاً أن من يعمل صالحاً فلنفسه بين مفصلاً بعض التفصيل أن جزاء المطيع الصالح عمله فقال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنها تدل على أن الأعمال مغايرة للإيمان لأن العطف يوجب التغاير.
المسألة الثانية : أنها تدل على أن الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان لأن تكفير السيئات والجزاء بالأحسن معلق عليها وهي ثمرة الإيمان ، ومثال هذا شجرة مثمرة لا شك في أن عروقها وأغصانها منها ، والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج فكذلك العمل الصالح مع الإيمان وأيضاً الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان.
المسألة الثالثة : الإيمان هو التصديق كما قال : {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} (يوسف : 17) أي بمصدق واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التفصيل إن علم مفصلاً أنه قول الله أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم ، والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحاً بأمره ، ولو نهى عنه لما كان صالحاً فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه ، وقالت المعتزلة ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي ، فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك ، فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي ، وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح والمسألة بطولها في (كتب) الأصول.
(1/3523)

المسألة الرابعة : العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف ، يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي. إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه لأنه عرض ، ولا يبقى بالعامل أيضاً لأنه هالك كما قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق ، لكن الباقي هو وجه الله / لقوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحاً ، وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحاً ، فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصاً لله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 32
المسألة الخامسة : هذا يقتضي أن تكون النية شرطاً في الصالحات من الأعمال وهي قصد الإيقاع لله ، ويندرج فيها النية في الصوم خلافاً لزفر ، وفي الوضوء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله.
المسألة السادسة : العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى : {وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } (فاطر : 10) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) وهو يرفع العمل فالعمل من غير المؤمن لا يقبل ، ولهذا قدم الإيمان على العمل ، وههنا لطيفة ، وهي أن أعمال المكلف ثلاثة عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه ، وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته ، وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته. فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها ، والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية ، وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب" والتائب النادم بقلبه/ وكذلك قوله عليه السلام : "يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم" يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي وحقارته وعظمتي ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله وحضر ذهنه ، فعلم أن لعمل القلب يأتي الله وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله ، وهذا تنبيه على فضل عمل القلب.
المسألة السابعة : ذكر الله من أعمال العبد نوعين : الإيمان والعمل الصالح ، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال : {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ} فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، وهذا يقتضى أموراً الأول : المؤمن لا يخلد في النار لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب الثاني : الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة ، وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة إذ تكفر سيئاته ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة ، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية.
الأمر الثالث : هو أن الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا فيستر الله عيوبه في الأخرى ، والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى ، فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم ، والله أعلم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 32
المسألة الثامنة : قوله : {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} يستدعي وجود السيئات حتى تكفر {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} بأسرها من أين يكون لهم سيئة ؟
فنقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء ، مثاله : إذا قال الملك لأهل بلد إذا أطعتموني أكرم آباءكم واحترم أبناءكم وأنعم عليكم وأحسن / إليكم ، لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفى أبوه ، أو يحترم ابن من لم يولد له ولد ، بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب ، ويحترم ابن من له ابن ، فكذلك يكفر سيئة من له سيئة الجواب الثاني : ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر ، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ، ولهذا قال تعالى : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة : 43).
المسألة التاسعة : قوله : {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ} يحتمل وجهين أحدهما : لنجزينهم بأحسن أعمالهم وثانيهما : لنجزينهم أحسن من أعمالهم. وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزى عليه ويترك الباقي ، وعلى الوجه الثاني : معناه قريب من معنى قوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (الأنعام : 160) وقوله : {فَلَه خَيْرٌ مِّنْهَا } (النمل : 89).
(1/3524)

المسألة العاشرة : ذكر حال المسيء مجملاً بقوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } إشارة إلى التعذيب مجملاً. وذكر حال المحسن مجملاً بقوله : {وَمَن جَـاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـاهِدُ لِنَفْسِه } ومفصلاً بهذه الآية ، ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 32
33
الأولى : ما وجه تعلق الآية بما قبلها ؟
نقول : لما بين الله حسن التكاليف ووقوعها ، وبين ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها تحريضاً للمكلف على الطاعة ، ذكر المانع ومنعه من أن يختار اتباعه ، فقال الإنسان إن انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ، ومع هذا لو أمراه بالمعصية لا يجوز اتباعهما فضلاً عن غيرهما فلا يمنعن أحدكم شيء من طاعة الله ولا يتبعن أحد من يأمر بمعصية الله.
المسألة الثانية : في القراءة قرىء حسناً وإحساناً وحسناً أظهر ههنا ، ومن قرأ إحساناً فمن قوله تعالى : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } /البقرة : 83) والتفسير على القراءة المشهورة هو أن الله تعالى وصى الإنسان بأن يفعل مع والديه حسن التأبي بالفعل والقول ، ونكر حسناً ليدل على الكمال ، كما يقال إن لزيد مالاً.
المسألة الثالثة : في قوله : {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } دليل على أن متابعتهم في الكفر لا يجوز ، وذلك لأن الإحسان بالوالدين وجب بأمر الله تعالى فلو ترك العبد عبادة الله تعالى بقول الوالدين لترك طاعة الله تعالى فلا ينقاد لما وصاه به فلا يحسن إلى الوالدين ، فاتباع العبد أبويه / لأجل الإحسان إليهم يفضي إلى ترك الإحسان إليهما ، وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل فالاتباع باطل ، وأما إذا امتنع من الشرك بقي على الطاعة والإحسان إليهما من الطاعة فيأتي به فترك هذا الإحسان صورة يفضي إلى الإحسان حقيقة.
المسألة الرابعة : الإحسان بالوالدين مأمور به ، لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة فهما سبب مجازاً ، والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة ، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة ، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه ، ثم قال تعالى : {وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَآ } فقوله : {مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ} يعني التقليد في الإيمان ليس بجيد فضلاً عن التقليد في الكفر ، فإذا امتنع الإنسان من التقليد فيه ولا يطيع بغير العلم لا يطيعهما أصلاً ، لأن العلم بصحة قولهما محال الحصول ، فإذا لم يشرك تقليداً ويستحيل الشرك مع العلم ، فالشرك لا يحصل منه قط.
جزء : 25 رقم الصفحة : 33
ثم قال تعالى : {إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني عاقبتكم ومآلكم إلي ، وإن كان اليوم مخالطتكم ومجالستكم مع الآباء والأولاد والأقارب والعشائر ، ولا شك أن من يعلم أن مجالسته مع واحد خالية منقطعة ، وحضوره بين يدي غيره دائم غير منقطع لا يترك مراضي من تدوم معه صحبته لرضا من يتركه في زمان آخر.
ثم قوله تعالى : {فَأُنَبِّئُكُم} فيه لطيفة وهي أن الله تعالى يقول لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي وعدم علمي بمخالفتكم إياي فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ولا أنسى فأنبئكم بجميعه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 33
35
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في إعادة {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} مرة أخرى ؟
نقول : الله تعالى ذكر من المكلفين قسمين مهتدياً وضالاً بقوله : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} (العنكبوت : 3) وذكر حال الضال مجملاً وحال المهتدي مفصلاً بقوله : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} ولما تمم ذلك ذكر قسمين آخرين هادياً ومضلاً فقوله : {وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } (العنكبوت : 8) يقتضي أن يهتدي بهما وقوله : {وَإِن جَـاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ} بيان إضلالهما وقوله : {إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم} بطريق الإجمال تهديد المضل وقوله : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} مرة لبيان حال المهتدي ، ومرة أخرى لبيان حال الهادي والذي يدل عليه هو أنه قال أولاً : {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} ، وقال ثانياً : {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ} والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء ولهذا قال كثير من الأنبياء {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (يوسف : 101).
(1/3525)

/ المسألة الثانية : قد ذكرنا أن الصالح باق والصالحون باقون وبقاؤهم ليس بأنفسهم بل بأعمالهم الباقية فأعمالهم باقية والمعمول له وهو وجه الله باق ، والعاملون باقون ببقاء أعمالهم وهذا على خلاف الأمور الدنيوية ، فإن في الدنيا بقاء الفعل بالفاعل وفي الآخرة بقاء الفاعل بالفعل.
المسألة الثالثة : قيل في معنى قوله : {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ} لندخلنهم في مقام الصالحين أو في دار الصالحين والأولى أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل يدخلهم في الصالحين أي يجعلهم منهم ويدخلهم في عدادهم كما يقال الفقيه داخل في العلماء.
جزء : 25 رقم الصفحة : 35
المسألة الرابعة : قال الحكماء عالم العناصر عالم الكون والفساد وما فيه يتطرق إليه الفساد فإن الماء يخرج عن كونه ماء ويفسد ويتكون منه هواء ، وعالم السموات لا كون فيه ولا فساد بل يوجد من عدم ولا يعدم ولا يصير الملك تراباً بخلاف الإنسان فإنه يصير تراباً أو شيئاً آخر وعلى هذا فالعالم العلوي ليس بفاسد فهو صالح فقوله : تعالى لندخلهم في الصالحين} أي في المجردين الذين لا فساد لهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 35
36
نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده ، وكافر مجاهر بكفره وعناده ، ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده ، والله تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} (العنكبوت : 3) وبين أحوالهما بقوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} (العنكبوت : 4) إلى قوله : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (العنبكوت : 7) بين القسم الثالث وقال : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا} ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى : {فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ} وقوله : {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} وذلك لأن المنافق كان يشبه / نفسه بالمؤمن ، ويقول إيماني كإيمانك فقال : {مِنْ} يعني أنا والمؤمن حقاً آمنا ، إشعاراً بأن إيمانه كإيمانه ، وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال ، وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم ، فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا ؟
وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم ، لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال ، وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلاناً واستقبلناه ينكر ، لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول : {مِنْ} أي أنا والمحق.
المسألة الثانية : قوله : {فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ} هو في معنى قوله : {وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى} (آل عمران : 195) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك : {وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى} (آل عمران : 195) وقال ههنا : {أُوذِىَ فِى اللَّهِ} ولم يقل في سبيل الله واللطيفة فيه أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه ، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه ، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه ، ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان فلا يترك الله ، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية ، والمؤمن أوذي ولم يترك سبيل الله بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 36
المسألة الثالثة : قوله : {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} قال الزمخشري : جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف عن الكفر ، وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله ، وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر ، وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام ، واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديداً ، ولا يكون مديداً لأن العذاب إن كان شديداً كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب/ وإن كان مديداً كالحبس والحصر لا يكون شديداً وعذاب الله شديد وزمانه مديد ، وأيضاً عذاب الناس له دافع وعذاب الله ماله من دافع ، وأيضاً عذاب الناس عليه ثواب عظيم ، وعذاب الله بعده عذاب أليم ، والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذاباً كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذاباً.
(1/3526)

المسألة الرابعة : قال : {فِتْنَةَ النَّاسِ} ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من الله وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاءً وامتحاناً وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحاناً من الإنسان كالصبر على العبادات.
/ المسألة الخامسة : لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه ، لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازاً عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب الله ، فنقول ليس كذلك ، لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله ، لأن عذاب الله يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً ، وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب الله ، بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهراً وباطناً ، بل في باطنه الإيمان ، ثم قال تعالى : {وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } (العنكبوت : 10) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية ، وفيه فوائد نذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : قال : {وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} ولم يقل من الله ، مع أن ما تقدم كان كله بذكر الله كقوله : {أُوذِىَ فِى اللَّهِ} وقوله : {كَعَذَابِ اللَّهِ} وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة ، والله اسم مدلوله الهيبة والعظمة ، فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة ، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 36
المسألة الثانية : لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال : {وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون : {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين : إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين ، فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر ، لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن ، كما قال تعالى : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} (الروم : 47) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر ، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين ، لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة ، فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين ، فالنصر لهم في الحقيقة.
المسألة الثالثة : في ليقولن قراءتان إحداهما : الفتح حملاً على قوله : {مَن يَقُولُ ءَامَنَّا} يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول ، وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما : الضم على الجمع إسناداً للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة ، ثم بين الله تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب ، فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما الله تعالى فهو عليم بذات الصدور ، وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر ، وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب ، فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر ، والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن والله أعلم بما في صدور العالمين ، ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين ، بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم/ والمنافق وإن تكلم فقال : {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ} وقد سبق تفسيره ، لكن فيه مسألة واحدة وهي أن الله قال هناك : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } وقال ههنا : {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } فنقول لما كان الذكر هناك للمؤمن / والكافر ، والكافر في قوله كاذب ، فإنه يقول : الله أكثر من واحد ، والمؤمن في قوله صادق فإنه كان يقول الله واحد ، ولم يكن هناك ذكر من يضمر خلاف ما يظهر ، فكان الحاصل هناك قسمين صادقاً وكاذباً وكان ههنا المنافق صادقاً في قوله فإنه كان يقول الله واحد ، فاعتبر أمر القلب في المنافق فقال : {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ} واعتبر أمر القلب في المؤمن وهو التصديق فقال : {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } .
جزء : 25 رقم الصفحة : 36
37
لما بين الله تعالى الفرق الثلاثة وأحوالهم ، وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة ، وبين أن عذاب الله فوقها ، وكان الكافر يقول للمؤمن تصبر في الذل وعلى الإيذاء لأي شيء ولم لا تدفع عن نفسك الذل والعذاب بموافقتنا ؟
فكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله على خطيئة مذهبكم ، فقالوا لا خطيئة فيه وإن كان فيه خطيئة فعلينا ، وفي الآية مسائل :
(1/3527)

المسألة الأولى : ولنحمل صيغة أمر ، والمأمور غير الآمر ، فكيف يصح أمر النفس من الشخص ؟
فنقول الصيغة أمر والمعنى شرط وجزاء ، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم ، قال صاحب "الكشاف" : هو في معنى قول من يريد اجتماع أمرين في الوجود ، فيقول ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء ، فقوله ولنحمل ، أي ليكن منا الحمل وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب.
المسألة الثانية : قال : {وَمَا هُم بِحَـامِلِينَ مِنْ خَطَـايَـاهُم} وقال بعد هذا : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت : 13) فهناك نفى الحمل ، وههنا أثبت الحمل ، فكيف الجمع بينهما ، فنقول قول القائل : فلان حمل عن فلان يفيد أن حمل فلان خف ، وإذا لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً ، فكذلك ههنا ما هم بحاملين من خطاياهم يعني لا يرفعون عنهم خطيئة وهم يحملون أوزاراً بسبب إضلالهم ويحملون أوزاراً بسبب ضلالتهم ، كما قال النبي عليه السلام : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء".
المسألة الثالثة : الصيغة أمر ، والأمر لا يدخله التصديق والتكذيب ، فكيف يفهم قوله : {إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} نقول قد تبين أن معناه شرط وجزاء ، فكأنهم قالوا : إن تتبعونا نحمل خطاياكم وهم كذبوا في هذا فإنهم لا يحملون شيئاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 37
37
في الذي كانوا يفترونه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : كان قولهم : {وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ} (العنكبوت : 12) صادراً لاعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر ، ثم يوم القيامة يظهر لهم خلاف ذلك فيسألون عن ذلك الافتراء وثانيها : أن قولهم : {وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ} كان عن اعتقاد أن لا حشر ، فإذا جاء يوم القيامة ظهر لهم خلاف ذلك فيسألون ويقال لهم أما قلتم أن لا حشر وثالثها : أنهم لما قالوا إن تتبعونا نحمل يوم القيامة خطاياكم ، يقال لهم فاحملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون ويقال لهم لم افتريتم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 37
38
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين التكليف وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق يالثواب العظيم ، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم ، وكان قد ذكر أن هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم ذلك ، بل قبله كان كذلك كما قال تعالى : {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } (العنكبوت : 3) ذكر من جملة من كلف جماعة منهم نوح النبي عليه السلام وقومه ومنهم إبراهيم عليه السلام وغيرهما ، ثم قال تعالى : {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في ذكر مدة لبثه ؟
نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحاً لبث ألف سنة تقريباً في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل ، وصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك ، وأيضاً كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم.
المسألة الثانية : قال بعض العلماء الاستثناء في العدد تكلم بالباقي ، فإذا قال القائل لفلان علي عشرة إلا ثلاثة ، فكأنه قال علي سبعة ، إذا علم هذا فقوله : {أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} كقوله تسعمائة وخمسين سنة ، فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها ؟
فنقول قال الزمخشري فيه فائدتان إحداهما : أن الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب فإن من قال : / عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أن يقول : ألف سنة تقريباً لا تحقيقاً ، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم ويفهم منه التحقيق الثانية : هي أن ذكر لبث نوح عليه السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه السلام أولى بالصبر مع قصر مدة دعائه وإذا كان كذلك فذكر العدد الذي في أعلى مراتب الأعداد التي لها اسم مفرد موضوع ، فإن مراتب الأعداء هي الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف ، ثم بعد ذلك يكون التكثير بالتكرير فيقال عشرة آلاف ، ومائة ألف ، وألف ألف.
جزء : 25 رقم الصفحة : 38
(1/3528)

المسألة الثالثة : قال بعض الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة والآية تدل على خلاف قولهم ، والعقل يوافقها فإن البقاء على التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته ، وإلا لما بقي ، ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام وإن كان غيره فله مؤثر ، وينتهي إلى الواجب وهو دائم ، فتأثيره يجوز أن يكون دائماً فأذن البقاء ممكن في ذاته ، فإن لم يكن فلعارض لكن العارض ممكن العدم وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع فظهر أن كلامهم على خلاف العقل والنقل (ثم نقول) لا نزاع بيننا وبينهم لأنهم يقولون العمر الطبيعي لا يكون أكثر من مائة وعشرين سنة ونحن نقول هذا العمر ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي ، وأما العمر الطبيعي فلا يدوم عندنا ولا لحظة ، فضلاً عن مائة أو أكثر.
قوله تعالى : {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـالِمُونَ} .
فيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم وإلا لعذب من ظلم وتاب ، فإن الظلم وجد منه ، وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ، فقوله : {وَهُمْ ظَـالِمُونَ} يعني أهلكهم وهم على ظلمهم ، ولو كانوا تركوه لما أهلكهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 38
39
في الراجع إليه الهاء في قوله : {جَعَلْنَـاهَا} وجهان أحدهما : أنها راجعة إلى السفينة المذكورة وعلى هذا ففي كونها آية وجوه أحدها : أنه اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحاً وإنباؤه إياه به لما اشتغل بها فلا تحصل لهم النجاة وثانيها : أن نوحاً أمر بأخذ قوم معه ورفع قدر من القوت والبحر العظيم لا يتوقع أحد نضوبه ، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة وثالثها : أن الله تعالى كتب سلامة السفينة عن الرياح المرجفة والحيوانات المؤذية ، ولولا ذلك لما حصلت النجاة والثاني : أنها راجعة إلى / الواقعة أو إلى النجاة أي جعلنا الواقعة أو النجاة آية للعالمين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 39
39
لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة أحدهما : النصب وهو المشهور ، والثاني : الرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم ، والأول : فيه وجهان أحدهما : أنه منصوب بفعل غير مذكور وهو معنى اذكر إبراهيم ، والثاني : أنه منصوب بمذكور وهو قوله : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} (العنكبوت : 14) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم ، وعلى هذا ففي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه لكن قوله : {لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} دعوة والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله ، وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلاً قبله ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الإرسال أمر يمتد فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلاً ، وهذا كما يقول القائل وقفنا للأمير إذ خرج من الدار وقد يكون الوقوف قبل الخروج ، لكن لما كان الوقوف ممتداً إلى ذلك الوقت صح ذلك الوجه الثاني : هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال ، ولما كان هو مشتغلاً بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى وقوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوه } إشارة إلى التوحيد لأن التوحيد إثبات الإله ونفي غيره فقوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ} إشارة إلى الاثبات ، وقوله : {وَاتَّقُوه } إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في مكله يكون قد أتى بأعظم الجرائم ، ويمكن أن يقال : {اعْبُدُوا اللَّهَ} إشارة إلى الاتيان بالواجبات ، وقوله : {وَاتَّقُوه } إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله ، وفي الثاني الامتناع من الشرك ، ثم قوله : {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني عبادة الله وتقواه خير ، والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعطيم وخلاف تقواه تشريك وكلاهما شر عقلاً واعتباراً ، أما عقلاً فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكناً قطعاً للتسلسل وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله ، وأما التشريك فبطلانه عقلاً وكون خلافه خيراً وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجباً فكيف يكون شريكاً وإن كان واجباً لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل ، وأما اعتباراً فلأن الشرف لن يكون ملكاً أو قريب ملك ، لكن الإنسان لا يكون ملكاً للسموات والأرضين / فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى :
جزء : 25 رقم الصفحة : 39
(1/3529)

{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } (العلق : 19). وقال : "لن يتقرب المتقربون إلى بمثل أداء ما افترضت عليهم" وقال : "لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي" فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلاً ، وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة ، فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله ، فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات.
جزء : 25 رقم الصفحة : 39
40
ذكر بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه ، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور ، إما لكونه مستحقاً للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه سواء أطعمه من الجوع أو منعه من الهجوع ، وإما لكونه نافعاً في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة ، وإما لكونه نافعاً في المستقبل كمن يخدم غيره متوقعاً منه أمراً في المستقبل ، وإما لكونه خائفاً منه. فقال إبراهيم : {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا} إشارة إلى أنها لا تستحق العبادة لذاتها لكونها أوثاناً لا شرف لها.
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَه ا إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
إشارة إلى عدم المنفعة في الحال وفي المآل ، وهذا لأن النفع ، إما في الوجود ، وإما في البقاء لكن ليس منهم نفع في الوجود ، لأن وجودهم منكم حيث تخلقونها وتنحتونها ، ولا نفع في البقاء لأن ذلك بالرزق ، وليس منهم ذلك ، ثم بين أن ذلك كله حاصل من الله فقال : {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} فقوله : {اللَّهِ} إشارة إلى استحقاق عبوديته لذاته وقوله : {الرِّزْقَ} إشارة إلى حصول النفع منه عاجلاً وآجلاً وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال : {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} نكرة ، وقال : {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} معرفاً فما الفائدة ؟
فنقول قال الزمخشري قال : {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} نكرة في معرض النفي أي لا رزق عندهم أصلاً ، وقال معرفة عند الإثبات عند الله أي كل الرزق عنده فاطلبوه منه ، وفيه وجه آخر وهو أن الرزق من الله معروف بقوله : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) والرزق / من الأوثان غير معلوم فقال : {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} لعدم حصول العلم به وقال : {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} الموعود به ، ثم قال : {فَاعْبُدُوه } أي اعبدوه لكونه مستحقاً للعبادة لذاته واشكروا له أي لكونه سابق النعم بالخلق وواصلها بالرزق {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي اعبدوه لكونه مرجعاً منه يتوقع الخير لا غير.
جزء : 25 رقم الصفحة : 40
42
لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال : {وَإِن تُكَذِّبُوا } وفي المخاطب في هذه الآية وجهان : أحدهما : أنه قوم إبراهيم والآية حكاية عن قوم إبراهيم كأن إبراهيم قال لقومه : {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } وأنا أتيت بما علي من التبليغ فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ والبيان والثاني : أنه خطاب مع قوم محمد عليه السلام ووجهه أن الحكايات أكثرها إنما تكون لمقاصد لكنها تنسى لطيب الحكاية ولهذا كثيراً ما يقول الحاكي لأي شيء حكيت هذه الحكاية فالنبي عليه السلام كان مقصوده تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب ، فقال في أثناء حكايتهم يا قوم إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام وأهلكوا فإن كذبتم أخاف عليكم ما جاء على غيركم ، وعلى الوجه الأول في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله : {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ} كيف يفهم ، مع أن إبراهيم لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمة واحدة ؟
والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن قبل نوح كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم والثاني : أن نوحاً عاش ألفاً وأكثر وكان القرن يموت ويجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع عن الاتباع فكفى بقوم نوح أمماً.
المسألة الثانية : ما {الْبَلَـاغُ} وما {الْمُبِينُ} ؟
فنقول البلاغ هو ذكر المسائل ، والإبانة هي إقامة البرهان عليه.
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لأن الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فإنه لم يأت بالبلاغ المبين ، فلا يكون آتياً بما عليه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 42
43
(1/3530)

لما بين الأصل الأول وهو التوحيد وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله : {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ} شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر ، وقد ذكرنا مراراً أن الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها عن بعض في الذكر الإلهي ، فأينما يذكر الله تعالى منها اثنين يذكر الثالث. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ} ؟
فنقول المراد العلم الواضح الذي كالرؤية والعاقل بعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول ، فهو من الله هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق ، وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولاً وبالإعادة خلق ثانياً ، فنقول العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام ، ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام ، فذلك الذي خلق أولاً معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية ، وقال : {أَوَلَمْ يَرَوْا } أي ألم يعلموا علماً ظاهراً واضحاً {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} يخلقه من تراب يجمعه فكذبك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم ، فإن من نحت حجارات ووضع شيئاً بجنب شيء ففرقه أمر ما فإنه يقول وضعه شيئاً بجنب شيء في هذه النوبة أسهل علي لأن الحجارات منحوتة ، ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى ، وعلى هذا المخرج خرج كلام الله في قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ} (الروم : 27) وإليه الإشارة بقوله : {إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
المسألة الثانية : قال : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال : أو لم يروا أن الله خلق ، أو بدأ الخلق ، والكيفية غير معلومة ؟
فنقول هذا القدر من الكيفية معلوم ، وهو أنه خلقه ولم يكن شيئاً مذكوراً ، وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة فإن الإعادة مثله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 43
المسألة الثالثة : لم قال : {ثُمَّ يُعِيدُه ا إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فأبرز اسمه مرة أخرى ، ولم يقل إن ذلك عليه يسير كما قال ثم يعيده من غير إبراز ؟
نقول مع إقامة البرهان على أنه يسير فأكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكون ذلك يسيراً ، فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحي القادر ، بقدرة كاملة ، لا يعجزه شيء ، العالم بعلم محيط بذرات كل جسم ، نافذ الإرادة لا رادَّ لما أراده ، يقطع بجواز الإعادة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 43
44
/ الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي وهو الحاصل من غير طلب فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا } على سبيل الاستفهام بمعنى استبعاد عدمه ، وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري ، وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئاً من غير تعليم وإقامة برهان له ، وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة وبعضهم لا يفهمه أصلاً فقال : إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض ، أي سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال في الآية الأولى بلفظ الرؤية وفي هذه بلفظ النظر ما الحكمة فيه ؟
نقول العلم الحدسي أتم من العلم الفكري كما تبين ، والرؤية أتم من النظر لأن النظر يفضي إلى الرؤية ، يقال نظرت فرأيت والمفضي إلى الشيء دون ذلك الشيء ، فقال في الأول أما حصلت لكم الرؤية فانظروا في الأرض لتحصل لكم الرؤية.
المسألة الثانية : ذكر هذه الآية بصيغة الأمر وفي الآية الأولى بصيغة الاستفهام لأن العلم الحدسي إن حصل فالأمر به تحصيل الحاصل ، وإن لم يحصل فلا يحصل إلا بالطلب لأن بالطلب يصير الحاصل فكرياً فيكون الأمر به تكليف ما لا يطاق ، وأما العلم الفكري فهو مقدور فورد الأمر به.
جزء : 25 رقم الصفحة : 44
(1/3531)

المسألة الثالثة : أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال : {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ} وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال : {ثُمَّ اللَّهُ} لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البدء فقال : {يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ} ثم قال : {ثُمَّ يُعِيدُه ا } كما يقول القائل ضرب زيد عمراً ثم ضرب بكراً ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول ، وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسنداً إلى الله فاكتفى به ولم يبرزه كقوله القائل أما علمت كيف خرج زيد ، اسمع مني كيف خرج ، ولا يظهر اسم زيد ، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانياً حيث قال : {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ} مع أنه كان يكفي أن يقول : ثم ينشيء النشأة الآخرة ، فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسماً من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال الله مظهراً مبرزاً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته ، فإن قيل فلم لم يقل ثم الله يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة ؟
نقول لوجهين أحدهما : أن الله كان مظهراً مبزراً بقرب منه وهو في قوله : {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن / مذكوراً عند البدء فأظهره وثانيهما : أن الدليل ههنا تم على جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس ، كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه ، وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله : {قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ} وعندهما تم الدليلان ، فأكده بإظهار اسمه ، وما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني ، فلم يقل ثم الله يعيده.
المسألة الرابعة : في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال : {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ} وههنا قال بلفظ الماضي فقال : {فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} ولم يقل كيف يبدأ ، فنقول الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق ، فقال إن كان ليس لكم علم بأن الله في كل حال يبدأ خلقاً فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقاً ، ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشيء كما بدأ ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 44
المسألة الخامسة : قال في هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقال في الآية الأولى {إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وفيه فائدتان إحداهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي ، وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام ، لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى الله ووجوده منه ، وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه ، فتم علمه بأن كل شيء من الله فقال عند تمام ذكر الدليلين {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وقال عند الدليل الواحد {إِنَّ ذَالِكَ} وهو إعادته {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الثانية : هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم وكون الأمر يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه ، فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير ، فنقول قال الله تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ، ونفس كونه مقدوراً كاف في إمكان الإعادة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 44
46
لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلاً وحكمة ، وإثابة أهل الإنابة فضلاً ورحمة ، وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام حاكياً عنه "سبقت رحمتي غضبي" فنقول ذلك لوجهين أحدهما : أن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة ، وكما ذكر ، بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد ـ التهديد بقوله : {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ} (العنبكوت : 18) وأهلكوا بالتكذيب كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب ، وذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا يحقق قوله : (سبقت رحمتي غضبي) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه.
(1/3532)

المسألة الثانية : إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود وقوله : {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه ، فنقول : هذا أبلغ في التخويف ، وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ، ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد ، فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي ، فإنه لا يدل على كمال مشيئته ، لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه ، فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى ، ولنضرب له مثلاً فنقول : إذا قيل إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال من خالفني أضربه يحصل الخوف التام لمن يخالفه ، وإذا قيل إنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين ، فإذا قال من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع ، فلا يقدر علي أيضاً لكوني مثله ، وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام ، لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصياً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 46
المسألة الثالثة : قال : {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها ؟
فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين ، فقال تعالى : فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات ، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم ، ولهذا قال بعدها {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} يعني لا تفوتون الله بل الانقلاب إليه ولا يمكن الإنفلات منه ، وفي تفسير هذه الآية لطائف إحداها : هي إعجاز المعذب عن التعذيب إما بالهرب منه أو الثبات له والمقاومة معه للدفع ، وذكر الله القسمين فقال : {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ } يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله فلا مطمع في الإعجاز بالهرب ، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته فيفوته المعذب ويعجز عنه أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال ، فإنكم مالكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع فلا إعجاز / لا بالهروب ولا بالثبات الثانية : قال : {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل/ وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية ، فإن من قال إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط الثالثة : قدم الأرض على السماء ، والولي على النصير ، لأن هربهم الممكن في الأرض ، فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض ، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء ، وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره ، والشفاعة أجمل. ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 46
47
(1/3533)

لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ وَلِقَآاـاِه } إشارة إلى الكفار بالله ، فإن لله في كل شيء آية دالة على وحدانيته ، فإذا أشرك كفر بآيات الله وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء الله فقال : { أولئك يَـاـاِسُوا مِن رَّحْمَتِى} لما أركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم ، وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلاً للرحمة ، فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة الله ، ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقاً للأمر عليهم ، وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي ، فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا ، فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك ، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر. ثم إن في الآية فوائد إحداها : قوله : { أولئك يَـاـاِسُوا } حتى يكون منبئاً عن حصر الناس فيهم وقال أيضاً {أُوالَـا ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لذلك ، ولو قال : أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم ، ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله { أولئك } مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر ، ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب ، كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم ، فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحداً منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم ، فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية : عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاماً لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة : أضاف اليأس إليهم / بقوله : { أولئك يَـاـاِسُوا } فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم ، فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر بالله واعترف بالحشر ، أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن بالله فنقول : معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر ، ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر ، وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمناً بالله لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 47
47
لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه ، بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كيف سمى قولهم {اقْتُلُوهُ} جواباً مع أنه ليس بجواب ؟
فنقول (الجواب عنه) من وجهين أحدهما : أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف ، مع أن السيف ليس بجواب ، وإنما معناه لا أقابله بالجواب ، وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب ، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت ، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات ، أما إذا أجاب بجواب فاسد ، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.
المسألة الثانية : القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضاً هم ، فيكون الآمر نفس المأمور ؟
فنقول الجواب عنه : من وجهين أحدهما : أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه ، فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد ، لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما : هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء ، فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال ، فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه ، لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع.
(1/3534)

المسألة الثالثة : {لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ} يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد ، ويقال هذا إنسان أو حيوان ، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان ، ولا يصح أن يقال هذا حيوان / أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان ، الجواب عنه : من وجهين أحدهما : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون {أَوْ} مستعملا في موضع بل ، كما يقول القائل أعطيته ديناراً أو دينارين ، وكما يقول القائل أعطه ديناراً بل دينارين قال الله تعالى : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِّصْفَه ا أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} (المزمل : 2 ـ 4) فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه الجواب الثاني : هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك ، لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات ، فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار ، وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 47
ثم قال تعالى : {فَأَنجَـاـاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ } اختلف العقلاء في كيفية الإنجاء ، بعضهم قال برد النار وهو الأصح الموافق لقوله تعالى : {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا} (الأنبياء : 69) وبعضهم قال خلق في إبراهيم كيفية استبرد معها النار وقال بعضهم ترك إبراهيم على ما هو عليه والنار على ما كانت عليه ومنع أذى النار عنه ، والكل ممكن والله قادر عليه ، وأنكر بعض الأطباء الكل ، أما سلب الحرارة عن النار/ قالوا الحرارة في النار ذاتية كالزوجية في الأربعة لا يمكن أن تفارقها ، وأما خلق كيفية تستبرد النار فلأن المزاج الإنساني له طرفا تفريط وإفراط ، فلو خرج عنهما لا يبقى إنساناً أو لا يعيش. مثلا المزاج إن كان البارد فيه عشرة أجزاء يكون إنساناً فإن صار أحد عشر لا يكون إنساناً وإن صارت الأجزاء الباردة خمسة يبقى إنساناً فإذا صارت أربعة لا يبقى إنساناً لكن البرودة التي يستبرد معها النار مزاج السمندل فلو حصل في الإنسان لمات أو لكان ذلك فإن النفس تابعة للمزاج ، وأما الثالث فمحال أن تكون القطنة في النار والنار كما هي ، والقطنة كما هي ولا تحترق ، فنقول الآية رد عليهم والعقل موافق للنقل ، أما الأول فلوجهين أحدهما : أن الحرارة في النار تقبل الاشتداد والضعف ، فإن النار في الفحم إذا نفخ فيه يشتد حتى يذيب الحديد وإن لم ينفخ لا يشتد لكن الضعف هو عدم بعض من الحرارة التي كانت في النار ، فإذا أمكن عدم البعض جاز عدم بعض آخر من ذلك عليها إلى أن ينتهي إلى حد لا يؤذي الإنسان ، ولا كذلك الزوجية فإنها لا تشتد ولا تضعف والثاني : وهو أن في أصول الطب ذكر أن النار لها كيفية حارة كما أن الماء له كيفية باردة لكن رأينا أن الماء تزول عنه البرودة وهو ماء فكذلك النار تزول عنها الحرارة وتبقى ناراً وهو نور غير محرق ، وأما الثاني فأيضاً ممكن وقولهم مدفوع من وجهين أحدهما : منع أصلهم من كون النفس تابعة للمزاج بل الله قادر على أن يخلق النفس الإنسانية في المزاج الذي مثل مزاج الجمد وثانيهما : أن نقول على أصلكم لا يلزم المحال لأن الكيفية التي ذكرناها تكون في ظاهر كالأجزاء الرشية عليه ولا يتأدى إلى القلب والأعضاء الرئيسة ، ألا ترى أن الإنسان / إذا مس الجمد زماناً ثم مس جمرة نار لا تؤثر النار في إحراق يده مثل ما تؤثر في إحراق يد من أخرج يده من جيبه ، ولهذا تحترق يده قبل يد هذا. فإذا جاز وجود كيفية في ظاهر جلد الإنسان تمنع تأثير النار فيه بالإحراق زماناً فيجوز أن تتجدد تلك الكيفية لحظة فلحظة حتى لا تحترق ، وأما الثالث : فمجرد استبعاد بيان عدم الاعتياد ونحن نسلم أن ذلك غير معتاد لأنه معجز والمعجز ينبغى أن يكون خارقاً للعادة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 47
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يعني في إنجائه من النار لآيات ، وهنا مسائل :
المسألة الأولى : قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة {جَعَلْنَـاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَـاعًا لِّلْمُقْوِينَ} (العنكبوت : 15) وقال ههنا {لايَـاتٍ} بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام الله إياه بالاتخاذ وقت الحاجة ، فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب ، وبسبب أن الله صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة ، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه آيات.
(1/3535)

المسألة الثانية : قال هناك {لِّلْعَـالَمِينَ * إِنَّ} (الأنبياء : 91) وقال ههنا {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد ، وأما تبريد النار (فإنه) لم يبق فلم يظهر لمن يعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق ، وفيه لطيفة : وهي أن الله لما برد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه ، وقد قال الله للمؤمنين بأن لهم أسوة حسنة في إبراهيم ، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة ، فقال إن في ذلك التبريد لآيات لقوم يؤمنون.
المسألة الثالثة : قال هناك {جَعَلْنَـاهَا} وقال ههنا {جَعَلْنَـاهُ} لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح سفها ، فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية ، وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية.
جزء : 25 رقم الصفحة : 47
49
لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار وبيان فساد ما هم عليه ، وقال إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب ولا ترجعون عنه ، فليس هذا إلا تقليداً ، فإن بين بعضكم وبعض مودة / فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة أو بينكم وبين آبائكم مودة فورثتموهم وأخذتم مقالتهم ولزمتم ضلالتهم وجهالتهم فقوله : {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} يعني ليس بدليل أصلا وفيه وجه آخر وهو تحقيق دقيق ، وهو أن يقال قوله : {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} أي مودة بين الأوثان وبين عبدتها ، وتلك المودة هي أن الإنسان مشتمل على جسم وعقل ، ولجسمه لذات جسمانية ولعقله لذات عقلية ، ثم إن من غلبت فيه الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية ، ومن غلبت عليه العقلية لا يلتفت إلى اللذات الجسمانية ، كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين قوم من الأكابر في مجمع يحصل ما فيه لذة جسمه من الأكل وإراقة الماء وغيرهما ولا يلتفت إلى اللذة العقلية من حسن السيرة وحمد الأوصاف ومكرمة الأخلاق. والعاقل يحمل الألم الجسماني ويحصل اللذة العقلية ، حتى لو غلبت قوته الدافعة على قوته الماسكة وخرج منه ريح أو قطرة ماء يكاد يموت من الخجالة والألم العقلي. إذا ثبت هذا فهم كانوا قليلي العقل غلبت الجسمية عليهم فلم يتسع عقلهم لمعبود لا يكون فوقهم ولا تحتهم ، ولا يمينهم ولا يسارهم ، ولا قدامهم ولا وراءهم ، ولا يكون جسماً من الأجسام ، ولا شيئاً يدخل في الأوهام ، ورأوا الأجسام المناسبة للغالب فيهم مزينة بجواهر فودوها فاتخاذهم الأوثان كان مودة بينهم وبين الأوثان ، ثم قال تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} يعني يوم يزول عمى القلوب وتتبين الأمور للبيب والغفول يكفر بعضكم ببعض ويعلم فساد ما كان عليه فيقول العابد ما هذا معبودي ، ويقول المعبود ما هؤلاء عبدتي ويلعن بعضكم بعضاً ، ويقول هذا لذاك أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ، ويقول ذاك لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ، ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون ، بل هم مجتمعون في النار كما كانوا مجتمعين في هذه الدار كما قال تعالى : {وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ} ثم قال تعالى : {وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} يعني ليس تلك النار مثل ناركم التي أنجى الله منها إبراهيم ونصره فأنتم في النار ولا ناصر لكم ، وههنا مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 49
المسألة الأولى : قال قبل هذا {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ} (التوبة : 116) على لفظ الواحد ، وقال ههنا على لفظ الجمع {وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} والحكمة فيه أنهم لما أرادوا إحراق إبراهيم عليه السلام قالوا نحن ننصر آلهتنا كما حكى الله تعالى عنهم {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ} (الأنبياء : 68) فقال أنتم ادعيتم أن لهؤلاء ناصرين فما لكم ولهم ، أي للأوثان وعبدتها من ناصرين ، وأما هناك ما سبق منهم دعوى الناصرين فنفى الجنس بقوله : {وَلا نَصِيرٍ} .
المسألة الثانية : قال هناك {لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا نَصِيرٍ} وما ذكر الولي ههنا فنقول : قد بينا أن المراد بالولي الشفيع يعني ليس لكم شافع ولا نصير دافع/ وههنا لما كان الخطاب دخل فيه الأوثان أي ما لكم كلكم لم يقل شفيع لأنهم كانوا معترفين أن كلهم ليس لهم شافع لأنهم كانوا يدعون أن آلهتهم شفعاء ، كما قال تعالى عنهم : {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا} (يونس : 18) والشفيع لا يكون / له شفيع ، فما نفى عنهم الشفيع لعدم الحاجة إلى نفيه لاعترافهم به ، وأما هناك فكان الكلام معهم وهم كانوا يدعون أن لأنفسهم شفعاء فنفى.
(1/3536)

المسألة الثالثة : قال هناك {مَا لَكُم مِّن دُونِه مِن وَلِيٍّ} فذكر على معنى الاستثناء فيفهم أن لهم ناصراً وولياً هو الله وليس لهم غيره ولي وناصر وقال ههنا {وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ} من غير استثناء فنقول كان ذلك وارداً على أنهم في الدنيا فقال لهم في الدنيا ، لا تظنوا أنكم تعجزون الله فما لكم أحد ينصركم ، بل الله تعالى ينصركم إن تبتم ، فهو ناصر معد لكم متى أردتم استنصرتموه بالتوبة وهذا يوم القيامة كما قال تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} وعدم الناصر عام لأن التوبة في ذلك اليوم لا تقبل فسواء تابوا أو لم يتوبوا لا ينصرهم الله ولا ناصر لهم غيره فلا ناصر لهم مطلقاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 49
50
يعني لما رأى لوط معجزته آمن وقال إبراهيم {إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى } أي إلى حيث أمرني بالتوجه إليه {إِنَّه هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عزيز يمنع أعدائي عن إيذائي بعزته ، وحكيم لا يأمرني إلا بما يوافق لكمال حكمته ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {فَـاَامَنَ لَه لُوطٌ } أي بعد ما رأى منه المعجز القاهر ودرجة لوط كانت عالية ، وبقاؤه إلى هذا الوقت مما ينقص من الدرجة ألا ترى أن أبا بكر لما قبل دين محمد صلى الله عليه وسلّم وكان نير القلب قبله قبل الكل ، من غير سماع تكلم الحصى ولا رؤية انشقاق القمر ، فنقول إن لوطاً لما رأى معجزته آمن برسالته ، وإما بالوحدانية فآمن حيث سمع حسن مقالته ، وإليه أشار بقوله : {فَـاَامَنَ لَه لُوطٌ } وما قال فآمن لوط.
المسألة الثانية : ما تعلق قوله وقال : {إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى } بما تقدم ؟
فنقول بما بالغ إبراهيم في الإرشاد ولم يهتد قومه ، وحصل اليأس الكلي حيث رأى القوم الآية الكبرى : {لَمْ يُؤْمِنُوا } وجبت المهاجرة ، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع به مع علمه فيصير كمن يقول للحجر صدق وهو عبث أو يسكت والسكوت دليل الرضا فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا ، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.
المسألة الثالثة : قال : {مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى } ولم يقل مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة ، فنقول قوله : {مُهَاجِرٌ} إلى حيث أمرني ربي ليس في الاخلاص كقوله : {إِلَى رَبِّى } لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى الموضع الفلاني ، ثم إن واحداً منهم سافر إليه لغرض (في) نفسه يصيبه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصاً لوجهه فقال : {مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى } يعني توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة إنما هو طلب لله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 50
52
(1/3537)

قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} (العنكبوت : 7) أن أثر رحمة الله في أمرين في الأمان من سوء العذاب والامتنان بحسن الثواب وهو واصل إلى المؤمن في الدار الآخرة قطعاً بحكم وعد الله نفي العذاب عنه لنفيه الشرك وإثبات الثواب لإثباته الواحد ، ولكن هذا ليس بواجب الحصول في الدنيا ، فإن كثيراً ما يكون الكافر في رغد والمؤمن جائع في يومه متفكر في أمر غده لكنهما مطلوبان في الدنيا ، أما دفع العذاب العاجل فلأنه ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم ، قوله : "وقنا عذاب الفقر والنار" فعذاب الفقر إشارة إلى دفع العذاب العاجل ، وأما الثواب العاجل ففي قوله : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة : 201) إذا علم هذا فنقول إن إبراهيم عليه السلام لما أتى ببيان التوحيد أولا دفع الله عنه عذاب الدنيا وهو عذاب النار ، ولما أتى به مرة بعد مرة مع إصرار القوم عى التكذيب وإضرارهم به بالتعذيب ، أعطاه الجزاء الآخر ، وهو الثواب العاجل وعدده عليه بقوله : {وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ} وفي الآية لطيفة : وهي أن الله بدل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار وكان وحيداً فريداً فبدل وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته ، ولما كان أولا قومه وأقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم آزر ، بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذريته الذين جعل الله فيهم النبوة والكتاب ، وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية اللذة الدنيوية آتاه الله أجره من المال والجاه ، فكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده ، حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب ، وأما الجاه فصار بحيث يقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة ، فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد إن كان خاملاً ، حتى قال قائلهم : {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَه ا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء : 60) وهذا الكلام لا يقال إلا في مجهول بين الناس ، ثم إن الله تعالى قال : {وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ} يعني ليس له هذا في الدنيا فحسب كما يكون لمن قدم له ثواب حسناته أو أملى له استدراجاً ليكثر من سيئاته بل هذا له عجالة وله في الآخرة ثواب الدلالة والرسالة وهو كونه من الصالحين ، فإن كون العبد صالحاً أعلى مراتبه ، لما بينا أن الصالح هو الباقي على ما ينبغي ، يقال الطعام بعد صالح ، أي هو باق على ما ينبغي ، ومن بقي على ما ينبغي لا يكون في عذاب ، ويكون له كل ما يريد من حسن ثواب وفي الآية مسألتان :
جزء : 25 رقم الصفحة : 52
المسألة الأولى : أن إسماعيل كان من أولاده الصالحين ، وكان قد أسلم لأمر الله بالذبح وانقاد / لحكم الله ، فلم لم يذكر ؟
فيقال هو مذكور في قوله : {وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ} ولكن لم يصرح باسمه لأنه كان غرضه تبيين فضله عليه بهبة الأولاد والأحفاد ، فذكر من الأولاد واحداً وهو الأكبر ، ومن الأحفاد واحداً وهو الأظهر كما يقول القائل إن السلطان في خدمته الملوك والأمراء الملك الفلاني والأمير الفلاني ولا يعدد الكل لأن ذكر ذلك الواحد لبيان الجنس لا لخصوصيته ولو ذكر غيره لفهم منه التعديد واستيعاب الكل بالذكر ، فيظن أنه ليس معه غير المذكورين.
المسألة الثانية : أن الله تعالى جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه والوالد يستحب منه أن يسوى بين ولديه ، فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوة في أولاد إسماعيل ؟
فنقول : الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين والناس أجمعين ، فالقسم الأول من الزمان بعث الله فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤا تترى واحداً بعد واحد ، ومجتمعين في عصر واحد كلهم من ورثة اسحاق عليه السلام ، ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر وهو إسماعيل واحداً جمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو محمد صلى الله عليه وسلّم وجعله خاتم النبيين ، وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة فلا يبعد أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار.
جزء : 25 رقم الصفحة : 52
54
الإعراب في لوط ، والتفسير كما ذكرنا في قوله : {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (العنكبوت : 16) وههنا مسائل :
(1/3538)

المسألة الأولى : قال إبراهيم لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ} وقال عن لوط ههنا أنه قال لقومه {لَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} فنقول لما ذكر الله لوطاً عند ذكر إبراهيم وكان لوط في زمان إبراهيم لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالتوحيد مع أن الرسول لا بد من أن يقول ذلك فنقول حكاية لوط وغيرها / ههنا ذكرها الله على سبيل الاختصار ، فاقتصر على ما اختص به لوط وهو المنع من الفاحشة ، ولم يذكر عنه الأمر بالتوحيد وإن كان قاله في موضع آخر حيث قال : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه } (الأعراف : 59) لأن ذلك كان قد أتى به إبراهيم وسبقه فصار كالمختص به ولوط يبلغ ذلك عن إبراهيم. وأما المنع من عمل قوم لوط كان مختصاً بلوط ، فإن إبراهيم لم يظهر ذلك (في زمنه) ولم يمنعهم منه فذكر كل واحد بما اختص به وسبق به غيره.
المسألة الثانية : لم سمى ذلك الفعل فاحشة ؟
فنقول الفاحشة هو القبيح الظاهر قبحه ، ثم إن الشهوة والغضب صفتا قبح لولا مصلحة ما كان يخلقهما الله في الإنسان ، فمصلحة الشهوة الفرجية هي بقاء النوع بتوليد الشخص ، وهذه المصلحة لا تحصل إلا بوجود الولد وبقائه بعد الأب ، فإنه لو وجد ومات قبل الأب كان يفنى النوع بفناء القرن الأول ، لكن الزنا قضاء شهوة ولا يفضي إلى بقاء النوع ، لأنا بينا أن البناء بالوجود وبقاء الولد بعد الأب لكن الزنا وإن كان يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه ، لأن المياه إذا اشتبهت لا يعرف الوالد ولده فلا يقوم بتربيته والإنفاق عليه فيضيع ويهلك ، فلا يحصل مصلحة البقاء ، فاذن الزنا شهوة قبيحة خالية عن المصلحة التي لأجلها خلقت ، فهو قبيح ظاهر قبحه حيث لا تستره المصلحة فهو فاحشة ، وإذا كان الزنا فاحشة مع أنه يفضي إلى وجود الولد ولكن لا يفضي إلى بقائه ، فاللواطة التي لا تفضي إلى وجوده أولى بأن تكون فاحشة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 54
المسألة الثالثة : الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة ، لأنها مع الزنا اشتركت في كونهما فاحشة حيث قال الله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ا إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً} (الإسراء : 32) واشتراكهما في الفاحشة يناسب الزجر عنه ، فما شرع زاجراً هناك يشرع زاجراً ههنا ، وهذا وإن كان قياساً إلا أن جامعه مستفاد من الآية ، ووجه آخر ، وهو أن الله جعل عذاب من أتى بها إمطار الحجارة حيث أمطر عليهم حجارة عاجلاً ، فوجب أن يعذب من أتى به بإمطار الحجارة به عاجلاً وهو الرجم ، وقوله : {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ} يحتمل وجهين أحدهما : أن قبلهم لم يأت أحد بهذا القبيح وهذا ظاهر ، والثاني : أن قبلهم ربما أتى به واحد في الندرة لكنهم بالغوا فيه ، فقال لهم ما سبقكم بها من أحد ، كما يقال إن فلاناً سبق البخلاء في البخل ، وسبق اللئام في اللؤم إذا زاد عليهم ، ثم قال تعالى : {أَاـاِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} بياناً لما ذكرنا ، يعنى تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع/ حتى يظهر أنه قبيح لم يستر قبحه مصلحة ، وحينئذ يصير هذا كقوله تعالى : {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ } ( ) يعنى إتيان النساء شهوة قبيحة مستترة بالمصلحة فلكم دافع لحاجتكم لا فاحشة فيه وتتركونه وتأتون الرجال شهوة مع الفاحشة وقوله : {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } يعني ما كفاكم قبح فعلكم حتى تضمون إليه قبح الإظهار ، وقوله : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه } في التفسير ، كقوله في قصة إبراهيم {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه } وفي الآية مسائل :
(1/3539)

/ المسألة الأولى : قال قوم إبراهيم {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} (العنكبوت : 24) وقال قوم لوط {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} وما هددوه ، مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط ، فإن لوطاً كان من قومه ، فنقول إن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم بتعديد صفات نقصهم بقوله : لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغنى والقدح في الدين صعب ، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق ، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين ، فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم قول إبراهيم ، فقالوا إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول لا يعذب ، فإن كنت صادقاً فأتنا بالعذاب ، فإن قيل إن الله تعالى قال في موضع آخر {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ } (النمل : 56) وقال ههنا {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا ائْتِنَا} فكيف الجمع ؟
فنقول لوط كان ثابتاً على الإرشاد مكرراً عليهم التغيير والنهي والوعيد ، فقالوا أولا ائتنا ، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا ، ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله وذكرهم بما لا يحب الله {قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} فإن الله لا يحب المفسدين ، حتى ينجز النصر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 54
واعلم أن نبياً من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إلا إذا علم أن عدمهم خير من وجودهم ، كما قال نوح : {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح : 27) يعني المصلحلة إما فيهم حالا أو بسببهم مآلا ولا مصلحة فيهم ، فإنهم يضلون في الحال وفي المآل فإنهم يوصون الأولاد من صغرهم بالامتناع من الاتباع ، فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال واشتغلوا بما لا يرجى معه منهم ولد صالح يعبد الله ، بطلت المصلحة حالا ومآلا ، فعدمهم صار خيراً ، فطلب العذاب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 54
56
لما دعا لوط على قومه بقوله : {رَبِّ انصُرْنِى} استجاب الله دعاءه ، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين ، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا : {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ } يعني أهل سدوم ، وفي الآية لطيفتان : إحداهما : أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين ، / لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب ، ورحمته سبقت غضبه ، فقدم البشارة على الإنذار. وقال : {جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } ثم قال : {أَنَّآ} الثانية : حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول ، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل ، وحين ذكروا الإهلاك عللوا ، وقالوا : {الْقَرْيَةِا إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ} لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض ، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار ، نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 56
(1/3540)

المسألة الثانية : قال في قوم نوح {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} (العنكبوت : 14) وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين ، وههنا قال : {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ} ولم يقل وإنهم ظالمون ، فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم ، لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال : {فَأَخَذَهُمُ} وكانوا ظالمين ، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون ، وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا : إنا مهلكوا فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك ، فقالوا : {أَنَّآ} لأن الله أمرنا ، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين ، فحسن أمر الله عند كل أحد ، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه ، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب ، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر ، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله باهلاكهم بياناً لحسن الأمر ، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه ، ثم إن إبراهيم لما سمع قولهم قال لهم إن فيها لوطاً إشفاقاً عليه ليعلم حاله ، أو لأن الملائكة لما قالوا : {أَنَّآ} وكان إبراهيم يعلم أن الله لا يهلك قوماً وفيهم رسوله ، فقال تعجباً إن فيهم لوطاً فكيف يهلكون ، فقالت الملائكة نحن أعلم بمن فيها ، يعني نعلم أن فيهم لوطاً فلننجينه وأهله ونهلك الباقين ، وههنا لطيفة : وهو أن الجماعة كانوا أهل الخير ، أعني إبراهيم والملائكة ، وكل واحد كان يزيد على صاحبه في كونه خيراً. أما إبراهيم فلما سمع قوله الملائكة {أَنَّآ} أظهر الاشفاق على لوط ونسي نفسه وما بشروه ولم يظهر بها فرحاً ، وقال : {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا } (العنكبوت : 32) ثم إن الملائكة لما رأوا ذلك منه زادوا عليه ، وقالوا إنك ذكرت لوطاً وحده ونحن ننجيه وننجي معه أهله ، ثم استثنوا من الأهل امرأته ، وقالوا : {إِلا امْرَأَتَه كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ} أي من المهلكين ، وفي استعمال الغابر في المهلك وجهان ، وذلك لأن الغابر لفظ مشترك في الماضي/ وفي الباقي يقال فيما غبر من الزمان أي فيما مضى ويقال الفعل ماض وغابر أي باق ، وعلى الوجه الأول نقول إن ذكر الظالمين سبق في قولهم : {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِا إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ} ثم جرى ذكر لوط بتذكير إبراهيم وجواب الملائكة ، فقالت الملائكة إنها / من الغابرين أي الماضي ذكرهم لا من الذين ننجي منهم ، أو نقول المهلك يفنى ويمضي زمانه والناجي هو الباقي فقالوا إنها من الغابرين أي من الرائحين الماضين لا من الباقين المستمرين ، وأما على الوجه الثاني فنقول لما قضى الله على القوم بالإهلاك كان الكل في الهلاك إلا من ننجي منه فقالوا إنا ننجي لوطاً وأهله ، وأما امرأته فهي من الباقين في الهلاك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 56
56
ثم إنهم جاؤا من عند إبراهيم إلى لوط على صورة البشر فظنهم بشراً فخاف عليهم من قومه لأنهم كانوا على أحسن صورة خلق الله والقوم كما عرف حالهم فسيء بهم أي جاءه ما ساءه وخاف ثم عجز عن تدبيرهم فحزن وضاق بهم ذرعاً كناية عن العجز في تدبيرهم ، قال الزمخشري يقال طال ذرعه وذراعه للقادر وضاق للعاجز ، وذلك لأن من طال ذراعه يصل إلى ما لا يصل إليه قصير الذراع والاستعمال يحتمل وجهاً معقولاً غير ذلك ، وهو أن الخوف والحزن يوجبان انقباض الروح ويتبعه اشتمال القلب عليه فينقبض هو أيضاً والقلب هو المعتبر من الإنسان ، فكان الإنسان انقبض وانجمع وما يكون كذلك يقل ذرعه ومساحته فيضيق ، ويقال في الحزين ضاق ذرعه والغضب والفرح يوجبان انبساط الروح فينبسط مكانه وهو القلب ويتسع فيقال اتسع ذرعه ، ثم إن الملائكة لما رأوا خوفه في أول الأمر وحزنه بسبب تدبيرهم في ثاني الأمر قالوا لا تخف علينا ولا تحزن بسبب التفكر في أمرنا ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه فإن مجرد قول القائل لا تخف لا يوجب زوال الخوف فقالوا معرضين بحالهم : {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} وإنا منزلون عليهم العذاب حتى يتبين له أنهم ملائكة فيطول ذرعه ويزول روعه وفي الآية مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 56
(1/3541)

المسألة الأولى : أنه تعالى قال من قبل : {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ} (العنكبوت : 31) وقال ههنا : {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا} فما الحكمة فيه ؟
فنقول حكمة بالغة وهي أن الواقع في وقت المجىء هناك قول / الملائكة {أَنَّآ} وهو لم يكن متصلاً بمجيئهم لأنهم بشروا أولاً ولبثوا ، ثم قالوا : إنا مهلكوا وأيضاً فالتأني واللبث بعد المجىء ثم الإخبار بالإهلاك حسن فإن من جاء ومعه خبر هائل يحسن منه أن لا يفاجىء به ، والواقع ههنا هو خوف لوط عليهم ، والمؤمن حين ما يشعر بمضرة تصل بريئاً من الجناية ينبغي أن يحزن ويخاف عليه من غير تأخير ، إذا علم هذا فقوله ههنا : {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا} يفيد الاتصال يعني خاف حين المجىء ، فإن قلت هذا باطل بما أن هذه الحكاية جاءت في سورة هود ، وقال : {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} من غير أن ، فنقول هناك جاءت حكاية إبراهيم بصيغة أخرى حيث قال هناك : {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } فقوله هنالك : {وَلَقَدْ جَآءَتْ} لا يدل على أن قولهم : {أَنَّآ أَرْسَلْنَا} كان في وقت المجىء. وقوله : {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ} دل على أن حزنه كان وقت المجىء. إذا علم هذا فنقول : هناك قد حصل ما ذكرنا من المقصود بقوله في حكاية إبراهيم : {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } ثم جرى أمور من الكلام وتقديم الطعام ، ثم قالوا : {لا تَخَفْ} ولا تحزن {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} فحصل تأخير الإنذار ، وبقوله في حكاية لوط {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ} حصل بيان تعجيل الحزن ، وأما هنا لما قال في قصة إبراهيم {وَلَمَّا جَآءَتْ} قال في حكاية لوط {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ} لما ذكرنا من الفائدة.
المسألة الثانية : : قال هنا {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} وقال لإبراهيم {لَنُنَجِّيَنَّه } بصيغة الفعل فهل فيه فائدة ؟
قلنا ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ، ثم إن العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها ، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً ، والذي يظهر لعقل الضعيف أن هناك لما قال لهم إبراهيم : {إِنَّ فِيهَا لُوطًا } وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم ، وههنا لما قالوا للوط وكان ذلك بعد سبق الوعد مرة أخرى قالوا : {إِنَّا مُنَجُّوكَ} أي ذلك واقع منا كقوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} (الزمر : 30) لضرورة وقوعه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 56
المسألة الثالثة : قولهم : {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ } لا يناسبه {إِنَّا مُنَجُّوكَ} لأن خوفه ما كان على نفسه ، نقول بينهما مناسبة في غاية الحسن ، وهي أن لوطاً لما خاف عليهم وحزن لأجلهم قالوا له لا تخف علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ، ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك ، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا : {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} .
المسألة الرابعة : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها تلك فكيف كانت من الغابرين معهم ؟
فنقول الدال على الشر له نصيب كفاعل الشر ، كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم ، فبالدلالة صارت واحدة منهم ، ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية ذكروا أنهم منزلون على أهل هذه القرية العذاب فقالوا : {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى ا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ} واختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم حجارة / وقيل نار وقيل خسف ، وعلى هذا فلا يكون عينه من السماء وإنما يكون الأمر بالخسف من السماء أو القضاء به من السماء ، ثم اعلم أن كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم قدموا البشارة على الإنذار حيث قالوا : {إِنَّا مُنَجُّوكَ} ثم قالوا : {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى ا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ} ولم يعللوا التنجية ، فما قالوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد ، وعللوا الإهلاك بقولهم : {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقالوا بما كانوا ، كما قالوا هناك : {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ} (العنكبوت : 31) ثم قال تعالى : {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةَا بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي من القرية فإن القرية معلومة وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك وفيها مسائل :
(1/3542)

المسألة الأولى : جعل الله الآية في نوح وإبراهيم بالنجاة حيث قال : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً} (العنكبوت : 15) وقال : {فَأَنجَـاـاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ} (العنبكوت : 24) وجعل ههنا الهلاك آية فهل عندك فيه شيء ؟
نقول نعم ، أما إبراهيم فلأن الآية كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي ، وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً ، والغرق لم يبق لمن بعده أثره فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة لوط لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي وهو ههنا البلاد وهناك السفينة وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 56
المسألة الثانية : قال في السفينة : {وَجَعَلْنَـاهَآ ءَايَةً} ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة نقول لأن الإنجاء بالسفينة أمر يتسع له كل عقل وقد يقع في وهم جاهل أن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر ، وأما الآية ههنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد/ وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان ، فهي بينة لا يمكن لجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة النجاة بها أمر يكون كذلك إلى أن يقال له فمن أين علم أنه يحتاج إليها ولو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كان يحصل لهم النجاة ؟
ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة كيف يكون أحوالهم ؟
.
المسألة الثالثة : قال هناك للعالمين وقال ههنا : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قلنا لأن السفينة موجودة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال لسفينة نوح يتذكرون بها حاله ، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ولا يثق أحد بمجرد السفينة ، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله تعالى طلباً للنجاة ، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من يمر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله المريد ، بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان بعد زمان.
جزء : 25 رقم الصفحة : 56
57
/ لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ} واختلف المفسرون في مدين ، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما ، وقال بعضهم اسم ماء نسب القوم إليه ، واشتهر في القوم ، والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال : {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} (القصص : 23) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة والأصل في الإضافة التغاير حقيقة ، وقوله : {أَخَاهُمْ} قيل لأن شعيباً كان منهم نسباً ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الله تعالى في نوح : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه } (العنبكوت : 14) قدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط ، وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً ، فنقول الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولاً إلى غير معين ، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها ، فعرفوا بالنبي فقيل قوم نوح وقوم لوط ، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} وقال : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } (الأعراف : 65).
المسألة الثانية : لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد ، وذكر عن شعيب ذلك ؟
قلنا قد ذكرنا أن لوطاً كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه ، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها ، وإن كان هو أيضاً يأمر بالتوحيد ، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد ، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلاً أيضاً في التوحيد فدأبه وقال : {اعْبُدُوا اللَّهَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 57
(1/3543)

المسألة الثالثة : الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد ، والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله / ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ} ؟
فنقول : هذا الأمر يفيد التوحيد ، وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيداً وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد ، فإذا قال له أخدم عمراً يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه ، وكذا إذا كان لواحد دينار واحد ، وهو يريد أن يعطيه زيداً ، فإذا قيل له أعطه عمراً يفهم منه لا تعطه زيداً ، فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب : {اعْبُدُوا اللَّهَ} ففهموا منه ترك عبادة غيره أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد ، ثم قال : {وَارْجُوا الْيَوْمَ الاخِرَ} قال الزمخشري : معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلاً ، ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً ، وقوله : {وَارْجُوا الْيَوْمَ الاخِرَ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا يدل على صحة مذهبنا ، فإن عندنا من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلاً ولا يجب عليه ذلك لأن العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر/ ومن شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده ، وإن زاده يكون إحساناً منه إليه وإنعاماً عليه ، فنقول قوله : {وَارْجُوا الْيَوْمَ} بعد قوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ} يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى والواجب من العادل يقطع به.
المسألة الثانية : قال : {وَارْجُوا الْيَوْمَ الاخِرَ} ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل وغير مرجو عند كثير من الناس ، لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده ، فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال : {اعْبُدُوا } ولم يذكره بطريق النفي وما قال ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين ، وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا ، وأما في الآخرة فتكفرون بها ، وقال ههنا لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر ، فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا ، وارجوا اليوم الآخر واعملوا له ، ثم قال : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائماً أي قياماً ويكون قوله : {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} كقول القائل إجلس قعوداً لأن العيث والفساد بمعنى ، وجمع الأوامر والنواهي في قوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ} وقوله : {وَلا تَعْثَوْا } ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين ، فحكى الله عنهم ذلك بقوله : {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ} وفي الآية مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 57
المسألة الأولى : ما حكي عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب ، فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له كذبت ، فنقول كان شعيب يقول الله واحد فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرم فلا تقربوه ، وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به.
/ المسألة الثانية : قال ههنا وفي الأعراف : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وقال في هود : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} (الحجر : 73) والحكاية واحدة ، نقول لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة ، إما لرجفة الأرض إذ قيل إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ، وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها ، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب ، إذ يصح أن يقال روى فقوي ، وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة.
المسألة الثالثة : حيث قال : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} قال : {فِى دِيَـارِهِمْ} وحيث قال : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} قال : {فِى دَارِهِمْ} فنقول المراد من الدار هو الديار ، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع ، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس ، وإنما اختلف اللفظ للطيفة ، وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول ، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع ، حتى تعلم هيبتها والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها ، وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو ، والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة ، فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 57
58
(1/3544)

ثم قال تعالى : {وَعَادًا وَثَمُودَا } أي وأهلكنا عاداً وثمود لأن قوله تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} دل على الإهلاك {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـاكِنِهِمْ} الأمر وما تعتبرون منه ، ثم بين سبب ما جرى عليهم فقال : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} فقوله : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ} يعني عبادتهم لغير الله {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} يعني عبادة الله {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يعني بواسطة الرسل يعني فلم يكن لهم في ذلك عذر فإن الرسل أوضحوا السبل. ثم قال تعالى : {وَقَـارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ } عطفاً عليهم أي : وأهلكنا قارون وفرعون وهامان.
/ ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ} كما قال في عاد وثمود : {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي بالرسل ، ثم قال تعالى : {فَاسْتَكْبَرُوا } أي عن عبادة الله وقوله : {فِى الارْضِ} إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم ، وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين ، ومن في السماء أقواهم ، ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته ، فكيف (يستكبر) من في الأرض. ثم قال تعالى : {وَمَا كَانُوا سَـابِقِينَ} أي ما كانوا يفوتون الله لأنا بينا في قوله تعالى : {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِ} (العنبكوت : 22) أن المراد أن أقطار الأرض في قبضة قدرة الله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 58
58
ذكر الله أربعة أشياء العذاب بالحاصب ، وقيل إنه كان بحجارة محماة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر ، وفيه إشارة إلى النار والعذاب بالصيحة وهو هواء متموج ، فإن الصوت قيل سببه تموج الهواء ووصوله إلى الغشاء الذي على منفذ الأذن وهو الصماخ فيقرعه فيحس ، والعذاب بالخسف وهو الغمر في التراب ، والعذاب بالإغراق وهو بالماء. فحصل العذاب بالعناصر الأربعة والإنسان مركب منها وبها قوامه وبسببها بقاؤه ودوامه ، فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سبباً لعدمه ، وما به بقاؤه سبباً لفنائه ، ثم قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يعني لم يظلمهم بالهلاك ، وإنما هم ظلموا أنفسهم بالإشراك وفيه وجه آخر ألطف وهو أن الله ما كان يظلمهم أي ما كان يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة كما قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته.
جزء : 25 رقم الصفحة : 58
59
لما بين الله تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ، ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده ، مثل اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً لا يجير آوياً ولا يريح ثاوياً ، وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل :
(1/3545)

المسألة الأولى : ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال ؟
فنقول فيه وجوه / الأول : أن البيت ينبغي أن يكون له أمور : حائط حائل ، وسقف مظل ، وباب يغلق ، وأمور ينتفع بها ويرتفق ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين. إما حائط حائل يمنع من البرد وإما سقف مظل يدفع عنه الحر ، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار ، فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع ، فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء ، فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء ، كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء الثاني : هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضاً الهواء والماء والنار والتراب ، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار ، والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئاً يظل ويدفع حر الشمس لكن بيت العنكبوت لا يظل فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه ، فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير ، فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد ، فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه الثالث : أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق ، لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت ، فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها ، فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتاً يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت ، فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب ، فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب ، والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 59
المسألة الثانية : مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتاً ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما : أن نسجه فيه فائدة له ، لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه ، واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ، لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني : هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتاً أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة ، لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتاً وكلاهما باطل.
المسألة الثالثة : كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر ، فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباءً منثوراً ، فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23).
المسألة الرابعة : قال : {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضاً ، فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ ولياً غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتاً.
/ ثم إنه تعالى قال : وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك ، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 59
59
(1/3546)

قال الزمخشري : هذا زيادة توكيد على التمثيل حيث إنهم لا يدعون من دونه من شيء ، بمعنى ما يدعون ليس بشيء وهو عزيز حكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلاً ، وهذا يفهم منه أنه جعل ما نافية ، وهو صحيح ، والعلم يتعلق بالجملة كما يقول القائل : إني أعلم أن الله واحد حق ، يعني أعلم هذه الجملة ، وإن كنا نجعل ما خبرية فيكون معناه ما يدعون من شيء فالله يعلمه وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم ، لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة ، ومن ههنا يكون الخطاب مع أمة محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا لو قال قائل ما وجه تعلق هذه الآية بالتمثيل السابق ؟
فنقول لما قال إن مثلهم كمثل العنكبوت ، فكان للكافر أن يقول أنا لا أعبد هذه الأوثان التي أتخذها وهي تحت تسخيري ، وإنما هي صورة كوكب أنا تحت تسخيره ومنه نفعي وضري وخيري وشري ووجودي ودوامي فله سجودي وإعظامي ، فقال الله تعالى : الله يعلم أن كل ما يعبدون من دون الله هو مثل بيت العنكبوت لأن الكوكب والملك وكل ما عدا الله لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله فعبادتكم للغائب كعبادتكم للحاضر ولا معبود إلا الله ولا إله سواه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 59
62
قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالبعوض والذباب والعنكبوت ؟
فيقال الأمثال تضرب للناس إن لم تكونوا كالأنعام يحصل لكم منه إدراك ما يوجب نفرتكم مما أنتم فيه وذلك لأن التشبيه يؤثر في النفس تأثيراً مثل تأثير الدليل ، فإذا قال الحكيم لمن يغتاب إنك بالغيبة كأنك تأكل لحم ميت لأنك وقعت في هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب كمن يقع في ميت يأكل منه وهو لا يعلم ما يفعله ولا يقدر على دفعه إن كان يعلمه فينفر طبعه منه كما ينفر إذا قال له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب.
/ ثم قال تعالى : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} .
يعني حقيقتها وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله وفساد عبادة ما عداه ، وفيه معنى حكمي وهو أن العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم ، وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهراً وكون المدرك عاقلاً ، ولا يحتاج إلى كونه عالماً بأشياء قبله ، وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم ، ثم إنه قد يكون دقيقاً في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالماً. إذا علم هذا فقوله : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} يعني هو ضرب للناس أمثالاً وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء.
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصاً فيها عبر ، وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر ، وبين ضعف دليلهم بالتمثيل ، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل ، وحصل يأس الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 62
64
(1/3547)

يعني إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكاً في صحة دينكم ، ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم ، فإن خلق الله السموات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر ، وبرهان باهر ، وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر ، وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية ، وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السموات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) وقال الله تعالى : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (البقرة : 164) فنقول خلق السموات والأرض آية لكل عاقل وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب ، وبيانه من حيث النقل والعقل ، أما النقل فقوله تعالى : {مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الدخان : 39) أخرج أكثر الناس عن العلم يكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السموات والأرض ويعلم أن لهما خالقاً وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك ، بل يقول إنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله {بِالْحَقِّ } ، لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلاً ، وإذا علم أنه خلقهما متقناً يقول إنه قادر كامل حيث خلق وعالم علمه شامل حيث أتقن / فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السموات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات ، فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول ، ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه ، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه ، ثم إن الله تعالى لما سلى المؤمنين بهذه الآية سلى رسوله
جزء : 25 رقم الصفحة : 64
64
يعني إن كنت تأسف على كفرهم فاتل ما أوحي إليك لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ولهذا قال : {اتْلُ} وما قال عليهم ، لأن التلاوة ما كانت بعد اليأس منهم إلا لتسلية قلب محمد عليه الصلاة والسلام وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن الرسول إذا كان معه كتاب وقرأ كتابه مرة ولم يسمع لم يبق له فائدة في قراءته لنفسه فنقول الكتاب المنزل مع النبي المرسل ليس كذلك ، فإن الكتب المسيرة مع الرسل على قسمين قسم يكون فيه سلام وكلام ، مع واحد يحصل بقراءته مرة تمام المرام ، وقسم يكون فيه قانون كلي تحتاج إليه الرعية في جميع الأوقات كما إذا كتب الملك كتاباً فيه إنا رفعنا عنكم البدعة الفلانية ووضعنا فيكم السنة الفلانية وبعثنا إليكم هذا الكتاب فيه جميع ذلك فليكن ذلك كمنوال ينسج عليه وال بعد وال ، فمثل هذا الكتاب لا يقرأ ويترك بل يعلق من مكان عال ، وكثيراً ما تكتب نسخته على لوح ويثبت فوق المحاريب ، ويكون نصب الأعين ، فكذلك كتاب الله مع رسوله محمد قانون كلي فيه شفاء للعالمين فوجب تلاوته مرة بعد مرة ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم ويثبت في الصدور على مرور الدهور الوجه الثاني : هو أن الكتب على ثلاثة أقسام كتاب لا تكره قراءته إلا للغير كالقصص فإن من قرأ حكاية مرة لا يقرؤها مرة أخرى إلا لغيره ، ثم إذا سمعه ذلك الغير لا يقرؤها إلا لآخر لم يسمعه ولو قرأه عليه لسئموه ، وكتاب لا يكرر عليه إلا للنفس كالنحو والفقه وغيرهما وكتاب يتلى مرة بعد مرة للنفس وللغير كالمواعظ الحسنة فإنها تكرر للغير وكلما سمعها يلتذ بها ويرق لها قلبه ويستعيدها وكلما تدخل السمع يخرج الوسواس مع الدمع وتكرر أيضاً لنفس المتكلم فإن كثيراً ما يلتذ المتكلم بكلمة طيبة وكلما يعيدها يكون أطيب وألذ وأثبت في القلب وأنفذ / حتى يكاد يبكي من رقته دماً ولو أورثه البكاء عمى ، إذا علم هذا فالقرآن من القبيل الثالث مع أن فيه القصص والفقه والنحو فكان في تلاوته في كل زمان فائدة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 64
(1/3548)

المسألة الثانية : لم خصص بالأمر هذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة ؟
فنقول لوجهين أحدهما : أن الله لما أراد تسلية قلب محمد عليه السلام قال له الرسول واسطة بين طرفين من الله إلى الخلق ، فإذا لم يتصل به الطرف الواحد ولم يقبلوه فالطرف الآخر متصل ، ألا ترى أن الرسول إذا لم تقبل رسالته توجه نحو مرسله ، فإذا تلوت كتابك ولم يقبلوك فوجه وجهك إلى وأقم الصلاة لوجهي الوجه الثاني : هو أن العبادات المختصة بالعبد ثلاثة : وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية خارجية وهي العمل الصالح ، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن من اعتقد شيئاً لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمراً والنبي عليه السلام كان ذلك حاصلاً له عن عيان أكمل مما يحصل عن بيان ، فلم يؤمر به لعدم إمكان تكراره ، لكن الذكر ممكن التكرار ، والعبادة البدنية كذلك فأمره بهما فقال : أتل الكتاب وأقم الصلاة.
المسألة الثالثة : كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر ؟
نقول قال بعض المفسرين المراد من الصلاة القرآن وهو ينهى أي فيه النهي عنهما وهو بعيد لأن إرادة القرآن من الصلاة في هذا الموضع الذي قال قبله {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ} بعيد من الفهم/ وقال بعضهم أراد به نفس الصلاة وهي تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، لأنه لا يمكنه الاشتغال بشيء منهما ، فنقول هذا كذلك لكن ليس المراد هذا وإلا لا يكون مدحاً كاملاً للصلاة ، لأن غيرها من الأشغال كثيراً ما يكون كذلك كالنوم في وقته وغيره فنقول : المراد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر مطلقاً وعلى هذا قال بعض المفسرين الصلاة هي التي تكون مع الحضور وهي تنهى ، حتى نقل عنه صلى الله عليه وسلّم "من لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بعداً" ونحن نقول الصلاة الصحيحة شرعاً تنهى عن الأمرين مطلقاً وهي التي أتى بها المكلف لله حتى لو قصد بها الرياء لا تصح صلاته شرعاً وتجب عليه الإعادة ، وهذا ظاهر فإن من نوى بوضوئه الصلاة والتبرد قيل لا يصح فكيف من نوى بصلاته الله وغيره إذا ثبت هذا فنقول الصلاة تنهى من وجوه الأول : هو أن من كان يخدم ملكاً عظيم الشأن كثير الإحسان ويكون عنده بمنزلة ، ويرى عبداً من عباده قد طرده طرداً لا يتصور قبوله ، وفاته الخبر بحيث لا يرجى حصوله ، يستحيل من ذلك المقرب عرفاً أن يترك خدمة الملك ويدخل في طاعة ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى لله صار عبداً له ، وحصل له منزلة المصلي يناجي ربه ، فيستحيل منه أن يترك عبادة الله ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود ، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر تحت طاعة الشيطان فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر الثاني : هو أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظيف إذا لبسه لا يباشر معه القاذورات وكلما كان ثوبه أرفع يكون امتناعه وهو لابسه عن القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج / مذهب يستحيل منه مباشرة تلك الأشياء عرفاً ، فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى لأنه واقف بين يدي الله واضع يمينه على شماله ؛ على هيئة من يقف بمرأى ملك ذي هيبة ، ولباس التقوى خير لباس يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم ، فإذن من لبس هذا اللباس يستحيل منه مباشرة قاذورات الفخشاء والمنكر. ثم إن الصلوات متكررة واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم الامتناع الثالث : من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه منصباً له مقام خاص لا يجلس صاحب ذلك المنصب إلا في ذلك الموضع ، فلو أراد أن يجلس في صف النعال لا يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة الله ولم يبق بحكم نفسه وصار له مقام معين ، إذ صار من أصحاب اليمين ، فلو أراد أن يقف في غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال لا يترك ، لكن مرتكب الفحشاء والمنكر من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة الله يعني من صلى عصمه الله عن الفحشاء والمنكر الرابع : وهو موافق لما وردت به الأخبار وهو أن من يكون بعيداً عن الملك كالسوقي والمنادي والمتعيش لا يبالي بما فعل من الأفعال يأكل في دكان الهراس والرواس ويجلس مع أحباش الناس ، فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك كما إذا صار واحداً من الجندارية والقواد والسواس عند الملك لا تمنعه تلك القربة من تعاطي ما كان يفعله ، فإذا زادت قربته وارتفعت منزلته حتى صار أميراً حينئذ تمنعه هذه المنزلة عن الأكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخلان ، كذلك العبد إذا صلى وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى :
جزء : 25 رقم الصفحة : 64
(1/3549)

{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } (العلق : 19) فإذا كان ذلك القدر من القربة يمنعه من المعاصي والمناهي ، فبتكرر الصلاة والسجود تزداد مكانته ، حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة ما يستقذر معه من نفسه الصغائر فضلاً عن الكبائر ، وفي الآية وجه آخر معقول يؤكده المنقول وهو أن المراد من قوله : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} هو أنها تنهى عن التعطيل والإشراك ، والتعطيل هو إنكار وجود الله/ والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فنقول التعطيل عقيدة فحشاء لأن الفاحش هو القبيح الظاهر القبح ، لكن وجود الله أظهر من الشمس وما من شيء إلا وفيه آية على الله ظاهرة وإنكار الظاهر ظاهر الإنكار ، فالقول بأن لا إله قبيح والإشراك منكر ، وذلك لأن الله تعالى لما أطلق اسم المنكر على من نسب نفساً إلى غير الوالد مع جواز أن يكون له ولد حيث قال : {إِنْ أُمَّهَـاتُهُمْ إِلا الَّـا ئِى وَلَدْنَهُم وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ} (المجادلة : 2) فالمشرك الذي يقول الملائكة بنات الله وينسب إلى من لم يلد ، ولا يجوز أن يكون له ولد ، ولداً كيف لا يكون قوله منكراً ؟
فالصلاة تنهى عن هذه الفحشاء ، وهذا المنكر وذلك لأن العبد أول ما يشرع في الصلاة يقول الله أكبر ، فبقوله الله ينفي التعطيل وبقوله أكبر ينفي التشريك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، فإذا قال بسم الله نفى التعطيل ، وإذا قال الرحمن الرحيم نفى الإشراك ، لأن الرحمن من يعطي الوجود بالخلق بالرحمة ، والرحيم من / يعطي البقاء بالرزق بالرحمة ، فإذا قال الحمد لله رب العالمين ، أثبت بقوله الحمد لله خلاف التعطيل وبقوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} خلاف الإشراك ، فإذا قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بتقديم إياك نفى التعطيل والإشراك وكذا بقوله : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد والمعطل لا مقصد له ، وبقوله : {الْمُسْتَقِيمَ} نفى الإشراك لأن المستقيم هو الأقرب والمشرك يعبد الأصنام حتى يعبد صورة صورها إله العالمين ، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب ، وعلى هذا إلى آخر الصلاة يقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله فينفي الإشراك والتعطيل ، وههنا لطيفة وهي أن الصلاة أولها لفظة الله وآخرها لفظة الله في قوله : أشهد أن لا إله إلا الله ليعلم المصلي أنه من أول الصلاة إلى آخرها مع الله ، فإن قال قائل فقد بقي من الصلاة قوله وأشهد أن محمداً رسول الله والصلاة على الرسول والتسليم ، فنقول هذه الأشياء في آخرها دخلت لمعنى خارج عن ذات الصلاة ، وذلك لأن الصلاة ذكر الله لا غير ، لكن العبد إذا وصل بالصلاة إلى الله وحصل مع الله لا يقع في قلبه أنه استقل واستبد واستغنى عن الرسول ، كمن تقرب من السلطان فيغتر بذلك ولا يلتفت إلى النواب والحجاب ، فقال أنت في هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلّم وغير مستغن عنه فقل مع ذكرى محمد رسول الله ، ثم إذا علمت أن هذا كله ببركة هدايته فاذكر إحسانه بالصلاة عليه ، ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو ترتيب المسافرين ، واعلم أن هيئة الصلاة هيئة فيها هيبة فإن أولها وقوف بين يدي الله كوقوف المملوك بين يدي السلطان ، ثم إن آخرها جثو بين يدي الله كما يجثو بين يدي السلطان من أكرمه بالإجلاس ، كأن العبد لما وقف وأثنى على الله أكرمه الله وأجلسه فجثا ، وفي هذا الجثو لطيفة وهي أن من جثا في الدنيا بين يدي ربه هذا الجثو لا يكون له جثو في الآخرة ، ولا يكون من الذين قال الله في حقهم
جزء : 25 رقم الصفحة : 64
{وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم : 72).
ثم قال تعالى : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُا وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .
لما ذكر أمرين وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم ، فقال : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة تنبشوا لذلك وتذكروهم بملء أفواهكم وقلوبكم ، لكن ذكر الله أكبر ، فينبغي أن يكون على أبلغ وجوه التعظيم/ وأما الصلاة فكذلك لأن الله يعلم ما تصنعون ، وهذا أحسن صنعكم فينبغي أن يكون على وجه التعظيم ، وفي قوله : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } مع حدف بيان ما هو أكبر منه لطيفة وهي أن الله لم يقل أكبر من ذكر فلان لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة ، إذا لا يقال الجبل أكبر من خردلة ، وإنما يقال هذا الجبل أكبر من ذلك الجبل فأسقط المنسوب كأنه قال ولذكر / الله له الكبر لا لغيره ، وهذا كما يقال في الصلاة الله أكبر أي له الكبر لا لغيره.
جزء : 25 رقم الصفحة : 64
65
(1/3550)

لما بين الله طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال : {وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف ، وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا ، أي إذا ظلموا زائداً على كفرهم ، وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه ، ولهذا قال تعالى في حقهم {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} (البقرة : 18) وقال : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} (الأعراف : 179) إلى غير ذلك. وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم ، بخلاف المشرك ، ثم على هذا فقوله : {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا } تبيين له حسن آخر ، وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون ، لأن الشرك ظلم عظيم ، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم ، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله : {وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء ، ثم بعد ذلك ذكر دليلاً قياسياً فقال : {وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ }
جزء : 25 رقم الصفحة : 65
يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس ، ثم قال : {فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يُؤْمِنُونَ بِه } لوجود النص ومن هؤلاء كذلك ، واختلف المفسرون فقال بعضهم : المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره وبقوله : {وَمِنْ هَـا ؤُلاءِ} أي من أهل مكة وقال بعضهم : المراد بالذين / آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلّم زماناً من أهل الكتاب ، ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب وهذا أقرب ، فإن قوله : {هَـا ؤُلاءِ} صرفه إلى أهل الكتاب أولى ، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا ، إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر ، وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل ، وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به ، وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله : {وَمِنْ هَـا ؤُلاءِ} أي من أهل الكتاب وهو أقرب ، لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء ، فإن الله ما آتى الكتاب إلا للأنبياء ، كما قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} (الأنعام : 89) وقال : {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} (النساء : 163) وقال : {ءَاتَـاـانِىَ الْكِتَـابَ} (مريم : 30) وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص ، لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء ، وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد الله بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عدداً قليلاً ، ويكون المراد بقوله : {وَمِنْ هَـا ؤُلاءِ} غير المذكورين ، وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم ، والوقت وقت جريان ذكرهم ، فإذا قال هؤلاء يكون منصرفاً إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم ، وإذا قال أولئك يكون منصرفاً إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم ، وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه ، وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك ، فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين ، وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان ، فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبي صلى الله عليه وسلّم نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا ، ثم قال تعالى : {اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} تنفيراً لهم عما هم عليه ، يعني أنكم آمنتم بكل شيء ، وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة ، إلا هذه المسألة الواحدة ، وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم ، فإن الجاحد بآية يكون كافراً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 65
67
(1/3551)

/ ثم قال تعالى : {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِه مِن كِتَـابٍ وَلا تَخُطُّه بِيَمِينِكَ } هذه درجة أخرى بعد ما تقدم على الترتيب ، وذلك لأن المجادل إذا ذكر مسألة مختلفاً فيها كقول القائل : الزكاة تجب في مال الصغير ، فإذا قيل له لم ؟
فيقول كما تجب النفقة في ماله ، ولا يذكر أولا الجامع بينهما ، فإن قنع الطالب بمجرد التشبيه وأدرك من نفسه الجامع فذاك ، وإن لم يدرك أو لم يقنع يبدي الجامع ، فيقول كلاهما مال فضل عن الحاجة فيجب فكذلك ههنا ذكر أولا التمثيل بقوله : {وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} (العنكبوت : 47) ثم ذكر الجامع وهو المعجزة ، فقال ما علم كون تلك الكتب منزلة إلا بالمعجزة ، وهذا القرآن ممن لم يكتب ولم يقرأ عين المعجزة ، فيعرف كونه منزلاً ، وقوله تعالى : {إِذًا ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} فيه معنى لطيف ، وهو أن النبي إذا كان قارئاً كاتباً ما كان يوجب كون هذا الكلام كلامه ، فإن جميع كتبة الأرض وقرائها لا يقدرون عليه ، لكن على ذلك التقدير يكون للمبطل وجه ارتياب ، وعلى ما هو عليه لا وجه لارتيابه فهو أدخل في الإبطال وهذا كقوله تعالى : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } (البقرة : 23) أي من مثل محمد عليه السلام وكقوله : { الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه } (البقرة : 1/ 2).
ثم قال تعالى : {بَلْ هُوَ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } قوله في صدور الذين أوتوا العلم إشارة إلى أنه ليس من مخترعات الآدميين ، لأن من يكون له كلام مخترع يقول هذا من قلبي وخاطري ، وإذا حفظه من غيره يقول إنه في قلبي وصدري ، فإذا قال : {فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } لا يكون من صدر أحد منهم ، والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هذه الأمة بالمشركين ، فظهوره من الله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 67
ثم قال تعالى : {وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ إِلا الظَّـالِمُونَ} قال ههنا الظالمون ، ومن قبل قال الكافرون ، مع أن الكافر ظالم ولا تنافي بين الكلامين وفيه فائدة ، وهي أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد فتكونوا كافرين ، فلفظ الكافر هناك كان بليغاً يمنعهم من ذلك لاستنكافهم عن الكفر ، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أول الأمر بالمشركين حكما ، وتلتحقون عند هذه الآية بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين ، أي مشركين ، كما بينا أن الشرك ظلم عظيم ، فهذا اللفط ههنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ.
جزء : 25 رقم الصفحة : 67
68
/ لما فرغ من ذكر دليل من جانب النبي عليه السلام ذكر شبهتهم وهي بذكر الفرق بين المقيس عليه والمقيس ، فقالوا إنك تقول إنه أنزل إليك كتاب كما أنزل إلى موسى وعيسى ، وليس كذلك لأن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها ، ثم إن الله تعالى أرشد نبيه إلى أجوبة هذه الشبهة منها قوله : {إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّهِ} ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلّم ادعى الرسالة وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة ، لأن الرسول يرسل أولا ويدعو إلى الله ، ثم إن توقف الخلق في قبوله أو طلبوا منه دليلاً ، فالله إن رحمهم بين رسالته وإن لم يرحمهم لا يبين ، فقال أنا الساعة رسول وأما الآية فالله إن أراد ينزلها وإن لم يرد لا ينزلها وهذا لأن ما هو من ضرورات الشيء إذا خلق الله الشيء لا بد من أن يخلقها كالمكان من ضرورات الإنسان فلا يخلق الله إنساناً إلا ويكون قد خلق مكاناً أو يخلقه معه ، لكن الرسالة والمعجزة ليستا كذلك فالله إذا خلق رسولا وجعله رسولا ليس من ضروراته أن تعلم له معجزة ، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب ولم تعلم لهم معجزة فإن قيل علم رسالتهم ، نقول من ثبتت رسالته بلا معجزة فنبينا كذلك لا حاجة له إلى معجزة لأن رسالته علمت بقول موسى وعيسى فتبين بطلان قولهم لم لم ينزل عليه آية ؟
وهذا لأنهم طلبوا سبق الآية وليست شرطاً حتى تسبقها ، بلى إن كان لهم سؤال فطريقه أن يقولوا يا أيها المدعي نحن لا نكذبك ولا نصدقك لكنا نريد أن يبين الله لنا آية تخلصنا من تصديق المتنبي وتكذيب النبي ونعلم بها كونك نبياً ونؤمن بك ، فبعد ذلك ما كان يبعد من رحمة الله أن ينزل آية.
ثم قوله : {وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} معناه أن الآية عند الله ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء ثم إنه بعد بيان فساد شبهتهم من وجه بين فسادها من وجه آخر ، وقال هب أن إنزال الآية شرط لكنه وجد وهو في نفس الكتاب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 68
68
(1/3552)

فقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } يعني إن كان إنزال الآية شرطاً / فلا يشترط إلا إنزال آية وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} عبارة تنبىء عن كون القرآن آية فوق الكفاية ، وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسيء أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبىء عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} وهذا لأن القرآن معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها لوجوه : أحدهما : أن تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعباناً وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر ، فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب الله ويكذب بوجود هذه الأشياء لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فنقول له فأت بآية من مثله الثاني : هو أن قلب العصا ثعباناً كان في مكان واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان ، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد ، وههنا لطيفة وهي أن آيات النبي عليه السلام كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض ، لأن الخسوف إذا وقع عم وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر وغاضت بحيرة ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر وانهدت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمر عام الثالث : هو أن غير هذه المعجزة الكافر المعاند يقول إنه سحر عمل بدواء ، والقرآن لا يمكن هذا القول فيه.
ثم إنه تعالى قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَرَحْمَةً} إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق ، وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله ، وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب ، لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة ، لكن الله له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله : {وَذِكْرَى } إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان.
جزء : 25 رقم الصفحة : 68
ثم قال تعالى : {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضباً على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم.
ثم قال تعالى : {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا } لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم ، كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريراً وتأكيداً ، ثم بين كونه كافياً بكونه عالماً بجميع الأشياء. فقال : {يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وههنا مسألة : وهي أن الله تعالى قال في آخر الرعد {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَـابِ} (الرعد : 43) فأخر شهادة أهل الكتاب ، وفي هذه السورة قدمها حيث قال : {فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يُؤْمِنُونَ بِه } (العنكبوت : 47) ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين ، فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم / إن شهادة الله أقوى في إلزامهم من شهادة غير الله ، وههنا الكلام مع أهل الكتاب ، وشهادة المرء على نفسه هو إقراره وهو أقوى الحجج عليه فقدم ما هو ألزم عليهم.
ثم إنه تعالى لما بين الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكلام الشامل لهما والانذار العام فقال تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبَـاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي الذين آمنوا بما سوى الله لأن ما سوى الله باطل لأنه هالك بقوله : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) وكل ما هلك فقد بطل فكل هالك باطل وكل ما سوى الله باطل ، فمن آمن بما سوى الله فقد آمن بالباطل ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : { أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} يقتضي الحصر أي من أتى بالإيمان بالباطل والكفر بالله فهو خاسر فمن يأتي بأحدهما دون الآخر ينبغي أن لا يكون خاسراً فنقول يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر ، أما الآتي بالإيمان بما سوى الله فلأنه أشرك بالله فجعل غير الله مثل غيره لكن غيره عاجز جاهل ممكن باطل فيكون الله كذلك فيكون إنكاراً لله وكفراً به ، وأما من كفر به وأنكره فيكون قائلاً بأن العالم ليس له إله موجد فوجود العالم من نفسه ، فيكون قائلاً بأن العالم واجب والواجب إله ، فيكون قائلاً بأن غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به.
جزء : 25 رقم الصفحة : 68
(1/3553)

المسألة الثانية : إذا كان الإيمان بما سوى الله كفراً به ، فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله ، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي هو في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد ؟
نقول نعم فيه فائدة غيرها ، وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول كقول القائل أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أن القول باطل قبيح.
المسألة الثالثة : هل يتناول هذا أهل الكتاب أي هل هم آمنوا بالباطل وكفروا بالله ؟
نقول نعم ، لأنهم لما صح عندهم أن معجزة النبي من عند الله وقطعوا بها وعاندوا وقالوا إنها من عند غير الله ، يكون كمن رأى شخصاً يرمي حجارة ، فقال إن رامي الحجارة زيد يقطع بأنه قائل بأن هذا الشخص زيد حتى لو سئل عن عين ذلك الشخص وقيل له من هذا الرجل يقول زيد ، فكذلك هم لما قطعوا بأن مظهر المعجزة هو الله وقالوا بأن محمداً مظهر هذا يلزمهم أن يقولوا محمد هو الله تعالى فيكون إيماناً بالباطل ، وإذا قالوا بأن من أظهر المعجزة ليس بإله مع أنهم قطعوا بخصوص مظهر المعجزة يكونون قائلين بأن ذلك المخصوص الذي هو الله ليس بإله فيكون كفراً به ، وهذا لا يرد علينا فيمن يقول فلعل العبد مخلوق الله تعالى أو مخلوق العبد ، فإنه أيضاً ينسب فعل الله إلى الغير ، كما أن المعجزة فعل الله وهم نسبوها إلى غيره لأن هذا القائل جهل النسبة ، كمن يرى حجارة رميت ولم ير عين راميها ، فيظن أن راميها زيد فيقول زيد هو رامي هذه الحجارة ، ثم إذا رأى راميها بعينه ويكون غير زيد لا يقطع بأن يقول هو زيد ، وأما إذا رأى عينه ورميه للحجارة وقال رامي الحجارة زيد ، يقطع بأنه يقول هذا الرجل زيد فظهر الفرق من / حيث إنهم كانوا معاندين عالمين بأن الله مظهر تلك المعجزة ، ويقولون بأنها من عند غير الله.
ثم قوله : {هُمُ الْخَـاسِرُونَ} كذلك بأتم وجوه الخسران ، وهذا لأن من يخسر رأس المال ولا تركبه ديون يطالب بها دون من يخسر رأس المال وتركبه تلك الديون ، فهم لما عبدوا غير الله أفنوا العمر ولم يحصل لهم في مقابلته شيء ما أصلاً من المنافع ، واجتمع عليهم ديون ترك الواجبات يطالبون بها حيث لا طاقة لهم بها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 68
70
لما أنذرهم الله بالخسران وهو أتم وجوه الإنذار لأن من خسر لا يحصل له في مقابلة قدر الخسران شيء من المنافع وإلا لما كان الخسران ذلك القدر بل دونه ، مثاله إذا خسر واحد من العشرة درهماً لا ينبغي أن يكون حصل له في مقابلة الدرهم ما يساوي نصف درهم ، وإلا لا يكون الخسران درهماً بل نصف درهم ، فإذن هم لما خسروا أعمارهم لا تحصل لهم منفعة تخفيف عذاب وإلا يكون ذلك القدر من العمر له منفعة فيكون للخاسر عذاب أليم ، فقوله : {وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} تهديد عظيم فقالوا إن كان علينا عذاب فأتنا به ، إظهاراً لقطعهم بعدم العذاب ، ثم إنه أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم ، لأنه أجله الله لحكمة ورحمة فلكونه حكيماً لا يكون متغيراً منقلباً ، ولكونه رحيماً لا يكون غضوباً منزعجاً ، ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته وارتضته رحمته لما كان له رحمة وحكمة ، فيكون غضوباً منقلباً فيتأثر باستعجالكم ويتغير من سؤالكم فيعجل وليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب وأنتم تسألونه ولا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه ، كما قال تعالى : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} (الحج : 22).
ثم قال تعالى : {وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً} اختلف المفسرون فيه ، فقال بعضهم ليأتينهم العذاب بغتة ، لأن العذاب أقرب المذكورين ، ولأن مسئولهم كان العذاب ، فقال إنه ليأتينهم ، وقال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل ، لأن الآتي بغتة هو الأجل وأما العذاب بعد الأجل يكون معاينة ، وقد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتياً بغتة حكمة ، وهي أنه لو كان وقته معلوماً ، لكان كل أحد يتكل على بعده وعلمه بوقته فيفسق ويفجر معتمداً على التوبة قبل الموت.
قوله تعالى : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يحتمل وجهين أحدهما : تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر ، فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة والثاني : هو كلام / يفيد فائدة مستقلة ، وهي أن العذاب يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون هذا الأمر ، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 70
70
ذكر هذا للتعجب ، وهذا لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة ، فيرى من نفسه الجلد ويقول باسم الله هات ، وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد ، لا يخطر ببال العاقل أن يقول له هات ما تتوعدني به ، فقال ههنا {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} والعذاب بنار جهنم المحيطة بهم ، فقوله : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} أولاً إخبار عنهم وثانياً تعجب منهم ، ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم.
(1/3554)

فقال تعالى : {يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : لم خص الجانبين بالذكر ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدام ؟
فنقول لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع ، فإن من دخلها تكون الشعلة خلفه وقدامه ويمينه ويساره وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة العاجلة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم ، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفىء بالدوس موضع القدم.
المسألة الثانية : قال : {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ولم يقل من فوق رءوسهم ، ولا قال من فوقهم ومن تحتهم ، بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق ، فنقول لأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرءوس وسواء كان من موضع آخر عجيب ، فلهذا لم يخصه بالرأس ، وأما بقاء النار تحت القدم فحسب عجيب ، وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا يكون شعل وهي تحت فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطق بالدوس وما فوق على الإطلاق.
ثم قال تعالى : {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ذوقوا عذاب ما كنتم تعملون ، وجعل ذلك عين ما كانوا يعملون للمبالغة بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب ، فإن عملهم كان سبباً لجعل الله إياه سبباً لعذابهم ، وهذا كثير النظير في الاستعمال.
جزء : 25 رقم الصفحة : 70
71
/ وجه التعلق هو أن الله تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعوهم من العبادة فقال مخاطباً للمؤمنين {تَعْمَلُونَ * يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ} إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال ، وبهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام والخروج منها واجب ، حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج ، و(ر)دع حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : {فِى عِبَـادِى} لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله : {فِى عِبَـادِى} نقول ليس داخلاً في قوله : {فِى عِبَـادِى} نقول ليس داخلاً فيه لوجوه : أحدها : أن من قال في حقه {عِبَادِىَ} ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلاً في قوله {فِى عِبَـادِى} الثاني : هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف ، وذلك لأن الله تعالى لما خلق آدم آتاه اسماً عظيماً وهو اسم الخلافة كما قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً } (البقرة : 30) والخليفة أعظم الناس مقداراً وأتم ذوي البأس اقتداراً ، ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم ولم ينهزم ، بل أقدم عليه بسببه وعاداه وغلبه كما قال تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَـانُ} (البقرة : 36) ثم إن من أولاده الصالحين من سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان وتضاءل ، كما قال تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) وقال هو بلسانه {لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ} فعلم أن المكلف إذا كان عبداً لله يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض ولعل آدم كداود الذي قال الله تعالى في حقه
جزء : 25 رقم الصفحة : 71
{إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ} (ص : 26) لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال الله تعالى في حقه عبدي وعندما ناداه بقوله : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) واجتباه بهذا النداء ، كما قال في حق داود {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِ } (ص : 17) إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة ؟
فلا يدخل في قوله {فِى عِبَـادِى} إلا المؤمن. الثالث : هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن بسعيه بتوفيق الله ، وذلك لأن الله تعالى قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) فالمؤمن دعا ربه بقوله : {رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَامَنَّا } (الزمر : 53) فأجابه الله تعالى بقوله : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه } فالإضافة بين الله وبين العبد بقول العبد إلهي وقول الله عبدي تأكدت بدعاء العبد ، لكن الكافر لم يدع فلم يجب ، فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين.
(1/3555)

المسألة الثانية : إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } / مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف ، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون ، ويا أيها الرجال العقلاء تمييزاً عن الكافرين والجهال ، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون/ مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر ، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة ، ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل ، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
المسألة الثالثة : إذ قال {فِى عِبَـادِى} فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله فاعبدون ؟
فنقول فيه فائدتان إحداهما : المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية : الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري.
المسألة الرابعة : الفاء في قوله : {فَإِيَّـايَ} تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك ؟
فنقول قوله : {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ} إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني ، وأما الفاء في قوله تعالى : {فَاعْبُدُونِ} فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك ههنا لما أعلم نفسه بقوله : {فَإِيَّـايَ} وهو لنفسه يستحق العبادة قال فاعبدون.
جزء : 25 رقم الصفحة : 71
المسألة الخامسة : قال العبد مثل هذا في قوله : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وقال عقيبه : {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والله تعالى وافقه في قوله : {فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ} ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله {فِى عِبَـادِى} لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة.
المسألة السادسة : قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة ، قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض ، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك ، وذلك لأن من يبني بيتاً للسكنى يدخل في ذهنه أولاً فائدة السكنى فيحمله على البناء ، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة ، فنقول الاستعانة من العبد لغرض فهي سابقة في إدراكه ، وأما الله تعالى فيس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود ، فإن الإعانة قبل العبادة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 71
73
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان ، فقال لهم إن ما تكرهون لا بد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه ، فإن إلى الله مرجعكم ، وفيه وجه أرق وأدق ، وهو أن الله تعالى قال : كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت ، ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} (الدخان : 56) إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن / النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) فإذاً التعلق بالله يريح من الموت فقال تعالى {فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ} أي تعلقوا بي ، ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت : 57) أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ} (آل عمران : 169) وقال عليه السلام : "المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار" فعلى هذا الوجه أيضاً يتبين وجه التعليق.
جزء : 25 رقم الصفحة : 73
74
بين ما يكون للمؤمنين وقت الرجوع إليه كما بين من قبل ما يكون للكافرين بقوله : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ} (العنكبوت : 54) فبين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما أن للكافرين النيران ، وبين أن فيها غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما بين أن تحت الكافرين النار ، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله تعالى : {نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله تعالى : {نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} في مقابلة ما بين أن ما تقدم جزاء عمل الكفار بقوله : {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنبكوت : 55) ثم في الآيتين اختلافات فيها لطائف منها أنه تعالى ذكر في العذاب أن فوقهم عذاباً أي ناراً ، ولم يذكر ههنا فوقهم شيئاً ، وإنما ذكر ما فوق من غير إضافة وهو الغرف ، وذلك لأن المذكور في الموضعين العقاب والثواب الجسمانيان ، لكن الكافر في الدرك الأسفل من النار ، فيكون فوقه طبقات من النار ، فأما المؤمنون فيكونون في أعلى عليين ، فلم يذكر فوقهم شيئاً إشارة إلى علو مرتبتهم وارتفاع منزلتهم.
(1/3556)

وأما قوله تعالى : {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} (الزمر : 20) لا ينافي لأن الغرف فوق الغرف لا فوقهم والنار فوق النار وهي فوقهم ، ومنها أن هناك ذكر من تحت أرجلهم النار ، وههنا ذكر من تحت غرفهم الماء ، وذلك لأن النار لا تؤلم إذا كانت تحت مطلقاً ما لم تكن في مسامتة الأقدام ومتصلة بها ، أما إذا كان الشعلة مائلة عن سمت القدم وإن كانت تحتها ، أو تكون مسامتة ولكن تكون غير ملاصقة بل تكون أسفل في وهدة لا تؤلم ، وأما الماء إذا كان تحت الغرفة في أي وجه كان وعلى أي بعد كان يكون ملتذاً به ، فقال في النار من تحت أرجلهم ليحصل الألم بها ، وقال ههنا من تحت الغرف لحصول اللذة به كيف كان ، ومنها أن هناك قال ذوقوا الإيلام قلوبهم بلفظ الأمر وقال ههنا {نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} لتفريح قلوبهم لا بصيغة الأمر وذلك لأن لفظ الأمر يدل على انقطاع التعلق / بعده ، فإن من قال لأجيره خذ أجرتك يهفم منه أن بذلك ينقطع تعلقه عنه ، وأما إذا قال ما أتم أجرتك عندي أو نعم مالك من الأجر يفهم منه أن ذلك عنده ولم يقل ههنا خذوا أجرتكم أيها العاملون وقال هناك : {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فإن قال قائل ذوقوا إذا كان يفهم منه الانقطاع فعذاب الكافر ينقطع ، قلنا ليس كذلك لأن الله إذا قال ذوقوا دل على أنه أعطاهم جزاءهم وانقطع ما بينه وبينهم لكن يبقى عليهم ذلك دائماً ولا ينقص ولا يزداد ، وأما المؤمن إذا أعطاه شيئاً فلا يتركه مع ماأعطاه بل يزيد له كل يوم في النعم وإليه الإشارة بقوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 26) أي الذي يصل إلى الكافر يدوم من غير زيادة والذي يصل إلى المؤمن يزداد على الدوام ، وأما الخلود وإن لم يذكره في حق الكافر لكن ذلك معلوم بغيره من النصوص.
جزء : 25 رقم الصفحة : 74
74
ذكر أمرين الصبر والتوكل لأن الزمان ماض وحاضر ومستقبل لكن الماضي لا تدارك له ولا يؤمر العبد فيه بشيء ، بقي الحاضر واللائق به الصبر والمستقبل واللائق به التوكيل ، فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال ، ويتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال.
واعلم أن الصبر والتوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم بالله والعلم بما سوى الله ، فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين ، وإذا علم الله علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق ، وذكر الصبر والتوكل ههنا مناسب ، فإن قوله : {فِى عِبَـادِى} كان لبيان أنه لا مانع من العبادة ، ومن يؤذى في بقعة فليخرج منها. فحصل الناس على قسمين قادر على الخروج وهو متوكل على ربه ، يترك الأوطان ويفارق الأخوان ، وعاجز وهو صابر على تحمل الأذى ومواظب على عبادة الله تعالى.
ثم قال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغد ، ويأتيها كل يوم برزق رغد. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كأين لغات أربع (لا) غير هذه (و) كائن على وزن راع وكأين على وزن ريع وكي على دع ولم يقرأ إلا كأين وكائن قراءة ابن كثير.
المسألة الثانية : كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ، ولم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب ، لأن كأي / يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلاً لا كأي رجل يكون ، فقد حذف المضاف إليه ويقال رأيت رجلاً لا كأي رجل ، وحينذ لا يكون كأي مركباً ، فإذا كان كأي ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معد يكرب وبعلبك موصولاً للفرق. وكما تكتب ثمة بالهاء تمييزاً بينها وبين ثمت.
جزء : 25 رقم الصفحة : 74
(1/3557)

المسألة الثالثة : كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادراً وكم يستعمل كثيراً من غير من ، يقال كم رجلاً وكم من رجل ، وذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم وكأي التي ليست مركبة ، وذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلاً لا كأي من رجل ، والمركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها فالتزم للفرق. قوله تعالى : {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} قيل : لا تحمل لضعفها وقيل هي كالقمل والبرغوث والدود وغيرها وقيل لا تدخر {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } بطريق القياس أي لا شك في أن رزقها ليس إلا بالله فكذلك يرزقكم فتوكلوا ، فإن قال قائل من قال بأن الله يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى ، فنقول الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظراً إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق ، أما بالنظر إلى الرزق فلأن الله تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق ، وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظماً ولحماً وشحماً ، وما ذاك إلا بحكمة الله تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاصمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة الله وإرادته فهو الذي يرزقها ، وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق ، فلأن الله لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء/ ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعاً من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك ، فإن كثيراً ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك ، فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئاً وترك بقية يجدها غداً ، ما مد إليه أحد يداً ، والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غداً شيء ؟
وأيضاً حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضاً قوت الحيوان مهيأ وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة ، فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل ، بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلاً والراكع الساجد غير متوكل ، لأن من يزرع يكون اعتماده على الله واعتقاده في الله أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع ، وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع فيعمل وقلبه مع الله هو متوكل حق التوكل ، ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل. وأما قوله : حاجات الإنسان كثيرة ، فنقول مكاسبه كثيرة أيضاً ، فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره ، وبعينه كالناطور وبلسانه كالحادي والمنادي ، وبفهمه كالمهندس والتاجر ، / وبعلمه كالطبيب والفقيه ، وبقوة جسمه كالعتال والحمال ، والحيوان لا مكاسب له ، فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غداً أو بعد غد ، بعيد أن لا يرزقه الله مع هذه المكاسب ، فهو أولى بالتوكل. وأيضاً الله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه ، فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى ، حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر ، وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهراً شاؤا أم أبوا ، وليس كذلك حال الحيوان أصلاً ، فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه ، فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان ، ثم قال :
جزء : 25 رقم الصفحة : 74
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سميع إذا طلبتم الرزق ، يسمع ويجيب ، عليم إن سكتم ، لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 74
75
(1/3558)

نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطباً معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله : {الْبَـاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (العنبكوت : 56) وأتم الكلام معه ذكر معه ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه وهذا طريق في غاية الحسن ، فإن السيد إذا كان له عبدان ، أو الوالد إذا كان له ولدان وأحدهما رشيد والآخر مفسد ، ينصح أولاً المفسد ، فإن لم يسمع يقول معرضاً عنه ، ملتفتاً إلى الرشيد ، إن هذا لا يستحق الخطاب فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد ، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد ، فإن قوله هذا لا يستحق الخطاب يوجب نكاية في قلبه ، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه ، إن هذا أخاك العجيب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده ، يكون هذا الكلام أيضاً داعياً له إلى سبيل الرشاد مانعاً له من ذلك الفساد ، فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن العجيب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ثم لا يؤمنون ، وفي الآية لطائف إحداها : ذكر في السموات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير ، وذلك لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمة ، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء ، فإذاً الحكمة في تحريكهما وتسخيرهما الثانية : في لفظ التسخير ، وذلك لأن التحريك يدل على مجرد الحركة وليس مجرد الحركة كافياً ، لأنها لو كانت تتحرك مثل حركتنا لما كانت تقطع الفلك بألوف من السنين ، فالحكمة في تسخيرهما تحركهما في قدر ما يتنفس الإنسان / آلافاً من الفراسخ ، ثم لم يجعل لهما حركة واحدة بل حركات ، إحداها حركتها من المشرق إلى المغرب في كل يوم وليلة مرة ، والأخرى حركتها من المغرب إلى المشرق ، والدليل عليها أن الهلال يرى في جانب الغرب على بعد مخصوص من الشمس ، ثم يبعد منه إلى جانب الشرق حتى يرى القمر في نصف الشهر في مقابلة الشمس ، والشمس على أفق المغرب ، والقمر على أفق المشرق ، وحركة أخرى حركة الأوج وحركة المائل والتدوير في القمر ، ولولا الحركة التي من المغرب إلى المشرق لما حصلت الفصول ، ثم اعلم أن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في الفلك مركوزة والفلك يديرها بدورانه وأنكره المفسرون الظاهريون ، ونحن نقول لا بعد في ذلك إن لم يقولوا بالطبيعة ، فإن الله تعالى فاعل مختار إن أراد أن يحركهما في الفلك والفلك ساكن يجوز ، وإن أراد أن يحركهما بحركة الفلك وهما ساكنان يجوز ولم يرد فيه نص قاطع أو ظاهر ، وسنذكر تمام البحث في قوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} الثالثة : ذكر أمرين أحدهما خلق السموات والأرض والآخر تسخير الشمس والقمر ، لأن الإيجاد قد يكون للذوات وقد يكون للصفات ، فخلق السموات والأرض إشارة إلى إيجاد الذوات ، وتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إيجاد الصفات وهي الحركة وغيرها ، فكأنه ذكر من القبيلين مثالين ، ثم قال تعالى : {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يعني هم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله ، مع أن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات والأرض ، ولا حقارة فوق حقارة الجماد ، لأن الجماد دون الحيوان ، والحيوان دون الإنسان ، والإنسان دون سكان السموات فكيف يتركون عبادة أعظم الوجودات ويشتغلون بعبادات أخس الموجودات.
جزء : 25 رقم الصفحة : 75
76
(1/3559)

قوله تعالى : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } لما بين الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الإنسان بالرزق ، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاقه العبادة ، وهذه الأصنام ليست كذلك والله مستحقها ، وإما لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات على الشأن جلي البرهان فله العبادة ، وإما لكونه ولي الإحسان والله يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضاً قوله : {لِمَن يَشَآءُ} إشارة إلى كمال الإحسان ، وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئاً ، فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة ، لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك ، وأما إن كان مختاراً بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه ، فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة ، فقال الله تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكراً تاماً وقوله تعالى : {وَيَقْدِرُ لَه ا } أي يضيق له إن أراد ، ثم قال تعالى : / {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها : أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجاً وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق ، ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الاطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى ، أو لعدم علمه بجوع العبيد الثانية : وهي أن الله بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعاً لا كافراً ، وقد استوفى الأربع ، لأن قوله : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} إشارة إلى كمال القدرة ، وقوله : {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته ، وقوله : {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى شمول علمه ، والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حياً ، ثم إنه تعالى لما قال : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} ذكر اعترافهم بذلك فقال :
جزء : 25 رقم الصفحة : 76
76
يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب ، فالرزق من الله ، ثم قال تعالى : {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهو يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون كلاماً معترضاً في أثناء كلام كأنه قال : فأحيا به الأرض من بعد موتها {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فذكر في أثناء هذا الكلام {الْحَمْدُ} لذكر النعمة ، كما قال القائل :
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
الثاني : أن يكون المراد منه كلاماً متصلاً ، وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من الله ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون ، وأنت تعلم وتعمل فكذلك المؤمنون بك فقل الحمد لله وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله لله فيحمدون غير الله على نعمة هي من الله الثالث : أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من الله ويقولون بإلهية غير الله فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ظهور تناقضهم {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} هذا التناقض أو فساد هذا التناقض.
جزء : 25 رقم الصفحة : 76
76
لما بين أنهم يعترفون بكون الله هو الخالق وكونه هو الرزاق وهم يتركون عبادته ولا يتركونها إلا لزينة الحياة الدنيا بين أن ما يميلون إليه ليس بشيء بقوله : {وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا لَهْوٌ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفرق بين اللهو واللعب ، حتى يصح عطف أحدهما على الآخر ؟
فنقول الفرق من وجهين أحدهما : أن كل شغل يفرض ، فإن المكلف إذا أقبل عليه لزمه الإعراض عن غيره ومن لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى ، فالذي يقبل على الباطل للذة يسيرة زائلة فيه يلزمه الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو ، فالدنيا لعب أي إقبال على الباطل ، ولهو أي إعراض عن الحق الثاني : هو أن المشتغل بشيء يرجح ذلك الشيء على غيره لا محالة حتى يشتغل به ، فإما أن يكون ذلك الترجيح على وجه التقديم بأن يقول أقدم هذا وذلك الآخر آتي به بعده أو يكون على وجه الاستغراق فيه والإعراض عن غيره بالكلية فالأول لعب والثاني لهو ، والدليل عليه هو أن الشطرنج والحمام وغيرهما مما يقرب منهما لا تسمى آلات الملاهي في العرف ، والعود وغيره من الأوتار تسمى آلات الملاهي لأنها تلهي الإنسان عن غيرها لما فيها من اللذة الحالية ، فالدنيا للبعض لعب يشتغل به ويقول بعد هذا الشغل أشتغل بالعبادة والآخرة ، وللبعض لهو يشتغل به وينسى الآخرة بالكلية.
(1/3560)

المسألة الثانية : قال الله تعالى في سورة الأنعام : {وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ} (آل عمران : 185) ولم يقل وما هذه الحياة وقال ههنا : {وَمَا هَـاذِهِ} فنقول لأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا ، حيث قال تعالى : {فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ مِنا بَعْدِ مَوْتِهَا} (البقرة : 164) فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال : {قَالُوا يَـاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } (الأنعام : 31) فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال : {وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ} .
المسألة الثالثة : قال هناك : {إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } وقال ههنا : {إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } فنقول لما كان المذكور هناك من قبل الآخرة وإظهارهم للحسرة ، ففي ذلك الوقت يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد ، وأما ههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها ، اللهم إلا لمانع يمنعه من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها ، ولعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً ، فكان ههنا الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو.
جزء : 25 رقم الصفحة : 76
المسألة الرابعة : قال هناك : {وَلَلدَّارُ الاخِرَةُ خَيْرٌ} (الأنعام : 32) وقال ههنا : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ } فنقول لما كان الحال هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى رادع قوي فقال الآخرة خير ، ولما كان ههنا الحال حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى رادع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة ، وهذا كما أن العاقل إذا عرض عليه شيئان فقال في أحدهما هذا خير من ذلك يكون هذا ترجيحاً فحسب ، ولو قال هذا جيد وهذا الآخر ليس بشيء يكون ترجيحاً مع المبالغة فكذلك ههنا بالغ لكون المكلف متوغلاً فيها.
المسألة الخامسة : قال هناك : {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } (الأعراف : 169) ولم يقل ههنا إلا لهي الحيوان ، لأن الآخرة خير للمتقي فحسب أي المتقي عن الشرك/ وأما الكافر فالدنيا جنته فهي خير له من الآخرة ، وأما كون الآخرة باقية فيها الحياة الدائمة فلا يختص بقوم دون قوم.
المسألة السادسة : كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة مع أن الحيوان نام مدرك ؟
فنقول الحيوان مصدر حي كالحياة لكن فيها مبالغة ليست في الحياة والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية ، فكأنه قال الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة أو نقول لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو كما قال تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 26) وكانت هي محل الإدراك التام الحق كما قال تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} (الطارق : 9) أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك.
المسألة السابعة : قال في سورة الأنعام : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة : 76) وقال ههنا : {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وذلك لأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً وأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت ههنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة ، وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.
جزء : 25 رقم الصفحة : 76
77
إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا ، وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا ، فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 77
77
ثم قال تعالى : {لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا ا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وفيه وجهان أحدهما : أن اللام لام كي ، أي يشركون ليكون إشراكهم كفراً بنعمة الإنجاء ، وليتمتعوا بسبب الشرك فسوف يعلمون بوبال عملهم حين زوال أملهم والثاني : : أن تكون اللام لام الأمر ويكون المعنى ليكفروا على التهديد. كما قال تعالى : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } (فصلت : 40) وكما قال : {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام : 135) فساد ما تعملون.
جزء : 25 رقم الصفحة : 77
79
(1/3561)

التفسير ظاهر ، وإنما الدقيق وجه تعلق الآية بما قبلها ، فنقول الإنسان في البحر يكون على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين حالهم عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله تعالى ذكرهم حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم ، وهي حصين بحصن الله حيث كل من حولها يمتنع من قتال من حصل فيها ، والحصول فيها يدفع الشرور عن النفوس ويكفها يعني أنكم في أخوف ما كنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله ، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص ما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير فهذه النعمة العظيمة التي حصلت وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله كيف تكفرون بها ؟
والأصنام التي قطعتم في حال الخوف أن لا أمن منها كيف آمنتم بها في حال الأمن ؟
.
جزء : 25 رقم الصفحة : 79
79
لما بين الله الأمور على الوجه المذكور ولم يؤمن به أحد بين أنهم أظلم من يكون ، لأن الظلم على ما بين وضع الشيء في غير موضعه ، فإذا وضع واحد شيئاً في موضع ليس هو موضعه يكون ظالماً فإذا وضعه في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول ، لأن كل ما لا يمكن لا يحصل وليس كل ما لا يحصل لا يمكن ، فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك وجعلوا له شريكاً فلو كان ذلك في حق ملك مستقل في الملك لكان ظلماً يستحق من الملك العقاب الأليم فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك ، وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب يكون ظلماً فمن يكذب صادقاً لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله ؟
فإذا ليس أظلم ممن يكذب على الله بالشرك ويكذب الله في تصديق نبيه والنبي في رسالة ربه والقرآن المنزل من الله إلى الرسول ، والعجب من المشركين أنهم قبلوا المتخذ من خشب منحوت / بالإلهية ، ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بالرسالة ، والآية تحتمل وجهاً آخر وهو أن الله تعالى لما بين التوحيد والرسالة والحشر وقرره ووعظ وزجر قال لنبيه ليقول للناس : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي إني جئت بالرسالة وقلت إنها من الله وهذا كلام الله ، وأنتم كذبتموني فالحال دائر بين أمرين ، أما أنا مفتر متنبىء إن كان هذا من عند غير الله أو أنتم مكذبون بالحق إن كان من عنده لكني معترف بالعذاب الدائم عارف به فلا أقدم على الافتراء لأن {جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (الزمر : 32) والمتنبىء كافر ، وأنتم كذبتموني فجهنم مثواكم إذ هي مثوى للكافرين ، وهذا حيئنذٍ يكون كقوله تعالى : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (سبأ : 24).
جزء : 25 رقم الصفحة : 79
80
لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى ما قال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } فقوله : {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} إشارة إلى الحسنى وقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته ، وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي الذين نظروا في دلائلنا {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي لنحصل فيهم العلم بنا. ولنبين هذا فضل بيان ، فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي والله يخلق في الناظر علماً عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة ، وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية ، وعلى هذا يكون الترتيب حسناً ، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال : إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيداً لا يتقرب وهم الكفار ، ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريباً منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء ، ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ} إشارة إلى الأول وقوله : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} إشارة إلى الثاني وقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى الثالث.
والله أعلم بأسرار كتابه ، والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 80
81
(1/3562)

سورة الروم
ستون آية مكية (إلا آية 17 فمدنية ، نزلت بعد الانشقاق)
جزء : 25 رقم الصفحة : 81
83
/ وجه تعلق أول هذه السورة بما قبلها يتبين منه سبب النزول ، فنقول لما قال الله تعالى في السورة المتقدمة {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46) وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (البقرة : 171) وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله كما قال : {وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ} (العنكبوت : 46) وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله بل كثير منهم كانوا مؤمنين به كما قال : {فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِه } (العنكبوت : 47) أي أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور ، فلما وقعت الكرة عليهم حين قاتلهم الفرس المجوس فرح المشركون بذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق ، بل الله تعالى قد يريد مزيد ثواب في المحب فيبتليه ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد للمعادي ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في افتتاح هذه السورة بحروف التهجي ؟
فنقول قد سبق منا أن كل سورة افتتحت بحروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى : { الر * ذَالِكَ الْكِتَابُ} (البقرة : 1 ، 2) ، { المص * كِتَابٌ} (الأعراف : 1) ، {طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ} (طه : 1 ، 2) ، {الام * تَنزِيلُ الْكِتَابِ} {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت : 2) ، {يس * وَالْقُرْءَانِ} (يس : 1 ، 2) ، {ا وَالْقُرْءَانِ} (ص : 1) إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت وقد ذكرنا ما الحكمة فيهما في موضعهما فنقول ما يتعلق بهذه السور وهو أن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت وهذه ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب ، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع فيقبل بقلبه على الاستماع ، ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع.
جزء : 25 رقم الصفحة : 83
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فِى أَدْنَى الارْضِ} أي أرض العرب ، لأن الألف واللام / للتعريف والمعهود عندهم أرضهم وقوله تعالى : {وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أية فائدة في ذكره مع أن قوله : {سَيَغْلِبُونَ} بعد قوله : {غُلِبَتِ الرُّومُ} لا يكون إلا من بعد الغلبة ؟
فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفاً ، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا ، دل على أن ذلك بأمر الله ، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم ، وإنما ذلك بأمر الله تعالى وقوله : {فِى أَدْنَى الارْضِ} لبيان شدة ضعفهم ، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله.
المسألة الثالثة : قال تعالى : {فِى بِضْعِ سِنِينَ } قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة ، أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه ولما وردت الآية ذكر أبو بكر رضي الله عنه أن الروم ستغلب وأنكره أبي بن خلف وغيره/ وناحبوا أبا بكر أي خاطروه على عشرة قلائص إلى ثلاث سنين فقال عليه السلام لأبي بكر البضع ما بين الثلاثة والعشرة فزايده في الإبل وماده في الأجل فجعلا القلائص مائة والأجل سبعاً ، وهذا يدل على علم النبي عليه السلام بوقت الغلبة.
(قوله تعالى : {لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُا وَيَوْمَا ِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} ).
(1/3563)

ثم قال تعالى : {لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ } أي من قبل الغلبة ومن بعدها أو من قبل هذه المدة ومن بعدها ، يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها ، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة ، وبنيا على الضم لما قطعا عن الإضافة لأن غير الضمة من الفتحة والكسرة يشتبه بما يدخل عليهما وهو النصب والجر ، أما النصب ففي قولك جئت قبله أو بعده ، وأما الجر ففي قولك من قبله ومن بعده فنياً على الضم لعدم دخول مثلهما عليه في الإعراب وهو الرفع {وَيَوْمَـاـاِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} قيل يفرحون بغلبة الروم على الفرس كما فرح المشركون بغلبة الفرس على الروم ، والأصح أنهم يفرحون بغلبتهم المشركين وذلك لأن غلبة الروم كانت يوم غلبة المسلمين المشركين ببدر ، ولو كان المراد ما ذكروه لما صح لأن في ذلك اليوم بعينه لم يصل إليهم خبر الكسر فلا يكون فرحهم يومئذٍ بل الفرح يحصل بعده.
جزء : 25 رقم الصفحة : 83
83
/ قوله تعالى : {بِنَصْرِ اللَّه يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } قدم المصدر على الفعل حيث قال : {بِنَصْرِ اللَّه يَنصُرُ} (الأنفال : 62) وقدم الفعل على المصدر في قوله : {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِه } وذلك لأن المقصود ههنا بيان أن النصرة بيد الله إن أراد نصر وإن لم يرد لا ينصر ، وليس المقصود النصرة ووقوعها والمقصود هناك إظهار النعمة عليه بأنه نصره ، فالمقصود هناك الفعل ووقوعه فقدم هناك الفعل ، ثم بين أن ذلك الفعل مصدره عند الله ، والمقصود ههنا كون المصدر عند الله إن أراد فعل فقدم المصدر.
ثم قال تعالى : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ذكر من أسمائه هذين الإسمين لأنه إن لم ينصر المحب بل سلط العدو عليه فذلك لعزته وعدم افتقاره ، وإن نصر المحب فذلك لرحمته عليه ، أو نقول إن نصر الله المحب فلعزته واستغنائه عن العدو ورحمته على المحب ، وإن لم ينصر المحب فلعزته واستغنائه عن المحب ورحمته في الآخرة واصلة إليه.
ثم قال تعالى : {وَعْدَ اللَّه لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَه } يعني سيغلبون وعدهم الله وعداً ووعد الله لا خلف فيه ، قوله تعالى : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون وعده وأنه لا خلف في وعده.
ثم قال تعالى : {يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} يعني علمهم منحصر في الدنيا وأيضاً لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهي ملاذها وملاعبها ، ولا يعلمون باطنها وهي مضارها ومتاعبها ويعلمون وجودها الظاهر ، ولا يعلمون فناءها {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ} والمعنى هم عن الآخرة غافلون ، وذكرت هم الثانية لتفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهذا كما يقول القائل لغيره غفلت عن أمري ، فإذا قال هو شغلني فلان فيقول ما شغلك ولكن أنت اشتغلت.
جزء : 25 رقم الصفحة : 83
84
(1/3564)

/ قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم } لما صدر من الكفار الإنكار بالله عند إنكار وعد الله وعدم الخلف فيه كما قال تعالى : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف : 187) والإنكار بالحشر كما قال تعالى : {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ} (الروم : 7) بين أن الغفلة وعدم العلم منهم بتقدير الله وإلا فأسباب التذكر حاصلة وهو (أن) أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وحدانية الله وصدقوا بالحشر ، أما الوحدانية فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ، ولنذكر من حسن خلقهم جزأ من ألف ألف جزء وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها ينهضم غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه ، والآخر لخروج الطعام منه ، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ولا بالرشح ، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجاً صالحاً ، ثم يخرج من المنفذ الآخر ، وخلق تحت المعدة عروقاً دقاقاً صلاباً كالمصفاة التي يصفى بها الشيء فينزل منها الصافي إلى الكبد وينصب الثفل إلى معى مخلوق تحت المعدة مستقيم متوجهاً إلى الخروج ، وما يدخل في الكبد من العروق المذكورة يسمى الماساريقا بالعبرية ، والعبرية عربية مفسودة في الأكثر ، يقال لموسى ميشا وللاله إيل إلى غير ذلك ، فالماساريقا معناها ماساريق اشتمل عليه الكبد وأنضجه نضجاً آخر ، ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق وينذرق في العروق الدقاق المذكورة ، وفي الكبد يستغني عن ذلك الماء فيتميز عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها ، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول ، والجداول إلى سواق ، والسواقي إلى رواضع ويصل فيها إلى جميع البدن ، فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان ، وهذه كفاية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً شاملاً علمه ، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عند إرادة شريكه ضد ما أراده. وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال ، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال فله فناء ضروري ، فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه للفناء عبثاً ، وإليه أشار بقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 84
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون : 115) وهذا ظاهر ، لأن من يفعل شيئاً للعبث فلو بالغ في إحكامه وإتقانه يضحك منه ، فإذا خلقه للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها ، ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الآفاق فقال : {مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } (الروم : 8) فقوله : {إِلا بِالْحَقِّ} إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية ، وقد بينا ذلك في قوله : {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} (العنكبوت : 44) ونعيده فإن التكرير في الذهن يفيد التقرير لذي الذهن ، فنقول إذا كان بالحق لا يكون فيها بطلان / فلا يكون فيها فساد لأن كل فاسد باطل وإذا لم يكن فيها فساد لا تكون آلهة وإلا لكان فيها فساد كما قال تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) وقوله : {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } يذكر بالأصل الآخر الذي أنكروه.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآى ِ رَبِّهِمْ لَكَـافِرُونَ} يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي قوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) قدم دلائل الآفاق ، وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره فإن فهمه السامع المستفيد فذلك وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة ، وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً ، فالمذكور من المفيد آخراً مفهوم عند السامع أولاً ، إذا علم هذا فنقول ههنا الفعل كان منسوباً إلى السامع حيث قال : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم } يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً ، وأما في قوله : {سَنُرِيهِمْ} الأمر منسوب إلى المفيد المسمع فذكر أولاً : الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها ، وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 191) أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} بدلائل الآفاق.
(1/3565)

جزء : 25 رقم الصفحة : 84
المسألة الثانية : وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر ، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو ؟
فنقول وقوع تخريب السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه ، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع ، لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبداً كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً ، والخلق دليل إمكان العدم ، لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم ، فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان ، ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعباً ولهواً كما بين بقوله تعالى : {وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } (العنبكوت : 64) وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث ، والعبث ليس بحق وخلق السموات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه.
المسألة الثالثة : قال ههنا : {كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} وقال من قبل : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلاً على الأصلين ، وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل ، فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل {وَإِنَّ كَثِيرًا} وقبله {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه ، والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن إمكن هو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ، ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 84
84
/ وقال في الدليلين المتقدمين : {أَوَلَمْ يَرَوْا } ولم يقل : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا } إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض وقال ههنا : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا } ذكرهم بحال أمثالهم ووبال أشكالهم ، ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدم من عاد وثمود كانوا أشد منهم قوة ولم تنفعهم قواهم وكانوا أكثر مالاً وعمارة ، ولم يمنع عنهم الهلاك أموالهم وحصونهم ، واعلم أن اعتماد الإنسان على ثلاثة أشياء قوة جسمية فيه أو في أعوانه إذ بها المباشرة وقوة مالية إذ بها التأهب للمباشرة ، وقوة ظهرية يستند إليها عند الضعف والفتور وهي بالحصون والعمائر ، فقال تعالى : كانوا أشد منهم قوة في الجسم وأكثر منهم مالاً لأنهم أثاروا الأرض أي حرثوها ، ومنه بقرة تثير الأرض ، وقيل منه سمي ثوراً ، وأنتم لا حراثة لكم فأموالهم كانت أكثر ، وعمارتهم كانت أكثر لأن أبنيتهم كانت رفيعة وحصونهم منيعة ، وعمارة أهل مكة كانت يسيرة ثم هؤلاء جاءتهم رسلهم بالبينات وأمروهم ونهوهم ، فلما كذبوا أهلكوا فكيف أنتم ، وقوله : {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} يعني لم يظلمهم بالتكليف ، فإن التكليف شريف لا يؤثر له إلا محل شريف ولكن هم ظلموا أنفسهم بوضعها في موضع خسيس ، وهو عبادة الأصنام واتباع إبليس ، فكأن الله بالتكليف وضعهم فيما خلقوا له وهو الربح ، لأنه تعالى قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم ، والوضع في (أي) موضع كان الخلق له ليس بظلم ، وأما هم فوضعوا أنفسهم في مواضع الخسران ولم يكونوا خلقوا إلا للربح فهم كانوا ظالمين ، وهذا الكلام منا وإن كان في الظاهر يشبه كلام المعتزلة لكن العاقل يعلم كيف يقوله أهل السنة ، وهو أن هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته ، لكنه كان منهم ومضافاً إليهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 84
85
(1/3566)

ثم قال تعالى : {ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا السُّواأَى ا أَن كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} / كما قال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } (يونس : 26) وقوله تعالى : {أَن كَذَّبُوا } قيل معناه بأن كذبوا أي كان عاقبتهم ذلك بسبب أنهم كذبوا ، وقيل معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيراً لأساؤا وفي هذه الآية لطائف إحداها : قال في حق الذين أحسنوا : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } وقال في حق من أساء : {ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ} إشارة إلى أن الجنة لهم من ابتداء الأمر فإن الحسنى اسم الجنة والسوآى اسم النار ، فإذا كانت الجنة لهم ومن الابتداء ، ومن له شيء كلما يزداد وينمو فيه فهو له ، لأن ملك الأصل يوجب ملك الثمرة ، فالجنة من حيث خلقت تربو وتنمو للمحسنين ، وأما الذين أساؤا ، فالسوآى وهي جهنم في العاقبة مصيرهم إليها الثانية : ذكر الزيادة في حق المحسن ولم يذكر الزيادة في حق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة مثلها الثالثة : لم يذكر في المحسن أن له الحسنى بأنه صدق ، وذكر في المسيىء أن له السوأى بأنه كذب ، لأن الحسنى للمحسنين فضل والمتفضل لو لم يكن تفضله لسبب يكون أبلغ ، وأما السوآى للمسيىء عدل والعادل إذا لم يكن تعذيبه لسبب لا يكون عدلاً فذكر السبب في التعذيب وهو الإصرار على التكذيب ، ولم يذكر السبب في الثواب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 85
85
لما ذكر أن عاقبتهم إلى الجحيم وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال يبدأ الخلق ، يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة فإليه ترجعون ، ثم بين ما يكون وقت الرجوع إليه فقال :
جزء : 25 رقم الصفحة : 85
85
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم ، والإبلاس يأس مع حيرة ، يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين ، وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمراً غير ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن كان ضرورياً بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار ، ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال ، وهو أن نقول مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي ، ولديه ما يفتخر به ويباهي ، فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد ، ولا يصده صاد ، إذا جاءه لا يبلعه ريقاً ، ولا يترك له إلى الخلاص طريقاً ، فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص فيقول له طفل أو / مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها ، فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمداً على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به ، فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيراً آيساً ، مفتقراً ، فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه ، ويأتيه عذاب يخزيه ، فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس ، وشافعة لك عند خمود الحواس ، فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق ، ويحق عليه عذاب الحريق ، فييأس حينئذٍ أي إياس ويبلس أشد إبلاس. وإليه الإشارة بقوله تعالى : {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآاـاِهِمْ شُفَعَـا ؤا وَكَانُوا بِشُرَكَآاـاِهِمْ كَـافِرِينَ} (الروم : 13) يعني يكفرون بهم ذلك اليوم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 85
85
ثم بين أمراً آخر يكون في ذلك اليوم وهو الافتراق كما قال تعالى في آية أخرى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فكأن هذه الحالة مترتبة على الإبلاس ، فكأنه أولاً يبلس ثم يميز ويجعل فريق في الجنة وفريق في السعير ، وأعاد قوله : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} لأن قيام الساعة أمر هائل فكرره تأكيداً للتخويف ، ومنه اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 85
89
ثم بين كيفية التفرق فقال تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي في جنة يسرون بكل مسرة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 89
91
يعني لا غيبة لهم عنه ولا فتور له عندهم كما قال تعالى : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وقال : {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} (آل عمران : 88) وفي الآيتين مسائل فيها لطائف :
(1/3567)

المسألة الأولى : بدأ بذكر حال الذين آمنوا مع أن الموضع موضع ذكر المجرمين ، وذلك لأن المؤمن يوصل إليه الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب فيكون أنكى ، ولو أدخل الكافر النار أولاً لكان يظن أن الكل في العذاب مشتركون ، فقدم ذلك زيادة في إيلامهم.
/ المسألة الثانية : ذكر في المؤمن العمل الصالح ولم يذكر في الكافر العمل السيىء ، لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان ، فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح ، وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره فلو قال : والذين كفروا وعملوا السيئات في العذاب محضرون ، لكان العذاب لمن يصدر منه المجموع ، فإن قيل فمن يؤمن ويعمل السيئات غير مذكور في القسمين ، فنقول له منزلة بين المنزلتين لا على ما يقوله المعتزلة ، بل هو في الأول في العذاب ولكن ليس من المحضرين دوام الحضور ، وفي الآخرة هو في الرياض ولكنه ليس من المحبورين غاية الحبور كل ذلك بحكم الوعد.
المسألة الثالثة : قال في الأول {فِى رَوْضَةٍ} على التنكير ، وقال في الآخر في العذاب على التعريف ، لتعظيم الروضة بالتنكير ، كما يقال لفلان مال وجاه ، أي كثير وعظيم.
المسألة الرابعة : قال في الأول : {يُحْبَرُونَ} بصيغة الفعل ولم يقل محبورون ، وقال في الآخر : {مُحْضَرُونَ} بصيغة الاسم ولم يقل يحضرون ، لأن الفعل ينبىء عن التجدد والاسم لا يدل عليه فقوله : {يُحْبَرُونَ} يعني يأتيهم كل ساعة أمر يسرون به. وأما الكفار فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 91
92
لما بين الله تعالى عظمته في الابتداء بقوله : {مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} (الروم : 8) وعظمته في الانتهاء ، وهو حين تقوم الساعة ويفترق الناس فريقين ، ويحكم على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ، أمر بتنزيهه عن كل سوء ويحمده على كل حال فقال : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ} أي سبحوا الله تسبيحاً ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في معنى سبحان الله ولفظه ، أما لفظه ففعلان اسم للمصدر الذي هو التسبيح ، سمي التسبيح بسبحان وجعل علماً له. وأما المعنى فقال بعض المفسرين : المراد منه الصلاة ، أي صلوا ، وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس ، وقال بعضهم أراد به التنزيه ، أي نزهوه عن / صفات النقص وصفوه بصفات الكمال ، وهذا أقوى والمصير إليه أولى ، لأنه يتضمن الأول وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب ، وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك ، وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعاً وهو العمل الصالح ، والأول هو الأصل ، والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني ، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئاً ظهر من قلبه على لسانه ، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله وأفعاله ، واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان ، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان ، وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان ، وهو تنزيه في التحقيق ، فإذا قال نزهوني ، وهذا نوع من أنواع التنزيه ، والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه فيكون أيضاً هذا أمراً بالصلاة ، ثم إن قولنا يناسب ما تقدم ، وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} (الروم : 15) قال : إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان والكل تنزيهات وتحميدات ، فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض ، والحضور على الحياض.
جزء : 25 رقم الصفحة : 92
(1/3568)

المسألة الثانية : خص بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح وذلك لأن أفضل الأعمال أدومها ، لكن أفضل الملائكة ملازمون للتسبيح على الدوام كما قال تعالى : {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء : 20) والإنسان ما دام في الدنيا لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح ، لكونه محتاجاً إلى أكل وشرب وتحصيل مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فأشار الله تعالى إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله فيها يكون كأنه لم يفتر وهي الأول والآخر والوسط أول النهار وآخره ووسطه فأمر بالتسبيح في أول الليل ووسطه ، ولم يأمر بالتسبيح في آخر الليل لأن النوم فيه غالب والله منَّ على عباده بالاستراحة بالنوم ، كما قال : {وَمِنْ ءَايَـاتِه مَنَامُكُم بِالَّيْلِ} (الروم : 23) فإذا صلى في أول النهار تسبيحتين وهما ركعتان حسب له صرف ساعتين إلى التسبيح ، ثم إذا صلى أربع ركعات وقت الظهر حسب له صرف أربع ساعات أخر فصارت ست ساعات ، وإذا صلى أربعاً في أواخر النهار وهو العصر حسب له أربع أخرى فصارت عشر ساعات ، فإذا صلى المغرب والعشاء سبع ركعات أخر حصل له صرف سبع عشرة ساعة إلى التسبيح وبقي من الليل والنهار سبع ساعات وهي ما بين نصف الليل وثلثيه لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع/ وهذا القدر لو نام الإنسان فيه لكان كثيراً وإليه أشار تعالى بقوله : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِّصْفَه ا أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْا عَلَيْهِ} (المزمل : 2 ـ 4) وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم ، فيقول الله عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) على سبيل الانحصار بل هم مثلكم / فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين ، واعلم أن في وضع الصلاة في أوقاتها وعدد ركعاتها واختلاف هيئاتها حكمة بالغة ، أما في عدد الركعات فما تقدم من كون الإنسان يقظان في سبع عشرة ساعة ففرض عليه سبع عشرة ركعة ، وأما على مذهب أبي حنيفة حيث قال بوجوب الوتر ثلاث ركعات وهو أقرب للتقوى ، فنقول هو مأخوذ من أن الإنسان ينبغي أن يقلل نومه فلا ينام إلا ثلث الليل مأخوذاً من قوله تعالى :
جزء : 25 رقم الصفحة : 92
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه وَثُلُثَه } ويفهم من هذا أن قيام ثلثي الليل مستحسن مستحب مؤكد باستحباب ولهذا قال عقيبه : {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } (المزمل : 20) ذكر بلفظ التوبة ، وإذا كان كذلك يكون الإنسان يقظان في عشرين ساعة فأمر بعشرين ركعة ، وأما النبي عليه السلام فلما كان من شأنه أن لا ينام أصلاً كما قال : "تنام عيناي ولا ينام قلبي" جعل له كل الليل كالنهار فزيد له التهجد فأمر به ، وإلى هذا أشار تعالى في قوله : {وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَه وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} (الإنسان : 26) أي كل الليل لك للتسبيح فصار هو في أربع وعشرين ساعة مسبحاً ، فصار من الذين لا يفترون طرفة عين ، وأما في أوقاته فما تقدم أيضاً أن الأول والآخر والوسط هو المعتبر فشرع التسبيح في أول النهار وآخره ، وأما الليل فاعتبر أوله ووسطه كما اعتبر أول النهار ووسطه ، وذلك لأن الظهر وقته نصف النهار والعشاء وقته نصف الليل لأنا بينا أن الليل المعتبر هو المقدار الذي يكون الإنسان فيه يقظان وهو مقدار خمس ساعات فجعل وقته في نصف هذا القدر وهو الثلاثة من الليل ، وأما أبو حنيفة لما رأى وجوب الوتر كان زمان النوم عنده أربع ساعات وزمان اليقظة بالليل ثمان ساعات وأخر وقت العشاء الآخرة إلى الرابعة والخامسة ، ليكون في وسط الليل المعتبر ، كما أن الظهر في وسط النهار ، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم لما كان ليله نهاراً ونومه انتباهاً قال : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وتأخير العشاء إلى نصف الليل" ليكون الأربع في نصف الليل كما أن الأربع في نصف النهار ، وأما التفصيل فالذي يتبين لي أن النهار اثنتا عشرة ساعة زمانية والصلاة المؤداة فيها عشر ركعات فيبقى على المكلف ركعتان يؤديهما في أول الليل ويؤدي ركعة من صلاة الليل ليكون ابتداء الليل بالتسبيح كما كان ابتداء النهار بالتسبيح ، ولما كان المؤدى من تسبيح النهار في أوله ركعتين كان المؤدى من تسبيح الليل في أوله ركعة لأن سبح النهار طويل مثل ضعف سبح الليل ، لأن المؤدى في النهار عشرة والمؤدى في الليل من تسبيح الليل خمس.
جزء : 25 رقم الصفحة : 92
(1/3569)

المسألة الثانية : في فضيلة السبحلة والحمدلة في المساء والصباح ، ولنذكرها من حيث النقل والعقل ، أما النقل فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال لبعض أصحابه : "أتعجز عن أن تأتي وقت النوم بألف حسنة ؟
فتوقف فقال النبي عليه السلام : قل سبحان الله والحمد لله والله أكبر مائة مرة يكتب لك بها ألف حسنة" وسمعته يقول رحمه الله مسنداً "من قال خلف كل صلاة مكتوبة عشر مرات سبحان الله وعشر / مرات الله أكبر أدخل الجنة" وأما العقل فهو أن الله تعالى له صفات لازمة لا من فعله وصفات ثابتة له من فعله/ أما الأولى فهي صفات كمال وجلال خلافها نقص ، فإذا أدرك المكلف الله بأنه لا يجوز أن يخفي عليه شيء لكونه عالماً بكل شيء فقد نزهه عن الجهل ووصفه بضده ، وإذا عرفه بأنه لا يعجز عن شيء لكونه قادراً على كل شيء فقد نزهه عن العجز ، وإذا علم أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لكونه مريداً لكل كائن فقد وصفه ونزهه ، وإذا ظهر له أنه لا يجوز عليه الفناء لكونه واجب البقاء فقد نزهه ، وإذا بان له أنه لا يسبقه العدم لاتصافه بالقدم فقد نزهه ، وإذا لاح له أنه لا يجوز أن يكون عرضاً أو جسماً أو في مكان لكونه واجباً بريئاً عن جهات الإمكان فقد نزهه. لكن صفاته السلبية والإضافية لا يعدها عاد ولو اشتغل بها واحد لأفنى فيها عمره ولا يدرك كنهها. فإذا قال قائل مستحضراً بقلبه سبحان الله متنبهاً لما يقوله من كونه منزهاً له عن كل نقص فإتيانه بالتسبيح على هذا الوجه من الإجمال يقوم مقام إتيانه به على سبيل التفصيل ، لكن لا ريب في أن من أتى بالتسبيح عن كل واحد على حدة مما لا يجوز على الله يكون قد أتى بما لا تفي به الأعمار ، فيقول هذا العبد أتى بتسبيحي طول عمره ومدة بقائه فأجازيه بأن أطهره عن كل ذنب وأزينه بخلع الكرامة وأنزله بدار المقامة مدة لا انتهاء لها ، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار وآخره ووسطه ، فإن الله تعالى يطهره في أوله وهو دنياه وفي آخره وهو عقباه وفي وسطه وهو حالة كونه في قبره الذي يحويه إلى أوان حشره وهو مغناه. وأما الثانية وهو صفات الفعل فالإنسان إذا نظر إلى خلق الله السموات يعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله ، فإذا رأى الشمس فيها بازغة فيعلم أنها نعمة وكرامة فيقول الحمد لله ، وكذلك القمر وكل كوكب والأرض وكل نبات وكل حيوان يقول الحمد لله ، لكن الإنسان لو حمد الله على كل شيء على حدة لا يفي عمره به ، فإذا استحضر في ذهنه النعم التي لا تعد كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) ويقول الحمد لله على ذلك فهذا الحمد على وجه الإجمال يقوم منه مقام الحمد على سبيل التفصيل ، ويقول عبدي استغرق عمره في حمدي وأنا وعدت الشاكر بالزيادة فله علي حسنة التسبيح الحسنى وله على حمده الزيادة ثم إن الإنسان إذا استغرق في صفات الله قد يدعوه عقله إلى التفكر في الله تعالى بعد التفكر في آلاء الله ، فكل ما يقع في عقله من حقيقته فينبغي أن يقول الله أكبر مما أدركه ، لأن المدركات وجهات الإدراكات لا نهاية لها ، فإن أراد أن يقول على سبيل التفصيل الله أكبر من هذا الذي أدركته من هذا الوجه وأكبر مما أدركته من ذلك الوجه وأكبر مما أدركته من وجه آخر يفني عمره ولا يفي بإدراك جميع الوجوه التي يظن الظان أنه مدرك لله بذلك الوجه ، فإذا قال مع نفسه الله أكبر أي من كل ما أتصوره بقوة عقلي وطاقة إدراكي يكون متوغلاً في العرفان وإليه الإشارة بقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 92
العجز عن درك الإدراك إدراك
فقول القائل المستيقظ : "سبحان الله والحمد لله والله أكبر" مفيد لهذه الفوائد ، لكن شرطه / أن يكون كلاماً معتبراً وهو الذي يكون من صميم القلب لا الذي يكون من طرف اللسان.
المسألة الرابعة : قوله : {وَعَشِيًّا} عطف على {حِينَ} أي سبحوه حين تمسون وحين تصبحون وعشياً ، وقوله : {وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بين لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه وهذا كما في قوله تعالى : {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ا قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاـاكُمْ لِلايمَـانِ} (الحجرات : 17).
(1/3570)

المسألة الخامسة : قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخره في قوله : {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} (الأحزاب : 42) وذلك لأن ههنا أول الكلام ذكر الحشر والإعادة من قوله : {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه } (الروم : 11) إلى قوله : {فَ أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (الروم : 16) وآخر هذه الآية أيضاً ذكر الحشر والإعادة بقوله : {وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ} والإمساء آخر فذكر الآخر ليذكر الآخرة.
المسألة السادسة : في تعلق إخراج الحي من الميت والميت من الحي بما تقدم عليه هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة ، وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم ، واختلف المفسرون في قوله : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فقال أكثرهم : يخرج الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة ، وكذلك الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان ، وقال بعضهم المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، ويمكن أن يقال المراد : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي اليقظان من النائم والنائم من اليقظان ، وهذا يكون قد ذكره للتمثيل أي إحياء الميت عنده وإماتة الحي كتنبيه النائم وتنويم المنتبه.
ثم قال تعالى : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ} وفي هذا معنى لطيف وهو أن الإنسان بالموت تبطل حيوانيته وأما نفسه الناطقة فتفارقه وتبقى بعده كما قال تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا } (آل عمران : 169) لكن الحيوان نام متحرك حساس لكن النائم لا يتحرك ولا يحس والأرض الميتة لا يكون فيها نماء ، ثم إن النائم بالانتباه يتحرك ويحس والأرض الميتة بعد موتها تنمو بنباتها فكما أن تحريك ذلك الساكن وإنماء هذا الواقف سهل على الله تعالى كذلك إحياء الميت سهل عليه وإلى هذا أشار بقوله : {وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 92
93
(1/3571)

لما أمر الله تعالى بالتسبيح عن الأسواء وذكر أن الحمد له على خلق جميع الأشياء وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ} إلى قوله : {وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ} (الروم : 16 ـ 20) ذكر ما هو حجة ظاهرة وآية / باهرة على ذلك ومن جملتها خلق الإنسان من تراب وتقريره هو أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الأحياء ، وذلك من حيث كيفيته فإنه بارد يابس والحياة بالحرارة والرطوبة ، ومن حيث لونه فإنه كدر والروح نير ، ومن حيث فعله فإنه ثقيل والأرواح التي بها الحياة خفيفة ، ومن حيث السكون فإنه بعيد عن الحركة والحيوان يتحرك يمنة ويسرة وإلى خلف وإلى قدام وإلى فوق وإلى أسفل ، وفي الجملة فالتراب أبعد من قبول الحياة عن سائر الأجسام لأن العناصر أبعد من المركبات لأن المركب بالتركيب أقرب درجة من الحيوان والعناصر أبعدها التراب لأن الماء فيه الصفاء والرطوبة والحركة وكلها على طبع الأرواح والنار أقرب لأنها كالحرارة الغريزية منضجة جامعة مفرقة ثم المركبات وأول مراتبها المعدن فإنه ممتزج ، وله مراتب أعلاها الذهب وهو قريب من أدنى مراتب النبات وهي مرتبة النبات الذي ينبت في الأرض ولا يبرز ولا يرتفع ، ثم النباتات وأعلى مراتبها وهي مرتبة الأشجار التي تقبل التعظيم ، ويكون لثمرها حب يؤخذ منه مثل تلك الشجرة كالبيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة قريبة من أدنى مراتب الحيوانات وهي مرتبة الحشرات التي ليس لها دم سائل ولا هي إلى المنافع الجليلة وسائل كالنباتات ، ثم الحيوان وأعلى مراتبها قريبة من مرتبة الإنسان فإن الأنعام ولا سيما الفرس تشبه العتال والحمال والساعي ، ثم الإنسان ، وأعلى مراتب الإنسان قريبة من مرتبة الملائكة المسبحين لله الحامدين له فالله الذي خلق من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء حياً هو في أعلى المراتب لا يكون إلا منزهاً عن العجز والجهل ، ويكون له الحمد على إنعام الحياة ، ويكون له كمال القدرة ونفوذ الإرادة فيجوز منه الإبداء والإعادة ، وفي الآية لطيفتان إحداهما : قوله : {إِذَآ} وهي للمفاجأة يقال خرجت فإذا أسد بالباب وهو إشارة إلى أن الله تعالى خلقه من تراب بكن فكان لا أنه صار معدناً ثم نباتاً ثم حيواناً ثم إنساناً وهذا إشارة إلى مسألة حكمية ، وهي أن الله تعالى يخلق أولاً إنساناً فينبهه أنه يحيي حيواناً ونامياً وغير ذلك لا أنه خلق أولاً حيواناً ، ثم يجعله إنساناً فخلق الأنواع هو المراد الأول ، ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى ، فالله تعالى جعل المرتبة الأخيرة في الشيء البعيد عنها غاية من غير انتقال من مرتبة إلى مرتبة من المراتب التي ذكرناها اللطيفة الثانية : قوله : {بَشَرٌ} إشارة إلى القوة المدركة لأن البشر بشر لا بحركته ، فإن غيره من الحيوانات أيضاً كذلك وقوله : {تَنتَشِرُونَ} إلى القوة المحركة وكلاهما من التراب عجيب ، أما الإدراك فلكثافته وجموده ، وأما الحركة فلثقله وخموده وقوله : {تَنتَشِرُونَ} إشارة إلى أن العجيبة غير مختص بخلق الإنسان من التراب بل خلق الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب فضلاً عن خلق البشر ، وفي الآية مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 93
المسألة الأولى : وهي أن الله خلق آدم من تراب وخلقنا منه فكيف قال : {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : ما قيل إن المراد من قوله : {خَلَقَكُمْ} أنه خلق أصلكم والثاني : أن نقول : إن كل بشر مخلوق من التراب ، أما آدم فظاهر ، وأما نحن فلأنا خلقنا من / نطفة والنطفة من صالح الغذاء الذي هو بالقوة بعض من الأعضاء/ والغذاء إما من لحوم الحيوانات وألبانها وأسمانها ، وإما من النبات والحيوان أيضاً له غذاء هو النبات لكن النبات من التراب ، فإن الحبة من الحنطة والنواة من الثمرة لا تصير شجرة إلا بالتراب وينضم إليها أجزاء مائية ليصير ذلك النبات بحيث يغذو.
(1/3572)

المسألة الثانية : قال تعالى في موضع آخر : {خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا} (الفرقان : 2) وقال : {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} (المرسلات : 20) وههنا قال من : {تُرَابٍ} فكيف الجمع ؟
قلنا أما على الجواب الأول : فالسؤال زائل ، فإن المراد منه آدم ، وأما على الثاني : فنقول ههنا قال ما هو أصل أول ، وفي ذلك الموضع قال ما هو أصل ثان لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعاً وهو المني ، ثم ينعقد ويتكون بخلق الله منه إنساناً أو نقول الإنسان له أصلان ظاهران الماء والتراب فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ففي النبات الذي هو أصل غذاء الإنسان تراب وماء فإن جعل التراب أصلاً والماء لجمع أجزائه المتفتتة فالأمر كذلك وإن جعل الأصل هو الماء والتراب لتثبيت أجزائه الرطبة من السيلان فالأمر كذلك ، فإن قال قائل الله تعالى يعلم كل شيء فهو يعلم أن الأصل ماذا هو منهما ، وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك ، فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال : {مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا} وإن كان الماء فكيف قال : {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} وإن كانا هما أصلين فلم لم يقل خلقكم منهما فنقول فيه لطيفة ، وهي أن كون التراب أصلاً والماء أصلاً والماء ليس لذاتيهما ، وإنما هو يجعل الله تعالى فإن الله نظراً إلى قدرته كان له أن يخلق أول ما يخلق الإنسان ثم يفنيه ويحصل منه التراب ثم يذوبه ويحصل منه الماء ، لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل يكون وسيلة إلى الناقص فخلق التراب والماء أولاً ، وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان ، فإن كان كونهما أصلين ليس أمراً ذاتياً لهما بل بجعل جاعل فتارة جعل الأصل التراب وتارة الماء ليعلم أنه بإرادته واختياره ، فإن شاء جعل هذا أصلاً وإن شاء جعل ذلك أصلاً ، وإن شاء جعلهما أصلين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 93
المسألة الثالثة : قال الحكماء : إن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار ، وقالوا التراب فيه لثباته ، والماء لاستمساكه ، فإن التراب يتفتت بسرعة ، والهواء لاستقلاله كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ولولاه لما كان فيه استقلال ولا انتصاب ، والنار للنضج والالتئام بين هذه الأشياء ، فهذا هذا صحيح أم لا ؟
فإن كان صحيحاً فكيف اعتبر الأمرين فحسب ولم يقل في موضع آخر إنه خلقكم من نار ولا من ريح ؟
فنقول أما قولهم فلا مفسدة فيه من حيث الشرع فلا ننازعهم فيه إلا إذا قالوا بأنه بالطبيعة كذلك ، وأما إن قالوا بأن الله بحكمته خلق الإنسان من هذه الأشياء فلا ننازعهم فيه ، وأما الآيات فنقول ما ذكرتم لا يخالف هذا لأن الهواء جعلتموه للاستقلال والنار للنضج فهما يكونان بعد امتزاج الماء بالتراب ، فالأصل الموجود أولاهما لا غير / فلذلك خصهما ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء ولا سيما كونهما في الإنسان ظاهر لكل أحد فخص الظاهر المحسوس بالذكر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 93
93
لما بين الله خلق الإنسان بين أنه لما خلق الإنسان ولم يكن من الأشياء التي تبقى وتدوم سنين متطاولة أبقى نوعه بالأشخاص وجعله بحيث يتوالد ، فإذا مات الأب يقوم الابن مقامه لئلا يوجب فقد الواحد ثلمة في العمارة لا تنسد ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {خَلَقَ لَكُم} دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع ، كما قال تعالى : {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ} (البقرة : 29) وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف فنقول خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى ، أما النقل فهذا وغيره ، وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها ، وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي لكن الصبي ، لم يكلف فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف ، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم ، ولولا ذلك لظهر الفساد.
المسألة الثانية : قوله : {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} بعضهم قال : المراد منه أن حواء خلقت من جسم آدم والصحيح أن المراد منه من جنسكم كما قال تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) ويدل عليه قوله : {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم : 21) يعني أن الجنسين الحيين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه.
المسألة الثالثة : يقال سكن إليه للسكون القلبي ويقال سكن عنده للسكون الجسماني ، لأن كلمة عند جاءت لظرف المكان وذلك للأجسام وإلى للغاية وهي للقلوب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 93
(1/3573)

المسألة الرابعة : قوله : {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } فيه أقوال قال بعضهم : مودة بالمجامعة ورحمة بالولد تمسكاً بقوله تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} (مريم : 2) وقال بعضهم محبة حالة حاجة نفسه ، ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه ، وهذا لأن الإنسان يحب مثلاً ولده ، فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك ، وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب / الرحمة ويمكن أن يقال ذكر من قبل أمرين أحدهما : كون الزوج من جنسه والثاني : ما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه فالجنسية توجب السكون وذكر ههنا أمرين أحدهما : يفضي إلى الآخر فالمودة تكون أولاً ثم إنها تفضي إلى الرحمة ، ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها وبالعكس وقوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ} يحتمل أن يقال المراد إن في خلق الأزواج لآيات ، ويحتمل أن يقال في جعل المودة بينهم آيات أما الأول : فلا بد له من فكر لأن خلق الإنسان من الوالدين يدل على كمال القدرة ونفوذ الإرادة وشمول العلم لمن يتفكر ولو في خروج الولد من بطن الأم ، فإن دون ذلك لو كان من غير الله لأفضى إلى هلاك الأم وهلاك الولد أيضاً لأن الولد لو سل من موضع ضيق بغير إعانة الله لمات وأما الثاني : فكذلك لأن الإنسان يجد بين القرينين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام وليس ذلك بمجرد الشهوة فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة فهو من الله ولو كان بينهما مجرد الشهوة والغضب كثير الوقوع وهو مبطل للشهوة والشهوة غير دائمة في نفسها لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حريم حرمه هي من عند الله ولا يعلم ذلك إلا بفكر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 93
94
لما بين دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق وأظهرها خلق السموات والأرض ، فإن بعض الكفار يقول في خلق البشر وغيره من المركبات إنه بسبب ما في العناصر من الكيفيات وما في السموات من الحركات وما فيها من الاتصالات فإذا قيل له فالسماء والأرض لم تكن لامتزاج العناصر واتصالات الكواكب فلا يجد بداً من أن يقول ذلك بقدرة الله وإرادته ثم لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحداً منهم مع كثرة عددهم وصغر حجم خدودهم وقدودهم لا يشتبه بغيره والسموات مع كبرها وقلة عددها مشتبهات في الصورة والثاني : اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوباً عنهما لا يبصرهما يقول هذا صوت فلان وهذا صوت فلان الآخر وفيه حكمة بالغة وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه ، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه ، وذلك قد يكون بالبصر فخلق / اختلاف الصور وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات ، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع بها التمييز ، ومن الناس من قال المراد اختلاف اللغة كالعربية والفارسية والرومية وغيرها والأول أصح ، ثم قال تعالى : {لايَـاتٍ لِّلْعَـالِمِينَ} لما كان خلق السموات والأرض لم يحتمل الاحتمالات البعيدة التي يقولها أصحاب الطبائع واختلاف الألوان كذلك واختلاف الأصوات كذلك قال : {لِّلْعَـالِمِينَ} لعموم العلم بذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 94
96
لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو اختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة طلباً للرزق بالنهار ، فذكر من اللوازم أمرين ، ومن المفارقة أمرين ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} قيل أراد به النوم بالليل والنوم بالنهار وهي القيلولة : ثم قال : {وَابْتِغَآؤُكُم} أي فيهما فإن كثيراً ما يكتسب الإنسان بالليل ، وقيل أراد منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف البعض بالبعض ، ويدل عليه آيات أخر. منها قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِا فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ} (الإسراء : 12) وقوله : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ : 10 ، 11) ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله ، فأخر الابتغاء وقرته في اللفظ بالفعل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه ، بل يرى كل ذلك من فضل ربه ، ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع ، منها قوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة : 10) وقوله : {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه } (النحل : 14).
(1/3574)

المسألة الثانية : قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر ، لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة ، فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل.
المسألة الثالثة : قال : {فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال من قبل : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال : {لِّلْعَـالِمِينَ} فنقول المنام بالليل والابتغاء من فضله يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله فلم يقل آيات للعالمين ولأن الأمرين الأولين وهو اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان ، فإنهما يدومان بدوام الإنسان / فجعلهما آيات عامة ، وأما قوله : {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فاعلم أن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر ، ومنها ما يكفي فيه مجرد الفكرة ، ومنها ما لا يخرج بالفكر بل يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه ، فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ، ومنها ما يحتاج إلى بعض الناس في تفهمه إلى أمثلة حسية كالأشكال الهندسية لكن خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكر خامد الذكر ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد ، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة ، فقال : {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد.
جزء : 25 رقم الصفحة : 96
97
لما ذكر العرضيات التي للأنفس اللازمة والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق ، وقال : {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لما قدم دلائل الأنفس ههنا قدم العرضيات التي للأنفس وأخر العرضيات التي للآفاق كما أخر دلائل الآفاق ، بقوله : {وَمِنْ ءَايَـاتِه خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الروم : 22).
المسألة الثانية : قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والابتغاء ، وقدم في الآفاق العوارض المفارقة على اللوازم حيث قال : {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ} وذلك لأن الإنسان متغير الحال والعوارض له غير بعيدة ، وأما اللوازم فيه فقريبة. وأما السموات والأرض فقليلة التغير فالعوارض فيها أغرب من اللوازم ، فقدم ما هو أعجب لكونه أدخل في كونه آية ونزيده بياناً فنقول : الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم وله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز عن غيره ، وهو يتغير في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة ، والسماء والأرض ثابتان لا يتغيران ، ثم يرى في بعض الأحوال أمطار هاطلة وبروق هائلة ، والسماء كما كانت والأرض كذلك ، فهو آية دالة على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحل ويزيل أمراً مع ثبات المحل.
المسألة الثالثة : كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء.
المسألة الرابعة : كما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع ، كذلك في تقدم البرق والرعد على المطر منفعة ، وذلك لأن البرق إذا لاح ، فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال / فيستعد له ، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء ، وأيضاً العرب من أهل البوادي فلا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب ، واعلم أن فوائد البرق وإن لم تظهر للمقيمين بالبلاد فهي ظاهرة للبادين ولهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة ، وآية ، وأما كونه آية فظاهر فإن في السحاب ليس إلا ماء وهواء وخروج النار منها بحيث تحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق هو الله ، قالت الفلاسفة السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء. فالهواء ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت ريح قوية تخرق السحاب بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار كمساس جسم جسماً بعنف ، وهذا كما أن النار تخرج من وقوع الحجر على الحديد فإن قال قائل الحجر والحديد جسمان صلبان والسحاب والريح جسمان رطبان ، فيقولون لكن حركة يد الإنسان ضعيفة وحركة الريح قوية تقلع الأشجار ، فنقول لهم البرق والرعد أمران حادثان لا بد لهما من سبب ، وقد علم بالبرهان كون كل حادث من الله فهما من الله ، ثم إنا نقول هب أن الأمر كما تقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة لا بد من سبب وينتهي إلى واجب الوجود ، فهو آية للعاقل على قدرة الله كيفما فرضتم ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 97
(1/3575)

المسألة الخامسة : قال ههنا : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة ، لأن المطرد أقرب إلى الطبيعة من المختلف ، لكن البرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير متخلف إذ يقع ببلدة دون بلدة وفي وقت دون وقت وتارة تكون قوية وتارة تكون ضعيفة فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار/ فقال هو آية لمن له عقل إن لم يتفكر تفكراً تاماً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 97
98
لما ذكر من العوارض التي للسماء والأرض بعضها ، ذكر من لوازمها البعض وهي قيامها ، فإن الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد ، وهذا من اللوازم ، فإن الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه والسماء كذلك لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه فإن قيل إنها تتحرك في مكانها كالرحى ولكن اتفق العقلاء على أنها في مكانها لا تخرج عنه ، وهذه آية ظاهرة لأن كونهما في الموضع الذي هما فيه وعلى الموضع / الذي هما عليه من الأمور الممكنة ، وكونهما في غير ذلك الموضع جائز ، فكان يمكن أن يخرجا منه فلما لم يخرجا كان ذلك ترجيحاً للجائز على غيره ، وذلك لا يكون إلا بفاعل مختار ، والفلاسفة قالوا كون الأرض في المكان الذي هي فيه طبيعي لها لأنها أثقل الأشياء والثقيل يطلب المركز والخفيف يطلب المحيط والسماء كونها في مكانها إن كانت ذات مكان فلذاتها فقيامهما فيهما بطبعهما ، فنقول قد تقدم مراراً أن القول بالطبيعة باطل ، والذي نزيده ههنا أنكم وافقتمونا بأن ما جاز على أحد المثلين جاز على المثل الآخر ، لكن مقعر الفلك لا يخالف محدبه في الطبع فيجوز حصول مقعره في موضع محدبة ، وذلك بالخروج والزوال فإذن الزوال عن المكان ممكن لا سيما على السماء الدنيا فإنها محددة الجهات على مذهبكم أيضاً والأرض كانت تجوز عليها الحركة الدورية ، كما تقولون على السماء فعدمها وسكونها ليس إلا بفاعل مختار وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الله من كل باب أمرين ، أما من الأنفس فقوله : {خَلَقَ لَكُم} استدل بخلق الزوجين ومن الآفاق السماء والأرض في قوله : {خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارضه المنام والابتغاء ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ومن لوازمها قيام السماء وقيام الأرض ، لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني : يفيد الاستقرار بالحق ، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يفيد الظن وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام : {بَلَى ا وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } (البقرة : 260).
جزء : 25 رقم الصفحة : 98
المسألة الثانية : قوله : {بِأَمْرِه } أي بقوله : قوما أو بإرادته قيامهما ، وذلك لأن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة ، وعندنا ليس كذلك ولكن النزاع في الأمر الذي للتكليف لا في الأمر الذي للتكوين ، فإنا لا ننازعهم في أن قوله : {كُنَّ} و{كُونُوا } {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى} موافق للإرادة.
المسألة الثالثة : قال ههنا : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَن تَقُومَ} وقال قبله : {وَمِنْ ءَايَـاتِه يُرِيكُمُ} ولم يقل أن يريكم ، وإن قال بعض المفسرين إن أن مضمرة هناك معناه من آياته أن يريكم ليصير كالمصدر بأن ، وذلك لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل وجعله مصدراً ، لأن المستقبل ينبىء عن التجدد ، وفي البرق لما كان ذلك من الأمور التي تتجدد في زمان دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه شيئاً من الحروف المصدرية.
المسألة الرابعة : ذكر ستة دلائل ، وذكر في أربعة منها إن في ذلك لآيات ، ولم يذكر في الأول وهو قوله : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} (الروم : 20) ولا في الآخر وهو قوله : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالارْضُ} (الروم : 25) أما في الأول فلأن قوله بعده : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُم} أيضاً دليل الأنفس/ فخلق الأنفس وخلق الأزواج من باب واحد ، على ما بينا ، غير أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير بالتكرير ، فإذا قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ} كان عائداً إليهما ، وأما في قيام السماء والأرض فنقول في الآيات السماوية ذكر أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون لظهورها / فلما كان في أول الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الدلائل يكون أظهر ، فلم يميز أحداً عن أحد في ذلك ، وذكر ما هو مدلوله وهو قدرته على الإعادة ، وقال : {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الارْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} وفيها مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه العطف يتم ، وبم تعلق ثم ؟
فنقول معناه والله أعلم إنه تعالى إذا بين لكم كمال قدرته بهذه الآيات بعد ذلك يخبركم ويعلمكم أنه إذا قال للعظام الرميمة اخرجوا من الأجداث يخرجون أحياء.
(1/3576)

جزء : 25 رقم الصفحة : 98
المسألة الثانية : قول القائل دعا فلان فلاناً من الجبل يحتمل أن يكون الدعاء من الجبل كما يقول القائل يا فلان إصعد إلى الجبل ، فيقال دعاه من الجبل ويحتمل أن يكون المدعو يدعى من الجبل كما يقول القائل يا فلان انزل من الجبل ، فيقال دعاه من الجبل ، ولا يخفى على العاقل أن الدعاء لا يكون من الأرض إذا كان الداعي هو الله ، فالمدعو يدعى من الأرض يعني أنتم تكونون في الأرض فيدعوكم منها فتخرجون.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {إِذَآ أَنتُم} قد بينا أنه للمفاجأة يعني يكون ذلك بكن فيكون.
المسألة الرابعة : قال ههنا إذا أنتم تخرجون ، وقال في خلق الإنسان أولاً : {ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (الروم : 20) فنقول هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه ، فإذا هو بشر ، وأما في الإعادة لا يكون تدريج وتراخ بل يكون نداء وخروج ، فلم يقل ههنا ثم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 98
98
لما ذكر الآيات وكان مدلولها القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر ، والوحدانية التي هي الأصل الأول ، أشار إليها بقوله : {وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } يعني لا شريك له أصلاً لأن كل من في السموات وكل من في الأرض ، ونفس السموات والأرض له وملكه ، فكل له منقادون قانتون ، والشريك يكون منازعاً مماثلاً ، فلا شريك له أصلاً ثم ذكر المدلول الآخر ، فقال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } أي في نظركم الإعادة أهون من الإبداء / لأن من يفعل فعلاً أولاً يصعب عليه ، ثم إذا فعل بعد ذلك مثله يكون أهون ، وقيل المراد هو هين عليه كما قيل في قول القائل الله أكبر أي كبير ، وقيل المراد هو أهون عليه أي الإعادة أهون على الخالق من الإبداء لأن في البدء يكون علقة ثم مضغة ثم لحماً ثم عظماً ثم يخلق بشراً ثم يخرج طفلاً يترعرع إلى غير ذلك فيصعب عليه ذلك كله ، وأما في الإعادة فيخرج بشراً سوياً بكن فيكون أهون عليه ، والوجه الأول أصح وعليه نتكلم فنقول هو أهون يحتمل أن يكون ذلك لأن في البدء خلق الأجزاء وتأليفها والإعادة تأليف ولا شك أن الأمر الواحد أهون من أمرين ولا يلزم من هذا أن يكون غيره فيه صعوبة ، ولنبين هذا فنقول الهين هو ما لا يتعب فيه الفاعل ، والأهون ما لا يتعب فيه الفاعل بالطريق الأولى ، فإذا قال قائل إن الرجل القوي لا يتعب من نقل شعيرة من موضع إلى موضع وسلم السامع له ذلك ، فإذا قال فكونه لا يتعب من نقل خردلة يكون ذلك كلاماً معقولاً مبقي على حقيقته.
جزء : 25 رقم الصفحة : 98
ثم قال تعالى : {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي قولنا هو أهون عليه يفهم منه أمران أحدهما : هو ما يكون في الآخر تعب كما يقال إن نقل الخفيف أهون من نقل الثقيل والآخر : هو ما ذكرنا من الأولوية من غير لزوم تعب في الآخر فقوله : {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } إشارة إلى أن كونه أهون بالمعنى الثاني لا يفهم منه الأول وههنا فائدة ذكرها صاحب "الكشاف" وهي أن الله تعالى قال في موضع آخر : {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} (مريم : 21) وقال ههنا : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } فقدم هناك كلمة على وأخرها هنا ، وذلك لأن المعنى الذي قال هناك إنه هين هو خلق الولد من العجوز وأنه صعب على غيره وليس بهين إلا عليه فقال : {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} يعني لا على غيري ، وأما ههنا المعنى الذي ذكر أنه أهون هو الإعادة والإعادة على كل مبدىء أهون فقال : وهو أهون عليه لا على سبيل الحصر ، فالتقديم هناك كان للحصر ، وقوله تعالى : {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } على الوجه الأول وهو قولنا أهون عليه بالنسبة إليكم له معنى وعلى الوجه الذي ذكرناه له معنى أما على الوجه الأول فلما قال : {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } وكان ذلك مثلاً مضروباً لمن في الأرض من الناس فيفيد ذلك أن له المثل الأعلى من أمثلة الناس وهم أهل الأرض ولا يفيد أن له المثل الأعلى من أمثلة الملائكة فقال : {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } يعني هذا مثل مضروب لكم {وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى } من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات ، وأما على الوجه الثاني فمعناه أن له المثل الأعلى أي فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به/ لكن ذاته ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وهو منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل المثل الأعلى أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله ، وقوله تعالى : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي كامل القدرة على الممكنات ، شامل العلم بجميع الموجودات ، فيعلم الأجزاء في الأمكنة ويقدر على جمعها وتأليفها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 98
99
(1/3577)

/ لما بين الإعادة والقدرة عليها بالمثل بعد الدليلين بين الوحدانية أيضاً بالمثل بعد الدليل ، ومعناه أن يكون له مملوك لا يكون شريكاً له في ماله ولا يكون له حرمة مثل حرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله تعالى حتى يعبدوا ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ينبغي أن يكون بين المثل والممثل به مشابهة ما ، ثم إن كان بينهما مخالفة فقد يكون مؤكداً لمعنى المثل وقد يكون موهناً له وههنا وجه المشابهة معلوم ، وأما المخالفة فموجودة أيضاً وهي مؤكدة وذلك من وجوه أحدها : قوله : {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني ضرب لكم مثلاً من أنفسكم مع حقارتها ونقصانها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع عظمها وكمالها وقدرتها وثانيها : قوله : {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ} يعني عبدكم لكم عليهم ملك اليد وهو طار (ىء) قابل للنقل والزوال ، أما النقل فبالبيع وغيره والزوال بالعتق ومملوك الله لا خروج له من ملك الله بوجه من الوجوه ، فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكاً لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه ، بل هو في الحال مثلكم في الآدمية حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقتل وقطع وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة ، فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه شريكاً له وثالثها : قوله : {مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـاكُمْ} يعني الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو من الله ومن رزقه والذي من الله فهو في الحقيقة له فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك في مالكم من حيث الاسم ، فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما له من حيث الحقيقة وقوله : {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء مما يملكه ، لكن كل شيء فهو لله فما تدعون إلهيته لا يملك شيئاً أصلاً ولا مثقال ذرة من خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم منه ، وأما قولكم هؤلاء شفعاؤنا فليس كذلك ، لأن المملوك هل له عندكم حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة ، فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من / الوجوه وإلى هذا أشار بقوله : {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } (الروم : 28).
جزء : 25 رقم الصفحة : 99
المسألة الثانية : بهذا نفى جميع وجوه حسن العبادة عن الغير لأن الأغيار إذا لم يصلحوا للشركة فليس لهم ملك ولا ملك ، فلا عظمة لهم حتى يعبدوا لعظمتهم ولا يرتجى منهم منفعة لعدم ملكهم حتى يعبدوا لنفع وليس لهم قوة وقدرة لأنهم عبيد والعبد المملوك لا يقدر على شيء فلا تخافوهم كما تخافون أنفسكم ، فكيف تخافونهم خوفاً أكثر من خوفكم بعضاً من بعض حتى تعبدوهم للخوف.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي نبينها بالدلائل والبراهين القطعية والأمثلة والمحاكيات الاقناعية لقوم يعقلون ، يعني لا يخفى الأمر بعد ذلك إلا على من لا يكون له عقل.
جزء : 25 رقم الصفحة : 99
99
ثم قال تعالى : {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍا فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّه وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم من غير علم وأثبتوا شركاء من غير دليل ، ثم بين أن ذلك بإرادة الله بقوله : {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّه } أي هؤلاء أضلهم الله فلا هادي لهم ، فينبغي أن لا يحزنك قولهم ، وههنا لطيفة وهي أن قوله : {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّه } مقو لما تقدم وذلك لأنه لما قال لأن الله لا شريك له بوجه ما ثم قال تعالى بل المشركون يشركون من غير علم ، يقال فيه أنت أثبت لهم تصرفاً على خلاف رضاه والسيد العزيز هو الذي لا يقدر عبده على تصرف يخالف رضاه ، فقال : إن ذلك ليس باستقلاله بل بإرادة الله وما لهم من ناصرين ، لما تركوا الله تركهم الله ومن أخذوه لا يغني عنهم شيئاً فلا ناصر لهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 99
100
(1/3578)

ثم قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } أي إذا تبين الأمر وظهرت الوحدانية ولم يهتد المشرك فلا تلتفت أنت إليهم وأقم وجهك للدين ، وقوله : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي أقبل بكلك على الدين عبر عن الذات بالوجه كما قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) أي ذاته بصفاته ، وقوله : {حَنِيفًا } أي مائلاً عن كل ما عداه أي أقبل على الدين ومل عن كل شيء أي لا يكون في قلبك شيء آخر فتعود إليه ، وهذا قريب من معنى قوله : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم : 31) ثم قال الله تعالى : {عَبْدُ اللَّهِ} أي الزم فطرة الله وهي التوحيد / فإن الله فطر الناس عليه حيث أخذهم من ظهر آدم وسألهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } (الأعراف : 172) فقالوا : بلى ، وقوله تعالى : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } فيه وجوه ، قال بعض المفسرين هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال هم خلقوا للشقاوة ومن كتب شقياً لا يسعد ، وقيل : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } أي الوحدانية مترسخة فيهم لا تغير لها حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون الله ، لكن الإيمان الفطري غير كاف. ويحتمل أن يقال خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً لإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية ، وهذا لبيان فساد قول من يقول العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف ، وقول المشركين : إن الناقص لا يصلح لعبادة الله ، وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله ، وقول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه وصار إلهاً فقال : {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 100
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الذي لا عوج فيه {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أن ذلك هو الدين المستقيم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 100
101
لما قال حنيفاً أي مائلاً عن غيره قال : {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي مقبلين عليه ، والخطاب في قوله : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} مع النبي والمراد جميع المؤمنين ، وقوله : {وَاتَّقُوهُ} يعني إذا أقبلتم عليه وتركتم الدنيا فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة وأقيموا الصلاة أي كونوا عابدين عند حصول القربة كما قلتم قبل ذلك ، ثم إنه تعالى قال : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال المفسرون يعني ولا تشركوا بعد الإيمان أي ولا تقصدوا بذلك غير الله ، وههنا وجه آخر وهو أن الله بقوله : {مُّنِيبِينَ} أثبت التوحيد الذي هو مخرج عن الإشراك الظاهر وبقوله : {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أراد إخراج العبد عن الشرك الخفي أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله ولا تطلبوا به إلا رضاء الله فإن الدنيا والآخرة تحصيل وإن لم تطلبوها إذا حصل رضا الله وعلى هذا فقوله : {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } يعني لم يجتمعوا على الإسلام ، وذهب كل أحد إلى مذهب ، ويحتمل أن يقال وكانوا شيعاً يعني بعضهم عبد الله للدنيا وبعضهم للجنة وبعضهم / للخلاص من النار ، وكل واحد بما في نظره فرح ، وأما المخلص فلا يفرح بما يكون لديه ، وإنما يكون فرحه بأن يحصل عند الله ويقف بين يديه وذلك لأن كل ما لدينا نافد لقوله تعالى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } (النحل : 96) فلا مطلوب لكم فيما لديكم حتى تفرحوا به وإنما المطلوب ما لدى الله وبه الفرح كما قال تعالى : {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) {فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } (آل عمران : 170) جعلهم فرحين بكونهم عند ربهم ويكون ما أوتوا من فضله الذي لا نفاد له ، ولذلك قال تعالى : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } (يونس : 58) لا بما عندهم فإن كل ما عند العبد فهو نافد ، أما في الدنيا فظاهر ، وأما في الآخرة فلأن ما وصل إلى العبد من الالتذاذ بالمأكول والمشروب فهو يزول ، ولكن الله يجدد له مثله إلى الأبد من فضله الذي لا نفاد له فالذي لا نفاد له هو فضله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 101
102
(1/3579)

لما بين التوحيد بالدليل وبالمثل ، بين أن لهم حالة يعرفون بها ، وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدة ، فإن عند انقطاع رجائه عن الكل يرجع إلى الله ، ويجد نفسه محتاجة إلى شيء ليس كهذه الأشياء طالبة به النجاة {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} يعني إذا خلصناه يشرك بربه ويقول تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان ، وبسبب الصنم الفلاني ، لا ، بل ينبغي أن لا يعتقد أنه تخلص بسبب فلان إذا كان ظاهراً فإنه شرك خفي ، مثاله رجل في بحر أدركه الغرق فيهيىء له لوحاً يسوقه إليه ريح فيتعلق به وينجو ، فيقول تلخصت بلوح ، أو رجل أقبل عليه سبع فيرسل الله إليه رجلاً فيعينه فيقول خلصني زيد ، فهذا إذا كان عن اعتقاد فهو شرك خفي ، وإن كان بمعنى أن الله خلصني على يد زيد فهو أخفى ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {أَذَاقَهُم} فيه لطيفة وذلك لأن الذوق يقال في القليل فإن العرف (أن) من أكل مأكولاً كثيراً لا يقول ذقت ، ويقال في النفي ما ذقت في بيته طعاماً نفياً للقليل ليلزم نفي الكثير بالأولى ، ثم إن تلك الرحمة لما كانت خالية منقطعة ولم تكن مستمرة في الآخرة إذ لهم في الآخرة عذاب قال أذاقهم ولهذا قال في العذاب : {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} (القمر : 48) {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت : 55) {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) لأن عذاب الله الواصل إلى العبد بالنسبة إلى الرحمة الواصلة إلى عبيد آخرين في غاية القلة.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {مِّنْهُ} أي من الضر في هذا التخصيص ما ذكرناه من الفائدة وهي أن الرحمة غير مطلقة لهم إنما هي عن ذلك الضر وحده ، وأما الضر المؤخر فلا يذوقون منه رحمة.
/ المسألة الثالثة : قال ههنا {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم} وقال في العنكبوت : {فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت : 65) ولم يقل فريق وذلك لأن المذكور هناك ضر معين ، وهو ما يكون من هول البحر والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل ، والذي لا يشرك به بعد الخلاص فرقة منهم في غاية القلة فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة من خرج من المشركين ، وأما المذكور ههنا الضر مطلقاً فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون والمتخلص من أنواع الضر خلق كثير بل جميع الناس يكونون قد وقعوا في ضر ما وتخلصوا منه ، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهو خلق عظيم ، وهو جميع المسلمين فإنهم تخلصوا من ضر ولم يبقوا مشركين ، وأما المسلمون فلم يتخلصوا من ضر البحر بأجمعهم ، فلما كان الناجي من الضر من المؤمنين جمعاً كثيراً ، جعل الباقي فريقاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 102
104
قوله تعالى : {لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُم فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قد تقدم تفسيره في العنكبوت بقي بيان فائدة الخطاب ههنا في قوله : {فَتَمَتَّعُوا } وعدمه هناك في قوله : {وَلِيَتَمَتَّعُوا ا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فنقول لما كان الضر المذكور هناك ضراً واحداً جاز أن لا يكون في ذلك الموضع من المخلصين من ذلك الضر أحد ، فلم يخاطب ولما كان المذكور ههنا مطلق الضر ولا يخلو موضع من المخلصين عن الضر ، فالحاضر يصح خطابه بأنه منهم فخاطب.
ثم قال تعالى : {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ} لما سبق قوله تعالى : {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَآءَهُم} (الروم : 29) أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى الله حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الانكار ، أي ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أم للاستفهام ولا يقع إلا متوسطاً ، كما قال قائلهم :
أيا ظبية الوعاء بين جلاجل
وبين النقا آأنت أم أم سالم
فما الاستفهام الذي قبله ؟
فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول ، أهم يتبعون الأهواء من غير علم ؟
أم لهم دليل على ما يقولون ؟
وليس الثاني فيتعين الأول.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا ، وفيه معنى لطيف / وهو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له ، لأن الكلام هو المسموع وما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به ، وما لا دليل عليه لا يقبل ، فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل وحسن جاز إثبات التكلم للدليل وحسن.
جزء : 25 رقم الصفحة : 104
104
(1/3580)

قوله تعالى : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا } لما بين حال المشرك الطاهر شركه بين حال المشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته الله للدنيا ، فإذا آتاه رضي وإذا منعه سخط وقنط ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك ، بل ينبغي أن يعبد الله في الشدة والرخاء ، فمن الناس من يعبد الله في الشدة كما قال تعالى : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم} (الروم : 33) ومن الناس من يعبده إذا آتاه نعمة كما قال تعالى : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا } والأول كالذي يخدم مكرها مخافة العذاب والثاني كالذي يخدم أجيراً لتوقع الأجر وكلاهما لا يكون من الثبتين في ديوان المرتبين في الجرائد الذين يأخذون رزقهم سواء كان هناك شغل أو لم يكن ، فكذلك القسمان لا يكونان من المؤمنين الذين لهم رزق عند ربهم ، وفيه مسألة : وهي أن قوله تعالى : {فَرِحُوا بِهَا } إشارة إلى دنو همتهم وقصور نظرهم فإن فرحهم يكون بما وصل إليهم لا بما وصل منه إليهم ، فإن قال قائل الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ} (يونس : 58) وههنا ذمهم على الفرح بالرحمة ، فكيف ذلك ؟
فنقول هناك قال : فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله ، وهو كما أن الملك لو حط عند أمير رغيفاً على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطوا عنده زبدية طعام يفرح ذلك الأمير به ، ولو أعطى الملك فقيراً غير ملتفت إليه رغيفاً أو زبدية طعام أيضاً يفرح لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك وفرح الفقير بكون ذلك رغيفاً وزبدية.
ثم قال تعالى : {بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} لم يذكر عند النعمة سبباً لها لتفضله بها وذكر عند العذاب سبباً لأن الأول يزيد في الإحسان والثاني يحقق العدل. قوله {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} إذا للمفاجأة أي لا يصبرون على ذلك قليلاً لعل الله يفرج عنهم وإنه يذكرهم به.
جزء : 25 رقم الصفحة : 104
ثم قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . / أي لم يعلموا أن الكل من الله فالمحقق ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد وهو الله ، فلا يكون له تبدل حال ، وإنما يكون عنده الفرح الدائم ، ولكن ذلك مرتبة المؤمن الموحد المحقق ، ولذلك قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 104
104
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما بين أن العبادة لا ينبغي أن تكون مقصورة على حالة الشدة بقوله : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم} (الروم : 33) ولا أن تكون مقصورة على حالة أخذ شيء من الدنيا كما هو عادة المدوكر المتسلسل يعبد الله إذا كان في الخوانق والرباطات للرغيف والزبدية وإذا خلا بنفسه لا يذكر الله ، بقوله : {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا } وبين أنه ينبغي أن يكون ، في حالة بسط الرزق وقدره عليه ، نظره على الله الخالق الرازق ليحصل الإرشاد إلى تعظيم الله والإيمان قسمان تعظيم لأمر الله وشفقة على خلق الله فقال بعد ذلك فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، وفيه وجه آخر هو أن الله تعالى لما بين أن الله يبسط الرزق ويقدر ، فلا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله إذا بسط الرزق لا ينقص بالانفاق ، وإذا قدر لا يزداد بالإمساك ، وفيه مسائل :
(1/3581)

المسألة الأولى : في تخصيص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات فنقول أراد ههنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال سواء كان زكوياً أو لم يكن ، وسواء كان بعد الحول أو قبله لأن المقصود ههنا الشفقة العامة ، وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد ، أما القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كعقار أو مال لم يحل عليه الحول والمسكين كذلك فإن من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة يجب على من له مقدرة دفع حاجته ، وإن لم يكن عليه زكاة ، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن يلزمه ذلك ، وإن لم تكن عليه زكاة والفقير داخل في المسكين لأن من أوصى للمساكين شيئاً يصرف إلى الفقراء أيضاً ، وإذا نظرت إلى الباقين من الأصناف رأيتهم لا يجب صرف المال إليهم إلا على الذين وجبت الزكاة عليهم / واعتبر ذلك في العامل والمكاتب والمؤلفة والمديون ، ثم اعلم أن على مذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث قال : المسكين من له شيء ما فنقول ، وإن كان الأمر كذلك لكن لا نزاع في أن إطلاق المسكين على من لا شيء له جائز فيكون الاطلاق هنا بذلك الوجه ، والفقير يدخل في ذلك بالطريق الأولى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 104
المسألة الثانية : في تقدم البعض على البعض فنقول لما كان دفع حاجة القريب واجباً سواء كان في شدة ومخمصة ، أو لم يكن كان مقدماً على من لا يجب دفع حاجته من غير مال الزكاة إلا إذا كان في شدة ، ولما كان المسكين حاجته ليست مختصة بموضع كان مقدماً على من حاجته مختصة بموضع دون موضع.
المسألة الثالثة : ذكر الأقارب في جميع المواضع كذا اللفظ وهو ذو القربى ، ولم يذكر المسكين بلفظ ذي المسكنة ، وذلك لأن القرابة لا تتجدد فهي شيء ثابت ، وذو كذا لا يقال إلا في الثابت ، فإن من صدر منه رأي صائب مرة أو حصل له جاه يوماً واحداً أو وجد منه فضل في وقت يقال ذو رأي وذو جاه وذو فضل ، وإذا دام ذلك له أو وجد منه ذلك كثيراً يقال له ذو الرأي وذو الفضل ، فقال {ذَا الْقُرْبَى } إشارة إلى أن هذا حق متأكد ثابت ، وأما المسكنة فتطرأ وتزول ولهذا المعنى قال : {مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد : 16) فإن المسكين يدوم له كونه ذا متربة ما دامت مسكنته أو يكون كذلك في أكثر الأمر.
المسألة الرابعة : قال : {فَـاَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه } ثم عطف المسكين وابن السبيل ولم يقل فآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم/ لأن العبارة الثانية لكون صدور الكلام أولاً للتشريك والأولى لكون التشريك وارداً على الكلام ، كأنه يقول أعط ذا القربى حقه ثم يذكر المسكين وابن السبيل بالتبعية ولهذا المعنى إذا قال الملك خل فلان يدخل ، وفلاناً أيضاً يكون في التعظيم فوق ما إذا قال خل فلاناً وفلاناً يدخلان ، وإلى هذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : "بئس خطيب القوم أنت" حيث قال الرجل من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ، ومن عصاهما فقد غوى ولم يقل ومن عصى الله ورسوله.
المسألة الخامسة : قوله : {ذَالِكَ خَيْرٌ} يمكن أن يكون معناه ذلك خير من غيره ويمكن أن يقال ذلك خير في نفسه ، وإن لم يقس إلى غيره لقوله تعالى : {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (الحج : 77) {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } (البقرة : 148) والثاني أولى لعدم احتياجه إلى إضمار ولكونه أكثر فائدة لأن الخير من الغير قد يكون نازل الدرجة ، عند نزول درجة ما يقاس إليه ، كما يقال السكوت خير من الكذب ، وما هو خير في نفسه فهو حسن ينفع وفعل صالح يرفع.
المسألة السادسة : قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه } إشارة إلى أن الاعتبار بالقصد لا بنفس الفعل ، فإن من أنفق جميع أمواله رياء الناس لا ينال درجة من يتصدق برغيف لله ، وقوله : {وَجْهَ اللَّهِ} أي يكون عطاؤه لله لا غير ، فمن أعطى للجنة لم يرد به وجه الله ، وإنما أراد مخلوق الله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 104
المسألة السابعة : كيف قال : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} مع أن للإفلاح شرائط أخر ، وهي / المذكورة في قوله : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون : 1) فنقول كل وصف مذكور هناك يفيد الإفلاح ، فقوله {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَـاعِلُونَ} (المؤمنون : 4) وقوله : {وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون : 8 المعارج : 32) إلى غير ذلك عطف على المفلح أي هذا مفلح ، وذاك مفلح ، وذاك الآخر مفلح لا يقال لا يحصل الإفلاح لمن يتصدق ولا يصلي ، فنقول هذا كقول القائل العالم مكرم أي نظراً إلى علمه ثم إذا حد في الزنا على سبيل النكال وقطعت يده في السرقة لا يبطل ذلك القول حتى يقول القائل ، إنما كان ذلك لأنه أتى بالفسق ، فكذلك إيتاء المال لوجه الله يفيد الإفلاح ، اللهم إلا إذا وجد مانع من ارتكاب محظور أو ترك واجب.
(1/3582)

المسألة الثامنة : لم لم يذكر غيره من الأفعال كالصلاة وغيرها ؟
فنقول الصلاة مذكورة من قبل لأن الخطاب ههنا بقوله : {فَـاَاتِ} مع النبي صلى الله عليه وسلّم وغيره تبع ، وقد قال له من قبل {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا } (الروم : 30) وقال : {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ} (الروم : 31).
المسألة التاسعة : قوله تعالى : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة : 5) يفهم منه الحصر وقد قال في أول سورة البقرة : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إشارة إلى من أقام الصلاة وآتى الزكاة ، وآمن بما أنزل على رسوله وبما أنزل من قبله وبالآخرة ، فلو كان المفلح منحصراً في أولئك المذكورين في سورة البقرة فهذا خارج عنهم فكيف يكون مفلحاً ؟
فنقول هذا هو ذاك لأنا بينا أن قوله : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} متصل بهذا الكلام فإذا أتى بالصلاة وآتى المال وأراد وجه الله ، فقد ثبت أنه مؤمن مقيم للصلاة مؤت للزكاة معترف بالآخرة فصار مثل المذكور في البقرة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 104
105
ذكر هذا تحريضاً يعني أنكم إذا طلب منكم واحد باثنين ترغبون فيه وتؤتونه وذلك لا يربوا عند الله والزكاة تنمو عند الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : "إن الصدقة تقع في يد الرحمن فتربوا حتى تصير مثل الجبل" فينبغي أن يكون إقدامكم على الزكاة أكثر. وقوله تعالى : {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا } أي أولئك ذوو الأضعاف كالموسر لذي اليسار وأقل ذلك عشرة أضعاف كل مثل لما آتى في كونه حسنة لا في المقدار فلا يفهم أن من أعطى رغيفاً يعطيه الله عشرة أرغفة بل معناه أن ما يقتضيه فعله من الثواب على وجه الرحمة يضاعفه الله عشرة مرات على وجه التفضل ، فبالرغيف الواحد يكون له قصر في الجنة فيه من كل شيء ثواباً / نظراً إلى الرحمة ، وعشر قصور مثله نظراً إلى الفضل. مثاله في الشاهد ، ملك عظيم قبل من عبده هدية قيمتها درهم لو عوضه بعشرة دراهم لا يكون كرماً ، بل إذا جرت عادته بأنه يعطي على مثل ذلك ألفاً ، فإذا أعطى له عشرة آلاف فقد ضاعف له الثواب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 105
105
قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ} أي أوجدكم {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أي أبقاكم ، فإن العرض مخلوق وليس بمبقي {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُم هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَىْءٍ } جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين الحشر والتوحيد ، أما الحشر فبقوله : {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } والدليل قدرته على الخلق ابتداء ، وأما التوحيد فبقوله {هَلْ مِن شُرَكَآاـاِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَىْءٍ } . ثم قال تعالى : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحاً أي نزهوه ولا تصفوه بالإشراك ، وقوله : {وَتَعَـالَى } أي لا يجوز عليه ذلك وهذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك ، وإذا قال وتعالى فكأنه قال ولا يجوز عليه ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 105
106
(1/3583)

وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثاً لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم : {لَفَسَدَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (المؤمنون : 71) كما قال تعالى : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (مريم : 90) وإلى هذا أشار بقوله تعالى : {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا } واختلفت الأقوال في قوله : {فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فقال بعض المفسرين : المراد خوف الطوفان في البر والبحر ، وقال بعضهم عدم إنبات بعض الأراضي وملوحة مياه البحار ، وقال آخرون : المراد من البحر المدن ، فإن العرب تسمى المدائن بحوراً لكون مبنى عمارتها على الماء ويمكن أن يقال / إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار ، واعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول والاعتقاد فيسمى فسقاً وعصياناً وذلك لأن المعصية فعل لا يكون لله بل يكون للنفس ، فالفاسق مشرك بالله بفعله ، غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه ولسانه ، فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما ، وقوله تعالى : {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا } قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم وكل موجب افترائهم ، وقوله : {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن الله يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع ، كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام ، فيقول القائل لماذا لا تؤدبه بالكلام ؟
فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع ، فإذا زجره ولم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد ويطمئن قلبه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 106
107
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال : {قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ } أي قوم نوح وعاد وثمود ، وهذا ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه في وقت الامتنان والإحسان قال : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} (مريم : 40) أي آتاكم الوجود ثم البقاء ووقت الخذلان بالطغيان قال : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الروم : 41) أي قلل رزقكم ، ثم قال تعالى : {سِيرُوا فِى الارْضِ} أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم ، فكأنه قال أعطاكم الوجود والبقاء ، ويسلب منكم الوجود والبقاء ، وأما سلب البقاء فبإظهار الفساد ، وأما سلب الوجود فبالإهلاك ، وعند الإعطاء قدم الوجود على البقاء ، لأن الوجود أولاً ثم البقاء ، وعند السلب قدم البقاء ، وهو الاستمرار ثم الوجود.
وقوله : {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} يحتمل وجوهاً ثلاثة أحدها : أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر وإن كان بغيره أيضاً كالإهلاك بالفسق والمخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني : أن كل كافر أهلك لم يكن مشركاً بل منهم من كان معطلاً نافياً لكنهم قليلون ، وأكثر الكفار مشركون الثالث : أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى ، كما قال تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً } (الأنفال : 25) بل كان على الصغار والمجانين ، ولكن أكثرهم كانوا مشركين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 107
108
/ لما نهى الكافر عما هو عليه ، أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء ، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام : "إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين" وقد ذكرنا معناه ، وقوله : {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّه } يحتمل وجهين الأول : أن يكون قوله : {مِنَ اللَّه } متعلقاً بقوله : {يَأْتِىَ} والثاني : أن يكون المراد {لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّه } أي الله لا يرد وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه {يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي تفرقون. ثم أشار إلى التفرق بقوله : {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه ا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وفي الآية مسائل :
(1/3584)

المسألة الأولى : قال : {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه ا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا} ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضاً للمكلف عليه ، وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه ، ووجه آخر : وهو أن الكفر قسمان : أحدهما : فعل وهو الاشراك والقول به ، والثاني : ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل ، لكن الإيمان لا بد معه من العمل الصالح ، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب ، وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشيء منه لا بد منه.
المسألة الثانية : قال : {فَعَلَيْهِ} فوحد الكناية وقال : {فَلانفُسِهِمْ} جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته ، أما الغضب فمسبوق بالرحمة ، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة : قال : {فَعَلَيْهِ كُفْرُه } ولم يبين وقال في المؤمن {فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} تحقيقاً لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة ، وعند غيره أشار إليه إشارة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 108
108
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح ، وهو الجزاء الذي يجازيه به الله / والملك إذا كان كبيراً كريماً ، ووعد عبداً من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله : {مِّن فَضْلِه } يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء ، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء ، ثم قال تعالى : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ} أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل ، فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب ، وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته ، وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلاناً كيف يكون سروره.
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال : {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه } (الروم : 44) وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } ثم قال تعالى : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ} لأن قوله {مَن كَفَرَ} في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله : {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا} لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم ، وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهاراً للكرم والرحمة ، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة ، فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه ، ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة ، وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالاً وهو قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ} (الروم : 14 ، 15) قدم المؤمن على الكافر ، وههنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (الروم : 43) أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضاً قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} (الروم : 12) فذكر الكافر وإبلاسه ، ثم قال تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (الروم : 14) فكان ذكر المؤمن وحده لا بد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله : {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} وقوله في حق المؤمن : {فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال : {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } .
جزء : 25 رقم الصفحة : 108
109
قوله تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك / بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح ، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ، ويذكر لأضراره سبباً لئلا يتوهم به الظلم فقال : {يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} قيل بالمطر كما قال تعالى : {بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } (الأعراف : 57) أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال ، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد.
(1/3585)

ثم قال تعالى : {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه } عطف على ما ذكرنا ، أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه } بالمطر ، وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل ، ولما كان أمر الدنيا قليلاً وراحتها نزر قال : {وَلِيُذِيقَكُم} ، وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم {وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِه وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله : {بِأَمْرِه } أي الفعل ظاهراً عليه ولكنه بأمر الله ، ولذلك لما قال : {وَلِتَبْتَغُوا } مسنداً إلى العباد ذكر بعده {مِّن فَضْلِه } أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الترتيب فنقول في الرياح فوائد ، منها إصلاح الهواء ، ومنها إثارة السحاب ، ومنها جريان الفلك بها فقال : {مُبَشِّرَاتٍ} بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده ، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.
المسألة الثانية : قال في قوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا } (الروم : 41) وقال ههنا {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِه } فخاطب ههنا تشريفاً {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} فالمحسن قريب فيخاطب والمسيء بعيد فلم يخاطبهم ، وأيضاً قال هناك بعض الذي علموا وقال ههنا {مِّن رَّحْمَتِه } فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان : أحدهما : ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضاً ، وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني. وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما : أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل ، فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة ، وأما إذا قال {مِّن رَّحْمَتِه } كان غاية البشارة ، ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة ، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبىء عن نقصان عقابهم وهو كذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 109
المسألة الثالثة : قال هناك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال ههنا {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم.
المسألة الرابعة : إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح ههنا تذكيراً وتقريراً للدلائل ، ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر هناك خوفاً وطمعاً ، أي قد يكون وقد لا يكون وذكر ههنا {مُبَشِّرَاتٍ} / لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم ، وحكمه به حكم جازم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 109
111
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا} أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك ، ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلّم وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضاً بالبينات ، وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين ، وفي قوله تعالى : {وَكَانَ حَقًّا} وجهان : أحدهما : فانتقمنا ، وكان الانتقام حقاً واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا} أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى ، أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلماً وإنما كان عدلاً حقاً ، وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث ، وعلى الثاني تأكيد البشارة. لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبىء عن اللزوم ، فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى ، وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة ، فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولاً ، ثم عادت آخراً لا يكون النصر إلا للمنهزم ، وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة ، فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له.
جزء : 25 رقم الصفحة : 111
111
(1/3586)

بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة. أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار ، وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب ، ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلاً ومنه ما يكون منقطعاً ، ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة ، وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة ، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة. وقوله تعالى : {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِه } اختلف المفسرون فيه ، فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى : {فَكَانَ عَـاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَـالِدَيْنِ فِيهَا } وقال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر ، والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله ، أي من قبل إرسال الرياح ، وذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس ، فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلساً ، فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين ، لأن من قبله قد يكون راجباً غالباً على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح فقال من قبله ، أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب ، ثم لما فصل قال : {فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَـارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآا إِنَّ ذَالِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى } لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة وباسم الفاعل ، فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك ، لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفاً بالعطاء ، والأول يفيد أنه سيتصف به ويتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} تأكيد لما يفيد الاعتراف.
جزء : 25 رقم الصفحة : 111
112
/ لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين ، وعند ظهوره يكونون مستبشرين ، بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها ، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال في الآية الأولى {يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} على طريقة الإخبار عن الإرسال ، وقال ههنا {وَ لئن أَرْسَلْنَا} لا على طريقة الإخبار عن الإرسال ، لأن الرياح من رحمته وهي متواترة ، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها ، ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام ، وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة.
المسألة الثانية : سمى النافعة رياحاً والضارة ريحاً لوجوه أحدها : النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها ، فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ، ولا تهب الريح الضارة في أعوام ، بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني : هو أن النافعة لا تكون إلا رياحاً فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشىء السحاب ولا يجري السفن ، وأما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث : هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها ، أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم ، وهذا لا يكون للريح في هبوبها وإنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر وهو حار جداً ، أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك وكيفما كان فتكون واحدة ، لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه وتخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب ، ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حاراً ولا متكيفاً ، لأن المكث الطويل شرط التكيف ، ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار وأخرجتها بسرعة لا تتأثر ، والحديد إذا مكث فيها يذوب ، فإذا تحرك ذلك الساكن وتفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه ، وأما المتولدة كذلك فنادرة وموضع ندرتها واحد. وأما الكمية فالرياح إذا اجتمعت وصارت واحدة صارت كالخلجان ، ومياه العيون إذا اجتمعت تصير نهراً عظيماً لا تسده السدود ولا يرده الجلمود ، ولا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير ، فلهذا قال في المضرة ريح وفي النافعة رياح.
جزء : 25 رقم الصفحة : 112
ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا / فراراً ، وإنباؤه إلا كفراً وإضراراً ، قال له : {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وفيه مسائل :
(1/3587)

المسألة الأولى : في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال ، والمحال أبعد من الممكن ، ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير ، والإفهام بالإشارة صعب ، ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب ، فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه ، لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب ، فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئاً ، لأن غاية الإفهام بالكلام ، فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة ، فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى/ ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم.
المسألة الثانية : قال في الصم {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ليكون أدخل في الامتناع ، وذلك لأن الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة ، فإذا ولى ولا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع ولا يفهم.
المسألة الثالثة : قال في الأصم {لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} ولم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي ولكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجىء إلى الإيمان والداعي لا يسمع الأصم الدعاء.
المسألة الرابعة : قال : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ} أي ليس شغلك هداية العميان كما يقول القائل فلان ليس بشاعر وإنما ينظم بيتاً وبيتين ، أي ليس شغله ذلك فقوله : {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } نفى ذلك عنه ، وقوله : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ} يعني ليس شغلك ذلك ، وما أرسلت له.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِم إِن تُسْمِعُ} (النمل : 81) لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة ، ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ، وهذا يدل على خلاف مذهب المعتزلة فإنهم قالوا الله يريد من الكل الإيمان ، غير أن بعضهم يخالف إرادة الله ، وقوله : {إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ} دليل على أنه يؤمن فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلّم ما يجب أن يفعل فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى عنهم : {قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (البقرة : 285).
جزء : 25 رقم الصفحة : 112
112
/ لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلاً من دلائل الآفاق وهو قوله : {اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} (الروم : 48) وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله ، فقال : {خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى : {خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } (الأنبياء : 37) ومن ههنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنياً أي من حالة فقره ، ثم قال تعالى : {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنيناً وطفلاً مولوداً ورضيعاً ومفطوماً فهذه أحوال غاية الضعف ، وقوله : {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله ، وقوله : {ثُمَّ جَعَلَ مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةًا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} .
(1/3588)

إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف ، ثم بين بقوله {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } إن هذا ليس طبعاً بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق {فَيَبْسُطُه فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ} (الروم : 48) {هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} لما قدم العلم على القدرة ؟
وقال من قبل {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم : 27) فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم ، فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة ههنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم : 27) لأن الإعادة تكون بكن فيكون ، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الابداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر ، ثم إن قوله تعالى : {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالماً بأعمال الخلق كان عالماً بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيراً علمه وإن عملوا شراً علمه ، ثم إذا كان قادراً فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب ، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم ، وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال : {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وإلى مثل هذا مثل هذا أشار في قوله : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون : 14) عقيب خلق الإنسان ، فنقول أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم ، والخلق المفهوم من قوله : {الْخَالِقِينَ} إشارة إلى القدرة ، ثم لما بين ذكر الابداء والاعادة كالابداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 112
112
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة. وقيل ما لبثوا في القبور ، وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور {كَذَالِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 112
114
/ قوله : {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَانَ} من الملائكة وغيرهم {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } ونحن نبين ما هو المعنى اللطيف في هاتين الآيتين ، فنقول الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله ، والموعد بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها ، لكن المجرم إذا حشر علم أن مصيره إلى النار فيستقل مدة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر ، والمؤمن إذا حشر علم أن مصيره إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد التأخير فيختلف الفريقان ويقول أحدهما إن مدة لبثنا قليل وإليه الإشارة بقوله : {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } ويقول الآخر لبثنا مديداً وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } يعني كان في كاتب الله ضرب الأجل إلى يوم البعث ونحن صبرنا إلى يوم البعث {فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يعني طلبكم التأخير ، لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به ، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير.
جزء : 25 رقم الصفحة : 114
114
أي لا يطلب منهم الإعتاب وهو إزالة العتب يعني التوبة التي تزيل آثار الجريمة لا تطلب منهم لأنها لا تقبل منهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 114
114

قوله : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار ، وإلى أنه لم يبق من جانب الرسول تقصير ، فإن طلبوا شيئاً آخر فذلك عناد ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل ، بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل / آخر بعد ما ذكر دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا غبار عليه وعانده الخصم ، لأنه إما أن يعترف بورود سؤال الخصم عليه أو لا يعترف ، فإن اعترف يكون انقطاعاً وهو يقدح في الدليل أو المستدل ، إما بأن الدليل فاسد ، وإما بأن المستدل جاهل بوجه الدلالة والاستدلال ، وكلاهما لا يجوز الاعتراف به من العالم فكيف من النبي عليه الصلاة والسلام ، وإن لم يعترف يكون الشروع في غيره موهماً أن الخصم ليس معانداً فيكون اجتراؤه على العناد في الثاني أكثر لأنه يقول العناد أفاد في الأول حيث التزم ذكر دليل آخر. فإن قيل فالأنبياء عليهم السلام ذكروا أنواعاً من الدلائل ، نقول سردوها سرداً ، ثم قرروها فرداً فرداً ، كمن يقول الدليل عليه من وجوه : الأول كذا ، والثاني كذا ، والثالث كذا ، وفي مثل هذا الواجب عدم الالتفات إلى عناد المعاند لأنه يزيده بعناده حتى يضيع الوقت فلا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدلائل فتنحط درجته فاذن لكل مكان مقال. وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى : {وَلَا ِن جِئْتَهُم بِاَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} وفي توحيد الخطاب بقوله : {وَلَا ِن جِئْتَهُم} والجمع في قوله : {إِنْ أَنتُمْ} لطيفة وهي أن الله تعالى قال : {وَلَا ِن جِئْتَهُم بِاَايَةٍ} جاءت بها الرسل ويمكن أن يجاء بها يقولون أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون. ثم بين تعالى أن ذلك بطبع الله على قلوبهم بقوله : {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فإن قيل من لا يعلم شيئاً أية فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه ؟
نقول المعنى هو أن من لا يعلم الآن فقد طبع الله على قلبه من قبل ، ثم إنه تعالى سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي أن صدقك يبين وقوله : {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} إشارة إلى وجوب مداومة النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر إنه متقلب الرأي ، لا ثبات له. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 114
115
(1/3589)

سورة لقمان عليه السلام
مكية كلها إلا آيتين نزلنا بالمدينة وهما {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ} الآيتين وإلا آية
نزلت بالمدينة وهي {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} لأن الصلاة
والزكاة نزلتا بالمدينة وهي ثلاث وقيل أربع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 25 رقم الصفحة : 115
116
/ {الام * تِلْكَ ءَاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .
وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر ما قبلها هو أن الله تعالى لما قال : {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } (الروم : 58) إشارة إلى كونه معجزة وقال : {وَلَا ِن جِئْتَهُم بِاَايَةٍ} (الروم : 58) إشارة إلى أنهم يكفرون بالآيات بين ذلك بقوله : {الام * تِلْكَ ءَاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ولم يؤمنوا بها ، وإلى هذا أشار بعد هذا بقوله : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} (لقمان : 7).
جزء : 25 رقم الصفحة : 116
116
فقوله {هُدًى} أي بياناً وفرقاناً ، وأما التفسير فمثل تفسير قوله تعالى : { الر * ذَالِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى} (البقرة : 1 و2) وكما قيل هناك إن المعنى بذلك هذا ، كذلك قيل بأن المراد بتلك هذه ، ويمكن أن يقال كما قلنا هناك إن تلك إشارة إلى الغائب معناها آيات القرآن آيات الكتاب الحكيم وعند إنزال هذه الآيات التي نزلت مع {الام * تِلْكَ ءَاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} لم تكن جميع الآيات نزلت فقال تلك إشارة إلى الكل أي آيات القرآن تلك آيات ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال في سورة البقرة {ذَالِكَ الْكِتَابُ} (البقرة : 1) ولم يقل الحكيم ، وههنا قال {الْحَكِيمِ} فلما زاد ذكر وصف الكتاب زاد ذكر أمر في أحواله فقال : {هُدًى وَرَحْمَةً} وقال هناك / {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 1) فقوله : {هُدًى} في مقابلة قوله : {الْكِتَابِ} وقوله : {وَرَحْمَةً} في مقابلة قوله : {الْحَكِيمِ} ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكم كقوله تعالى : {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) أي ذات رضا.
(1/3590)

المسألة الثانية : قال هناك {لِّلْمُتَّقِينَ} وقال ههنا {لِّلْمُحْسِنِينَ} لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال : {لِّلْمُتَّقِينَ} أي يهتدي به من يتقي الشرك والعناد والتعصب ، وينظر فيه من غير عناد ، ولما زاد ههنا رحمة قال : {لِّلْمُحْسِنِينَ} أي المتقين الشرك والعناد الآتين بكلمة الإحسان فالمحسن هو الآتي بالإيمان والمتقي هو التارك للكفر ، كما قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل : 128) ومن جانب الكفر كان متقياً وله الجنة ، ومن أتى بحقيقة الإيمان كان محسناً وله الزيادة لقوله تعالى : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 26) ولأنه لما ذكر أنه رحمة قال : {لِّلْمُحْسِنِينَ} لأن رحمة الله قريب من المحسنين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 116
المسألة الثالثة : قال هناك {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} (البقرة : 3) وقال ههنا {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} ولم يقل يؤمنون لما بينا أن المتقي هو التارك للكفر ويلزمه أن يكون مؤمناً والمحسن هو الآتي بحق الإيمان ، ويلزمه أن لا يكون كافراً ، فلما كان المتقي دالاً على المؤمن في الالتزام صرح بالإيمان هناك تبييناً ولما كان المحسن دالاً على الإيمان بالتنصيص لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} قد ذكرنا ما في الصلاة وإقامتها مراراً وما في الزكاة والقيام بها ، وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد فإنها عبادة صورة وحقيقة والله تعالى تجب له العبادة ولا تجوز عليه العبادة ، وترك التشبه لازم على العبد أيضاً في أمور فلا يجلس عند جلوسه ولا يتكىء عند اتكائه ، والزكاة تشبه بالسيد فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات ، والتشبه لازم على العبد أيضاً في أمور ، كما أن عبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد ، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد ، وبهما تتم العبودية.
جزء : 25 رقم الصفحة : 116
116
لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره ، ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول : أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني : هو أن الحديث إذا كان لهواً لا فائدة فيه كان أقبح / الثالث : هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "روحوا القلوب ساعة فساعة" رواه الديلمي عن أنس مرفوعاً ويشهد له ما في مسلم "يا حنظلة ساعة وساعة" والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة ، والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله : {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} كان فعله أدخل في القبح.
ثم قال تعالى : {بِغَيْرِ عِلْمٍ} عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم ويتخذها أي يتخذ السبيل { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} قوله : {مُّهِينٌ} إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام ، وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده ، فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه ، وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى ، فإنه لا يكرمه. فقوله : {عَذَابٌ مُّهِينٌ} إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر ، فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 116
118
أي يشتري الحديث الباطل ، والحق الصراح يأتيه مجاناً يعرض عنه ، وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن ، ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئاً ، ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها ، وهم ما كانوا يطلبونها ، وإذا جاءتهم مجاناً ما كانوا يسمعونها ، ثم إن فيه أيضاً مراتب الأولى : التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني : الاستكبار ، ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنياً عن الحكمة حتى يستكبر عنها ؟
وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله ، فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند الله ؟
الثالث : قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع : قوله : {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا } أدخل في الإعراض. ثم قال تعالى : {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده ، أو يقال إذا كان حاله هذا {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 118
118
(1/3591)

أي يشتري الحديث الباطل ، والحق الصراح يأتيه مجاناً يعرض عنه ، وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن ، ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئاً ، ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها ، وهم ما كانوا يطلبونها ، وإذا جاءتهم مجاناً ما كانوا يسمعونها ، ثم إن فيه أيضاً مراتب الأولى : التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني : الاستكبار ، ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنياً عن الحكمة حتى يستكبر عنها ؟
وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله ، فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند الله ؟
الثالث : قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع : قوله : {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا } أدخل في الإعراض. ثم قال تعالى : {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده ، أو يقال إذا كان حاله هذا {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 118
118
/ لما بين حال من إذا تتلى عليه الآيات ولى ، بين حال من يقبل على تلك الآيات ويقبلها وكما أن ذلك له مراتب من التولية والاستكبار ، فهذا له مراتب من الإقبال والقبول والعمل به ، فإن من سمع شيئاً وقبله قد لا يعمل به فلا تكون درجته مثل من يسمع ويطيع ثم إن هذا له جنات النعيم ولذلك عذاب مهين وفيه لطائف : إحداها : توحيد العذاب وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة واسعة أكثر من الغضب الثانية : تنكير العذاب وتعريف الجنة بالإضافة إلى المعرف إشارة إلى أن الرحيم يبين النعمة ويعرفها إيصالاً للراحة إلى القلب ، ولا يبين النقمة ، وإنما ينبه عليها تنبيهاً الثالثة : قال عذاب ، ولم يصرح بأنهم فيه خالدون ، وإنما أشار إلى الخلود بقوله : {مُّهِينٌ} وصرح في الثواب بالخلود بقوله : {خَـالِدِينَ فِيهَا } ، الرابعة : أكد ذلك بقوله : {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } ولم يذكره هناك الخامسة : قال هناك لغيره {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ} وقال ههنا بنفسه {وَعْدَ اللَّهِ} ، ثم لم يقل أبشركم به لأن البشارة لا تكون إلا بأعظم ما يكون ، لكن الجنة دون ما يكون للصالحين بشارة من الله ، وإنما تكون بشارتهم منه برحمته ورضوانه كما قال تعالى : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة : 21) ولولا قوله : {مِنْهُ} لما عظمت البشارة ، ولو كانت {مِنْهُ} مقرونة بأمر دون الجنة لكان ذلك فوق الجنة من غير إضافة فإن قيل فقد بشر بنفس الجنة بقوله : {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت : 30) نقول البشارة هناك لم تكن بالجنة وحدها ، بل بها وبما ذكر بعدها إلى قوله تعالى : {نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} والنزل ما يهيأ عند النزول والإكرام العظيم بعده {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل ، كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي ، فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 118
119
ثم قال تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } .
(1/3592)

بين عزته وحكمته بقوله : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} اختلف قول العلماء في السموات فمنهم من قال إنها مبسوطة كصفيحة مستوية ، وهو قول أكثر المفسرين ومنهم من قال إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين ، والغزالي رحمه الله قال نحن نوافقهم في ذلك فإن لهم عليها دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز ، وإن كان في الباب خبر نؤوله بما يحتمله ، فضلاً من أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً ، بل فيه ما يدل على الاستدارة كما قال تعالى : {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33) والفلك اسم لشيء مستدير ، بل الواجب أن يقال بأن السموات سواء كانت مستديرة أو مصفحة فهي مخلوقة بقدرة الله لا موجودة بإيجاب وطبع ، وإذا علم هذا فنقول السماء في مكان وهو فضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس إلا بقدرة مختارة وإليه الإشارة بقوله : {بِغَيْرِ عَمَدٍ} أي ليس على شيء يمنعها الزوال من موضعها وهي لا تزول إلا بقدرة الله تعالى وقال بعضهم المعنى أن السموات بأسرها ومجموعها لا مكان لها لأن المكان ما يعتمد عليه ما فيه فيكون متمكناً والحيز ما يشار إلى ما فيه بسببه يقال ههنا وهناك على هذا قالوا إن من يقع من شاهق جبل فهو في الهواء في حيز إذ يقال له هو ههنا وهناك ، وليس في مكان إذ لا يعتمد على شيء ، فإذا حصل على الأرض حصل في مكان ، إذا علم هذا فالسموات ليس في مكان تعتمد عليه فلا عمد لها وقوله : {تَرَوْنَهَا } فيه وجهان : أحدهما : أنه راجع إلى السموات أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك بغير عمد والثاني : أنه راجع إلى العمد أي بغير عمد مرئية ، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته.
ثم قال تعالى : {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍا وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 119
أي جبالاً راسية ثابتة {أَن تَمِيدَ} أي كراهية أن تميد وقيل المعنى أن لا تميد ، واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها ، وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح ، ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما نرى الأراضي الرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع ، ثم قال تعالى : {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي سكون الأرض فيه مصلحة حركة الدواب مأسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة التي لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب ، أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها ، ثم قال تعالى : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} هذه نعمة أخرى أنعمها الله على عباده ، وتمامها بسكون الأرض لأن البذر إذا لم يثبت إلى أن ينبت لم يكن يحصل الزرع ولو كانت أجزاء الأرض متحركة كالرمل لما حصل الثبات ولما كمل النبات ، والعدول من المغايبة إلى النفس فيه فصاحة وحكمة ، أما الفصاحة فمذكورة في باب الالتفات من أن السامع إذا سمع كلاماً طويلاً من نمط واحد ، ثم ورد عليه نمط آخر يستطيبه ألا ترى أنك إذا قلت قال زيد كذا وكذا ، وقال خالد كذا وكذا/ وقال عمرو كذا ثم إن / بكراً قال قولاً حسناً يستطاب لما قد تكرر القول مراراً. وأما الحكمة فمن وجهين أحدهما : أن خلق الأرض ثقيل ، والسماء في غير مكان قد يقع لجاهل أنه بالطبع ، وبث الدواب يقع لبعضهم أنه باختيار الدابة ، لأن لها اختيار ، فنقول الأول طبيعي والآخر اختياري للحيوان ، ولكن لا يشك أحد في أن الماء في الهواء من جهة فوق ليس طبعاً فإن الماء لا يكون بطبعه فوق ولا اختياراً ، إذ الماء لا اختيار له فهو بإرادة الله تعالى ، فقال : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ} الثاني : هو أن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان ، متكثرة في كل مكان ، فأسنده إلى نفسه صريحاً ليتنبه الإنسان لشكر نعمته فيزيد له من رحمته ، وقوله تعالى : {فَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي من كل جنس ، وكل جنس فتحته زوجان ، لأن النبات إما أن يكون شجراً ، وإما أن يكون غير شجر ، والذي هو الشجر إما أن يكون مثمراً ، وإما أن يكون غير مثمر ، والمثمر كذلك ينقسم قسمين ، وقوله تعالى : {كَرِيمٍ} أي ذي كرم ، لأنه يأتي كثيراً من غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض.
جزء : 25 رقم الصفحة : 119
120
قوله تعالى : {هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِه } يعني الله خالق وغيره ليس بخالق فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق.
(1/3593)

ثم قال تعالى : {بَلِ الظَّـالِمُونَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} أي بين أو مبين للعاقل أنه ضلال ، وهذا لأن ترك الطريق والحيد عنه ضلال ، ثم إن كان الحيد يمنة أو يسرة فهو لا يبعد عن الطريق المستقيم مثل ما يكون المقصد إلى وراء فإنه يكون غاية الضلال ، فالمقصد هو الله تعالى ، فمن يطلبه ويلتفت إلى غيره من الدنيا وغيرها فهو ضال ، لكن من وجهه إلى الله قد يصل إلى المقصود ولكن بعد تعب وطول مدة ، ومن يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كالذي على الطريق المستقيم يصل عن قريب من غير تعب. وأما الذي تولى لا يصل إلى المقصود أصلاً ، وإن دام في السفر ، والمراد بالظالمين المشركون الواضعون لعبادتهم في غير موضعها أو الواضعون أنفسم في عبادة غير الله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 120
120
قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّه } لما بين الله فساد اعتقادهم بسبب عنادهم / بإشراك من لا يخلق شيئاً بمن خلق كل شيء بقوله : {هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِه } وبين أن المشرك ظالم ضال ، ذكر ما يدل على أن ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة وإن لم يكن هناك نبوة وهذا إشارة إلى معنى ، وهو أن اتباع النبي عليه السلام لازم فيما لا يعقل معناه إظهاراً للتعبد فكيف ما لا يختص بالنبوة ، بل يدرك بالعقل معناه وما جاء به النبي عليه السلام مدرك بالحكمة وذكر حكاية لقمان وأنه أدركه بالحكمة وقوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ} عبارة عن توفيق العمل بالعلم ، فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة ، وإن أردنا تحديدها بما يدخل فيه حكمة الله تعالى ، فنقول حصول العمل على وفق المعلوم ، والذي يدل على ما ذكرنا أن من تعلم شيئاً ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيماً وإنما يكون مبخوتاً ، ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال إنه حكيم ، وإن ظهر لفعله مصلحة وخلو عن مفسدة ، لعدم علمه به أولاً ، ومن يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس ويلقي نفسه من ذلك المكان وتنكسر أعضاؤه لا يقال إنه حكيم وإن علم ما يكون في فعله ، ثم الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : {أَنِ اشْكُرْ لِلَّه } فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر الله إيتاء الحكمة بقوله : {أَنِ اشْكُرْ لِلَّه } وهو كذلك ، لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم ، لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر ، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقاً لعلمه وكان حكمة ، وإن أهمل الأهم كان مخالفاً للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء ، لكن شكر الله أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي ، ثم إن الله تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله : {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه } وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} أي الله غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه ، وفي الآية مسائل ولطائف الأولى : فسر الله إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر ، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب : أن قوله تعالى : {أَنِ اشْكُرْ لِلَّه } أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين ، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف.
جزء : 25 رقم الصفحة : 120
المسألة الثانية : قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل ، وفي الكفران ومن كفر فإن الله غني ، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد ، كقول القائل : من دخل داري فهو حر ، ومن يدخل داري فهو حر ، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر ، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة ، فمن شكر ينبغي أن يكرر ، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران ، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله ، بل أبداً يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود ، كما قال : {رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} (النمل : 19) وكما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (النحل : 18) فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيهاً على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام/ فقال بصيغة الماضي.
(1/3594)

/ المسألة الثالثة : قال تعالى هنا : {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه ا وَمَن كَفَرَ} بتقديم الشكر على الكفران ، وقال في سورة الروم : {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه ا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم : 44) فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَه مِنَ اللَّه يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (الروم : 43) وههنا الذكر للترغيب ، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد ، وقوله : {وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا} يحقق ما ذكرنا أولاً ، لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي ومن عمل ، وههنا لما كان المذكور في الابتداء قال {وَمَن يَشْكُرْ} بلفظ المستقبل وقوله : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ} عن حمد الحامدين ، حميد في ذاته من غير حمدهم ، وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامداً لله تعالى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 120
120
عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه وحين جعلناه واعظاً لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملاً في نفسه ومكملاً لغيره فقوله : {أَنِ اشْكُرْ} إشارة إلى الكمال وقوله : {وَإِذْ قَالَ لُقْمَـانُ ابْنِه وَهُوَ يَعِظُه } إشارة إلى التكميل ، وفي هذا لطيفة وهي أن الله ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معاد ، وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا ، ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) في عبادة الخسيس أو لأنه وضع العبادة في غير موضعها وهي غير وجه الله وسبيله ، وأما أنه عظيم فلأنه وضع في موضع ليس موضعه ، ولا يجوز أن يكون موضعه ، وهذا لأن من يأخذ مال زيد ويعطي عمراً يكون ظلماً من حيث إنه وضع مال زيد في يد عمرو ، ولكن جائز أن يكون ذلك ملك عمرو أو يصير ملكه ببيع سابق أو بتمليك لاحق ، وأما الإشراك فوضع المعبودية في غير الله تعالى ولا يجوز أن يكون غيره معبوداً أصلاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 120
121
لما منعه من العبادة لغير الله والخدمة قريبة منها في الصورة بين أنها غير ممتنعة ، بل هي واجبة / لغير الله في بعض الصور مثل خدمة الأبوين ، ثم بين السبب فقال : {حَمَلَتْهُ أُمُّه } يعني لله على العبيد نعمة الإيجاد ابتداء بالخلق ونعمة الإبقاء بالرزق وجعل بفضله لأم ما له صورة ذلك وإن لم يكن لها حقيقة فإن الحمل به يظهر الوجود ، وبالرضاع يحصل التربية والبقاء فقال حملته أمه أي صارت بقدرة الله سبب وجوده وفصاله في عامين ، أي صارت بقدرته أيضاً سبب بقائه ، فإذا كان منها ما له صورة الوجود والبقاء وجب عليه ما له شبه العبادة من الخدمة ، فإن الخدمة لها صورة العبادة ، فإن قال قائل وصى الله بالوالدين وذكر السبب في حق الأم فنقول خص الأم بالذكر وفي الأب ما وجد في الأم فإن الأب حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ وقوله : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} لما كان الله تعالى بفضله جعل من الوالدين صورة ما من الله ، فإن الوجود في الحقيقة من الله وفي الصورة يظهر من الوالدين جعل الشكر بينهما فقال : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} ثم بين الفرق وقال : {إِلَىَّ الْمَصِيرُ} يعني نعمتهما مختصة بالدنيا ونعمتي في الدنيا والآخرة ، فإن إلي المصير أو نقول لما أمر بالشكر لنفسه وللوالدين قال الجزاء على وقت المصير إلي.
جزء : 25 رقم الصفحة : 121
122
يعني أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله ، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما ، وقد ذكرنا تفسير الآية في العنكبوت ، وقال ههنا {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } ، يعني صاحبهما بجسمك فإن حقهما على جسمك ، واتبع سبيل النبي عليه السلام بعقلك ، فإنه مربي عقلك ، كما أن الوالد مربي جسمك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 122
122
لما قال : {فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقع لابنه أن ما يفعل في خفية يخفي فقال : {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ} أي الحسنة والسيئة إن كانت في الصعر مثل حبة خردل وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفي على الله ، وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قوله : {فَتَكُن} بالفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب.
(1/3595)

المسألة الثانية : لو قيل الصخرة لا بد من أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها ؟
ولأن القائل لو قال هذا رجل أو امرأة أو ابن عمرو لا يصح هذا الكلام لكون ابن عمرو داخلاً في أحد القسمين فكيف يفهم هذا ، فنقول الجواب عنه من أوجه أحدها : ما قاله بعض المفسرين وهو أن المراد بالصخرة صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء والثاني : ما قاله الزمخشري وهو أن فيه إضماراً تقديره فتكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض والثالث : أن نقول تقديم الخاص وتأخير العام في مثل هذا التقسيم جائز وتقديم العام وتأخير الخاص غير جائز ، أما الثاني فلما بينتم أن من قال هذا في دار زيد أو في غيرها أو في دار عمرو لا يصح لكون دار عمرو داخلة في قوله أو في غيرها ، وأما الأول فلأن قول القائل هذا في دار زيد أو في دار عمرو أو في غيرها صحيح غير قبيح فكذلك ههنا قدم الأخص أو نقول خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر ومنها أن يكون بعيداً ، ومنها أن يكون في ظلمة ، ومنها أن يكون من وراء حجاب ، فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيراً قريباً في ضوء من غير حجاب فلا يخفى في العبادة ، فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله : {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} إشارة إلى الصغر وقوله : {فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ} إشارة إلى الحجاب وقوله : {أَوْ فِى السَّمَـاوَاتِ} إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد وقوله : {أَوْ فِى الارْضِ} إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله : {يَأْتِ بِهَا اللَّه } أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره فقوله : {يَأْتِ بِهَا اللَّه } أي يظهرها الله للإشهاد وقوله : {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} أي نافذ القدرة {خَبِيرٌ} أي عالم ببواطن الأمور.
جزء : 25 رقم الصفحة : 122
123
لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزمه من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً ، وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئتها اختلفت.
ثم قال تعالى : {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل / غيرك ، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم ، فإن قال قائل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر ، وقبل قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فإنه أول ما قال {يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ} ثم قال : {لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا * أَقِمِ الصَّلَواةَ} فنقول هو كان يعمل من ابنه أنه معترف بوجود الله فما أمره بهذا المعروف ونهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف ، فإن المشرك بالله لا يكون نافياً لله في الاعتقاد وإن كان يلزمه نفيه بالدليل فكان كل معروف في مقابلته منكر والمعروف في معرفة الله اعتقاد وجوده والمنكر اعتقاد وجود غيره معه ، فلم يأمره بذلك المعروف لحصوله ونهاه عن المنكر لأنه ورد في التفسير أن ابنه كان مشركاً فوعظه ولم يزل يعظه حتى أسلم ، وأما ههنا فأمر أمراً مطلقاً والمعروف مقدم على المنكر ثم قال تعالى : {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ } يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه ، وقوله : {إِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} أي من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ويكون المصدر بمعنى المفعول ، كما تقول أكلي في النهار رغيف خبز أي مأكولي.
جزء : 25 رقم الصفحة : 123
124
(1/3596)

لما أمره أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما : التكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له والثاني : التبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه فقال : {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} تكبراً {وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } تبختراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر {فَخُورٍ} يعني من يكون مفتخراً بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه ، وفي الآية لطيفة وهو أن الله تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال {أَقِمِ الصَّلَواةَ} ثم قال : {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال : {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ} ثم قال : {وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملاً لا يمكن أن يصير مكملاً فقدم الكمال ، وفي طرف النفي من يكون متكبراً على غيره متبختراً لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه ، وأما من يكون متبختراً في نفسه لا يتكبر ، ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر ، لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه. ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل ، لأن من لا يفطر لا يأكل ، ويجوز أن يقال لا تأكل / ولا تفطر ، لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل ، ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحداً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 124
126
لما قال : {وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف ، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهداً فقال : {وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ} أي كن وسطاً بين الطرفين المذمومين ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي ؟
فنقول : نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد ، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول : هو أن الإنسان لما كان شريفاً تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطراً فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي ، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشياً إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه ، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها ، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني : هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون ، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله ، وقد أشار إليه بقوله : {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} أي أصلح ضميرك فإن الله خبير ، بقي الأمران فقال : {وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث : هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه ، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه. فقوله : {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكاً آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء. وقوله : {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم. وقوله : {وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى : {أَنكَرَ الاصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} وفيه مسائل :
/
جزء : 25 رقم الصفحة : 126
المسألة الأولى : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ، نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك ، وإلا فيوقفه بالنداء ، فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن. وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ، ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب ، فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي ، وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى.
(1/3597)

المسألة الثانية : كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيراً ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر/ بخلاف صوت الحمير وهذا وهو الجواب الثاني.
المسألة الثالثة : أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو ؟
نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه ، بمعنى أشدها طاعة فإن أفعل لا يجىء في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ ، كقولهم أطوع من كذا للتفضيل على المطيع ، وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول ، وأحمق من فلان من باب العيوب ، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر ، أو نقول هو من باب أشغل مأخوذاً من نكر الشيء فهو منكر ، وهذا أنكر منه ، وعلى هذا فله معنى لطيف ، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك ، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح ، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور ، ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير.
جزء : 25 رقم الصفحة : 126
126
لما استدل بقوله تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} على الوحدانية ، وبين بحكاية لقمان أن / معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة ، وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة ، ولو كان تعبداً محضاً للزم قبوله ، فضلاً عن أنه على وفق الحكمة ، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مراراً أن الملك يخدم لعظمته ، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضاً ، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي. وذكر بعض النعم بقوله : {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} (المؤمنون : 18) ذكر بعده عامة النعم فقال : {سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ} أي سخر لأجلكم ما في السموات ، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده ، وسخر ما في الأرض لأجل عباده ، وقوله : {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه ظَـاهِرَةً} وهي ما في الأعضاء من السلامة {وَبَاطِنَةً } وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة ، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر ، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر ، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم ، وكذلك كل عضو ، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائماً ، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله : {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } يكون إشارة إلى النعم الآفاقية ، وقوله : {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه ظَـاهِرَةً وَبَاطِنَةً } يكون إشارة إلى النعم الأنفسية ، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير ، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولاً منقولاً ، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغاً معقولاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 126
(1/3598)

ثم قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ} يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره ، إما إلهاً أو منعماً {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ} هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب ، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب ، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد ، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي ، فقال تعالى : {يُجَـادِلُ} ذلك المجادل لا من علم واضح ، ولا من هدى أتاه من هاد ، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علماً كما قال تعالى : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } (النساء : 113) والثاني : إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) والثالث : إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى : {الاـم * تِلْكَ ءَاَيَـاتُ الْكِتَـابِ الْحَكِيمِ} (البقرة : 2) وقال في هذه السورة : {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} (لقمان : 3) وقال في السجدة : {وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل } (الإسراء : 2) فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام ، والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين ، فقال تعالى : يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفاً ، ولا بهدى أرسلناه إليه وحياً/ ولا بكتاب يتلى عليه وعظاً. ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه تعالى قال في الكتاب : {وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ} لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف ، فلو قال / ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب ، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم ، فقال : {وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ} فإن ذلك الكتاب مظلم ، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 126
127
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله ، وهم يأخذون بكلام آبائهم ، وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن ههنا شيئاً آخر وهو أنهم قالوا : {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل ، والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزاً ، ويحتمل أن يكون حراماً ، وهم تعاطوه ، ويحتمل أن يكون واجباً في اعتقادهم والقول بين الدلالة ، فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله ، لكان الواجب الأخذ بالقول ، فكيف والقول من الله والفعل من الجهال ، ثم قال تعالى : {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَـانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} استفهاماً على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب ، وهم مع هذا يتبعون الشيطان. ثم قال تعالى : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ا وَإِلَى اللَّهِ عَـاقِبَةُ الامُورِ} لما بين حال المشرك والمجادل في الله بين حال المسلم المستسلم لأمر الله فقوله : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ} إشارة إلى الإيمان وقوله : {وَهُوَ مُحْسِنٌ} إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى : {مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} وقوله : {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي تمسك بحبل لا انقطاع له وترقى بسببه إلى أعلى المقامات وفي الآية مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 127
(1/3599)

المسألة الأولى : قال ههنا : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ} وقال في سورة البقرة : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ} فعدى ههنا بإلى وهناك باللام ، قال الزمخشري معنى قوله : {أَسْلَمَ فَ أولئك تَحَرَّوْا رَشَدًا} أي جعل نفسه لله سالماً أي خالصاً / والوجه بمعنى النفس والذات ، ومعنى قوله : {يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ} يسلم نفسه إلى الله كما يسلم واحد متاعاً إلى غيره ولم يزد على هذا ، ويمكن أن يزاد عليه ويقال من أسلم لله أعلى درجة ممن يسلم إلى الله ، لأن إلى للغاية واللام للاختصاص ، يقول القائل أسلمت وجهي إليك أي توجهت نحوك وينبىء هذا عن عدم الوصول لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول وقوله أسلمت وجهي لك يفيد الاختصاص ولا ينبىء عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول ، إذا علم هذا فنقول في البقرة قالت اليهود والنصارى : {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى } (البقرة : 111) فقال الله رداً عليهم : {تِلْكَ أَمَانِيُّهُم قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ} (البقرة : 111) ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لِلَّهِ} أي أنتم مع أنكم تتركون الله للدنيا وتولون عنه للباطل وتشترون بآياته ثمناً قليلاً تدخلون (النار) ومن كان بكليته لله لا يدخلها ، هذا كلام باطل فأورد عليهم من أسلم لله ولا شك أن النقض بالصورة التي هي ألزم أولى فأورد عليهم المخلص الذي ليس له أمر إلا الله وقال : أنتم تدخلون الجنة وهذا لا يدخلها ، ثم بين كذبهم وقال : بلى وبين أن له فوق الجنة درجة وهي العندية بقوله : {فَلَه ا أَجْرُه عِندَ رَبِّه } وأما ههنا أراد وعد المحسن بالثواب والوصول إلى الدرجة العالية فوعد من هو دونه ليدخل فيه من هو فوقه بالطريق الأولى ويعم الوعد وهذا من الفوائد الجليلة. ثم قال تعالى : {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أوثق العرى جانب الله لأن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له ، ثم قال تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ عَـاقِبَةُ الامُورِ} يعني استمسك بعروة توصله إلى الله وكل شيء عاقبته إليه فإذا حصل في الحال ما إليه عاقبته في عاقبته في غاية الحسن وذلك لأن من يعلم أن عاقبة الأمور إلى واحد ثم يقدم إليه الهدايا قبل الوصول إليه يجد فائدته عند القدوم عليه ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله : {وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّه } (البقرة : 110).
جزء : 25 رقم الصفحة : 127
127
لما بين حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال : {وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ} أي لا تحزن إذا كفر كافر فإن من يكذب وهو قاطع بأن صدقه يتبين عن قريب لا يحزن ، بل قد يؤنب المكذب على الزيادة في التكذيب إذا لم يكن من الهداة ويكون المكذب من العداة ليخجله غاية التخجيل ، وأما إذا كان لا يرجو ظهور صدقه يتألم من التكذيب ، فقال فلا يحزنك كفره ، فإن المرجع إلي فأنبئهم بما عملوا فيخجلون وقوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي لا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم / فينبئهم بما أضمرته صدورهم ، وذات الصدور هي المهلك ، ثم إن الله تعالى فصل ما ذكرنا وقال : {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا} أي بقاؤهم مدة قليلة ثم بين لهم وبال تكذيبهم وكفرهم بقوله : {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أي نسلط عليهم أغلظ عذاب حتى يدخلوا بأنفسهم عذاباً غليظاً فيضطرون إلى عذاب النار فراراً من الملائكة الغلاظ الشداد الذين يعذبونهم بمقامع من نار ، وفيه وجه آخر لطيف وهو أنهم لما كذبوا الرسل ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون النار ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء ، وهو يتحقق بقوله تعالى : {فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُه ا إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } .
جزء : 25 رقم الصفحة : 127
129
(1/3600)

الآية متعلقة بما قبلها من وجهين أحدهما : أنه تعالى لما استدل بخلق السموات بغير عمد وبنعمه الظاهرة والباطنة بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له وهذا يقتضي أن يكون الحمد كله لله ، لأن خالق السموات والأرض يحتاج إليه كل ما في السموات والأرض ، وكون الحمد كله لله يقتضي أن لا يعبد غيره ، لكنهم لا يعلمون هذا والثاني : أن الله تعالى لما سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله : {فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُه ا إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم} أي لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب عند رجوعهم إلينا ، قال وليس لا يتبين إلا ذلك اليوم بل هو يتبين قبل يوم القيامة لأنهم معترفون بأن خلق السموات والأرض من الله ، وهذا يصدقك في دعوى الوحدانية ويبين كذبهم في الإشراك {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ظهور صدقك وكذب مكذبيك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك وعلى هذا يكون لا يعلمون استعمالاً للفعل مع القطع عن المفعول بالكلية كما يقول القائل فلأن يعطي ويمنع ولا يكون في ضميره من يعطي بل يريد أن له عطاءً ومنعاً فكذلك ههنا قال لا يعلمون أي ليس لهم علم وعلى الأول يكون لا يعلمون له مفعول مفهوم وهو أنهم لا يعلمون أن الحمد كله لله ، والثاني أبلغ لأن قول القائل : فلان لا علم له بكذا ، دون قوله فلان لا علم له ، وكذا قوله فلان : لا ينفع زيداً ولا يضره ، دون قوله : فلان لا يضر ولا ينفع.
جزء : 25 رقم الصفحة : 129
130
/ ذكر بما يلزم منه ، وهو أنه يكون له ما فيهما والأمر كذلك عقلاً وشرعاً ، أما عقلاً فلأن ما في السموات المخلوقة مخلوق وإضافة خلقه إلى من منه خلق السموات والأرض لازم عقلاً لأنها ممكنة ، والممكن لا يقع ولا يوجد إلا بواجب من غير واسطة كما هو مذهب أهل السنة أو بواسطة كما يقوله غيرهم ، وكيفما فرض فكله من الله لأن سبب السبب سبب ، وأما شرعاً فلأن من يملك أرضاً وحصل منها شيء ما يكون ذلك لمالك الأرض فكذلك كل ما في السموات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السموات والأرض وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله. ثم قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} فيه معان لطيفة أحدها : أن الكل لله وهو غير محتاج إليه غير منتفع به وفيها منافع فهي لكم خلقها فهو غني لعدم حاجته حميد مشكور لدفعه حوائجكم بها وثانيها : أن بعد ذكر الدلائل على أن الحمد كله لله ولا تصلح العبادة إلا لله افترق المكلفون فريقين مؤمن وكافر ، والكافر لم يحمد الله والمؤمن حمده فقال إنه عني عن حمد الحامدين فلا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين ، وحميد في نفسه فيتبين به إصابة المؤمنين وتكمل بحمده الحامدون وثالثها : هو أن السموات وما فيها والأرض وما فيها إذا كانت لله ومخلوقة له فالكل محتاجون فلا غني إلا الله فهو الغني المطلق وكل محتاج فهو حامد ، لاحتياجه إلى من يدفع حاجته فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني المطلق فهو الحميد ، وعلى هذا (يكون) الحميد بمعنى المحمود ، والله إذا قيل له الحميد لا يكون معناه إلا الواصف ، أي وصف نفسه أو عباده بأوصاف حميدة ، والعبد إذا قيل له حامد يحتمل ذلك المعنى ، ويحتمل كونه عابداً شاكراً له.
جزء : 25 رقم الصفحة : 130
131
(1/3601)

لما قال تعالى : {لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وكان ذلك موهماً لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وما في الأرض فيهما ، وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ} ويكتب بها والأبحر مداد لا تفني عجائب صنع الله ، وعلى هذا فالكلمة مفسرة بالعجيبة ، ووجهها أن العجائب بقوله كن وكن كلمة وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز. يقول الشجاع لمن يبارزه أنا موتك ، ويقال للدواء في حق المريض / هذا شفاؤك ، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح كلمة لأنه كان أمراً عجيباً وصنعاً غريباً لوجوده من غير أب ، فإن قال قائل الآية واردة في اليهود حيث قالوا الله ذكر كل شيء في التوراة ولم يبق شيء لم يذكره ، فقال الذي في التوراة بالنسبة إلى كلام الله تعالى ليس إلا قطرة من بحار وأنزل هذه الآية ، وقيل أيضاً إنها نزلت في واحد قال للنبي عليه السلام إنك تقول : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) وتقول : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 269) فنزلت الآية دالة على أنه خير كثير بالنسبة إلى العباد ، وبالنسبة إلى الله وعلومه قليل ، وقيل أيضاً إنها نزلت رداً على الكفار حيث قالوا بأن ما يورده محمد سينفد ، فقال إنه كلام الله وهو لا ينفد. وما ذكر من أسباب النزول ينافي ما ذكرتم من التفسير ، لأنها تدل على أن المراد الكلام ، فنقول ما ذكرتم من اختلاف الأقوال فيه يدل على جواز ما ذكرنا ، لأنه إذا صلح جواباً لهذه الأشياء التي ذكرتموها وهي متباينة علم أنها عامة وما ذكرنا لا ينافي هذا ، لأن كلام الله عجيب معجز لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ، وإذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه ، لا يقال إنك جعلت الكلام مخلوقاً ، لأنا نقول المخلوق هو الحرف والتركيب وهو عجيب ، وأما الكلمات فهي من صفات الله تعالى واعلم أن الآية وإن كانت نازلة على ترتيب غير الذي هو مكتوب ، ولكن الترتيب المكتوب عليه القرآن بأمر الله ، فإنه بأمر الرسول كتب كذلك ، وأمر الرسول من أمر الله وذلك محقق متيقن من سنن الترتيب الذي فيه ، ثم إن الآية فيها لطائف الأولى : قال :
جزء : 25 رقم الصفحة : 131
(1/3602)

{وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ} وحد الشجرة وجمع الأقلام ولم يقل ولو أن ما في الأرض من الأشجار أقلام ولا قال ولو أن ما في الأرض من شجرة قلم إشارة إلى التكثير ، يعني ولو أن بعدد كل شجرة أقلاماً الثانية : قوله والبحر يمده تعريف البحر باللام لاستغراق الجنس وكل بحر مداد ، ثم قوله : {يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} إشارة إلى بحار غير موجودة ، يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله : {سَبْعَةُ} ليس لانحصارها في سبعة ، وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر ، والسبعة خصصت بالذكر من بين الأعداد ، لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة ، والذي يدل عليه وجوه الأول : هو أن ما هو معلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان ، لأن المكان فيه الأجسام والزمان فيه الأفعال ، لكن المكان منحصر في سبعة أقاليم والزمان في سبعة أيام ، ولأن الكواكب السيارة سبعة/ وكان المنجمون ينسبون إليها أموراً ، فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير الثاني : هو أن الآحاد إلى العشرة وهي العقد الأول وما بعده يبتدىء من الآحاد مرة أخرى فيقال أحد عشر واثنا عشر ، ثم المئات من العشرات والألوف من المئات ، إذا علم هذا فنقول أقل ما يلتئم منه أكثر المعدودات هو الثلاثة ، لأنه يحتاج إلى طرفين مبدأ ومنتهى ووسط ، ولهذا يقال أقل ما يكون الإسم والفعل منه هو ثلاثة أحرف ، فإذا كانت الثلاثة هو القسم الأول من العشرة التي هو العدد الأصلي تبقى / السبعة القسم الأكثر ، فإذا أريد بيان الكثرة ذكرت السبعة ، ولهذا فإن المعدودات في العبادات من التسبيحات في الانتقالات في الصلوات ثلاثة ، والمرار في الوضوء ثلاثة تيسيراً للأمر على المكلف اكتفاءً بالقسم الأول ، إذا ثبت هذا فنقول قوله عليه السلام : "المؤمن يأكل في معى والكافر يأكل في سبعة أمعاء" إشارة إلى قلة الأكل وكثرته من غير إرادة السبعة بخصوصها ، ويحتمل أن يقال إن لجهنم سبعة أبواب بهذا التفسير ، ثم على هذا فقولنا للجنة ثمانية أبواب إشارة إلى زيادتها فإن فيها الحسنى وزيادة فلها أبواب كثيرة وزائدة على كثرة غيرها ، والذي يدل على ما ذكرنا في السبعة أن العرب عند الثامن يزيدون واواً ، يقول الفراء إنها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأن العدد بالسبعة يتم في العرف ، ثم بالثامن استئناف جديد اللطيفة الثالثة : لم يقل في الأقلام المدد لوجهين أحدهما : هو أن قوله : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ} بينا أن المراد منه هو أن يكون بعدد كل شجرة موجودة أقلام فتكون الأقلام أكثر من الأشجار الموجودة وقوله في البحر : وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ سَبْعَةُ أَبْحُر إشارة إلى أن البحر لو كان أكثر من الموجود لاستوى القلم والبحر في المعنى والثاني : هو أن النقصان بالكتابة يلحق المداد أكثر فإنه هو النافد والقلم الواحد يمكن أن يكتب به كتب كثيرة فذكر المدد في البحر الذي هو كالمداد.
جزء : 25 رقم الصفحة : 131
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لما ذكر أن ملكوته كثيراً أشار إلى ما يحقق ذلك فقال : {إِنَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مداداً لما نفد ما في علمه وقدرته.
ثم قال تعالى : {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال : {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ} سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذا كونه قادراً على البعث ومحيطاً بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل.
جزء : 25 رقم الصفحة : 131
131
(1/3603)

/ يحتمل أن يقال : إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال : {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} وقوله : {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} إشارة إلى ما في السموات ، وقوله بعد هذا : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} إشارة إلى ما في الأرض. ويحتمل أن يقال إن وجهه هو أن الله تعالى لما ذكر البعث وكان من الناس من يقول : {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ } (الجاثية : 24) والدهر هو الليالي والأيام ، قال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي تنسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله تعالى فقال : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} ثم إن قائلاً لو قال إن ذلك اختلاف مسير الشمس تارة تكون القوس التي هي فوق الأرض أكثر من التي تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة تكون بالعكس وتارة يتساويان فيتساويان فقال تعالى : {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} يعني إن كنتم لا تعترفون بأن هذه الأشياء كلها في أوائلها من الله فلا بد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى الله تعالى ، فالآجال إن كانت بالمدد والمدد بسير الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته ، وفي الآية مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 131
المسألة الأولى : إيلاج الليل في النهار يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال المراد إيلاج الليل في زمان النهار أي يجعل في الزمان الذي كان فيه النهار الليل ، وذلك لأن الليل إذا كان مثلاً اثنتي عشرة ساعة ثم يطول يصير الليل موجوداً في زمان كان فيه النهار وثانيهما : أن يقال المراد إيلاج زمان الليل في النهار أي يجعل زمان الليل في النهار وذلك لأن الليل إذا كان كما ذكرنا اثنتي عشرة ساعة إذا قصر صار زمان الليل موجوداً في النهار ولا يمكن غير هذا لأن إيلاج الليل في النهار محال الوجود فما ذكرنا من الإضمار لا بد منه لكن الأول أولى لأن الليل والنهار أفعال والأفعال في الأزمنة لأن الزمان ظرف فقولنا الليل في زمان النهار أقرب من قولنا زمان الليل في النهار لأن الثاني يجعل الظرف مظروفاً. إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} أي يوجده في وقت كان فيه النهار والله تعالى قدم إيجاد الليل على إيجاد النهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ } (الإسراء : 12) وقوله : {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1) وقوله : {وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (الجاثية : 5) ومن جنسه قوله : {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } (الجاثية : 5) وهذا إشارة إلى مسألة حكمية ، وهي أن الظلمة قد يظن بها أنها عدم النور والليل عدم النور والليل عدم النهار والحياة عدم الموت وليس كذلك إذ في الأزل لم يكن نهار ولا نور ولا حياة لممكن ولا يمكن أن يقال كان فيه موت أو ظلمة أو ليل فهذه الأمور كالأعمى والأصم فالعمي والصمم ليس مجرد عدم البصر وعدم السمع إذ الحجر والشجر لا بصر لهما ولا سمع ولا يقال لشيء منهما إنه أصم أو أعمى إذا علم هذا فنقول ما يتحقق فيه العمى والصمم لا بد من أن يكون فيه اقتضاء لخلافهما وإلا لما كان يقال له أعمى وأصم وما يكون فيه اقتضاء شيء/ ويترتب عليه مقتضاه / لا تطلب النفس له سبباً ، لأن من يرى المتعيش في السوق ، لا يقول لم دخل السوق وما يثبت على خلاف المقتضى تطلب النفس له سبباً ، كمن يرى ملكاً في السوق يقول لم دخل ، فإذن سبب العمى والصمم يطلبه كل واحد فيقول لم صار فلان أعمى ولا يقول لم صار فلان بصيراً ، وإذا كان كذلك قدم الله تعالى ما تطلب النفس سببه وهو الليل الذي هو على وزان العمى والظلمة والموت لكون كل واحد طالباً سببه ثم ذكر بعده الأمر الآخر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 131
المسألة الثانية : قال : {يُولِجُ} بصيغة المستقبل وقال في الشمس والقمر سخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يس : 39).
المسألة الثالثة : قدم الشمس على القمر مع تقدم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لما بينا أن تقديم الليل كان لأن الأنفس تطلب سببه أكثر مما تطلب سبب النهار ، وههنا كذلك ، لأن الشمس لما كانت أكبر وأعظم كانت أعجب ، والنفس تطلب سبب الأمر العجيب أكثر مما تطلب سبب الأمر الذي لا يكون عجيباً.
(1/3604)

المسألة الرابعة : ما تعلق قوله تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بما تقدم ؟
نقول لما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم وعليه الأكثرون ، وكأنه ترك الخطاب مع غيره ، لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة للخطاب معهم لإصرارهم ، ومن هو غيره من المؤمنين فهم مؤتمرون بأمر النبي عليه الصلاة والسلام ناظرون إليه الوجه الثاني : أن يقال المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحداً فيقول لجمع عظيم : يا مسكين إلى الله مصيرك ، فمن نصيرك ، ولماذا تقصيرك. فقوله : {أَلَمْ تَرَ} يكون خطاباً من ذلك القبيل أي يا أيها الغافل ألم تر هذا الأمر الواضح.
جزء : 25 رقم الصفحة : 131
132
ولما ذكر تعالى أوصاف الكمال بقوله : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} (لقمان : 26) وقوله : {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 220) وقوله : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ} (المجادلة : 1) وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله : {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّه } (لقمان : 27) وبقوله : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} وعلى الجملة فقوله : {هُوَ الْغَنِىُّ} إشارة إلى كل صفة سلبية فإنه إذا كان غنياً لا يكون عرضاً محتاجاً إلى الجوهر في القوام ، ولا جسماً محتاجاً إلى الحيز في الدوام ، ولا شيئاً من / الممكنات المحتاجة إلى الموجد ، وذكر بعده جميع الأوصاف الثبوتية صريحاً وتضمناً ، فإن الحياة في ضمن العلم والقدرة قال ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك الاتصاف بأنه هو الحق والحق هو الثبوت والثابت الله وهو الثابت المطلق الذي لا زوال له وهو الثبوت ، فإن المذهب الصحيح أن وجوده غير حقيقته فكل ما عداه فله زوال نظراً إليه والله له الثبوت والوجود نظراً إليه فهو الحق وما عداه الباطل لأن الباطل هو الزائل يقال بطل ظله إذا زال وإذا كان له الثبوت من كل وجه يكون تاماً لا نقص فيه.
ثم اعلم أن الحكماء قالوا الله تام وفوق التمام وجعلوا الأشياء على أربعة أقسام ناقص ومكتف وتام وفوق التمام (فالناقص) ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبي والمريض والأعمى (والمكتفي) وهو الذي أعطى ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان والحيوان الذي له من الآلات ما يدفع به حاجته في وقتها لكنها في التحلل والزوال (والتام) ما حصل له كل ما جاز له ، وإن لم يحتج إليه كالملائكة المقربين لهم درجات لا تزداد ولا ينقص الله منها لهم شيئاً كما قال جبريل عليه السلام "لو دنوت أنملة لاحترقت" لقوله تعالى : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) (وفوق التمام) هو الذي حصل له ما جاز له وحصل لما عداه ما جاز له أو احتاج إليه لكن الله تعالى حاصل له كل ما يجوز له من صفات الكمال ونعوت الجلال ، فهو تام وحصل لغيره كل ما جاز له أو احتاج إليه فهو فوق التمام إذا ثبت هذا فنقول قوله : {هُوَ الْحَقُّ} إشارة إلى التمام وقوله : {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} أي فوق التمام وقوله : {وَهُوَ الْعَلِىُّ} أي في صفاته وقوله : {الْكَبِيرُ} أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسماً في مكان لأنه يكون حينئذ جسداً مقدراً بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيراً بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير من مطلقاً أكبر من كل ما يتصور.
جزء : 25 رقم الصفحة : 132
133
ثم قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـاتِه } لما ذكر آية سماوية بقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (لقمان : 29) وأشار إلى السبب والمسبب ذكر آية أرضية ، وأشار إلى السبب والمسبب فقوله : {الْفُلْكَ تَجْرِى} إشارة إلى المسبب وقوله : {بِنِعْمَتِ اللَّهِ} إشارة إلى السبب أي إلى الريح التي هي بأمر الله {لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـاتِه } يعنى يريكم بإجرائها بنعمته {مِّنْ ءَايَـاتِه } أي بعض آياته ، ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار في الشدة شكور في الرخاء ، وذلك لأن المؤمن متذكر عند الشدة والبلاء عند النعم والآلاء فيصبر إذا أصابته نقمة ويشكر إذا أتته نعمة وورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلّم "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" إشارة إلى أن التكاليف أفعال وتروك والتروك صبر عن المألوف كما قال عليه الصلاة والسلام "الصوم صبر والأفعال شكر على المعروف".
جزء : 25 رقم الصفحة : 133
135
(1/3605)

لما ذكر الله أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا ، فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من الله ودعاه مخلصاً أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه ، فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله : {فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله : {وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} وحد الموج وجمع الظلل ، وقيل في معناه كالجبال ، وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج ، ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة.
المسألة الثانية : قال في العنكبوت {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ} (العنكبوت : 65) ثم قال : {فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت : 65) وقال ههنا {فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فنقول لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار ، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر.
المسألة الثالثة : قوله : {وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ} في مقابلة قوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ } يعني يعترف بها الصبار الشكور ، ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظاً ، ومعنى والكفور في موازنة الشكور ، أما لفظاً فظاهر ، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار ، فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على / العهد فينقضه ، وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 135
135
لما ذكر الدلائل من أول السورة إلى آخرها وعظ بالتقوى لأنه تعالى لما كان واحداً أوجب التقوى البالغة فإن من يعلم أن الأمر بيد اثنين لا يخاف أحدهما مثل ما يخاف لو كان الأمر بيد أحدهما لا غير ، ثم أكد الخوف بذكر اليوم الذي يحكم الله فيه بين العباد ، وذلك لأن الملك إذا كان واحداً ويعهد منه أنه لا يعلم شيئاً ولا يستعرض عباده ، لا يخاف منه مثل ما يخاف إذا علم أن له يوم استعراض واستكشاف ، ثم أكده بقوله : {لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه } وذلك لأن المجرم إذا علم أن له عند الملك من يتكلم في حقه ويقضي ما يخرج عليه برفد من كسبه لا يخاف مثل ما يخاف إذا علم أنه ليس له من يقضي عنه ما يخرج عليه ، ثم ذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليستدل بالأدنى على الأعلى ، وذكر الولد والوالد جميعاً فيه لطيفة ، وهي أن من الأمور ما يبادر الأب إلى التحمل عن الولد كدفع المال وتحمل الآلام والولد لا يبادر إلى تحمله عن الوالد مثل ما يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد ، ومنها ما يبادر الولد إلى تحمله عن الوالد ولا يبادر الوالد إلى تحمله عن الولد كالإهانة ، فإن من يريد إحضار والد أحد عند وال أو قاض يهون على الإبن أن يدفع الإهانة عن والده ويحضر هو بدله ، فإذا انتهى الأمر إلى الإيلام يهون على الأب أن يدفع الإيلام عن ابنه ويتحمله هو بنفسه فقوله : {لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه } في دفع الآلام {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِه شَيْـاًا } في دفع الاهانة ، وفي قوله : {لا يَجْزِى} وقوله : {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ} (لطيفة أخرى) وهي أنا ذكرنا أن الفعل يتأتى وإن كان ممن لا ينبغي ولا يكون من شأنه لأن الملك إذا كان يخيط شيئاً يقال إنه يخيط ولا يقال هو خياط ، وكذلك من يحيك شيئاً ولا يكون ذلك صنعته يقال هو يحيك ولا يقال هو حائك ، إذا علمت هذا فنقول الإبن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما له عليه من الحقوق والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك فقال في الوالد لا يجزي وقال في الولد {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 135
ثم قال تعالى : {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون تحقيقاً لليوم يعني / اخشوا يوماً هذا شأنه وهو كائن لوعد الله به ووعده حق والثاني : أن يكون تحقيقاً لعدم الجزاء يعني : {لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه } لأن الله وعد بـ {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (النجم : 38) ووعد الله حق ، فلا يجزي والأول أحسن وأظهر.
(1/3606)

ثم قال تعالى : {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} يعني إذا كان الأمر كذلك فلا تغتروا بالدنيا فإنها زائلة لوقوع (ذلك) اليوم المذكور بالوعد الحق.
ثم قال تعالى : {وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يعني الدنيا لا ينبغي أن تغركم بنفسها ولا ينبغي أن تغتروا (بها) وإن حملكم على محبتها غار من نفس أمارة أو شيطان فكان الناس على أقسام منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة ، فنهاهم عن الأمرين وقال كونوا قسما ثالثاً ، وهم الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 135
135
يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك ، لأن الله يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة ، ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره ، ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره ، فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال الله : {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِه } وذكر أنه كائن بقوله : {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } كأن قائلاً قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن ، ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مراراً على البعث أحدهما : إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى : {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِه لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآا إِنَّ ذَالِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى } (الروم : 49 ، 50) وقال تعالى : {وَيُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ} (الروم : 19) وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال {وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (الشورى : 28) وقال : {يُخْرِجُ الْحَىَّ} (الروم : 19) / وثانيهما : الخلق ابتداء كما قال : {اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ا } (الروم : 27) وقال تعالى : {قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَا ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ } (العنكبوت : 20) إلى غير ذلك فقال ههنا {وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِ } إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة والله قادر عليها ، وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام ، ثم قال لذلك الطالب علمه : يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها ، فلك أشياء أهم منها لا تعلمها ، فإنك لا تعلم معاشك ومعادك ، ولا تعلم ماذا تكسب غداً مع أنه فعلك وزمانك ، ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك ، فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون ، فالله ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك ، ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضاً تهيىء أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعاً إلى الله تعالى متوكلاً على الله ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها ، فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه ، وهي الساعة ، وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمت الله على لسان أنبيائه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 135
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ } لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة ، بقوله : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} ذكر أن علمه غير مختص بها ، بل هو عليم مطلقاً بكل شيء ، وليس علمه علماً بظاهر الأشياء فحسب ، بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء ، والله أعلم بالصواب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 135
136
(1/3607)

سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع مكية عند أكثرهم
وهي تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 25 رقم الصفحة : 136
139
/ لما ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة دليل الوحدانية وذكر الأصل وهو الحشر وختم السورة بهما بدأ ببيان الرسالة في هذه السورة فقال : {الام * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ} وقد علم ما في قوله : {الام } وفي قوله : {لا رَيْبَ فِيهِ} من سورة البقرة وغيرها غير أن ههنا قال : {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} وقال من قبل {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} (لقمان : 3) وقال في البقرة : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) وذلك لأن من يرى كتاباً عند غيره ، فأول ما تصير النفس طالبة تطلب ما في الكتاب فيقول ما هذا الكتاب ؟
فإذا قيل هذا فقه أو تفسير فيقول بعد ذلك تصنيف من هو ؟
ولا يقال أولا : هذا الكتاب تصنيف من ؟
ثم يقول فيماذا هو ؟
إذا علم هذا فقال أولا هذا الكتاب هدى ورحمة ، ثم قال ههنا هو كتاب الله تعالى وذكره بلفظ رب العالمين لأن كتاب من يكون رب العالمين يكون فيه عجائب العالمين فتدعو النفس إلى مطاعته.
جزء : 25 رقم الصفحة : 139
141
يعني أتعترفون به أم تقولون هو مفترى ، ثم أجاب وبين أن الحق أنه حق من ربه ثم بين فائدة التنزيل وهو الإنذار ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كيف قال {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَا هُم مِّن نَّذِيرٍ} مع أن النذر سبقوه الجواب : من وجهين أحدهما : معقول والآخر منقول ، أما المنقول فهو أن قريشاً كانت أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلّم وهو بعيد ، فإنهم كانوا من أولاد إبراهيم وجميع / أنبياء بني إسرائيل من أولاد أعمامهم وكيف كان الله يترك قوماً من وقت آدم إلى زمان محمد بلا دين ولا شرع ؟
وإن كنت تقول بأنهم ما جاءهم رسول بخصوصهم يعني ذلك القرن فلم يكن ذلك مختصاً بالعرب بل أهل الكتاب أيضاً لم يكن ذلك القرن قد أتاهم رسول وإنما أتى الرسل آباءهم ، وكذلك العرب أتى الرسل آباءهم كيف والذي عليه الأكثرون أن آباء محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كفاراً ولأن النبي أوعدهم وأوعد آباءهم بالعذاب ، وقال تعالى : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء : 15) وأما المعقول وهو أن الله تعالى أجرى عادته على أن أهل عصر إذا ضلوا بالكلية ولم يبق فيهم من يهديهم يلطف بعباده ويرسل رسولاً ، ثم إنه إذا أراد طهرهم بإزالة الشرك والكفر من قلوبهم وإن أراد طهر وجه الأرض باهلاكهم ، ثم أهل العصر ضلوا بعد الرسل حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فلم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فقال : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَا هُم} أي بعد الضلال الذي كان بعد الهداية لم يأتهم نذير.
المسألة الثانية : لو قال قائل التخصيص بالذكر يدل على نفي ما عداه فقوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَا هُم} يوجب أن يكون إنذاره مختصاً بمن لم يأته نذير لكن أهل الكتاب قد أتاهم نذير فلا يكون الكتاب منزلاً إلى الرسول لينذر أهل الكتاب فلا يكون رسولاً إليهم نقول هذا فاسد من وجوه أحدها : أن التخصيص لا يوجب نفي ما عداه والثاني : أنه وإن قال به قائل لكنه وافق غيره في أن التخصيص إن كان له سبب غير نفي ما عداه لا يوجب نفي ما عداه ، وههنا وجد ذلك لأن إنذارهم كان أولى ، ألا ترى أنه تعالى قال : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} (العراء : 214) ولم يفهم منه أنه لا ينذر غيرهم أو لم يأمر بإنذار غيرهم وإنذار المشركين كان أولى ، لأن إنذارهم كان بالتوحيد والحشر وأهل الكتاب لم ينذروا إلا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك الثالث : هو أن على ما ذكرنا لا يرد ما ذكره أصلا ، لأن أهل الكتاب كانوا قد ضلوا ولم يأتهم نذير من قبل محمد بعد ضلالهم فلزم أن يكون مرسلا إلى الكل على درجة سواء ، وبهذا يتبين حسن ما اخترناه ، وقوله : {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يعني تنذرهم راجياً أنت اهتداءهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 141
142
لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل ، فقال : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ} الله مبتدأ وخبره الذي خلق ، يعني الله هو الذي خلق السموات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد ، وقد ذكرنا أن قوله تعالى : {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} إشارة إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السموات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة فنظراً إلى خلقه ذات السموات حالة ونظراً إلى خلقه صفاتها أخرى ونظراً إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك ونظراً إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال وإنما ذكر الأيام لأن الإنسان إذا نظر إلى الخلق رآه فعلا والفعل ظرفه الزمان والأيام أشهر الأزمنة ، وإلا فقبل السموات لم يكن ليل ولا نهار وهذا مثل ما يقول القائل لغيره :
إن يوماً ولدت فيه
كان يوماً مباركاً
(1/3608)

وقد يجوز أن يكون ذلك قد ولد ليلاً ولا يخرج عن مراده ، لأن المراد هو الزمان الذي هو ظرف ولادته.
جزء : 25 رقم الصفحة : 142
ثم قال تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } اعلم أن مذهب العلماء في هذه الآية وأمثالها على وجهين أحدهما : ترك التعرض إلى بيان المراد وثانيهما : التعرض إليه والأول أسلم والى الحكمة أقرب ، أما أنه أسلم فذلك لأن من قال أنا لا أتعرض إلى بيان هذا ولا أعرف المراد من هذا ، لا يكون حاله إلا حال من يتكلم عند عدم وجوب الكلام أو لا يعلم شيئاً لم يجب عليه أن يعلمه ، وذلك لأن الأصول ثلاثة التوحيد والقول بالحشر والاعتراف بالرسل لكن الحشر أجمعنا واتفقنا أن العلم به واجب والعلم بتفصيله أنه متى يكون غير واحب ، ولهذا قال تعالى في آخر السورة المتقدمة {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) فكذلك الله يجب معرفة وجوده ووحدانيته واتصافه بصفات الجلال ونعوت الكمال على سبيل الإجمال وتعاليه عن وصمات الإمكان وصفات النقصان ، ولا يجب أن يعلم جميع صفاته كما هي ، وصفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن ترك التعرض إليه لم يترك واجباً ، وأما من يتعرض إليه فقد يخطىء فيه فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم ، والثاني يكاد أن يقع في أن يكون جاهلاً مركباً وعدم العلم الجهل المركب كالسكوت والكذب ولا يشك أحد في أن السكوت خير من الكذب ، وأما إنه أقرب إلى الحكمة فذلك لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسان وكتب له شرحاً والشارح دون المصنف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ، ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلامه ويقول لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب عن علم قاصر كذلك ، فما ظنك بالكتاب العزيز الذي فيه كل حكمة يجوز أن يدعي جاهل أني علمت كل سر في هذا الكتاب ، وكيف ولو ادعى عالم اني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليه الكتاب الفلاني يستقبح منه ذلك ، فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله ؟
ثم ليس لقائل أن يقول بأن الله تعالى بين كل ما أنزله لأن تأخير البيان إلى / وقت الحاجة جائز ولعل القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غير نبيه فبين له لا لغيره ، إذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم/ وهذا أقرب إلى ذلك الذي لا يعلم ، للتشابه البالغ الذي فيه ، لكن هذا المذهب له شرط وهو أن ينفي بعض ما يعلمه قطعاً أنه ليس بمراد ، وهذا لأن قائلاً إذا قال إن هذه الأيام أيام قرء فلانة يعلم أنه لا يريد أن هذه الأيام أيام موت فلانة ولا يريد أن هذه الأيام أيام سفر فلانة ، وإنما المراد منحصر في الطهر أو الحيض فكذلك ههنا يعلم أن المراد ليس ما يوجب نقصاً في ذاته لاستحالة ذلك ، والجلوس والاستقرار المكاني من ذلك الباب فيجب القطع بنفي ذلك والتوقف فيما يجوز بعده والمذهب الثاني : خطر ومن يذهب إليه فريقان أحدهما : من يقول المراد ظاهره وهو القيام والانتصاب أو الاستقرار المكاني وثانيهما : من يقول المراد الاستيلاء والأول جهل محض والثاني يجوز أن يكون جهلاً والأول مع كونه جهلاً هو بدعة وكاد يكون كفراً ، والثاني وإن كان جهلاً فليس بجهل يورث بدعة ، وهذا كما أن واحداً إذا اعتقد أن الله يرحم الكفار ولا يعاقب أحداً منهم يكون جهلاً وبدعة وكفراً ، وإذا اعتقد أنه يرحم زيداً الذي هو مستور الحال لا يكون بدعة ، غاية ما يكون أنه اعتقاد غير مطابق ، ومما قيل فيه : إن المراد منه استوى على ملكه ، والعرش يعبر به عن الملك ، يقال الملك قعد على سرير المملكة بالبلدة الفلانية وإن لم يدخلها وهذا مثل قوله تعالى :
جزء : 25 رقم الصفحة : 142
(1/3609)

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } (المائدة : 64) إشارة إلى البخل ، مع أنهم لم يقولوا بأن على يد الله غلا على طريق الحقيقة ، ولو كان مراد الله ذلك لكان كذباً جل كلام الله عنه ، ثم لهذا فضل تقرير وهو أن الملوك على درجات ، فمن يملك مدينة صغيرة أو بلاداً يسيرة ما جرت العادة بأن يجلس أول ما يجلس على سرير ، ومن يكون سلطاناً يملك البلاد الشاسعة والديار الواسعة وتكون الملوك في خدمته يكون له سرير يجلس عليه ، وقدامه كرسي يجلس عليه وزيره ، فالعرش والكرسي في العادة لا يكون إلا عند عظمة المملكة ، فلما كان ملك السموات والأرض في غاية العظمة ، عبر بما ينبىء في العرف عن العظمة ، ومما ينبهك لهذا قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا} (الإنسان : 2) {إِنَّا زَيَّنَّا} (الصافات : 6) {هُوَ أَقْرَبُ} (ق : 16) {نَحْنُ نَزَّلْنَا} (الحجر : 9) أيظن أو يشك مسلم في أن المراد ظاهره من الشريك وهل يجد له محملاً ، غير أن العظيم في العرف لا يكون واحداً وإنما يكون معه غيره ، فكذلك الملك العظيم في العرف لا يكون إلا ذا سرير يستوي عليه فاستعمل ذلك مريداً للعظمة ، ومما يؤيد هذا أن المقهور المغلوب المهزوم يقال له ضاقت به الأرض حتى لم يبق له مكان ، أيظن أنهم يريدون به أنه صار لا مكان له وكيف يتصور الجسم بلا مكان ، ولا سيما من يقول بأن إلهه في مكان كيف يخرج الإنسان عن المكان ؟
فكما يقال للمقهور الهارب لم يبق له مكان مع أن المكان واجب له ، يقال للقادر القاهر هو متمكن وله عرش ، وإن كان التنزه عن المكان واجباً له ، وعلى هذا كلمة ثم معناها خلق السموات والأرض ، ثم القصة أنه استوى على الملك ، وهذا كما يقول القائل : فلان أكرمني وأنعم علي مراراً ، ويحكي عنه أشياء ، ثم يقول إنه ما كان يعرفني ولا كنت فعلت معه ما يجازيني / بهذا ، فنقول ثم للحكاية لا للمحكي الوجه الآخر : قيل استوى جاء بمعنى استولى على العرش ، واستوى جاء بمعنى استولى نقلاً واستعمالاً. أما النقل فكثير مذكور في "كتاب اللغة" منها ديوان الأدب وغيره مما يعتبر النقل عنه. وأما الاستعمال فقول القائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 142
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
وعلى هذا فكلمة ثم ، معناها ما ذكرنا كأنه قال خلق السموات والأرض ، ثم ههنا ما هو أعظم منه استوى على العرش/ فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض والوجه الثالث : قيل إن المراد الاستقرار وهذا القول ظاهر ولا يفيد أنه في مكان ، وذلك لأن الإنسان يقول استقر رأي فلان على الخروج ولا يشك أحد أنه لا يريد أن الرأي في مكان وهو الخروج ، لما أن الرأي لا يجوز فيه أن يقال إنه متمكن أو هو مما يدخل في مكان إذا علم هذا فنقول فهم التمكن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكن ، حتى إذا قال قائل استقر زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكن وكونه في مكان ، وإذا قال قائل استقر الملك على فلان لا يفهم أن الملك في فلان ، فقول القائل الله استقر على العرش لا ينبغي أن يفهم كونه في مكان ما لم يعلم أنه مما يجوز عليه أن يكون في مكان أو لا يجوز ، فإذن فهم كونه في مكان من هذه اللفظة مشروط بجواز أن يكون في مكان ، فجواز كونه في مكان إن استفيد من هذه اللفظة يلزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال ، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون على العرش بمعنى كون العرش مكاناً له وجوه من القرآن أحدها : قوله تعالى : {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ} (الحج : 64) وهذا يقتضي أن يكون غنياً على الإطلاق ، وكل ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان ، لأن بديهة العقل حاكمة بأن الحيز إن لم يكن لا يكون المتحيز باقياً ، فالمتحيز ينتفي عند انتفاء الحيز ، وكل ما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه في استمراره ، فالقول باستقراره يوجب احتياجه في استمراره وهو غنى بالنص الثاني : قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) فالعرش يهلك وكذلك كل مكان فلا يبقى وهو يبقى ، فاذن لا يكون في ذلك الوقت في مكان ، فجاز عليه أن لا يكون في مكان ، وما جاز له من الصفات وجب له فيجب أن لا يكون في مكان الثالث : قوله تعالى : {وَهُوَ مَعَكُمْ} (الحديد : 4) ووجه التمسك به هو أن على إذا استعمل في المكان يفهم كونه عليه بالذات كقولنا فلان على السطح وكلمة مع إذا استعملت في متمكنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا زيد مع عمرو إذا استعمل هذا فإن كان الله في مكان ونحن متمكنون ، فقوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }
جزء : 25 رقم الصفحة : 142
(1/3610)

وقوله : {وَهُوَ مَعَكُمْ} كان ينبغي أن يكون للاقتران وليس كذلك ، فإن قيل كلمة مع تستعمل لكون ميله إليه وعلمه معه أو نصرته يقال الملك الفلاني مع الملك الفلاني ، أي بالإعانة والنصر ، فنقول كلمة على تستعمل لكون حكمه على الغير ، يقول القائل لولا فلان على فلان لأشرف في الهلاك ولأشرف على الهلاك ، وكذلك يقال لولا فلان على أملاك فلان أو على أرضه لما حصل له شيء منها ولا أكل / حاصلها بمعنى الإشراف والنظر ، فكيف لا نقول في استوى على العرش إنه استوى عليه بحكمه كما نقول هو معناه بعلمه الرابع : قوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَ } (الأنعام : 103) ولو كان في مكان لأحاط به المكان وحينئذٍ فإما أن يرى وإما أن لا يرى ، لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق لأن القول بأنه في مكان ولا يرى باطل بالإجماع ، وإن كان يرى فيرى في مكان أحاط به فتدركه الأبصار. وأما إذا لم يكن في مكان فسواء يرى أو لا يرى لا يلزم أن تدركه الأبصار. أما إذا لم ير فظاهر. وأما إذا رؤي فلأن البصر لا يحيط به فلا يدركه. وإنما قلنا إن البصر لا يحيط به لأن كل ما أحاط به البصر فله مكان يكون فيه وقد فرضنا عدم المكان ، ولو تدبر الإنسان القرآن لوجده مملوءاً من عدم جواز كونه في مكان ، كيف وهذا الذي يتمسك به هذا القائل يدل على أنه ليس على العرش بمعنى كونه في المكان ، وذلك لأن كلمة ثم للتراخي فلو كان عليه بمعنى المكان لكان قد حصل عليه بعد ما لم يكن عليه فقبله إما أن يكون في مكان أو لا يكون/ فإن كان يلزم محالان أحدهما : كون المكان أزلياً ، ثم إن هذا القائل يدعى مضادة الفلسفي فيصير فلسفياً يقول بقدم سماء من السموات والثاني : جواز الحركة والانتقال على الله تعالى وهو يفضي إلى حدوث الباري أو يبطل دلائل حدوث الأجسام ، وإن لم يكن مكان وما حصل في مكان يحيل العقل وجوده بلا مكان ، ولو جاز لما أمكن أن يقال بأن الجسم لو كان أزلياً ، فإما أن يكون في الأزل ساكناً أو متحركاً لأنهما فرعا الحصول في مكان ، وإذا كان كذلك فيلزمه القول بحدوث الله أو عدم القول بحدوث العالم ، لأنه إن سلم أنه قبل المكان لا يكون فهو القول بحدوث الله تعالى وإن لم يسلم فيجوز أن يكون الجسم في الأزل لم يكن في مكان ثم حصل في مكان فلا يتم دليله في حدوث العالم ، فيلزمه أن لا يقول بحدوثه ، ثم إن هذا القائل يقول إنك تشبه الله بالمعدوم فإنه ليس في مكان ولا يعلم أنه جعله معدوماً حيث أحوجه إلى مكان ، وكل محتاج نظراً إلى عدم ما يحتاج إليه معدوم ولو كتبنا ما فيها لطال الكلام.
جزء : 25 رقم الصفحة : 142
ثم قال تعالى : {مَا لَكُم مِّن دُونِه مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض ، قال بعضهم نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات ، وهذه الأصنام صور الكواكب منها نصرتنا وقوتنا ، وقال آخرون هذه صور الملائكة عند الله هم شفعاؤنا فقال الله تعالى لا إله غير الله ، ولا نصرة من غير الله ولا شفاعة إلا بإذن الله فعبادتكم لهم لهذه الأصنام باطلة ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم ولا شفعاؤكم ، ثم قال تعالى : {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض وخلق هذه الأجسام العظام لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى تنصركم والملك العظيم لا يكون عنده لهذه الأشياء الحقيرة احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 142
143
(1/3611)

/ لما بين الله تعالى الخلق بين الأمر كما قال تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } (الأعراف : 54) والعظمة تتبين بهما فإن من يملك مماليك كثيرين عظماء تكون له عظمة ، ثم إذا كان أمره نافذاً فيهم يزداد في أعين الخلق ، وإن لم يكن له نفاذ أمر ينقص من عظمته ، وقوله تعالى : {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} معناه والله أعلم أن أمره ينزل من السماء على عباده وتعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر ، فإن العمل أثر الأمر. وقوله تعالى : {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه ا أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} فيه وجوه أحدها : أن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو في يوم فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ، ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة ، فهو مقدار ألف سنة ثانيها : هو أن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر ، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله تعالى : {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه ا أَلْفَ سَنَةٍ} يعني {يُدَبِّرُ الامْرَ} في زمان يوم منه ألف سنة ، فكم يكون شهر منه ، وكم تكون سنة منه ، وكم يكون دهر منه ، وعلى هذا الوجه لا فرق بين هذا وبين قوله مقداره خمسين ألف سنة لأن تلك إذا كانت إشارة إلى دوام نفاذ الأمر ، فسواء يعبر بالألف أو بالخمسين ألفاً لا يتفاوت إلا أن المبالغة تكون في الخمسين أكثر وتبين فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى : (وفي هذه لطيفة) وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق ، وأشار إلى عظمة الملك ، وذكر في هذه الآية عالم الأرواح والأمر بقوله : {يُدَبِّرُ الامْرَ} والروح من عالم الأمر كما قال تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (
جزء : 25 رقم الصفحة : 143
الإسراء : 15) وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان والمراد دوام البقاء كما يقال في العرف طال زمان فلان والزمان لا يطول ، وإنما الواقع في الزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة فيطول ذلك فيأخذ أزمنة كثيرة ، فأشار هناك إلى عظمة الملك بالمكان وأشار إلى دوامه ههنا بالزمان فالمكان من خلقه وملكه والزمان بحكمه وأمره. واعلم أن ظاهر قوله : {يُدَبِّرُ الامْرَ} في يوم يقتضي أن يكون أمره في يوم واليوم له ابتداء وانتهاء فيكون أمره في زمان حادث فيكون حادثاً وبعض من يقول بأن الله على العرش استوى يقول بأن أمره قديم حتى الحروف ، وكلمة كن فكيف فهم من كلمة على كونه في مكان ، ولم يفهم من كلمة في كون أمره في زمان ثم بين أن هذا الملك العظيم النافذ الأمر غير غافل ، فإن الملك إذا كان آمراً ناهياً يطاع في أمره ونهيه ، ولكن يكون / غافلاً لا يكون مهيباً عظيماً كما يكون مع ذلك خبيراً يقظاً لا تخفى عليه أمور الممالك والمماليك فقال : {ذَالِكَ عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ} ولما ذكر من قبل عالم الأشباح بقوله : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} وعالم الأرواح بقوله : {يُدَبِّرُ الامْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الارْضِ} قال : {عَـالِمُ الْغَيْبِ} يعلم ما في الأرواح {وَالشَّهَـادَةِ} يعلم ما في الأجسام أو نقول قال : {عَـالِمُ الْغَيْبِ} إشارة إلى ما لم يكن بعد {وَالشَّهَـادَةِ} إشارة إلى ما وجد وكان وقدم العلم بالغيب لأنه أقوى وأشد إنباء عن كمال العلم/ ثم قال تعالى : {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} لما بين أنه عالم ذكر أنه عزيز قادر على الانتقام من الكفرة رحيم واسع الرحمة على البررة ، ثم قال تعالى : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه ا وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ مِن طِينٍ} لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ} يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السموات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق ، لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله : {وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ مِن طِينٍ} قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين ، ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله منى والمنى أصله غذاء ، والأغذية إما حيوانية ، وإما نباتية ، والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 143
143
(1/3612)

وقوله تعالى : {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة ، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين ، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين ، فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله : {وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ} ثم جعل نسله دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم / يبعد أن يقال : {ثُمَّ سَوَّاـاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه } عائد إلى آدم أيضاً لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة ، وذلك بعد خلق آدم ، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ} (غافر : 57) ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله : {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاـاهُ} أي كان طيناً فجعله منياً ثم جعله بشراً سوياً ، وقوله تعالى : {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه } إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف ، واعلم أن النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله : {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه } أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي ، ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال وجعل لكم مخاطباً ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال : {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِه } خاطبه من بعده وقال جعل لكم ، فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} (الروم : 20) فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق ، وههنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماءً مهيناً ثم خلقاً مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض.
جزء : 25 رقم الصفحة : 143
المسألة الثانية : الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة ، وذلك لأن الإنسان يسمع أولاً من الأبوين أو الناس أموراً فيفهمها ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجريها ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ومثاله شخص يسمع من أستاذ شيئاً ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها ، ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتاباً ، فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية.
المسألة الثالثة : ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ، لأن المصدر لا يجمع وذلك لحكمة وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل / واحد فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين ، والأذن محله ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض/ وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير والقوة مستبدة ، فذكر القوة في الأذن وفي العين والفؤاد للمحل نوع اختيار ، فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار ، ألا ترى أنك تقول سمع زيد ورأى عمرو ولا تقول سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادراً ، لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته ، فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له ، والعين كالأصل وقوة الأبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته ، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ولأن السمع له قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما.
(1/3613)

المسألة الرابعة : لم قدم السمع ههنا والقلب في قوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } (البقرة : 7) فنقول ذلك يحقق ما ذكرنا ، وذلك لأن عند الإعطاء ذكر الأدنى وارتقى إلى الأعلى فقال أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب وعند السلب قال ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها ، وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار مع أنها في الوسط فيما ذكرنا من الترتيب وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع فجمع بينهما وسلب قوة البصر بجعل الغشاوة عليه فذكرها متأخرة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 143
144
لما قال : {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} بين عدم شكرهم بإتيانهم بضده وهو الكفر وإنكار قدرته على إحياء الموتى وقد ذكرنا أن الله تعالى ، في كلامه القديم ، كلما ذكر أصلين من الأصول الثلاثة لم يترك الأصل الثالث وههنا كذلك لما ذكر الرسالة بقوله : {تَنزِيلُ الْكِتَـابِ} إلى قوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} وذكر الوحدانية بقوله : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ} إلى قوله : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ} ذكر الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى : {وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : الواو للعطف على ما سبق منهم فإنهم قالوا محمد ليس برسول والله ليس بواحد وقالوا الحشر ليس بممكن.
المسألة الثانية : أنه تعالى قال في تكذيبهم الرسول في الرسالة أم يقولون بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم إياه في الحشر ، وقالوا بلفظ الماضي ، وذلك لأن تكذيبهم إياه في رسالته لم يكن قبل وجوده وإنما كان ذلك حالة وجوده فقال يقولون يعني هم فيه ، وأما إنكارهم للحشر كان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال وقالوا.
المسألة الثالثة : أنه تعالى صرح بذكر قولهم في الرسالة حيث قال : {أَمْ يَقُولُونَ} وفي الحشر حيث قال : {وَقَالَ} ولم يصرح بذكر قولهم في الوحدانية ، وذلك لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسول ، وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في المعنى ، ألا ترى أن الله تعالى قال : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) فلم يقل قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.
المسألة الرابعة : لو قال قائل لما ذكر الرسالة ذكر من قبل دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ولما ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين ، ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل ، نقول في الجواب : ذكر دليله أيضاً وذلك لأن خلق الإنسان ابتداء دليل على قدرته على إعادته ، ولهذا استدل الله على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال : {ثُمَّ يُعِيدُه وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) وقوله : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) وكذلك خلق السموات كما قال تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81/ 82).
جزء : 25 رقم الصفحة : 144
وقوله تعالى : {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أئنا كائنون في خلق جديد أو واقعون فيه {بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَـافِرُونَ} إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب ، أو نقول معناه لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم ، فإنهم أنكروه فأنكروا المفضى إليه ، ثم بين ما يكون لهم من الموت إلى العذاب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 144
145
(1/3614)

يعني لا بد من الموت ثم من الحياة بعده وإليه الإشارة بقوله : {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وقوله : {الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ} إشارة إلى أنه لا يغفل عنكم وإذا جاء أجلكم لا يؤخركم إذ لا شغل له إلا هذا وقوله : {يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} ينبىء عن بقاء الأرواح فإن التوفي الاستيفاء والقبض هو الأخذ والإعدام المحض ليس بأخذ ، ثم إن الروح الزكي الطاهر يبقى عند الملائكة مثل الشخص بين أهله / المناسبين له والخبيث الفاجر يبقى عندهم كأسير بين قوم لا يعرفهم ولا يعرف لسانهم ، والأول ينمو ويزيد ويزداد صفاؤه وقوته والآخر يذبل ويضعف ويزداد شقاؤه وكدورته ، والحكماء يقولون إن الأرواح الطاهرة تتعلق بجسم سماوي خير من بدنها وتكمل به ، والأرواح الفاجرة لا كمال لها بعد التعلق الثاني فإن أرادوا ما ذكر بها فقد وافقونا وإلا فيغير النظر في ذلك بحسب إرادتهم فقد يكون قولهم حقاً وقد يكون غير حق ، فإن قيل هم أنكروا الإحياء والله ذكر الموت وبينهما مباينة نقول فيه وجهان أحدهما : أن ذلك دليل الإحياء ودفع استبعاد ذلك فإنهم قالوا : ما عدم بالكلية كيف يكون الموجود عين ذلك ؟
فقال : الملك يقبض الروح والأجزاء تتفرق فجمع الأجزاء لا بعد فيه ، وأمر الملك برد ما قبضه لا صعوبة فيه أيضاً ، فقوله : {قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} أي الأرواح معلومة فترد إلى أجسادها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 145
146
لما ذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بين ما يكون عند الرجوع على سبيل الإجمال بقوله : {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ} يعني لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجباً ، وقوله : {تَرَى } يحتمل أن يكون خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلّم تشفياً لصدره فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ، ويحتمل أن يكون عاماً مع كل أحد كما يقول القائل إن فلاناً كريم إن خدمته ولو لحظة يحسن إليك طول عمرك ولا يريد به خاصاً ، وقوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} لبيان شدة الخجالة لأن الرب إذا أساء إليه المربوب ، ثم وقف بين يديه يكون في غاية الخجالة.
ثم قال تعالى : {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} يعني يقولون أو قائلين {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} وحذف يقولون إشارة إلى غاية خجالتهم لأن الخجل العظيم الخجالة لا يتكلم ، وقوله : {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي أبصرنا الحشر وسمعنا قول الرسول فارجعنا إلى دار الدنيا لنعمل صالحاً ، وقولهم : {إِنَّا مُوقِنُونَ} معناه إنا في الحال آمنا ولكن النافع الإيمان والعمل الصالح ، ولكن العمل الصالح لا يكون إلا عند التكليف به وهو في الدنيا فارجعنا للعمل ، وهذا باطل منهم فإن الإيمان لا يقبل في الآخرة كالعمل الصالح أو نقول المراد منه أنهم ينكرون الشرك كما قالوا : {وَمَا كُنَّا سَـارِقِينَ} فقالوا إن هذا الذي جرى علينا ما جرى إلا بسبب ترك العمل الصالح وأما الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 146
146
(1/3615)

/ ثم قال تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} جواباً عن قولهم : {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} وبيانه هو أنه تعالى قال : إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم ، وقوله : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا} صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول إن الله ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ، ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} (ص : 85) هذا من حيث النقل وله وجه في العقل وهو أن الله تعالى لم يفعل فعلاً خالياً عن حكمة وهذا متفق عليه والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل ؟
وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال ، فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي وهو أن الفعل إما أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضاً أو خيراً مشوباً بشر وهذا القسم على ثلاثة أقسام قسم خيره غالب وقسم شره غالب وقسم خيره وشره مثلان ، إذا علم هذا فخلق الله عالماً فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي وخلق عالماً فيه خير وشر وهو عالمنا وهو العالم السفلي ولم يخلق عالماً فيه شر محض ، ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا ، وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب ، فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار ، تجد المنافع أكثر ، وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر ، وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر ، ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلاً من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء ، والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير أصلاً غاية ما في الباب أن الكفر يحبط خيره ولا ينفعه ، إنما يستحيل نظراً إلى العادة أن يوجد كافر لا يسقي العطشان شربة ماء ولا يطعم الجائع لقمة خبز ولا يذكر ربه في عمره ، وكيف لا وهو في زمن صباه كان مخلوقاً على الفطرة المقتضية للخيرات ، إذا ثبت هذا فنقول قالوا : لولا الشر في هذا العالم لكانت مخلوقات الله تعالى منحصرة في الخير المحض ولا يكون قد خلق القسم الذي فيه الخير الغالب والشر القليل ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة ، ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار ، فلو امتنع وقال في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي فيقال له لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك وكذلك / الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف فخلق العالم الذي يقع فيه الشر وإلى هذا أشار بقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 146
(1/3616)

{إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةًا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } (البقرة : 30) فقال الله تعالى في جوابهم : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30) أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير ، ثم بين لهم خيره بالتعليم ، كما قال تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة. وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب ، فقوله تعالى : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} إشارة إلى الشر ، وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ} فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا} (السجدة : 13) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر ، لكن حينئذٍ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول ، فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة ، لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة ، وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير ، وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر ، فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل ، وقوله : {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} لأنه تعالى قال لإبليس : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} (ص : 85) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي ، والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة ، وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح. وقوله : {أَجْمَعِينَ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون تأكيداً وهو الظاهر والثاني : أن يكون حالاً ، أي مجموعين ، فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار ؟
نقول هذا لبيان الجنس ، أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمناً للملائكة ، ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس ، فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلىء ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة والله أعلم. ولما بين الله تعالى بقوله : {وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا} أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 146
146
/ المسألة الأولى : قوله : {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ} لقاء يحتمل أن يكون منصوباً بذوقوا ، أي ذوقوا لقاء يومكم بما نسيتم ، وعلى هذا يحتمل أن يكون المنسي هو الميثاق الذي أخذ منهم بقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) أو بما في الفطرة من الوحدانية فينسى بالإقبال على الدنيا والاشتغال بها ويحتمل أن يكون منصوباً بقوله : {نَسِيتُمْ} أي بما نسيتم لقاء هذا اليوم ذوقوا ، وعلى هذا لو قال قائل النسيان لا يكون إلا في المعلوم أولاً إذا جهل آخراً نقول لما ظهرت براهينه فكأنه ظهر وعلم ، ولما تركوه بعد الظهور ذكر بلفظ النسيان إشارة إلى كونهم منكرين لأمر ظاهر كمن ينكر أمراً كان قد علمه.
المسألة الثانية : قوله تعالى هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون إشارة إلى اليوم ، أي فذوقوا بما نسيتم لقاء هذا اليوم وثانيها : أن يكون إشارة إلى لقاء اليوم ، أي فذوقوا بما نسيتم هذا اللقاء وثالثها : أن يكون إشارة إلى العذاب ، أي فذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم ، ثم قال إنا نسيناكم ، أي تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم كما يفعله الناسي قطعاً لرجائكم ، ثم ذكر ما يلزم من تركه إياهم كما يترك الناسي وهو خلود العذاب ، لأن من لا يخلصه الله فلا خلاص له ، فقال : {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 146
147
إشارة إلى أن الإيمان بالآيات كالحاصل ، وإنما ينساه البعض فإذا ذكر بها خرّ ساجداً له ، يعني انقادت أعضاؤه له ، وسبح بحمده ، يعني ويحرك لسانه بتنزيهه عن الشرك ، وهم لا يستكبرون ، يعني وكان قلبه خاشعاً لا يتكبر ومن لا يستكبر عن عبادته فهو المؤمن حقاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 147
148
(1/3617)

يعني بالليل قليلاً ما يهجعون وقوله : {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي يصلون ، فإن الدعاء والصلاة من باب واحد في المعنى أو يطلبونه وهذا لا ينافي الأول لأن الطلب قد يكون بالصلاة ، والحمل على الأول أولى / لأنه قال بعده : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} وفي أكثر المواضع التي ذكر فيها الزكاة ذكر الصلاة قبلها كقوله تعالى : {وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة : 3) وقوله : {خَوْفًا وَطَمَعًا} يحتمل أن يكون مفعولاً له ويحتمل أن يكون حالاً ، أي خائفين طامعين كقولك جاؤني زوراً أي زائرين ، وكأن في الآية الأولى إشارة إلى المرتبة العالية وهي العبادة لوجه الله تعالى مع الذهول عن الخوف والطمع بدليل قوله تعالى : {إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا } (السجدة : 15) فإنه يدل على أن عند مجرد الذكر يوجد منهم السجود وإن لم يكن خوف وطمع. وفي الآية الثانية إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين وهي العبادة خوفاً كمن يخدم الملك الجبار مخافة سطوته أو يخدم الملك الجواد طمعاً في بره ، ثم بين ما يكون لهم جزاء فعلهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 148
149
يعني مما تقر العين عنده ولا تلتفت إلى غيره يقال إن هذا لا يدخل في عيني ، يعني عيني تطلع إلى غيره ، فإذا لم يبق تطلع للعين إلى شيء آخر لم يبق للعين مسرح إلى غيره فتقر جزاء بحكم الوعد ، وهذا فيه لطيفة وهي أن من العبد شيئاً وهو العمل الصالح ، ومن الله أشياء سابقة من الخلق والرزق وغيرهما وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام ، فلله تعالى أن يقول جزاء الإحسان إحسان ، وأنا أحسنت أولا والعبد أحسن في مقابلته ، فالثواب تفضل ومنحة من غير عوض ، وله أن يقول جعلت الأول تفضلاً لا أطلب عليه جزاء ، فإذا أتى العبد بالعمل الصالح فليس عليه شيء لأني أبرأته مما عليه من النعم فكان هو آتياً بالحسنة ابتداء ، وجزاء الإحسان إحسان ، فأجعل الثواب جزاء كلاهما جائز ، لكن غاية الكرم أن يجعل الأول هبة ويجعل الثاني مقابلاً وعوضاً لأن العبد ضعيف لو قيل له بأن فعلك جزاء فلا تستحق جزاء ، وإنما الله يتفضل يثق ولكن لا يطمئن قلبه ، وإذا قيل له الأول غير محسوب عليك والذي أتيت به أنت به باد ولك عليه استحقاق ثواب يثق ويطمئن ثم إذا عرف أن هذا من فضل الله فالواجب من جانب العبد أن يقول فعلى جزاء نعم الله السابقة ولا أستحق به جزاء ، فإذا أثابه الله تعالى يقول الذي أتيت به كان جزاء ، وهذا ابتداء إحسان من الله تعالى يستحق حمداً وشكراً فيأتي بحسنة فيقول الله إني أحسنت إليه جزاء فعله الأول وما فعلت أولا لا أطلب له جزاء فيجازيه ثالثاً فيشكر العبد ثالثاً فيجازيه رابعاً وعلى هذا لا تنقطع المعاملة بين العبد والرب ، ومثله في الشاهد اثنان تحابا فأهدى أحدهما إلى الآخر هدية ونسيها والمهدي إليه يتذكرها فأهدى إلى المهدي عوضاً فرآه المهدي الأول ابتداء لنسيانه ما أهداه إليه فجازاه بهدية فقال المحب الآخر ما أهديته كان جزاء لهديته السابقة ، وهذه هدية ما عوضتها فيعوض ويعوض / عنه المحب الآخر ويتسلسل الأمر بينهما ولا ينقطع التهادي والتحاب ، بخلاف من أرسل إلى واحد هدية وهو يتذكرها فإذا بعث إليه المهدي إليه عوضاً يقول المهدي هذا عوض ما أهديت إليه فيسكت ويترك الإهداء فينقطع ، واعلم أن التكاليف يوم القيامة ، وإن ارتفعت لكن الذكر والشكر والعبادة لا ترتفع بل العبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما يعبده في الدنيا ، وكيف لا وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال في حقهم {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء : 20) غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي بمقتضى الطبع ومن جملة الأسباب الموحبة لدوام نعيم الجنة هذا وكيف لا وخدمة الملوك لذة وشرف فلا تترك وإن قرب العبد منه بل تزداد لذتها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 149
150
(1/3618)

لما بين حال المجرم والمؤمن قال للعاقل هل يستوي الفريقان ، ثم بين أنهما لا يستويان ، ثم بين عدم الاستواء على سبيل التفصيل ، فقال : {أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَلَهُمْ جَنَّـاتُ الْمَأْوَى } إشارة إلى ما ذكرنا أن الله أحسن ابتداء لا لعوض فلما آمن العبد وعمل صالحاً قبله منه كأنه ابتداء فجازاه بأن أعطاه الجنة ثم قال تعالى : {نُزُ } إشارة إلى أن بعدها أشياء لأن النزل ما يعطي الملك النازل ، وقت نزوله قبل أن يجعل له راتباً أو يكتب له خبزاً وقوله : {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يحقق ما ذكرنا وقوله تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُا كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ} إشارة إلى حال الكافر ، وقد ذكرنا مراراً أن العمل الصالح له مع الإيمان أثر أما الكفر إذا جاء فلا التفات إلى الأعمال ، فلم يقل وأما الذين فسقوا وعملوا السيآت لأن المراد من فسقوا كفروا ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل ، لظن أن مجرد الكفر لا عقاب عليه ، وقوله في حق المؤمنين {لَهُمْ} بلام التمليك زيادة إكرام لأن من قال لغيره اسكن هذه الدار يكون ذلك محمولاً على العارية وله استرداده ، وإذا قال هذه الدار لك يكون ذلك محمولا على نسبة الملكية إليه وليس / له استرداده بحكم قوله وكذلك في قوله : {لَهُمْ جَنَّـاتُ} ألا ترى أنه تعالى لما أسكن آدم الجنة وكان في علمه أنه يخرجه منها قال : {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة : 35) ولم يقل لكما الجنة وفي الآخرة لما لم يكن للمؤمنين خروج عنها قال : {الْجِنَّةِ} و{لَهُمْ جَنَّـاتُ}
جزء : 25 رقم الصفحة : 150
وقوله : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا } إشارة إلى معنى حكمي ، وهو أن المؤلم إذا تمكن والألم إذا امتد لم يبق به شعور تام ولهذا قال الأطباء إن حرارة حمى الدق بالنسبة إلى حرارة الحمى البلغمية نسبة النار إلى الماء المسخن ، ثم إن المدقوق لا يحس من الحرارة بما يحس به من به الحمى البلغمية لتمكن الدق وقرب العهد بظهور حرارة الحمى البلغمية ، وكذلك الإنسان إذا وضع يده في ماء بارد يتألم من البرد ، فإذا صبر زماناً طويلاً تثلج يده ويبطل عنه ذلك الألم الشديد مع فساد مزاجه ، إذا علمت هذا فقوله : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} إشارة إلى أن الإله لا يسكن عنهم بل يرد عليهم في كل حال أمر مؤلم يجدد وقوله : {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} يقرر ما ذكرنا ومعناه أنهم في الدنيا كانوا يكذبون بعذاب النار ، فلما ذاقوه كان أشد إيلاماً لأن من لا يتوقع شيئاً فيصيبه يكون أشد تأثيراً ، ثم إنهم في الآخرة كما في الدنيا يجزمون أن لا عذاب إلا وقد وصل إليهم ولا يتوقعون شيئاً آخر من العذاب فيرد عليهم عذاب أشد من الأول ، وكانوا يكذبون به بقولهم لا عذاب فوق ما نحن فيه فاذن معنى قوله تعالى : {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} ليس مقتصراً على تكذيبهم الذي كان في الدنيا بل {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} وقيل لهم ذوقوا عذاباً كذبتم به من قبل/ أما في الدنيا بقولكم لا عذاب في الآخرة ، وأما في الآخرة فبقولكم لا عذاب فوق ما نحن فيه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 150
151
يعني قبل عذاب الآخرة نذيقهم عذاب الدنيا فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديداً ، ولا يكون مديداً فإن العذاب الشديد في الدنيا يهلك فيموت المعذب ويستريح منه فلا يمتد ، وإن أراد المعذب أن يمتد عذاب المعذب لا يعذبه بعذاب في غاية الشدة ، وأما عذاب الآخرة فشديد ومديد ، وفي الآية مسألتان :
(1/3619)

إحداهما : قوله تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى } في مقابلته العذاب الأقصى والعذاب الأكبر في مقابلته العذاب الأصغر ، فما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر ؟
فنقول حصل في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب والآخر أنه قليل صغير وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمرانأحدهما : أنه بعيد والآخر أنه عظيم كثير ، لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يصلح / للتخويف به ، فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً قد يحترز منه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلا ، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل ، وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد لما بينا فقال في عذاب الدنيا {الْعَذَابِ الادْنَى } ليحترز العاقل عنه ولو قال : (لنذيقنهم من العذاب الأصغر) ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ، ولو قال دون العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكبر ، وبالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما لحكمة بالغة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 151
المسألة الثانية : قوله تعالى : {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل هذه الترجى والله تعالى محال ذلك عليه فما الحكمة فيه ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : معناه لنذيبقنهم إذاقة الراجين كقوله تعالى : {إِنَّا نَسِينَـاكُمْ } (السجدة : 14) يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا ، فكذلك ههنا نذيقهم على الوجه الذي يفعل بالراجي من التدريج وثانيهما : معناه نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل لعلهم يرجعون بسببه ، ونزيد وجهاً آخر من عندنا ، وهو أن كل فعل يتلوه أمر مطلوب من ذلك الفعل يصح تعليل ذلك الفعل بذلك الأمر ، كما يقال فلان اتجر ليربح ، ثم إن هذا التعليل إن كان في موضع لا يحصل الجزم بحصول الأمر من الفعل نظراً إلى نفس الفعل وإن حصل الجزم والعلم بناء على أمر من خارج فإنه يصح أن يقال يفعل كذا رجاء كذا ، كما يقال يتجر رجاء أن يربح ، وإن حصل للتاجر جزم بالربح لا يقدح ذلك في صحة قولنا يرجو لما أن الجزم غير حاصل نظراً إلى التجارة وإن كان الجزم حاصلاً نظراً إلى الفعل ، لا يصح أن يقال يرجو وإن كان ذلك الجزم يحتمل خلافه كقول القائل فلان حز رقبة عدوه رجاء أن يموت ، لا يصح لحصوله الجزم بالموت عقيب الحز نظراً إليه وإن أمكن أن لا يموت نظراً إلى قدرة الله تعالى ، ويصحح قولنا قوله تعالى في حق إبراهيم {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى} (الشعراء : 82) مع أنه كان عالماً بالمغفرة لكن لما لم يكن الجزم حاصلاً من نفس الفعل أطلق عليه الطمع وكذلك قوله تعالى : {وَارْجُوا الْيَوْمَ الاخِرَ} (العنكبوت : 36) مع أن الجزم به لازم إذا علم ما ذكرنا فنقول في كل صورة قال الله تعالى : {لَعَلَّهُمْ} فإن نظرنا إلى الفعل لا يلزم الجزم ، فإن من التعذيب لا يلزم الرجوع لزوماً بيناً فصح قولنا يرجو وإن كان علمه حاصلاً بما يكون غاية ما في الباب أن الرجاء في أكثر الأمر استعمل فيما لا يكون الأمر معلوماً فأوهم أن لا يجوز الإطلاق في حق الله تعالى وليس كذلك بل الترجي يجوز في حق الله تعالى/ ولا يلزم منه عدم العلم ، وإنما يلزم عدم الجزم بناء على ذلك الفعل وعلم الله ليس مستفاداً من الفعل فيصح حقيقة الترجي في حقه على ما ذكرنا من المعنى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 151
0
(1/3620)

قوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } يعني لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانياً ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد ، لأن من يكفر بالله ظالم فإن الله لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كل شيء كما قال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت : 53) أي دليلك الله لا يحتاج المستنير الباطن إلى دليل على الله ، ولهذا قال بعض العارفين رأيت الله قبل كل شيء فمن لم يكفه الله فسائر الموجودات سواء ، كان فيها نفع أو ضر كاف في معرفة الله كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} (فصلت : 53) فإن لم يكفهم ذلك فبسبغه عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، فالأول الذي لا يحتاج إلى غير الله هو عدل والثاني الذي يحتاج إلى دليل فهو متوسط والثالث الذي لم تكفه الآفاق ظالم والرابع الذي لم تقنعه النعم أظلم من ذلك الظالم وقد يكون أظلم منه آخر ، وهو الذي إذا أذيق العذاب لا يرحع عن ضلالته ، فإن الأكثر كان من صفتهم أنهم إذا مسهم ضر دعوا ربهم منيبين إليه فهذا لما عذب ولم يرجع فلا أظلم منه أصلا فقال : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } .
ثم قال تعالى : {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا منتقم منهم بالعذاب الأكبر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 151
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} لما قرر الأصول الثلاثة على ما بيناه عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ} (القصص : 46) وقال : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف : 9) بل كان قبلك رسل مثلك واختار من بينهم موسى لقربه من النبي صلى الله عليه وسلّم ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم ، وإنما لم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته ، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى عليه السلام فتمسك / بالمجمع عليه ، وقوله : {فَلا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآاـاِه } قيل معناه فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه ، وقيل بأنه رآه ليلة المعراج وقيل معناه فلا تكن في شك من لقاء الكتاب فإنك تلقاه كما لقي موسى الكتاب ويحتمل أن تكون الآية واردة لا للتقرير بل لتسلية النبي عليه السلام فإنه لما أتى بكل آية وذكر بها وأعرض عنها قومه حزن عليهم ، فقيل له تذكر حال موسى ولا تحزن فإنه لقي ما لقيت وأوذي كما أوذيت ، وعلى هذا فاختيار موسى عليه السلام لحكمة ، وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه قومه إلا الذين لم يؤمنوا به ، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى فإن لم يؤمن به آذاه مثل فرعون وغيره ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً آذاه بالمخالفة وطلب أشياء منه مثل طلب رؤية الله جهرة ومثل قوله : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا} (المائدة : 24) ثم بين له أن هدايته غير خالية عن المنفعة كما أنه لم تخل هداية موسى/ فقال : {وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فحيث جعل الله كتاب موسى هدى وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صحابة يهدون كما قال عليه السلام : "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر ، فقال : {لَمَّا صَبَرُوا ا وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يُوقِنُونَ} فكذلك اصبروا وآمنوا بأن وعد الله حق.
جزء : 25 رقم الصفحة : 151
153
قوله : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} هذا يصلح جواباً لسؤال : وهو أنه لما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ} كان لقائل أن يقول كيف كانوا يهدون وهم اختلفوا وصاروا فرقاً وسبيل الحق واحد ، فقال فيهم هداة والله بين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة ، وفيه وجه آخر ، وهو أن الله تعالى بين أنه يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم فينبغي أن لا يأمن من آمن وإن لم يجتهد ، فإن المبتدع معذب كالكافر ، غاية ما في الباب ، أن عذاب الكافر أشد وآلم وأمد وأدوم.
(1/3621)

ثم قال تعالى : {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ} قد ذكرنا أن قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تقرير لرسالة محمد صلى الله عليه وسلّم وإعادة لبيان ما سبق في قوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَا هُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} (القصص : 46) ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد ، فقال تعالى : {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم} وقوله : {يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ } زيادة إبانة ، أي مساكن المهلكين دالة على حالهم وأنتم تمشون فيها وتبصرونها ، وقوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَاتٍا أَفَلا يَسْمَعُونَ} اعتبر فيه السمع ، لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم ، فقال أفلا يسمعون ، يعني ليس لهم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 153
153
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ} لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضر والنفع بيد الله ، والجرز الأرض اليابسة التي لا نبات فيها والجرز هو القطع وكأنها المقطوع عنها الماء والنبات. ثم قال تعالى : {فَنُخْرِجُ بِه زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ } قدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه أحدها : أن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان والثاني : وهو أن الزرع غذاء الدواب وهو لا بد منه. وأما غذاء الإنسان فقد يحصل من الحيوان ، فكأن الحيوان يأكل الزرع ، ثم الإنسان يأكل من الحيوان الثالث : إشارة إلى أن الأكل من ذوات الدواب والإنسان يأكل بحيوانيته أو بما فيه من القوة العقلية فكماله بالعبادة. ثم قال تعالى : {أَفَلا يُبْصِرُونَ} لأن الأمر يرى بخلاف حال الماضين ، فإنها كانت مسموعة ، ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إلى آخر السورة ، فصار ترتيب آخر السورة كترتيب أولها حيث ذكر الرسالة في أولها بقوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا} (القصص : 46) وفي آخرها بقوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} (البقرة : 87) وذكر التوحيد بقوله : {الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ} وقوله : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه ا وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَانِ مِن طِينٍ} وفي آخر السورة ذكره بقوله : {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ} وذكر الحشر في أولها بقوله : {وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ} (السجدة : 10) وفي آخرها بقوله : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 153
0
قوله تعالى : {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يقبل إيمانهم في تلك الحالة ، لأن الإيمان المقبول هو الذي يكون في دار الدنيا ، ولا ينظرون ، أي لا يمهلون بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا فيقبل إيمانهم ، ثم لما بين المسائل وأتقن الدلائل ولم ينفعهم. قال تعالى : {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تناظرهم بعد ذلك وإنما الطريق بعد هذا القتال. وقوله : {وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} يحتمل وجوهاً أحدها : وانتظر هلاكهم فإنهم ينتظرون هلاكك ، وعلى هذا فرق بين الانتظارين ، لأن انتظار النبي صلى الله عليه وسلّم بأمر الله تعالى بعد وعده وانتظارهم بتسويل أنفسهم والتعويل على الشيطان وثانيها : وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم وفرق بين الانتظارين وثالثها : وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء ، كما قالوا : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} (الأعراف : 70) وقالوا {مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (النمل : 71) إلى غير ذلك ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين ، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 153
156
(1/3622)

سورة الأحزاب
سبعون وثلاث آيات وهي مدنية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 25 رقم الصفحة : 156
157
قوله تعالى : {مُّنتَظِرُونَ * يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} . في تفسير الآية مسائل :
الأولى : في الفرق بين النداء والمنادى بقوله يا رجل ويا أيها الرجل ، وقد قيل فيه ما قيل ونحن نقول قول القائل يا رجل يدل على النداء وقوله يا أيها الرجل يدل على ذلك أيضاً وينبىء عن خطر خطب المنادي له أو غفلة المنادى أما الثاني : فمذكور وأما الأول : فلأن قوله : (يا أي) جعل المنادى غير معلوم أولاً فيكون كل سامع متطلعاً إلى المنادى فإذا خص واحداً كان في ذلك إنباء الكل لتطلعهم إليه ، وإذا قال يا زيد أو يا رجل لا يلتفت إلى جانب المنادى إلا المذكور إذا علم هذا فنقول {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ} لا يجوز حمله على غفلة النبي لأن قوله {النَّبِىُّ} ينافي الغفلة لأن النبي عليه السلام خبير فلا يكون غافلاً فيجب حمله على خطر الخطب.
المسألة الثانية : الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس وللساكت اسكت والنبي عليه السلام كان متقياً فما الوجه فيه ؟
نقول فيه وجهان : احدهما : منقول وهو أنه أمر بالمداومة فإنه يصح أن يقول القائل للجالس اجلس ههنا إلى أن أجيئك ، ويقول القائل للساكت قد أصبت فاسكت تسلم ، أي دم على ما أنت عليه والثاني : وهو معقول لطيف ، وهو أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي لم يؤمر بالتقوى بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني ، وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا. وكيف والأمور الدنيوية شاغلة والآدمي في الدنيا تارة مع الله ، وأخرى مقبل على ما لابد منه ، وإن كان معه الله وإلى هذا إشارة بقوله : {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ} (فصلت : 6) يعني يرفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فالأمر بالتقوى يوجب استدامة الحضور الوجه الثاني : هو أن النبي عليه الصلاة والسلام كل لحظة كان يزداد علمه ومرتبته حتى كان حاله فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه تركا للأفضل ، فكان له في كل ساعة تقوى متجددة فقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 157
{اتَّقِ اللَّهَ} على هذا أمر بما ليس فيه وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام بقوله : / "من استوى يوماه فهو مغبون" ولأنه طلب من ربه بأمر الله إياه به زيادة العلم حيث قال : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) وأيضاً إلى هذا وقعت الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" يعني يتجدد له مقام يقول الذي أتيت به من الشكر والعبادة لم يكن شيئاً ، إذا علم هذا فالنبي صلى الله عليه وسلّم بحكم {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (فصلت : 6) كان قد وقع له خوف ما يسير من جهة ألسنة الكفار والمنافقين ومن أيديهم بدليل قوله تعالى : {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَا ه } (الأحزاب : 37) فأمره الله بتقوى أخرى فوق ما يتقيه بحيث تنسيه الخلق ولا يريد إلا الحق وزاد الله به درجته فكان ذلك بشارة له ، في {مُّنتَظِرُونَ * يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ} أنت ما بقيت في الدرجة التي يقنع منك بتقوى ، مثل تقوى الآحاد أو تقوى الأوتاد بل لا يقنع منك إلا بتقوى تنسيك نفسك ألا ترى أن الإنسان إذا كان يخاف فوت مال إن هجم عليه غاشم يقصد قتله يذهل عن المال ويهرب ويتركه ، فكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمر بمثل هذه التقوى ومع هذه التقوى لا يبقى الخوف من أحد غير الله وخرج هذا مخرج قول القائل لمن يخاف زيد أو عمراً خف عمراً فإن زيداً لا يقدر عليك إذا كان عمرو معك فلا يكون ذلك أمراً بالخوف من عمرو فإنه يخاف وإنما يكون ذلك نهياً عن الخوف من زيد في ضمن الأمر بزيادة الخوف من عمرو حتى ينسيه زيداً.
ثم قوله تعالى : {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } يقرر قولنا أي اتق الله تقوى تمنعك من طاعتهم.
المسألة الثالثة : لم خص الكافرين والمنافقين بالذكر مع أن النبي صلى الله عليه وسلّم ينبغي أن لا يطيع أحداً غير الله ؟
نقول لوجهين أحدهما : أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام الاتباع ، ولا يتوقع أن يصير النبي عليه السلام مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً والثاني : هو أنه تعالى لما قال : {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } منعه من طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي عليه الصلاة والسلام طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأمر أمر إيجاب معتقداً على أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 157
(1/3623)

ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} إشارة إلى أن التقوى ينبغي تكون عن صميم قلبك لا تخفى في نفسك تقوى غير الله كما يفعله الذي يرى من نفسه الشجاعة حيث يخاف في نفسه ويتجلد فإن التقوى من الله وهو عليم ، وقوله : {حَكِيمًا} إشارة إلى دفع وهم متوهم وهو أن متوهما لو قال إذا قال الله شيئاً وقال جميع الكافرين والمنافقين مع أنهم أقارب النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً آخر ورأوا المصلحة فيه وذكروا وجهاً معقولاً فاتباعهم لا يكون إلا مصلحة فقال الله / تعالى إنه حكيم ولا تكون المصلحة إلى في قول الحكيم ، فإذا أمرك الله بشيء فاتبعه ولو منعك أهل العالم عنه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 157
159
يقرر ما ذكرنا من أنه حكيم فاتباعه هو الواجب ، ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} لما قال إنه عليم بما في قلوب العباد بين أنه عالم خبير بأعمالكم فسووا قلوبكم وأصلحوا أعمالكم. ثم قال تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} يعني اتق الله وإن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كفى به دافعاً ينفع ولا يضر معه شيء وإن ضر لا ينفع معه شيء.
ثم قال تعالى : {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِه } قال بعض المفسرين الآية نزلت في أبي معمر كان يقول لي قلبان أعلم وأفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد فرد الله عليه بقوله : {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِه } ، وقال الزمخشري قوله : {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـا ـِاى تُظَـاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـاتِكُمْ } أي ما جعل لرجل قلبين كما لم يجعل لرجل أمين ولا لابن أبوين ، وكلاهما ضعيف بل الحق أن يقال إن الله لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} فكان ذلك أمراً له بتقوى لا يكون فوقها تقوى ومن يتقي ويخاف شيئاً خوفاً شديداً لا يدخل في قلبه شيء آخر ألا ترى أن الخائف الشديد الخوف ينسى مهماته حالة الخوف فكأن الله تعالى قال يا أيها النبي اتق الله حق تقاته ، ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حى يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غيره فإن اتقى غيره فلا يكون ذلك إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره وذلك لا يليق بالمتقي الذي يدعي أنه يتق الله حق تقاته ، ثم ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أنه لا ينبغي أن يتقي أحداً ولا مثل ما اتقيت في حكاية زينب زوجة زيد حيث قال الله تعالى :
جزء : 25 رقم الصفحة : 159
159
ثم بين الهداية وقال : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَآءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُم وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُم} .
قوله تعالى : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ} أرشد وقال : {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه } أي أعدل فإنه وضع الشيء في موضعه وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون ترك الإضافة للعموم أي أعدل كل كلام كقول القائل الله أكبر وثانيهما : أن يكون ما تقدم منوياً كأنه قال ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد وقال : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه فَإِن لَّمْ} يعني قولوا لهم إخواننا وأخو فلان فإن كانوا محررين فقولوا مولى فلان ، ثم قال تعالى : {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُم بِه } يعني قول القائل لغيره يا بني بطريق الشفقة ، وقول القائل لغيره يا أبي بطريق التعظيم ، فإنه مثل الخطأ ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان فكذلك سبق اللسان في قول القائل ابني والسهو في قوله ابني من غير قصد إلى إثبات النسب سواء ، وقوله : {وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } مبتدأ خبره محذوف يدل عليه ما سبق وهو الجناح يعني ما تعمدت قلوبكم فيه جناح {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} يغفر الذنوب ويرحم المذنب وقد ذكرنا كلاماً شافياً في المغفرة والرحمة في مواضع ، ونعيد بعضها ههنا فنقول المغفرة هو أن يسترد القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته حتى أن العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه لا يقال إنه غفر له ، والرحمة هو أن يميل إليه بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه ، وكذا من أحسن إلى غيره رجاء في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال رحمه ، إذا علم هذا / فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلساً عاجزاً فرحمه وأعطاه ما كفاه ، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ولم يقتصر عليه بل ستر ذنوبه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 159
159
(1/3624)

قوله تعالى : {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } تقرير لصحة ما صدر منه عليه الصلاة والسلام من التزوج بزينب وكأن هذا جواب عن سؤال وهو أن قائلاً لو قال هب أن الأدعياء ليسوا بأبناء كما قلت لكن من سماه غيره ابناً إذا كان لدعيه شيء حسن لا يليق بمروءته أن يأخذه منه ويطعن فيه عرفاً فقال الله تعالى {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} جواباً عن ذلك السؤال وتقريره هو أن دفع الحاجات على مراتب ؛ دفع حاجة الأجانب ثم دفع حاجة الأقارب الذين على حواشي النسب ثم دفع حاجة الأصول والفصول ثم دفع حاجة النفس ، والأول عرفاً دون الثاني وكذلك شرعاً فإن العاقلة تتحمل الدية عنهم ولا تتحملها عن الأجانب والثاني دون الثالث أيضاً وهو ظاهر بدليل النفقة والثالث دون الرابع فإن النفس تقدم على الغير وإليه أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" إذا علمت هذا فالإنسان إذا كان معه ما يغطي به إحدى الرجلين أو يدفع به حاجة عن أحد شقي بدنه ، فلو أخذ الغطاء من أحدهما وغطى به الآخر لا يكون لأحد أن يقول له لم فعلت فضلاً عن أن يقول بئسما فعلت ، اللهم إلا أن يكون أحد العضوين أشرف من الآخر مثل ما إذا وقى الإنسان عينه بيده ويدفع البرد عن رأسه الذي هو معدن حواسه ويترك رجله تبرد فإنه الواجب عقلاً ، فمن يعكس الأمر يقال له لم فعلت ، وإذا تبين هذا فالنبي صلى الله عليه وسلّم أولى بالمؤمن من نفسه فلو دفع المؤمن حاجة نفسه دون حاجة نبيه يكون مثله مثل من يدهن شعره ويكشف رأسه في برد مفرط قاصداً به تربية شعره ولا يعلم أنه يؤذي رأسه الذي لا نبات لشعره إلا منه ، فكذلك دفع حاجة النفس فراغها إلى عبادة الله تعالى ولا علم بكيفية العبادة إلا من الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلو دفع الإنسان حاجته لا للعبادة فهو ليس / دفعاً للحاجة لأن دفع الحاجة ما هو فوق تحصيل المصلحة وهذا ليس فيه مصلحة فضلاً عن أن يكون حاجة وإذا كان للعبادة فترك النبي الذي منه يتعلم كيفية العبادة في الحاجة ودفع حاجة النفس مثل تربية الشعر مع إهمال أمر الرأس ، فتبين أن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أراد شيئاً حرم على الأمة التعرض إليه في الحكمة الواضحة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 159
(1/3625)

ثم قال تعالى : {وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } تقريراً آخر ، وذلك لأن زوجة النبي صلى الله عليه وسلّم ما جعلها الله تعالى في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت الزوجات في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره ، فلو قال قائل كيف قال : {وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } وقال من قبل : {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـا ـِاى تُظَـاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـاتِكُمْ } إشارة إلى أن غير من ولدت لا تصير أماً بوجه ، ولذلك قال تعالى في موضع آخر : {إِنْ أُمَّهَـاتُهُمْ إِلا الَّـا ئِى وَلَدْنَهُمْ } فنقول قوله تعالى في الآية المتقدمة : {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ} جواب عن هذا معناه أن الشرع مثل الحقيقة ، ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة. كما أن امرأتين إذا ادعت كل واحدة ولداً بعينه ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد/ وإن تبين أن التي حلفت دون البلوغ أو بكر ببينة لا يحكم لها بالولد ، فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع ، لا بل في بعض المواضع على الندور تغلب الشريعة الحقيقة ، فإن الزاني لا يجعل أباً لولد الزنا. إذا ثبت هذا فالشارع له الحكم فقول القائل هذه أمي قول يفهم لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة. وأما قول الشارع (فهو) حق والذي يؤيده هو أن الشارع به الحقائق حقائق فله أن يتصرف فيها ، ألا ترى أن الأم ما صارت أماً إلا بخلق الله الولد في رحمها ، ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها ، فإذا كان هو الذي يجعل الأم الحقيقية أماً فله أن يسمى امرأة أماً ويعطيها حكم الأمومة ، والمعقول في جعل أزواجه أمهاتنا هو أن الله تعالى جعل زوجة الأب محرمة على الإبن ، لأن الزوجة محل الغيرة والتنازع فيها ، فإن تزوج الإبن بمن كانت تحت الأب يفضي ذلك إلى قطع الرحم والعقوق ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشرف وأعلى درجة من الأب وأولى بالإرضاء ، فإن الأب يربي في الدنيا فحسب ، والنبي عليه الصلاة والسلام يربي في الدنيا والآخرة ، فوجب أن تكون زوجاته مثل زوجات الآباء ، فإن قال قائل : فلم لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى ، أو لم يقل إن أزواجه أزواج أبيكم فنقول لحكمة ، وهي أن النبي لما بينا أنه إذا أراد زوجة واحد من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي عليه الصلاة والسلام ، فلو قال أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد ، ولأنه لما جعله أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدم على الأب لقوله عليه الصلاة والسلام : "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" ولذلك فإن المحتاج إلى القوت لا يجب عليه صرفه إلى الأب ، ويجب عليه صرفه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم إن أزواجه لهم حكم زوجات / الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن ، وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقية والرضاعية.
جزء : 25 رقم الصفحة : 159
(1/3626)

ثم قال تعالى : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَـابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ مَسْطُورًا} إشارة إلى الميراث ، وقوله : {إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِكُم مَّعْرُوفًا } إشارة إلى الوصية ، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى ، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم ، فإن قيل فعلى هذا أي تعلق للميراث والوصية بما ذكرت نقول تعلق قوي خفي لا يتبين إلا لمن هداه الله بنوره ، وهو أن غير النبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته لا يصير له مال الغير ، وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته ، والنبي عليه الصلاة والسلام في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أراده ولا يصير ماله لورثته بعد وفاته كأن الله تعالى عوض النبي عليه الصلاة والسلام عن قطع ميراثه بقدرته على تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه يرجع إليهم ، حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم ولا يرجع إليهم فقال تعالى : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} يعني بينكم التوارث فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم الثاني : هو أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام أولي بالمؤمنين وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض ، ثم إذا أراد أحد براً مع صديق فيوصي له بشيء فيصير أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده/ فكذلك الله تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله : "كان ذلك في الكتاب مسطوراً" فيه وجهان أحدهما : في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني : في اللوح المحفوظ.
جزء : 25 رقم الصفحة : 159
161
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب : 1) وأكده بالحكاية التي خشى فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله : {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } (الأحزاب : 6) أكده بوجه آخر وقال : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ} كأنه قال اتق الله ولا تخف أحداً واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ.
المسألة الثانية : خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجاً على قومهما ، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها ، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان ، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب ، وأما نوح فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا.
المسألة الثالثة : في كثير من المواضع يقول الله : {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} (البقرة : 87) {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة : 17) إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به ، وقوله : {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى : {فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ} (الأعراف : 6) وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق ، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظاً للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة ، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} (النساء : 21) هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد.
جزء : 25 رقم الصفحة : 161
161
يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب ، لأن الصادق محاسب والكافر معذب ، وهذا كما قال علي عليه السلام : "الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب" وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 161
(1/3627)

161
/ تحقيقاً لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك لأن واقعة اجتماع الأحزاب واشتداد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ونزلوا على المدينة وعمل النبي عليه السلام الخندق ، كان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فإنه كاف أمره ولا يأمن مكره فإنه قادر على كل ممكن فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم كانوا ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم ، وقوله : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } إشارة إلى ما فعل الله بهم من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية وإرسال الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم حتى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل والحكاية مشهورة ، وقوله : {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداء ، وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله فإن قوله : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون ، فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم لأنكم لا ترون الأشياء فلا تخافون غير الله والله بصير بما تعملون فلا تقولوا بأنا نفعل شيئاً وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله : {إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} بيان لشدة الأمر وغاية الخوف ، وقيل : {مِّن فَوْقِكُمْ} أي من جانب الشرق {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} من جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الأبصار أي مالت عن سننها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته
جزء : 25 رقم الصفحة : 161
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} كناية عن غاية الشدة ، وذلك لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مجرى النفس لا يقدر المرء يتنفس ويموت من الخوف ومثله قوله تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (الواقعة : 83) وقوله : {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } الألف واللام يمكن أن يكونا بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة ، لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قال عليه السلام : "ظنوا بالله خيراً" ومن الكافر الظن السوء كما قال تعالى : {ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (ص : 27) وقوله : {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} (النجم : 23) فإن قال قائل المصدر لا يجمع ، فما الفائدة في جمع الظنون ؟
فنقول لا شك في أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال ضربته سياطاً وأدبته مراراً فكأنه قال ظننتم ظناً بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال : تظنون ظناً ، جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال : ظنوناً ، تبين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها / وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد مثاله إذا رأى جمع من بعيد جسماً وظن بعضهم أنه زيد وآخرون أنه عمرو وقال ثالث إنه بكر/ ثم ظهر لهم الحق قد يكون الكل مخطئين والمرئي شجر أو حجر. وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله : {الظُّنُونَا } أفاد أن فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال تظنون بالله ظناً ما كان يفيد هذا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 161
161
أي عند ذلك امتحن الله المؤمنين فتميز الصادق عن المنافق ، والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء ، كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة وعزم على معاقبته على مخالفته وعنده غيره من العبيد وغيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه يخالفه فيبين الأمر عند الغير فتقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنها بظلم أو من قلة حلم وقوله : {وَزُلْزِلُوا } أي أزعجوا وحركوا فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وبذكر الله تطمئن مرة أخرى ، وهم المؤمنون حقاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 161
162
(1/3628)

فسر الظنون وبينها ، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث قطعوا بأن الغلبة واقعة وقوله : {وَإِذْ قَالَت طَّآاـاِفَةٌ مِّنْهُمْ يَـا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ} أي لا وجه لإقامتكم مع محمد كما يقال لا إقامة على الذل والهوان أي لا وجه لها ويثرب اسم للبقعة التي هي المدينة فارجعوا أي عن محمد ، واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان ثم السامعون عزموا على الرجوع واستأذنوه وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي فيها خلل لا يأمن صاحبها السارق على متاعه والعدو على أتباعه ثم بين الله كذبهم بقوله : {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } وبين قصدهم وما تكن صدورهم وهو الفرار وزوال القرار بسبب الخوف.
جزء : 25 رقم الصفحة : 162
162
إشارة إلى أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض ، فإذا فاته الغرض لا يفعله ، كمن يبذل المال لكي لا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله فقال الله تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً ، وليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة ، وقوله : {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم} احتمل أن يكون المراد المدينة واحتمل أن يكون البيوت ، وقوله : {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَآ} يحتمل أن يكون المراد الفتنة {إِلا يَسِيرًا} فإنها تزول وتكون العاقبة للمتقين ، ويحتمل أن يكون المراد المدينة أو البيوت أي ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً فإن المؤمنين يخرجونهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 162
162
بياناً لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً وندماً ، وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدماً ثم هددهم بقوله : {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـاُولا} وقوله : {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما وقع عليه القرار ، وما قدره الله كائن فمن أمر بشيء إذا خالفه يبقى في ورطة العقاب آجلاً ولا ينتفع بالمخالفة عاجلاً ، ثم قال تعالى : {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} كأنه يقول ولو فررتم منه في يومكم مع أنه غير ممكن لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً فالعاقل لا يرغب في شيء قليل مع أنه يفوت عليه شيئاً كثيراً ، فلا فرار لكم ولو كان لما متعتم بعد الفرار إلا قليلاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 162
163
بياناً لما تقدم من قوله : {لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ} وقوله : {وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ} تقرير لقوله : {مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم} أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 163
163
أي الذين يثبطون المسلمين ويقولون تعالوا إلينا ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلّم وفيه وجهان أحدهما : أنهم المنافقون الذين كانوا يقولون للأنصار لا تقاتلوا وأسلموا محمداً إلى قريش وثانيهما : اليهود الذين كانوا يقولون لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بمعنى تعال أو احضر ولا تجمع في لغة الحجاز وتجمع في غيرها فيقال للجماعة هلموا وللنساء هلمن ، وقوله : {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا} يؤيد الوجه الأول وهو أن المراد منهم المنافقون وهو يحتمل وجهين أحدهما : {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} بمعنى يتخلفون عنكم ولا يخرجون معكم وحينئذٍ قوله تعالى : {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء حيث لا ينفقون في سبيل الله شيئاً وثانيهما : لا يأتون البأس بمعنى لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم ، وقوله : {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بأنفسهم وأبدانهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 163
163
إشارة إلى غاية جبنهم ونهاية روعهم ، واعلم أن البخل شبيه الجبن ، فلما ذكر البخل بين سببه وهو الجبن والذي يدل عليه هو أن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر / فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه ، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك ، وأما بالنفس والبدن فكذلك فإن الجبان يخاف قرنه ويتصور الفشل فيجبن ويترك الإقدام ، وأما الشجاع فيحكم بالغلبة والنصر فيقدم ، وقوله تعالى : {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم} أي غلبوكم بالألسنة وآذوكم بكلامهم يقولون نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو وقهرتم ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالإياب ، وقوله : {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } قيل الخير المال ويمكن أن يقال معناه أنهم قليلو الخير في الحالتين كثيرو الشر في الوقتين في الأول يبخلون ، وفي الآخر كذلك.
(1/3629)

ثم قال تعالى : {أوالَـا اـاِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَـالَهُم وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} يعني لم يؤمنوا حقيقة وإن أظهروا الإيمان لفظاً فأحبط الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وقوله : {وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} إشارة إلى ما يكون في نظر الناظر كما في قوله تعالى : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) وذلك لأن الإحباط إعدام وإهدار ، وإعدام الأجسام إذا نظر الناظر يقول الجسم بتفريق أجزائه ، فإن من أحرق شيئاً يبقى منه رماد ، وذلك لأن الرماد إن فرقته الريح يبقى منه ذرات ، وهذا مذهب بعض الناس والحق هو أن الله يعدم الأجسام ويعيد ما يشاء منها ، وأما العمل فهو في العين معدوم وإن كان يبقى يبقى بحكمه وآثاره ، فإذا لم يكن له فائدة واعتبار فهو معدوم حقيقة وحكماً فالعمل إذا لم يعتبر فهو معدوم في الحقيقة بخلاف الجسم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 163
164
أي من غاية الجبن عند ذهابهم كانوا يخافونهم وعند مجيئهم كانوا يودون لو كانوا في البوادي ولا يكونون بين المقاتلين مع أنهم عند حضورهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كما قال تعالى : / {وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَـاتَلُوا إِلا قَلِيلا} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 164
164
لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين وهو أنهم قالوا هذا ما وعدنا الله من الابتلاء ثم قالوا : {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه } في مقابلة قولهم : {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه ا إِلا غُرُورًا} (الأحزاب : 12) وقولهم : {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه } ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هي إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا : {هَـاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ} وقد وقع وصدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس وقوله : {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا} بوقوعه وتسليماً عند وجوده.
جزء : 25 رقم الصفحة : 164
165
إشارة إلى وفائهم بعهدهم الذي عاهدوا الله أنهم لا يفارقون نبيه إلا بالموت فمنهم من قضى نحبه أي قاتل حتى قتل فوفى بنذره والنحب النذر ، ومنهم من هو بعد في القتال ينتظر الشهادة وفاء بالعهد وما بدلوا تبديلاً بخلاف المنافقين فإنهم قالوا لا نولي الأدبار فبدلوا قولهم وولوا أدبارهم وقوله : {لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّـادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي بصدق ما وعدهم في الدنيا والآخرة كما صدقوا مواعيدهم ويعذب المنافقين الذين كذبوا واخلفوا وقوله : {إِن شَآءَ} ذلك فيمنعهم من الإيمان / أو يتوب عليهم إن أراد ، وإنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل يأس النبي عليه الصلاة والسلام عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس منهم وقوله : {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} حيث ستر ذنوبهم و{رَّحِيمًا} حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده أو نقول : {وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ} مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جازاهم الله به على صدقهم فقال : {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} أي مع غيظهم لم يشفوا صدراً ولم يحققوا أمراً {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أي لم يحوجهم إلى قتال {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} غير محتاج إلى قتالهم عزيزاً قادراً على استئصال الكفار وإذلالهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 165
166
(1/3630)

أي عاونوهم من أهل الكتاب وهم بنو قريظة من صياصيهم من قلاعهم وقذف في قلوبهم الرعب حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونسائهم للسبي فريقاً تقتلون وهم الرجال ، وتأسرون فريقاً وهم الصبيان والنسوان ، فإن قيل هل في تقديم المفعول حيث قال فريقاً تقتلون وتأخيره حيث قال : {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} فائدة ؟
قلت قد أجبنا أن ما من شيء من القرآن إلا وله فوائد منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر ، والذي يظهر من هذا والله أعلم أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأعرف فالأعرف والأقرب فالأقرب ، والرجال كانوا مشهورين فكان القتل وارداً عليهم والأسرى كانوا هم النساء والصغار ولم يكونوا مشهورين والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما هو أشهر على الفعل القائم به وما هو أشهر من الفعلين قدمه على المحل الأخفى ، وإن شئنا نقول بعبارة توافق المسائل النحوية فنقول قوله : {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل ، أما أنها جملة فعلية فلأنها لو كانت إسمية لكان الواجب في فريق الرفع وكان يقول فريق منهم تقتلونهم فلما نصب كان ذلك بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره تقتلون فريقاً تقتلون والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول ، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قذف في قلوبهم الرعب فلو قال تقتلون إلى أن يسمع السامع مفعول تقتلون يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته فلا يعلم أنهم هم المقتولون ، فأما إذا قال فريقاً مع سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعه يستمع إلى تمام الكلام وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على / الأصل فعدم تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذا عرف حالهم وما يجىء بعده يكون مصروفاً إليهم ، ولو قال بعد ذلك وفريقاً تأسرون فمن سمع فريقاً ربما يظن أن يقال فيهم يطلقون ، أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى ، وكذلك الكلام في قوله : {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـاهَرُوهُم} وقوله : {وَقَذَفَ} فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال ، ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر ، قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 166
166
فيه ترتيب على ما كان ، فإن المؤمنين أولاً تملكوا أرضهم بالنزول فيها والاستيلاء عليها ثم تملكوا ديارهم بالدخول عليهم وأخذ قلاعهم ثم أموالهم التي كانت في بيوتهم وقوله : {وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـاُوهَا } قيل المراد القلاع وقيل المراد الروم وأرض فارس وقيل كل ما يؤخذ إلى يوم القيامة : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} هذا يؤكد قول من قال إن المراد من قولهم : {وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـاُوهَا } هو ما سيؤخذ بعد بني قريظة ، ووجهه هو أن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاد ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 166
167
(1/3631)

وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله : "الصلاة وما ملكت أيمانكم" ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب : 1) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ، ولهذا قدمهن في النفقة ، وفي الآية مسائل فقهية منها أن التخيير / هل كان واجباً على النبي عليه السلام أم لا ؟
فنقول التخيير قولاً كان واجباً من غير شك لأنه إبلاغ الرسالة ، لأن الله تعالى لما قال له قل لهم صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ؟
والظاهر أنه للوجوب ، ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلّم لقوله تعالى : {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} ومنها أن واحدة منهن إن اختارت نفسها وقلنا بأنها لا تبين إلا بإنابة من جهة النبي عليه السلام فهل كان يجب على النبي عليه السلام الطلاق أم لا ؟
الظاهر نظراً إلى منصب النبي عليه السلام أنه كان يجب ، لأن الخلف في الوعد من النبي غير جائز بخلاف واحد منا ، فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا ، والظاهر أنها لا تحرم ، وإلا لا يكون التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا ، ومنها أن من اختارت الله ورسوله كان يحرم على النبي عليه الصلاة والسلام طلاقها أم لا ؟
الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه الصلاة والسلام على معنى أن النبي عليه السلام لا يباشره أصلاً ، بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب ، وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا ، إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات وكيف وهو مشغول بعبادة ربه ، ومنها قوله عليه السلام :
جزء : 25 رقم الصفحة : 167
{وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} إشارة إلى ما ذكرنا ، فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة ، فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه ، ومنها قوله : {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ} إعلاماً لهن بأن في اختيار النبي عليه السلام اختيار الله ورسوله والدار الآخرة وهذه الثلاثة هي الدين وقوله : {أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـاتِ مِنكُنَّ} أي لمن عمل صالحاً منكن ، وقوله : {تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَالدَّارَ الاخِرَةَ} فيه معنى الإيمان ، وقوله : {لِلْمُحْسِنَـاتِ} لبيان الإحسان حتى تكون الآية في المعنى ، كقوله تعالى : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَه ا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (لقمان : 22) وقوله تعالى : {مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} (الكهف : 88) وقوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (البقرة : 82) والأجر العظيم الكبير في الذات الحسن في الصفات الباقي في الأوقات ، وذلك لأن العظيم في الأجسام لا يطلق إلا على الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق/ حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ، ولو كان زائداً في العرض يقال له عريض ، وكذلك العميق ، فإذا وجدت الأمور الثلاثة قيل عظيم ، فيقال جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات ، وإن كان مرتفعاً فحسب يقال جبل عال ، إذا عرفت هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح ، لما في مأكوله من الضرر والثقل ، وكذلك في مشروبه وغيره من اللذات وغير دائم ، وأجر الآخرة كثير خال عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 167
167
(1/3632)

/ لما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلّم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن للتوقي عما يسوء النبي عليه السلام ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان إحداهما : أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ولإيذاء قلبه والإزراء بمنصبه ، وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي صلى الله عليه وسلّم وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي عليه السلام ، ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى ، والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير ، فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين ثانيتهما : أن هذا إشارة إلى شرفهن ، لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ، ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم ، فكذلك زوجاته وقرائبه اللاتي هن أمهات المؤمنين ، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة ، وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته ، فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأمة بالنسبة إلى الحرة ، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ، ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض يقع جزماً من مات فقد استراح ، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين ، فقوله تعالى : {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ} عندنا من القبيل الأول ، فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة ، وقوله تعالى : {وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكن شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن ، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم أو شفعائهم وإخوانهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 167
168
قوله تعالى : {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِه وَتَعْمَلْ صَـالِحًا} بياناً لزيادة ثوابهن ، كما بين / زيادة عقابهن {نُّؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} في مقابلة قوله تعالى : {يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } مع لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله ، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب فقال : {يُضَـاعِفُ} إشارة إلى كمال الرحمة والكرم ، كما أن الكريم الحي عند النفع يظهر نفسه وفعله ، وعند الضر لا يذكر نفسه ، وقوله تعالى : {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} وصف رزق الآخرة بكونه كريماً ، مع أن الكريم لا يكون إلا وصفاً للرزاق إشارة إلى معنى لطيف ، وهو أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، التاجر يسترزق من السوقة ، والمعاملين والصناع من المستعملين ، والملوك من الرعية والرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه ، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار. وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه ، فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزاق ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق.
جزء : 25 رقم الصفحة : 168
168
ثم قال تعالى : {كَرِيمًا * يَـانِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } لما ذكر أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلاً أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء ، فقال : {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ} ومعنى قول القائل ليس فلان كآحاد الناس ، يعني ليس فيه مجرد كونه إنساناً ، بل وصف أخص موجود فيه ، وهو كونه عالماً أو عاملاً أو نسيباً أو حسيباً ، فإن الوصف الأخص إذا وجد لا يبقى التعريف بالأعم ، فإن من عرف رجلاً ولم يعرف منه غير كونه رجلاً يقول رأيت رجلاً فإن عرف علمه يقول رأيت زيداً أو عمراً ، فكذلك قوله تعالى : {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } يعني فيكن غير ذلك أمر لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين وزوجات خير المرسلين ، وكما أن محمداً عليه السلام ليس كأحد من الرجال ، كما قال عليه السلام : "لست كأحدكم" كذلك قرائبه اللاتي يشرفن به وبين الزوجين نوع من الكفاءة.
(1/3633)

ثم قوله تعالى : {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون متعلقاً بما قبله على معنى لستن كأحد إن اتقيتن فإن الأكرم عند الله هو الأتقى وثانيهما : أن يكون متعلقاً بما بعده على معنى إن اتقيتن فلا تخضعن والله تعالى لما منعهن من الفاحشة وهي الفعل القبيح منعهن من مقدماتها وهي المحادثة مع الرجال والانقياد في الكلام للفاسق. ثم قوله تعالى : {فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِه مَرَضٌ} أي فسق وقوله تعالى : {وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا} أي ذكر الله ، وما تحتجن إليه / من الكلام والله تعالى لما قال : {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} ذكر بعده {وَقُلْنَ} إشارة إلى أن ذلك ليس أمراً بالإيذاء والمنكر بل القول المعروف وعند الحاجة هو المأمور به لا غيره.
جزء : 25 رقم الصفحة : 168
169
قوله تعالى : {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} من القرار وإسقاط أحد حرفي التضعيف كما قال تعالى : {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} وقيل بأنه من الوقار كما يقال وعد يعد عد وقول : {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى } قيل معناه لا تتكسرن ولا تتغنجن ، ويحتمل أن يكون المراد لا تظهرن زينتكن وقوله تعالى : {الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى } فيه وجهان أحدهما : أن المراد من كان في زمن نوح والجاهلية الأخرى من كان بعده وثانيهما : أن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل : أين الأكاسرة الجبابرة الأولى.
ثم قال تعالى : {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ} يعني ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى : {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِه مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى ا وَأَقِمْنَ} بل فيه وفي الأوامر {إِلَى الصَّلَواةِ} التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر {وَقَرْنَ فِى} التي هي تشبه بالكريم الرحيم {وَأَطِعْنَ اللَّهَ} أي ليس التكليف منحصراً في المذكور بل كل ما أمر الله به فأتين به وكل ما نهى الله عنه فانتهين عنه.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .
يعني ليس المنتفع بتكليفكن هو الله ولا تنفعن الله فيما تأتين به. وإنما نفعه لكن وأمره تعالى إياكن لمصلحتكن ، وقوله تعالى : {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ} فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عيناً ولا يطهر المحل فقوله تعالى : {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة ، ثم إن الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين بقوله : {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ} ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم ، واختلفت الأقوال في أهل البيت ، والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي.
جزء : 25 رقم الصفحة : 169
169
/ ثم قال تعالى : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } أي القرآن {وَالْحِكْمَةِ } أي كلمات النبي عليه السلام إشارة إلى ما ذكرنا من أن التكاليف غير منحصرة في الصلاة والزكاة ، وما ذكر الله في هذه الآية فقال : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى } ليعلمن الواجبات كلها فيأتين بها ، والمحرمات بأسرها فينتهين عنها.
(وقوله) : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} إشارة إلى أنه خبير بالبواطن ، لطيف فعلمه يصل إلى كل شيء ومنه اللطيف الذي يدخل في المسام الضيقة ويخرج من المسالك المسدودة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 169
170
(1/3634)

ثم قال تعالى : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} لما أمرهن ونهاهن وبين ما يكون لهن وذكر لهن عشر مراتب الأولى : الإسلام والانقياد لأمر الله والثانية : الإيمان بما يرد به أمر الله ، فإن المكلف أولاً يقول كل ما يقوله أقبله فهذا إسلام ، فإذا قال الله شيئاً وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده فهو إيمان ثم اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة : المذكورة بقوله : {وَالْقَـانِتِينَ وَالْقَـانِتَـاتِ} ثم إذا آمن وعمل صالحاً كمل فيكمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله : {وَالصَّـادِقِينَ وَالصَّـادِقَـاتِ} ثم إن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال تعالى : {وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ} ثم إنه إذا كمل وكمل قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله : {وَالْخَـاشِعِينَ وَالْخَـاشِعَـاتِ} أو نقول لما ذكر هذه الحسنات أشار إلى ما يمنع منها وهو إما حب الجاه أو حب المال من الأمور الخارجية أو الشهوة من الأمور الداخلة ، والغضب منهما يكون لأنه يكون بسبب نقص جاه أو فوت مال أو منع من أمر مشتى فقوله : {وَالْخَـاشِعِينَ وَالْخَـاشِعَـاتِ} أي المتواضعين الذين لا يميلهم الجاه عن العبادة ، ثم قال تعالى : {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ} أي الباذلين الأموال الذين لا يكنزونها لشدة محبتهم إياها. ثم قال تعالى : {وَالصَّـا ئِمِينَ وَالصَّـا ئِمَـاتِ} إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة البطنية من عبادة الله. ثم قال تعالى : {وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـافِظَـاتِ} أي الذين لا تمنعهم الشهوة الفرجية.
/
جزء : 25 رقم الصفحة : 170
ثم قال تعالى : {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} يعني هم في جميع هذه الأحوال يذكرون الله ويكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم وصدقتهم وصومهم بنية صادقة لله ، واعلم أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر الذكر قرنه بالكثرة ههنا ، وفي قوله بعد هذا {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41) وقال من قبل : {لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب : 21) لأن الإكثار من الأفعال البدنية غير ممكن أو عسر فإن الإنسان أكله وشربه وتحصيل مأكوله ومسروبه يمنعه من أن يشتغل دائماً بالصلاة ولكن لا مانع له من أن يذكر الله تعالى وهو آكل ويذكره وهو شارب أو ماش أو بائع أو شار ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران : 191) ولأن جميع الأعمال بذكر الله تعالى وهي النية.
ثم قال تعالى : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً} تمحو ذنوبهم وقوله : {وَأَجْرًا عَظِيمًا} ذكرناه فيما تقدم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 170
171
قيل بأن الآية نزلت في زينب حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلّم تزويجها من زيد بن حارثة فكرهت إلا النبي عليه السلام وكذلك أخوها امتنع فنزلت الآية فرضيا به ، والوجه أن يقال إن الله تعالى لما أمر نبيه بأن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يريد ضرر الغير فمن كان ميله إلى شيء يمكنه النبي عليه السلام من ذلك ، ويترك النبي عليه السلام حق نفسه لحظ غيره ، فقال في هذه الآية لا ينبغي أن يظن ظان أن هوى نفسه متبعه وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في الزوجات ، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله فما أمر الله هو المتبع وما أراد النبي هو الحق ومن خالفهما في شيء فقد ضل ضلالاً مبيناً ، لأن الله هو المقصد والنبي هو الهادي الموصل ، فمن ترك المقصد ولم يسمع قول الهادي فهو ضال قطعاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 171
171
/ وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالتحرير والإعتاق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} همَّ زيد بطلاق زينب فقال له النبي أمسك أي لا تطلقها {وَاتَّقِ اللَّهَ} قيل في الطلاق ، وقيل في الشكوى من زينب ، فإن زيداً قال فيها إنها تتكبر علي بسبب النسب وعدم الكفاءة {وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} من أنك تريد التزوج بزينب {بِرَبِّ النَّاسِ} من أن يقولوا أخذ زوجة الغير أو الإبن {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه } ليس إشارة إلى أن النبي خشي الناس ولم يخش الله بل المعنى الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخش أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً ، فاجعل الخشية له وحده كما قال تعالى : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ } (الأحزاب : ).
(1/3635)

ثم قال تعالى : {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَـاكَهَا} أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها ، فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن وكذلك إذا كان في العده له بها تعلق لإمكان شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطره ، وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز فلهذا قال : {فَلَمَّا قَضَى } وكذلك قوله : {لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآاـاِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن ، وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} أي مقضياً ما قضاه كائن.
جزء : 25 رقم الصفحة : 171
ثم بين أن تزوجه عليه السلام بها مع أنه كان مبيناً لشرع مشتمل على فائدة كان خالياً من المفاسد فقال :
جزء : 25 رقم الصفحة : 171
171
{مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَه ا سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُا وَكَانَ أَمْرُ} يعني كان شرع من تقدمه كذلك ، كان يتزوج الأنبياء بنسوة كثيرة أبكار ومطلقات الغير {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي كل شيء بقضاء وقدر والقدر التقدير وبين المفعول والمقدور فرق مقول بين القضاء والقدر ، فالقضاء ما كان مقصوداً في الأصل والقدر ما يكون تابعاً له ، مثاله من كان يقصد مدينة فنزل بطريق تلك المدينة بخان أو قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول لم جثت إلى هذه القرية ؟
إني ما جئت إلى هذه وإنما قصدت المدينة الفلانية وهذه وقعت في طريقي وإن كان قد جاءها ودخلها وإذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر ، فالله تعالى خلق المكلف بحيث يشتهي ويغضب ، ليكون اجتهاده في تغليب العقل والدين عليهما مثاباً عليه بأبلغ وجه فأفضى ذلك في البعض إلى أن زنى وقتل فالله لم يخلقهما فيه مقصوداً منه القتل والزنا وإن كان ذلك بقدر الله إذا علمت هذا ففي قوله تعالى أولا {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} وقوله ثانياً {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} لطيفة وهي أنه تعالى لما قال {زَوَّجْنَـاكَهَا} قال {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} أي تزويجنا زينب إياك كان مقصوداً متبوعاً مقضياً مراعى ، ولما قال : {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا } إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي كان ذلك حكماً تبعياً ، فلو قال قائل هذا قول المعتزلة بالتوليد والفلاسفة بوجوب كون الأشياء على وجوه مثل كون النار تحرق حيث قالوا الله تعالى أراد أن يخلق ما ينضج الأشياء وهو لا يكون إلا محرقاً بالطبع فخلق النار للنفع فوقع اتفاق أسباب أوجبت احتراق دار زيد أو دار عمرو ، فنقول معاذ الله أن نقول بأن الله غير مختار في أفعاله أو يقع شيء لا باختياره ، ولكن أهل السنة يقولون أجرى الله عادته بكذا أي وله أن يخلق النار بحيث عند حاجة إنضاج اللحم تنضج وعند مساس ثوب العجوز لا تحرق ، ألا ترى أنها لم تحرق إبراهيم عليه السلام مع قوتها وكثرتها لكن خلقها على غير ذلك الوجه بمحض إرادته أو لحكمة خفية ولا يسأل عما يفعل ، فنقول ما كان في مجرى عادته تعالى على وجه تدركه العقول البشرية نقول بقضاء ، وما يكون على وجه يقع لعقل قاصر أن يقول لم كان ولماذا لم يكن على خلافه نقول بقدر ، ثم بين الذين خلوا بقوله :
جزء : 25 رقم الصفحة : 171
172
يعني كانوا هم أيضاً مثلك رسلا ، ثم ذكره بحالهم أنهم جردوا الخشية ووحدوها بقوله : {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ } فصار كقوله : {فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) وقوله : {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي محاسباً / فلا تخش غيره أو محسوباً فلا تلتفت إلى غيره ولا تجعله في حسابك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 172
172
(1/3636)

لما بين الله ما في تزوج النبي عليه السلام بزينب من الفوائد بين أنه كان خالياً من وجوه المفاسد ، وذلك لأن ما كان يتوهم من المفسدة كان منحصراً في التزوج بزوجة الابن فإنه غير جائز فقال الله تعالى إن زيداً لم يكن ابناً له لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمد ، فإن قائل النبي كان أبا أحد من الرجال لأن الرجل اسم الذكر من أولاد آدم قال تعالى : {وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالا وَنِسَآءً} (النساء : 176) والصبي داخل فيه ، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ ولم يكن للنبي عليه السلام ابن كبير يقال إنه رجل والثاني : هو أنه تعالى قال : {مِّن رِّجَالِكُمْ } ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكر ، ثم إنه تعالى لما نفى كونه أباً عقبه بما يدل على ثبوت ما هو في حكم الأبوة من بعض الوجوه فقال : {وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ} فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه ، وفي التعظيم من طرفهم بل أقوى فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والأب ليس كذلك ، ثم بين ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم بقوله : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ } وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئاً من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده ، وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى ، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وقوله : {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} يعني علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد صلى الله عليه وسلّم بتزوجه بزوجة دعيه تكميلاً للشرع وذلك من حيث إن قول النبي صلى الله عليه وسلّم يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة ، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حل أكل الضب ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ولما أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 172
172
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن السورة أصلها ومبناها على تأديب النبي صلى الله عليه وسلّم وقد ذكرنا أن الله تعالى بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع الله وهو التقوى وذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لازْوَاجِكَ} (الأحزاب : 28) والله تعالى يأمر / عباده المؤمنين بما يأمر به أنبياءه المرسلين فأرشد عباده كما أدب نبيه وبدأ بما يتعلق بجانبه من التعظيم فقال : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} كما قال لنبيه : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب : 1).
ثم ههنا لطيفة وهي أن المؤمن قد ينسى ذكر الله فأمر بدوام الذكر ، أما النبي لكونه من المقربين لا ينسى ولكن قد يغتر المقرب من الملك بقربه منه فيقل خوفه فقال : {اتَّقِ اللَّهَ} فإن المخلص على خطر عظيم وحسنة الأولياء سيئة الأنبياء وقوله : {ذِكْرًا كَثِيرًا} قد ذكرنا أن الله في كثير من المواضع لما ذكر وصفه بالكثرة إذ لا مانع من الذكر على ما بينا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 172
173
أي إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء وهو المراد بالتسبيح وقيل المراد منه الصلاة وقيل للصلاة تسبيحه بكرة وأصيلاً إشارة إلى المداومة وذلك لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام "لو أن أولكم وآخركم" ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 173
174
يعني هو يصلي عليكم ويرحمكم وأنتم لا تذكرونه فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح {لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } يعني يهديكم برحمته والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار فقيل بأن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز وينسب هذا القول إلى الشافعي رضي الله عنه وهو غير بعيد فإن أريد تقريبه بحيث يصير في غاية القرب نقول الرحمة والاستغفار يشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية لكون العناية جزأ منهما {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله {يُصَلِّى عَلَيْكُمْ} غير مختص بالسامعين وقت الوحي.
جزء : 25 رقم الصفحة : 174
174
(1/3637)

ثم قال تعالى : {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ } لما بين الله عنايته في الأولى بين عنايته في الآخرة وذكر السلام لأنه هو الدليل على الخيرات فإن من لقي غيره وسلم عليه دل على المصافاة بينهما وإن لم يسلم دل على المنافاة وقوله : {يَوْمِ يَلْقَوْنَه } أي يوم القيامة وذلك لأن الإنسان في دنياه غير مقبل بكليته على الله وكيف وهو حالة نومه غافل عنه وفي أكثر أوقاته مشغول بتحصيل رزقه ، وأما في الآخرة فلا شغل لأحد يلهيه عن ذكر الله فهو حقيقة اللقاء.
/ ثم قال تعالى : {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} لو قائل قائل الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه ، وأما الله تعالى فلا حاجة ولا عجز فحيث يلقاه الله يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الاعداد من قبل فنقول الإعداد للإكرام لا للحاجة وهذا كما أن الملك إذا قيل له فلان واصل ، فإذا أراد إكرامه يهيىء له بيتاً وأنواعاً من الإكرام ولا يقول بأنه إذا وصل نفتح باب الخزانة ونؤتيه ما يرضيه فكذلك الله لكمال الإكرام أعد للذاكر أجراً كريماً والكريم قد ذكرناه في الرزق أي أعد له أجراً يأتيه من غير طلبه بخلاف الدنيا فإنه يطلب الرزق ألف مرة ولا يأتيه إلا بقدر. وقوله : {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ } مناسب لحالهم لأنهم لما ذكروا الله في دنياهم حصل لهم معرفة ولما سبحوه تأكدت المعرفة حيث عرفوه كما ينبغي بصفات الجلال ونعوت الكمال والله يعلم حالهم في الدنيا فأحسن إليهم بالرحمة ، كما قال تعالى : {هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ} وقال : {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (الأحزاب : 43) والمتعارفان إذا التقيا وكان أحدهما شفيقاً بالآخر والآخر معظماً له غاية التعظيم لا يتحقق بينهما إلا السلام وأنواع الإكرام.
جزء : 25 رقم الصفحة : 174
175
قد ذكرنا أن السورة فيها تأديب للنبي عليه السلام من ربه فقوله في ابتدائها : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} اشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع ربه وقوله : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ} إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله وقوله : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ} إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق وقوله تعالى : {شَـاهِدًا} يحتمل وجوهاً أحدهما : أنه شاهد على الخلق يوم القيامة كما قال تعالى : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقر : 143) وعلى هذا فالنبي بعث شاهداً أي متحملاً للشهادة ويكون في الآخرة شهيداً أي مؤدياً لما تحمله ثانيها : أنه شاهد أن لا إله إلا الله ، وعلى هذا لطيفة وهو أن الله جعل النبي شاهداً على الوحدانية والشاهد لا يكون مدعياً فالله تعالى لم يجعل النبي في مسئلة الوحدانية مدعياً لها لأن المدعى من يقول شيئاً على خلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس والنبي عليه السلام كان ادعى النبوة فجعل الله نفسه شاهداً له في مجازاة كونه شاهداً لله فقال تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه } (المنافقون : 1) وثالثها : أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا بالطاعة والمعصية والصلاح والفساد وقوله : {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا} فيه ترتيب حسن وذلك من حيث إن النبي عليه السلام أرسل شاهداً بقوله لا إله إلا الله ويرغب في ذلك بالبشارة فإن لم يكف / ذلك يرهب بالإندار ثم لا يكتفي بقولهم لا إله إلا الله بل يدعوهم إلى سبيل الله كما قال تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل : 125) وقوله : {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} أي مبرهناً على ما يقول مظهراً له بأوضح الحجج وهو المراد بقوله تعالى : {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل : 125).
جزء : 25 رقم الصفحة : 175
وفيه لطائف إحداها : قوله تعالى : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه } حيث لم يقل وشاهداً باذنه ومبشراً وعند الدعاء قال وداعياً باذنه ، وذلك لأن من يقول عن ملك إنه ملك الدنيا لا غيره لا يحتاج فيه إلى إذن منه فإنه وصفه بما فيه وكذلك إذا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يشقى يكون مبشراً ونذيراً ولا يحتاج إلى إذن من الملك في ذلك ، وأما إذا قال تعالوا إلى سماطه ، واحضروا على خوانه يحتاج فيه إلى إذنه فقال تعالى : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه } ووجه آخر وهو أن النبي يقول إني أدعو إلى الله والولي يدعو إلى الله ، والأول لا إذن له فيه من أحد ، والثاني مأذون من جهة النبي عليه السلام كما قال تعالى : {قُلْ هَـاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى } (يوسف : 108) وقال عليه الصلاة والسلام : "رحم الله عبداً سمع مقالتي فأداها كما سمعها" والنبي عليه السلام هو المأذون من الله في الدعاء إليه من غير واسطة.
(1/3638)

اللطيفة الثانية : قال في حق النبي عليه السلام سراجاً ولم يقل إنه شمس مع أنه أشد إضاءة من السراج لفوائد منها ، أن الشمس نورها لا يؤخذ منه شيء والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة فإذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه ، وكذلك إن غاب والنبي عليه السلام كان كذلك إذ كل صحابي أخذ منه نور الهداية كما قال عليه السلام : "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وفي الخبر لطيفة وإن كانت ليست من التفسير ولكن الكلام يجر الكلام وهي أن النبي عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب هو لا يبقى نور مستفاد منه/ وكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنو النبي عليه السلام ولا يأخذ منه إلا قول النبي عليه السلام وفعله ، فأنوار المجتهدين كلهم من النبي عليه السلام ولم جعلهم كالسرج والنبي عليه السلام أيضاً سراج كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار ، وليس كذلك فإن مع نص النبي عليه السلام لا يعمل بقول الصحابي فيؤخذ من النبي النور ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجاً وهذا يوجب ضعفاً في حديث سراج الأمة والمحدثون ذكروه وفي تفسير السراج وجه آخر وهو أن المراد منه القرآن وتقديره إنا أرسلناك ، وسراجاً منيراً عطفاً على محل الكاف أي وأرسلنا سراجاً منيراً وعلى قولنا إنه عطف على مبشراً ونذيراً يكون معناه وذا سراج لأن الحال لا يكون إلا وصفاً للفاعل أو المفعول ، والسراج ليس وصفاً لأن النبي عليه السلام لم يكن سراجاً حقيقة أو يكون كقول القائل رأيته أسداً أي شجاعاً فقوله سراجاً أي هادياً مبيناً كالسراج يرى الطريق ويبين الأمر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 175
176
/ وقوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على مفهوم تقديره إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً فاشهد وبشر ولم يذكر فاشهد للاستغناء عنه ، وأما البشارة فإنها ذكرت إبانة للكرم ولأنها غير واجبة لولا الأمر. وقوله تعالى : {بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} هو مثل قوله : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب : 35) فالعظيم والكبير متقاربان وكونه من الله كبير فكيف إذا كان مع ذلك كبارة أخرى.
جزء : 25 رقم الصفحة : 176
176
إشارة إلى الإنذار يعني خالفهم وورد عليهم وعلى هذا فقوله تعالى : {وَدَعْ أَذَاـاهُمْ} أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار ، ويبين هذا قوله تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي الله كاف عبده ، قال بعض المعتزلة لا يجوز تسمية الله بالوكيل لأن الوكيل أدون من الموكل وقوله تعالى : {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} حجة عليه وشبهته واهية من حيث إن الوكيل قد يوكل للترفع وقد يوكل للعجز والله وكيل عباده لعجزهم عن التصرف ، وقوله تعالى : {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} يتبين إذا نظرت في الأمور التي لأجلها لا يكفى الوكيل الواحد منها أن لا يكون قوياً قادراً على العمل كالملك الكثير الأشغال يحتاج إلى وكلاء لعجز الواحد عن القيام بحميع أشغاله ، ومنها أن لا يكون عالماً بما فيه التوكيل ، ومنها أن لا يكون غنياً ، والله تعالى عالم قادر وغير محتاج فكيفي وكيلاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 176
177
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة ذكر مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما ذكرناه ، لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل فكلما ذكر للنبي مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فكما بدأ الله في تأديب النبي عليه الصلاة والسلام بذكر ما يتعلق بجانب الله بقوله : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب : 1) وثنى بما يتعلق بجانب من تحت يده من أزواجه بقوله بعد : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ} (الأحزاب : 28) وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} (الأحزاب : 45) / كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41) ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ} ثم كما ثلث في تأديب النبي بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيهم ، فقال بعد هذا : {رَّقِيبًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} (الأحزاب : 53) وبقوله : {النَّبِىِّا يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} (الأحزاب : 56) وفي الآية مسائل :
(1/3639)

المسألة الأولى : إذا كان الأمر على ما ذكرت من أن هذا إرشاد إلى ما يتعلق بجانب من هو من خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بالذكر ؟
فنقول هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها وبيانه هو أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد ، ولهذا قال الله تعالى في حق الممسوسة {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} (النساء : 21) وإذا أمر الله بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما والقرآن في الحجم صغير ولكن لو استنبطت معانيه لا تفى بها الأقلام ولا تكفي لها الأوراق ، وهذا مثل قوله تعالى : {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} (الإسراء : 23) لو قال لا تضربهما أو لا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم ، أما إذا قال لا تقل لهما أف علم منه معان كثيرة وكذلك ههنا لما أمر بالإحسان مع من لا مودة معها علم منه الإحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعد ومن ولدت عنده منه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 177
وقوله : {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ} التخصيص بالذكر إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة فإنها أشد تحصيناً لدينه ، وقوله : {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} يمكن التمسك به في أن تعليق الطلاق بالنكاح ، لا يصح لأن التطليق حينئذ لا يكون إلا بعد النكاح والله تعالى ذكره بكلمة ثم ، وهي للتراخي وقوله : {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} بين أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيه من حق الله تعالى ، وقوله : {تَعْتَدُّونَهَا } أي تستوفون أنتم عددها {فَمَتِّعُوهُنَّ} قيل بأنه مختص بالمفوضة التي لم يسم لها إذا طلقت قبل المسيس وجب لها المتعة ، وقيل بأنه عام وعلى هذا فهو أمر وجوب أو أمر ندب اختلف العلماء فيه/ فمنهم من قال للوجوب فيجب مع نصف المهر المتعة أيضاً ، ومنهم من قال للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء ، وقوله تعالى : {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} الجمال في التسريح أن لا يطالبها بما آتاها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 177
178
ذكر للنبي عليه السلام ما هو الأولى فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت ، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنها لا يدري كيف حالها ، ومن هاجرت من أقارب النبي عليه السلام معه أشرف ممن لم تهاجر ، ومن الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولاً ، وذلك لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها والنبي عليه السلام ما كان يستوفي ما لا يجب له ، والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان كان حلالا لنا وكيف والنبي عليه السلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع عن المطلوب والظاهر أن الطالب في المرة الأولى ، إنما يكون هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي عليه السلام من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهذا محال ولا كذلك أحدنا ، وقال ويؤكد هذا قوله تعالى : {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ} يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها ، وقوله تعالى : {إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} إشارة إلى أن هبتها نفسها لا بد معها من قبول وقوله تعالى : {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قال الشافعي رضي الله عنه معناه إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك ، وقال أبو حنيفة تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة ومن أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً ، والترجيح يمكن أن يقال بأن على هذا فالتخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له وعلى ما ذكرنا يتبين للتخصيص فائدة وقوله : {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} معناه أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك وأما حكم أمتك فعندنا علمه ونبينه لهم وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام فإن له في النكاح خصائص ليست لغيره وكذلك في السراري. وقوله تعالى : {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي تكون في فسحة من الأمر فلا يبقى لك شغل قلب فينزل الروح الأمين بالآيات على قلبك الفارغ وتبلغ رسالات ربك بجدك واجتهادك ، وقوله / تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد.
جزء : 25 رقم الصفحة : 178
180
ثم قال تعالى : {تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـاْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُا وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } .
(1/3640)

لما بين أنه أحل له ما ذكرنا من الأزواج بين أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن حتى يجتمع كيف يشاء ولا يجب عليه القسم ، وذلك لأن النبي عليه السلام بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها رق ، فكيف زوجات النبي عليه السلام بالنسبة إليه ، فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات ، والإرجاء التأخير والإيواء الضم {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} يعني إذا طلبت من كنت تركتها فلا جناح عليك في شيء من ذلك ومن قال بأن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة إلى المفهوم من الآية قال المراد : {تُرْجِى مَن تَشَآءُ} أي تؤخرهن إذا شئت إذ لا يجب القسم في الأول وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن ، وإن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ أَدْنَى ا أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } .
يعني إذا لم يجب عليك القسم وأنت لا تترك القسم {تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} لتسويتك بينهن ولا يحزن بخلاف ما لو وجب عليك ذلك ، فليلة تكون عند إحداهن تقول ما جاءني لهوى قلبه إنما جاءني لأمر الله وإيجابه عليه {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ} من الإرجاء والإيواء إذ ليس لهن عليك شيء حتى لا يرضين.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُم وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} .
أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم ، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
جزء : 25 رقم الصفحة : 180
180
/ لما لم يوجب الله على نبيه القسم وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله ذكر لهن ما جازاهن به من تحريم غيرهن على النبي عليه السلام ومنعه من طلاقهن بقوله : {وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنا بَعْدُ} قال المفسرون من بعدهن والأولى أن يقال لا يحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما يؤتيهن من الوصل والهجران والنقص والحرمان.
المسألة الثانية : قوله : {وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} يفيد حرمة طلاقهن إذ لو كان جائزاً لجاز أن يطلق الكل ، وبعدهن إما أن يتزوج بغيرهن أولا يتزوج فإن لم يتزوج يدخل في زمرة العزاب والنكاح فضيلة لا يتركها النبي ، وكيف وهو يقول : "النكاح سنتي" وإن تزوج بغيرهن يكون قد تبدل بهن وهو ممنوع من التبدل.
المسألة الثالثة : من المفسرين من قال بأن الآية ليس فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهن بل المعنى أن لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات من بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك ، وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن وقوله : {وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} منع من شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زوجة صديقه ويعطيه زوجته ، وعلى التفسيرين وقع خلاف في مسألتين إحداهما : حرمة طلاق زوجاته والثانية : حرمة تزوجه بالكتابيات فمن فسر على الأول حرم الطلاق ومن فسر على الثاني حرم التزوج بالكتابيات.
المسألة الرابعة : قوله : {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي حسن النساء قال الزمخشري قوله : {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} في معنى الحال ، ولا يجوز أن يكون ذو الحال قوله : {مِنْ أَزْوَاجٍ} لغاية التنكير فيه ولكون ذي الحال لا يحسن أن يكون نكرة فإذن هو النبي عليه السلام ، يعني لا يحل لك النساء ولا أن تبدل بهن من أزواج وأنت معجب بحسنهن.
جزء : 25 رقم الصفحة : 180
المسألة الخامسة : ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها ، وهذه المسألة حكمية وهي أن النبي عليه السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة تشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه وتوسيعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ، ثم لما استأنس بالوحي وبمن على لسانه الوحي نسخ ذلك ، إما لقوته عليه السلام للجمع بين الأمرين ، وإما أنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوف من أمور الدنيا ، فلم يبق له التفات إلى غير الله ، فلم يبق له حاجة إلى إحلال التزوج بمن وقع بصره عليها.
/ المسألة السادسة : اختلف العلماء في أن تحريم النساء عليه هل نسخ أم لا ؟
فقال الشافعي نسخ وقد قالت عائشة ما مات النبي إلا وأحل له النساء ، وعلى هذا فالناسخ قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} (الأحزاب : 50) إلى أن قال : {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} وقال : {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} على قول من يقول لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد إذ الناسخ غير متواتر إن كان خبراً.
(1/3641)

ثم قال تعالى : {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } لم يحرم عليه المملوكات لأن الإيذاء لا يحصل بالمملوكة/ ولهذا لم يجز للرجل أن يجمع بين ضرتين في بيت لحصول التسوية بينهما وإمكان المخاصمة ، ويجوز أن يجمع الزوجة وجمعاً من المملوكات لعدم التساوي بينهن ولهذا لا قسم لهن على أحد.
ثم قال تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا} أي حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه ، لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما.
جزء : 25 رقم الصفحة : 180
181
ثم قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَـاـاهُ} .
لما ذكر الله تعالى في النداء الثالث { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} (الأحزاب : 45) بياناً لحاله مع أمته العامة قال للمؤمنين في هذا النداء لا تدخلوا إرشاداً لهم وبياناً لحالهم مع النبي عليه السلام من الاحترام ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين أحدهما : في حال الخلوة والواجب هناك عدم إزعاجه وبين ذلك بقوله : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} وثانيهما : في الملأ والواجب هناك إظهار التعظيم كما قال تعالى : {النَّبِىِّا يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب : 56) وقوله : {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَـاـاهُ} أي لا تدخلوا بيوت النبي إلى طعام إلا أن يؤذن لكم.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ لِحَدِيثٍا إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِا مِنكُم وَاللَّهُ لا} .
لما بين من حال النبي أنه داع إلى الله بقوله : {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} قال ههنا لا تدخلوا إلا إذا دعيتم يعني كما أنكم ما دخلتم الدين إلا بدعائه فكذلك لا تدخلوا عليه إلا بعد دعائه وقوله : {غَيْرَ نَـاظِرِينَ} منصوب على الحال. والعامل فيه على ما قاله الزمخشري لا تدخلوا قال وتقديره ولا تدخلوا بيوت النبي إلا مأذونين غير ناظرين ، وفي الآية مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 181
المسألة الأولى : قوله : {إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} إما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم ، فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن ، وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى الطعام فإن لم يؤذن لكم إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز ، نقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول ، وأما قوله فلا يجوز إلا بالإذن الذي إلى طعام ، نقول : قال الزمخشري الخطاب مع قوم كانوا يجيئون حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقته بغير إذن ، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل وقوله : {إِلَى طَعَامٍ} من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه ، لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله إلى غير طعامه بإذنه ، فإن غير الطعام ممكن وجوده مع الطعام ، فإن من الجائز أن يتكلم معه وقتما يدعوه إلى طعام ويستقضيه في حوائجه ويعلمه مما عنده من العلوم مع زيادة الإطعام/ فإذا رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى الفعل فيصير من باب {فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} (الإسراء : 23) وقوله : {غَيْرَ نَـاظِرِينَ} يعني أنتم لا تنتظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يتهيأ.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } فيه لطيفة وهي أن العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير إذن لا تدخلها إلا بإذن يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً لا بالدعاء ولا بالدعاء ، فقال لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون بل كونوا طائعين سامعين إذا قيل لكم لا تدخلوا لا تدخلوا وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا ، وإناه قيل وقته وقيل استواؤه وقوله : {إِلا أَن يُؤْذَنَ} يفيد الجواز وقوله : {وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } يفيد الوجود فقوله : {وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ} ليس تأكيداً بل هو يفيد فائدة جديدة.
المسألة الثالثة : لا يشترط في الإذن التصريح به ، بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال : {إِلا أَن يُؤْذَنَ} من غير بيان فاعل ، فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل / جاز والنقل دال عليه حيث قال تعالى : {أَوْ صَدِيقِكُمْ } وحد الصداقة لما ذكرنا ، فلو جاء أبو بكر وعلم أن لا مانع في بيت عائشة من بيوت النبي عليه السلام من تكشف أو حضور غير محرم عندها أو علم خلو الدار من الأهل أو هي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك ، جاز الدخول.
(1/3642)

جزء : 25 رقم الصفحة : 181
المسألة الرابعة : قوله : {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } كأن بعض الصحابة أطال المكث يوم وليمة النبي عليه السلام في عرس زينب ، والنبي عليه السلام لم يقل له شيئاً ، فوردت الآية جامعة لآداب ، منها المنع من إطالة المكث في بيوت الناس ، وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته أو اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده ، وقوله : {وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } قال الزمخشري هو عطف على {غَيْرَ نَـاظِرِينَ} مجرور ، ويحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على المعنى ، فإن معنى قوله تعالى : {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} لا تدخلوها هاجمين ، فعطف عليه {وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ} ثم إن الله تعالى بين كون ذلك أدباً وكون النبي حليماً بقوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى } إشارة إلى أن ذلك حق وأدب ، وقوله كان إشارة إلى تحمل النبي عليه السلام ، ثم ذكر الله أدباً آخر وهو قوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي عليه السلام ، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى الماعون ، بين أن ذلك غير ممنوع منه فليسأل وليطلب من وراء حجاب ، وقوله {ذَالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } يعني العين روزنة القلب ، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب. أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة حينئذ أظهر ، ثم إن الله تعالى لما علم المؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على محافظته ، فقال : {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} وكل ما منعتم عنه مؤذ فامتنعوا عنه ، وقوله تعالى : {وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَه مِنا بَعْدِه أَبَدًا } قيل سبب نزوله أن بعض الناس قيل هو طلحة بن عبيد الله ، قال لئن عشت بعد محمد لأنكحن عائشة ، وقد ذكرنا أن اللفظ العام لا يغير معناه سبب النزول ، فإن المراد أن إيذاء الرسول حرام ، والتعرض لنسائه في حياته إيذاء فلا يجوز ، ثم قال لا بل ذلك غير جائز مطلقاً ، ثم أكد بقوله : {إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} أي إيذاء الرسول.
جزء : 25 رقم الصفحة : 181
182
يعني إن كنتم لا تؤذونه في الحال وتعزمون على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده ، فالله عليم بذات الصدور.
جزء : 25 رقم الصفحة : 182
183
/ ثم إن الله تعالى لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله : {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآاـاِهِنَّ وَلا أَبْنَآاـاِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَآاـاِهِنَّ وَلا مَا} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الحجاب أوجب السؤال من وراء الحجاب على الرجال ، فلم لم يستثن الرجال عن الجناح ، ولم يقل لا جناح على آبائهن ؟
فنقول قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا} (الأحزاب : 53) أمر بسدل الستر عليهن وذلك لا يكون إلا بكونهن مستورات محجوبات وكان الحجاب وجب عليهن ، ثم أمر الرجال بتركهن كذلك ، ونهوا عن هتك أستارهن فاستثنين عند الآباء والأبناء وفيه لطيفة : وهي أن عند الحجاب أمر الله الرجل بالسؤال من وراء حجاب ، ويفهم منه كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى ، وعند الاستثناء قال تعالى : {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} عند رفع الحجاب عنهن ، فالرجال أولى بذلك.
المسألة الثانية : قدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهن أكثر ، وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ، ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر. إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله تعالى على بني الأخوات ، لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم ، وبني الأخوة آباؤهم محارم أيضاً ، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنو الإخوة.
المسألة الثالثة : لم يذكر الله من المحارم الأعمام والأخوال ، فلم يقل ولا أعمامهن ولا أخوالهن لوجهين أحدهما : أن ذلك علم من بني الإخوة وبني الأخوات ، لأن من علم أن بني الأخ للعمات محارم علم أن بنات الأخ للأعمام محارم ، وكذلك الحال في أمر الخال ثانيهما : أن الأعمام ربما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم وهم غير محارم ، وكذلك الحال في ابن الخال.
المسألة الرابعة : {وَلا نِسَآاـاِهِنَّ} مضافة إلى المؤمنات حتى لا يجوز التكشف للكافرات في وجه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 183
المسألة الخامسة : {وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ } هذا بعد الكل ، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة ، ومن الأئمة من قال المراد من كان دون البلوغ.
(1/3643)

/ ثم قوله تعالى : {وَاتَّقِينَ اللَّهَ } عند المماليك دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا} في غاية الحسن في هذا الموضع ، وذلك لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم ، فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض ، فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله تعالى فاتقوا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 183
183
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـا اـاِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ } لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراماً كمل بيان حرمته ، وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين حالة خلواته ، وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} وحالة يكون في ملأ. والملأ إما الملأ الأعلى ، وإما الملأ الأدنى ، ما في الملأ الأعلى فهو محترم ، فإن الله وملائكته يصلون عليه. وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى : {النَّبِىِّا يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الصلاة الدعاء يقال في اللغة صلى عليه ، أي دعا له ، وهذا المعنى غير معقول في حق الله تعالى فإنه لا يدعو له ، لأن الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث. فقال الشافعي رضي الله عنه استعمل اللفظ بمعان ، وقد تقدم في تفسير قوله : {هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـا اـاِكَتُه } (الأحزاب : 43) والذي نزيده ههنا هو أن الله تعالى قال هناك : {هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـا اـاِكَتُه } جعل الصلاة لله وعطف الملائكة على الله ، وههنا جمع نفسه وملائكته وأسند الصلاة إليهم فقال : {يَصِلُونَ} وفيه تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلاً للمذكور على المعطوف ، كما أن الملك إذا قال يدخل فلان وفلان أيضاً يفهم منه تقديم لا يفهم لو قال فلان وفلان يدخلان ، إذا علمت هذا ، فقال في حق النبي عليه السلام إنهم يصلون إشارة إلى أنه في الصلاة على النبي عليه السلام كالأصل وفي الصلاة على المؤمنين الله يرحمهم ، ثم إن الملائكة يوافقونه فهم في الصلاة على النبي عليه السلام يصلون بالإضافة كأنها واجبة عليهم أو مندوبة سواء صلى الله عليه أو لم يصل وفي المؤمنين ليس كذلك.
المسألة الثانية : هذا دليل على مذهب الشافعي لأن الأمر للوجوب فتجب الصلاة على النبي عليه السلام ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد.
جزء : 25 رقم الصفحة : 183
المسألة الثالثة : سئل النبي عليه السلام كيف نصلي عليك يا رسول الله ؟
فقال : "قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد / كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
المسألة الرابعة : إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا ؟
نقول الصلاة عليه ليس لحاجته إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه ، كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه ، وإنما هو لإظهار تعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ، ولهذا قال عليه السلام : "من صلى علي مرة صلي الله عليه عشراً".
المسألة الخامسة : لم يترك الله النبي عليه السلام تحت منة أمته بالصلاة حتى عوضهم منه بأمره بالصلاة على الأمة حيث قال : {وَصَلِّ عَلَيْهِم إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } (التوبة : 103) وقوله : {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أمر فيجب ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا السلام عليك أيها النبي في التشهد وهو حجة على من قال بعدم وجوبه وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـا اـاِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ } .
جزء : 25 رقم الصفحة : 183
184
فصل الأشياء بتبيين بعض أضدادها ، فبين حال مؤذي النبي ليبين فضيلة المسلم عليه واللعن أشد المحذورات لأن البعد من الله لا يرجى معه خير بخلاف التعذيب بالنار وغيره. ألا ترى أن الملك إذا تغير على مملوك إن كان تأذيه غير قوي يزجره ولا يطرده ولو خير المجرم (بين) أن يضرب أو يطرد عندما يكون الملك في غاية العظمة والكرم يختار الضرب على الطرد ، ولا سيما إذا لم يكن في الدنيا ملك غير سيده ، وقوله : {فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ } إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه ، لأن المبعد في الدنيا يرجو القربة في الآخرة ، فإذا أبعد في الآخرة فقد خاب وخسر ، لأن الله إذا أبعده وطرده فمن الذين يقربه يوم القيامة القيامة ، ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب بقوله : {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} وفيه مسائل :
(1/3644)

المسألة الأولى : ذكر إيذاء الله وإيذاء الرسول وذكر عقيبه أمرين اللعن والتعذيب فاللعن جزاء الله ، لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه ، والتعذيب جزاء إيذاء الرسول لأن الملك إذا آذى بعض عبيده كبير يستوفي منه قصاصه ، لا يقال فعلى هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب ، لأنا نقول انفكاك أحدهما على هذا الوجه عن الآخر محال لأن من آذى الله فقد آذى الرسول ، وأما على الوجه الآخر وهو أن من يؤذي النبي عليه السلام ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك ، كمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر ، فقد آذى النبي عليه السلام غير أن الله / تعالى صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه بكونه يبعده عن الباب.
المسألة الثانية : أكد العذاب بكونه مهيناً لأن من تأذى من عبده وأمر بحبسه وضربه فإن أمر بحبسه في موضع مميز ، أو أمر بضربه رجلاً كبيراً يدل على أن الأمر هين ، وإن أمر بضربه على ملأ وحبسه بين المفسدين ينبىء عن شدة الأمر ، فمن آذى الله ورسوله من المخلدين في النار فيعذب عذاباً مهيناً ، وقوله : {أَعَدَّ لَهُمْ} للتأكيد لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما إذا أعد له قيداً وغلا ، فإن الأول يمكن أن يقال هذا أثر الغضب فإذا سكت الغضب يزول ولا كذلك الثاني.
جزء : 25 رقم الصفحة : 184
184
لما كان الله تعالى مصلياً على نبيه لم ينفك إيذاء الله عن إيذانه ، فإن من آذى الله فقد آذى الرسول فبين الله للمؤمنين أنكم إن أتيتم بما أمرتكم وصليتم على النبي كما صليت عليه ، لا ينفك إيذاؤكم عن إيذاء الرسول فيأثم من يؤذيكم لكون إيذائكم إيذاء الرسول ، كما أن إيذائي إيذاؤه وبالجملة لما حصلت الصلاة من الله والملائكة والرسول والمؤمنين صار لا يكاد ينفك إيذاء أحد منهم عن إيذاء الآخر كما يكون حال الأصدقاء الصادقين في الصداقة ، وقوله : {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } احتراز عن الأمر بالمعروف من غير عنف زائد ، فإن من جلد مائة على شرب الخمر أو حد أربعين على لعب النرد آذى بغير ما اكتسب أيضاً ، ومن جلد على الزنا أو حد الشرب لم يؤذ بغير ما اكتسب ، ويمكن أن يقال لم يؤذ أصلاً لأن ذلك إصلاح حال المضروب ، وقوله : {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَـانًا} البهتان هو الزور وهو لا يكون إلا في القول والإيذاء قد يكون بغير القول فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً ، فنقول : المراد والذين يؤذون المؤمنين بالقول. وهذا لأن الله تعالى أراد إظهار شرف المؤمن ، فلما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن ، وإيذاء الله بأن ينكر وجود الله بعد معرفة دلائل وجوده أو يشرك به من لا يبصر ولا يسمع أو من لا يقدر ولا يعلم أو من هو محتاج في وجوده إلى موجد وهو قول ذكر إيذاء المؤمن بالقول ، وعلى هذا خص الأنبياء بالقول بالذكر لأنه أعم وأتم ، وذلك لأن الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ ما يحتاج إليه فيؤذيه بالقول ، ولأن الفقير الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ، ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى ، والوجه الثاني في / الجواب هو أن نقول قوله بعد ذلك : {وَإِثْمًا مُّبِينًا} مستدرك فكأنه قال احتمل بهتاناً إن كان بالقول وإثماً مبيناً كيفما كان الإيذاء ، وكيفما كان فإن الله خص الإيذاء القولي بالذكر لما بينا أنه أعم ولأنه أتم لأنه يصل إلى القلب ، فإن الكلام يخرج من القلب واللسان دليله ويدخل في القلب والآذان سبيله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 184
184
لما ذكر أن من يؤذي المؤمنين يحتمل بهتاناً وكان فيه منع المكلف عن إيذاء المؤمن ، أمر المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم الموجبة للتأذي لئلا يحصل الإيذاء الممنوع منه. ولما كان الإيذاء القولي مختصاً بالذكر اختص بالذكر ما هو سبب الإيذاء القولي وهو النساء فإن ذكرهن بالسوء يؤذي الرجال والنساء بخلاف ذكر الرجال فإن من ذكر امرأة بالسوء تأذت وتأذى أقاربها أكثر من تأذيها ، ومن ذكر رجلاً بالسوء تأذى ولا يتأذى نساؤه ، وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة وتقع التهم ، فأمر الله الحرائر بالتجلبب.
وقوله : {ذَالِكَ أَدْنَى ا أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } قيل يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن ويمكن أن يقال المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيعرفن أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن. وقوله : {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} يغفر لكم ما قد سلف برحمته ويثيبكم على ما تأتون به راحماً عليكم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 184
184
(1/3645)

لما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله ، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسر الذي يظهر الحق ويضمر الباطل وهو المنافق ، ولما كان المذكور من قبل أقواماً ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة : وهم المؤذون الله ، والمؤذون الرسول ، والمؤذون المؤمنين ، ذكر من المسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة أحدها : المنافق الذي يؤذي الله سراً والثاني : الذي / قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه والثالث : المرجف الذي يؤذي النبي عليه السلام بالإرجاف بقوله غلب محمد وسيخرج من المدينة وسيؤخذ ، وهؤلاء وإن كانوا قوماً واحداً إلا أن لهم ثلاث اعتبارات وهذا في مقابلة قوله تعالى : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} (الأحزاب : 35) حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد فهم واحد بالشخص كثير بالاعتبار وقوله : {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم ولنخرجنهم من المدينة ، ثم لا يجاوزونك وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج ، ويحتمل أن يكون المراد لنغرينك بهم ، فإذا أغريناك لا يجاورونك ، والأول : كقول القائل يخرج فلان ويقرأ إشارة إلى أمرين والثاني : كقوله يخرج فلان ويدخل السوق ففي الأول يقرأ وإن لم يخرج وفي الثاني لا يدخل إلا إذا خرج. والاستثناء فيه لطيفة وهي أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده إظهاراً لشوكته ، ولو كان النفي بإرادة الله من غير واسطة النبي لأخلي المدينة عنهم في ألطف آن (بقوله) كن فيكون ، ولكن لما أراد الله أن يكون على يد النبي لا يقع ذلك إلا بزمان وإن لطف فقال : {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلا قَلِيلا} وهو أن يتهيؤا ويتأهبوا للخروج.
جزء : 25 رقم الصفحة : 184
185
أي في ذلك القليل الذي يجاورونك فيه يكونون ملعونين مطرودين من باب الله وبابك وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ، ولا يجدون ملجأ بل أينما يكونون يطلبون ويؤخذون ويقتلون.
جزء : 25 رقم الصفحة : 185
185
يعني هذا ليس بدعاً بكم بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام ، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ.
جزء : 25 رقم الصفحة : 185
186
لما بين حالهم في الدنيا أنهم يلعنون ويهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها فقال : {يَسْـاَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } أي عن وقت القيامة {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} لا يتبين لكم ، فإن الله أخفاها لحكمة هي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت.
/ ثم قال تعالى : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} إشارة إلى التخويف ، وذلك لأن قول القائل الله يعلم متى يكون الأمر الفلاني ينبىء عن إبطاء الأمر ، ألا ترى أن من يطالب مديوناً بحقه فإن استمهله شهراً أو شهرين ربما يصبر ذلك ، وإن قال له اصبر إلى أن يقدم فلان من سفره يقول الله يعلم متى يجىء فلان ، ويمكن أن يكون مجىء فلان قبل انقضاء تلك المدة فقال ههنا : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} يعني هي في علم الله فلا تستبطئوها فربما تقع عن قريب والقريب فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، قال تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} (الأعراف : 56) ولهذا لم يقل لعل الساعة تكون قريبة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 186
186
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَـافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } يعني كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك ملعونون عند الله {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} كما قال تعالى : {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} (الأحزاب : 57) {خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} (المائدة : 119) مطيلين المكث فيها مستمرين لا أمد لخروجهم.
وقوله : {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} لما ذكر خلودهم بين تحقيقه وذلك لأن المعذب لا يخلصه من العذاب إلا صديق يشفع له أو ناصر يدفع عنه ، ولا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع.
جزء : 25 رقم الصفحة : 186
187
(1/3646)

لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائهم أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة إتقاء بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه تجده يجعل يده جنة أو يطأطىء رأسه كي لا يصيب وجهه ، وفي الآخرة {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} فما ظنك بسائر أعضائهم التي تجعل جنة للوجه ووقاية له {يَقُولُونَ يَـالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} فيتحسرون ويندمون حيث لا تغنيهم الندامة والحسرة ، لحصول علمهم بأن الخلاص ليس إلا للمطيع. ثم يقولون : {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} يعني بدل طاعة الله تعالى أطعنا السادة وبدل طاعة الرسول أطعنا الكبراء وتركنا طاعة سيد السادات وأكبر الأكابر / فبدلنا الخير بالشر ، فلا جرم فاتنا خير الجنان وأوتينا شر النيران ، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون : {رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} أي بسبب ضلالهم وإضلالهم وفي قوله تعالى : {ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} معنى لطيف وهو أن الدعاء لا يكون إلا عند عدم حصول الأمر المدعو به والعذاب كان حاصلاً لهم واللعن كذلك فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم : {ضِعْفَيْنِ} وزيادة اللعن بقولهم : {لَعْنًا كَبِيرًا} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 187
189
لما بين الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب وكان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر ، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه وهو لا يورث كفراً ، وذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام وبحكمه بالفيء لبعض وغير ذلك فقال : {كَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى } وحديث إيذاء موسى مختلف فيه ، قال بعضهم هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه ، وقال بعضنم : (إن) قارون قرر مع امرأة فاحشة حتى تقول عند بني إسرائيل إن موسى زنى بي فلما جمع قارون القوم والمرأة حاضرة ألقى الله في قلبها أنها صدقت ولم تقل ما لقنت وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو أنهم قالوا له : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا} (المائدة : 24) وقولهم : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) وقولهم : {لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} (البقرة : 61) إلى غير ذلك فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا} ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه : "وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم" وقوله : {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهرون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى عليه السلام عن قتله الذي رموه به ، وعلى ما ذكرنا {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وبالجملة قطع الله حجتهم ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم ، وقوله : {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} أي ذا وجاهة ومعرفة ، والوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفاً بالخير ، وكل أحد وإن كان عند الله معروفاً لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة ، فإن من عرف غيره لكونه خادماً له وأجيراً عنده لا يقال هو وجيه عند فلان ، وإنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف ولا ينكر وكان كذلك.
جزء : 25 رقم الصفحة : 189
190
/ ثم قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر منهم من الأفعال والأقوال ، أما الأفعال فالخير ، وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله ومن قال الصدق قال قولاً سديداً ، ثم وعدهم على الأمرين بأمرين : على الخيرات بإصلاح الأعمال فإن بتقوى الله يصلح العمل والعمل الصالح يرفع ويبقى فيبقى فاعله خالداً في الجنة ، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب.
(1/3647)

ثم قال تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} فطاعة الله هي طاعة الرسول ، ولكن جمع بينهما لبيان شرف فعل المطيع فإنه يفعله الواحد اتخذ عند الله عهداً وعند الرسول يداً وقوله : {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} جعله عظيماً من وجهين أحدهما : أنه من عذاب عظيم والنجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب ، حتى أن من أراد أن يضرب غيره سوطاً ثم نجا منه لا يقال فاز فوزاً عظيماً ، لأن العذاب الذي نجا منه لو وقع ما كان يتفاوت الأمر تفاوتاً كثيراً والثاني : أنه وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي.
جزء : 25 رقم الصفحة : 190
190
لما أرشد الله المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي عليه السلام بأحسن الآداب ، بين أن التكليف الذي وجهه الله إلى الإنسان أمر عظيم فقال : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ} أي التكليف وهو الأمر بخلاف ما في الطبيعة ، واعلم أن هذا النوع من التكليف ليس في السموات ولا في الأرض لأن الأرض والجبل والسماء كلها على ما خلقت عليه ؛ الجبل لا يطلب منه السير والأرض لا يطلب منها الصعود ولا من السماء الهبوط ولا في الملائكة لأن الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء لكن ذلك لهم كالأكل والشرب لنا فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الأمانة وجوه كثيرة منها من قال هو التكليف وسمي أمانة لأن من قصر فيه / فعليه الغرامة ، ومن وفر فله الكرامة. ومنهم من قال هو قول لا إله إلا الله وهو بعيد فإن السموات والأرض والجبال بألسنتها ناطقة بأن الله واحد لا إله إلا هو ، ومنهم من قال الأعضاء فالعين أمانة ينبغي أن يحفظها والأذن كذلك واليد كذلك ، والرجل والفرج واللسان ، ومنهم من قال معرفة الله بما فيها والله أعلم.
المسألة الثانية : في العرض وجوه منهم من قال المراد العرض ومنهم من قال الحشر ومنهم من قال المقابلة أي قابلنا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات والأرض.
المسألة الثالثة : {فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وجهان أحدهما : أن المراد هي بأعيانها ، والثاني : المراد أهلوها ، ففيه إضمار تقديره : إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض.
المسألة الرابعة : قوله : {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى : {أَبَى ا أَن يَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ} (الحجر : 31) من وجهين أحدهما : أن هناك السجود كان فرضاً ، وههنا الأمانة كانت عرضاً وثانيهما : أن الإباء كان هناك استكباراً وههنا استصغاراً استصغرن أنفسهن ، بدليل قوله : {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 190
(1/3648)

المسألة السابعة : قوله تعالى : {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} فيه وجوه أحدها : أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها : المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب ثالثها : إنه كان ظلوماً جهولا ، أي كان من شأنه الظلم والجهل / يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك ، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام : 82) وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وقال في حق المؤمنين عامة : { والراسخون فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه } (آل عمران : 7) وقال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) رابعها : {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} في ظن الملائكة حيث قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} (البقرة : 30) وبين علمه عندهم حيث قال تعالى : {أَنابِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـا ؤُلاءِ} (البقرة : 31) وقال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك وغير مدرك ، والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي ، ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل والبراهين ، ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ، قالوا وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله : {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـا ئِكَةِ فَقَالَ أَنابِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـا ؤُلاءِ} (البقرة : 31) فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية ، فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته ، وأما غيره فإن كان مكلفاً يكون مكلفاً لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفاً لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفاً وفي الآية لطائف الأولى : الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أميناً عليها والقول قول الأمين فهو فائز ، بقي أولاده أخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن ، ولهذا وارث المودع لا يكون القول قوله ولم يكن له بد من تجديد عهد وائتمان ، فالمؤمن اتخذ عند الله عهداً فصار أميناً من الله فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز. ولهذا قال تعالى :
جزء : 25 رقم الصفحة : 190
(1/3649)

{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (الأحزاب : 73) أي كما تاب على آدم في قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْه } (البقرة : 37) والكافر صار آخذاً للأمانة من المؤتمن فبقي في ضمانه ، ثم إن المؤمن إذا أصاب الأمانة في يده شيء بقضاء الله وقدره كان ذلك من غير تقصير منه والأمين لا يضمن ما فات بغير تقصير ، والكافر إذا أصاب الأمانة في يده شيء ضمن وإن كان بقضاء الله وقدره ، لأنه يضمن ما فات وإن لم يكن بتقصير اللطيفة الثانية : خص الأشياء الثلاثة بالذكر لأنها أشد الأمور وأحملها للأثقال ، وأما السموات فلقوله تعالى : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} (النبأ : 12) والأرض والجبال لا تخفى شدتها وصلابتها ، ثم إن هذه الأشياء لما كانت لها شدة وصلابة عرض الله تعالى الأمانة عليها واكتفى بشدتهن وقوتهن فامتنعن ، لأنهن وإن كن أقوياء إلا أن أمانة الله تعالى فوق قوتهن ، وحملها الإنسان مع ضعفه الذي قال الله تعالى فيه : {وَخُلِقَ الانسَانُ ضَعِيفًا} (النساء : 28) ولكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ا } (الطلاق : 3) فإن قيل فالذي يعينه الله تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر ؟
نقول قال الله تعالى : "أنا أعين من يستعين بي ويتوكل علي" والكافر لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة اللطيفة الثالثة : قوله / تعالى : {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} وقوله تعالى : {وَحَمَلَهَا الانسَانُ } إشارة إلى أن فيه مشقة بخلاف ما لو قال فأبين أن يقبلنها وقبلها الإنسان ، ومن قال لغيره افعل هذا الفعل فإن لم يكن في الفعل تعب يقابل بأجرة فإذا فعله لا يستحق أجرة فقال تعالى : {وَحَمَلَهَا} إشارة إلى أنه مما يستحق الأجر عليه أي على مجرد حمل الأمانة ، وإما على رعايتها حق الرعاية فيستحق الزيادة فإن قيل فالكل حملوها ، غاية ما في الباب أن الكافر لم يأت بشيء زائد على الحمل فينبغي أن يستحق الأجر على الحمل فنقول الفعل إذا كان على وفق الإذن من المالك الآمر يستحق الفاعل الأجرة ، ألا ترى أنه لو قال احمل هذا إلى الضيعة التي على الشمال فحمل ونقلها إلى الضيعة التي على الجنوب لا يستحق الأجرة ويلزمه ردها إلى الموضع الذي كان فيه كذلك الكافر حملها على غير وجه الإذن فغرم وزالت حسناته التي عملها بسببه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 190
191
أي حملها الإنسان ليقع تعذيب المنافق والمشرك ، فإن قال قائل لم قدم التعذيب على التوبة نقول لما سمى التكليف أمانة والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة فكان التعذيب على الخيانة كاللازم والأجر على الحفظ إحسان والعدل قبل الإحسان وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : لم عطف المشرك على المنافق ، ولم يعد اسمه تعالى فلم يقل ويعذب الله المشركين وعند التوبة أعاد اسمه وقال ويتوب الله ولو قال ويتوب على المؤمنين كان المعنى حاصلاً ؟
نقول أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذلك الفاعل فقال : {وَيَتُوبَ اللَّهُ} ويحقق هذا قراءة من قرأ ويتوب الله بالرفع.
المسألة الثانية : ذكر الله في الإنسان وصفين الظلوم والجهول وذكر من أوصافه وصفين فقال : {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} أي كان غفوراً للظلوم ورحيماً على الجهول ، وذلك لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعاً إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك كما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) وأما الوعد فقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) وأما الرحمة على الجهل فلأن الجهل محل الرحمة ولذلك يعتذر المسيء بقوله ما علمت.
وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى أعلم عبده بأنه غفور رحيم ، وبصره بنفسه فرآه ظلوماً جهولاً ثم عرض عليه الأمانة فقبلها مع ظلمه وجهله لعلمه فيما يجبرها من الغفران والرحمة والله أعلم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 191
192
(1/3650)

سورة سبأ
مكية وقيل فيها آية مدنية وهي
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وهي أربع وقيل خمس وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 25 رقم الصفحة : 192
193
السور المفتتحة بالحمد خمس سور سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة والخامسة وهي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء ، فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما يدوم فلنا حالتان الابتداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1) إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ويدل عليه قوله تعالى فيه : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام : 2) إشارة إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية وهي الكهف {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا * قَيِّمًا} (الكهف : 1 ، 2) إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء ، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ولو وقعت المنازعات في المشتبهات وأدى إلى التقاتل والتفاني ، ثم قال في هذه السورة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني ويدل عليه قوله تعالى : {وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الآخِرَةِ } وقال في الملائكة : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إشارة إلى نعمة الإبقاء ويدل عليه قوله تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلاً إلى يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين كما قال تعالى : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَا ا ِكَةُ} (الأنبياء : 103) وقال تعالى عنهم : {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر : 73) وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر النعمتين بقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة : ) إشارة إلى النعمة العاجلة وقوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إشارة إلى النعمة / الآجلة قرئت في الافتتاح وفي الاختتام ، ثم في مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 193
المسألة الأولى : الحمد شكر والشكر على النعمة والله تعالى جعل ما في السموات وما في الأرض لنفسه بقوله : {لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } ولم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول جواباً عنه الحمد يفارق الشكر في معنى وهو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة وإن لم ينعم على الحامد أصلاً ، فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلاً أنه عالم عامل بارع كامل فيقال له إنه يحمد فلاناً ولا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فالله تعالى محمود في الأزل لاتصافه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال ومشكور ولا يزال على ما أبدى من الكرم وأسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة وفي كونه مالك ما في السموات وما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله : {لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } يوجب شكراً أتم مما يوجبه قوله تعالى : {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ} وذلك لأن ما في السموات والأرض إذا كان لله ونحن المنتفعون به لا هو ، يوجب ذلك شكراً لا يوجبه كون ذلك لنا.
المسألة الثانية : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة/ فلم ذكر الله السموات والأرض ؟
فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ، ثم قال : {وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الآخِرَةِ } ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها وفناء العاجلة ولهذا قال : {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة والخير ، والحكمة صفة ثابتة لله لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة.
المسألة الثالثة : الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له حكيم ، فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم ، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها فقوله : {حَكِيمٌ} أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء.
جزء : 25 رقم الصفحة : 193
194
ثم بين الله تعالى كما أخبره بقوله : {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} .
(1/3651)

ما يلج في الأرض من الحبة والأموات ويخرج منها من السنابل والأحياء وما ينزل من السماء / من أنواع رحمته منها المطر ومنها الملائكة ومنها القرآن ، وما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ومنها الأرواح ومنها الأعمال الصالحة لقوله : {وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } (فاطر : 10) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء ، لأن الحبة تبذر أولاً ثم تسقى ثانياً.
المسألة الثانية : قال وما يعرج فيها ولم يقل يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة ومرتبة النفوس الزكية وهذا لأن كلمة إلى للغاية ، فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال : {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ، وأما السماء فهي دنيا وفوقها المنتهى.
المسألة الثالثة : قال : {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} رحيم بالإنزال حيث ينزل الرزق من السماء ، غفور عندما تعرج إليه الأرواح والأعمال فرحم أولاً بالإنزال وغفر ثانياً عند العروج.
ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } ثم رد عليهم وقال : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَة قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ * لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 194
(1/3652)

أخبر بإتيانها وأكده باليمين ، قال الزمخشري رحمه الله : لو قال قائل كيف يصح التأكيد باليمين مع أنهم يقولون لا رب وإن كانوا يقولون به ، لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين وأجاب عنه بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ} وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في دار الدنيا في الآلام الشديدة مدة ويموت فيها ، فلولا دار تكون الأجزية فيها لكان / الأمر على خلاف الحكمة ، والذي أقوله أنا هو أن الدليل المذكور في قوله : {عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أظهر ، وذلك لأنه إذا كان عالماً بجميع الأشياء يعلم أجزاء الأحياء ويقدر على جمعها فالساعة ممكنة القيام ، وقد أخبر عنها الصادق فتكون واقعة ، وعلى هذا فقوله تعالى : {فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ} فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح والأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله : {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ} إشارة إلى علمه بالأرواح وقوله : {وَلا فِى الارْضِ } إشارة إلى علمه بالأجسام ، وإذا علم الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد. وقوله : {وَلا أَصْغَرَ مِن ذَالِكَ} إشارة إلى أن ذكر مثقال الذرة ليس للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب ، وعلى هذا فلو قال قائل فأي حاجة إلى ذكر الأكبر ، فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد من أن يعلم الأكبر ؟
فنقول لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر ، لكونها محل النسيان ، أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، فقال الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب فيه ، ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جمع ذلك وإثباته للجزاء فقال : {لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ذكر فيهم أمرين الإيمان والعمل الصالح ، وذكر لهم أمرين المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له ويدل عليه قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) وقوله عليه السلام فيما أخبرنا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال : أخبرني والدي عن جدي عن محيي السنة عن عبد الواحد المليجي عن أحمد بن عبد الله النعيمي عن محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان" والرزق الكريم من العمل الصالح وهو مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً ، فعند فراغه من العمل لا بد من أن ينعم عليه إنعاماً ويطعمه طعاماً ، ووصف الرزق بالكريم قد ذكرنا أنه بمعنى ذي كرم أو مكرم ، أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا/ فإنه ما لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي ، وفي التفسير مسائل :
جزء : 25 رقم الصفحة : 194
المسألة الأولى : قوله : { أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون لهم ذلك جزاء فيوصله إليهم لقوله : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } ، وثانيهما : أن يكون ذلك لهم والله يجزيهم بشيء آخر لأن قوله : {أُوالَـا ئِكَ لَهُمْ} جملة تامة إسمية ، وقوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } جملة فعلية مستقلة ، وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل. ليجزي الذين آمنوا رزقاً.
المسألة الثانية : اللام في ليجزي للتعليل ، معناه الآخرة للجزاء ، فإن قال قائل : فما وجه المناسبة ؟
فنقول : الله تعالى أراد أن لا ينقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقية ليكون ثوابه واصلاً إليه دائماً أبداً ، وجعل قبلها داراً فيها الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلف مقدار ما يكون / فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبلها وإذا نظر إليه في نفسه.
المسألة الثالثة : ميز الرزق بالوصف بقوله كريم ولم يصف المغفرة واحدة هي للمؤمنين والرزق منه شجرة الزقوم والحميم ، ومنه الفواكه والشراب الطهور ، فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ، ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 194
194
(1/3653)

لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين ، وقوله : {وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى ءَايَـاتِنَا} أي بالإبطال ، ويكون معناه الذين كذبوا بآياتنا وحينئذٍ يكون هذا في مقابلة ما تقدم لأن قوله تعالى : {ءَامَنُوا } معناه صدقوا وهذا معناه كذبوا فإن قيل من أين علم كون سعيهم في الإبطال مع أن المذكور مطلق السعي ؟
فنقول فهم من قوله تعالى : {مُعَـاجِزِينَ} وذلك لأنه حال معناه سعوا فيها وهم يريدون التعجيز وبالسعي في التقرير والتبليغ لا يكون الساعي معاجزاً لأن القرآن وآيات الله معجزة في نفسها لا حاجة لها إلى أحد ، وأما المكذب فهو آت بإخفاء آيات بينات فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروج كذبه لعله يعجز المتمسك به ، وقيل بأن المراد من قوله : {مُعَـاجِزِينَ} أي ظانين أنهم يفوتون الله ، وعلى هذا يكون كون الساعي ساعياً بالباطل في غاية الظهور ، ولهم عذاب في مقابلة لهم رزق ، وفي الآية لطائف الأولى : قال ههنا : {لَهُمْ عَذَابَ} ولم يقل يجزيهم الله ، وقد تقدم القول منا أن قوله تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } يحتمل أن يكون الله يجزيهم بشيء آخر ، وقوله : {أُوالَـا ئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} إخبار عن مستحقهم المعد لهم ، وعلى الجملة فاحتمال الزيادة هناك قائم نظراً إلى قوله : {لِيَجْزِىَ} وههنا لم يقل ليجازيهم فلم يوجد ذلك الثانية : قال هناك لهم مغفرة ثم زادهم فقال : {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وههنا لم يقل إلا لهم عذاب من رجز أليم ، والجواب تقدم في مثله الثالثة : قال هناك : {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ولم يقلله بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم ، وقال ههنا : {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} بلفظة صالحة للتبعيض وكل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب بالنسبة إليها والرجز قيل أسوأ العذاب ، وعلى هذا {مِنْ} لبيان الجنس كقول القائل خاتم من فضة ، وفي الأليم قراءتان الجر والرفع فالرفع على أن الأليم وصف العذاب كأنه قال عذاب أليم من أسوأ العذاب والجر على أنه وصف للرجز والرفع أقرب نظراً إلى المعنى ، والجر نظراً إلى اللفظ ، فإن قيل فلم تنحصر الأقسام في المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي المعجز لجواز أن يكون أحد مؤمناً ليس له عمل صالح أو كافر متوقف ، فنقول إذا علم حال الفريقين المذكورين يعلم أن المؤمن قريب الدرجة ممن تقدم أمره والكافر قريب الدرجة ممن سبق ذكره وللمؤمن مغفرة ورزق كريم ، وإن لم يكن في الكرامة مثل رزق الذي عمل صالحاً / وللكافر غير المعاند عذاب وإن لم يكن من أسوأ الأنواع التي للمكذبين المعاندين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 194
195
لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن من أوتي علماً لا يغتر بتكذيبه ويعلم أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلّم حق وصدق ، وقوله : هو الحق يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك ، وأما قول المكذب فباطل ، بخلاف ما إذا تنازع خصمان ، والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقاً في المعنى ، وقوله تعالى : {وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} يحتمل أن يكون بياناً لكونه هو الحق فإنه هاد إلى هذا الصراط ، ويحتمل أن يكون بياناً لفائدة أخرى ، وهي أنه مع كونه حقاً هادياً والحق واجب القبول فكيف إذا كان فيه فائدة في الاستقبال وهي الوصول إلى الله ، وقوله : {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} يفيد رغبة ورهبة ، فإنه إذا كان عزيزاً يكون ذا انتقام ينتقم من الذي يسعى في التكذيب ، وإذا كان حميداً يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحاً ، فإن قيل كيف قدم الصفة التي للهيبة على الصفة التي للرحمة مع أنك أبداً تسعى في بيان تقديم جانب الرحمة ؟
نقول كونه عزيزاً تام الهيبة شديد الانتقام يقوي جانب الرغبة لأن رضا الجبار العزيز أعز وأكرم من رضا من لا يكون كذلك ، فالعزة كما تخوف ترجى أيضاً ، وكما ترغب عن التكذيب ترغب في التصديق ليحصل القرب من العزيز.
جزء : 25 رقم الصفحة : 195
195
وجه الترتيب : هو أن الله تعالى لما بين أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم بقوله : {قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (سبأ : 3) وبين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات ، بين حال المؤمن والكافر بعد قوله : {قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} فقال المؤمن : هو الذي يقول الذي أنزل إليك الحق وهو يهدي ، وقال الكافر هو الذي يقول هو باطل ، ومن غاية اعتقادهم وعنادهم في إبطال ذلك قالوا على سبيل التعجب : {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سبأ : 7) وهذا كقول القائل في الاستبعاد ، جاء رجل يقول : إن الشمس تطلع من المغرب إلى غير ذلك من المحالات.
جزء : 25 رقم الصفحة : 195
196
(1/3654)

/ ثم قال تعالى : {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِه جِنَّة بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَـالِ الْبَعِيدِ} هذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون تمام قول الذين كفروا أولاً أعني هو من كلام من قال : {هَلْ نَدُلُّكُمْ} ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال : {هَلْ نَدُلُّكُمْ} كأن السامع لما سمع قول القائل : {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} قال له : أهو يفتري على الله كذباً ؟
إن كان يعتقد خلافه ، أم به جنة (أي) جنون ؟
إن كان لا يعتقد خلافه وفي هذا لطيفة : وهي أن الكافر لا يرضى بأن يظهر كذبه ، ولهذا قسم ولم يجزم بأنه مفتر ، بل قال مفتر أو مجنون ، احترازاً من أن يقول قائل كيف يقول بأنه مفتر ، مع أنه جائز أن يظن أن الحق ذلك فظن الصدق يمنع تسمية القائل مفترياً وكاذباً في بعض المواضع ، ألا ترى أن من يقول جاء زيد ، فإذا تبين أنه لم يجىء وقيل له كذبت ، يقول ما كذبت ، وإنما سمعت من فلان أنه جاء ، فظننت أنه صادق فيدفع الكذب عن نفسه بالظن ، فهم احترزوا عن تبين كذبهم ، فكل عاقل ينبغي أن يحترز عن ظهور كذبه عند الناس ، ولا يكون العاقل أدنى درجة من الكافر ، ثم إنه تعالى أجابهم مرة أخرى وقال : {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ فِى الْعَذَابِ} في مقابلة قولهم : {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وقوله : {وَالضَّلَـالِ الْبَعِيدِ} في مقابلة قولهم : {بِه جِنَّة } وكلاهما مناسب. أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤذية ، لأنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوه إلى الكذب. وأما الجنون فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء ، لأنه لا يشهد عليه بأنه يعذب ، ولكن ينسبه إلى عدم الهداية فبين أنهم هم الضالون ، ثم وصف ضلالهم بالبعد ، لأن من يسمي المهتدي ضالاً يكون هو الضال ، فمن يسمي الهادي ضالاً يكون أضل ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان هادي كل مهتد.
جزء : 25 رقم الصفحة : 196
197
ثم قال تعالى : {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِا إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ} لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر وذكر فيه تهديداً. أما الدليل فقوله : {مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } فإنهما يدلان على الوحدانية كما بيناه مراراً ، وكما قال تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) ويدلان على الحشر لأنهما يدلان على كمال قدرته ومنها الإعادة ، وقد ذكرناه مراراً ، وقال تعالى : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } (يس : 81) / وأما التهديد فبقوله : {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ} يعني نجعل عين نافعهم ضارهم بالخسف والكسف.
ثم قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب ثم إن الله تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ، ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم داود كما قال تعالى عنه : {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } (ص : 24) وبين ما أتاه الله على إنابته فقال :
جزء : 25 رقم الصفحة : 197
198
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {مِنَّآ} إشارة إلى بيان فضيلة داود عليه السلام ، وتقريره هو أن قوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ مِنَّا فَضْلا } مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتي الملك زيداً خلعة ، فإذا قال القائل آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاص ما يكون له ، فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ومثل هذا قوله تعالى : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} (التوبة : 21) فإن رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد في الدنيا لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه فقال : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} .
المسألة الثانية : في قوله : {فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه } قال الزمخشري : {مِن جِبَالٍ} بدل من قوله : {فَضْلا} معناه آتيناه فضلاً قولنا يا جبال ، أو من آتينا ومعناه قلنا يا جبال.
المسألة الثالثة : قرىء أوبي بتشديد الواو من التأويب وبسكونها وضم الهمزة أوبي من الأوب وهو الرجوع والتأويب الترجيع ، وقيل بأن معناه سيرى معه ، وفي قوله : {يُسَبِّحْنَ} قالوا : هو من السباحة وهي الحركة المخصوصة.
المسألة الرابعة : قرىء {وَالطَّيْرُ} بالنصب حملاً على محل المنادى والطير بالرفع حملاً على لفظه.
(1/3655)

المسألة الخامسة : لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الجبال والطير ولكن ذكر الجبال ، لأن الصخور للجمود والطير للنفور تستبعد منهما الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ، ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة.
المسألة السادسة : قوله : {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} عطف ، والمعطوف عليه يحتمل أن يكون قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا : {مِن جِبَالٍ} أوبي وألنا ، ويحتمل أن يكون عطفاً على آتينا تقديره آتيناه فضلاً وألنا له.
جزء : 25 رقم الصفحة : 198
المسألة السابعة : ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير ، فإنه يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به ، فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله ، قيل / إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع ، وإنما اختار الله له ذلك ، لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما.
جزء : 25 رقم الصفحة : 198
199
/قيل إن أن ههنا للتفسير فهي مفسرة ، بمعنى أي اعمل سابغات وهو تفسير وتحقيقه لأن يعمل ، يعني ألنا له الحديد ليعمل سابغات ويمكن أن يقال ألهمناه أن اعمل وأن مع الفعل المستقبل للمصدر فيكون معناه : ألنا له الحديد وألهمناه عمل سابغات وهي الدروع الواسعة ذكر الصفة ويعلم منها الموصوف وقدر في السرد ، قال المفسرون : أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها ، ويحتمل أن يقال السرد هو عمل الزرد ، وقوله : {سَـابِغَـاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ } أي الزرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَاعْمَلُوا صَـالِحًا } أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ، والكسب قدروا فيه ، ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله : {إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقد ذكرنا مراراً أن من يعمل لملك شغلاً ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه ، ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيباً آخر وهو سليمان ، كما قال تعالى : {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص : 34).
جزء : 25 رقم الصفحة : 199
200
وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌا وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِا وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه ا وَمَن} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} بالرفع وبالنصب وجه الرفع {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} مسخرة أو سخرت {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} ووجه النصب {وَلِسُلَيْمَـانَ} سخرنا {الرِّيحَ} وللرفع وجه آخر / وهو أن يقال معناه : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ} كما يقال لزيد الدار ، وذلك لأن الريح كانت له كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد.
المسألة الثانية : الواو للعطف فعلى قراءة الرفع يصير عطفاً لجملة إسمية على جملة فعلية وهو لا يجوز أولا يحسن فكيف هذا فنقول لما بين حال داود كأنه تعالى قال ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح ، وأما على النصب فعلى قولنا : {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} كأنه قال : وألنا لداود الحديد وسخرنا لسليمان الريح.
المسألة الثالثة : المسخر لسليمان كانت ريحاً مخصوصة لا هذه الرياح ، فإنها المنافع عامة في أوقات الحاجات ويدل عليه أنه لم يقرأ إلا على التوحيد فما قرأ أحد الرياح.
المسألة الرابعة : قال بعض الناس : المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه } (الإسراء : 44) ، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح ، ومن تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح وقوله : {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} ثلاثون فرسخاً لأن من يخرج للتفرج في أكثر الأمر لا يسير أكثر من فرسخ ويرجع كذلك ، وقوله في حق داود : {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} وقوله في حق سليمان : {وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِ } أنهم استخرجوا تذويب الحديد والنحاس بالنار واستعمال الآلات منهما والشياطين أي أناساً أقوياء وهذا كله فاسد حمله على هذا ضعف اعتقاده (و) عدم اعتماده على قدرة الله والله قادر على كل ممكن وهذه أشياء ممكنة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 200
(1/3656)

المسألة الخامسة : أقول قوله تعالى : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ} (الأنبياء : 79) وقوله : {وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ} وفي هذه السورة قال : {فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه } (سبأ : 10) وقال في الريح هناك وههنا : {وَلِسُلَيْمَـانَ} تقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحف ، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا : {أَوِّبِى مَعَه } سيري فالجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً ، والريح لا تتحرك معه سليمان بل تحرك سليمان مع نفسها ، فلم يقل الريح مع سليمان ، بل سليمان كان مع الريح {وَأَسَلْنَا لَه عَيْنَ الْقِطْرِ } أي النحاس {وَمِنَ الْجِنِّ} أي سخرنا له من الجن ، وهذا ينبىء عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر.
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان/ وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه ، لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع داود على ما قلنا : {أَوِّبِى} أي سيري وسليمان وجنوده مع الريح الثقيل مع الخفيف أيضاً ، والطير من جنس تسخير الجن لأنهما / لا يجتمعان مع الإنسان ؛ الطير لنفوره من الإنس والإنس لنفوره من الجن ، فإن الإنسان يتقي مواضع الجن ، والجن يطلب أبداً اصطياد الإنسان والإنسان يطلب اصطياد الطير فقدر الله أن صار الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه ، وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه وأما القطر والحديد فتجاذبهما غير خفي وههنا لطيفة : وهي أن الآدمي ينبغي أن يتقي الجن ويجتنبه والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (المؤمنون : 97 ، 98) فكيف طلب سليمان الاجتماع بهم فنقول قوله تعالى : {مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّه } إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ولطيفة أخرى : وهي أن الله تعالى قال ههنا : {بِإِذْنِ رَبِّه } بلفظ الرب وقال : {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} ولم يقل عن أمر ربه ، وذلك لأن الرب لفظ ينبىء عن الرحمة ، فعندما كانت الإشارة إلى حفظ سليمان عليه السلام قال : {رَبَّه } وعندما كانت الإشارة إلى تعذيبهم قال : {عَنْ أَمْرِنَا} بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف وقوله تعالى : {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} فيه وجهان أحدهما : أن الملائكة كانوا موكلين بهم وبأيديهم مقارع من نار فالإشارة إليه وثانيهما : أن السعير هو ما يكون في الآخرة فأوعدهم بما في الآخرة من العذاب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 200
200
المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} والتماثيل ما يكون فيها من النقوش ، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال : {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس {وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ } ثابتات لا تنقل لكبرها ، وإنما يغرف منها في تلك الجفان ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم في الذكر على مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل ، فنقول : لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه ، وأما القدور فلا تكون فيه ، ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : {وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ } أي غير منقولات ، ثم لما بين حال الجفان العظيمة ، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان.
/ المسألة الثانية : ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب ، وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود ، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة ، واستوى داود على الملك ، فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده ، ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيراً لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام.
(1/3657)

المسألة الثالثة : لما قال عقيب قوله تعالى : {أَنِ اعْمَلْ سَـابِغَـاتٍ} اعملوا صالحاً ، قال عقيب ما يعمله الجن : {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا } إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكراً ، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء ، وقلة الاشتغال بها كما في قوله : {وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ } أي اجعله بقدر الحاجة.
جزء : 25 رقم الصفحة : 200
المسألة الرابعة : انتصاب شكراً يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون مفعولاً له كقول القائل جئتك طمعاً وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها : أن يكون مصدراً كقول القائل شكرت الله شكراً ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعوداً ، وذلك لأن العمل شكر فقوله : {اعْمَلُوا } يقوم مقام قوله : وثالثها : أن يكون مفعولاً به كقولك اضرب زيداً كما قال تعالى : {الطَّيِّبَـاتِ وَاعْمَلُوا صَـالِحًا } (المؤمنون : 51) لأن الشكر صالح.
المسألة الخامسة : قوله : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده ، وذلك لأنه لما قال : {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا } فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن ، لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر ، فدائماً تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر ، فقال تعالى : إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج ، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله : {عِبَادِىَ} مع الإضافة إلى نفسه ، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين/ كقوله تعالى : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه } (الزمر : 53) وقوله : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الإسراء : 65) فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله : {قَلِيلٌ} يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه ، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله ، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه ، وقال له : يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها ، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها.
جزء : 25 رقم الصفحة : 200
201
لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له بين أنه لم ينج من الموت ، وأنه قضى عليه الموت ، تنبيهاً للخلق على أن الموت لا بد منه ، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كان سليمان عليه السلام يقف في عبادة الله ليلة كاملة ويوماً تاماً وفي بعض الأوقات يزيد عليه ، وكان له عصا يتكىء عليها واقفاً بين يدي ربه ، ثم في بعض الأوقات كان واقفاً على عادته في عبادته إذ توفي ، فظن جنوده أنه في العبادة وبقي كذلك أياماً وتمادى شهوراً ، ثم أراد الله إظهار الأمر لهم ، فقدر أن أكلت دابة الأرض عصاه فوقع وعلم حاله.
وقوله تعالى : {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ} كانت الجن تعلم ما لا يعلمه الإنسان فظن أن ذلك القدر علم الغيب وليس كذلك ، بل الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلاً فهو أكثر الأشياء الحاضرة لا يعلمه ، والجن لم تعلم إلا الأشياء الظاهرة وإن كانت خفية بالنسبة إلى الإنسان ، وتبين لهم الأمر بأنهم لا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حي. وقوله : {مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ} دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير ، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 201
202
ثم قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌا جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍا كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَه ا بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ} .
(1/3658)

لما بين الله حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بين حال الكافرين بأنعمه ، بحكاية أهل سبأ ، وفي سبأ قراءتان بالفتح على أنه اسم بقعة وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة وهو الأظهر ، لأن الله جعل الآية لسبأ والفاهم هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل وقوله : {ءَايَةً} أي من فضل ربهم ، ثم بينها بذكر بدله بقوله : {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } قال الزمخشري أية آية في جنتين ، مع أن بعض بلاد العراق فيها آلاف من الجنان ؟
وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتان أو عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات ، ولاتصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة ، قوله : {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ} إشارة إلى تكميل النعم عليهم / حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض ، وقوله : {وَاشْكُرُوا لَه ا } بيان أيضاً لكمال النعمة ، فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة ، ثم لما بين حالهم في مساكنهم وبساتينهم وأكلهم أتم بيان النعمة بأن بين أن لا غائلة عليه ولا تبعة في المآل في الدنيا ، فقال : {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي طاهرة عن المؤذيات لا حية فيها ولا عقرب ولا وباء ولا وخم ، وقال : {وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة ، فعند هذا بان كمال النعمة حيث كانت لذة حالية خالية عن المفسد المآلية.
جزء : 25 رقم الصفحة : 202
202
ثم إنه تعالى لما بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم فقال : {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِمَا كَفَرُوا ا وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ} .
فبين كمال ظلمهم بالإعراض بعض إبانة الآية كما قال تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } ثم بين كيفية الانتقام منهم كما قال : {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (السجدة : 22) وكيفيته أنه تعالى أرسل عليهم سيلاً غرق أموالهم وخرب دورهم ، وفي العرم وجوه أحدها : أنه الجرذ الذي سبب خراب السكر ، وذلك من حيث إن بلقيس كانت قد عمدت إلى جبال بينها شعب فسدت الشعب حتى كانت مياه الأمطار والعيون تجتمع فيها وتصير كالبحر وجعلت لها أبواباً ثلاثة مرتبة بعضها فوق بعض وكانت الأبواب يفتح بعضها بعد بعض. فنقب الجرذ السكر ، وخرب السكر بسببه وانقلب البحر عليهم وثانيها : أن العرب اسم السكر وهو جمع العرمة وهي الحجارة ثالثها : اسم للوادي الذي خرج منه الماء وقوله : {وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بين به دوام الخراب ، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس يكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة فإذا تركت سنين تصير كالغيضة والأجمة تلتف الأشجار بعضها ببعض وتنبت المفسدات فيها فتقل الثمار وتكثر الأشجار ، والخمط كل شجرة لها شوك أو كل شجرة ثمرتها مرة ، أو كل شجرة ثمرتها لا تؤكل ، والأثل نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إلا في بعض الأوقات ، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسدر معروف وقال فيه قليل لأنه كان أحسن أشجارهم فقلله الله ، ثم بين الله أن ذلك كان مجازاة لهم على كفرانهم فقال : {ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِمَا كَفَرُوا ا وَهَلْ} أي لا نجازي بذلك الجزاء {نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ} قال بعضهم المجازاة تقال في النقمة والجزاء / في النعمة لكن قوله تعالى : {ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم} يدل على أن الجزاء يستعمل في النقمة ، ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون بين اثنين ، يأخذ من كل واحد جزاء في حق الآخر. وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدىء بالنعم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 202
203
(1/3659)

أي بينهم وبين الشام فإنها هي البقعة المباركة. وقرى ظاهرة أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى ، فإن قال قائل : هذا من النعم والله تعالى قد شرع في بيان تبديل نعمهم قوله : {وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النقمة ؟
فنقول ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ، ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكثرة القرى ، ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبيادي والبراري بقوله : {رَبَّنَا بَـاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وقد فعل ذلك ، ويدل عليه قراءة من قرأ ربنا بعد على المبتدأ والخبر ، وقوله : {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } الأماكن المعمورة تكون منازلها معلومة مقدرة لا تتجاوز ، فلما كان بين كل قرية مسيرة نصف نهار ، وكانوا يغدون إلى قرية ويروحون إلى أخرى ما أمكن في العرف تجاوزها ، فهو المراد بالتقدير والمفاوز لا يتقدر السير فيها بل يسير السائر فيها بقدر الطاقة جاداً حتى يقطعها ، وقوله : {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا} أي كان بينهم ليال وأيام معلومة ، وقوله : {ءَامِنِينَ} إشارة إلى كثرة العمارة ، فإن خوف قطاع الطريق والانقطاع عن الرقيق لا يكون في مثل هذه الأماكن ، وقيل بأن معنى قوله : {لَيَالِىَ وَأَيَّامًا} تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلاً ، لئلا يعلم العدو بسيرهم ، وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو ، إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة ، وقوله تعالى : {فَقَالُوا رَبَّنَا بَـاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قيل بأنهم طلبوا ذلك وهو يحتمل وجهين أحدهما : أن يسألوا بطراً كما طلبت اليهود الثوم والبصل ، ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يقدر كما يقول القائل لغيره اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر عليه. ويمكن أن يقال : {قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} بلسان الحال ، أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعد / بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم ، وقوله : {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} يكون بياناً لذلك ، وقوله : {فَجَعَلْنَـاهُمْ أَحَادِيثَ} أي فعلنا بهم ما جعلناهم به مثلاً ، يقال : تفرقوا أيدي سبا ، وقوله : {وَمَزَّقْنَـاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } بيان لجعلهم أحاديث ، وقوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي فيما ذكرناه من حال الشاكرين ووبال الكافرين.
جزء : 25 رقم الصفحة : 203
205
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ظنه أنه يغويهم كما قال : {فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ} (ص : 82) وقوله : {فَاتَّبَعُوهُ} بيان لذلك أي أغواهم ، فاتبعوه {إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال تعالى في حقهم : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) ويمكن أن يقال : صدق عليهم ظنه في أنه خير منه كما قال تعالى عنه : {أَنَا خَيْرٌ مِّنْه } ( ) ويتحقق ذلك في قوله فاتبعوه ، لأن المتبوع خير من التابع وإلا لا يتبعه العاقل والذي يدل على أن إبليس خير من الكافر ، هو إن إبليس امتنع من عبادة غير الله لكن لما كان في امتناعه ترك عبادة الله عناداً كفر ، والمشرك يعبد غير الله فو كفر بأمر أقرب إلى التوحيد ، وهم كفروا بأمر هو الإشراك ، ويؤيد هذا الذي اخترناه الاستثناء ، وبيانه هو أنه وإن لم يظن أنه يغوي الكل ، بدليل أنه تعالى قال عنه : {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص : 76) فما ظن أنه يغوي المؤمنين فما ظنه صدقه ولا حاجة إلى الاستثناء ، وأما في قوله : {أَنَا خَيْرٌ مِّنْه } اعتقد الخيرية بالنسبة إلى جميع الناس بدليل تعليله بقوله : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} (الأعراف : 12) وقد كذب في ظنه في حق المؤمنين ، ويمكن الجواب عن هذا في الوجه الأول ، وهو أنه وإن لم يظن إغواء الكل وعلم أن البعض ناج ، لكن ظن في كل واحد أنه ليس هو ذلك الناجي ، إلى أن تبين له فظن أنه يغويه فكذب في ظنه في حق البعض وصدق في البعض.
جزء : 25 رقم الصفحة : 205
205
(1/3660)

قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} (العنكبوت : 3) أن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه ، فإن العلم صفة كاشفة يظهر بها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد ، فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم ، وإذا عدم يعلمه معدوماً بذلك ، مثاله : أن المرآة المصقولة فيها الصفاء / فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها ، ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته ، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها ، وإنما التغير في الخارجات فكذلك ههنا قوله : {إِلا لِنَعْلَمَ} أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن وكان قبله فيه أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو.
وقوله : {وَمَا كَانَ لَه عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـانٍ} إشارة إلى أنه ليس بملجىء وإنما هو آية ، وعلامة خلقها الله لتبيين ما هو في علمه السابق ، وقوله : {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} يحقق ذلك أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع ، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة ، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز.
جزء : 25 رقم الصفحة : 205
206
لما بين الله تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى عاد إلى خطابهم وقال لرسوله صلى الله عليه وسلّم قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دون الله ليكشفوا عنكم الضر على سبيل التهكم ثم بين أنهم لا يملكون شيئاً بقوله : {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ} .
واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة أحدها : قول من يقول الله تعالى خلق السماء والسماويات وجعل الأرض والأرضيات في حكمهم ، ونحن من جملة الأرضيات فنعبد الكواكب والملائكة التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم ، فقال الله تعالى في إبطال قولهم : إنهم لا يملكون في السموات شيئاً كما اعترفتم ، قال ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم وثانيها : قول من يقول السموات من الله على سبيل الاستبداد والأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب فإن الله خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات والحركات والطوالع فجعلوا لغير الله معه شركاً في الأرض والأولون جعلوا الأرض لغيره والسماء له ، فقال في إبطال قولهم : {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي الأرض كالسماء لله لا لغيره ، ولا لغيره فيها نصيب وثالثها : قول من قال : التركيبات والحوادث كلها من / الله تعالى لكن فوض ذلك إلى الكواكب ، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ويسلب عن المأذون فيه ، مثاله إذا ملك لمملوكه اضرب فلاناً فضربه يقال في العرف الملك ضربه ويصح عرفاً قول القائل ما ضرب فلان فلاناً ، وإنما الملك أمر بضرب فضرب ، فهؤلاء جعلوا السماويات معينات لله فقال تعالى في إبطال قولهم : {وَمَا لَه مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} ما فوض إلى شيء شيئاً ، بل هو على كل شيء حفيظ ورقيب ورابعها : قول من قال إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فقال تعالى في إبطال قولهم
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
(1/3661)

{وَلا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ عِندَه ا إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَه } فلا فائدة لعبادتكم غير الله فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة وقوله : {حَتَّى ا إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي أزيل الفزع عنهم ، يقال قرد البعير إذا أخذ منه القراد ويقال لهذا تشديد السلب ، وفي قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم قَالُوا الْحَقَّ } وجوه أحدها : الفزع الذي عند الوحي فإن الله عندما يوحي يفزع من في السموات ، ثم يزيل الله عنهم الفزع فيقولون لجبريل عليه السلام ماذا قال الله ؟
فيقول قال الحق أي الوحي وثانيها : الفزع الذي من الساعة وذلك لأن الله تعالى لما أوحى إلى محمد عليه السلام {فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} (النمل : 87) من القيامة لأن إرسال محمد عليه السلام من أشراط الساعة ، فلما زال عنهم ذلك الفزع قالوا ماذا قال الله قال جبريل {الْحَقِّ } أي الوحي وثالثها : هو أن الله تعالى يزيل الفزع وقت الموت عن القلوب فيعترف كل أحد بأن ما قال الله تعالى هو الحق فينفع ذلك القول من سبق ذلك منه ، ثم يقبض روحه على الإيمان المتفق عليه بينه وبين الله تعالى ، ويضر ذلك القول من سبق منه خلافه فيقبض روحه على الكفر المتفق بينه وبين الله تعالى : إذا علمت هذا فنقول على القولين الأولين قوله تعالى : {حَتَّى } غاية متعلقة بقوله تعالى : {قُلْ} لأنه بينه بالوحي لأن قول القائل قل لفلان للإنذار حتى يسمع المخاطب ما يقوله ، ثم يقول بعد هذا الكلام ما يجب قوله فلما قال : {قُلْ} فزع من في السموات ، ثم أزيل عنه الفزع ، وعلى الثالث متعلق بقوله تعالى : {زَعَمْتُمْ} أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق ، وعلى القولين الأولين فاعل قوله تعالى : {قَالُوا مَاذَا} هو الملائكة السائلون من جبريل ، وعلى الثالث الكفار السائلون من الملائكة والفاعل في قوله : {الْحَقِّ } على القولين الأولين هم الملائكة ، وعلى الثالث هم المشركون.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
واعلم أن الحق هو الموجود ثم إن الله تعالى لما كان وجوده لا يرد عليه عدم كان حقاً مطلقاً لا يرتفع بالباطل الذي هو العدم والكلام الذي يكون صدقاً يسمى حقاً ، لأن الكلام له متعلق في الخارج بواسطة أنه متعلق بما في الذهن ، والذي في الذهن متعلق بما في الخارج فإذا قال القائل جاء زيد يكون هذا اللفظ تعلقه بما في ذهن القائل وذهن القائل تعلقه بما في الخارج لكن للصدق متعلق يكون في الخارج فيصير له وجود مستمر وللكذب متعلق لا يكون في الخارج ، وحينئذ إما أن لا يكون له متعلق في الذهن فيكون كالمعدوم من الأول وهو الألفاظ التي تكون صادرة / عن معاند كاذب ، وإما أن يكون له متعلق في الذهن على خلاف ما في الخارج فيكون اعتقاداً باطلاً جهلاً أو ظناً لكن لما لم يكن لمتعلقه متعلق يزول ذلك الكلام ويبطل ، وكلام الله لا بطلان له في أول الأمر كما يكون كلام الكاذب المعاند ولا يأتيه الباطل كما يكون كلام الظان ، وقوله تعالى : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَـاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} (لقمان : 30) أن {الْحَقِّ } إشارة إلى أنه كامل لا نقص فيه فيقبل نسبة العدم ، وفوق الكاملين لأن كل كامل فوقه كامل فقوله : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته ، وهذا يبطل القول بكونه جسماً وفي حيز ، لأن كل من كان في حيز فإن العقل يحكم بأنه مشار إليه وهو مقطع الإشارة لأن الإشارة لو لم تقع إليه لما كان المشار إليه هو ، وإذا وقعت الإشارة إليه فقد تناهت الإشارة عنده ، وفي كل موقع تقف الإشارة بقدر العقل على أن يفرض البعد أكثر من ذلك فيقول لو كان بين مأخذ الإشارة والمشار إليه أكثر من هذا البعد لكان هذا المشار إليه أعلى فيصير عليه بالإضافة لا مطلقاً وهو على مطلقاً ولو كان جسماً لكان له مقدار ، وكل مقدار يمكن أن يفرض أكبر منه فيكون كبيراً بالنسبة إلى غيره لا مطلقاً وهو كبير مطلقاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
206
(1/3662)

ثم قال تعالى : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } قد ذكرنا مراراً أن العامة يعبدون الله لا لكونه إلهاً ، وإنما يطلبون به شيئاً ، وذلك إما دفع ضرر أو جر نفع فنبه الله تعالى العامة بقوله : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} (سبأ : 22) على أنه لا يدفع الضر أحد إلا هو كما قال تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَه ا إِلا هُوَ } (الأنعام : 17 يونس : 107) وقال بعد إتمام بيان ذلك {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به ومنه ، فإذاً إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضراً أو لم يدفع وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع.
ثم قال تعالى : {قُلِ اللَّهُ} يعني إن لم يقولوا هم فقل أنت الله يرزق وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى عند الضر ذكر أنهم يقولون الله ويعترفون بالحق حيث قال : {قَالُوا الْحَقَّ } وعند النفع لم يقل إنهم يقولون ذلك وذلك لأن لهم حالة يعترفون بأن كاشف الضر هو الله حيث يقعون في الضر كما قال تعالى : {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} (الروم : 33) وأما عند الراحة فلا تنبه لهم لذلك فلذلك قال : {قُلِ اللَّهُ} أي هم في حالة الراحة غافلون عن الله.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر هذا الذي تقوله خطأ وأنت فيه مخطىء يغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض ، وأما إذا قال له بأن أحدنا لا يشك في أنه مخطىء والتمادي في الباطل قبيح والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق فنجتهد ونبصر أينا على الخطأ ليحترز فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر ويترك التعصب وذلك لا يوجب نقصاً في المنزلة لأنه أوهم بأنه في قوله شاك ويدل عليه قول الله تعالى لنبيه : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ} مع أنه لا يشك في أنه هو الهادي وهو المهتدي وهم الضالون والمضلون.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
المسألة الثانية : في قوله : {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} ذكر في الهدى كلمة على وفي الضلال كلمة في لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع فذكره بكلمة التعلي ، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فذكره بكلمة في.
المسألة الثالثة : وصف الضلال بالمبين ولم يصف الهدى لأن الهدي هو الصراط المستقيم الموصل إلى الحق والضلال خلافه لكن المستقيم واحد وما هو غيره كله ضلال وبعضه بين من بعض ، فميز البعض عن البعض بالوصف.
المسألة الرابعة : قدم الهدى على الضلال لأنه كان وصف المؤمنين المذكورين بقوله : {أَنَا } وهو مقدم في الذكر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
206
ثم قال تعالى : {قُل لا تُسْـاَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أضاف الإجرام إلى النفس وقال في حقهم : {وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ذكر بلفظ العمل لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم وقوله : {لا تُسْـاَلُونَ} {وَلا نُسْـاَلُ} زيادة حث على النظر وذلك لأن كل أحد إذا كان مؤاخذاً بجرمه فإذا احترز نجا ، ولو كان البريء يؤاخذ بالجرم لما كفى النظر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
206
ثم قال تعالى : {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أكد ما يوجب النظر والتفكر ، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب ، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب وقوله : {يَفْتَحِ} قيل معناه يحكم ، ويمكن أن يقال بأن الفتح ههنا مجاز وذلك لأن الباب المغلق والمنفذ المسدود يقال فيه فتحه على طريق الحقيقة. ثم إن الأمر إذا كان فيه انغلاف وعدم وصول إليه فإذا بينه أحد يكون قد فتحه وقوله : {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا مثل حكم من يحكم بما يتفق له بمجرد هواه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
206
(1/3663)

/ ثم قال تعالى : {قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِه شُرَكَآءَا كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قد ذكرنا أن المعبود قد يعبده قوم لدفع الضرر وجمع لتوقع المنفعة وقليل من الأشراف الأعزة يعبدونه لأنه يستحق العبادة لذاته فلما بين أنه لا يعد غير الله لدفع الضرر إذ لا دافع للضرر غيره بقوله : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّه } وبين أنه لا يعبد غير الله لتوقع المنفعة بقوله : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } بين ههنا أنه لا يعبد أحد لاستحقاقه العبادة غير الله فقال : {قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِه شُرَكَآءَا كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو المعبود لذاته واتصافه بالعزة وهي القدرة الكاملة والحكمة وهي العلم التام الذي عمله موافق له.
جزء : 25 رقم الصفحة : 206
207
لما بين مسألة التوحيد شرع في الرسالة فقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً} وفيه وجهان أحدها : كافة أي إرسالة كافة أي عامة لجميع الناس تمنعهم من الخروج عن الانقياد لها والثاني : كافة أي أرسلناك كافة تكف أنت من الكفر والهاء للمبالغة على هذا الوجه {بَشِيرًا} أي تحثهم بالوعد {وَنَذِيرًا} تزجرهم بالوعيد {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 207
208
ثم قال تعالى : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} لما ذكر الرسالة بين الحشر.
جزء : 25 رقم الصفحة : 208
208
وقال : {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَـاْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} قد ذكرنا في سورة الأعراف أن قوله : {لا تَسْتَـاْخِرُونَ} يوجب الإنذار ، لأن معناه عدم المهلة عن الأجل ولكن الاستقدام ما وجهه ؟
وذكرنا هناك وجهه ونذكر ههنا أنهم لما طلبوا الاستعجال بين أنه لا استعجال فيه كما لا أمهال ، وهذا يفيد عظم الأمر وخطر الخطب ، وذلك لأن الأمر الحقير إذا طالبه طالب من غيره لا يؤخره ولا يوقفه على وقت بخلاف الأمر الخطير وفي قوله تعالى : {لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ} قراءات أحدها : رفعهما مع التنوين على وهذا يوم بدل وثانيها : نصب يوم مع رفع ميعاد والتنوين فيهما ميعاد يوماً قال الزمخشري ووجهه أنه منصوب بفعل محذوف كأنه قال ميعاد أعني يوماً وذلك يفيد التعظيم والتهويل ، ويحتمل أن يقال نصب على الظرف تقديره لكم ميعاد يوماً / كما يقول القائل : أنا جائيك يوماً وعلى هذا يكون العامل فيه العلم كأنه يقول لكم ميعاد تعلمونه يوماً وقوله معلوم يدل عليه كقول القائل إنه مقتول يوماً الثالثة : الإضافة لكم ميعاد يوم كما في قول القائل سحق ثوب للتبيين وإسناد الفعل إليهم بقوله : {لا تَسْتَـاْخِرُونَ عَنْهُ} بدلاً عن قوله : {لا يُؤَخَّرُا لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} زيادة تأكيد لوقوع اليوم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 208
209
ثم قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْه } لما بين الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكل كافرين بين كفرهم العام بقوله : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْءَانِ} وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل وقوله : {وَلا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْه } المشهور أنه التوراة والإنجيل ، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم المشركون المنكرون للنبوات والحشر ، ويحتمل أن يقال إن المعنى هو أنا لا نؤمن بالقرآن أنه من الله ولا بالذي بين يديه أي ولا بما فيه من الإخبارات والمسائل والآيات والدلائل ، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم العموم ، لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنه من الله ولا بالذي فيه من الرسالة وتفاصيل الحشر ، فإن قيل : أليس هم مؤمنون بالوحدانية والحشر ، فنقول إذا لم يصدق واحد ما في الكتاب من الأمور المختصة به يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون إيمانه لا بما فيه. مثاله : أن من يكذب رجلاً فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال إنه صدقه لأنه إنما صدق نفسه ، فإنه كان عالماً به من قبل وعلى هذا فقوله بين يديه أي الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه.
وقوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الظَّـالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ} .
(1/3664)

لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم لن نؤمن فإنه لتأييد النفي وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول كما يكون عليه حال جماعة أخطؤا في أمر يقول بعضهم كان ذلك بسببك ويرد عليه الآخر مثل ذلك ، وجواب لو محذوف ، تقديره : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون لرأيت عجباً ، ثم بدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ فقال : {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن / كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ما جاءنا رسول ، ولا أن يقولوا قصر الرسول ، وهذا إشارة إلى إتيان الرسول بما عليه لأن الرسول لو أهمل شيئاً لما كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا.
جزء : 25 رقم الصفحة : 209
209
ثم قال تعالى : {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} .
رداً لما قالوا إن كفرنا كان لمانع {أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} يعني المانع ينبغي أن يكون راجحاً على المقتضى حتى يعمل عمله ، والذي جاء به هو الهدى ، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصح تعليلكم بالمانع ، ثم بين أن كفرهم كان إجراماً من حيث إن المعذور لا يكون معذوراً إلا لعدم المقتضى أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما.
جزء : 25 رقم الصفحة : 209
209
ثم قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَه ا أَندَادًا } .
لما ذكر المستكبرون أنا ما صددناكم وما صدر منا يصلح مانعاً وصارفاً اعترف المستضعفون به وقالوا : {بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} منعنا ، ثم قالوا لهم إنكم إن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد والامتداد في المدد فكفرنا فكان قولكم جزء السبب ، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد بل مكركم بالليل والنهار فحذف المضاف إليه. وقوله : {إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ} أي ننكره {وَنَجْعَلَ لَه ا أَندَادًا } هذا يبين أن المشرك بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه المخلوق المنحوت لا يكون إلهاً ، وقوله في الأول : {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يقول الذين استضعفوا بلفظ المستقبل ، وقوله في الآيتين المتأخرتين {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } بصيغة الماضي مع أن السؤال والتراجع في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لا بد وأن يقع ، فإن الأمر الواجب الوقوع يوجد كأنه وقع ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر : 30).
/ ثم قال تعالى : {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
معناه أنهم يتراجعون القول في الأول ، ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة ، وقيل معنى الإسرار الإظهار أي أظهروا الندامة ، ويحتمل أن يقال بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم : {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا} (السجدة : 12) ثم أجيبوا وأخبروا بأن لا مرد لكم فأسروا ذلك القول ، وقوله : {وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } (سبأ : 33) إشارة إلى كيفية العذاب وإلى أن مجرد الرؤية ليس كافياً بل لما رأوا العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا الندم ووقعوا فيه فجعل الأغلال في أعناقهم ، وقوله : {يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إشارة إلى أن ذلك حقهم عدلاً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 209
210
(1/3665)

تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلّم وبياناً لأن إيذاء الكفار الأنبياء الأخيار ليس بدعاً ، بل ذلك عادة جرت من قبل وإنما نسب القول إلى المترفين مع أن غيرهم أيضاً قالوا : {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ} لأن الأغنياء المترفين هم الأصل في ذلك القول ، ألا ترى أن الله قال عن الذين استضعفوا إنهم قالوا للمستكبرين لولا أنتم لكانوا مؤمنين ، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا : {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا} أي بسبب لزومنا لديننا ، وقوله : {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي في الآخرة كأنهم قالوا حالنا عاجلاً خير من حالكم ، وأما آجلاً فلا نعذب إما إنكاراً منهم للعذاب رأساً أو اعتقاداً لحسن حالهم في الآخرة أيضاً قياساً (على حسن حالهم في الدنيا).
جزء : 25 رقم الصفحة : 210
210
ثم إن الله تعالى بين خطأهم بقوله : {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
/ يعني أن الرزق في الدنيا لا تدل سعته وضيقه على حال المحق والمبطل فكم من موسر شقي ومعسر تقي {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي أن قلة الرزق وضنك العيش وكثرة المال وخصب العيش بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح.
جزء : 25 رقم الصفحة : 210
211
ثم بين فساد استدلالهم بقولهم : {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ا إِلا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَ أولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } .
يعني قولكم نحن أكثر أموالاً فنحن أحسن عند الله حالاً ليس استدلالاً صحيحاً ، فإن المال لا يقرب إلى الله ولا اعتبار بالتعزز به ، وإنما المفيد العمل الصالح بعد الإيمان والذي يدل عليه هو أن المال والولد يشغل عن الله فيبعد عنه فكيف يقرب منه والعمل الصالح إقبال على الله واشتغال بالله ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب من الله شيئاً حصل ، وقوله : {فَ أولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ} أي الحسنة فإن الضعف لا يكون إلا في الحسنة وفي السيئة لا يكون إلا المثل.
ثم زاد وقال : {وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ} إشارة إلى دوام النعيم وتأبيده ، فإن من تنقطع عنه النعمة لا يكون آمناً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 211
212
ثم بين حال المسىء بقوله : {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـاتِنَا مُعَـاجِزِينَ أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
وقد ذكرنا تفسيره ، وقوله : { أولئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} إشارة إلى الدوام أيضاً كما قال تعالى : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا} (السجدة : 20) وكما قال تعالى : {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} (الإنفطار : 16).
جزء : 25 رقم الصفحة : 212
213
ثم قال تعالى مرة أخرى : {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ لَه ا وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه ا وَهُوَ خَيْرُ} (الجمعة : 11) إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا ، بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعيم لهم في العقبى بناءً على الوعد ، قطعاً لقول من يقول : إذا كانت العاجلة لنا والآجلة لهم فالنقد أولى ، فقال هذا النقد غير مختص بكم / فإن كثيراً من الأشقياء مدقعون ، وكثير من الأتقياء ممتعون وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر هذا المعنى مرتين : مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالة على حسن أحوالهم واعتقادهم ، ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود الترف لا يدل على الشرف ، ثم إن سلمنا أنه كذلك لكن المؤمنين سيحصل لهم ذلك ، فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ، والذي يدل عليه هو أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده ، بل قال لمن يشاء ، وثانياً قال لمن يشاء من عباده ، والعباد المضافة يراد بها المؤمن ، ثم وعد المؤمن بخلاف ما للكافر ، فإن الكافر دابره مقطوع ، وماله إلى الزوال ، ومآله إلى الوبال. وأما المؤمن فما ينفقه يخلفه الله ، ومخلف الله خير ، فإن ما في يد الإنسان في معرض البوار والتلف وهما لا يتطرقان إلى ما عند الله من الخلف ، ثم أكد ذلك بقوله : {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وخيرية الرازق في أمور أحدها : أن لا يؤخر عن وقت الحاجة والثاني : أن لا ينقص عن قدر الحاجة والثالث : أن لا ينكده بالحساب والرابع : أن لا يكدره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.
(1/3666)

أما الأول : فلأنه عالم وقادر والثاني : فلأنه غني واسع والثالث : فلأنه كريم ، وقد ذكر ذلك بقوله : {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة : 212) وما ذكرنا هو المراد ، أي يرزقه حلالاً لا يحاسبه عليه والرابع : فلأنه علي كبير والثواب يطلبه الأدنى من الأعلى ، ألا ترى أن هبة الأعلى من الأدنى لا تقتضي ثواباً.
جزء : 25 رقم الصفحة : 213
المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه } يحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام : "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان ، يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر اللهم اعط ممسكاً تلفاً" وذلك لأن الله تعالى ملك على وهو غني ملى ، فإذا قال أنفق وعلى بدله فبحكم الوعد يلزمه ، كما إذا قال قائل : ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه ، فمن أنفق فقد أتى بما هو شرط حصول البدل فيحصل البدل ، ومن لم ينفق فالزوال لازم للمال ولم يأت بما يستحق عليه من البدل فيفوت من غير خلف وهو التلف ، ثم إن من العجب أن التاجر إذا علم أن مالاً من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة ، وإن كان من الفقراء ويقول بأن ذلك أولى من الإمهال إلى الهلاك ، فإن لم يبع حتى يهلك ينسب إلى الخطأ ، ثم إن حصل به كفيل ملىء ولا يبيع ينسب إلى قلة العقل ، فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون ، ثم إن كل أحد يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون ، فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق ، والإنفاق على الأهل والولد إقراض ، وقد حصل الضامن الملىء وهو الله العلي وقال تعالى : {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه } ثم رهن عند كل واحد إما أرضاً أو بستاناً أو طاحونة أو حماماً أو منفعة ، فإن الإنسان لا بد من أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال وكل ذلك ملك الله وفي يد الإنسان بحكم العارية فكأنه مرهون بما تكفل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التام/ ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجوراً ولا مشكوراً.
/ المسألة الثالثة : قوله : {خَيْرُ الراَّزِقِينَ} ينبىء عن كثرة في الرازقين ولا رازق إلا الله ، فما الجواب عنه ؟
فنقول عنه جوابان أحدهما : أن يقال الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى : وهو {أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (الصافات : 125) وثانيهما : هو أن الصفات منها ما حصل لله وللعبد حقيقة ، ومنها ما يقال لله بطريق الحقيقة وللعبد بطريق المجاز ، ومنها ما يقال لله بطريق الحقيقة ولا يقال للعبد لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز لعدم حصوله للعبد لا حقيقة ولا صورة ، مثال الأول العلم ، فإن الله يعلم أنه واحد والعبد يعلم أنه واحد بطريق الحقيقة ، وكذلك العلم بكون النار حارة ، غاية ما في الباب أن علمه قديم وعلمنا حادث ، مثال الثاني الرازق والخالق ، فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فإن الله هو المعطي ، ولكن لأجل صورة العطاء منه سمي معطياً ، كما يقال للصورة المنقوشة على الحائط فرس وإنسان ، مثال الثالث الأزلي والله وغيرهما ، وقد يقال في أشياء في الإطلاق على العبد حقيقة وعلى الله مجازاً كالاستواء والنزول والمعية ويد الله وجنب الله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 213
213
(1/3667)

ثم قال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّا أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} لما بين أن حال النبي صلى الله عليه وسلّم كحال من تقدمه من الأنبياء ، وحال قومه كحال من تقدم من الكفار ، وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم ، بين ما يكون من عاقبة حالهم فقال : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يعني المكذبين بك وبمن تقدمك ، ثم نقول لمن يدعون أنهم يعبدونهم وهم الملائكة ، فإن غاية ما ترتقي إليه منزلتهم أنهم يقولون نحن نعبد الملائكة والكواكب ، فيسأل الملائكة أهم كانوا يعبدونكم إهانة لهم ، فيقول كل منهم سبحانك ننزهك عن أن يكون غيرك معبوداً وأنت معبودنا ومعبود كل خلق ، وقولهم : {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } إشارة إلى معنى لطيف وهو أن مذاهب الناس مختلفة ؛ بعضهم لا يسكن المواضع المعمورة التي يكون فيها سواد عظيم ، لأنه لا يترأس هناك فيرضى لضياع والبلاد الصغيرة ، وبعضهم لا يريد البلاد الصغيرة لعدم اجتماعه فيها بالناس وقلة وصوله فيها إلى الأكياس ، ثم إن الفريقين جميعاً إذا عرض عليهم خدمة السلطان واستخدام الأرذال الذين لا التفات إليهم أصلاً يختار العاقل خدمة السلطان على استخدام من لا يؤبه به ، ولو أن رجلاً سكن جبلاً ووضع بين يديه شيئاً من القاذورات واجتمع عليه الذباب والديدان ، وهو / يقول هؤلاء أتباعي وأشياعي ، ولا أدخل المدينة مخافة أن أحتاج إلى خدمة السلطان العظيم والتردد إليه ينسب إلى الجنون ، فكذلك من رضي بأن يترك خدمة الله وعبادته ، ورضي باستتباع الهمج الذين هم أضل من البهائم وأقل من الهوام يكون مجنوناً ، فقالوا : {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } يعني كونك ولينا بالمعبودية أولى ، وأحب إلينا من كونهم أولياءنا بالعبادة لنا وقالوا :
جزء : 25 رقم الصفحة : 213
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } أي كانوا ينقادون لأمر الجن ، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الجن ، ونحن كنا كالقبلة لهم ، لأن العبادة هي الطاعة وقوله تعالى : {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} لو قال قائل جميعهم كانوا تابعين للشياطين ، فما وجه قوله : {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} فإنه ينبىء أن بعضهم لم يؤمن بهم ولم يطع لهم ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن الملائكة احترزوا عن دعوى الإحاطة بهم فقالوا أكثرهم لأن الذين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجن ويؤمنون بهم ولعل في الوجود من لم يطلع الله الملائكة عليه من الكفار الثاني : هو أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا : {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } لاطلاعهم على أعمالهم وقالوا : {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا اطلاع عليه إلا لله ، كما قال تعالى : {إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الأنفال : 43).
جزء : 25 رقم الصفحة : 213
214
ثم بين أن ما كانوا يعبدونه لا ينفعهم فقالوا : {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الخطاب بقوله : {بَعْضُكُمْ} مع من ؟
نقول يحتمل أن يكون الملائكة لسبق قوله تعالى : {أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (سبأ : 40) وعلى هذا يكون ذلك تنكيلاً للكافرين حيث بين لهم أن معبودهم لا ينفع ولا يضر ، ويصحح هذا قوله تعالى : {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَـاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـن ِ عَهْدًا} (مريم : 87) وقوله : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء : 28) ولأنه قال بعده : {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا } فأفردهم ولو كان المخاطب هم الكفار لقال فذوقوا.
وعلى هذا يكون الكفار داخلين في الخطاب حتى يصح معنى قوله : {بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي الملائكة للكفار ، والحاضر الواحد يجوز أن يجعل من يشاركه في أمر مخاطباً بسببه ، كما يقول القائل لواحد حاضر له شريك في كلام أنتم قلتم ، على معنى أنت قلت ، وهم قالوا ، ويحتمل أن يكون معهم الجن أي لا يملك بعضكم لبعض أيها الملائكة والجن ، وإذا لم تملكوها لأنفسكم فلا تملكوها لغيركم ويحتمل أن يكون المخاطب هم الكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم ، وعلى هذا فقوله : {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } إنما ذكره تأكيداً لبيان حالهم في الظلم ، وسبب نكالهم من الإثم ولو قال : {فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ} لكان كافياً لكنه ، لا يحصل ما ذكرنا من الفائدة ، فإنهم كلما كانوا يسمعون ما كانوا / عليه من الظلم والعناد والإثم والفساد يتحسرون ويندمون.
(1/3668)

المسألة الثانية : قوله : {نَفْعًا} مفيد للحسرة ، وأما الضر فما الفائدة فيه مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك ؟
فنقول لما كانت العبادة تقع لدفع ضر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنهم ليس فيهم ذلك الوجه الذي يحسن لأجله عبادتهم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 214
المسألة الثالثة : قال : ههنا {عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} وقال في السجدة : {عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه } جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب ههنا النار وهم كانوا يكذبون بالكل ، والفائدة فيها أن هناك لم يكن أول ما رأوا النار بل كانوا هم فيها من زمان بدليل قوله تعالى : {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} (السجدة : 20) أي العذاب المؤبد الذي أنكرتموه بقولكم : {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } (البقرة : 80) أي قلتم إن العذاب إن وقع فلا يدوم فذوقوا الدائم ، وههنا أول ما رأوا النار لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فقيل لهم : هذه {النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} .
جزء : 25 رقم الصفحة : 214
215
إظهاراً لفساد اعتقادهم واشتداد عنادهم حيث تبين أن أعلى من يعبدونه وهم الملائكة لا يتأهل للعبادة لذواتهم كما قالوا : {سُبْحَـانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا} (سبأ : 41) أي لا أهلية لنا إلا لعبادتك من دونهم أي لا أهلية لنا لأن نكون معبودين لهم ولا لنفع أو ضر كما قال تعالى : {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا} (سبأ : 42) ثم مع هذا كله إذا قال لهم النبي عليه السلام كلاماً من التوحيد وتلا عليهم آيات الله الدالة عليه ، فإن لله في كل شيء آيات دالة على وحدانيته أنكروها وقالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم يعني يعارضون البرهان بالتقليد {وَقَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى } وهو يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون المراد أن القول بالوحدانية {إِفْكٌ مُّفْتَرًى } ويدل عليه هو أن الموحد كان يقول في حق المشرك إنه يأفك كما قال تعالى في حقهم : {أَاـاِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات : 86) وكما قالوا هم للرسول : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ} (الأحقاف : 22) وثانيها : أن يكون المراد {مَا هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ} (الفرقان : 4) أي القرآن إفك وعلى الأول يكون قوله : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف : 7) إشارة إلى القرآن وعلى الثاني يكون إشارة إلى ما أتى به من المعجزات وعلى الوجهين فقوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بدلاً عن أن يقول وقالوا للحق هو أن إنكار التوحيد كان مختصاً بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمعجزات (فقد) كان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب (فقال) تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} على وجه العموم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 215
215
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير تأكيد لبيان تقليدهم يعني يقولون عندما تتلى عليهم الآيات البينات هذا رجل كاذب وقولهم : {إِفْكٌ مُّفْتَرًى } من غير برهان ولا كتاب أنزل عليهم ولا رسول أرسل إليهم ، فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية ، ولم يأتوا بها أو بالتقلبات وما عندهم كتاب ولا رسول غيرك ، والنقل المعتبر آيات من كتاب الله أو خبر رسول الله ، ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كذبوا مثل عاد وثمود ، وقوله تعالى : {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} قال المفسرون معناه : وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر ، ثم إن الله أخذهم وما نفعتهم قوتهم ، فكيف حال هؤلاء الضعفاء ، وعندي (أنه) يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن يقال المراد : {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ} أي الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البيان والبرهان ، وذلك لأن كتاب محمد عليه السلام أكمل من سائر الكتب وأوضح ، ومحمد عليه السلام أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم ، وقد كذبوا بما جاءهم من الكتب وبمن أتاهم من الرسل أنكر عليهم وكيف لا ينكر عليهم ، وقد كذبوا بأفصح الرسل ، وأوضح السبل ، يؤيد ما ذكرنا من المعنى قوله تعالى : {وَمَآ ءَاتَيْنَـاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً وما أرسنا إليهم قبلك من نذير ، فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب ، فحمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى.
(1/3669)

جزء : 25 رقم الصفحة : 215
216
/ ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل فقوله : {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ} إشارة إلى التوحيد وقوله : {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍا إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم} إشارة إلى الرسالة وقوله : {بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} إشارة إلى اليوم الآخر وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } يقتضي أن لا يكون إلا بالتوحيد ، والإيمان لا يتم إلا بالاعتراف بالرسالة والحشر ، فكيف يصح الحصر المذكور بقوله : {إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } فنقول التوحيد هو المقصود ومن وحد الله حق التوحيد يشرح الله صدره ويرفع في الآخرة قدره فالنبي صلى الله عليه وسلّم أمرهم بما يفتح عليهم أبواب العبادات ويهيء لهم أسباب السعادات ، وجواب آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم ما قال إني لا آمركم في جميع عمري إلا بشيء واحد ، وإنما قال أعظكم أولاً بالتوحيد ولا آمركم في أول الأمر بغيره لأنه سابق على الكل ويدل عليه قوله تعالى : {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } فإن التفكر أيضاً صار مأموراً به وموعوظاً.
المسألة الثانية : قوله : {بِوَاحِدَةٍ } قال المفسرون أنثها على أنها صفة خصلة أي أعظكم بخصلة واحدة ، ويحتمل أن يقال المراد حسنة واحدة لأن التوحيد حسنة وإحسان وقد ذكرنا في قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ} (النحل : 29) أن العدل نفي الإلهية عن غير الله والإحسان إثبات الإلهية له ، وقيل في تفسير قوله تعالى : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} (الرحمن : 60) أن المراد هل جزاء الإيمان إلا الجنان ، وكذلك يدل عليه قوله تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ} (فصلت : 33).
المسألة الثالثة : قوله : {مَثْنَى وَفُرَادَى } إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو يكون وحده ، فإذا كان مع غيره دخل في قوله : {مَثْنَى } وإذا كان وحده دخل في قوله : {فُرَادَى } فكأنه يقول تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله.
جزء : 25 رقم الصفحة : 216
المسألة الرابعة : قوله : {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } يعني اعترفوا بما هو الأصل والتوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر ، ثم تتفكروا فيما أقول بعده من الرسالة والحشر ، فإنه يحتاج إلى تفكر ، وكلمة ثم تفيد ما ذكرنا ، فإنه قال : {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } ثم بين ما يتفكرون فيه وهو أمر النبي عليه السلام فقال : {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } .
المسألة الخامسة : قوله : {مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } يفيد كونه رسولاً وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولاً ، وذلك لأن النبي عليه السلام كان يظهر منه أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر ممن تظهر منه العجائب إما الجن أو الملك ، وإذا لم يكن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلّم بواسطة الجن يكون بواسطة الملك أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة ، وعلى التقديرين فهو رسول الله ، وهذا من أحسن الطرق ، وهو أن يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخس الصفات ، فإنه لو قال أولاً هو رسول الله كانوا يقولون فيه النزاع ، فإذا قال ما هو مجنون لم / يسعهم إنكار ذلك لعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه وبيانه فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة. ولهذا قال بعده {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ} يعني إما هو به جنة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير.
المسألة السادسة : قوله : {بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب بين يدي العذاب أي سوف يأتي العذاب بعده.
جزء : 25 رقم الصفحة : 216
217
(1/3670)

لما ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبياً ذكر وجهاً آخر يلزم منه أنه نبي إذا لم يكن مجنوناً لأن من يرتكب العناء الشديد لا لغرض عاجل إذا لم يكن ذلك فيه ثواب أخروي يكون مجنوناً ، فالنبي عليه السلام بدعواه النبوة يجعل نفسه عرضة للهلاك عاجلاً ، فإن كل أحد يقصده ويعاديه ولا يطلب أجراً في الدنيا فهو يفعله للآخرة ، والكاذب في الآخرة معذب لا مثاب ، فلو كان كاذباً لكان مجنوناً لكنه ليس بمجنون فليس بكاذب ، فهو نبي صادق وقوله : {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدُُ} تقرير آخر للرسالة وذلك لأن الرسالة لا تثبت إلا بالدعوى والبينة ، بأن يدعي شخص النبوة ويظهر الله له المعجزة فهي بينة شاهدة والتصديق بالفعل يقوم مقام التصديق بالقول في إفادة العلم بدليل أن من قال لقوم إني مرسل من هذا الملك إليكم ألزمكم قبول قولي والملك حاضر ناظر ، ثم قال للملك أيها الملك إن كنت أنا رسولك إليهم فقل لهم إني رسولك فإذا قال إنه رسولي إليكم لا يبقى فيه شك كذلك إذا قال يا أيها الملك إن كنت أنا رسولك إليهم فألبسني قباءك فلو ألبسه قباءه في عقب كلامه يجزم الناس بأنه رسوله ، كذلك حال الرسول إذا قال الأنبياء لقومهم نحن رسل الله ، ثم قالوا يا إلهنا إن كنا رسلك فأنطق هذه الحجارة أو أنشر هذا الميت ففعله حصل الجزم بأنه صدقه.
جزء : 25 رقم الصفحة : 217
217
ثم قال تعالى : {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} وفيه وجهان أحدهما : يقذف بالحق في قلوب المحقين ، وعلى هذا الوجه للآية بما قبلها تعلق ، وذلك من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله : {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم} وأكده بقوله : {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه ، كما قال تعالى عنهم : {عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} (ص : 8) ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال : {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي في القلوب إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء.
ثم قال تعالى : {عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من يفعل شيئاً / كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما فعل ذلك اتفاقاً ، كما إذا أصاب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة فقال : {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} كيف يشاء وهو عالم بما يفعله وعالم يعواقب ما يفعله فهو يفعل ما يريد لا كما يفعله الهاجم الغافل عن العواقب إذ هو علام الغيوب الوجه الثاني : أن المراد منه هو أنه يقذف بالحق على الباطل كما قال في سورة الأنبياء : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه } (الأنبياء : 18) وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها أيضاً ظاهر وذلك من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت ودحضت شبههم قال : {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي على باطلكم ، وقوله : {عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} على هذا الوجه له معنى لطيف وهو أن البرهان الباهر المعقول الظاهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة ، وأما الحشر فعلى وقوعه لا برهان غير إخبار الله تعالى عنه ، وعن أحواله وأهواله ، ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة ، فلما قال : {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي على الباطل ، إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة قال : {عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأحوالها فهو لا خلف فيه فإن الله علام الغيوب ، والآية تحتمل تفسيراً آخر وهو أن يقال : {رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي ما يقذفه يقذفه بالحق لا بالباطل والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به أي الحق مقذوف وعلى هذا الباء فيه كالباء في قوله : {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} (الزمر : 69) وفي قوله : {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص : 26) والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم.
جزء : 25 رقم الصفحة : 217
217
(1/3671)

لما ذكر الله أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال ، ذكر أن ذلك الحق قد جاء وفيه وجوه أحدها : أنه القرآن الثاني : أنه بيان التوحيد والحشر وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلّم الثالث : المعجزات الدالة على نبوة محمد عليه السلام ، ويحتمل أن يكون المراد من {جَآءَ الْحَقُّ} ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر والباطل خلاف الحق ، وقد بينا أن الحق هو الموجود ، ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم لم يمكن انتفاؤه كالتوحيد والرسالة والحشر ، كان حقاً لا ينتفي ، ولما كان ما يأتون به من الإشراك والتكذيب لا يمكن وجوده كان باطلاً لا يثبت ، وهذا المعنى يفهم من قوله : {وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ} أي الباطل لا يفيد شيئاً في الأولى ولا في الآخرة فلا إمكان لوجوده أصلاً ، والحق المأتي به لا عدم له أصلاً ، وقيل المراد لا يبدىء الشيطان ولا يعيد ، وفيه معنى لطيف وهو أن قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} لما كان فيه معنى قوله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه } كان يقع لمتوهم أن الباطل كان فورد عليه الحق / فأبطله ودمغه ، فقال ههنا ليس للباطل تحقق أولاً وآخراً ، وإنما المراد من قوله : {فَيَدْمَغُه } أي فيظهر بطلانه الذي لم يزل كذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى في موضع آخر : {وَزَهَقَ الْبَـاطِلُا إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء : 81) يعني ليس أمراً متجدداً زهوق الباطل ، فقوله : {وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ} أي لا يثبت في الأول شيئاً خلاف الحق {وَمَا يُعِيدُ} أي لا يعيد في الآخرة شيئاً خلاف الحق.
جزء : 25 رقم الصفحة : 217
217
هذا فيه تقرير الرسالة أيضاً وذلك لأن الله تعالى قال على سبيل العموم : {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِه } (الزمر : 41) وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلّم : {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى } يعني ضلالي على نفسي كضلالكم ، وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم ، وإنما هو بالوحي المبين ، وقوله : {إِنَّه سَمِيعٌ} أي يسمع إذا ناديته واستعديت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ، ليس يسمع عن بعد ولا يلحق الداعي.
جزء : 25 رقم الصفحة : 217
218
لما قال : {سَمِيعُ} قال هو قريب فإن لم يعذب عاجلاً ولا يعين صاحب الحق في الحال فيوم الفزع آت لا فوت ، وإنما يستعجل من يخاف الفوت. وقوله : {وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف أي ترى عجباً {وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب.
جزء : 25 رقم الصفحة : 218
221
أي بعد ظهور الأمر حيث لا ينفع إيمان ، قالوا آمنا {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} أي كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة ، فإن قيل فكيف قال كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة ، ولهذا سماها الله الساعة وقال : {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى : 17) نقول الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه ، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت ، فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه والتناوش هو التناول عن قرب. وقيل عن بعد ، ولما جعل الله الفعل مأخوذاً كالجسم جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال : {مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} والمراد ما مضى من الدنيا.
جزء : 26 رقم الصفحة : 221
221
(1/3672)

ثم بين الله تعالى أن إيمانهم لا نفع فيه بسبب أنهم كفروا به من قبل ، والإشارة في قوله : / {بِه إِنَّهُ} وقوله : {وَقَدْ كَفَرُوا بِه مِن قَبْلُ } إلى شيء واحد ، إما محمد عليه الصلاة والسلام وإما القرآن وإما الحق الذي أتى به محمد عليه السلام وهو أقرب وأولى ، وقوله : {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} ضد يؤمنون بالغيب لأن الغيب ينزل من الله على لسان الرسول ، فيقذفه الله في القلوب ويقبله المؤمن ، وأما الكافر فهو يقذف بالغيب ، أي يقول ما لا يعلمه ، وقوله : {مِن مَّكَانا بَعِيدٍ} يحتمل أن يكون المراد منه أن مأخذهم بعيد أخذوا الشريك من أنهم لا يقدرون على أعمال كثيرة إلا إذا كانوا أشخاصاً كثيرة ، فكذلك المخلوقات الكثيرة وأخذوا بعد الإعادة من حالهم وعجزهم عن الإحياء ، فإن المريض يداوى فإذا مات لا يمكنهم إعادة الروح إليه ، وقياس الله على المخلوقات بعيد المأخذ ، ويحتمل أن يقال إنهم كانوا يقولون بأن الساعة إذا كانت قائمة فالثواب والنعيم لنا ، كقول قائلهم : {وَلَا ِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى } (فصلت : 50) فكانوا يقولون ذلك فإن كان من قول الرسول فما كان ذلك عندهم حتى يقولوا عن إحساس فإن ما لا يجب عقلاً لا يعلم إلا بالإحساس أو بقول الصادق ، فهم كانوا يقولون عن الغيب من مكان بعيد ، فإن قيل قد ذكرت أن الآخرة قريب فكيف قال من مكان بعيد ؟
نقول الجواب عنه من وجهه أحدهما : أن ذلك قريب عند من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم ومن لم يؤمن لا يمكنه التصديق به فيكون بعيداً عنده الثاني : أن الحكاية يوم القيامة ، فكأنه قال كانوا يقذفون من مكان بعيد وهو الدنيا ، ويحتمل وجهاً آخر وهو أنهم في الآخرة يقولون : {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} (السجدة : 12) وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا.
جزء : 26 رقم الصفحة : 221
222
ثم قال تعالى : {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من العود إلى الدنيا أو بين لذات الدنيا ، فإن قيل : كيف يصح قولك ما يشتهون من العود مع أنه تعالى قال : {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُا إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ مُّرِيب } وما حيل بينهم وبين العود ؟
قلنا لم قلتم إنه ما حيل بينهم ، بل كل من جاءه الملك طلب التأخير ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل ، وقوله : {مُرِيبٍ} يحتمل وجهين أحدهما : ذي ريب والثاني : موقف في الريب ، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، والله أعلم بالصواب ، والحمد لله رب العالمين وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه أجمعين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 222
222
(1/3673)

سورة فاطر
(أربعون وخمس آيات مكية)
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 26 رقم الصفحة : 222
223
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} قد ذكرنا فيما تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر ، ونعم الله قسمان : عاجلة وآجلة ، والعاجلة وجود وبقاء ، والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى ، وقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } إشارة إلى النعمة العاجلة التي هي الإيجاد ، واستدللنا عليه بقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى ا أَجَلا } وقوله في الكهف : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} إشارة إلى النعمة العاجلة التي هي الإبقاء ، فإن البقاء والصلاح بالشرع والكتاب ، ولولاه لوقعت المنازعة والمخاصمة بين الناس ولا يفصل بينهم ، فكان يفضي ذلك إلى التقاتل وللتفاني ، فإنزال الكتاب نعمة يتعلق بها البقاء العاجل ، وفي قوله في سورة سبأ : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الآخِرَةِ } إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بالحشر ، واستدللنا عليه بقوله : {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارْضِ} من الأجسام {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من الأرواح {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } وقوله عن الكافرين : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَة قُلْ بَلَى وَرَبِّى} وههنا الحمد إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ، ويدل عليه قوله تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} أي يجعلهم رسلاً يتلقون عباد الله ، كما قال تعالى : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَا ا ِكَةُ} وعلى هذا فقوله تعالى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} يحتمل وجهين الأول : معناه مبدعها كما نقل عن ابن عباس والثاني : {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} أي شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ويدل عليه قوله تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} فإن في ذلك اليوم تكون الملائكة رسلاً ، وعلى هذا فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى ، لأن قوله كما فعل بأشياعهم بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب وتيقنه بأن لا قبول لتوبته ولا فائدة لقوله آمنت. كما قال تعالى عنهم : {وَقَالُوا ءَامَنَّا بِه وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} فلما ذكر حالهم بين حال الموقن وبشره بإرساله الملائكة إليهم / مبشرين ، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 223
وقوله تعالى : {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أقل ما يكون لذي الجناح أن يكون له جناحان وما بعدهما زيادة ، وقال قوم فيه إن الجناح إشارة إلى الجهة ، وبيانه هو أن الله تعالى ليس فوقه شيء ، وكل شيء فهو تحت قدرته ونعمته ، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما يأخذوه بإذن الله ، كما قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} وقوله : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } وقال تعالى في حقهم : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} فهما جناحان ، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة ، وفيهم من يفعله لا بواسطة ، فالفاعل بواسطة فيه ثلاث جهات ، ومنهم من له أربع جهات وأكثر ، والظاهر ما ذكرناه أولاً وهو الذي عليه إطباق المفسرين.
وقوله تعالى : {يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } من المفسرين من خصصه وقال المراد الوجه الحسن ، ومنهم من قال الصوت الحسن ، ومنهم من قال كل وصف محمود ، والأولى أن يعمم ، ويقال الله تعالى قادر كامل يفعل ما يشاء فيزيد ما يشاء وينقص ما يشاء.
وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} يقرر قوله : {يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } .
جزء : 26 رقم الصفحة : 223
223
ثم قال تعالى : {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه مِنا بَعْدِه } .
(1/3674)

لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر ، وقال ما يفتح الله للناس ، يعني إن رحم فلا مانع له ، وإن لم يرحم فلا باعث له عليها ، وفي الآية دليل على سبق رحمته غضبه من وجوه : التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر ، وهو وإن كان ضعيفاً لكنه وجه من وجوه الفضل وثانيها : هو أن أنث الكناية في الأول فقال : {قَدِيرٌ * مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } وجاز من حيث العربية أن يقال له ويكون عائداً إلى ما ، ولكن قال تعالى : {لَهَا } ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة ولا ممسك لرحمته فهي وصلة إلى رحمته ، وقال عند الإمساك {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه } بالتذكير ولم يقل لهما فما صرح بأنه لا مرسل للرحمة ، بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي لا يرسل هو غير الرحمة فإن قوله تعالى : {وَمَا يُمْسِكْ} عام من غير بيان وتخصيص بخلاف قوله تعالى : {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} فإنه مخصص مبين وثالثها : قوله : {مِّنا بَعْدِه } أي من بعد الله ، فاستثنى ههنا وقال لا مرسل له إلا الله فنزل له مرسلاً. وعند الإمساك / الإمساك قال لا ممسك لخا ، ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمه الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ، ومن يعذبه الله فقد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.
ثم قال تعالى : {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي كامل القدرة {الْحَكِيمُ} أي كامل العلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 223
224
ثم قال تعالى : {اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ} لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تستوجب الحمد على سبيل التفصيل بين نعمه على سبيل الإجمال فقال : {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ} وهي مع كثرتها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء.
فقال تعالى : {هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء.
وقال تعالى : {يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء.
ثم بين أنه {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } نظراً إلى عظمته حيث هو عزيز حكيم قادر على كل شيء قدير نافذ الإرادة في كل شيء ولا مثل لهذا ولا معبود لذاته غير هذا ونظراً إلى نعمته حيث لا خالق غيره ولا رازق إلا هو.
ثم قال تعالى : {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر ، فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت.
جزء : 26 رقم الصفحة : 224
224
ثم لما بين الأصل الأول : وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني : وهو الرسالة فقال تعالى : {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } .
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب. والمكذب له الثواب بقوله تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} ثم بين الأصل الثالث : وهو الحشر.
جزء : 26 رقم الصفحة : 224
224
فقال تعالى : {الامُورُ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} / أي الشيطان وقد ذكرنا ما فيه من المعنى اللطيف في تفسير سورة لقمان ونعيده ههنا فنقول المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي فيغتر بأدنى شيء ، وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به ولكن إذا جاءه غار ورزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده ، وبين له منافع ، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه ، وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال الله تعالى : {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } إشارة إلى الدرجة الأولى ، وقال : {وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} إشارة إلى الثانية ليكون واقعاً في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر.
ثم قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } لما قال تعالى : {وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار ، وقال : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } ولا تسمعوا قوله ، وقوله : {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ} إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان : أحدهما : أن يعاديه مجازاة له على معاداته والثاني : أن يذهب عداوته بإرضائه ، فلما قال الله تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا ، وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا راضيتموه واتبعتموه فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 224
(1/3675)

واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف عنده يصبر على قتاله والصبر معه الظفر ، فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه ، ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه ، فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان ، فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة.
ثم بين الله تعالى حال حزبه وحال حزب الله. فقال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 224
225
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } فالمعادي للشيطان وإن كان في الحال في عذاب ظاهر وليس بشديد ، والإنسان إذا كان عاقلاً يختار العذاب المنقطع اليسير دفعاً للعذاب الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذ عرض في طريقه شوك ونار ولا يكون له بد من أحدهما يتخطى الشوزك ولا يدخل النار ونسبة النار التي في الدنيا إلى النار التي في الآخرة دون نسبة الشوك إلى النار العاجلة.
وقال تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} قد ذكر تفسيره مراراً ، / وبين فيه أن الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤيده مؤمن في النار ، والعمل الصالح في مقابلته الأجر الكبير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 225
227
ثم قال تعالى : {زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِه فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } .
يعني ليس من عمل سيئاً كالذي عمل صالحاً ، كما قال بعد هذا بآيات وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ، وله تعلق بما قبله وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسيء الكافر والمحسن المؤمن ، وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئاً إلا قليل ، فكان الكافر يقول الذي له العذاب الشديد هو الذي يتبع الشيطان وهو محمد وقومه الذين استهوتهم الجن افتبعوها ، والذي له الأجر العظيم نحن الذين دمنا على ما كان عليه آباؤنا فقال الله تعالى لستم أنتم بذلك فإن المحسن غير ، ومن زين له العمل السيء فرآه حسناً غير ، بل الذين زين لهم السيء دون من أساء وعلم أنه مسيء فإن الجاهل الذي يعلم جهله والمسيء الذي يعمل سوء عمله يرجع ويتوب والذي لا يعلم يصر على الذنوب والمسيء العالم له صفة ذم بالإساءة وصفة مدح بالعلم. والمسيء الذي يرى الإساءة إحساناً له صفتا ذم الإساءة والجهل ، ثم بين أن الكل بمشيئة الله ، وقال : {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } وذلك لأن الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان ، والسيئة والحسنة يمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون باستقلال منهم ، فلا بد من الاستناد إلى إرادة الله.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث حزن من إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة باهرة فقال : {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كما قال تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ} .
ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد إيمانهم وإحسانم لصدهم عن الضلال وردهم عن الإضلال ، وإن كان لما به منهم من الإيذاء فالله عالم بفعله بجازيهم على ما يصنعون.
جزء : 26 رقم الصفحة : 227
227
ثم عاد إلى البيان فقال تعالى : {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} .
/ هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار وذلك لأن الهواء قد يسكن ، وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين ، وقد يتحرك إلى اليسار ، وفي حركاته المخعلفة قد ينشىء السحاب ، وقد لا ينشيء ، فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر ومؤثر مقدر ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى : {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ} بلفظ الماضي وقال : {فَتُثِيرُ سَحَابًا} بصيغة المستقبل ، وذلك لأن لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعل الله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزأً من الزمان ، فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان وكأن فرغ من كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ، ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهو يؤلف في زمان فقال : {تُثِيرُ} أي على هيئتها.
(1/3676)

المسألة الثانية : قال : {أَرْسَلَ} إسناداً للفعل إلى الغائب وقال : {سُقْنَـاهُ} بإسناد الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله : {فَأَحْيَيْنَا} وذلك لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ، ثم لما عرف قال : أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض فنفى الأول كان تعريفاً بالفعل العيجب ، وفي الثاني كان تذيراً بالنعمة فإن كما(ل) نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء وقوله : {رِّزْقًا لِّلْعِبَادِا وَأَحْيَيْنَا} بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرناه من الفرق بين قوله : {أَرْسَلَ} وبين قوله : {تُثِيرُ} .
المسألة الثالثة : ما وجه التشبيه بقوله : {كَذَالِكَ النُّشُورُ} فيه وجوه : أحدها : أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة وثانيها : كما أن الريح يجمع القطع السحابية كذلك يجمع بين أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء وثالثها : كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت.
جزء : 26 رقم الصفحة : 227
المسألة الرابعة : ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ، فنقول لما ذكر الله أنه فاطر السموات والأرض ، وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} ذكر من الأمور الأرضية الرياح وإرسالها بقوله : {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ} .
جزء : 26 رقم الصفحة : 227
228
ثم قال تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه ا وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَمَكْرُ أولئك هُوَ يَبُورُ} .
/ لما بين برهان الإيمان إشارة إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إنهم ما كانوا في طاعة أحد ولم يكن لهم من يأمرهم وينهاهم ، فكانوا ينحتون الأصنام وكانوا يقولون إن هذه آلهتنا ، ثم إنهم كانوا ينقلونها مع أنفسهم وإية عزة فوق المعية مع المبعود فهم كانوا يطلبون العزة وهي عدم التذلل للرسول وترك الأتباع له ، فقال إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة ، فهي كلها لله ومن يتذلل له فهو العزيز ، ومن يتعزز عليه فهو الذليل وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال في هذه الآية : {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } وقال في آية أخرى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فقوله : {جَمِيعًا } يدل على أن لا عزة لغيره فنقول قوله : {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} أي في الحقيقة وبالذات وقوله : {وَلِرَسُولِه } أي بواسطة القرب من العزيز وهو الله وللمؤمنين بواسطة قربهم من العزيز بالله وهو الرسول ، وذلك لأن عزة المؤمنين بواسطة النبي صلى الله عليه وسلّم ألا ترى قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
المسألة الثانية : قوله : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} تقرير لبيان العزة ، وذلك لأن الكفار كانوا يقولون نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده ، لأن البعد من الملك ذلة ، فقال تعالى : إن كنتم لا تصلون إليه ، فهو يسمع كلامهم ويقبل الطيب فمن قبل كلامه وصعد إليه فهو عزيز ومن رد كلامه في وجه فهو ذليل ، وأما هذه الأصنام لا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا علم لها فكل أحد يمسها وكذلك يرى علمكم فمن عمل صالحاً رفعه إليه ، ومن عمل سيئاً رده عليه فالعزيز من الذي عمله لوجهه والذليل من يدفع الذي علمه في وجهه ، وأما هذه الأصنام فلا تعلم شيئاً فلا عزيز يرفع عندها ولا ذليل ، فلا عزة بها بل عليها ذلة ، وذلك لأن ذلة السيد ذلة للعبد ومن كان معبوده وربه وإلهه حجارة أو خشباً ماذا يكون هو.
جزء : 26 رقم الصفحة : 228
المسألة الثالثة : في قوله : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وجوه : أحدها : كلمة لا إله إلا الله هي الطيبة وثانيها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر طيب ثالثها : هذه الكلمات الأربع وخامسة وهي تبارك الله والمختار إن كل كلام هو ذكر الله أو هو لله كالنصيحة والعلم ، فهو إليه يصعد.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } وفي الهاء وجهان أحدهما : هي عائدة إلى الكلم الطيب أي العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب ورد في الخبر "لا يقبل الله قولاً بلا عمل" وثانيهما : هي عائدة إلى العمل الصالح وعلى هذا في الفاعل الرافع وجهان : أحدهما : هو الكلم الطيب يرفع العمل الصالح ، وهذا يؤيده قوله تعالى : {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا} من ذكر أو أنثى وهو مؤمن وثانيهما : الرافع هو الله تعالى.
(1/3677)

المسألة الخامسة : ما وجه ترجيح الذكر على العمل على الوجه الثاني حيث يصعد الكلم / بنفسه ويرفع العمل بغير/ فنقول الكلام شريف ، فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق ولهذا قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} أي بالنفس الناقطة والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره ، والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة إن كان عن صدق أمن عذاب الدنيا والآخرة ، وإن كان ظاهراً أمن في نفسه ودمه وأهله وحرمه في الدنيا ولا كذلك العمل بالجوارح ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} ، ووجه آخر : القلب هو الأصل وقد تقدم ما يدل عليه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وما في القلب لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل ، ألا ترى أن الإنسان لا يتكلم بكلمة إلا عن قلب ، وأما الفعل قد يكون لا عن قلب كالعبث باللحية ولأن النائم لا يخلو عن فعل من حركة وتقلب وهو في أكثر الأمر لا يتكلم في نومه إلا نادراً ، لما ذكرنا إن الكلام بالقلب ولا كذلك العمل ، فالقول أشرف.
المسألة السادسة : قال الزمخشري المكر لا يتعدى فبم انتصاب السيئات ؟
وقال بأن معناه الذين يمكرون المكرات السيئات فهو صف مصدر محذوف ، ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال تعالى : {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} وفي قوله : {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يحتمل ما ذكرناه أن يكون السيئات وصفاً لمصدر تقديره الذين يعملون العملات السيئات ، وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله : {وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } إشارة إلى بقائه وارتقائه {وَمَكْرُ أولئك } أي العمل السيء {هُوَ يَبُورُ} إشارة إلى فنائه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 228
229
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه ا وَمَا} .
قد ذكرنا مراراً أن الدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس ، كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الملائكة والأرض وما يرسل فيها من الرياع شرع / في دلائل الأنفس ، وقد ذكرنا تفسيره مراراً وذكرنا ما قيل من أن قوله : {مِّن تُرَابٍ} إشارة إلى خلق آدم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} إشارة إلى خلق أولاده ، وبينا أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل {خَلَقَكُم} خطاب مع الناس وهم أولاد آدم كلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء ، والغذاء بالآخرة ينتهي إلى الماء والتراب ، فهو من تراب صار نطفة.
وقوله : {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ} إشارة إلى كمال العمل ، فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد ، كيف والأم الحاملة لا تعلم منه شيئاً ، فلما ذكر بقوله : {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} كمال قدرته بين بقوله : {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه } كمال علمه ثم بين نفوذ إرادته بقوله : {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِه إِلا فِى كِتَـابٍ } فبين أنه هو القادر العالم المريد والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة ، فكيف يستحق شيء منها العبادة ، وقوله : {إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي الخلق من التراب ويحتمل أن يكون المراد التعمير والنقصان على الله يسير ، ويحتمل أن يكون المراد أن العلم بحا تحمله الأثنى يسير والكل على الله يسير والأول أشبه فإن اليسير استعماله في الفعل أليق.
جزء : 26 رقم الصفحة : 229
229
ثم قال تعالى : {وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآاـاِغٌ شَرَابُه وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌا وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } .
(1/3678)

قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن ، فالإيمان لا يشتبه بالكفر في الحسن والنفع كما لا يشتبه البحران العذب الفرات والملح الأجاج. ثم على هذا ، فقوله : {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} لبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذا اللحم الطري يوجد فيهما والحلية توجد منهما والفلك تجري فهيما ، ولا نفع في الكفر والكافر ، وهذا على نسق قوله تعالى : { أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وقوله : {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةًا وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُ } والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدر الله وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء ، فإن أحدهما عذب فرات والآخر ملح / أجاج ، ولو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المستويان ، ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة ، فإن اللحم الطريق يوجد فيهما ، واللحية تؤخذ منهما ، ومن يوجد في المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً. وقوله : {وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ} إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح ، وإنما يقال له ملح ، وقد يذكر في بعض كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحاً ، ويؤخذ قائله به. وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقى فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح ، وماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته كذلك ، لأن المالح شيء فيه ملح ظاهر في الذوق ، والماء الملح ليس ماء وملحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ماء فيه ملح ظاهر في الذوق ، بخلاف ما هو من أصل خلقته كذلك ، فلما قال الفقيه الملح أجزاء أرضية سبخة يصير بها ماء البحر مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماء جاوره ملح ، وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة ، والأجاج المر ، وقوله : {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} من الطير والسمك وتستخرجون حلية تلبسونها من اللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشق ، وقوله : {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يدل على ما ذكرناه من أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
جزء : 26 رقم الصفحة : 229
230
ثم قال تعالى : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ} .
استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقد ذكرناه مراراً ، وذكرنا أن قوله تعالى بعده : {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} جواب لسؤال يذكره المشركون وهو أنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض وتحتها ، فإن في الصيف تمر الشمس على سمت الرؤوس في بعض البلاد الماثلة في الآفاق ، وحركة الشمس هناك حمائلية فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل وفي الشتاء بالضد فيقصر النهار فقال الله / تعالى : {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم ، لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك.
ثم قال تعالى : {ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُا وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِه مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} .
(1/3679)

أي ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ولكونه ملكاً والملك مخدوم بقدر ملكه ، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها ، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية ، وهو قوله : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِه مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ، وههنا لطيفة : وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما : أن الخلق بالقدرة الإرادة والثاني : الملك واستدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَـاهِ النَّاسِ} ذكر الرب والملك ورتب عليهما كونه إلهاً أي معبوداً ، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة وهو عدم الملك بقوله : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِه مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ولم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما : أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها فقال : لا ملك لهم ولا ملكهم الله شيئاً ولا ملكوا شيئاً وثانيهما : أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق لأنه لو خلق شيئاً لملكه فإذا لم يملك قطميراً ما خلق قليلاً ولا كثيراً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 230
230
ثم قال تعالى : {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُم وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
إبطالاً لما كانوا يقولون إن في عبادة الأصنام عزة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها ، والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقال هؤلاء لا يسمعون دعاءكم والله يصعد إليه الكلم الطيب ، ليسمع ويقبل ثم نزل عن تلك الدرجة ، وقال هب أنهم يسمعون كما يظنون فإنهم كانوا يقولون بأن الأصنام تسمع وتعلم ولكن ما كان يمكنهم أن يقولون إنهم يجيبون لأن ذلك إنكار للمحس به وعدم سماعهم إنكار للمعقول والنزاع وإن كان يقع في المعقول فلا يمكن وقوعه في المحس به ، ثم إنه تعالى قال : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة بل أشار إلى وجود الضرر منهم في الآخرة بقوله : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي بإشراككم بالله شيئاً ، كما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي الإشراك وقوله : {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون ذلك خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلّم ووجهه هو أن الله تعالى لما أخبر أن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله تعالى عنه أنهم يكفرون بهم يوم القيامة ، وهذا القول مع كون الخبر عنه أمراً عجيباً هو كما قال ، لأن المخبر عنه خبير وثانيهما : هو أن يكون ذلك خطاباً غير مختص بأحد ، أي هذا الذي ذكر هو كما قال : {وَلا يُنَبِّئُكَ} أيها السامع كائناً من كنت {مِثْلُ خَبِيرٍ} .
جزء : 26 رقم الصفحة : 230
230
ثم قال تعالى : {خَبِيرٍ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّه وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} .
لما كثر الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلّم والإصرار من الكفار وقالوا إن الله لعله يحتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمراً بالغاً ويهددنا على تركها مبالغاً فقال تعالى : {أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّه وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ} فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة وهو معقول وذلك لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر لا يكون عند المخبر به علم أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ، ثم أن يكون معلوماً عند السامع حتى يقول له أيها السامع الأمر الذي تعرفه أنت فيه المعنى الفلاني كقول القائل زيد قائم أو قام أي زيد الذي تعرفه ثبت له قيام لا علم عندك به ، فإن كان الخبر معلوماً عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر تنبيهاً لا تفهيماً يحسن تعريف الخبر غاية الحسن ، كقول القائل : الله ربنا ومحمد نبينا ، حيث عرف كون الله رباً ، وكون محمد نبياً ، وههنا لما كان كون الناس فقراء أمراً ظاهراً لا يخفى على أحد قال : {أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} .
المسألة الثانية : قوله : {إِلا اللَّهُ} إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقراً إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ، ثم قال : {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ} أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم من احتياجكم لا تجيبونه ولا تدعونه فيجيبكم.
(1/3680)

المسألة الثالثة : في قوله : {الْحَمِيدُ} لما زاد في الخبر الأول وهو قوله : {أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ} زيادة وهو قوله : {إِلَى اللَّه } إشارة لوجوب حصر العبادة في عبادته زاد في وصفه بالغني زيادة وهو كونه حميداً إشارة إلى كونكم فقراء وفي مقابلته الله غنى وفقركم إليه في مقابلة نعمه عليكم لكونه حميداً واجب الشكر ، فلستم أنتم فقراء والله مثلكم في الفقر بل هو غني على الإطلاق ولستم أنتم لما افتقرتم إليه ترككم غير مقضي الحاجات بل قضى في الدنيا حوائجكم ، وإن آمنتم يقضي في الآخرة حوائجكم فهو حميد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 230
231
ثم قال تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} بياناً لغناه وفيه بلاغة كاملة وبيانها أنه تعالى قال : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه ، فإن المحتاج لا يقول فيه إن يشأ فلان هدم داره وأعدم عقاره ، وإنما يقول لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها أو لولا الافتقار إلى العقار لتركتها ، ثم إنه تعالى زاد بيان الاستغناء بقوله : {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} يعني إن كان يتوهم متوهم أن هذا الملك له كمال وعظمة فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر بأن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا وأجمل وأتم وأكمل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 231
233
ثم قال تعالى : {وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي الإذهاب والإتيان وههنا مسألة : وهي أن لفظ العزيز استعمله الله تعالى تارة في القائم بنفسه حيث قال في حق نفسه : {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} وقال في هذه السورة : {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} واستعمله في القائم بغيره حيث قال : {وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} وقال : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} فهل هما بمعنى واحد أم بمعنيين ؟
فنقول العزيز هو الغالب في اللغة يقال من عزيز أي من غلب سلب ، فالله عزيز أي غالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله : {وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي لا يغلب الله ذلك الفعل بل هو هين على الله وقوله : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 233
234
وقوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ا وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ا } متعلق بما قبله ، وذلك من حيث إنه تعالى لما بين الحق بالدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة ذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي لا تحمل نفس ذنب نفس فالنبي صلى الله عليه وسلّم لو كان كاذباً في دعائه لكان مذنباً وهو معتقد بأن ذنبه لا تحملونه أنتم فهو يتوقى ويحترز ، والله تعالى غير فقير إلى عبادتكم فتفكروا واعلموا أنكم إن ضللتم فلا يحمل أحد عنكم وزركم وليس كما يقول : {ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَازِرَةٌ} أي نفس وازرة ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى ولا جمع بين الموصوف والصفة فلم يقل ولا تزر نفس وازرة وزرة أخرى لفائدة أما الأول : فلأنه لو قال ولا تزر نفس وزر أخرى ، لما علم أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها ووجه آخر : وهو أن قول القائل ولا تزر نفس وزر أخرى ، قد يجتمع معها أن / لا تزر وزراً أصلاً كالمعصوم لا يزر وزر غيره ومع ذلك لا يزر وزراً رأساً فقوله : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ} بين أنها تزر وزرها ولا تزر وزر الغير {وَأَمَّآ} ترك ذكر الموصوف فلظهور الصفة ولزومها للموصوف.
ثم قال تعالى : {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} إشارة إلى أن أحداً لا يحمل عن أحد شيئاً مبتدئاً ولا بعد السؤال ، فإن المحتاج قد يصبر وتقضى حاجته من غير سؤاله ، فإذا انتهى الافتقار إلى حد الكمال يحوجه إلى السؤال.
المسألة الثانية : في قوله : {مُثْقَلَةٌ} زيادة بيان لما تقدم من حيث إنه قال أولاً : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فيظن أن أحداً لا يحمل عن أحد لكون ذلك الواحد قادراً على حمله ، كما أن القوى إذا أخذ بيده رمانة أو سفرجلة لا تحمل عنه ، وأما إذا كان الحمل ثقيلاً قد يرحم الحامل فيحمل عنه فقال : {مُثْقَلَةٌ} يعني ليس عدم الوزر لعدم كونه محلاً للرحمة بالثقل بل لكون النفس مثقلة ولا يحمل منها شيء.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
(1/3681)

المسألة الثالثة : زاد في ذلك بقوله : {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ا } أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله وفي الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل ، أو الأجنبي الذي يرى أجنبياً تحت حمل لا يحمل عنه فقال : {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ا } أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل وكون الأخرى مثقلة لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل وكونه سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة ، لو كان المسؤول قريباً فإذن لا يكون التخلف إلا لمانع وهو كون كل نفس تحت حمل ثقيل.
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ } إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به ، ولم يفدهم ، فلا تنذر إنذاراً مفيداً إلا الذين تمتلىء قلوبهم خشية وتتحلى ظواهرهم بالعبادة كقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } إشارة إلى عمل القلب {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} إشارة إلى عمل الظواهر فقوله : {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ } في ذلك المعنى ، ثم لما بين {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } بين أن الحسنة تنفع المحسنين.
فقال : {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه } أي فتزكيته لنفسه.
ثم قال تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصير إلى الله يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء ، والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى الله.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
234
ثم قال تعالى : {وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَـاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ } .
لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر ، وهدى الله المؤمن من ضرب لهم مثلاً بالبصير والأعمى ، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعمى ، وفي تفسير الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر الأعمى والبصير ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات ؟
فنقول الأول مثل المؤمن والكافر فالمؤمن بصير والكافر أعمى ، ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ولكن لا يبصر شيئاً إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان والكفر مثلاً ، وقال الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور ، والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد ، ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلاً وهو الظل والحرور ، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر بكفره في حر وتعب ، ثم قال تعالى : {وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ } مثلاً آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما. والكافر غير مدرك إدراكاً نافعاً فهو كالميت ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولاً : {وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ} وعطف الظلمات والنور والظل والحرور ، ثم أعاد الفعل ، وقال : {وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ } كأنه جعل هذا مقابلاً لذلك.
المسألة الثانية : كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء الأموات ، ولم يكرر بين الأعمى والبصير ، وذلك لأن التكرير للتأكيد والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة ، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك ، أما الأعمى والبصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيراً وهو بعينه يصير أعمى ، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف ، والظل والحرور والمنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة هناك أتم ، أكد بالتكرار ، وأما الأحياء والأموات ، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حياً محلاً للحياة فيصير ميتاً محلاً للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء ، ولا كذلك الحي والميت ، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
(1/3682)

المسألة الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور ، وأخره في مثلين وهو البصر والنور ، وفي مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي ، وهو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع ، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى ، وأما القرآن فحكمة بالغة والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى ، فنقول الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى وطريقهم كالظلمة ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلّم وبين الحق ، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور فقال وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان/ فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم ، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم ، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي ، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال : {وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ} أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ، ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين ، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
المسألة الرابعة : فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد وكذلك الظل بالحرور وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع ، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر ، فهل تعرف فيه حكمة ؟
قلت : نعم بفضل الله وهدايته ، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور ، فلأنه قابل الجنس بالجنس ، ولم يذكر الأفراد لأن في العميان وأولى الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فرداً من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان ، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان ، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه ، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير ، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى ، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حياً من الأحياء ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد ، وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب وبعضهم النار وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة ، وإلى غير ذلك والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين ، فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } السبب في توحيد النور وجمع الظلمات ، ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ومحل قابل للاستنارة وعدم الحائل بين النور والمستنير. مثاله الشمس إذا / طلعت وكان هناك موضع قابل للاستنارة وهو الذي يمسك الشعاع ، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع ويدخل بيتاً آخر ويبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئاً والأول مظلماً ، وإن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء ، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت وإلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
234
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُا وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} وفيه احتمال معنيين الأول : أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي والوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن الله يسمع الموتى والنبي لا يسمع من مات وقبر ، فالموتى سامعون من الله والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي والثاني : أن يكون المراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم ولا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا الله ، فإنه يسمع من يشاء ولو كان صخرة صماء ، وأما أنت فلا تسمع من في القبور ، فما عليك من حسابهم من شيء.
ثم قال تعالى : {إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ} بياناً للتسلية.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
234
ثم قال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } لما قال : {إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ} بين أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله وإرساله.
(1/3683)

ثم قال تعالى : {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} تقريراً لأمرين أحدهما : لتسلية قلبه حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملاً لتأذي القوم وثانيهما : إلزام القوم قبوله فإنه ليس بدعاً من الرسل وإنما هو مثل غيره يدعى ما ادعاه الرسل ويقرره.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
234
وقوله تعالى : {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ} .
يعني أنت جئتهم بالبينة والكتاب فكذبوك وآذوك وغيرك أيضاً أتاهم بمثل ذلك وفعلوا بهم ما فعلوا بك وصبروا على ما كذبوا فكذلك نلزمهم بأن من تقدم من الرسل لم يعلم كونهم رسلاً إلا بالمعجزات البينات وقد آتيناها محمداً صلى الله عليه وسلّم {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ} / والكل آتيناها محمداً ، فهو رسول مثل الرسل يلزمهم قبوله كما لزم قبول موسى وعيسى عليهم السلام أجمعين ، وهذا يكون تقريراً مع أهل الكتاب ، واعلم أنه تعالى ذكر أموراً ثلاثة أولها البينات ، وذلك لأن كل رسول فلا بد له من معجزة وهي أدنى الدرجات ، ثم قد ينزل عليه كتاب يكون فيه مواعظ وتنبيهات وإن لم يكن فيه نسخ وأحكام مشروعة شرعاً ناسخاً ، ومن ينزل عليه مثله أعلى مرتبة ممن لا ينزل عليه ذلك وقد تنسخ شريعته الشرائع وينزل عليه كتاب فيه أحكام على وفق الحكمة الإلهية ، ومن يكون كذلك فهو من أولي العزم فقال الرسل تبين رسالتهم بالبينات وإن كانوا أعلى مرتبة فبالزبر ، وإن كانوا أعلى فبالكتاب والنبي آتيناه الكل فهو رسول أشرف من الكل لكون كتابه أتم وأكمل من كل كتاب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 234
236
ثم قال تعالى : {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
أي من كذب بالكتاب المنزل من قبل وبالرسول المرسل أخذه الله تعالى فكذلك من يكذب بالنبي عليه السلام ، وقوله : {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} سؤال للتقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم وإتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال.
جزء : 26 رقم الصفحة : 236
237
ثم قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا } .
وهذا استدلال بدليل آخر على وحدانية الله وقدرته وفي تفسيرها مسائل :
المسألة الأولى : ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار ، وقال : {أَلَمْ تَرَ} وذكر الدليل المتقدم على طريقة الأخبار وقال : {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ} وفيه وجهان الأول : أن انزال الماء أقرب إلى النفع والمنفعة فيه أظهر فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جداً كما أن من أبصر الهلال وهو خفي جداً ، فقال له غيره أين هو ، فإنه يقول له في الموضع الفلاني ، فإن لم يره ، يقول له الحق معك إنه خفي وأنت معذور ، وإذا كان بارزاً يقول له أما تراه هذا هو ظاهراً والثاني : وهو أنه ذكره بعدما قرر المسألة بدليل آخر وظهر بما تقدم للمدعو بصارة بوجوه الدلالات ، فقال له أنت صرت بصيراً بما ذكرناه ولم يبق لك عذر ، ألا ترى هذه الآية.
المسألة الثانية : المخاطب من هو يحتمل وجهين أحدهما : النبي صلى الله عليه وسلّم وفيه حكمة وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تنفعهم قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم ، كما أن السيد إذا نصح بعض العبيد ومنعهم من الفساد ولا ينفعهم الإرشاد ، يقول لغيره اسمع ولا تكن مثل هذا / ويكرر معه ما ذكره مع الأول ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يستأهل للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة والآخر : أن لا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول ، بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيما كان فيه من النصيحة.
المسألة الثالثة : هذا استدلال على قدرة الله واختياره حيث أخرج من الماء الواحد ممرات مختلفة وفيه لطائف الأولى : قال أنزل وقال أخرجنا. وقد ذكرنا فائدته ونعيدها فنقول : قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ} فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له ، فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله ، فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم ووجه آخر : هو أن الله تعالى لما قال : {أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ} علم الله بدليل ، وقرب المتفكر فيه إلى الله تعالى فصار من الحاضرين ، فقال له أخرجنا لقربه ووجه ثالث : الإخراج أتم نعمة من الإنزال ، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة الغائب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 237
237
(1/3684)

اللطيفة الثانية : قال تعالى : {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُا بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه كَذَلِكَ } .
كأن قائلاً قال اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع. ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران وغيره ، فقال تعالى اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة الله وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض ، والجدد جمع جدة وهي الخطة أو الطريقة ، فإن قيل الواو في : {وَمِنَ الْجِبَالِ} ما تقديرها ؟
نقول هي تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون للاستئناف كأنه قال تعالى وأخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان ، وفي الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض دالة على القدرة ، رادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار ثانيهما : أن تكون للعطف تقديرها وخلق من الجبال. قال الزمخشري : أراد ذو جدد واللطيفة الثالثة : ذكر الجبال ولم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر : {وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ} مع أن هذا الدليل مثل ذلك ، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول : {فَأَخْرَجْنَا بِه ثَمَرَاتٍ} كان نفس إخراج الثمار دليلاً على القدرة ثم زاد عليه بياناً ، وقال مختلفاً كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة والإرادة ، لأن كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها والاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار ، ثم زاده بياناً وقال جدد بيض ، أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها ، كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف / ألوانها دلائل.
المسألة الرابعة : مختلف ألوانها ، الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مختلف ألوانها ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص ، وقد يكون على لون التراب الأبيض دون بياض الجص ، وكذلك الأحمر ، ولو كان المراد أن البيض والحمر مختلف الألوان لكان مجرد تأكيد والأول أولى ، وعلى هذا فنقول لم يذكر مختلف ألوانها بعد البيض والحمر والسود ، بل ذكره بعد البيض والحمر وأخر السود الغرابيب ، لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغرابيب يكون بالغاً غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف.
جزء : 26 رقم الصفحة : 237
المسألة الخامسة : قيل بأن الغربيب مؤكد للأسود ، يقال أسود غربيب والمؤكد لا يجيء إلا متأخراً فكيف جاء غرابيب سود ؟
نقول قال الزمخشري : غرابيب مؤكد لذي لون مقدر في الكلام كأنه تعالى قال سواد غرابيب ، ثم أعاد السود مرة أخرى وفيه فائدة وهي زيادة التأكيد لأنه تعالى ذكره مضمراً ومظهراً ، ومنهم من قال هو على التقديم والتأخير ، ثم قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ} استدلالاً آخر على قدرته وإرادته ، وكأن الله تعالى قسم دلائل الخلق في العالم الذي نحن فيه وهو عالم المركبات قسمين : حيوان وغير حيوان ، وغير الحيوان إما نبات وإما معدن ، والنبات أشرف ، وأشار إليه بقوله : {فَأَخْرَجْنَا بِه ثَمَرَاتٍ} ثم ذكر المعدن بقوله : {وَمِنَ الْجِبَالِ} ثم ذكر الحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : {وَمِنَ النَّاسِ} ثم ذكر الدواب ، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها ، أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره ، وقوله : {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين/ وكون التذكير أعلى وأولى.
الخشية بقدر معرفة المخشي ، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد ، لأن الله تعالى قال : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } فبين أن الكرامة بقدر التقوى ، والتقوى بقدر العلم. فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل ، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه ، فإن من يراه يقول : لو علم لعمل. ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ذكر ما يوجب الخوف والرجاء ، فكونه عزيزاً ذا انتقام يوجب الخوف التام ، وكونه غفوراً لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ. وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الله ، معناها إنما يعظم ويبجل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 237
238
ثم قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ} .
لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتابا الله العاملين بما فيه. وقوله : {يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ} إشارة إلى الذكر.
وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} إشارة إلى العمل البدني.
(1/3685)

وقوله : {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ} إشارة إلى العمل المالي ، وفي الآيتين حكمة بالغة ، فقوله : إنما يغشى الله إشارة إلى عمل القلب ، وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ} إشارة إلى عمل اللسان. وقوله : {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} إشارة إلى عمل الجوارح ، ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله والشفقة على خلقه ، لأنا بينا أن من يعظم ملكاً إذا رأى عبداً من عباده في حاجة يلزمه قضاء حاجته وإن تهاون فيه يخل بالتعظيم ، وإلى هذا أشار بقوله : عبدي مرضت فما عدتني ، فيقول العبد : كيف تمرض وأنت رب العالمين ، فيقول الله مرض عبدي فلان وما زرته ولو زرته لوجدتني عنده ، يعني التعظيم متعلق بالشفقة فحيث لا شفقة على خلق الله لا تعظيم لجانب الله.
وقوله تعالى : {سِرًّا وَعَلانِيَةً} حث على الإنفاق كيفما يتهيأ ، فإن تهيأ سراً فذاك ونعم وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء ، فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراء عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بقوله : {سِرًّا} أي صدقة {وَعَلانِيَةً} أي زكاة ، فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب.
وقوله تعالى : {يَرْجُونَ تِجَـارَةً لَّن تَبُورَ} إشارة إلى الإخلاص ، أي ينفقون لا ليقال إنه كريم ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله ، فإن غير الله بائر والتاجر فيه تجارته بائرة.[
جزء : 26 رقم الصفحة : 238
240
وقوله تعالى : {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} أي ما يتوقعونه ولو كان أمراً بالغ الغاية {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه } أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل ، ويحتمل أن يكون يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة {إِنَّه غَفُورٌ} عند إعطاء الأجور {شَكُورٌ} عند إعطاء الزيادة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 240
241
ثم قال تعالى : {وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ} .
لما بين الأصول الأول وهو وجود الله الواحد بأنواع الدلائل من قوله : {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ} / الرياح ، وقوله : {وَاللَّهُ خَلَقَكُم} وقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ} ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة ، فقال : {وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ} وأيضاً كأنه قد ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم الله فقال : {وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ هُوَ الْحَقُّ} تقريراً لما بين من الأجر والثواب في تلاوة كتاب الله فإنه حق وصدق فتاليه محق ومحقق وفي تفسيرها مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {مِنَ الْكِتَـابِ} يحتمل أن يكون لابتداء الغاية كما يقال أرسل إلى كتاب من الأمير أو الوالي وعلى هذا فالكتاب بمكن أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ يعني الذي أوحينا من اللوح المحفوظ إليك حق ، ويمكن أن يكون المراد هو القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويحتمل أن يكون للبيان كما يقال أرسل إلى فلان من الثياب والقماش جملة.
المسألة الثانية : قوله : {هُوَ الْحَقُّ} آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين {أَحَدُهُمَآ} أن تعريف الخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكن نكرة ، لأن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا معرفة للسامع به لأمر يعرفه السامع كقولنا زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعلم قيامه فيخبر به ، فإذا كان الخبر أيضاً معلوماً فيكون الأخبار للتنبيه فيعرفان باللام كقولنا زيد العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 241
(1/3686)

المسألة الثالثة : قوله : {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه } حال مؤكدة لكونه حقاً لأن الحق إذا لا خلاف بينه وبين كتب الله يكون خالياً عن احتمال البطلان وفي قوله مصدقاً تقرير لكونه وحياً لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله لا يكون ذلك إلا من الله تعالى وجواب عن سؤال الكفار وهو أنهم كانوا يقولون بأن التوراة ورد فيها كذا والإنجيل ذكر فيه كذا وكانوا يفترون من التثليث وغيره وكانوا يقولون بأن القرآن فيه خلاف ذلك فقال التوراة والإنجيل لم يبق بهما وثوق بسبب تغييركم فهذا القرآن ما ورد فيه إن كان في التوراة فهو حق وباق على ما نزل ، وإن لم يكن فيه ويكون فيه خلاف فهو ليس من التوراة ، فالقرآن مصدق للتوراة وفيه وجه آخر : وهو أن يقال إن هذا الوحي مصدق لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن وجوده لكذب موسى وعيسى عليهما السلام في إنزال التوراة والإنجيل فإذا وجد الوحي ونزل على محد صلى الله عليه وسلّم علم جواز وصدق به ما تقدم ، وعلى هذا ففيه لطيفة : وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدقاً لما مضى مع أن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي ، وأما ما تقدم فلا بد معه من معجزة تصدقه.
/ المسألة الرابعة : قوله : {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِه لَخَبِيرُا بَصِيرٌ} فيه وجهان : {أَحَدُهُمَآ} أنه تقرير لكونه هو الحق لأنه وحي من الله والله خبير عالم بالبواطن بصير عالم بالظواهر ، فلا يكون باطلاً في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر وثانيهما : أن يكون جواباً لما كانوا يقولونه إنه لم لم ينزل على رجل عظيم ؟
فيقال إن الله بعباده لخبير يعلم بواطنهم وبصير يرى ظواهرهم فاختار محمداً عليه السلام ولم يختر غيره فهو أصلح من الكل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 241
241
ثم قال تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه } اتفق أكثر المفسرين على أن المراد من الكتاب القرآن وعلى هذا فالذين اصطفيناهم الذين أخذوا بالكتاب وهم المؤمنون والظالم والمقتصد والسابق كلهم منهم ويدل عليه قوله تعالى : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أخبر بدخولهم الجنة وكلمة {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} أيضاً تدل عليه لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن فهو الموروث والإيراث المراد منه الإعطاء بعد ذهاب من كان بيده المعطى ، ويحتمل أن يقال المراد من الكتاب هو جنس الكتاب كما في قوله تعالى : {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ} والمعنى على هذا : إنا أعطينا الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء ويدل عليه أن لفظ المصطفى على الأنبياء إطلاقه كثير ولا كذلك على غيرهم لأن قوله : {مِنْ عِبَادِنَا } دل على أن العباد أكابر مكرمون بالإضافة إليه ، ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلماً ، وعلى الوجه الأول الظاهر بين معناه آتينا القرآن لمن آمن بمحمد وأخذوه منه وافترقوا {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ} وهو المسيء {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً {وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ} وهو الذي أخلص العمل لله وجرده عن السيئات ، فإن قال قائل كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم ؟
مع أن الظالم يطلب على الكافر في كثير من المواضع ، فنقول المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ويصحح هذا قول عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "ظالمنا مغفور له" وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 241
(1/3687)

{رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق ، وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله ولا يضع فيه غير محبة الله ، وفي المراتب الثلاث أقوال كثيرة : أحدها : الظالم هو الراجح السيئات والمقتصد هو الذي / تساوت سيئاته وحسناته والسابق هو الذي ترجحت حسناته ثانيها : الظالم هو الذي ظاهره خبر من باطنه ، والمقتصد من تساوي ظاهره وباطنه ، والسابق من باطنه خير ثالثها : الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف ، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد ورابعها : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم ، والسابق التالي العالم العامل سادسها : الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم سابعها : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق السابقون المقربون ثامنها : الظالم الذي يحاسب فيدخل النار ، والمقتصد الذي يحاسب فيدخل الجنة/ والسابق الذي يدخل الجنة من غير حساب تاسعها : الظالم المصر على المعصية ، والمقتصد هو النادم والتائب ، والسابق هو المقبول التوبة عاشرها : الظالم الذين أخذ القرآن ولم يعمل ، به والمقتصد الذي عمل به ، والسابق الذي أخذه وعمل به وبين للناس العمل به فعملوا به بقوله فهو كامل ومكمل ، والمقتصد كامل والظالم ناقص ، والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للشيء في غير موضعه ، والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر منه ذنب وصدر عنه إثم فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق الله ويدل عليه قوله تعالى : {بِإِذْنِ اللَّه } أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس ، والظالم تغلبه النفس ، ونقول بعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد ومن قهر نفسه فهو السابق وقوله : {ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يحتمل وجوهاً أحدها : التوفيق المدلول عليه بقوله :
جزء : 26 رقم الصفحة : 241
{بِإِذْنِ اللَّه ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} ، ثانيها : السبق بالخيرات هو الفضل الكبير ثالثها : الإيراث فضل كبير هذا على الوجه المشهور من التفسير ، أما الوجه الآخر وهو أن يقال : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ} أي جنس الكتاب ، كما قال تعالى : {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ} يرد عليه أسئلة أحدهما : ثم للتراخي وإيتاء الكتاب بعد الإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلّم لم يكن فما المراد بكلمة ثم ؟
نقول معناه إن الله خبير بصير خبرهم وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه قال تعالى إنا علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عباداً {أُمِّ الْكِتَـابِ} ، ثانيها : كيف يكون من الأنبياء ظالم لنفسه ؟
نقول منهم غير راجع إلى الأنبياء المصطفين ، بل المعنى إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلاً وآتيناهم كتباً ، ومنهم أي من قومك / ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ومقتصد آمن بك وبما إنزل إليك ومقتصد آمن بك ولم يأت بجميع ما أمرته به وسابق آمن وعمل صالحاً وثالثها : قوله : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الداخلون هم المذكورون وعلى ما ذكرتم لا يكون الظالم داخلاً ، نقول الداخلون هم السابقون ، وأما المقتصد فأمره موقوف أو هو يدخل النار أو لا ثم يدخل الجنة والبيان لأول الأمر لا لما بعده ، ويدل عليه قوله : {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وقوله : {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } .
جزء : 26 رقم الصفحة : 241
242
ثم قال : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
وفي الداخلين وجوه أحدها : الأقسام الثلاثة وهي على قولنا أن الظالم والمقتصد والسابق أقسام المؤمنين والثاني : الذين يتلون كتاب الله والثالث : هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله : {يُحَلَّوْنَ} فالمكرم هو السابق وعلى هذا فيه أبحاث :
(1/3688)

الأول : تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا : {اللَّهَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} وقول القائل : زيد بني الجدار فإن الله موجود قبل كل شيء ، ثم له فعل هو الخلق ، ثم حصل به المفعول وهو السموات ، وكذلك زيد قبل البناء ثم الجدار من بنائه ، وإذا لم يكن المفعول حقيقياً كقولنا زيد دخل الدار وضرب عمراً فإن الدار في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعل من أفعال تحقق بالنسبة إلى الدار ، وكذلك عمرو فعل من أفعال زيد تعلق به فسمى مفعولاً لا يحصل هذا الترتيب ، ولكن الأصل تقديم الفاعل على المفعول ولهذا يعاد المفعول المقدم بالضمير تقول عمراً ضربه زيد فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة ، فما الفائدة في تقديم الجنات على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكر بالهاء في يدخلونها ، وما الفرق بين هذا وبين قول القائل يدخلونها جنات عدن ؟
نقول السامع إذا علم أن له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم عين المدخل فإذا قيل له أنت تدخل فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون ، فإذا قيل له دار زيد تدخلها فبذكر الدار ، يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق إن له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى له توقف ولا سيما الجنة والنار ، فإن بني المدخلين بوناً بعيداً الثاني : قوله : {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير الدخول فقال : {يَدْخُلُونَهَا} وفيها تقع تحليتهم الثالث : قوله : {مِنْ أَسَاوِرَ}
جزء : 26 رقم الصفحة : 242
بجمع الجمع فإنه جمع أسورة وهي جمع سوار ، وقوله : {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس / يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل إلا على الغنى الرابع : ذكر الأساور من بين سائر الحلي في كثير من المواضع منها قوله تعالى : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وذلك لأن التحلي بمعنيين أحدهما : إظهار كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال لأن التحلي لا يكون حالة الطبخ والغسل وثانيهما : إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء وذلك لأن التحلي إما باللآلىء والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المتحلي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكبيرة عند الحاجة حيث يعجز عن الوصول إلى الأشياء القليلة الوجود لا لحاجة ، والتحلي بالذهب والفضلة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع الحاجة ، إذا عرفت هذا فنقول الأساور محلها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإنها للبطش ، فإذا حليت بالأساور علم الفراغ والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحلي.
جزء : 26 رقم الصفحة : 242
242
ثم قال تعالى : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَا إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .
في الحزن أقوال كثيرة والأولى أن يقال المراد إذهاب كل حزن والألف واللام للجنس واستغراقه وإذهاب الحزن بحصول كل ما ينبغي وبقائه دائماً فإن شيئاً منه لو لم يحصل لكان الحزن موجوداً بسببه وإن حصل ولم يدم لكان الحزن غير ذاهب بعد بسبب زواله وخوف فواته ، وقوله : {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} ذكر الله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة من الله الأول : الحمد فإن الحامد مثاب الثاني : قولهم ربنا فإن الله لم يناد بهذا اللفظ إلا واستجاب لهم ، اللهم إلا أن يكون المنادي قد ضيع الوقت الواجب أو طلب ما لا يجوز كالرد إلى الدنيا من الآخرة الثالث : قولهم : {غَفُورٌ} ، الرابع : قولهم : {شَكُورٌ} والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بما وجد لهم من الحمد في الدنيا ، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم ويزيد لهم بسبب ما وجد لهم في الآخرة من الحمد.
جزء : 26 رقم الصفحة : 242
243
ثم قال تعالى : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه } أي دار الإقامة ، لما ذكر الله سرورهم وكرامتهم بتحليتهم وإدخالهم الجنات بين سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها حيث قالوا : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} أي الإقامة والمفعول ربما يجيء للمصدر من كل باب يقال ما له معقول أي عقل ، وقال تعالى : {مُدْخَلَ صِدْقٍ} وقال تعالى : {وَمَزَّقْنَـاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } وكذلك مستخرج للاستخراج وذلك لأن المصدر هو المفعول في الحقيقة ، فإنه هو الذي فعل فجاز إقامة المفعول مقامه وفي قوله : {دَارَ الْمُقَامَةِ} إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومنها إلى منزلة / العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق. وقد تكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار المقامة ، وكذلك النار لأهلها وقولهم {مِّن فَضْلِه } أي بحكم وعده لا بإيجاب من عنده.
(1/3689)

وقوله تعالى : {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} اللغوب الإعياء والنصب هو السبب للإعياء فإن قال قائل إذا بين أنه {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} علم أنه {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} ولا ينفي المتكلم الحكيم السبب ، ثم ينفي مسببه بحرف العطف فلا يقول القائل لا أكلت ولا شبعت أو لا قمت ولا مشيث والعكس كثير فإنه يقال لا شبعت ولا أكلت لما أن نفي الشبع لا يلزمه إنتفاء الأكل وسياق ما تقرر أن يقال لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة ، فنقول ما قاله الله في غاية الجلالة وكلام الله أجل وبيانه أجمل ، ووجه هو أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن الدنيا أماكنها على قسمين : أحدهما : موضع نمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري والطرقات والأراضي والآخر : موضع يظهر فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار من الخانات فإن من يكون في مباشرة شغل لا يظهر عليه الإعياء إلا بعدما يستريح فقال تعالى : {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي ليست الجنة كالمواضع التي في الدنيا مظان المتاعب بل هي أفضل من المواضع التي هي مواضع مرجع العي ، فقال : {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي ، لا نخرج منها إلى مواضع نتعب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وقرىء {لُغُوبٌ} بفتح اللام والترتيب على هذه القراءة ظاهر كأنه قال لا نتعب ولا يمسنا ما يصلح لذلك ، وهذا لأن القوي السوي إذا قال ما تعبت اليوم لا يفهم من كلامه أنه ما عمل شيئاً لجواز أنه عمل عملاً لم يكن بالنسبة إليه متعباً لوقته ، فإذا قال ما مسني ما يصلح أن يكون متبعاً يفهم أنه لم يعمل شيئاً لأن نفس العمل قد يصلح أن يكون متعباً لضعيف أو متعباً بسبب كثرته ، واللغوب هو ما يغلب منه وقيل النصب التعب الممرض ، وعلى هذا فحسن الترتيب ظاهر كأنه قال لا يمسنا مرض ولا دون ذلك وهو الذي يعيا منه مباشرة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 243
244
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} عطف على قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ} وما بينهما كلام يتعلق بالذين يتلون كتاب الله على ما بينا وقوله : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} قد ذكرنا أنه على بعض الأقوال راجع إلى {الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ} .
ثم قال تعالى : {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } أي لا يستريحون بالموت بل العذاب دائم.
وقوله تعالى : {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} أي النار وفيه لطائف : / الأولى : أن العذاب في الدنيا إن دام كثيراً يقتل فإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجاً فاسداً متمكناً لا يحس به المعذب ، فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا ، إما أن يفني وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم الثانية : راعي الترتيب على أحسن وجه وذلك لأن الترتيب أن لا ينقطع العذاب ، ولا يفتر فقال لا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنون الموت ولا يجابون كما قال تعالى : {وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي بالموت الثالثة : في المعذبين اكتفى بأنه لا ينقص عذابهم ، ولم يقل نزيدهم عذاباً. وفي المثابين ذكر الزيادة بقوله : {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه } ثم لما بين أن عذابهم لا يخفف.
جزء : 26 رقم الصفحة : 244
244
قال تعالى : {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاماً إلى أن يطلبوه بل يطلبون ولا يجدون والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب.
وقوله تعالى : {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} أي صراخهم بهذا أي يقولون : {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} لأن صراخهم كلام وفيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب ، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه : لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما فعلت يتركه ، وأما المعذب فلا وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم بين أنه لا يقبل منهم وعداً وهذا لأن المحبوس يصير لعله يخرج من غير سؤال فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا.
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالاً فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى : {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الآخِرَةِ أَعْمَى } ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار.
وعلى هذا قالوا : {نَعْمَلْ صَـالِحًا} جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فهي ، ولم يقولوا إن الأمر بيد الله ، فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقداراً يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال.
(1/3690)

وقولهم : {غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ } إشارة إلى ظهور فساد عملهم ولهم وكأن الله تعالى كما لم يهدهم في الدنيا لم يهدهم في الآخرة ، فما قالوا ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعلمهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظراً إلى فضلك ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظراً إلى عدلك وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة ، وكما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الحمد لله وقالوا ربنا غفور اعترافاً بتقصيرهم شكور إقراراً بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وقالوا : {أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه } أي لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله وهم قالوا : {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا} / إغماضاً في حق تعظيمه وإعراضاً عن الاعتراف بعجزهم عن الإتيان بما يناسب عظمته ، ثم إنه تعالى بن أنه آتاهم ما يتعلق بقبول المحل من العمر الطويل وما يتعلق بالفاعل في المحل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم كفاعل الخير فيهم ومظهر السعادات.
جزء : 26 رقم الصفحة : 244
فقال تعالى : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ } .
فإن المانع إما أن يكون فيهم حيث لم يتمكنوا من النظر فيما أنزل الله ، وإما أن يكون في مرشدهم حيث لم يتل عليهم ما يرشدهم.
ثم قال تعالى : {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} وقوله : {فَذُوقُوا } إشارة إلى الدوام وهو أمر إهانة ، فما للظالمين الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها من نصير في وقت الحاجة ينصرهم ، قال بعض الحكماء قوله : {فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} وقوله : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلاً مركباً/ وهو الذي يعتقد الباطل حقاً في الدنيا {وَمَا لَه مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} أي من علم ينفعه في الآخرة ، والذي يدل عليه هو أن الله تعالى سمي البرهان سلطاناً ، كما قال تعالى : {لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَـانٍ} والسلطان أقوى ناصر إذ هو القوة أو الولاية وكلاهما ينصر والحق التعميم ، لأن الله لا ينصره وليس غيره نصيراً فما لهم من نصير أصلاً ، ويمكن أن يقال إن الله تعالى قال في آل عمران {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} وقال : {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّه وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} وقال ههنا : {فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أي هذا وقت كونهم واقعين في النار ، فقد أيس كل منهم من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة ولم يبق إلا توقعهم من الله فقال : {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أصلاً ، وهناك كان الأمر محكياً في الدنيا أو في أوائل الحشر ، فنفى ما كانوا يتوقعون منهم النصرة وهم آلهتهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 244
245
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
تقريراً لدوامهم في العذاب ، وذلك من حيث إن الله تعالى لما قال : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ولا يزاد عليها ، فلو قال قائل : الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة ، فكان ينبغي أن لا يعذب إلى مثل تلك الأيام ، فقال تعالى إن الله لا يخفي عليه غيب السموات فلا يخفي عليه ما في الصدور ، وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده.
وفي قوله تعالى : {بِذَاتِ الصُّدُورِ} مسألة قد ذكرناها مرة ونعيدها أخرى ، وهي أن لقائل أن يقول الصدور هي ذات اعتقادات وظنون ، فكيف سمى الله الاعتقادات بذات الصدور ؟
/ ويقرر السؤال قولهم أرض ذات أشجار وذات جني إذا كان فيها ذلك ، فكذلك الصدر فيه اعتقاد فهو ذو اعتقاد ، فيقال له لما كان اعتبار الصدر بما فيه صار ما فيه كالساكن المالك حيث لا يقال الدار ذات زيد ، ويصح أن يقال زيد ذو دار ومال وإن كان هو فيها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 245
246
ثم قال تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـا اـاِفَ فِى الارْضِ } .
(1/3691)

تقريراً لقطع حجتهم فإنهم لما قالوا : {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا} وقال تعالى : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ} إشارة إلى أن التمكين والإمهال مدة يمكن فيها المعرفة قد حصل وما آمنتم وزاد عليه بقوله : {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ } أي آتيناكم عقولاً ، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول زاد على ذلك بقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـا اـاِفَ فِى الارْضِ } أي نبهكم بمن مضى وحال من انقضى فإنكم لو لم يحصل لكم علم بأن من كذب الرسل أهلك لكان عنادكم أخفى وفسادكم أخف ، لكن أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلائف في الأرض ، أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وتصبحون بحالهم راضين {فَمَن كَفَرَ} بعد هذا كله {فَعَلَيْهِ كُفْرُه ا وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا } لأن الكافر السابق كان ممقوتاً كالعبد الذي لا يخدم سيده واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت كالعبد الذي ينصحه الناصح ويأمره بخدمة سيده ويعده ويوعده ولا ينفعه النصح ولا يسعده والتالي لهم الذي رأى عذاب من تقدم ولم يخش عذابه أمقت الكل.
ثم قال تعالى : {وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} أي الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيد إلا المقت ، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسارة ، فإن العمر كالرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر.
جزء : 26 رقم الصفحة : 246
248
ثم قال تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ} .
/ تقريراً للتوحيد وإبطالاً للإشراك ، وقوله : {أَرَءَيْتُمْ} المراد منه أخبروني ، لأن الاستفهام يستدعي جواباً ، يقول القائل أرأيت ماذا فعل زيد ؟
فيقول السامع باع أو اشترى ، ولولا تضمنه معنى أخبرني وإلا لما كان الجواب إلا قوله لا أو نعم ، وقوله : {شُرَكَآءَكُمُ} إنما أضاف الشركاء إليهم من حيث إن الإصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله ، وإنما هم جعلوها شركاء ، فقال شركاءكم ، أي الشركاء يجعلكم ويحتمل أن يقال شركاءكم ، أي شركاءكم في النار لقوله : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} وهو قريب ، ويحتمل أن يقال هو بعيد لاتفاق المفسرين على الأول وقوله : {أَرُونِى} بدل عن {أَرَءَيْتُمْ} لأن كليهما يفيد معنى أخبروني ، ويحتمل أن يقال قوله : {أَرَءَيْتُمْ} استفهام حقيقي و{أَرُونِى} أمر تعجيز للتبين ، فلما قال : {أَرَءَيْتُمْ} يعني أعلمتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة ، فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها ؟
وإن كان وقع لكم أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض ، كما قال بعضهم : إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض ، وهم الذين قالوا أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها ؟
أم هي في السموات ، كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة والملائكة شركاء في خلق السموات ، وهذه الأصنام صورها ؟
أم قدرتها في الشفاعة لكم ، كما قال بعضهم إن الملائكة ما خلقوا شيئاً ولكنهم مقربون عند الله فنعبدها ليشفعوا لنا ، فهل معهم كتاب من الله فيه إذنه لهم بالشفاعة ؟
وقوله : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ} في العائد إليه الضمير وجهان أحدهما : أنه عائد إلى الشركاء ، أي هل أتينا الشركاء كتاباً وثانيهما : أنه عائد إلى المشركين ، أي هل آتينا المشركين كتاباً وعلى الأول فمعناه ما ذكرنا ، أي هل مع ما جعل شريكاً كتاب من الله فيه أن له شفاعة عند الله ، فإن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه ، وعلى الثاني معناه أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزءاً من الأجزاء ولا في السماء شيئاً من الأشياء ، وإما بالنقل ونحن ما آتينا المشركين كتاباً فيه أمرنا بالسجود لهؤلاء ولو أمرنا لجاز كما أمرنا بالسجود لآدم وإلى جهة الكعبة ، فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية فوعد بعضهم بعضاً ليس إلا غروراً غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام.
جزء : 26 رقم الصفحة : 248
248
(1/3692)

ثم لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها ولا على جزء من الأجزاء بين أن الله قدير بقوله : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه ا إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} ويحتمل أن يقال لما بين شركهم قال مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كما قال تعالى : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية : {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} كان حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسقاط السماء وانطباق الأرض عليهم وإنما أخر إزالة السموات إلى قيام الساعة حلماً ، وتحتمل الآية وجهاً ثالثاً : وهو أن يكون ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب على تقدير التسليم أيضاً كأنه تعالى قال شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئاً ولا في السماء جزءاً ولا قدروا على الشفاعة ، فلا عبادة لهم. وهب أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمساك السموات والأرض ؟
ولا يمكنهم القول بأنهم يقدرون لأنهم ما كانوا يقولون به ، كما قال تعالى عنهم : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } ويؤيد هذا قوله : {وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه } فإذا تبين أن لا معبود إلا الله من حيث إن غيره لم يخلق من الأشياء وإن قال الكافر بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك له إنه كان حليماً غفوراً ، حليماً حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم وغفوراً يغفر لمن تاب ويرحمه وإن استحق العقاب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 248
250
ثم قال تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لَـاـاِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الامَمِا فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} .
لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا : إنما نكذب بمحمد صلى الله عليه وسلّم لكونه كاذباً ، ولو تبين لنا كونه رسولاً لآمنا كما قال تعالى عنهم : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لَـاـاِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وهذا مبالغة منهم في التكذيب ، كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول والله لو علمت أن له شيئاً علي لقضيته وزدت له ، إظهاراً لكونه مطالباً بالباطل ، فكذلك ههنا عاندوا وقالوا والله لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم فلما جاءهم نذير أي محمد صلى الله عليه وسلّم جاءهم أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفوراً ، فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين بالله وبعدها صاروا كافرين بالله ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا ، بعد الرسالة وقال بعض المفسرين : إن أهل مكة كانوا يلعنون اليهود والنصارى على أنهم كذبوا برسلهم لما جاءوهم وقالو لو جاءنا رسول لأطعناه / واتبعناه ، وهذا فيه إشكال من حيث إن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر مطلقاً ، فكيف كانوا يعترفون بالرسل ، فمن أين عرفوا أن اليهود كذبوا وما جاءهم كتاب ولولا كتاب الله وبيان رسوله من أين كان يعلم المشركون أنهم صدقوا شيئاً وكذبوا في شيء ؟
بل المراد ما ذكرنا أنهم كانوا يقولون نحن لو جاءنا رسول لا ننكره وإنما ننكر كون محمد رسولاً من حيث إنه كاذب ولو صح كونه رسولاً لآمنا وقوله : {فَلَمَّا جَآءَهُمْ} أي فلما صح لهم مجيؤه بالمعجزة ، وفي قوله : {أَهْدَى } وجهان أحدهما : أن يكون المراد أهدى مما نحن عليه وعلى هذا فقوله : {مِنْ إِحْدَى الامَمِ } للنبيين كما يقول القائل زيد من المسلمين ويدل على هذا قوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} أي صاروا أضل مما كانوا وكانوا يقولون نكون أهدى وثانيهما : أن يكون المراد أن نكون أهدى من إحدى الأمم كما يقول القائل زيد أولى من عمرو ، وفي الأمم وجهان أحدهما : أن يكون المراد العموم أي أهدى من أي إحدى الأمم وفيه تعريض وثانيهما : أن يكون المراد تعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى ومن كان في زمانهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 250
(1/3693)

ثم قال تعالى : {اسْتِكْبَارًا فِى الارْضِ} ونصبه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون حالاً أي مستكبرين في الأرض وثانيها : أن يكون مفعولاً له أي للاستكبار وثالثها : أن يكون بدلاً عن النفور وقوله : {وَمَكْرَ} إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة وتحقيقه أن يقال معناه ومكروا مكراً سيئاً ثم عرف لظهور مكرهم ، ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور ، ويحتمل أن يقال بأن المكر يستعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى : {يَرْفَعُه ا وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي يعملون السيئات ، ومكرهم السيء ، وهو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار ، ثم قال : {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه } أي لا يحيط إلا بفاعله وفي قوله : {وَلا يَحِيقُ} وقوله : {إِلا بِأَهْلِه } فوائد ، أما في قوله : {يَحِيقُ} فهي أنها تنبىء عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق وفيه من التحذير ما ليس في قوله ولا يلحق أو ولا يصل ، وأما في قوله : {بِأَهْلِه } ففيه ما ليس في قول القائل ولا يحيق المكر السيء إلا بالماكر ، كي لا يأمن المسيء فإن من أساء ومكره سيء آخر قد يلحقه جزاء على سيئة ، وأما إذا لم يكن سيئاً فلا يكون أهلاً فيأمن المكر السيء ، وأما في النفي والإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله ، فلا ينبىء عن عدم الحيق بغير أهله ، فإن قال قائل : كثيراً ما نرى أن الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك ، فنقول الجواب عنه من وجوه أحدها : أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلّم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم ، حيث قتلوا يوم بدر وغيره وثانيها : هو أن نقول المكر السيء عام وهو الأصح فإن النبي عليه السلام نهى عن المكر وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء / إلا بأهله" وعلى هذا فذلك الرجل الممكور به (لا) يكون أهلاً فلا يرد نقضاً وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك وذلك مثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ، ويبين هذا المعنى قوله تعالى : {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَ } يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها ، فيهلكون كما هلك الأولون.
جزء : 26 رقم الصفحة : 250
وقوله تعالى : {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَ } أي ليس لهم بعد هذا إلا انتظار الإهلاك وهو سنة الأولين وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله بالأولين ، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمراً عجبت من ضرب عمرو كيف ضرب مع ماله من العزم والقوة وعجبت من ضرب زيد كيف ضرب مع ماله من العلم والحكمة فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم وأضافها إلى نفسه بعدها بقوله :
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا } لأنها سنة من سنن الله ، إذا علمت هذا فنقول أضافها في الأول إليهم حيث قال : {قُل لِّلَّذِينَ} لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله ، لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظمها وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع وثانيهما : أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار ، وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقها.
المسألة الثانية : التبديل تحويل فما الحكمة في التكرار ؟
نقول بقوله : {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره ، وبقوله : {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا} حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.
المسألة الثالثة : المخاطب بقوله : {فَلَن تَجِدَ} يحتمل وجهين وقد تقدم مراراً أحدهما : أن يكون عاماً كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة الله تبديلاً والثاني : أن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا فكأنه قال : سنة الله أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب الله إيمانه ، فإذا آمن من في علم الله أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح : {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} أي تمهل الأمر وجاء وقت سنتك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 250
250
(1/3694)

ثم قال تعالى : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } .
لما ذكر أن للأولين سنة وهي الإهلاك نبههم بتذكير حال الأولين فإنهم كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم ، أما الأول فلطول أعمارهم وشدة اقتدارهم ، وأما عملهم فلأنهم لم يكذبوا مثل محمد ولا محمداً وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمداً ومن تقدمه ، وقوله تعالى : {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } قد ذكرناه في سورة الروم ، بقي فيه أبحاث :
الأول : قال هناك : {كَانُوا أَشَدَّ} من غير واو ، وقال ههنا بالواو فما الفرق ؟
نقول قول القائل : أما رأيت زيداً كيف أكرمني وأعظم منك ، يفيد أن القائل يخبره بأن زيداً أعظم ، وإذا قال : أما رأيته كيف أكرمني هو أعظم منك يفيد أنه تقرر أن كلا المعنيين حاصل عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكبر منه ولا شك أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهور مثل الأول بحيث لا يحتاج إلى إعلام من المتكلم ولا إخبار ، إذا علمت هذا فنقول المذكور ههنا كونهم أشد منهم قوة لا غير ، ولعل ذلك كان ظاهراً عندهم فقال بالواو أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قوتهم ، وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال : {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الارْضَ وَعَمَرُوهَآ} وفي موضع آخر قال : {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الارْضِ} ولعل علمهم لم يحصل بإثارتهم الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم فيما عليهم كان معلوماً عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمهم أنهم أقوى منهم ولا نزاع فيه.
وقوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِا إِنَّه كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون بياناً لهم أي أن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يعجزوه والثاني : أن يكون قطعاً لأطماع الجهال فإن قائلاً لو قال : هب أن الأولين كانوا أشد قوة وأطول أعماراً لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين / بأمور أرضية لها خواص أو كواكب سماوية لها آثار فقال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِا إِنَّه كَانَ عَلِيمًا} بأفعالهم وأقوالهم : {قَدِيرًا} على إهلاكهم واستئصالهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 250
251
ثم قال تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ} .
لما خوف الله المكذبين بمن مضى وكانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم يستعجلون بالعذاب ويقولون عجل لنا عذابنا فقال الله : للعذاب أجل والله لا يؤاخذ الله الناس بنفس الظلم فإن الإنسان ظلوم جهول ، وإنما يؤاخذ بالإصرار وحصول يأس الناس عن إيمانهم ووجود الإيمان ممن كتب الله إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب يهلكون ؟
نقول الجواب من وجوه أحدها : أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدواب أقرب النعم لأن المفرد أولاً ثم المركب والمركب إما أن يكون معدنياً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً وإما أن يكون نباتاً ، والحيوان إما إنسان وإما غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان الثاني : هو أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقاء الأشياء بالإنسان كما أن بقاء الإنسان بالأشياء وذلك لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فيبقى الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يعمر فلا تبقى الأبنية والزروع فلا تبقى الحيوانات الأهلية لأن بقاءها بحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك بالسقي والعلف الثالث : هو أن إنزال المطر هو إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات وقوله تعالى : {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} الوجه الثالث : لأن بسبب انقطاع الأمطار تموت حيوانات البر ، أما حيوانات البحر فتعيش بماء البحار.
(1/3695)

المسألة الثانية : قوله تعالى : {عَلَى ظَهْرِهَا} كناية عن الأرض وهي غير مذكورة فكيف علم ؟
نقول مما تقدم ومما تأخر ، أما ما تقدم فقوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَه مِن شَىْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ } فهو أقرب المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها ، وأما ما تأخر فقوله : {مِن دَآبَّةٍ} لأن الدواب على ظهر الأرض ، فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض / وظهر الأرض ، مع أن الوجه مقابل الظهر كالمضاد ؟
نقول من حيث إن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر يقال له ظهر الأرض ، ومن حيث إن ذلك هو المقابل للخلق المواجه لهم يقال له وجهها ، على أن الظهر في مقابلة البطن والظهر والظاهر من باب والبطن والباطن من باب ، فوجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
جزء : 26 رقم الصفحة : 251
المسألة الثالثة : في قوله تعالى : {وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى } وجوه أحدها : إلى يوم القيامة وهو مسمى مذكور في كثير من المواضع ثانيها : يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن على ما تقدم ثالثها : لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب وأجل قوم محمد صلى الله عليه وسلّم أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِه بَصِيرَا } تسلية للمؤمنين للمؤمنين ، وذلك لأنه تعالى لما قال : {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} وقال : {لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً } قال : فإذا جاء الهلاك فالله بالعباد بصير ، إما أن ينجيهم أو يكون توفيهم تقريباً من الله لا تعذيباً ، لا يقال قد ذكرت أن الله لا يؤاخذ بمجرد الظلم ، وإنما يؤاخذ حين يجتمع الناس على الضلال ونقول بأنه تعالى عند الإهلاك يهلك المؤمن فكيف هذا ، نقول قد ذكرنا أن الإماتة والإفناء إن كان للتعذيب فهو مؤاخذة بالذنب وإهلاك ، وإن كان لإيصال الثواب فليس بإهلاك ولا بمؤاخذة ، والله لا يؤاخذ الناس إلا عند عموم الكفر ، وقوله : {بَصِيرٌ} اللفظ أتم في التسلية من العليم وغيره لأن البصير بالشيء الناظر إليه أولى بالإنجاء من العالم بحالة دون أن يراه والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 251
252
الكتاب أو القرآن ولنذكر ههنا أبحاثاً :
(1/3696)

سورة يس
ثمانون وثلاث آيات مكية
جزء : 26 رقم الصفحة : 252
252
{يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} قد ذكرنا كلاماً كلياً في حروف التهجي في سورة العنكبوت وذكرنا أن في كل سورة بدأ الله فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر أو
البحث الأول : هو أن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أموراً تدل على أنها غير خالية عن الحكمة ولكن علم الإنسان لا يصل إليها بعينها فنقول ما هو الكلي من الحكمة فيها ، أما بيان أن فيها ما يدل على الحكمة فهو أن الله تعالى ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً وهي نصف ثمانية وعشرين حرفاً ، وهي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا الهمزة ألف متحركة ، ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال وتسعة أحرف أخر في آخر الحروف من الفاء إلى الياء وعشرة من الوسط من الراء إلى الغين ، وذكر من القسم الأول حرفين هما الألف والحاء وترك سبعة وترك من القسم الآخر حرفين هما الفاء والواو وذكر سبعة ، ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ، ولم يذكر من القسم الآخر من حروف الشفة إلا واحداً لم يتركه وهو الميم ، والعشر الأواسط ذكر منها حرفاً وترك حرفاً فذكر الراء وترك الزاي وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين ، وليس هذا أمراً يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة ، وأما أن عينها غير معلومة فظاهر وهب أن واحداً يدعى فيها شيئًا فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن ، وق ، وص. وبعضها بحرفين كسورة حم. ويس. وطس. وطه. وبعضها بثلاثة أحرف كسورة الم. وطسم. والر. وبعضها بأربعة كسورتي المر. والمص. وبعضها بخمسة أحرف كسورتي حمعسق. وكهيعص. وهب أن قائلاً يقول إن هذا إشارة إلى أن الكلام ، إما حرف ، وإما فعل ، وإما اسم ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق / وغيرها وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وأن للشرط وغيرها والاسم والفعل والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألو وعلا يعلو في الفعل ، والاسم والفعل جاء على أربعة ، والاسم خاصة جاء على ثلاثة وأربعة وخمسة كفجل وسجل وجردحل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه ، فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم تمام السر إلا الله ومن أعلمه الله به ، إذا علمت هذا فنقول اعلم أن العبادة منها قلبية ، ومنها لسانية ، ومنها جارحية ، وكل واحدة منها قسمان قسم عقل معناه وحقيقته وقسم لم يعلم ، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلاً ، وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعاً كالصراط الذي (هو) أرق من الشعرة وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن والموقن كالبرق الخاطف والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر وكيفيات الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي ، وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول ، وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات ، وقد ذكرنا الحكمة فيه وهي أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة لا يكون إلا آتياً بمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي به للفائدة وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك ينقلها وإن لم يؤمن/ إذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية وجب أن يكون منها ما لا يفهم معناه حتى إذا تكلم به العبد علم منه أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي فإذا قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 252
{حم } علم أنه لم يذكر ذلك لمعنى يفهمه أو يفهمه فهو يتلفظ به إقامة لما أمر به.
البحث الثاني : قيل في خصوص يس إنه كلام هو نداء معناه يا إنسان ، وتقريره هو أن تصغير إنسان إنيسين فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال : {يس } أي أنيسين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم ويدل عليه قوله تعالى بعده : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} .
البحث الثالث : قرىء يس إما بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف هو قوله هذه كأنه قال : هذه يس ، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث ، وقرىء يس إما بالنصب على معنى اتل يس وإما بالفتح كأين وكيف ، وقرىء يس بالكسر كجير لإسكان الياء وكسرة ما قبلها ولا يجوز أن يقال بالجر لأن إضمار الجار غير جائز وليس فيه حرف قسم ظاهر وقوله تعالى : {وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} أي ذي الحكمة كعيشة راضية أي ذات رضا أو على أنه ناطق بالحكمة فهو كالحي المتكلم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 252
253
وقوله تعالى : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} مقسم عليه وفيه مسائل :
(1/3697)

/ المسألة الأولى : الكفار أنكروا كون محمد مرسلاً والمطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام ؟
نقول فيه وجوه الأول : هو أن العرب كانوا يتوقون الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون إن اليمين الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك بقوله : "اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع" ثم إنهم كانوا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلّم يصيبه من آلهتهم عذاب وهي الكواكب فكان النبي صلى الله عليه وسلّم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه وبأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأناً وأمنع مكاناً فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب الثاني : هو أن المتناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المطلوب إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالك وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه صورة دليل وعجزت أنا عن القدح فيه ، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ، لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمراً إلا اليمين ، فيقول والله إني لست مكابراً وإن الأمر على ما ذكرت ولو علمت خلافه لرجعت إليه فههنا يتعين اليمين ، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلّم لما أقام البراهين وقالت الكفرة : {مَا هَـاذَآ إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ} {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} تعين التمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل الثالث : هو أن هذا ليس مجرد الحلف ، وإنما هو دليل خرج في صورة اليمين لأن القرآن معجزة ودليل كونه مرسلاً هو المعجزة والقرآن كذلك فإن قيل فلم لم يذكر في صورة الدليل ؟
وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين ؟
قلنا الدليل أن ذكره في صورة اليمين قد لا يقبل عليه سامع فلا يقبله فؤاده فإذا ابتدىء به على صورة اليمين واليمين لا يقع لا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين تشرئب إليه الأجسام ، ولكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وينفع في القلب.
جزء : 26 رقم الصفحة : 253
المسألة الثانية : كون القرآن حكيماً عندهم لكون محمد رسولاً ، فلهم أن يقولوا إن هذا ليس بقسم ، نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن كون القرآن معجزة بين إن أنكروه قيل لهم فأتوا بسورة من مثله والثاني : أن العاقل لا يثق بيمين غيره إلا إذا حلف بما يعتقد عظمته ، فالكافر إن حلف بمحمد لا نصدقه كما نصدقه لو حلف بالصليب والصنم ، ولو حلف بديننا الحق لا يوثق بمثل ما يوثق به لو حلف بدينه الباطل وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يعظمون القرآن فحلفه به هو الذي يوجب ثقتهم به.
جزء : 26 رقم الصفحة : 253
253
وقوله تعالى : {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر أي إنك على صراط مستقيم والمستقيم / أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد والدين كذلك فإنه توجه إلى الله تعالى وتولى عن غيره والمقصد هو الله والمتوجه إلى المقصد أقرب إليه من المولى عنه والمتحرف منه ولا يذهب فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم على صراط مستقيم مميز له عن غيره كما يقال إن محمداً من الناس مجتبى لأن جميع المرسلين على صراط مستقيم ، وإنما المقصود بيان كون النبي صلى الله عليه وسلّم على الصراط المستقيم الذي يكون عليه المرسلون وقوله : {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحية الذين يقولون المكلف يصير واصلاً إلى الحق فلا يبقى عليه تكليف وذلك من حيث إن الله بين أن المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون سائحون مهتدون منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز.
جزء : 26 رقم الصفحة : 253
254
(1/3698)

وقوله تعالى : {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} قرىء بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه قال : {وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ} وقرىء بالنصب وفيه وجهان أحدهما : أنه مصدر فعله منوي كأنه قال نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر ويكون تقديره نزل القرآن أو الكتاب الحكيم والثاني : أنه مفعول فعل منوي كأنه قال والقرآن الحكيم أعني تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر ، وهذا ما اختاره الزمخشري وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ منوي كأنه قال هذا تنزيل العزيز الرحيم لتنذر ويحتمل وجهاً آخر على هذه القراءة وهو أن يكون مبتدأ خبره لتنذر كأنه قال تنزيل العزيز للإنذار وقوله : {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى أن الملك إذا أرسل رسولاً فالمرسل إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويهينوا المرسل وحينئذٍ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً أو يخافوا المرسل ويكرموا المرسل وحينئذٍ يرحمهم الملك ، أو نقول المرسل يكون معه في رسالته منع عن أشياء وإطلاق لأشياء فالمنع يؤكد العزة والإطلاق يدل على الرحمة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 254
255
وقوله تعالى : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـافِلُونَ} .
قد تقدم تفسيره في قوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} وقيل المراد الإثبات وهو على وجهين أحدهما : لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ، فتكون ما مصدرية الثاني : أن تكون موصولة معناه : لتنذر قوماً الذين أنذر آباؤهم فهم غافلون ، فعلى قولنا ما نافية تفسيره ظاهر فإن من لم ينذر آباؤه وبعد الإنذار عنه فهو يكون غافلاً ، وعلى قولنا هي للإثبات كذلك لأن معناه لتنذرهم إنذار آبائهم فإنهم غافلون ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كيف يفهم التفسيران وأحدهما يقتضي أن لا يكون آباؤهم منذرين والآخر يقتضي أن يكونوا منذرين وبينهما تضاد ؟
نقول على قولنا ما نافية معناه ما أنذر آباؤهم وإنذار آبائهم الأولين لا ينافي أن يكون المتقدمون من آبائهم منذرين والمتأخرون منهم غير منذرين.
/ المسألة الثانية : قوله : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} يقتضي أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلّم مأموراً بإنذار اليهود لأن آباءهم أنذروا ، نقول ليس كذلك ، أما على قولنا ما للإثبات لا للنفي فظاهر ، وأما على قولنا هي نافية فكذلك ، وقد بينا ذلك في قوله تعالى : {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} وقلنا إن المراد أن آباءهم قد أنذروا بعد ضلالهم وبعد إرسال من تقدم فإن الله إذا أرسل رسولاً فما دام في القوم من يبين دين ذلك النبي ويأمر به لا يرسل الرسول في أكثر الأمر ، فإذا لم يبق فيهم من يبين ويضل الكل ويتباعد العهد ويفشو الكفر يبعث رسولاً آخر مقرراً لدين من كان قبله أو واضعاً لشرع آخر ، فمعنى قوله تعالى : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} أي ما أنذروا بعد ما ضلوا عن طريق الرسول المتقدم واليهود والنصارى دخلوا فيه لأنهم لم تنذر آباؤهم الأدنون بعد ما ضلوا ، فهذا دليل على كون النبي صلى الله عليه وسلّم مبعوثاً بالحق إلى الخلق كافة.
المسألة الثالثة : قوله : {فَهُمْ غَـافِلُونَ} دليل على أن البعثة لا تكون إلا عند الغفلة ، أما إن حصل لهم العلم بما أنزل الله بأن يكون منهم من يبلغهم شريعة ويخالفونه فحق عليهم الهلاك ولا يكون ذلك تعذيباً من قبل أن يبعث الله رسولاً ، وكذلك من خالف الأمور التي لا تفتقر إلى بيان الرسل يستحق الإهلاك من غير بعثة ، وليس هذا قولاً بمذهب المعتزلة من التحسين والتقبيح العقلي بل معناه أن الله تعالى لو خلق في قوم علماً بوجوب الأشياء وتركوه لا يكونون غافلين فلا يتوقف تعذيبهم على بعثة الرسل.
جزء : 26 رقم الصفحة : 255
256
ثم قال تعالى : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
(1/3699)

لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار ، أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلّم ليس عليه الهداية المستلزمة للاهتداء ، وإنما عليه الإنذار وقد لا يؤمن من المنذرين كثير وفي قوله تعالى : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} وجوه الأول : وهو المشهور أن المراد من القول هو قوله تعالى : {لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} ، الثاني : هو أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وأن هذا لا يؤمن فقال في حق البعض أنه لا يؤمن ، وقال في حق غيره أنه يؤمن {حَقَّ الْقَوْلُ} أي وجد وثبت بحيث لا يبدل بغيره الثالث : هو أن يقال المراد منه لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبأن برهانه فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك لأن من يتوقف لاستماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان ، فإذا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن من أكثرهم فأكثرهم تبين أنهم لا يؤمنون لمضي وقت رجاء الإيمان ولأنهم لما لم يؤمنوا عندما حق القول واستمروا فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العيان / وعند العيان لا يفيد الإيمان ، وقوله : {عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ} على هذا الوجه معناه أن من لم تبلغه الدعوة والبرهان قليلون فحق القول على أكثر من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر فإن أكثر الكفار ماتوا على الكفر ولم يؤمنوا {وَجْهَ} وهو أن يقال لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثرهم فهم لا يؤمنون وهو قريب من الأول.
جزء : 26 رقم الصفحة : 256
256
ثم قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} .
لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال : {إِنَّا جَعَلْنَا} وفيه وجوه أحدها : أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} والثاني : أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد ، فرآه ساجداً فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه. والثالث : وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام ؟
نقول الوجه الأول : له مناسبة وهي أن قوله تعالى : {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} يدخل فيه أنهم لا يصلون كما قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } أي صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا فكأنه قال لا يصلون ولا يزكون ، وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية وهي أنه لما قال : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ} وذكرنا أن المراد به البرهان قال بعد ذلك بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلاً والتفسير هو الوجه الثالث.
المسألة الثانية : قوله : {فَهِىَ} راجعة إلى ماذا ؟
نقول فيها وجان أحدهما : أنها راجعة إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة في الغل إلى عنقه وثانيهما : وهو ما اختاره الزمخشري أنها راجعة إلى الأغلال ، معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه.
المسألة الثالثة : كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سداً ومن خلفه سداً فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهيده النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعاً كالمغلول الذي يجعل ممنوعاً من إبصار الطريق الحسي ، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق / عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطىء رأسه ولا يحركه تحريك المصدق ، ويصدق هذا قوله : {مُّقْمَحُونَ} فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ} لا يخضعون الرقاب لأمر الله.
جزء : 26 رقم الصفحة : 256
257
وعلى هذا فقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} .
(1/3700)

يكون متمماً لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان. إما باتباع الرسول أولاً فتلوح له الحقائق ثانياً وإما بظهور الأمور أولاً واتباع الرسول ثانياً ، ولا يتبعون الرسول أولاً لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانياً ، ولا يظهر لهم الحق أولاً لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانياً وفيه وجه آخر : وهو أن يقال المانع ، إما أن يكون في النفس ، وإما أن يكون خارجاً عنها ، ولهم المانعان جميعاً من الإيمان ، أما في النفس فالغل ، وأما من الخارج فالسد ، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه ، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ} {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق ، وفي تفسير قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} مسائل :
المسألة الأولى : السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة {مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} فلا يقدرون على السلوك ، وأما السد من خلفهم ، فما الفائدة فيه ؟
فنقول الجواب عنه من وجوه الأول : هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : {جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم} فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني : هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من / المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله الثالث : هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله : {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} إشارة إلى إهلاكهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 257
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فكيف ذلك ؟
فنقول ذلك من وجهين أحدهما : أن يكون ذلك بياناً لأمور مترتبة يكون بعضها سبباً للبعض فكأنه تعالى قال : {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا} فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم {وَجَعَلْنَا مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذٍ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى ا أَبْصَـارِهِمْ غِشَـاوَةٌا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فلا يبصرون شيئاً أصلاً وثانيهما : هو أن ذلك بيان لكون السد قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئاً/ أما غير السد فللحجاب ، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريباً من العين جداً.
المسألة الثالثة : ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه ؟
فنقول ، أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر ، وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة ، لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك ، فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سداً ووجه آخر : أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سبباً للإغشاء كان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئاً ، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد ، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة ، وغير ضال.
جزء : 26 رقم الصفحة : 257
259
(1/3701)

ثم إنه تعالى بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغل والسد والإغشاء والإعماء. بقوله تعالى : {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين ، فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار ؟
نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ} وما قال سواء / عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلاً وسعادته آجلاً ، وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي صلى الله عليه وسلّم ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار.
جزء : 26 رقم الصفحة : 259
260
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِا فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : قال من قبل : {لِتُنذِرَ} وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال : {إِنَّمَا تُنذِرُ} وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما ؟
نقول من وجوه : الأول : هو أن قوله : {لِتُنذِرَ} أي كيفما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن وقوله : {إِنَّمَا تُنذِرُ} أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني : هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال ، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه : ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك الثالث : هو أن نقول قوله : {لِتُنذِرَ} أي أولاً فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى ، فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك الرابع : وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول ، وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن.
جزء : 26 رقم الصفحة : 260
المسألة الثانية : قوله : {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} يحتمل وجوهاً الأول : وهو المشهور من اتبع القرآن الثاني : من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} فما جعل القرآن نفس الذكر الثالث : من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه : إنما تنذر العلماء الذين يخشون وهو كقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } وكقوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} فقوله : {اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي آمن ، وقوله : {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ} أي عمل صالحاً وهذا الوجه يتأيد بقوله : {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لأنا ذكرنا مراراً أن الغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل كما قال تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام ، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى : {وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} وقوله : {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ} فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل / لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة : هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } حتى قال بعض الأئمة : هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبىء عن الهيبة والرحمن ينبىء عن العاطفية فقال في موضع يرجو الله ، وقال ههنا : {وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ} يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه ، وقوله : {بِالْغَيْبِ } يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة ، والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة ، وقيل إن الوحدانية تدخل فيه ، وقوله : {فَبَشِّرْهُ} فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة فإن النبي صلى الله عليه وسلّم بشير ونذير وقد ذكر أنه أرسل لينذر وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر/ فقال بشر : كما أنذرت ونفعت ، وقوله : {بِمَغْفِرَةٍ} على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ويظهر عليه أنوار الروح الزكية {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي ذي كرم ، وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله : {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وفي قوله : {رِزْقًا كَرِيمًا} .
(1/3702)

جزء : 26 رقم الصفحة : 260
260
ثم قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُم وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} .
في الترتيب وجوه أحدها : أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر وثانيها : وهو أن الله تعالى لما ذكر الاتذار والبشارة بقوله : {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم ير في الدنيا فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين وثالثها : أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : {إِنَّا نَحْنُ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبراً كقول القائل :
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومثل هذا يقال عند الشهرة العظيمة ، وذلك لأن من لا يعرف يقال له من أنت ؟
فيقول : أنا ابن فلان فيعرف ومن يكون مشهوراً إذا قيل له من أنت يقول أنا أي لا معرف لي أظهر من نفسي فقال : إنا نحن معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى وثانيهما : أن يكون الخبر {نُحْىِ} كأنه قال إنا نحيي الموتى ، و{نَحْنُ} يكون تأكيداً والأول أولى.
/ المسألة الثانية : إنا نحن فيه إشارة إلى التوحيد لأن الاشتراك يوجب التمييز بغير النفس فإن زيداً إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال أنا زبد لم يحصل التعريف التام ، لأن للسامع أن يقول : أيما زيد ؟
فيقول ابن عمرو ولو كان هناك زيد آخر أبوه عمرو لا يكفي قوله ابن عمرو ، فلما قال الله : {إِنَّا نَحْنُ} أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى تقول أنا كذا فنمتاز ، وحينئذٍ تصير الأصول الثلاثة مذكورة ؛ الرسالة والتوحيد والحشر.
المسألة الثالثة : قوله : {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا } فيه وجوه أحدها : المراد ما قدموا وأخروا فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} والمراد والبرد أيضاً وثانيها : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة وهو كما قال تعالى : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بما قدمت في الوجود على غيره وأوجدته وثالثها : نكتب نيانهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم على هذا الوجه.
جزء : 26 رقم الصفحة : 260
المسألة الرابعة : وآثارهم فيه وجوه الأول : آثارهم أقدامهم فإن جماعة من أصحابه بعدت دورهم عن المساجد فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وسلّم : "إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم" والثاني : هي السنن الحسنة ، كالكتب المصنفة والقناطر المبنية ، والحبائس الدارة ، والسنن السيئة كالظلمات المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة ، وآلات الملاهي وأدوات المناهي المعمولة الباقية ، وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلّم : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" فما قدموا هو أفعالهم وآثارهم أفعال الشاكرين فبشرهم حيث يؤاخذون بها ويؤجرون عليها والثالث : ما ذكرنا أن الآثار الأعمال وما قدموا النيات فإن النية قبل العمل.
(1/3703)

المسألة الخامسة : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيق قال : نحيي ونكتب ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم نقول الكتابة معظمة لأمر الإحياء لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره/ فلهذا قدم الإحياء ولأنه تعالى لما قال : {إِنَّا نَحْنُ} وذلك يفيد العظمة والجبروت ، والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم وقوله : {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون ذلك بياناً لكون ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لا يبدل ، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال : {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا } بين أن قبل ذلك كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوه كتب عليهم أنهم فعلوه وثانيها : أن يكون ذلك مؤكداً لمعنى قوله : {وَنَكْتُبُ} لأن من يكتب شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال : نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهذا كقوله تعالى : {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـابٍا لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} وثالثها : أن يكون ذلك تعميماً بعد / التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه ، بل كل شيء محصي في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله ولا يفوته ، وهذا كقوله تعالى : {وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء فعلوه مكتوب ، وقوله : {أَحْصَيْنَـاهُ} أبلغ من كتبناه لأن من كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده فقال : هو محصي فيه وسمي الكتاب إماماً لأن الملائكة يتبعونه فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه وقيل هو اللوح المحفوظ ، وإمام جاء جمعاً في قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ } أي بأئمتهم وحينئذٍ فإمام إذا كان فرداً فهو ككتاب وحجاب وإذا كان جمعاً فهو كجبال وحبال والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهراً للملائكة ما يفعلون وللناس ما يفعل بهم وهو الفارق يفرق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 260
261
ثم قال تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} .
وفيه وجهان ، والترتيب ظاهر على الوجهين الوجه الأول : هو أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلاً والثاني : أن يكون المعنى واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية وعلى الأول نقول لما قال الله : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقال : {لِتُنذِرَ} قال قل لهم : {مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ} بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة ، وعلى الثاني نقول لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب هليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلاً ، أي مثل لهم عند نفسك مثلاً حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء ، وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤا قرية وأنت بعثت إلى العالم ، وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : ما معنى قول القائل ضلاب مثلاً ؟
وقوله تعالى : {وَاضْرِبْ} مع أن الضرب في اللغة ، إما إمساس جسم جسماً بعنف ، وإما السير إذا قرن به حرف في كقوله تعالى : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارْضِ} ؟
نقول قوله ضرب مثلاً معناه مثل مثلاً ، وذلك لأن الضرب اسم للنوع يقال هذه الأشياء من ضرب واحد أي اجعل هذا وذاك من ضرب واحد.
المسألة الثانية : أصحاب القرية ، معناه واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} هذا قول الزمخشري في الكشاف ، ويحتمل أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً أو مثل أصحاب القرية بهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 261
(1/3704)

المسألة الثالثة : إذ جاءها المرسلون ، إذ منصوبة لأنها بدل من أصحاب القرية كأنه قال تعالى : / {وَاضْرِبْ لَهُم} وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت مجيئك ، وهذا أيضاً قول الزمخشري وعلى قولنا إن هذا المثل مضروب لنفس محمد صلى الله عليه وسلّم تسلية فيحتمل أن يقال إذا ظرف منصوب بوقهل : {وَاضْرِبْ} أي اجعل الضرب ، كأنه حين مجيئهم وواقع فيه ، والقرية أنطاكية والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلّم وهم ثلاثة كما بين الله تعالى وقوله : {إِذْ أَرْسَلْنَآ} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون إذ أرسلنا بدلاً من إذ جاءها كأنه قال الضرب لهم مثلاً ، إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثين وثانيهما : وهو الأصح والأوضح أن يكون إذ ظرفاً والفعل الواقع فيه جاءها أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما جاءوهم حيث أمروا ، وهذا فيه لطيفة : وهي أن في الحكاية أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وأنت رسول الله فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : {إِذْ أَرْسَلْنَآ} وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول ، وهذا على قولنا : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا} ضرب المثل لأجل محمد صلى الله عليه وسلّم ظاهر.
الفائدة الأولى : وجوب النظر والاستدلال/ وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة ، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ، ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع ، لأن السماع صار قدراً مشتركاً بين الكل ، لأن قوله : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} يدل على أن السماع قدر مشترك فيه ، فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل ، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال.
الفائدة الثانية : أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان : أحدهما : إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل ، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل والثاني : أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا ، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول. مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم ، أولى من إنكار ذلك ، فكان ذلك المذهب أولى ، والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته ، وأيضاً الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضاً مؤلفاً ، وأيضاً القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه اليهما ، وأيضاً القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة ، وكل هذه الأبواب تدخل تحت قوله : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا } فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات.
جزء : 26 رقم الصفحة : 261
وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين : منها ما يكون من أبواب العبادات ، ومنها ما يكون من أبواب المعاملات ، فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر وتكون النية فيها مقارنة للتكبير ، ويقرأ فيها سورة الفاتحة ، ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ، ويقرأ فيها التشهد ، ويخرج منها بقوله السلام عليكم ، فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال ، وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة ، وأن يترك ما سواها ، وكذلك القول في جميع أبواب العبادات. وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو ، ولكنه ندب إلى العفو فقال : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وعن ابن عباس / أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء ، فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه.
(1/3705)

واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال : { أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَ أولئك هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ} وفي ذلك دقيقة عجيبة ، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث ، ولا بد له من فاعل وقابل. أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله : { أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه } وأما القابل فإليه الإشارة بقوله : {وَ أولئك هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه. وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو الله ، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل ، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سبباً لرجحان أحد الطرفين ، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية/ امتنع أن تصير ذات الجسم سبباً لرجحان أحد الطرفين على الآخر ، فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان ، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين ، فتصير تلك الإرادة سبباً لذلك الرجحان ، فنقول هذا باطل ، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة ، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة ، فيمتنع كون جوهر النفس سبباً لتلك الإرادة ، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل : فيمتنع أن يكون هو النفس ، بل الفاعل هو الله تعالى وأما القابل : فهو جوهر النفس ، فلهذا السبب قال : { أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَ أولئك هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ} ثم قال : {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ} وفيه مسائل :
جزء : 26 رقم الصفحة : 261
261
في بعثة الأثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى والإتيان بما أمر الله ، والله عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده ، وأما عيسى فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة.
وقوله : {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوينا وقرىء فعززنا بثالث مخففاً ، من عز إذا غلب فكأنه قال فغلبنا نحن وقهرنا بثالث والأول أظهر وأشهر وترك المفعول حيث لم يقل فعززناهما لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : النبي صلى الله عليه وسلّم بعث رسله إلى الأطراف واكتفى بواح دوعسى عليه السلام بعث اثنين ، نقول النبي بعث لتقرير الفروع وهو دون الأصل فاكتفى بواحد فإن خبر الواحد في الفروع مقبول ، وأما هما فبعثنا بالأصول وجعل لهما معجزة تفيد اليقين وإلا لما كفى إرسال اثنين أيضاً ولا ثلاثة.
المسألة الثانية : قال الله تعالى لموسى عليه السلام {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} (القصص : 35) فذكر المفعول هناك ولم يذكره ههنا مع أن المقصود هناك أيضاً نصرة الحق ، نقول موسى عليه السلام كان أفضل من هارون/ وهارون بعث معه بطلبه حيث قال : {فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ} (القصص : 34) فكان هارون معبوثاً ليصدق موسى فيما يقول ويقوم بما يأمره ، وأما هما فكل واحد مستقل ناطق بالحق فكان هناك المقصود تقوية موسى وإرسال من يؤنس معه وهو هارون ، وأما ههنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق.
جزء : 26 رقم الصفحة : 261
261
(1/3706)

ثم بين الله ما جرى منهم وعليهم مثل ما جرى من محمد صلى الله عليه وسلّم وعليه فقالوا : {إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} (يس : 14) كما قال : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس : 3) وبين ما قال القوم بقوله : {قَالُوا مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ} جعلوا كونهم بشراً مثلهم دليلاً على عدم الإرسال ، وهذا عام من المشركين قالوا في حق محمد : {عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن } (ص : 8) وإنما ظنوه دليلاً بناءً على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار ، وإنما قالوا فيه أنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان ، والله تعالى رد عليهم قولهم بقوله : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) وبقوله : {اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} (الشورى : 13) إلى غير ذلك ، وقوله : {وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ} يحتمل وجه أحدهما : أن يكون متمماً لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة ، ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند الله وما أنزل الله إليكم أحداً ، فكيف صرتم رسلاً لله ؟
ثانيهما : أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين ، ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل ، وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم ، فإنه تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم ، فالله تعالى لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم ، وقوله : {الرَّحْمَـانَ} إشارة إلى الرد عليهم ، لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة ، فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن ، فقال إنهم قالوا : ما أنزل الرحمن شيئاً ، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئاً ، هو الرحمة الكاملة.
ثم قال تعالى : {إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا كاذبين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 261
262
إشارة إلى أنه بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا ، بل أعادوا ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وأكدوه باللام ، لأن يعلم الله يجري مجرى القسم ، لأن من يقول يعلم الله فيما لا يكون قد نسب الله إلى الجهل وو سبب العقاب ، كما أن الحنث سببه ، وفي قوله : {رَبُّنَا يَعْلَمُ} إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر ، وذلك لأن الله إذا كان يعلم أنهم لمرسلون ، يكون كقوله تعالى : / {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) يعني هو عالم بالأمور وقادر ، فاختارنا بعلمه لرسالته. ثم قال :
جزء : 26 رقم الصفحة : 262
262
تسلية لأنفسهم ، أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثاً على النظر ، فإنهم لما قولوا : {وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ} كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجراً ولا قصدوا رياسة ، وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر ، وذلك مما يحمل العاقل على النظر و{الْمُبِينُ} يحتمل أموراً أحدها : البلاغ المبين للحق عن الباطل ، أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها : البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل ، أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها : البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن ، فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك.
جزء : 26 رقم الصفحة : 262
263
ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب ، فلما قال المرسلون : {إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} (يس : 14) قالوا : {إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} (يس : 15) ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا : {رَبُّنَا يَعْلَمُ} (يس : 16) أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين ، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب ، حالفين مقسمين عليه ، و"اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع" فتشاءمنا بكم ثانياً ، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا : {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقوله لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما : لنشتمنكم منا لرجم بالقول وعلى هذا فقوله : {وَلَيَمَسَّنَّكُم} ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم ، بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي وثانيهما : أن يكون المراد الرجم بالحجارة ، وحينئذٍ فقوله : {وَلَيَمَسَّنَّكُم} بيان للرجم ، يعني ولا يكون الرجم رجماً قليلاً نرجمكم بحجر وحجرين ، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم ، ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم ، وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى لمؤلم ، والفعيل معنى مفعل قليل ، ويحتمل أني قال هو من باب قوله : {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) أي ذات رضا ، فالعذاب الأليم هو ذو ألم ، وحينئذٍ يكون فعيلاً بمعنى فاعل وهو كثير.
(1/3707)

جزء : 26 رقم الصفحة : 263
263
ثم أجابهم المرسلون بقولهم : {قَالُوا طَـا اـاِرُكُم مَّعَكُمْ } أي شؤمكم معكم وهو الكفر.
ثم قالوا : {أَاـاِن ذُكِّرْتُم } جواباً عن قولهم : {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} يعني أتفعلون بنا ذلك ، وإن ذكرتم أي بين لكم الأمر بالمعجز والبرهان {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} حيث تجعلون من يتبرك به كمن/يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب في حقه الإكرام أو (مسرفون) حيث تكفرون ، ثم تصرون بعد ظهور الحق بالمعجز والبرهان ، فإن الكافر مسيء فإذا تم عليه الدليل وأوضح له السبيل ويصر يكون مسرفاً ، والمسرف هو المجاوز الحد بحيث يبلغ الضد وهم كانوا كذلك في كثير من الأشياء ، أما في التبرك والتشاؤم فقد علم وكذلك في الإيلام والإكرام ، وأما في الكفر فلأن الواجب اتباع الدليل ، فإن لم يوجد به فلا أقل من أن لا يجزم بنقيضه وهم جزموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان ، فإن قيل بل للإضرار فما الأمر المضرب عنه ؟
نقول يحتمل أن يقال قوله : {أَاـاِن ذُكِّرْتُم } وارد على تكذيبهم ونسبتهم الرسل إلى الكذب بقولهم : {إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} (يس : 15) فكأنهم قالوا : أنحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان ، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مشؤومون ، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه ، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أني قال أنحن مشؤومون ، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه ، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مستحقون للرجم والإيلام ، وإن بينا صحة ما أتينا به ، لا بل أنتم قوم مسرفون وأما الحكاية فمشهورة ، وهي أن عيسى عليه السلام بعث رجلين إلى أنطاكية فدعيا إلى التوحيد وأظهرا المعجزة من إبراء الأمة والأبرص وإحياء الموتى فحسبهما الملك ، فأرسل بعدهما شمعون فأتى الملك ولم يدع الرسالة ، وقرب نفسه إلى الملك بحسن التدبير ، ثم قال له : إني أسمع أن في الحبس رجلين يدعيان أمراً بديعاً ، أفلا يحضران حتى نسمع كلامهما ؟
قال الملك : بلى ، فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقة ، فقال لهما شمعون : فهل لكما بينة ؟
قالا : نعم ، فأبرآ الأكمة والأبرص وأحييا الموتى ، فقال شمعون : أيها الملك ، إن شئت أن تغلبهم ، فقال للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك ، قال الملك : أنت لا يخفى عليك أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تقدر ولا تعلم ، فقال شمعون : فإذن ظهر الحق من جانبهم ، فآمن الملك وقوم وكفر آخرون ، وكانت الغلبة للمكذبين. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 263
265
وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي ، وعلى هذا فقوله : {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} فيه بلاغة باهرة ، وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل وهو قد آمن دل على أن إذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة وثانيهما : أن ضرب المثل لما كان لمحمد صلى الله عليه وسلّم تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعى المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا ، ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد ، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفي التفسير مسائل.
المسألة الأولى : قوله : {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان الأولى : أن يكون تعظيماً لشأنه أي رجل كامل في الرجولية/ : الثانية : أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا ، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام وقد آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم قبل وجوده حيث صار من العلماء بكتاب الله ، ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلّم وبعثته.
(1/3708)

المسألة الثانية : قوله : {يَسْعَى } تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم ، وقد ذكرنا فائدة قوله : {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة والمدينة هي أنطاكية ، وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى : {قَالَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} فيه معان لطيفة الأول : في قوله : {عَلَيْهِ قَوْمٌ} فإنه ينبىء عن إشفاق عليهم وشفقة فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله : {عَلَيْهِ قَوْمٌ} يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيراً ، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون {ءَامَنَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُونِ} (غافر : 38) فإن قيل قال هذا الرجل {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وقال ذلك {اتَّبِعُونِ} فما الفرق ؟
نقول هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته ، فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل ، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مراراً فقال اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام ، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول أنتم تعلمون اتباعي لهم الثاني : جمع بين إظهار النصحية وإظهار إيمانه فقوله : {اتَّبِعُوا } نصحية وقوله : {الْمُرْسَلِينَ} إظهار أنه آمن الثالث : قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصح ، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله : {رَجُلٌ يَسْعَى } يدل على كونه مريداً للنصح وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول : "اللهم اهد قومي". ثم قال : تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 265
267
وهذا في غاية الحسن وذلك من حيث إنه لما قال : {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة ، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه ، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين ، إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة ، وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق ، لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق ، فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين ، أليسوا بمهتدين ، فاتبعوهم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 267
267
ثم قال تعالى : }وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني} لماق ال : وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني} لماق ال : لماق ال : {وَهُم مُّهْتَدُونَ} (يس : 21) بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القويم ، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع وفيه لطائف : الأولى قوله : {مَالِيَ} أي مالي مانع من جانبي. إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه ، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم/ عبدته ، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية : وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم ، لم يكن في البيان مثل قوله : لأنه لما قال : وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع ، وأما لو قال : (مالكم) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه ، فإن قيل قال الله : {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح : 13) نقول القائل هناك غير مدعو ، وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال : ومالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية : قوله : {الَّذِى فَطَرَنِى} إشارة إلى وجود المقتضى فإن قوله : إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى ، فقوله : {عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى } ينبىء عن الاقتضاء ، فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة : قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن نتقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة : اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال : {لِىَ لا أَعْبُدُ} بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه ، وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 267
(1/3709)

واعلم أن المشهور في قوله : {فَطَرَنِى} خلقني اختراعاً وابتداعاً ، والغريب فيه أن يقال : فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال الله تعالى : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم : 30) وعلى هذا فقوله : {لِىَ لا أَعْبُدُ} أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله : {فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ} (الأنعام : 14) فنقول قد قيل بأن فاطر السموات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السموات على فطرتها والأول من التفسير أظهر.
وقوله تعالى : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال : {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } (الأعراف : 56) وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضاً معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مراراً فالأول : عابد يعبد الله ، لكونه إلهاً مالكاً سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم ، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني : عابد يعبد/ الله للنعمة الواصلة إليه والثالث : عابد يعبد الله خوفاً مثال الأول من يخدم الجواد/ ومثال الثاني من يخدم الغاشم فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى وقال : {لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى} أي هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ولأنظر إلى أن لا يعذبني وجعلهم دون ذلك فقال : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه ، ولهذا لم يقل وإليه أرجع كما قال فطرني لأنه صار عابداً من القسم الأول فرجوعه إلى الله لا يكن إلا للإكرام وليس سبب عبادته ذلك بل غيره.
جزء : 26 رقم الصفحة : 267
267
ثم قال تعالى : {ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِه ءَالِهَةً} ليتم التوحيد ، فإن التوحيد بين التعطيل والإشراك ، فقال : ومالي لا أعبد إشارة إلى وجود الإله وقال : {مِن دُونِه ءَالِهَةً} إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله ، وفي الآية أيضاً لطائف الأولى : ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر ، وذلك أن من أخبر من شيء فقال مثلاً لا أتخذ يصح من السامع أن يقول له لم لا تتخذ فيسأله عن السبب ، فإذا قال : أأتخذ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار ، كأنه يقول استشرتك فدلني والمتشار يتفكر ، فكأنه يقول تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني الثانية : قوله من دونه وهي لطيفة عجيبة : وبيانها هو أنه لما بين أنه يعبد الله بقوله : {الَّذِى فَطَرَنِى} (يس : 22) بين أن من دونه لا تجوز عبادته فإن عبد غير الله وجب عبادة كل شيء مشارك للمعبود الذي اتخذ غير الله ، لأن الكل محتاج مفتقر حادث ، فلو قال لا أتخذ آلهة لقيل له ذلك يختلف إن اتخذت إلهاً غير الذي فطرك ، ويلزمك عقلاً أن تتخذ آلهة لا حصر لها ، وإن كان إلهك ربك وخالقك فلا يجوز أن تتخذ آلهة الثالثة : قوله : إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله ، ولهذا قال تعالى : {مَا اتَّخَذَ صَـاحِبَةً وَلا وَلَدًا} (الجن : 3) وقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (الإسراء : 111) لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز ، وإنما النصارى قالوا : تبنى الله عيسى وسماه ولداً فقال : {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (الفرقان : 2) ولا يقال قال الله تعالى : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} في حق الله تعالى حيث قال : {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} (المزمل : 9) نقول ذلك أمر متجدد ، وذلك لأن الإنسان في أول الأمر يكون قليل الصبر ضعيف القوة ، فلا يجوز أن يترك أسباب الدنيا ويقول إني أتوكل فلا يحسن من الواحد منا أن لا يشتغل بأمر أصلاً ويترك أطفاله في ورطة الحاجة ولا يوصل إلى أهله نفقتهم ويجلس في مسجد وقلبه متعلق بعطاء زيد وعمرو ، فإذا قوي بالعبادة قلبه ونسي نفسه فضلاً عن غيره وأقبل على عبادة ربه بجميع قلبه وترك الدنيا وأسبابها وفوض أمره إلى الله حينئذٍ يكون من الأبرار الأخيار ، فقال الله لرسوله : أنت علمت أن الأمور كلها بيد الله وعرفت الله حق المعرفة وتيقنت أن المشرق والمغرب ، وما فيهما وما يقع بينهما بأمر الله ، ولا إله يطلب لقضاء/ الحوائج إلا هو فاتخذه وكيلاً ، وفوض جميع أمورك إليه فقد ارتقيت عن درجة من يؤمر بالكسب الحلال وكنت من قبل تتجر في الحلال ومعنى قوله : {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} أي في جميع أمورك وقوله تعالى : {لا تُغْنِ عَنِّى} يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون كالوصف كأنه قال : أأتخذ آلهة غير مغنية عند إرادة الرحمن بي ضراً وثانيهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً كأنه قال لا أتخذ من دونه آلهة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 267
ثم قال تعالى : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا وَلا يُنقِذُونِ} وفيه مسائل :
(1/3710)

المسألة الأولى : قال : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ} ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضراً ، وكذلك قال تعالى : {إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه } (الزمر : 38) ولم يقل إن أراد الله بي ضراً ، نقول الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم ذهب به وخرج به/ ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً ؟
كيف حال فلان : يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة فإذا قال كيف كرامة الملك ؟
يقول : اختصها بزيد فيجعل المسؤول مفعولاً بغير حرف لأنه هو المقصود إذا علمت هذا فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء ، وليس الضر بمقصود بيانه ، كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناءً على إيمانه بحكم وعد الله ويؤيد هذا قوله من قبل {الَّذِى فَطَرَنِى} (يس : 22) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فكذلك جلعها مفعول الإرارة وذكر الضر وقع تبعاً وكذا القول في قوله تعالى : {إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ} (الزمر : 38) المقصود بيان أن يكون كما يريد الله وليس الضر بخصوصه مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه } (الزمر : 36) يعني هو تحت إرادته ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى : {قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُواءًا} (الأحزاب : 17) حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرف السوء وهو كالضر والمفعول بحرف هو المكلف ، وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلاً له ، وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم فجعل الضر مقصوداً بالذكر لزجرهم ، فإن قيل فقد ذكر الله الرحمة أيضاً حيث قال : {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } (الأحزاب : 17) نقول المقصود ذلك ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (الأحزاب : 17) وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر ، وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى : {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِم قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ} (الفتح : 11) فإن الكلام أيضاً مع الكفار وذكر النفع وقع تبعاً لحصر الأمر بالتقسيم ، ويدل عليه قوله تعالى : {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا } (الفتح : 11) فإنه للتخويف ، وهذا كقوله تعالى : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (سبأ : 24) ، والمقصود إني على هدى وأنتم في ضلال ، ولو قال هكذا لمنع فقال بالتقسيم كذلك ههنا/المقصود الضر واقع بكم ولأجل دفع المانع قال الضر والنفع.
جزء : 26 رقم الصفحة : 267
(1/3711)

المسألة الثانية : قال ههنا : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ} وقال في الزمر : {إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ} (الزمر : 38) فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع ههنا وذكر المريد باسم الرحمن هنا وذكر المريد باسم الله هناك ؟
نقول أما الماضي والمستقبل فإن إن في الشرط تصير الماضي مستقبلاً وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله : وقوله : {وَمَا لِىَ لا أَعْبُدُ} (يس : 22) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله : {أَفَرَءَيْتُمُ} (الزمر : 38) وكذلك في قوله تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} (الأنعام : 17) لكون المتقدم عليه مذكوراً بصيغة المستقبل وهو قوله : {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} (الأنعام : 16) وقوله : {إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} (الأنعام : 15) والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلّم بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال صدر منكم التخويف ، وهذا ما سبق منكم ، وههنا ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير ، والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران ، وأما قوله هناك : {إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ} (الزمر : 38) فنقول قد ذكرنا أن الأسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن كما قال تعالى : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } (الإسراء : 110) والله للهيبة والعظمة الرحمن للرأفة والرحمة ، وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ} (الزمر : 37) وذكر ما يدل على العظمة ما يدل على العظمة بقوله : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (العنكبوت : 61) فذكر الاسم الدال على العظمة وقال ههنا ما يدل على الرحمة بقوله : {الَّذِى فَطَرَنِى} (يس : 22) فإنه نعمة هي شرط سائر النعم فقال : {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ} ثم قال تعالى : {لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا وَلا} على ترتيب ما يقع من العقلاء ، وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أولاف فإن قبله ولا يدفع فقال : لا تغن عني شفاعتهم ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه ، وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه إن كان نظراً إلى جانبه فهو فاطر ورب مالك يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن وإن كان نظراً إلى إحسانه فهو رحمن ، وإن كان نظراً إلى الخوف فهو يدفع ضره ، وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه ، فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة وغير الله لا يدفع شيئاً إلا إذا أراد الله وإن يرد فلا حاجة إلى دافع. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 267
268
يعني إن فعلت فأنا ضال ضلالاً بيناً ، والمبين مفعل بمعنى فعيل كما جاء عكسه فعيل بمعنى مفعل في قوله أليم أي مؤلم ، ويمكن أن يقال ضلال مبين أي مظهور الأمر للناظر والأول هو الصحيح. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 268
268
في المخاطب بقوله : {ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ} وجوه أحدها : /هم المرسلون ، قال المفسرون : أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل وعلى المرسلين وقال : إن آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا في ثانيها : هم الكفار كأنه لما نصحهم وما نفعهم قال : فأنا آمنت فاسمعون ثالثها : بربكم أيها السامعون على العموم ، كما قلنا في قول الواعظ حيث يقول : يا مسكين ما أكثر أملك وما أنزل عملك يريد به كل سامع يسمعه وفي قوله : {فَاسْمَعُونِ} فوائد أحدها : أنه كلام مترو متفكر حيث قال : {فَاسْمَعُونِ} فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر وثانيها : أنه ينبه القوم ويقول إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك وثالثها : أن يكون المراد السماع الذي بمعنى القبول ، يقول القائل نصحته فسمع قولي أي قبله ، فإن قلت لم قال من قبل : {لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى} (يس : 22) وقال ههنا : {بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} ولم يقل آمنت بربي ؟
نقول قولنا الخطاب مع الرسل أمر ظاهر ، لأنه لما قال آمنت بركم ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه ولو قال بربي لعلهم كانوا يقولون كل كافر يقول لي رب وأنا مؤمن بربي ، وأما على قولنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان للتوحيد ، وذلك لأنه لما قال : {أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى} (يس : 22) ثم قال : {بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فهم أنه يقول ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم ، بخلاف ما لو قال آمنت بربي فيقول الكافر وأنا أيضاً آمنت بربي ومثل هذا قوله تعالى : {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } . (الشورى : 15).
جزء : 26 رقم الصفحة : 268
269
(1/3712)

ثم قال تعالى : {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } فيه وجهان أحدهما : أنه قتل ثم قيل ادخل الجنة بعد القتل وثانيهما : قيل ادخل الجنة قيب قوله {ءَامَنتُ} (يس : 25) وعلى الأول. فقوله تعالى : {قَالَ يَـالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} يكون بعد موته والله أخبر بقوله وعلى الثاني قال ذلك في حياته وكأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به وعلمه ، فقال : يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت وفي معنى قوله تعالى : {قِيلَ} وجهان كما أن في وقت ذلك وجهان أحدهما : قيل من القول والثاني : ادخل الجنة ، وهذا كما في قوله تعالى : {إِنَّمَآ أَمْرُه ا إِذَآ أَرَادَ شَيْـاًا أَن يَقُولَ لَه كُن} (يس : 82) ليس المراد القول في وجه بل هو الفعل أي يفعله في حينه من غير تأخير وتراخ وكذلك في قوله تعالى : {وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى} (هود : 44) في وجه جعل الأرض بالغة ماءها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 269
269
وفي قوله تعالى : {بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} وجو أحدها : أن ما استفهامية كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي حتى يشتغلوا به وهو ضعيف ، وإلا لكان الأحسن أن تكون ما محذوفة الألف يقال بم وفيم وعم ولم وثانيها : خبرية كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي ربي وثالثها : مصدرية ، كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي ، والوجهان الآخران هما المختاران.
/ثم قال تعالى : {وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا أولئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (سبأ : 4) والرجل كان من المؤمنين الصلحاء ، والكرم على ضد المهان ، والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء فيغني الله الصالح عن كل أحد ويدفع جميع حاجاته بنفسه.
ثم إنه تعالى لما بين حاله بين حال المتخلفين المخالفين له من قومه بقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 269
270
إشارة إلى هلاكهم بعده سريعاً على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ههنا : {وَمَآ أَنزَلْنَا} بإسناد الفعل إلى النفس ، وقال في بيان حال المؤمن {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } (يس : 26) بإسناد القول إلى غير مذكور ، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم ، وأما في : {ادْخُلِ الْجَنَّةَ } فقال (قيل) ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالداً فيها ، وكثيراً ما ورد في القرآن قوله تعالى : {قِيلَ ادْخُلُوا } إشارة إلى أن الدخول يكون دخولاً بإكرام كما يدخل العريس البيت المزين على رؤوس الأشهاد يهنئه كل أحد.
المسألة الثانية : لم أضاف القوم إليه مع أن الرسول أولى بكون الجمع قوماً لهم فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه والرسول لكونه مرسلاً يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قوماً له ؟
نقول لوجهين أحدهما : ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ، وهذا من قوم أولئك في النسب وثانيهما : أن العذاب كان مخصصاً بأقارب ذلك ، لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.
المسألة الثانية : خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص ؟
نقول استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند.
المسألة الرابعة : قال : {مِّنَ السَّمَآءِ} وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد ؟
نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن يكون المراد وما أنزلنا عليهم جنداً بأمر من السماء فيكون للعموم وثانيهما : أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً لهم عظمة وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم.
/المسألة الخامسة : {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} أية فائدة فيه مع أن قوله : {وَمَآ أَنزَلْنَا} يستلزم أنه لا يكون من المنزلين ؟
نقول قوله : {وَمَا كُنَّا} أي ما كان ينبغي لنا أن ننزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال ، أو نقول : {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِه مِنا بَعْدِه مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} في مذل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة ، فإن قيل فكيف أنزل الله جنوداً في يوم بدر وفي غير ذلك حيث قال : {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (التوبة : 26) ؟
نقول ذلك تعظيماً لمحمد صلى الله عليه وسلّم وإلا كان تحريك ريشة من جناح ملك كافياً في استئصالهم وما كان رسل عيسى عليه السلام في درجة محمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 270
271
(1/3713)

ثم بين الله تعالى ما كان بقوله : {إِن كَانَتْ} الواقعة {إِلا صَيْحَةً} وقال الزمخشري أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر ، لكنه تعالى أنث لما بعده من المفسر وهو الصيحة.
وقوله تعالى : {وَاحِدَةً} تأكيد لكون الأمر هيناً عند الله.
وقوله تعالى : {فَإِذَا هُمْ خَـامِدُونَ} فيه إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة وفي وقتها لم يتأخر ، ووصفهم بالخمود في غاية الحسن وذلك لأن الحي فيه الحرارة الغزيرية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك ، أما الغضب فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم ، وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الحالية فإذن كانوا كالنار الموقدة ، ولأنهم كانوا جبارين مستكبرين كالنار ومن خلق منها فقال : {فَإِذَا هُمْ خَـامِدُونَ} وفيه وجه آخر : وهو أن العناصر الأربعة يخرج بعضها عن طبيعته التي خلقه الله عليها ويصير العنصر الآخر بإرادة الله فالأحجار تصير مياهاً ، والمياه تصير أحجاراً وكذلك الماء يصير هواء عند الغليان والسخونة والهواء يصير ماء للبرد ولكن ذلك في العادة بزمان ، وأما الهواء فيصير ناراً والنار تصير هواء بالاشتعال والخمود في أسرع زمان ، فقال خامدين بسببها فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة.
جزء : 26 رقم الصفحة : 271
271
ثم قال تعالى : {يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } أي هذا وقت الحسرة فاحضري يا حسرة والتنكير للتكثير ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الألف واللام في العباد يحتمل وجهين أحدهما : للمعهود وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك وثانيهما : لتعريف الجنس جنس الكفار المكذبين.
المسألة الثانية : من المتحسر ؟
نقول فيه وجوه الأول : لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقيق العذاب.
/وههنا بحث لغوي : وهو أن المفعول قد يرفض رأساً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال إن فلاناً يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطي إذ المقصود أن له المنع والأعطاء ، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل ، والوجه فيه ما ذكرنا ، أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت الثاني : أن قائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً للأمر وتهويلاً له وحينئذٍ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني ، أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة ، أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أن مخبر عن وقوع الندامة ، ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال : {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء ، فإن النداء مجاز والمراد الإخبار الثالث : المتلهفون من المسلمين والملائكة ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول : اللهم أهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال : يا ليت قومي يعلمون ، فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه.
المسألة الثالثة : قرىء {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} بالتنوين ، و(يا حسرة العباد) بالإضافة من غير كلمة على ، وقرىء يا حسرة علي بالهاء إجراء للوصل مجرى الوقف.
المسألة الرابعة : من المراد بالعباد ؟
نقول فيه وجوه أحدها : الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون عند ظهور البأس يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين شأننا لنؤمن بهم وثانيها : هم قوم حبيب وثالثها : كل من كفر وأصر واستكبر وعلى الأول فإطلاق العباد على المؤمنين كما في قوله : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) وقوله : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا } (الزمر : 53) وعلى الثاني فإطلاق العباد على الكفار ، وفرق بين العبد مطلقاً وبين المضاف إلى الله تعالى فإنه بالإضافة إلى الشريف تكسو المضاف شرفاً تقول بيت الله فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك البيت ، وعلى هذا فقوله تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ} (الفرقان : 63) من قبيل قوله : {إِنَّ عِبَادِى} (الحجر : 42) وكذلك {عِبَادَ اللَّهِ} (الصافات : 74).
جزء : 26 رقم الصفحة : 271
(1/3714)

ثم بين الله تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى : {مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِه } وهذا سبب الندامة وذلك لأن من جاءه ملك من بادية ، وأعرفه نفسه ، وطلب منه أمراً هيناً فكذبه ولم يجبه إلا ما دعاه ، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك ، يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه ، فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابة كما قال : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 31) وجاؤا وعرفوا أنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس ، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم ، وكان ما يدعون إليه أمراً هيناً نفعه عائد إليهم من عبادة الله وما كانوا يسألون عليه أجراً/ فعند ذلك تكون الندامة الشديدة ، وكيف لا وهم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزأوا واستخفوا واستهانوا/ وقوله : {مَا يَأْتِيهِم} الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى قوم حبيب ، أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة إلا كانوا به يستهزؤون على قولنا الحسرة عليهم ، ويجوز أن يكون عائداً إلى الكفار المصرين.
جزء : 26 رقم الصفحة : 271
274
ثم إن الله تعالى لما بين حال الأولين قال للحاضرين : {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ} أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم ، ويحتمل أن يقال : إن الذين قيل في حقهم : {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} (يس : 30) هم الذين قال في حقهم : {أَلَمْ يَرَوْا } ومعناه أن كل مهلك تقدمه قوم كذبوا وأهلكوا إلى قوم نوح وقبله.
وقوله : {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} بدل في المعنى عن قوله : {كَمْ أَهْلَكْنَا} وذلك لأن معنى : {كَمْ أَهْلَكْنَا} ألم يروا كثرة إهلاكنا ، وفي معنى ، ألم يروا المهلكين الكثيرين أنهم إليهم لا يرجعون ، وحينئذٍ يكون كبدل الاشتمال ، لأن قوله : {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} حال من أحوال المهلكين ، أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم فيصير كقولك : ألا ترى زيداً أدبه ، وعلى هذا فقوله : {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} فيه وجهان أحدهما : أهلكوا إهلاكاً لا رجوع لهم إلى من في الدنيا وثانيهما : هو أنهم لا يرجعون إليهم ، أي الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة ، يعني أهلكناهم وقطعنا نسلهم ، ولا شك في أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم ، والوجه الأول أشهر نقلاً ، والثاني أظهر عقلاً ، ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 274
275
لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه ، بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب ، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة ، ونعم ما قال القائل :
ولو أنا إذا متنا تركنالكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثناونسأل بعده من كل شيء
وقوله : {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} في إن وجهان أحدهما : أنها مخففة من الثقيلة واللام في لما فارقة بينها وبين النافية ، وما زائدة مؤكدة في المعنى ، والقراءة حينئذٍ بالتخفيف في لما وثانيهما : أنها نافية ولما بمعنى إلا ، قال سيبويه : يقال نشدتك بالله لما فعلت ، بمعنى إلا فعلت ، والقراءة حينئذٍ بالتشديد في لما ، يؤيد هذا ما روي أن أبياً قرأ {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} وفي قوله سيبويه : لما بمعنى إلا وارد معنى مناسب وهو أن لما كأنها حرفا نفي جمعاً وهما لم وما فتأكد النفي ، ولهذا يقال في/ جواب من قال قد فعل لما يفعل ، وفي جواب من قال فعل لم يفعل ، وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر ، قال الزمخشري : فإن قال قائل كل وجميع معنى واحد ، فكيف جعل جميعاً خبراً لكل حيث دخلت اللام عليه ، إذ التقدير وإن كل لجميع ، نقول معنى جميع مجموع ، ومعنى كل كل فرد حيث لا يخرج عن الحكم أحد ، فصار المعنى كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه ، ويمكن أن يقال محضرون ، يعني عما ذكره ، وذلك لأنه لو قال : وإن جميع لجميع محضرون ، لكان كلاماً صحيحاً ولم يوجد ما ذكره من الجواب ، بل الصحيح أن محضرون كالصفة للجميع ، فكأنه قال جميع جميع محضرون ، كما يقال الرجل رجل عالم ، والنبي نبي مرسل ، والواو في {وَإِن كُلٌّ} لعطف الحكاية على الحكاية ، كأنه يقول بينت لك ما ذكرت ، وأبين أن كلاً لدينا محضرون ، وكذلك الواو في قوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 275
276
كأنه يقول : وأقول أيضاً آية لهم الأرض الميتة وفيه مسائل :
(1/3715)

المسألة الأولى : ما وجه تعلق هذا بما قبله ؟
نقول مناسب لما قبله من وجهين أحدهما : أنه لما قال : {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} (يس : 32) كان ذلك إشارة إلى الحشر ، فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستعادهم وإصرارهم وعنادهم ، فقال : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها كذلك نحيي الموتى وثانيهما : أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذبين وكان شغلهم التوحيد ذكر ما يدل عليه ، وبدأ بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون.
المسألة الثانية : الأرض آية مطلقاً فلم خصصها بهم حيث قال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ} نقول : الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه ، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم وعباد الله الخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء ، فليست الأرض معرفة لهم ، وهذا كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } (فصلت : 53) وقال : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت : 53) يعني أنت كفاك ربك معرفاً ، به عرفت كل شيء فهو شهيد لك على كل شيء ، وأما هؤلاء تبين لهم الحق بالآفاق والأنفس ، وكذلك ههنا آية لهم.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 276
المسألة الثالثة : إن قلنا إن الآية مذكورة للاستدلال على جواز إحياء الموتى فيكفي قوله : {أَحْيَيْنَـاهَا} ولا حاجة إلى قوله : {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} وغير ذلك ، وإن قلنا إنها للاستدلال على وجود الإله ووحدته فلا فائدة في قوله : {الارْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا} لأن نفس الأرض دليل ظاهر وبرهان باهر ، ثم هب أنها غير كافية فقوله : {الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَـاهَا} كاف في التوحيد فما فائدة قوله : {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} فله فائدة بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى ، وذلك لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياءً تاماً لأن الأرض المخضرة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحب دون ما تنبته في الحياة ، فكأنه قال تعالى الذي أحيا الأرض إحياً كاملاً منبتاً للزرع يحيي الموتى إحياءً كاملاً بحيث تدرك الأمور ، وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تعديد النعم كأنه يقول آية لهم الأرض فإنها مكانهم ومهدهم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها فهي نعمة ثم إحياؤها بحيث تخضر نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ، ثم ءخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم يصير في مكانهم ، وكان يمكن أن يجعل الله رزقهم في السماء أو في الهواء فلا يحصل لهم الوثوق ، ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة ، وأما الأشجار بحيث تؤخذ منها الثمار فتكون بعد الحب وجوداً ، ثم فجرنا فيها العيون ليحصل لهم الاعتماد بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين يقع المطر وينزل القطر بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى كل ذلك مفيد وذلك لأن قوله : {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} كالإشارة إلى الأمر الضروري الذي لا بد منه وقوله : {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّـاتٍ} كالأمر المحتاج إليه الذي إن لم يكن لا يغني الإنسان لكنه يبقي مختل الحال وقوله : {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} إشارة إلى الزينة التي إن لم تكن لا تعني الإنسان ولا يبقى في ورطة الحاجة ، لكنه لا يكون على أحسن ما ينبغي ، وكأن حال الإنسان بالحب كحال الفقير الذي له ما يسد خلته من بعض الوجوه ولا يدفع حاجته من كل الوجوه وبالثمار ويعتبر حاله كحال المكتفي بالعيون الجارية التي يعتمد عليها الإنسان ويقوي بها قلبه كالمستغني الغني المدخر لقوت سنين ، فيقول الله عز وجل كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات في الأرض فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في بقائهم وتكوينهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والقوة الباصرة والأذن والقوة السامعة وغيرهما ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل فيكون كأنه قال نحيي الموتى إحياءً تاماً كما أحيينا الأرض إحياءً تاماً.
جزء : 26 رقم الصفحة : 276
المسألة الرابعة : قال عن ذكر الحب {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} وفي الأشجار والثمار قال : {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه } وذلك لأن الحب قوت لا بد منه فقال : {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي هم آكلوه ، وأما الثمار ليست كذلك ، فكأنه تعالى قال إن كنا ما أخرجناها كانوا يبقون من غير أكل فأخرجناها ليأكلوها.
(1/3716)

/المسألة الخامسة : خصص النخيل والأعناب بالذكر من سائر الفواكه لأن ألذ المطعوم الحلاوة ، وهي فيها أتم ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة ، ولا كذلك غيرهما ولأنهما أعم نفعاً فإنها تحمل من البلاد إلى الأماكن البعيدة ، فإن قيل فقد ذكر الله الرمان والزيتون في الأنعام والقضب والزيتون والتين في مواضع ، نقول في الأنعام وغيرها المقصود ذكر الفواكه والثمار ألا ترى إلى قوله تعالى : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه } (الأنعام : 99) وإلى قوله : {فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِه } (عبس : 24) فاستوفى الأنواع بالذكر وههنا المقصود ذكر صفات الأرض فاختار منها الألذ الأنفع ، وقد ذكرنا في سورة الأنعام ما يستفاد منه الفوائد ويعلم منه فائدة قوله تعالى : {فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن : 68).
المسألة السادسة : في المواضع التي ذكر الله الفواكه لم يذكر التمر بلفظ شجرته وهي النخلة ولم يذكر العنب بلفظ شجرته بل ذكره بلفظ العنب والأعناب ، ولم يذكر الكرم وذلك لأن العنب شجرته بالنسبة إلى ثمرته حقيرة قليلة الفائدة والنخل بالنسبة إلى ثمرته عظيمة جليلة القدر كثيرة الجدوى ، فإن كثيراً من الظروف منها يتخذ وبلحائها ينتفع ولها شبه بالحيوان فاختار منها ما هو الأعجب منها ، وقوله تعالى : {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} آية عظيمة لأن الأرض أجزاؤها بحكم العادة لا تصعد ونحن نرى منابع الأنهار والعيون في المواضع المرتفعة وذلك دليل القدرة والاختيار والقائلون بالطبائع قالوا إن الجبال كالقباب المبنية والأبخرة ترتفع إليها كما ترتفع إلى سقوف الحمامات وتتكون هناك قطرات من الماء ثم تجتمع ، فإن لم تكن قوية تحصل المياه الراكدة كالآبار وتجري في القنوات ، إن كانت قوية تشق الأرض وتخرج أنهاراً جارية وتجتمع فتحصل الأنهار العظيمة وتمدها مياه الأمطار والثلوج ، فنقول اختصاص بعض الجبال بالعيون دليل ظاهر على الاختيار وما ذكروه تعسف ، فالحق هو أن الله تعالى خلق الماء في المواضع المرتفعة وساقها في الأنهار والسواقي أو صعد الماء من المواضع المتسفلة إلى الأماكن المرتفعة بأمر الله وجرى في الأودية إلى البقاع التي أنعم الله على أهلها.
جزء : 26 رقم الصفحة : 276
ثم قال تعالى : {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِه وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم أَفَلا يَشْكُرُونَ} والترتيب ظاهر ويظهر أيضاً في التفسير وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لم أخر التنبيه على الانتفاع بقوله : {لِيَأْكُلُوا } عن ذكر الثمار حتى قال : {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} وقال في الحب : {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} عقيب ذكر الحب ، ولم يقل عقيب ذكر النخيل والأعناب ليأكلوا ؟
نقول الحب قوت وهو يتم وجوده بمياه الأمطار ولهذا يرى أكثر البلاد لا يكون بها شيء من الأشجار والزرع والحراثة لا تبطل هناك اعتماداً على ماء السماء وهذا لطف من الله حيث جعل ما يحتاج إليه الإنسان أعم وجوداً ، وأما الثمار فلا تتم إلا بالأنهار ولا تصير الأشجار حاملة للثمار إلا بعد وجود الأنهار فلهذا أخر.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {مِن ثَمَرِه } عائد إلى أي شيء ؟
نقول المشهور أنه عائد إلى الله أي/ليأكلوا من ثمر الله وفيه لطيفة : وهي أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لم توجد إلا بالله تعالى ولولا خلق الله ذلك لم توجد فالثمر بعد جميع ما يظن الظان أنه سبب وجوده ليس إلا بالله تعالى وإرادته فهي ثمره ، ويحتمل أن يعود إلى النخيل وترك الأعناب لحصول العلم بأنها في حكم النخيل ويحتمل أن يقال هو راجع إلى المذكور أي من ثمر ما ذكرنا ، وهذان الوجهان نقلهما الزمخشري ، ويحتمل وجهاً آخر أغرب وأقرب وهو أن يقال المراد من الثمر الفوائد يقال ثمرة التجارة الربح ويقال ثمرة العبادة الثواب ، وحينئذٍ يكون الضمير عائداً إلى التفجير المدلول عليه بقوله : {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} تفجيراً ليأكلوا من فوائد ذلك التفجير وفوائده أثكر من الثمار بل يدخل فيه ما قال الله تعالى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا} (عبس : 25) إلى أن قال : {فَأَنابَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَآاـاِقَ غُلْبًا * وَفَـاكِهَةً وَأَبًّا} (عبس : 27 ــــ 31) والتفجير أقرب في الذكر من النخيل ، ولو كان عائداً إلى الله لقال من ثمرنا كما قال (وجعلنا) (وفجرنا).
(1/3717)

المسألة الثالثة : ما في قوله : {وَمَا عَمِلَتْهُ} من أي الماءات هي ؟
نقول فيها وجوه أحدها : نافية كأنه قال : وما عملت التفجير أيديهم بل الله فجر وثانيها : موصولة بمعنى الذي كأنه قال والذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير يأكلون مه أيضاً ويأكلون من ثمر الله الذي أخرجه من غير سعي من الناس ، فعطف الذي عملته الأيدي على ما خلقه الله من غير مدخل للإنسان فيها وثالثها : هي مصدرية على قراءة من قرأ (وما عملت) من غير ضمير عائد معناه ليأكلوا من ثمره وعمل أيديهم يعني يغرسون والله ينبتها ويخلق ثمرها فيأكلون مجموع عمل أيديهم وخلق الله ، وهذا الوجه لا يمكن على قراءة من قرأ مع الضمير.
جزء : 26 رقم الصفحة : 276
المسألة الرابعة : على قولنا ما موصولة ، يحتمل أن يكون بمعنى وما عملته أي بالتجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما ، وهما الزراعة والتجارة ، ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعنب والتمر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل صنعة فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ، ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله : {أَفَلا يَشْكُرُونَ} وذكر بصيغة الاستفهام لما بينا من فوائد الاستفهام فيما تقدم. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 276
277
قد ذكرنا أن لفظة سبحان علم دال على التسبيح وتقديره سبح تسبيح الذي خلق الأزواج كلها ، ومعنى سبح نزه ، ووجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال : {أَفَلا يَشْكُرُونَ} (يس : 35) وشكر/الله بالعبادة وهم تركوها ولم يقتنعوا بالترك بل عبدوا غيره وأتوا بالشرك فقال : سبحان الذي خلق الأزواج وغيره لم يخلق شيئاً فقال أو نقول ، لما بين أنهم أنكروا الآيات ولم يشكروا بين ما ينبغي أن يكون عليه العاقل فقال : {سُبْحَـانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا} أو نقول لما بين الآيات قال : سبحان الذي خلق ما ذكره عن أن يكون له شريك أو يكون عاجزاً عن إحياء الموتى وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {كُلَّهَا} يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن الزوج هو الصنف وأفعال العباد أصناف ولها أشباه واقعة تحت أجناس الأعراض فتكون من الكل الذي قال الله فيها إنه خلق الأزواج كلها ، لا يقال مما تنبت الأرض ، يخرج الكلام عن العموم لأن من قال أعطيت زيداً كل ما كان لي يكون للعموم إن اقتصر عليه ، فإذا قال بعده من الثياب لا يبقى الكلام على عمومه لأنا نقول ذلك إذا كانت من لبيان التخصيص ، أما إذا كانت لتأكيد العموم فلا ، بدليل أن من قال أعطيته كل شيء من الدواب والثياب والعبيد والجواري يفهم منه أنه يعدد الأصناف لتأكيد العموم ويؤيد هذا قوله تعالى في حم : {وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ} (الزخرف : 12) من غير تقييد.
المسألة الثانية : ذكر الله تعالى أموراً ثلاثة ينحصر فيها المخلوقات فقوله : {مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ} يدخل فيها ما في الأرض من الأمور الظاهرة كالنبات والثمار وقوله : {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} يدخل فيها الدلائل النفسية وقوله : {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} يدخل ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين وهذا دليل على أنه لم يذكر ذلك للتخصيص بدليل أن الأنعام مما خلقها الله والمعادن لم يذكرها وإنما ذكر الأشياء لتأكيد معنى العموم كما ذكرنا في المثال.
جزء : 26 رقم الصفحة : 277
المسألة الثالثة : قوله {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فيه معنى لطيف وهو أنه تعالى إنما ذكر كون الكل مخلوقاً لينزه الله عن الشريك فإن المخلوق لا يصلح شريكاً للخلق ، لكن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلا بالاعتراف بأن لا إله إلا الله ، فقال تعالى اعلموا أن المانع من التشريك فيما تعلمون وما لا تعلمون لأن الخلق عام والمانع من الشركة الخلق فلا تشركوا بالله شيئاً مما تعلمون فإنكم تعلمون أنه مخلوق ومما لا تعلمون فإنه عند الله كله مخلوق لكون كله ممكناً. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 277
278
(1/3718)

لما استدل الله بأحوال الأرض وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي فإن درلة المكان والزمان مناسبة لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } (فصلت : 37) ثم قال بعده : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } (فصلت : 39) حيث استدل بالزمان والمكان هناك أيضاً ، لكن المقصود أولاً هناك إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى : {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} (فصلت : 37) ثم الحشر بدليل قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا} (فصلت : 39) وههنا المقصود أولاً إثبات الحشر لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر ، يدل عليه النظر في السورة ، وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى فيه : {قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ} (فصلت : 9) إلى غيره وآخر السورتين يبين الأمر ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المكان يدفع عن أهل السنة شبه الفلاسفة ، والزمان يدفع عنهم شبه المشبهة.
أما بيان الأول : فذلك لأن الفلسفي يقول لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل ، وقبل وبعد لا يتحقق إلا بالزمان ، فقبل العالم زمان والزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه وهو محال ، فنقول لهم قد وافقتمونا على أن الأمكنة متناهية ، لأن الأبعاد متناهية بالاتفاق ، فإذن فوق السطح الأعلى من العالم يكون عدماً وهو موصوف بالفوقية ، وفوق وتحت لا يتحقق إلا بالمكان ففوق العالم مكان والمكان من العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه ، فإن أجابوا بأن فوق السطح الأعلى لا خلا ولا ملا ، نقول قبل وجود العالم لا آن ولا زمان موجود.
أما بيان الثاني : فلأن المشبهي يقول لا يمكن وجود موجود إلا في مكان ، فالله في مكان فنقول فيلزمكم أن تقولوا الله في زمان لأن الوهم كما لا يمكنه أن يقول هو موجود ولا مكان لا يمكنه أن يقول هو كان موجوداً ولا زمان وكل زمان هو حادث وقد أجمعنا على أن الله تعالى قديم.
جزء : 26 رقم الصفحة : 278
المسألة الثانية : لو قال قائل إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فلم اختار الليل حيث قال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ} ؟
نقول لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ} (يس : 33) استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل ووجه آخر : وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات وفيه النوم وهو كالموت ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الارْضُ الْمَيْتَةُ} (يس : 33) فذكر في الزمانين أشبههما بالموت كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت.
المسألة الثالثة : ما معنى سلخ النهار من الليل ؟
نقول معناه تمييزه منه يقال انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل وسلخه الله منه فانسلخ هو منه ، وأما إذا استعمل بغير كلمة من فقيل سلخت النهار أو الشمس فمعناه دخلت في آخره ، فإن قيل فالليل في نفسه آية فأية حاجة إلى قوله : {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ؟
نقول الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ، ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها ، وقوله : {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي داخلون في الظلام/ وإذا للمفاجأة أي ليس بيدها بعد ذكر أمر ولا بد لهم من الدخول فيه/وقوله تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 278
282
(1/3719)

ويحتمل أن يكون الواو للعطف على الليل تقديره : وآية لهم الليل نسلخ والشمس تجري والقمر قدرناه ، فيه كلها آية ، وقوله : {وَالشَّمْسُ تَجْرِى} إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها وهو وقت الغروب فينسلخ النهار ، وفائدة ذكر السبب هو أن الله لما قال نسلخ منه النهار وكان غير بعيد من الجهال أن يقول قائل منهم سلخ النهار ليس من الله إنما يسلخ النهار بغروب الشمس فقال تعالى : والشمس تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرب الشمس سالخ للنهار فبذكر السبب يتبين صحة الدعوى ويحتمل أن يقال بأن قوله : {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس : 37) ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار بمنافعه ، وقوله : {لِمُسْتَقَرٍّ} اللام يحتمل أن تكون للوقت كقوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (الإسراء : 78) وقوله تعالى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1) ووجه استعمال اللام للوقت هو أن اللام المكسورة في الأسماء لتحقيق معنى الإضافة لكن إضافة الفعل إلى سببه أحسن الإضافات لأن الإضافة لتعريف المضاف بالمضاف إليه كما في قوله : دار زيد لكن الفعل يعرف بسببه فيقال اتجر للربح واشتر للأكل ، وإذا علم أن اللام تستعمل للتعليل فنقول وقت الشيء يشبه سبب الشيء لأن الوقت يأتي بالأمر الكائن فيه ، والأمور متعلقة بأوقاتها فيقال خرج لعشر من كذا {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ } (الإسراء : 78) لأن الوقت معرف كالسبب وعلى هذا فمعناه تجري الشمس وقت استقرارها أي كلما استقرت زماناً أمرت بالجري فجرت ، ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أي إلى مستقر لها وتقريره هو أن للام تذكر للوقت وللوقت طرفان ابتداء وانتهاء يقال سرت من يوم الجمعة إلى يوم الخميس فجاز استعمال ما يستعمل فيه في أحد طرفيه لما بينهما من الاتصال ويؤيد هذا قراءة من قرأ {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا }
جزء : 26 رقم الصفحة : 282
(1/3720)

وعلى هذا ففي ذلك المستقر وجوه الأول : يوم القيامة وعنده تستقر ولا يبقى لها حركة الثاني : السنة الثالث : الليل أي تجري إلى الليل الرابع : أن ذلك المستقر ليس بالنسبة إلى الزمان بل هو للمكان وحينئذٍ ففيه وجوه الأول : هو غاية ارتفاعها في الصيف وغاية انخفاضها في الشتاء أي تجري إلى أن تبلغ ذلك الموضع فترجع الثاني : هو غاية مشارقها فإن في كل يوم لها مشرق إلى ستة أشهر ثم تعود إلى تلك المقنطرات وهذا هو القول الذي تقدم في الإرتفاع فإن اختلاف المشارق بسبب اختلاف الإرتفاع الثالث : هو وصولها إلى بيتها في الابتداء الرابع : هو الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس وسنذكرها ، ويحتمل أن يقال {لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } أي تجري مجرى مستقرها. فإن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في فلك والفلك يدور فيدير الشمس/فالشمس تجري مجرى مستقرها ، وقالت الفلاسفة تجري لمستقرها أي لأمر لو وجدها لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة وهو في غاية السقوط ، وأجاب الله عنه بقوله : {ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ليس لإرادتها وإنما ذلك بإرادة الله وتقديره وتدبيره وتسخيره إياها ، فإن قيل عددت الوجوه الكثيرة وما ذكرت المختار ، فما الوجه المختار عندك ؟
نقول المختار هو أن المراد من المستقر المكان أن تجري لبلوغ مستقرها وهو غاية الاتفارع والانخفاض فإن ذلك يشمل المشارق والمغارب والمجرى الذي لا يختلف والزمان وهو السنة والليل فهو أتم فائدة/ وقوله : {ذَالِكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى جري الشمس أي ذلك الجري تقدير الله ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي لمستقر لها وذلك المستقر تقدير الله والعزيز الغالب وهو بكمال القدرة يغلب ، والعليم كامل العلم أي الذي قدر على إجرائها على الوجه الأنفع وعلم الأنفع فأجراها على ذلك ، وبيانه من وجوه الأول : هو أن الشمس في ستة أشهر كل يوم تمر على مسامته شيء لم تمر من أمسها على تلك المسامتة ، ولو قدر الله مرورها على مسامته واحدة لاحترقت الأرض التي هي مسامته لممرها وبقي المجموع مستولياً على الأماكن الأخر فقدر الله لها بعداً لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والأشجار في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج لتخرج النبات والثمار من الأرض والشجر وتضج وتجفف ، ثم تبعد لئلا يحترق وجه الأرض وأغصان الأشجار الثاني : هو أن الله قدر لها في كل يوم طلوعاً وفي كل ليلة غروباً لئلا تكون القوى والأبصار بالسهر والتعب ولا يخرب العالم بترك العمارة بسبب الظلمة الدائمة ، الثالث : جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زحل لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئة السير لدامت زماناً كثيراً في مسامته شيء واحد فتحرقه ، ولو كانت سريعة السير لما حصر لها لبث بقدر ما ينضج الثمار في بقعة واحدة. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 282
285
قال الزمخشري : لا بد من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام لأن القمر لم يجعل نفسه منازل فالمعنى أنا قدرنا سيره منازل وعلى ما ذكره يحتمل أن يقال المراد منه ، والقمر قدرناه ذا منازل لأن ذا الشيء قريب من الشيء ولهذا جاز قول القائل عيشة راضية لأن ذا الشيء كالقائم به الشيء فأتوا بلفظ الوصف.
وقوله : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أسي رجع في الدقة إلى حالته التي كان عليها من قبل. والعرجون من الانعراج يقال لعود العذق عرجون ، والقديم المتقادم الزمان ، قيل إن ما غبر عليه سنة فهو قديم ، والصحيح أن هذه بعينها لا تشترط في جواز إطلاق القديم عليه وإنما تعتبر العادة ، حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين إنهاء بناء قديم أو هي قديمة/ويقال لبعض الأشياء إنه قديم ، وإن لم يكن له سنة ، ولهذا جاز أن يقال بيت قديم وبناء قديم ولم يجز أن يقال في العالم إنه قديم ، لأن القدم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه ، وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد إلا عند من يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه. ثم قال تعالى :
جزء : 26 رقم الصفحة : 285
285
(1/3721)

إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة ، فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار وقوله : {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } قيل في تفسيره إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار ، وقيل معناه ولا الليل سابق النهار أي الليل لا يدخل وقت النهار والثاني بعيد لأن ذلك يقع إيضاحاً للواضح والأول صحيح إن أريد به ما بينته وهو أن معنى قوله تعالى : {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أن القمر إذا كان على أفق المشرق أيام الاستقبال تكون الشمس في مقابلته على أفق المغرب ، ثم إن عند غروب الشمس يطلع القمر وعند طلوعها يغرب القمر ، كأن لها حركة واحدة مع أن الشمس تتأخر عن القمر في ليلة مقداراً ظاهراً في الحس ، فلو كان للقمر حركة واحدة بها يسبق الشمس ولا تدركه الشمس ؛ وللشمس حركة واحدة بها تتأخر عن القمر ولا تدرك القمر ؛ لبقي القمر والشمس مدة مديدة في مكان واحد ، لأن حركة الشمس كل يوم درجة فخلق الله تعالى جميع الكواكب حركة أخرى غير حركة الشهر والسنة ، وهي الدورة اليومية وبهذه الدورة لا يسبق كوكب كوكباً أصلاً ، لأن كل كوكب من الكواكب إذا طلع غرب مقابله وكلما تقدم كوكب إلى الموضع الذي فيه الكوكب الآخر بالنسبة إلينا تقدم ذلك الكوكب ، فبهذه الحركة لا يسبق الشمس ، فتبين أن سلطان الليل لا يسبق سلطان النهار فالمراد من الليل القمر ومن النهار الشمس فقوله : {لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} إشارة إلى حركتها البطيئة التي تتم الدورة في سنة وقوله : {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } إشارة إلى حركتها اليومية التي بها تعود من المشرق إلى المشرق مرة أخرى في يوم وليلة ، وعلى هذا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر ، وماذا يكون لو قال ولا القمر سابق الشمس ؟
نقول لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم التناقض ، فإن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر أسرع ظاهراً ، وإذا قال/ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع ، فقال الليل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في مدة يوم وليلة ، ويكون لجيمع الكواكب أو عليها طلوع وغروب في الليل والنهار.
جزء : 26 رقم الصفحة : 285
المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله تعالى : {لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ} بصيغة الفعل وقوله : {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } بصيغة اسم الفاعل ، ولم يقل ولا الليل يسبق ولا قال مدركة القمر ؟
نقول الحركة الأولية التي للشمس ، ولا يدرك بها القمر مختصة بالشمس ، فجعلها كالصادرة منها ، وذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال هو يخيط ولا يكون يصدر منه الخياطة. والحركة الثانية ليست مختصة بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشتركة بسبب حركة فلك ليس ذلك فلكاً لكوكب من الكواكب ، فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال فلان خياط وإن يكن خياطاً ، فإن قيل قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} (الأعراف : 54) يدل على خلاف ما ذكرتم ، لأن النهار إذا كان يطلب الليل فالليل سابقه ، وقلتم إن قوله : {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } معناه ما ذكرتم فيكون الليل سابقاً ولا يكون سابقاً ، نقول قد ذكرنا أن المراد بالليل ههنا سلطان الليل وهو القمر/ وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة ، والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقيب الآخر فكأنه طالبه ، فإن قيل فلم ذكر ههنا {سَابِقُ النَّهَارِ } وقد ذكر هناك يطلبه ، ولم يقل طالبه ؟
نقول ذلك لما بينا من أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل ، وهي في هذه الحركة كأنها لا حركة لها ولا تسبق ، ولا من شأنها أنها سابقة ، والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زمانان والزمان لا قرار له فهو يطلب حثيثاً لصدور التقصي منه ، وقوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يحقق ما ذكرنا أي للكل طلوع وغروب في يوم وليلة لا يسبق بعضها بعضاً ، بالنسبة إلى هذه الحركة وكل حركة في فلك تخصه وفيه مسائل :
(1/3722)

المسألة الأولى : التنوين في قوله (كل) عوض عن الإضافة معناه كل واحد وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكير في شيء واحد فلما سقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً ، وفي المعنى معرف بالإضافة ، فإن قيل فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها ؟
فنقول نعم ، وذلك لأن قول القائل كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه ، فإذا قال كل كذا يدخل في الفم عموم أكثر من العموم عند الإضافة ، وهذا كما في قبل وبعد إذا قلت افعل قبل كذا فإذا حذفت المضاف وقلت افعل قبل أفاد فهم الفعل قبل كل شيء ، فإن قيل فهل بين قولنا كل منهم وبين قولنا كلهم وبين كل فرق ؟
نقول نعم عند قولك كلهم تثبت الأمر للاقتصار عليهم ، وعند قولك كل منهم تثبت الأمر أولاً للعموم ، ثم استدركت بالتخصيص فقلت منهم ، وعند قولك كل ثبت الأمر على العموم وتتركه عليه.
/
جزء : 26 رقم الصفحة : 285
المسألة الثانية : إذا كان كل بمعنى كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيف قال : {يَسْبَحُونَ} ؟
نقول الجواب عنه من وجوه أحدها : ما بينا أن قوله كل للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار ثانيها : أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظراً إلى كونه لفظاً موحداً غير مثنى ولا مجموع ، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعاً ، وأما التثنية فلا يدل عليها للفظ ولا المعنى فعلى هذا يحسن أن يقول القائل زيد وعمرو كل جاء أو كل جاءوا ولا يقول كل جاءا بالتثنية وثالثها : لما قال : {وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } والمراد ما في الليل من الكواكب قال : {يَسْبَحُونَ} .
المسألة الثالثة : الفلك ماذا ؟
نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة ، فإن قيل فعلى هذا تكون السماء مستديرة. وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة ليس لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي. ويدل عليه قوله تعالى : {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (الطور : 5) نقول ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة ، ودل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه. أما الأول فظاهر لأن السقف المقبب لا يخرج من كونه سقفاً ، وكذلك كونها على جبال ، وأما الدليل الحسي فوجوه أحدها : أن من أمعن في السير في جانب الجنوب يظهر له كواكب مثل سهيل وغيره ظهوراً أبدياً حتى أن من يرصد يراه دائماً ويخفى عليه بنات نعش وغيرها خفاءً أبدياً ، ولو كان السماء مسطحاً مستوياً لبان الكل للكل بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بعضه حينئذٍ يستتر بأطراف الأرض فلا يرى الثاني : هو أن الشمس إذا كانت مقارنة للحمل مثلاً فإذا غربت ظهر لنا كوكب في منطقة البروج من الحمل إلى الميزان ثم في قليل يستتر الكوكب الذي كان غروبه بعد غروب الشمس ويظهر الكوكب الذي كان طلوعه بعد طلوع الشمس وبالعكس هو دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير قطعياً الثالث : هو أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوءها ويستنير الجو بعض الاستنارة ثم يطلع ولولا أن بعض السماء مستتر بالأرض وهو محل الشمس فلا يدى جرمها وينتشر نورها لما كان كذا بل كان عند إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معاً لكون السماء مستوية حينئذٍ مكشوفة كلها لكل أحد الرابع : القمر إذا انكسف في ساعة من الليل في جانب الشرق ، ثم سئل أهل الغرب عن وقت الكسوف أخبروا عن الخسوف في ساعة أخرى قبل تلك الساعة التي رأى أهل المشرق فيها الخسوف لكن الخسوف في وقت واحد في جميع نواحي العالم والليل مختلف فدل على أن الليل في جانب المشرق قبل الليل في جانب المغرب فالشمس غربت من عند أهل المشرق وهي بعد في السماء ظاهرة لأهل المغرب فعلم استتارها بالأرض ولو كانت مستوية/لما كان كذلك الخامس : لو كانت السماء مبسوطة لكان القمر عندما يكون فوق رءوسنا على المسامتة أقرب إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العموم أصغر من القطر والوتد ، وكذلك في الشمس والكواكب كان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلك فإن قيل جاز أن يكون وهو على الأفق على سطح السماء وعندما يكون على مسامته رؤوسنا في بحر السماء غائراً فيها لأن الخرق جائز على السماء ، نقول لا تنازع في جواز الخرق لكن القمر حينئذٍ تكون حركته في دائرة لا على خط مستقيم وهو غرضنا ولأنا نقول لو كان كذلك لكان القمر عند أهل المشرق وهو في منتصف نهارهم أكبر مقداراً لكونه قريباً من رؤوسهم ضرورة فرضه على سطح السماء الأدنى وعندنا في بحرالسماء ، وبالجملة الدلائل كثيرة. والإكثار منها يليق بكتب الهيئة التي الغرض منها بيان ذلك العلم ، وليس الغرض في التفسير بيان ذلك غير أن القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فلكاً مستديراً.
(1/3723)

جزء : 26 رقم الصفحة : 285
المسألة الرابعة : هذا يدل على أن لكل كوكب فلكاً ، فما قولك فيه ؟
نقول : أما السبعة السيارة فلكل فلك ، وأما الكواكب الأخر فقيل للكل فلك واحد ، ولنذكر كلاماً مختصراً في هذا الباب من الهيئة حيث وجب الشروع بسبب تفسير الفلك فنقول : قيل إن للقمر فلكاً لأن حركته أسرع من حركة الستة الباقية ، وكذلك لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر ، فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه فلكل كوكب فلك ، ثم إن أهل الهيئة قالوا فكل فلك هو جسم كرة وذلك غير لازم بل اللازم أن نقول لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته ، والله تعالى قادر على أن يخلق الكوكب في كرة يكون وجوده فيها كوجود مسمار مغرق في ثخن كرة مجوفة ويدير الكرة فيدور الكوكب بدوران الكرة ، وعلى مذهب أرباب الهيئة حركة الكواكب السيارة على هذا الوجه ، وكذلك قادر على أن يخلق حلقة يحيط بها أربع سطوح متوازنة بها فإنها أربع دوائر متوازية كحجر الرحى إذا قورناه وأخرجنا من وسطه طاحونة من طواحين اليد ويبقى منه حلقة يحيط بها سطوح ودوائر كما ذكرنا وتكون الكواكب فيه وهو فلك فتدور تلك الحلقة وتدير الكوكب ، والحركة على هذا الوجه وإن كانت مقدورة لكن لم يذهب إليه أحد ممن يعتبر وكذلك هو قادر على أن يجعل الكواكب بحيث تشق السماء فتجعل دائرة متوهمة كما لو فرضت سمكة في الماء على وجهه تنزل من جانب وتصعد إلى موضع من الجانب الآخر على استدارة وهذا هوالمفهوم من قوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه ، وأرباب الهيئة أنكروا ذلك وقالوا لا تجوز الحركة/ على هذا الوجه لأن الكوكب له جرم فإذا شق السماء وتحرك فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم ، بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه/ لكن الخلاء محال والسماء لا تقبل الشق والالتئام ، هذا ما اعتمدوا عليه ، ونحن نقول كلاهما جائز. أما الخلاء فلا يحتاج إليه ههنا ، لأن قوله تعالى : {يَسْبَحُونَ} يفهم منه أنه بشق والتئام ، وأما امتناع الشق والالتئام فلا دليل لهم عليه وشبهتهم في المحدد للجهات وهي هناك ضعيفة ، ثم إنهم قالوا على ما بينا تخرج الحركات وبه علمنا الكسوفات ، ولو كان لها حركات مختلفة لما وجب الكسوف في الوقت الذي يحكم فيه بالكسوف والخسوف وذلك لأنا نقول للشمس فلكان أحدهما : مركزه مركز العالم ثانيهما : مركزه فوق مركز العالم وهو مثل بياض البيض بين صفرته وبين القيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة ، فإذا جعلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال إنها في الأوج ، وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض ، وأما القمر فله فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مغرق فيها ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل الفلك المائل والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير ، وكذلك قالوا في الكواكب الخمسة الباقية من السيارات غير أن الفوقاني الذي سموه فلك الجوزهر لم يثبتوه لها فأثبتوا أربعة وعشرين فلكاً ، الفلك الأعلى وفلك البروج ، ولزحل ثلاثة أفلاك الممثل والحامل وفلك التدوير ، وللمشتري ثلاثة كما لزحل ، وللمريخ كذلك ثلاثة ، وللشمس فلكان الممثل والخارج والمركز ، وللزهرة ثلاثة أفلاك كما للعلويات ، ولعطارد أربعة أفلاك الثلاثة التي ذكرناها في العلويات ، وفلك آخر يسمونه المدير ، وللقمر أربعة أفلاك والرابع يسمونه فلك الجوزهر والمدير ليس كالجوزهر لأن المدير غير محيط بالأفلاك عطارد وفلك الجوزهر محيط ، ومنهم من زاد في الخمسة في كل فلك فلكين آخرين وجعل تدويراتها مركبة منث لاثة أفلاك ، وقالوا إن بسبب هذه الأجرام تختلف حركات الكواكب ويكون لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة. هذا كلامهم على سبيل الاقتناص والاقتصار ونحن نقول لا يبعد من قدرة الله خلق مثل ذلك ، وأما على سبيل الوجوب فلا نسلم ورجوعها واستقامتها بإرادة الله وكذلك عرضها وطولها وبطؤها وسرعتها وقربها وبعدها هذا تمام الكلام.
جزء : 26 رقم الصفحة : 285
(1/3724)

المسألة الخامسة : قال المنجمون الكواكب أحياء بدليل أنه تعالى قال : {يَسْبَحُونَ} وذلك لا يطلق إلا على العاقل ، نقول إن أردتم القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأنه ما من شيء من هذه الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله وإن أردتم شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} وقوله : (ألا تنطقون)
جزء : 26 رقم الصفحة : 285
286
ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين أحدهما : أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقاً يتخذ من البحر خيراً ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذٍ كقوله : {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء : 70) ويؤيد هذا قوله تعالى : {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ} (يس : 42) إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري وثانيهما : هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار ، ولها وجه ثالث : وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة والأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ} (يس : 37) أيضاً من القبيل الأول ، لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان ، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لم عاش ، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهوالزينة آيتين إحداهما : الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى : {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (فاطر : 12) وثانيتهما : الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله : {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِه مَا يَرْكَبُونَ} (يس : 42) فإن الدواب زينة كما قال تعالى : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } (النحل : 8) وقال : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل : 6) فيكون استدلالاً عليهم بالضروري والنافع لا يقال بأن النافع ذكره في قوله : {جَنَّـاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـابٍ} (يس : 34) فإنها للزينة لأنا نقول ذلك حصل تبعاً للضروري ، لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة وأنزل الماء عليها كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله ، وأما الفلك فمقصود لا تبع ، ثم إذا علمت المناسبة ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية :
جزء : 26 رقم الصفحة : 286
(1/3725)