الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه. الأول : اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه ، بين أن حال الأنبياء ما أهل زمانهم كذلك. ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم ، ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس. الثاني : أن القوم إنما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد ، أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الإنقياد ، وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية ، فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر ، فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق. والثالث : أنه تعالى لما وصفهم بقوله : {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا} (الإسراء : 60) بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس {لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه ا إِلا قَلِيلا} فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم ، فهذا هو الكلام في كيفية النظم.
المسألة الثانية : اعلم أن هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة ، وهي : البقرة والأعراف والحجر وهذا السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة والأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل :
/ المسألة الأولى : اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص ، فظاهر لفظ الملائكة يفيد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات {وَلَه يَسْجُدُونَ } (الأعراف : 206) يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
المسألة الثانية : أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية ، وعلى التقدير الأول فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود ؟
المسألة الثالثة : أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا ؟
وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله ؟
المسألة الرابعة : هل كان إبليس كافراً من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت ؟
المسألة الخامسة : الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك.
المسألة السادسة : شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله : {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} أو غيره.
المسألة السابعة : دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفاً بربه ، إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد ، ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله ألبتة.
المسألة الثامنة : ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة ؟
ولنرجع إلى التفسير فنقول : إنه تعالى حكى في هذا الآية عن إبليس نوعاً واحداً من العمل ونوعين من القول ، أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله : {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} وأما النوعان من القول ؟
فأولهما : قوله : {لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه ، والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى. والنوع الثاني من كلامه : قوله : {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ} قال الزجاج : قوله : {أَرَءَيْتَكَ} معناه أخبرني ، وقد استقصينا في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام. وقوله : {هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ} فيه وجوه. الأول : معناه : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه ؟
ثم اختصر الكلام لكونه مفهوماً. الثاني : يمكن أن يقال هذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام ، والذي مع صلته خبر ، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي! وذلك على وجه الاستصغار والاستحقار ، وإنما حذف حرف الاستفهام لأن حصوله في قوله / {أَرَءَيْتَكَ} أغنى عن تكراره. والوجه الثالث : أن يكون {هَـاذَآ } مفعول {أَرَءَيْتَ} لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها ، كأنه قال على وجه والتعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي ، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي ، هذا هو حقيقة هذه الكلمة ، ثم قال تعالى حكاية (عنه) { لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه ا إِلا قَلِيلا} وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
البحث الأول : قرأ ابن كثير { لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ} بإثبات الياء في الوصل والوقف ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف.
(1/2826)
البحث الثاني : في الاحتناك قولان ، أحدهما : أنه عبارة عن الأخذ بالكلية ، يقال : أحتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية ، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية. والثاني : أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها ، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به ، وقال أبو مسلم : الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء. وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها.
البحث الثالث : قوله : {إِلا قَلِيلا} هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الإسراء : 65) فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم ؟
قلنا فيه وجوه. الأول : أنه سمع الملائكة يقولون : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} (البقرة : 30) فعرف هذه الأحوال. الثاني : أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزماً فقال الظاهر أو أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. الثالث : أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية ، وقوة سبعية غضبية ، وقوة وهمية شيطانية ، وقوة عقلية ملكية ، وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة ، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ، ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازماً ، واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب ، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه أمض لشأنك الذي اخترته ، والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه.
ثم قال : {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا} ونظيره قول موسى عليه الصلاة / والسلام {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواةِ أَن تَقُولَ لا} (طه : 97) فإن قيل أليس الأولى أن يقال : فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفوراً. ليكون هذا الضمير راجعاً إلى قوله : {فَمَن تَبِعَكَ} ؟
. قلنا فيه وجوه. الأول : التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب الغوائب فقيل جزاؤكم. والثاني : يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الإلتفات. والثالث : أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل.
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس ، ثم قال : {جَزَآءً مَّوْفُورًا} وهذه اللفظة قد تجيء متعدياً ولازماً ، أما المتعدي فيقال : وفرته أفره وفراً (و) وفرة فهو (و) موفر ، قال زهير :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله : وفر المال يفر وفوراً فهو وافر ، فعلى التقدير الأول : يكون المعنى جزاء موفوراً موفراً. وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء موفوراً وافراً ، وانتصب قوله {جَزَآءُ} على المصدر.
(1/2827)
اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء. أولها : قوله : {اذْهَبْ} ومعناه : أمهلتك هذه المدة. وثانيها : قوله تعالى : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه ، / وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى ، وقيل : أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب ، ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال : اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وثالثها : {بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} في قوله : {وَأَجْلِبْ} وجوه. الأول : قال الفراء : إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق ، وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح. الثاني : قال الزجاج في فعل وأفعل ، أجلب على العدو إجلاباً إذا جمع عليه الخيول. الثالث : قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه. والرابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع ، فقوله : وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك ، وعلى قول الزجاج : أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله : بخيلك زائدة على هذا القول ، وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله ، وهذا أيضاً يقرب من قول ابن الأعرابي ، واختلفوا في تفسير الخيل والرجل ، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال : "كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده" ، ويدخل فيه كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى ، فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. والقول الثاني : يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. والقول الثالث : أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب ، والخيل تقع على الفرسان. قال عليه الصلاة والسلام : "يا خيل الله اركبي" وقد تقع على الأفراس خاصة ، والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب ، وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم ، قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس ، قال ابن الأنباري : أخبرنا ثعلب عن الفراء قال : يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد. والنوع الرابع : من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
{وَشَارِكْهُمْ فِى الامْوَالِ وَالاوْلَـادِ} نقول : أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة ، وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن/ وأما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً قال قتادة : المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة ، وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام ، وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئاً لغير / الله تعالى كما قال تعالى : {فَقَالُوا هَـاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآاـاِنَا } (الأنعام : 136) والأصوب ما قاله القاضي ، وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوهاً. أحدها : أنها الدعاء إلى الزنا ، وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد ، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا. وثانيها : أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى. وثالثها : أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما. ورابعها : إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم. وخامسها : ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو قبيح فهو داخل فيه.
والنوع الخامس : من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله : {وَعَدَّهُمْ} .
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق ، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة ، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله ، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة ، إذا ثبت هذا فنقول : إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعله البتة ، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار ، ولا حياة بعد هذه الحياة ، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي ، وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به ، فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر :
(1/2828)
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
خذوا بنصيب من سرور ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية ، وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولاً عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين. الأول : أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب. والثاني : أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثاً محضاً فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها ، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار ، فهذه مجامع تلبيس الشيطان ، فقوله : {وَعَدَّهُمْ} يتناول كل هذه الأقسام ، قال المفسرون قوله : {وَعَدَّهُمْ} أي بأنه لا جنة ولا نار ، وقال آخرون : {وَعَدَّهُمْ} بتسويف التوبة ، وقال آخرون {وَعَدَّهُمْ} بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم : {مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ} (الأعراف : 20) وقال آخرون : وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل ، وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس ، واعلم أن الله تعالى لما قال : {وَعَدَّهُمْ} أردفه بما يكون زاجراً عن قبول وعده فقال : {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلا غُرُورًا} والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة/ ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته ، وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة. أحدها : أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام. وثانيها : وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها. وثالثها : أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض. ورابعها : أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة. وخامسها : أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة. وسادسها : أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت. فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة ، كان الترغيب فيها تغريراً ، ولهذا المعنى قال تعالى : {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلا غُرُورًا} .
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} وفيه قولان :
الأول : أن المراد كل عباد الله من المكلفين ، وهذا قول أبي علي الجبائي ، قال والدليل عليه أن الله تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله : {إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ} (الحجر : 42) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } (إبراهيم : 22). وأيضاً فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم. ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض.
والقول الثاني : أن المراد بقوله : {إِنَّ عِبَادِى} أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم / أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان ، والدليل عليه أنه قال في آية أخرى : {إِنَّمَا سُلْطَـانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه } (النحل : 100).
ثم قال : {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال : {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} ومعناه أن الشيطان وإن كان قادراً فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه.
البحث الثاني : هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة ، لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال : وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان ، فلما لم يقل ذلك بل قال : {وَكَفَى بِرَبِّكَ} علمنا أن الكل من الله ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. بقي في الآية سؤالان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
(1/2829)
السؤال الأول : أن إبليس هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} هو إله العالم أو لم يعلم ذلك ؟
فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال : {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا} فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة ؟
وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ} .
والجواب : لعله كان شاكاً في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن.
والسؤال الثاني : ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة ؟
والحكيم إذا أراد أمراً وعلم أن شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع.
والجواب : أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب ، وأما المعتزلة فلهم قولان : قال الجبائي : علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده مزيد مفسدة ، وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلا أنه تعالى أبقاه تشديداً للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب ، وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر ، وبالغنا في الكشف عنهما ، والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 370
372
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته ، وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد ، فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد ، والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الانعامات في أحوال ركوب البحر.
فالنوع الأول : كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله : {رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ} والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله : {بِبِضَـاعَةٍ مُّزْجَـاـاةٍ} والمعنى : ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيماً ، والخطاب في قوله : {رَبُّكُمْ} وفي قوله : {إِنَّه كَانَ بِكُمْ} عام في حق الكل ، والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها.
والنوع الثاني : قوله : {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ} والمراد من الضر ، الخوف الشديد كخوف الغرق : {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاه } والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك. وإنما يتضرع إلى الله تعالى ، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص {وَكَانَ الانسَـانُ كَفُورًا} لنعم الله بسبب أن عند الشدة / يتمسك بفضله ورحمته ، وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره.
جزء : 21 رقم الصفحة : 372
(1/2830)
والنوع الثالث : قوله : {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} قال الليث : الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء. يقال : عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس ، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء ، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر. فقوله : {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض ، وإنما قال {جَانِبَ الْبَرِّ} لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب ، والبر جانب ، خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب ، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلما نجاهم منه آمنوا ، فقال : هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر ؟
فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق ، أما من جانب التحت فبالخسف. وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم ، وهو المراد من قوله : {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر ، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال. ومعنى الحصب في اللغة : الرمي. يقال : حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي. ومنه قوله تعالى : {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي يلقون فيها/ ومعنى قوله : {حَاصِبًا} أي عذاباً يحصبهم ، أي يرميهم بحجارة ، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب ، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً. وقال الزجاج : الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله : {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله ، ثم قال : {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} أي في البحر تارة أخرى وقوله : {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا} من الريح القاصف الكاسر يقال : قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة ، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر ، وأراد ههنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله : {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً. قال الزجاج : أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم ، وتبيع بمعنى تابع.
جزء : 21 رقم الصفحة : 372
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة : وهي قوله : {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون ، والباقون بالياء ، فمن قرأ بالياء ، فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله : {مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاه ا فَلَمَّا نَجَّـاـاكُمْ} (الإسراء : 67) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام ، قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد. ألا ترى أنه قد جاء {وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل أَلا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلا} فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 372
375
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم الله تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أنواع :
(1/2831)
النوع الأول : قوله : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس ، والبدن ، فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي ، وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي. وتقرير هذه الفضيلة في النفس الإنسانية هي أن النفس الإنسانية قواها الأصلية ثلاث. وهي الأغتذاء والنمو والتوليد ، والنفس الحيوانية لها قوتان الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة ، والحركة بالاختيار ، فهذه القوى الخمسة أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس الإنسانية ، ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي. وهي التي يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من تلقيح الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية ، فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى النباتية والحيوانية ، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وإن أردت أن تعرف فضائل القوة العقلية ونقصانات القوى الجسمية ، فتأمل ما كتبناه في هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (النور : 35) فإنا ذكرنا هناك عشرين وجهاً في بيان أن القوة العقلية أجل وأعلى من القوة الجسمية فلا فائدة في الإعادة ، وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم ، فالمفسرون إنما ذكروا في تفسير قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} هذا النوع من الفضائل وذكروا أشياء ، أحدها : روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} قال : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه. وقيل : إن الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف ، فقال له : جاء في / التفسير عن جدك في قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. وثانيها : قال الضحاك : بالنطق والتمييز وتحقيق الكلام أن من عرف شيئاً ، فأما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفاً بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف.
جزء : 21 رقم الصفحة : 375
أما القسم الأول : فهو حال جملة الحيوانات سوى الإنسان ، فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفاً تاماً وافيا.
وأما القسم الثاني : فهو الإنسان ، فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادراً على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقاً ، وبهذا البيان ظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف ، لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان ، فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريقة الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء ، لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة ، فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام. وثالثها : قال عطاء : بامتداد القامة.
(1/2832)
واعلم أن هذا الكلام غير تام لأن الأشجار أطور من قامة الإنسان بل ينبغي أن يشترط فيه شرط/ وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية ، والقوى الحسية والحركية. ورابعها : قال بيان بحسن الصورة ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } (غافر : 64) لما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان قال : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} وقال : {صِبْغَةَ اللَّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } (البقرة : 138) وإن شئت فتأمل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر ، وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب. وخامسها : قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط. وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلاً. أما إذا استنبط الإنسان علماً وأودعه في الكتاب ، وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب ، وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون ، ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات ، ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة ، ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى : {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وسادسها : أن أجسام هذا العالم إما بسائط وإما مركبات ، أما البسائط فهي الأرض والماء / والهواء والنار. والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع ، أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة. قال تعالى : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } (طه : 55) وقد سماها الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا ، وهي الفراش والمهد ، والمهاد ، وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر ، وأيضاً سخر البحر لنأكل منه لحماً طرياً ، ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه ، وأما الهواء فهو مادة حياتنا ، ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة ، وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها ، وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة ، وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 375
ومن يرد في الشتاء فاكهة
فإن نار الشتاء فاكهته
(1/2833)
وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية ، وإما المعادن والنبات ، وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم ، والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد ، وكل ذلك يدل على كونه مخصوصاً من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل والله أعلم. وسابعها : أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة ، وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان ، ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية المحضة ، وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية ، ولا شك أيضاً أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات. بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر ؟
والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين ؟
وذلك بحث آخر. وثامنها : الموجود إما أن يكون أزلياً وأبدياً معاً وهو الله سبحانه وتعالى ، وإما أن يكون ولا أزلياً لا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان ، وهذا أخس الأقسام ، وإما أن يكون أزلياً لا أبدياً وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وإما أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً ، وهو الإنسان والملك ، ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى. وتاسعها : العالم العلوي أشرف من العالم السفلي ، وروح الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات / العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي. وعاشرها : أشرف الموجودات هو الله تعالى ، وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم ، وجب أن يكون أشرف ، لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان ، ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق : 1 ـ 4) ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال : {وَأَخَّرَتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الإنفطار : 6) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 375
والوجه الحادي عشر : قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون. ومن كان مخلوقاً بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل ، وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل والله أعلم.
النوع الثاني : من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله : {وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن ، وهذا أيضاً من مؤكدات التكريم المذكور أولاً ، لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه ، وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم ، كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له.
النوع الثالث : من المدائح قوله : {وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ ، وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع : قوله : {وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} وههنا بحثان :
(1/2834)
البحث الأول : أنه قال في أول الآية : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} وقال في آخرها : {وَفَضَّلْنَـاهُمْ} / ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار ، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.
البحث الثاني : أنه تعالى لم يقل : وفضلناهم على الكل بل قال : {وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا} فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلاً عليه ، وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة. فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان ، وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين :
جزء : 21 رقم الصفحة : 375
البحث الأول : أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة ؟
وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ} (البقرة : 34).
والبحث الثاني : أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل ؟
منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة. واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال : قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة ، فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له {كُنَّ} فكان. وقال أبو هريرة رضي الله عنه : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. هكذا أورده الواحدي في "البسيط" ، وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية ، وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال : إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد ، وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 375
378
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجهاً لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو.
المسألة الثانية : قوله يوم ندعو نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماضٍ ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب.
المسألة الثالثة : قوله : {بِإِمَـامِهِمْ } الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته ، والخليفة إمام رعيته ، والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال ، القول الأول : إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان. الأول : أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعاً وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك. والثاني : أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده. والقول الثاني : وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. والقول الثالث : قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماماً قوله تعالى : {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} (
جزء : 21 رقم الصفحة : 378
(1/2835)
يس : 12) فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً ، وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته. القول الرابع : قال صاحب "الكشاف" ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب "الكشاف" وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته. والقول الخامس : أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو / الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول : الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ } فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده ثم قال تعالى : {فَمَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه فَ أولئك يَقْرَءُونَ كِتَـابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} قال صاحب "الكشاف" إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلاً للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله : {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْـاًا} (مريم : 60) ، {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (طه : 112) وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارىء لأهل الحشر : {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ} (الحاقه : 19) فظهر الفرق والله أعلم ثم قال تعالى : {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} وفيه مسألتان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 378
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالامالة والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالامالة فيهما ، قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الامالة وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الأمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل والله أعلم.
(1/2836)
المسألة الثانية : لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى : {وَمَن كَانَ فِى هَـاذِه أَعْمَى فَهُوَ فِى الآخِرَةِ أَعْمَى } عمى البصر بل المراد منه عمى القلب ، أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان : القول الأول : أن المراد منه أيضاً عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه. الأول : قال عكرمة : جاء نفر من أهل / اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال : اقرأ ما قبلها فقرأ {رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ} (الإسراء : 66) إلى قوله {تَفْضِيلا} (الإسراء : 66 ـ 70) قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة. وثانياً : روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السموات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا. وثالثها : قال الحسن من كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة. ورابعها : أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. وخامسها : أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى. القول الثاني : أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال :
جزء : 21 رقم الصفحة : 378
{وَنَحْشُرُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَـاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَالِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } (طه : 124 ـ 126) وقال : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } وهذا العمى زيادة في عقوبتهم والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 378
380
/ اعلم أنه تعالى لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبي فقال : {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} وفي الآية مسائل :
(1/2837)
المسألة الأولى : قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألوه شططاً ، وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس ، وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم ، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا ، فقل : الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم وداخلهم الطمع ، فصاح عليهم عمر وقال : أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه ؟
فأنزل الله هذه الآية ، وروى صاحب "الكشاف" أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون ، فقالوا ولا يجبون ، فسكت رسول الله ، ثم قالوا للكاتب : اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه ، وقال : أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش ، أسعر الله قلوبكم ناراً. فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمداً ، فنزلت هذه الآية واعلم أن هذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا إن هذه الآيات مدنية. وروى أن قريشاً قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة ، حتى نؤمن بك. فنزلت هذه الآية وقال الحسن : الكفار أخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة بمكة قبل الهجرة فقالوا : كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها فلو كان ذلك حقاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك فوقع في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يكف عن شتم آلهتهم. وعلى هذا التقدير فهذه الآية مكية ، وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك حتى تستلم آلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية ، فنزلت هذه الآية.
جزء : 21 رقم الصفحة : 380
(1/2838)
المسألة الثانية : قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والمعنى إن الشأن (أنهم) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (و) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه / لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله : {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن ، والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن ، وقوله : {لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَه } أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك {وَإِذًا اتَّخَذُوكَ خَلِيلا} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلاً وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراضٍ بشركهم ثم قال : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ} أي على الحق بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} أي تميل إليهم شيئاً قليلاً وقوله : {شَيْـاًا} عبارة عن المصدر أي ركوناً قليلاً ، قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم. قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال : {إِذًا لاذَقْنَـاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلاناً شيئاً فأعطاه درهماً فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول : إنا حسن إضمار العذاب في قوله : {ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله : {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ} (ص : 61) وقال : {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـاكِن لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف : 38) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى : {يَـانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } (الأحزاب : 30) فإن قيل قال عليه السلام : "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائداً على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى : {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا وعقابنا والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 380
المسألة الثالثة : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه. الأول : أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على الله ، والفرية على الله من أعظم الذنوب. والثاني : أنها تدل على أنه لولا أن الله تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم. والثالث : أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد والجواب عن الأول : أن / كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة ، وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلاناً لا يفهم منه أنه ضربه ، والجواب عن الثاني : أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره ، تقول لولا علي لهلك عمر ، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر ، فكذلك ههنا قوله : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} معناه أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم فكان حصول ذلك التثبيت مانعاً من حصول ذلك الركون ، والجواب عن الثالث : أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (الحاقة : 44 ـ 46) ومنها قوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) ومنها قوله : {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (الأحزاب : 48) والله أعلم.
(1/2839)
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى بقوله : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت الله تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد صلى الله عليه وسلّم كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين الله تعالى أن بقاءه معصوماً عن الكفر والضلال لم يحصل إلا باعانة الله تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى. قالت المعتزلة : المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده ، ومن ذكر أن كونه نبياً من عند الله تعالى يمنع من ذلك ، والجواب : لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله الله يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور ، فنقول : لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول صلى الله عليه وسلّم وأن هذا المانع الذي فعله الله منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل ، فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 380
المسألة الخامسة : قال القفال رحمه الله : قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة ، ويمكن أيضاً تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون : 1 ، 2) وقوله : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم : 9) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (طه : 131) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} (الأنعام : 52) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب / وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه ، فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم ، وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات. والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 380
382
في هذه الآية قولان : الأول : قال قتادة : هم أهل مكة هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة ، ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ، ولكن الله منعهم من اخراجه ، حتى أمره الله بالخروج ، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد. والقول الثاني : قال ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا : يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم. فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع. فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية ، والأرض في قوله : {لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ} على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله : {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الارْضِ } (المائدة : 33) يعني من مواضعهم وقوله : {فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ} (يوسف : 80) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة ، فإن قيل قال الله تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ} (محمد : 13) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية : {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } فكيف (يمكن) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة ؟
قلنا : إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى ، فزال التناقض. ثم قال تعالى : {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلَـافَكَ إِلا قَلِيلا} وفيه مسألتان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 382
(1/2840)
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم خلفك بفتح الخاء وسكون اللام / والباقون خلافك زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله : {بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ} (التوبة : 81) وقال الشاعر :
عفت الديار خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصير
قال صاحب "الكشاف" قرىء لا يلبثون وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذن ، فإن قيل : ما وجه القراءتين ؟
قلنا : أما السابقة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خير كاد واقع موقع الاسم وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله : {إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} عطف على جملة قوله : {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ثم قال تعالى : {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم فقوله : {سَنَةٍ} نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال : {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} والمعنى أن ما أجرى الله تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى : {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا} .
جزء : 21 رقم الصفحة : 382
389
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في النظم وجوه. الأول : أنه تعالى لما قرر أمر الالهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها. الثاني : أنه تعالى لما قال : {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ} أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة الله تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالباً على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآى ِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ} (طه : 130) وقال : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 97 ـ 99) والوجه الثالث : في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم صلى الله عليه وسلّم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطاناً نصيراً في تقرير دينك وإظهار شرعك والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
(1/2841)
المسألة الثانية : اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين. أحدهما : أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة ، فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال : دلوك الشمس غروبها. وروى زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود قال : دلوك الشمس غروبها ، وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين. والقول الثاني : أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه. الحجة الأولى : روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال : "طعم عندي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلّم هذا حين دلكت الشمس". الحجة الثانية : روى صاحب "الكشاف" عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر". الحجة الثالثة : قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة ، وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة. هكذا قاله الأزهري وقال القفال : أصل الدلوك الميل ، يقال : مالت الشمس للزوال ، ويقال : مالت للغروب ، إذا عرفت هذا / فنقول : وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك/ والدلوك عبارة عن الميل والزوال ، فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة : أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال والله أعلم. الحجة الرابعة : قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار ، والمعنى {أَقِمِ الصَّلَواةَ} أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم قال : {أَقِمِ الصَّلَواةَ} فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية ، وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال ، واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
هذا مقام قدمي رباح
وقفت حتى دلكت براح
وبراح اسم الشمس أي حتى غابت ، واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم ولا أفلاكهن الدوالك
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعاً من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضاً على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها ، أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها (و)عندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه ، فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب. والجواب أن الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال الواحدي : اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس.
(1/2842)
المسألة الرابعة : قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ} غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي : غسق الليل غسوقاً ، والغسق : الاسم ، بفتح السين. وقال النضر بن شميل : غسق الليل دخول أوله ، وأتيته حين غسق الليل ، أي حين يختلط ويسد المناظر ، وأصل هذا الحرف من السيلان يقال : غسقت العين تغسق. وهو هملان العين بالماء ، والغاسق السائل ، ومن هذا يقال لما يسيل من / أهل النار : الغساق ، فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه ، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم ، وأما قول المفسرين ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما غسق الليل ؟
قال أوله حين يدخل. وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق : قال دخول الليل بظلمته ، وقال الأزهري : غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها ، يقال : غسقت العين إذا امتلأت دمعاً ، وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً ، قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى/ واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً بعذر السفر وعذر المطر وغيره ، أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
المسألة الخامسة : قوله وقرآن الفجر أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد. الأولى : أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة. الفائدة الثانية : أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجراً لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل ، فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير والله أعلم. الفائدة الثالثة : أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله وقرآن الفجر الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل / على كونه أكمل من غيره. الفائدة الرابعة : أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهوداً. قال الجمهور : معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت : يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم. وأقول هذا أيضاً دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى : {قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
(1/2843)
{إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الإستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم/ فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم ، والضوء مناسب للحياة والوجود. وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود. وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهوداً عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحاً وراحة ومزيداً في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى } وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده. وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى } الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهوداً بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد / لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونوراً وراحة. الفائدة الخامسة : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
{أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهوداً هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها ، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة. فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة ، ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة ، وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها. إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس. وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر/ إلا أن الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه. إذا عرفت هذا فنقول : مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس ، وقل من يقبله وينقاد له. لا جرم (أن)الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعاً والله أعلم بأسرار كلامه.
أما قوله تعالى : {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِه نَافِلَةً لَّكَ} فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث :
(1/2844)
البحث الأول : التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فتهجد به أي بالقرآن كما قال : {قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا} (المزمل : 2) إلى قوله : {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا} (المزمل : 4).
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
البحث الثاني : قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال : / أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد :
هجدنا فقد طال السرى
كأنه قال : نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجداً لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لألقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم. ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه. وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلباً لذلك الهجود فسمي تهجداً لهذا السبب. وفيه وجه ثالث : وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجوداً ورقاداً فلا يبعد أنه سمي تهجداً لهذا السبب.
البحث الثالث : قوله : {مِنْ} في قوله : {وَمِنَ الَّيْلِ} لا بد له من متعلق والفاء في قوله : {فَتَهَجَّدْ} لا بد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله : {بِه } أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن.
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
البحث الرابع : معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } (الأنفال : 1) ومعناها أيضاً في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلّم أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة ، أي تطوعاً وزيادة على الفرائض ، وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها (نافلة) وجهاً حسناً قالا إنه تعالى غفر للنبي صلى الله عليه وسلّم ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب البتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة/ فإن لهم ذنوباً محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي صلى الله عليه وسلّم لا في حق غيره فلهذا السبب قال : {نَافِلَةً لَّكَ} يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه. وأما الذين قالوا : إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد / أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجباً فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائداً على وجوب الصلوات الخمس والله أعلم.
البحث الخامس : قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ } وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصاً بالرسول صلى الله عليه وسلّم إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلاً والله أعلم. ثم قال تعالى : {عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله تعالى أكرم من أن يطمع أحداً في شيء ثم لا يعطيه ذلك. وقوله : {مَقَامًا مَّحْمُودًا} فيه بحثان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
(1/2845)
البحث الأول : في انتصاب قوله محموداً وجهان. الأول : أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محموداً. والثاني : أن يكون نعتاً للمقام وهو ظاهر.
البحث الثاني : في تفسير المقام المحمود أقوال. الأول : أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي" وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاماً أنعم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلاً في الحال وقوله : {عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله : {عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} يدل على هذا المعنى وأيضاً التنكير في قوله مقاماً محموداً يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله : {عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعاراً قوياً ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون / واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة. والقول الثاني : قال حذيفة ، يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلّم فيقول "لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجاً منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت" فهذا هو المراد من قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
{عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محموداً وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز. القول الثالث : المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضاً ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني. القول الرابع : قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال : "يقعد الله محمداً على العرش" وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش ، ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه. الأول : أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد. والثاني : أنه تعالى قال مقاماً محموداً ولم يقل مقعداً والمقام موضع القيام لا موضع القعود. والثالث : لو كان تعالى جالساً على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدوداً متناهياً ومن كان كذلك فهو محدث. والرابع : يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلّم بها مزيد شرف ورتبة. والخامس : أنه إذا قيل السلطان بعث فلاناً فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين والله أعلم ثم قال تعالى : {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
(1/2846)
البحث الأول : أنا ذكرنا في تفسير قوله : {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ} (الإسراء : 76) قولين : أحدهما : المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها. والثاني : المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له : {أَقِمِ الصَّلَواةَ} واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له : {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} ـ وهو المدينة ـ {وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} ـ وهو مكة. وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود / حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم منها ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال : {رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} وهو المدينة ـ {وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي. والقول الثاني : في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى} ـ في الصلاة ـ {وَأَخْرِجْنِى} منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك. والقول الثالث : وهو أكمل مما سبق أن المراد : {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} منها بعد الفراغ منها إخراجاً لا يبقى علي منها تبعة ربقية. والقول الرابع : وهو أعلى مما سبق : {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى} في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات. والقول الخامس : أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلاً في كل دخول وخروج وحركة وسكون. والقول السادس : أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق.
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
البحث الثاني : مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلاً كما قال : {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكًا} (المؤمنون : 29) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى : {وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَـانًا نَّصِيرًا} (الإسراء : 80) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني. وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة ، وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة : 67) وقال : {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة : 22) وقال : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (التوبة : 33) ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال : {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ} وهو دينه وشرعه ـ {وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ } وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع ، وزهق بطل واضمحل ، وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت ، وعن ابن مسعود : "أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه". وقوله : {إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 389
391
(1/2847)
اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات والحشر والمعاد والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار ، وإنما ذكر كل ذلك في القرآن أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة فقال : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ} ولفظة من ها هنا ليست للتبعيض بل هي للجنس كقوله : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30) والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء. فجميع القرآن شفاء للمؤمنين ، واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية ، وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية ، أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر ، وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان : الاعتقادات الباطلة والاخلاق المذمومة ، أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب ، وإبطال المذاهب الباطلة فيها ، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني. وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية ، وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثاراً عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد ، فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سبباً لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى" وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والقرآن قسمان بعضهما يفيد / الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء. وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية ، والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين ، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة ، ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة لا جرم بدأ الله تعالى في هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة ، واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بين كونه سبباً للخسار والضلال في حق الظالمين والمراد به المشركون وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيدهم غيظاً وغضباً وحقداً وحسداً وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة وتزيد في تقوية تلك الأخلاق الفاسدة في جواهر نفوسهم ثم لا يزال الخلق الخبيث النفساني يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق فبهذا الطريق يصير القرآن سبباً لتزايد هؤلاء المشركين الضالين في درجات الخزي والضلال والفساد والنكال ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلا الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أن ذلك إنما يحصل بسبب جدهم واجتهادهم فقال :
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ وَنَـاَا بِجَانِبِه } وفيه مباحث :
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة وهذا بعيد ، بل المراد أن نوع الإنسان من شأنه أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله تعالى متمرداً عن طاعة الله كما قال : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6/ 7).
(1/2848)
البحث الثاني : قوله أعرض أي ولى ظهره أي عرضه إلى ناحية ونأى بجانبه أي تباعد ، ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك عادة المتكبرين وفي قوله نأى قراءات. إحداها : وهي قراءة العامة بفتح النون والهمزة وفي حم السجدة مثله وهي اللغة الغالبة والنأي البعد يقال نأي أي بعد. وثانيها : قراءة ابن عامر ناء وله وجهان تقديم اللام على العين كقولهم راء في رأى ويجوز أن يكون من نأى بمعنى نهض. وثالثها : قراءة حمزة والكسائي بإمالة الفتحتين وذلك لأنهم أمالوا الهمزة من نأى ثم كسروا النون إتباعاً للكسرة مثل رأى. ورابعها : قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونصير عن الكسائي وحمزة نأى بفتح النون وكسر الهمزة على الأصل في فتح النون وإمالة الهمزة. ثم قال تعالى : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ} أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوساً شديد اليأس من رحمة الله : {يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا} (يوسف : 87) والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله ، وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله ونظيره قوله تعالى : {فَأَمَّا الانسَـانُ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ رَبُّه فَأَكْرَمَه وَنَعَّمَه فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ} (الفجر : 15) / إلى قوله : {رَبِّى أَهَـانَنِ} (الفجر : 16) وكذلك قوله : {إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج : 19 ـ 20 ـ 21) ثم قال تعالى : {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه }
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
قال الزجاج : الشاكلة الطريقة والمذهب. والدليل عليه أنه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعب منه طرق كثيرة ثم الذي يقوي عندي أن المراد من الآية ذلك قوله تعالى : {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} وفيه وجه آخروهو أن المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفساً مشرقة خيرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وإن كانت نفسه نفساً كدرة نذلة خبيثة مضلة ظلمانية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة ، وأقول : العقلاء اختلفوا في أن النفوس الناطقة البشرية هل هي مختلفة بالماهية أم لا ؟
منهم من قال : إنها مختلفة بالماهية وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهياتها ، ومنهم من قال إنها متساوية في الماهية واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها. والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك ، وذلك لأنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي ثم أتبعه بقوله : {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه } ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال ، وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه. وهذا الكلام إنما يتم المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
0
اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله : {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه } وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ها هنا عن ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل :
(1/2849)
المسألة الأولى : للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة ، روى أن اليهود قالوا لقريش اسألوا محمداً عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي : اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الثلاثة فقال عليه السلام : غداً أخبركم ولم يقل إن شاء / الله فانقطع عنه الوحي أربعين يوماً ثم نزل الوحي بعده : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الكهف : 23 ، 24) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه. أولها : أن الروح ليس أعظم شأناً ولا أعلى مكاناً من الله تعالى فإذا كانت معرفة الله تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح. وثانيها : أن اليهود قالوا : إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلاً على النبوة وأيضاً فالحكاية التي يذكرها إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية. وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلاً على صحة النبوة. وثالثها : أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلّم إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء. ورابعها : أنه تعالى قال في حقه :
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
{الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 1 ، 2) {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) وقال : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) وقال في صفة القرآن : {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام : 59) ، وكان عليه السلام يقول : "أرنا الأشياء كما هي" فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه صلى الله عليه وسلّم أجاب عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة. أحدها : أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز. وثانيها ؛ أن يقال الروح قديمة أو حادثة. وثالثها : أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى. ورابعها : أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة/ وقوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها.
أما البحث الأول : فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته ؟
أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط ، أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام ، أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه / الأجسام والأعراض ؟
فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر ، وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله : {كُن فَيَكُونُ} (آل عمران : 47) فقالوا لم كان شيئاً مغايراً لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة. فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85).
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
(1/2850)
وأما المبحث الثاني : فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى : {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود : 97) وقال : {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} (هود : 66) أي فعلنا فقوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
المسألة الثانية : في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية. اعلم أن الناس ذكروا أقوالاً أخرى سوى ما تقدم ذكره ، فالقول الأول : أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحاً واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين. المقام الأول : تسمية الله القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى : 52) وقوله : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } (النحل : 2) وأيضاً السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } (النحل : 2) ، وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله : {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } (الإسراء : 82) والذي تأخر عنه قوله : {وَلَـاـاِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} (الإسراء : 86) إلى قوله : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء : 88) فلما كان قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضاً أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله فقال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} أي القرآن ظهر بأمر ربي وليس من جنس كلام البشر. والقول الثاني : أن الروح المسؤول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السموات وهو أعظمهم قدراً وقوة وهو المراد من قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا } (
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
(1/2851)
النبأ : 38) ونقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان ، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل ، ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه. الأول : أن هذا التفصيل لما عرفه علي ، فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به ، وأيضاً أن علياً ما كان ينزل عليه الوحي ، فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلى الله عليه وسلّم فلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره. الثاني : أن ذلك الملك إن كان حيواناً واحداً وعاقلاً واحداً لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيواناً آخر لم يكن ذلك ملكاً واحداً بل يكون ذلك مجموع ملائكة. والثالث : أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه ، أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى. والقول الرابع : وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) وفي قوله : {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم : 17) ويؤكد هذا أنه تعالى قال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (في جبريل) وقال (حكاية عن) جبريل : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } (مريم : 64) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه. والقول الخامس : قال مجاهد : الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضاً فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة والله أعلم بالصواب.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
(1/2852)
المسألة الثالثة : في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان ، اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن ها هنا شيئاً إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت / وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسماً أو عرضاً أو مجموع الجسم والعرض أو شيئاً مغايراً للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول. أما القسم الأول : وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسماً داخلاً في هذه البنية أو جسماً خارجاً عنها ، أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المسحوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا : الإنسان هو هذا الجسم المحسوس ، فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوساً فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة (عن) هذا الجسم وجوه. الحجة الأولى : أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة. الحجة الثانية : أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك ، وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و(يكون) المعلوم غير معلوم ، فالإنسان يجب أن يكون مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه. الحجة الثالثة : أن كل أحد يحكم عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء. فإن قالوا : قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي فإن كان المراد البدن فعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان ، أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله : أنا فلا نسلم أن الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته. الحجة الرابعة ؛ أن كل دليل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسماً فهو أيضاً يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل. الحجة الخامسة : أن الإنسان قد يكون حياً حال ما يكون البدن ميتاً فوجب كون / الإنسان مغايراً لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
الحجة السادسة : أن قوله تعالى : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } (غافر : 46) وقوله : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) يدل على أن الإنسان يحيا بعد الموت وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : "أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار" وكذلك قوله عليه السلام "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : "من مات فقد قامت قيامته" كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى بعد موت الجسد ، وبديهة العقل والفطرة شاهدان بأن هذا الجسد ميت. ولو جوزنا كونه حياً جاز مثله في جميع الجمادات/ وذلك عين السفسطة. وإذا ثبت أن الإنسان شيء وكان الجسد ميتاً لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد.
(1/2853)
الحجة السابعة : قوله عليه السلام في خطبة طويلة له "حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ، ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال من حله وغير حله فالغنى لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي" وجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلّم صرح بأن حال ما يكون الجسد محمولاً على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلاً له وكان جامعاً للمال من الحرام والحلال والذي بقي في رقبته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميتاً محمولاً كان ذلك الإنسان حياً باقياً فاهماً وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ولهذا الهيكل.
الحجة الثامنة : قوله تعالى : {أَحَدٌ * يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 27 ، 28) والخطاب بقوله ارجعي إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون حياً راضياً عن الله ويكون راضياً عنه الله والذي يكون راضياً ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حياً بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد.
الحجة التاسعة : قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } (الأنعام : 61 ، 62) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتاً فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميت.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
الحجة العاشرة : نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ، ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا / أحياء لكان التصدق عنهم عبثاً ، والدعاء لهم عبثاً ، ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً ، فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت ، بل (الذي) يموت هذا الجسد.
الحجة الحادية عشرة : أن كثيراً من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهباً دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ، ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك ، ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايراً لهذا الجسد الميت.
الحجة الثانية عشرة : أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجوداً قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي ، وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.
الحجة الثالثة عشرة : أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول : إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق ؟
فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلقاً لذلك الخنزير وليس هذا من المسخ في شيء. وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول على ذلك التقدير : ذلك الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق ، فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئاً مغايراً لتلك البنية.
الحجة الرابعة عشرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فها هنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن حقيقة الإنسان غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية ، وهذا الهيكل. والفرق بين هذه الحجة والتي قبلها أنه حصلت صورة هذه البنية مع عدم هذه البنية وهذا الهيكل.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
الحجة الخامسة عشرة : أن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئاً آخر سوى الفرج وسوى الظهر ، ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر ، فيكون المتلذذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه تحصل تلك اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو.
(1/2854)
الحجة السادسة عشرة : أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا أو لا تفعل كذا / فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئاً من أعضائه بعينه ، فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئاً مغايراً لهذه الأعضاء ، وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أعضائه وأبعاضه ؟
قلنا بوجه التكليف على الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة فاهمة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حدة ، والأول يقتضي قيام العرض بالمحال الكثيرة وهو محال ، والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالماً فاهماً مدركاً على سبيل الاستقلال ، وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالماً فاهماً مدركاً بالاستقلال فسقط هذا السؤال.
الحجة السابعة عشرة : أن الإنسان يجب أن يكون عالماً ، والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل ، وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالماً لأنه فاعل مختار ، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصوداً امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن. أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب ، وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف : 179) وقوله : {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) وقوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً ، وثبت أن العلم ليس إلا في القلب هو هذا الجسد وهذا الهيكل.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
وأما البحث الثاني : وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني.
(1/2855)
المسألة الرابعة : في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولداً من امتزاجها ، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسماً متولداً من امتزاجات هذه الأربعة فنقول : أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا : الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء ، وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو / الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت ، أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان. أحدهما : أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب ، ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ، ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان ، ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة ، والجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق ولا التمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُه } نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم ، ونفاذ ماء الورد في جسم الورد ، ونفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (ص : 72) ثم إن البدن ما دام يبقى سليماً قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة بقي حياً ، فإذا تولدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت ، فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت ، فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن ، وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول. أما القسم الثاني : وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن ، فهذا لا يقول به عاقل لأن من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبر والتصرف ، ومن كان كذلك كان جوهراً والجوهر لا يكون عرضاً بل الذي يمكن أن يقول به كل عاقل هو أن الإنسان يشترط أن يكون موصوفاً بأعراض مخصوصة ، وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال. القول الأول : أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحدة منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج : ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية ، فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص ، هذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة. والقول الثاني : أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس وقالوا ليس ها هنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة ، وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة. والقول الثالث : أن الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده / وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فها هنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة فقد بطل اعتبار هذا الشكل في حصول معنى الإنسانية طرداً وعكساً. أما القسم الثالث : وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسمانية فهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معاداً روحانياً وثواباً وعقاباً وحساباً روحانياً وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي رحمهما الله ، ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ، ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد ، ومن الكرامية جماعة ، واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان ، الأول : وهم المحققون منهم من قال الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص ، وهذا البدن وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل
(1/2856)
بالعالم ولا منفصل عنه ، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير. والفريق الثاني : الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن ، والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذه جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبرة للبدن فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلق النفس عن البدن.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
المسألة الخامسة : في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية فلنذكر الوجوه القطعية.
الحجة الأولى : لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهراً متحيزاً أو غير متحيز والأول باطل فتعين الثاني والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهراً متحيزاً أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزاً غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزاً بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهراً متحيزاً فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى : لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان كونه متحيزاً عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة. إما أن يكون متحيزاً أو لا يكون والقسمان باطلان فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزاً مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليس جعل أحدهما / ذاتاً والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها ، والشيء الذي لا يكون متحيزاً لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال ، فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة. المقدمة الثانية : لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة ، والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولاً لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال. المقدمة الثالثة : أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلاً بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالماً بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه عن عين المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهراً متحيزاً وذلك هو المطلوب/ فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهراً مجرداً لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهراً مجرداً وليس الأمر كذلك قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجرداً معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالاً في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوماً بخلاف كونه متحيزاً فأنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهراً متحيزاً يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولاً فظهر الفرق.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
(1/2857)
الحجة الثانية : النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات ، المقدمة الأولى : هي قولنا النفس واحدة ولنا ها هنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته ، أما المقام الأول : وهو إدعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحداً غير متعدد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحداً إلا أن ذلك الواحد يكون مركباً من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذه السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء / كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام. أما المقام الثاني : وهو مقام الاستدلال فالذي يدل على وحدة النفس وجوه.
الحجة الأولى : أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطاً بالشعور بكون الشيء ملايماً ومنافراً فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافراً امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى لدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعاً للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافراً فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركاً فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة.
الحجة الثانية : أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلاً بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعاً للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به. وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهراً ومحل الغضب جوهراً آخر ومحل الشهوة جوهراً ثالثاً وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعاً للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مباديء مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقاً له عن الإشتغال بالفعل الآخر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
الحجة الثالثة : أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سبباً لحصول الشهوة وقد يصير سبباً لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايراً للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه.
(1/2858)
الحجة الرابعة : أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإدارة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركاً للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية/ وأما المقدمة الثانية : في بيان أنه لما كانت النفس شيئاً واحداً وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئاً من أجزائه فنقول أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر /والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية ، وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءاً من أجزاء هذا البدن فانا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالأبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الأبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء. وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضاً أن شيئاً من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب. ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول : إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئاً عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئاً والعارف شيئاً ثانياً والمشتهي شيئاً ثالثاً والمتحرك شيئاً رابعاً لكان الذي أبصر لم يعرف ، والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يتحرك ، ومن المعلوم أن كون الشيء مبصراً لشيء لا يقتضي صيرورة شيء آخر عالماً بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضاً فأنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضاً بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذ الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره وأيضاً العقلاء قالوا الحيوان لا بد أن يكون حساساً متحركاً بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائماً أو بكونه منافراً وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريداً للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركاً بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساساً فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد وأيضاً فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير (عقلنا) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني. إذ ثبت هذا فنقول : إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسماً واحداً لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وإن قلنا محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضاً أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضاً باطل بالضرورة ، / وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ، ومحل العلوم والإرادات هو القلب ، ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات ، كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك. وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئاً واحداً/ فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك (أنه) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالاً مختلفة بواسطة آلات محتلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب ، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها ، والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم.
(1/2859)
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
المقدمة الثالثة : لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة ، وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة ، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد ، وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حياً عالماً قادراً على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيواناً واحداً بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتاً واحدة لا حيوانات كثيرين ، وأيضاً فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيواناً واحداً على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين. وفساد ذلك معلوم بالبديهة ، وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقضتي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة ، وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضاً حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حياً عاقلاً عالماً فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناساً كثيرين ، ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة. فإن قالوا : لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد ، ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية ، ولا معنى للعلم إلا العالمية ، وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال ، وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة / وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناساً كثيرين وهو محال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
(1/2860)
المقدمة الرابعة : أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم ، وذلك يدل على أن النفس ليست جسماً ، وتقرير هذه المنافاة من وجوه. الأول : أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالاً تاماً مثاله : أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه ، نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئاً من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل ، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف ألبتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهماً وإدراكاً كلما ازداد تخرجاً وارتباطاً في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم. والثاني : أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن ، أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها ، وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه ، وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سبباً لكماله ونقصانه معاً ولحياته وموته معاً ، وأنه محال. والثالث : أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفاً نحيفاً ، فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية. ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزناً ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك. الرابع : أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروماً عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك.الخامس : أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل ، أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئاً إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتاً إذا سد أذنيه. كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالماً به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها / في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية ، فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم ، وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الاعادة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
المسألة السادسة : في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية.
الحجة الأولى : قوله تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ } (الحشر : 19) ومعلوم أن أحداً من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.
الحجة الثانية : قوله تعالى : {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ } (الأنعام : 93) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه.
(1/2861)
الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون : 12 ، 13) إلى قوله : {فَكَسَوْنَا الْعِظَـامَ لَحْمًا} (المؤمنون : 14) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلاً من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولاً ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة.
الحجة الرابعة : قوله : {فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله : {مِن رُّوحِى} دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد.
الحجة الخامسة : قوله تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} (الشمس : 7 ، 8) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقاً لأن الإلهام عبارة عن الإدراك ، وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضاً بالإدراك والتحريك وموصوف أيضاً بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفاً بكل هذه الأمور.
/
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
الحجة السادسة : قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} (الإنسان : 2) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضواً من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات. واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد ، والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم.
المسألة السابعة : في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحاً مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ، ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال : {إِنَّه مِنَ الصَّـالِحِينَ} بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له : {كُن فَيَكُونُ} (البقرة : 117) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي : خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر ، وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} (الشعراء : 193 ، 194) واحتج المنكرون بوجوه. الأول : لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال. الثاني : قوله تعالى : {قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَه * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَه * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه * ثُمَّ أَمَاتَه فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَه } (
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
(1/2862)
عبس : 17 ـ 22) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة ، وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر ، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة. الثالث : قوله : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله : {يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} (آل عمران : 169 ، 170) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام. الجواب عن الأول : أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلاً للإله أو جزءاً للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب / لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما ، فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال ، والجواب عن الثاني : أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف ، والجواب عن الثالث : أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين ، أما المفسرون فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً" فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول : "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" وساعة تقول هذا. فنزل قوله : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ} (لقمان : 27) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلاً بالنسبة إلى شيء كثيراً بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جداً بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية.
جزء : 21 رقم الصفحة : 391
406
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم {مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه.
المسألة الثانية : احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً بل يجب أن يكون محدثاً. وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثاً وقوله : {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِه عَلَيْنَا وَكِيلا} أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال : {إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله / ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة. أحدهما : تسهيل ذلك العلم عليه. الثاني : إبقاء حفظه عليه وقوله : {إِنَّ فَضْلَه كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} فيه قولان : الأول : المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. الثاني : المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 406
406
في الآية مسائل :
(1/2863)
المسألة الأولى : اعلم أنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } (البقرة : 23) بالغنا في بيان إعجاز القرآن ، وللناس فيه قولان منهم من قال : القرآن معجز في نفسه ، ومنهم من قال إنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب ، وإن لم يكن معجزاً بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة وما كان لهم عنها صارف ومانع. وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً لازماً فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول هب أنه قد ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف عرفتم عجز الجن عن معارضته ؟
وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إن هذا الكلام نظم الجن ألقوه على محمد صلى الله عليه وسلّم وخصوه به على سبيل السعي في إضلال الخلق فعلى هذا إنما تعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلّم إذا عرفتم أن محمداً صادق في قوله أنه ليس من كلام الجن بل هو من كلام الله تعالى فحينئذ يلزم الدور وليس لأحد أن يقول كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجن لأنا نقول إن هذه الآية دلت على وقوع التحدي مع الجن ، وإنما يحسن هذا التحدي لو كانوا فصحاء بلغاء ، ومتى كان الأمر كذلك كان الاحتمال المذكور قائماً. أجاب العلماء عن الأول بأن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزاً وعن الثاني أن ذلك لو وقع لوجب في حكمة الله أن يظهر ذلك التلبيس وحيث لم يظهر ذلك دل على عدمه وعلى أنه تعالى قد أجاب عن هذا / السؤال بالأجوبة الشافية الكافية في آخر سورة الشعراء في قوله : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَـاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الشعراء : 221 ، 222) وقد شرحنا هذه الأجوبة هناك فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 406
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضاً بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 406
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضاً بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 406
407
وهذا الكلام يحتمل وجوهاً. أحدها : أنه وقع التحدي بكل القرآن كما في هذه الآية ، ووقع التحدي أيضاً بعشر سور منه كما في قوله تعالى : {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِه مُفْتَرَيَـاتٍ} (هود : 13) ووقع التحدي بالسورة الواحدة كما في قوله تعالى : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } ووقع التحدي بكلام من سورة واحدة كما في قوله : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه } (الطور : 34) فقوله : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه ، ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم. وثانيها : أن يكون المراد من قوله : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مراراً وأطواراً ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر. وثالثها : أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفي الشركاء والأضداد في هذا القرآن مراراً كثيرة ، وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مراراً وأطواراً ، وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد ، ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على الشرك وإنكار النبوة.
يريد (أبى) أكثر أهل مكة {إِلا كُفُورًا} أي جحودا للحق ، وذلك أنهم أنكروا ما لا حاجة إلى إظهاره ، فإن قيل كيف جاز : {فَأَبَى ا أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} ولا يجوز أن يقال ضربت إلا زيداً ، قلنا لفظ أبى يفيد النفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا.
جزء : 21 رقم الصفحة : 407
410
(1/2864)
/ اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزاً وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلّم فحينئذ تم الدليل على كونه نبياً صادقاً لأنا نقول إن محمداً ادعى النبوة وظهر المعجزة على وفق دعواه وكل من كان كذلك فهو نبي صادق ، فهذا يدل على أن محمدالله صلى الله عليه وسلّم صادق وليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزاً آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً التمسوا من الرسول صلى الله عليه وسلّم ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس "أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعاً أي نهراً وعيوناً نزرع فيها فقال لا أقدر عليه ، فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً فقال لا أقدر عليه ، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه ، فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع ، قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أي قطعاً بالعذاب وقوله كما زعمت إشارة إلى قوله : {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الإنشقاق : 1) ، {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار : 1) فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلماً فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا" فهذا شرح هذه القصة كما رواها ابن عباس.
جزء : 21 رقم الصفحة : 410
المسألة الثانية : اعلم أنهم اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنواعاً من المعجزات أولها : قولهم / {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} قرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة واختاره أبو حاتم قال لأن الينبوع واحد والباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة ولم يختلفوا في الثانية مشددة لأجل الأنهار ، لأنها جمع يقال فجرت الماء فجراً وفجرته تفجيراً ، فمن ثقل أراد به كثرة الأشجار من الينبوع وهو وإن كان واحداً فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول ضرب زيد إذا كثر الضرب منه فيكثر فعله وإن كان الفاعل واحداً ومن خفف فلأن الينبوع واحد ، وقوله ينبوعاً ، يعني : عيناً ينبع الماء منه ، تقول نبع الماء ينبع نبعاً ونبوعاً ونبعاً ذكره الفراء ، قال القوم أزل عنا جبال مكة ، وفجر لنا الينبوع ليسهل علينا أمر الزراعة والحراثة. وثانيها : قولهم : {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الانْهَـارَ خِلَـالَهَا تَفْجِيرًا} والتقدير كأنهم قالوا هب أنك لا تفجر هذه الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك. وثالثها : قولهم : {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر كسفاً بفتح السين ها هنا وفي سائر القرآن بسكونها ، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ها هنا ، وفي الروم بفتح السين ، وفي باقي القرآن بسكونها ؛ وقرأ حفص في سائر القرآن بالفتح إلا في الروم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي في الروم بفتح السين ، وفي سائر القرآن بسكون السين ، قال الواحدي رحمه الله كسفاً ، فيه وجهان من القراءة سكون السين وفتحها ، قال أبو زيد يقال : كسفت الثوب أكسفه كسفاً إذا قطعته قطعاً ، وقال الليث : الكسف ، قطع العرقوب ، والكسفة : القطعة ، وقال الفراء : سمعت أعرابياً يقول لبزاز : أعطني كسفة : يريد قطعة ، فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوهاً ، أحدها : قال الفراء أن يكون جمع كسفة مثل : دمنة ودمن وسدرة وسدر. وثانيها : قال أبو علي : إذا كان المصدر الكسف ، فالكسف الشيء المقطوع كما تقول في الطحن والطبخ السقي ، ويؤكد هذا قوله : {وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا} (الطور : 44). وثالثها : قال الزجاج : من قرأ : كسفاً كأنه قال أو يسقطها طبقاً علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته ، وأما فتح السين فهو جمع كسفة مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر ، وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 410
(1/2865)
المسألة الثانية : قوله : {كَمَا زَعَمْتَ} فيه وجوه. الأول : قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا. والثاني : قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. الثالث : يمكن أن يكون المراد ما ذكره الله تعالى في هذه السورة في قوله : {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (الإسراء : 68) فقيل اجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا. ورابعها : قولهم : {أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ والملائكة قَبِيلا} وفي لفظ القبيل وجوه. الأول : القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر ، وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله : {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلا} (الأنعام : 111). والقول الثاني : ما قاله ابن عباس يريد فوجاً / بعد فوج. قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله : {إِنَّه يَرَاـاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه } . القول الثالث : إن قوله قبيلاً معناه ها هنا ضامناً وكفيلاً ، قال الزجاج : يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل ، وعلى هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى : {وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا} (النساء : 69). والقول الرابع : قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـا اـاِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } (الفرقان : 21). وخامسها : قولهم : {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله : {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} قال الزجاج : الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} (يونس : 24) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. وسادسها : قولهم : {أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ} قال الفراء : يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد :
أنت الذي كلفتني رقي الدرج
على الكلال والمشيب والعرج
وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف ، يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا : {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أي لن نؤمن لأجل رقيك : {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـابًا نَّقْرَؤُه ا قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} فيه تصديقك قال عبد الله بن أمية : {لَن نُّؤْمِنَ} حتى نصنع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول. ولما حكى الله تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 410
المبحث الأول : أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) إلى قوله : {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى} وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتاً في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا. والجواب : أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال.
البحث الثاني : هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على الله محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي ، وقوله سبحان ربي تنزيه لله تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق بالله إلا قولهم أو تأتي بالله فدل هذا على أن قوله : {سُبْحَانَ رَبِّى} تنزيه لله عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن الله تعالى يجيء ويذهب ، فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء ؟
قلنا القوم لم يتحكموا على الله ، وإنما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم إن كنت نبياً صادقاً فاطلب من الله أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على الله فلا يليق حمل قوله : {سُبْحَانَ رَبِّى} على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي بالله.
(1/2866)
/ البحث الثالث : تقرير هذا الجواب أن يقال : إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من الله تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولاً حقاً من عند الله. والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء والثاني أيضاً باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله : {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} جواب كاف في هذا الباب ، وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله : {سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} كونهم على الضلال في الإلهيات ، وفي النبوات. أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجيء وذهاب وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله : {هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} وتقريره ما ذكرناه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 410
410
اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولاً من البشر بل اعتقدوا أن الله تعالى لو أرسل رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه. الأول : قوله : {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى } وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في إدعاء رسالة الله تعالى فالمراد من قوله تعالى : {إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى } هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون / من الملائكة تحكماً فاسداً وتعنتاً باطلاً. الوجه الثاني : من الأجوبة التي ذكرها الله في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله : {لَّوْ كَانَ فِى الارْضِ مَلَـا اـاِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَـاـاِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولا} . الوجه الثالث : من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله : {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وتقريره أن الله تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ومن شهد الله على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال : {إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق.
جزء : 21 رقم الصفحة : 410
412
(1/2867)
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله : {إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا} ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل ، أما قوله : {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِا وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَه وَلِيًّا مُّرْشِدًا} فالمقصود تسلية الرسول وهو أن الذين سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم في الهدى والضلال والمعتزلة حملوا هذا الإضلال تارة على الإضلال عن طريق الجنة وتارة على منع الألطاف وتارة على التخلية وعدم التعرض له بالمنع وهذه المباحث قد ذكرناها مراراً فلا فائدة في الإعادة ، أما قوله تعالى : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين : الأول : إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى : {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} (القمر : 48). الثاني : روى أبو هريرة قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم ؟
قال : إن الذي / يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ، قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم ، وأما قوله : {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } فاعلم أن واحداً قال لابن عباس رضي الله عنه : أليس أنه تعالى يقول : {وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} (
جزء : 21 رقم الصفحة : 412
الكهف : 53) وقال : {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (الفرقان : 12) وقال : {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (الفرقان : 13) وقال : {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا} (النحل : 111) وقال حكاية عن الكفار : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال ههنا : {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه. الأول : قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة. الثاني : قال في رواية عطاء عمياً عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه بكماً عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين صماً عن ثناء الله تعالى على أوليائه. الثالث : قال مقاتل إنه حين يقال لهم : {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون : 108) يصيرون عمياً بكماً صماً ، أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع : أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا على أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا إلزام حجة الله عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله عمياً وبكماً وصماً. والجواب : أن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون ، أما قوله تعالى : {مَّأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ } فظاهر ، وأما قوله : {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا} ففيه مباحث :
البحث الأول : قال الواحدي الخبو سكون النار ، يقال : خبت النار تخبوا إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبىء إخباء أي أخمدها ثم قال : {زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا} قال ابن قتيبة زدناهم سعيراً أي تلهباً.
البحث الثاني : لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله : {كُلَّمَا خَبَتْ} يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار ، أما لا يدل هذا على أنه يخف العذاب في ذلك الوقت.
البحث الثالث : قوله : {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا} ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفاً. والجواب : الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديداً ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ بالله منه ولما ذكر تعالى أنواع هذا الوعيد قال {ذَالِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا } والباء في قوله : بأنهم كفروا باء السببية وهو حجة لمن يقول العمل علة الجزاء والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 412
412
/ قوله تعالى : {وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا وَرُفَـاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ قَادِرٌ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّـالِمُونَ اِلا كُفُورًا} .
(1/2868)
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ورميماً يبعد أن يعود هو بعينه وأجاب الله تعالى عنه بأن من قدر على خلق السموات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم وفي قوله : {قَادِرٌ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} قولان : الأول : المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء. القول الثاني : المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى : {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (إبراهيم : 19) وقوله : {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (التوبة : 39) قال الواحدي والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله : {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ} (الإسراء : 99) ثم قال تعالى : {فَأَبَى الظَّـالِمُونَ اِلا كُفُورًا} أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود.
جزء : 21 رقم الصفحة : 412
413
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن الكفار لما قالوا ؛ {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) طلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {لَّوْ أَنتُمْ} فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان ، أما البحث النحوي : فهو أن كلمة {لَوْ} من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء / لانتفاء غيره والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفى هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة {لَوْ} مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس :
لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
نصبت لهم فوق العرانين مأتما
والمعنى لو أراد غير أخوالي وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله : {أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل.
المسألة الثالثة : خزائن فضل الله ورحمته غير متناهية فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ثم قال تعالى : {وَكَانَ الانسَـانُ قَتُورًا} أي بخيلاً يقال قتر يقتر قتراً وأقتر إقتاراً وقتر تقتيراً إذا قصر في الانفاق فإن قيل فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه. الأول : أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني : أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث : إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90).
جزء : 21 رقم الصفحة : 413
416
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من هذا الكلام أيضاً الجواب عن قولهم : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} / حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة فقال تعالى : {وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} معجزات مساوية لهذه الأشياء التي طلبتموها بل أقوى منها وأعظم فلو حصل في علمنا أن جعلها في زمانكم مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حق موسى فدل هذا على إنا إنما لم نفعلها في زمانكم لعلمنا أنه لا مصلحة في فعلها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 416
(1/2869)
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه الصلاة والسلام. أحدها : أن الله تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحاً. وثانيها : إنقلاب العصا حية. وثالثها : تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها. ورابعها : اليد البيضاء وخمسة أخر وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. والعاشر : شق البحر وهو قوله : {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} (البقرة : 50) والحادي عشر : الحجر وهو قوله : {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } (الأعراف : 160). الثاني عشر : إظلال الجبل وهو قوله تعالى : {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّه ظُلَّةٌ} . والثالث عشر : إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه. والرابع عشر والخامس عشر : قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف : 130). والسادس عشر : الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير ، روى ابن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله : {تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } فذكر محمد بن كعب في مسألة التسع حل عقدة اللسان والطمس فقال عمر بن عبد العزيز هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال : يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنا بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول : أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما ولما لم تكن تلك الأحوال مستندة إلى حجة ظنية فضلاً عن حجة يقينية لا جرم تركت تلك الروايات ، وفي تفسير قوله تعالى : {تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } أقوال أجودها ما روى صفوان بن عسال أنه قال : إن يهودياً قال لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وسألاه عنها فاقل : هن أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي ولولا نخاف القتل وإلا اتبعناك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 416
المسألة الثالثة : قوله : {فَسْـالْ بَنِى إسرائيل إِذْ جَآءَهُمْ} فيه مباحث :
البحث الأول : فيه وجوه : الوجه الأول : أنه اعتراض دخل في الكلام والتقدير : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } ـ إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم ـ وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من / سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. والوجه الثاني : أن يكون قوله فاسأل بني إسرائيل أي سلهم عن فرعون. وقل له أرسل معي بني إسرائيل. والوجه الثالث : سل بني إسرائيل أي سلهم أن يوافقوك والتمس منهم الإيمان الصالح. وعلى هذا التأويل فالتقدير فقلنا له سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك.
البحث الثاني : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن يسأل بني إسرائيل معناه الذين كانوا موجودين في زمان النبي صلى الله عليه وسلّم والذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام هم الذين كانوا في زمانه إلا أن الذين كانوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم لما كانوا أولاد أولئك الذين كانوا في زمان موسى حسنت هذه الكناية. ثم أخبر تعالى أن فرعون قال لموسى : {إِنِّى لاظُنُّكَ يَـامُوسَى مَسْحُورًا} (الإسراء : 45) وفي لفظ المسحور وجوه. الأول : قال الفراء : إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون وذكرنا هذا في قوله : {حِجَابًا مَّسْتُورًا} أنه مفعول من السحر أي أن الناس سحروك وخبلوك فتقول هذه الكلمات لهذا السبب. الثالث : قال محمد بن جرير الطبري معناه أعطيت علم السحر ، فهذه العجائب التي تأتي بها من ذلك السحر ثم أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـا ؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وفيه مباحث :
(1/2870)
البحث الأول : قرأ الكسائي علمت بضم التاء أي علمت أنها من علم الله فإن علمت وأقررت وإلا هلكت والباقون بالفتح وضم التاء قراءة علي وفتحها قراءة ابن عباس وكان علي رضي الله عنه يقول والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فاحتج بقوله : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} (النمل : 14) على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه السلام قال الزجاج الأجود في القراءة الفتح لأن علم فرعون بأنها آيات نازلة من عند الله أوكد في الحجة فاحتجاج موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج بعلم نفسه. وأجاب الناصرون لقراءة علي عليه السلام عن دليل ابن عباس فقالوا قوله : : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} يدل على أنهم استيقنوا شيئاً ما فأما أنهم استيقنوا كون هذه الآيات نازلة من عند الله فليس في الآية ما يدل عليه ، وأجابوا عن الوجه الثاني بأن فرعون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء : 27) قال موسى : {لَقَدْ عَلِمْتَ} فكأنه نفي ذلك وقال لقد علمت صحة ما أتيت به علماً صحيحاً علم العقلاء. واعلم أن هذه الآيات من عند الله ولا تشك في ذلك بسبب سفاهتك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 416
البحث الثاني : التقدير ما أنزل هؤلاء الآيات ونظيره قوله : والعيش بعد أولئك الأقوام.
وقوله بصائر أي حججاً بينة كأنها بصائر العقول وتحقيق الكلام أن المعجزة فعل خارق للعادة فعله فاعله لغرض تصديق المدعى ومعجزات موسى عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة / بهذين الوصفين لأنها كانت أفعالاً خارقة للعادة وصرائح العقول تشهد بأن قلب العصا حية معجزة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله ثم إن تلك الحية تلقفت حبال السحرة وعصيهم على كثرتها ثم عادت عصا كما كانت فأصناف تلك الأفعال لا يقدر عليها أحد إلا الله/ وكذا القول في فرق البحر وإظلال الجبل فثبت أن تلك الأشياء ما أنزلها إلا رب السموات. الصفة الثانية : أنه تعالى إنما خلقها لتدل على صدق موسى في دعوة النبوة ، وهذا هو المراد من قوله : {مَآ أَنزَلَ هَـا ؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} حال كونها بصائر أي دالة على صدق موسى في دعواه وهذه الدقائق لا يمكن فهمها من القرآن إلا بعد إتقان علم الأصول وأقول يبعد أن يصير غير علم الأصول العقلي قاهراً في تفسير كلام الله ثم حكى تعالى أن موسى قال لفرعون : {إِنِّى لاظُنُّكَ يَـامُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـا ؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ بَصَآاـاِرَ وَإِنِّى لاظُنُّكَ يَـافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} (الإسراء : 103) واعلم أن فرعون قال لموسى : {وَإِنِّى لاظُنُّكَ يَـافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} فعارضه موسى وقال له : {وَإِنِّى لاظُنُّكَ يَـافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} قال الفراء : المثبور الملعون المحبوس عن الخير والعرب تقول ما ثبرك عن هذا أي ما منعك منه وما صرفك ، وقال أبو زيد : يقال ثبرت فلاناً عن الشيء أثبره أي رددته عنه ، وقال مجاهد وقتادة هالكاً ، وقال الزجاج : يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك ، والثبور الهلاك ، ومن معروف الكلام فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله ، وقال تعالى : {وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} (الفرقان : 13 ، 14) واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحوراً أجابه موسى بأنك مثبور يعني هذه الآيات ظاهرة ، وهذه المعجزات قاهرة ولا يرتاب العاقل في أنها من عند الله وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور. ثم قال تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 416
(1/2871)
{فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الارْضِ} يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل ، ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر ، قال الزجاج : لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال : {فَأَغْرَقْنَـاهُ وَمَن مَّعَه جَمِيعًا} المعنى ما ذكره الله تعالى في قوله : {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِه } (فاطر : 43) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه وقال : {لِبَنِى إسرائيل اسْكُنُوا الارْضَ} خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخِرَةِ} يريد القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} من ها هنا وها هنا ، واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف. وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته ، ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه ، التفت الساق بالساق ، والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطاً يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 416
418
/ اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ} (الإسراء : 88) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات ، ثم أجاب الله بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة ، منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم الله تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم الله فكذا ها هنا ، ثم إنه تعالى لو آتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمناً ، ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال : {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد. الفائدة الأولى : أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب ، وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف ، وأيضاً فهذا الكتاب كتاب تكفل الله بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} (الحجر : 9) فكان هذا الكتاب حقاً من كل الوجوه. الفائدة الثانية : أن قوله : {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ}
جزء : 21 رقم الصفحة : 418
يفيد الحصر / ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة ، وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين الله. الفائدة الثالثة : قوله : {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } يدل على أن الإنزال غير النزول ، فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم. الفائدة الرابعة : قال أبو علي الفارسي الباء في قوله : {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ} بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه ، والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله : {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } فيه احتمالان ، أحدهما : أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد صلى الله عليه وسلّم لأن القرآن نزل به أي عليه. الثاني : أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله : {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ} ثم قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشراً للمطيعين ونذيراً للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.
ثم قال : {وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وفيه مباحث :
البحث الأول : أن القوم قالوا : هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقاً شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب الله عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل.
(1/2872)
البحث الثاني : قال سعيد بن جيبر نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى ، ثم فصل في السنين التي نزل فيها ، قال قتادة : كان بين أوله وآخره عشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ننزله جملة لتقرأه على الناس على مكث بالفتح والضم على مهل وتؤدة أي لا على فورة. قال الفراء : يقال مكث ومكث يمكث ، والفتح قراءة عاصم في قوله : {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (النمل : 22).
جزء : 21 رقم الصفحة : 418
البحث الثالثة : الاختيار عند الأئمة فرقناه بالتخفيف وفسره أبو عمرو بيناه قال أبو عبيد : التخفيف أعجب إلي لأن تفسيره بيناه ومن قرأ بالتشديد لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرقاً فالفرق يتضمن التبيين ويؤكده ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلّم : "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" ولم يقل يفترقا والتفرق مطاوع التفريق والافتراق مطاوع الفرق ثم قال : {وَنَزَّلْنَـاهُ تَنزِيلا} أي على الحد المذكور والصفة المذكورة ثم قال : {قُلْ ءَامِنُوا بِه أَوْ لا تُؤْمِنُوا } يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي أنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِه } أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد : هم ناس من أهل / الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم خروا سجداً منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ثم قال : {يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ سُجَّدًا} وفيه أقوال : القول الأول : قال الزجاج : الذقن مجمع اللحيين وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذقن. والقول الثاني : أن الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخضوع والخشوع ربما مسح لحيته على التراب فإن اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب فقد أتى بغاية التعظيم. والقول الثالث : أن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه ومتى كان الأمر كذلك كان خروره على الذقن في موضع السجود فقوله : {يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ} كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته ثم بقي في الآية سؤالان. السؤال الأول : لم قال : {يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ سُجَّدًا} ولم يقل يسجدون ؟
والجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون. السؤال الثاني : لم قال : {يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ} ولم يقل على الأذقان والجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن والله أعلم. ثم قال تعالى : {وَيَقُولُونَ سُبْحَـانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} والمعنى أنهم يقولون في سجودهم : {سُبْحَـانَ رَبِّنَآ} أي ينزهونه ويعظمونه : {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} أي بإنزال القرآن وبعث محمد وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال : {وَيَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ يَبْكُونَ} والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهما خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن ويدل عليه قوله : {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } ويجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم وقوله : {يَبْكُونَ} معناه الحال : {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } أي تواضعاً واعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه وأنهم وإن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 418
421
(1/2873)
قال صاحب "الكشاف" المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى : {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في {أَيًّا} عوض عن المضاف إليه و{مَآ} صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم {فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } والضمير في قوله : {فَلَه } ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى : {أَيًّا مَّا تَدْعُوا } فهو حسن فوضع موضعه قوله : {فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } فادعوه بها واحتج الجبائي بهذه الآية فقال : لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة. والجواب : أنا لا نسلم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السموات والأرض فكذا قولنا هنا ، ثم قال تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 421
البحث الأول : قوله : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيه أقوال. الأول : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيسمع المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم : {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا. القول الثاني : روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف بالليل على دور الصحابة ، وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته ، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر لم تخفي صوتك ؟
فقال أناجي ربي ، وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك ؟
فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً. القول الثالث : معناه : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} كلها {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل / وتخافت بصلاة النهار. والقول الرابع : أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي الله عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه. والقول الخامس : قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسىء بسريتها.
البحث الثاني : الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت ، فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء.
جزء : 21 رقم الصفحة : 421
(1/2874)
البحث الثالث : يقال خفت صوته يخفت خفتاً وخفوتاً إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) وقال في مدح المؤمنين : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67) وأمر الله رسوله فقال : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء : 29) فكذا ههنا نهى عن الطرقين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال : {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا} ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأعراف : 55) وهو بعيد واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال : {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّه وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ } فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات. النوع الأول : من الصفات أنه لم يتخذ ولداً والسبب فيه وجوه. الأول : أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني : أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده. الثالث : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. والنوع الثاني : من الصفات السلبية قوله : {وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ} والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر. والنوع الثالث : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 421
{وَلَمْ يَكُن لَّه وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ } والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله / على ذلك الإنعام أو منعه منه ، أما إذا كان منزهاً عن الولد وعن الشريك وكان منزهاً عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأجل أقسام الشكر ثم قال تعالى : {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَا } ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقروناً بالتكبير ويحتمل أنواعاً من المعاني. أولها : تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه. وثانيها : تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه. أولها : أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص. وثالثها : أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات. ورابعها : أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال. النوع الثالث : من تكبير الله تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر فقال أهل السنة إنا نحمد الله ونكبره ونعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء الله وقدرته ومشيئته وإرادته ، وقالت المعتزلة إنا نكبر الله ونعظمه عن أن يكون فاعلاً لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالساً في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء. النوع الرابع : تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء. النوع الخامس : تكبير الله في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة. النوع السادس : من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله ، ولسانه لا يفي بشكره ، وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافياً بكنه مجده وعزته. وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل الله تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وبالله العصمة والتوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل.
جزء : 21 رقم الصفحة : 421
421
(1/2875)
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 21 رقم الصفحة : 421
424
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما الكلام في حقائق قولنا : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقد سبق ، والذي أقوله ههنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد ، ألا ترى أنه يقال : {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} إذا عرفت هذا فنقول : إنه جل جلاله ذكر التسبيح عندما أخبر أنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلّم فقال : {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} (الإسراء : 1) وذكر التحميد عندما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلّم فقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} وفيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته والتحميد عبارة عن كونه مكملاً لغيره ، ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملاً في ذاته. ونهاية الأمر كونه مكملاً لغيره. فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا سبحان الله ثم ذكر بعده الحمد لله تنبيهاً على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية. إذا عرفت هذا فنقول : ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد. وهذا تنبيه على أن الإسراء به / أول درجات كماله وإنزال الكتاب غاية درجات كماله ، والأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له ، وإنزال الكتاب عليه يقتضي كونه مكملاً للأرواح البشرية وناقلاً لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية ، ولا شك أن هذا الثاني أكمل. وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاماً أن يصير (العبد) عالماً في ذاته معلماً لغيره ولهذا روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال : "من تعلم وعلم فذاك يدعى عظيماً في السموات".
الفائدة الثانية : أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت ، ولا شك أن هذا الثاني أكمل.
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
(1/2876)
الفائدة الثالثة : أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه ألا ترى أنه تعالى قال هنالك : {لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ } (الإسراء : 1) ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية ، ألا ترى أنه قال : {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} والفوائد المتعدية أفضل من القاصرة.
المسألة الثانية : المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق. والجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (الأعراف : 54).
المسألة الثالثة : إنزال الكتاب نعمة عليه ونعمة علينا ، أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر ، وتعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات ، وتصيير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت وينكشف فيها قدس اللاهوت فلا شك أن ذلك من أعظم النعم ، وأما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والثواب والعقاب/ وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول وعلى جميع أمته أن يحمدوا الله عليه فعلمهم الله تعالى كيفية ذلك التحميد فقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا * قَيِّمًا} وفيه أبحاث :
البحث الأول : أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره ويجب أن يكون تاماً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير إذا عرفت هذا فنقول في قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله : {قَيِّمًا} إشارة إلى كونه مكملاً لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب : {لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) فقوله : {لا رَيْبَ فِيهَآ} إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم / الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } قائم مقام قوله : {لا رَيْبَ فِيهَآ} وقوله : {قَيِّمًا} قائم مقام قوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وهذه أسرار لطيفة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
البحث الثاني : قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد منه وجوه : أحدها : نفي التناقض عن آياته كما قال : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82). وثانيها : أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها البتة. وثالثها : أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجهاً إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجهاً إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } . الصفة الثانية : للكتاب وهي قوله : {قَيِّمًا} قال ابن عباس يريد مستقيماً وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل ، بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه : {قَيِّمًا} أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفال ، والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم.
البحث الثالث : قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير : أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً. وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } يدل على كونه كاملاً في ذاته ، وقوله : {قَيِّمًا} يدل على كونه مكملاً لغيره وكونه كاملاً في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملاً لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله تعالى وهو قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا * قَيِّمًا} فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه.
(1/2877)
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
البحث الرابع : اختلف النحويون في انتصاب قوله : {قَيِّمًا} وذكروا فيه وجوهاً. الأول : قال صاحب "الكشاف" لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأن قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } معطوف على قوله : {أَنزَلَ} فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالاً من الكتاب يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وأنه لا يجوز. قال : ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } ـ وجعله ـ {قَيِّمًا} . الوجه الثاني : قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } حال وقوله : {قَيِّمًا} حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجاً قيماً. الوجه الثالث : قال السيد صاحب "حل العقد" / يمكن أن يكون قوله : {قَيِّمًا} بدلاً من قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } لأن معنى : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } أنه جعله مستقيماً فكأنه قيل : {أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} وجعله : {قَيِّمًا} . الوجه الرابع : أن يكون حالاً من الضمير في قوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } أي حال كونه قائماً بمصالح العباد وأحكام الدين ، واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه : {أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال : {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله : {إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} (النبإ : 40) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله {لِّيُنذِرَ} ـ الذين كفروا ـ {بَأْسًا شَدِيدًا} كما قال في ضده : {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} والبأس مأخوذ من قوله تعالى : {بِعَذَابا بَئِيس } وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبآسة وقوله : {مِّن لَّدُنْهُ}
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
(1/2878)
أي صادراً من عنده قال الزجاج وفي : {لَّدُنْ} لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد ، قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى : {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَـاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين ، ولما كان دفع الضرر أهم عند (ذوي) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ ، قال صاحب "الكشاف" وقرىء ويبشر بالتخفيف والتثقيل وقوله : {مَّـاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله : {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا} ، قال القاضي : الآية دالة على صحة قولنا في مسائل ، أحدها : أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه. الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير. الثاني : وصفه بكونه كتاباً والكتب هو الجمع وهو سمي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث. الثالث : أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة. الرابع : أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق. وثانيها : مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه. الأول : نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلاً بنفسه ، أما إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيماً أثر في استقامة فعله ، أما إذا كان العبد قادراً على الفعل مختاراً فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله. والثاني : أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه ؟
لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك. والثالث : قوله : {لِّيُنذِرَ} وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلّم / إنذار الكل وتبشير الكل وبتقدير أنه يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ وإذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلاً قصيراً وأسود وأبيض مما لا قدرة له عليه. والرابع : وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق الله تعالى فلا عمل لهم البتة. الخامس : إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان الله تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب ولا استحقاق.
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
المسألة الرابعة : قال قوله : {لِّيُنذِرَ} يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض ، واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
المسألة الرابعة : قال قوله : {لِّيُنذِرَ} يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض ، واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 424
426
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله تعالى : {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} معطوف على قوله : {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} (الكهف : 2) والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه فالأول عام في حق كل من استحق العذاب. والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً ، وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) فكذا ههنا العطف يدل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.
(1/2879)
المسألة الثانية : الذين أثبتوا الولد لله تعالى ثلاث طوائف. أحدها : كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله. وثانيها : النصارى حيث قالوا : المسيح ابن الله. وثالثها : اليهود الذين قالوا : عزيز ابن الله ، والكلام في أن إثبات الولد لله كفر عظيم ويلزم منه محالات عظيمة قد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : {وَخَرَقُوا لَه بَنِينَ وَبَنَـاتا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام : 10) وتمامه مذكور في سورة مريم ، ثم إنه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد لله تعالى من وجهين. الأول : قوله : {مَّا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ وَلا لابَآاـاِهِمْ } فإن قيل اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم ؟
قلنا : انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به. ونظيره قوله : {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ لا بُرْهَـانَ لَه بِه } (المؤمنون : 117) واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا : هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل ، والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلاً وتمام تقريره مذكور في قوله : {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ } (الإسراء : 36) وقوله : {وَلا لابَآاـاِهِمْ } أي ولا أحد من أسلافهم ، وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة. النوع الثاني : مما ذكره الله في إبطاله قوله : {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 426
البحث الأول : قرىء : {كَبُرَتْ كَلِمَةً} بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية ، قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراء ، فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار ، أما من رفع فلم يضمر شيئاً كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة.
البحث الثاني : قوله : {كَبُرَتْ} أي كبرت الكلمة. والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله : {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة.
البحث الثالث : احتج النظام في إثبات قوله : أن الكلام جسم بهذه الآية قال : إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة ؛ والحركة لا تصح إلا على الأجسام. والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق/ فلما كان خروج النفس سبباً لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة.
البحث الرابع : قوله : {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } يدل على أن هذا الكلام مستكره جداً عند العقل ؛ كأنه يقول : هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان ، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد ، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى : {إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} ومعناه ظاهر ، واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب. فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا ؟
ومن الناس من قال شرط كونه كذباً أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق ، وهذا القيد عندنا باطل ، والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً ، مع أن الكثير منهم يقول ذلك ، ولا يعلم كونه باطلاً ، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقاً أو لم يعلم ، ثم قال تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} وفيه مباحث :
/ البحث الأول : المقصود منه أن يقال للرسول : لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذراً ومبشراً فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه. والغرض تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم عنه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 426
البحث الثاني : قال الليث : بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء. وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد. يقال : بخعت لك نفسي أي جهدتها ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك. وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى : {بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا : قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه ، هكذا قال الواحدي.
(1/2880)
البحث الثالث : قوله : {عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ} أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية ، فإذا كان موته قريباً من موت الأول كان موته حاصلاً حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان.
البحث الرابع : قوله ؛ {إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـاذَا الْحَدِيثِ} المراد بالحديث القرآن. قال القاضي : وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول : إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة.
البحث الخامس : قوله : {أَسَفًا} الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله : {غَضْبَـانَ أَسِفًا} في سورة الأعراف وعند قوله : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} وفي انتصابه وجوه. الأول : أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف. الثاني : يجوز أن يكون مفعولاً له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير. والثالث : قال الزجاج : {أَسَفًا} منصوب لأنه مصدر في موضع الحال.
البحث السادس : الفاء في قوله : {فَلَعَلَّكَ} جواب الشرط وهو قوله : {إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا } قدم عليه ومعناه التأخير.
جزء : 21 رقم الصفحة : 426
428
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قال القاضي : وجه النظم كأنه تعالى يقول : يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم. فأنت أيضاً يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.
المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن ، وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض. وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. وقال القاضي : الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به ، وقوله : {زِينَةً لَّهَا} أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب. أما قوله : {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود ، فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز ، واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجباً فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلاً له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً بل يكون موجباً بالذات وأيضاً فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله ، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال : يجري قوله تعالى : {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} على ظاهره. وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا : إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الإبتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً كثيرة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 428
المسألة الثانية : قال القاضي : معنى قوله : {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمراراً على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى ، فدل ذلك على بطلان قول من يقول : خلق بعضهم للنار.
/ المسألة الثالثة : اللام في قوله : {لِنَبْلُوَهُمْ} تدل ظاهراً على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة ، وأصحابنا قالوا : هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة/ وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال.
(1/2881)
المسألة الرابعة : قال الزجاج : أيهم رفع بالإبتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام ، والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملاً أم ذاك ، ثم قال تعالى : {وَإِنَّا لَجَـاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الإمتحان والإبتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً أبداً لأنه يزهد فيها بقوله : {وَإِنَّا لَجَـاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} الآية ونظيره قوله : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن : 26) وقوله : {فَيَذَرُهَا قَاعًا} (طه : 106) الآية ، وقوله : {وَإِذَا الارْضُ مُدَّتْ} (الإنشقاق : 13) الآية. والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض ، وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضاً لا تبقى وهو قوله : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} (إبراهيم : 48) قال أبو عبيدة : الصعيد المستوي من الأرض ، وقال الزجاج : هو الطريق الذي لا نبات فيه ، وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم ، وأما الجرز فقال الفراء : الجرز الأرض التي لا نبات عليها ، يقال : جرزت الأرض فهي مجروزة ، وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها ، وامرأة جروز إذا كانت أكولاً ، وسيف جراز إذا كان مستأصلاً ، ونظيره قوله تعالى : {نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ} (السجدة : 27).
جزء : 21 رقم الصفحة : 428
441
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان فقال تعالى : أم حسبت أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط ، فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادراً على تخليق السموات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن / والنبات والحيوان ثم يجعلها بعد ذلك صعيداً جرزاً خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم ، هذا هو الوجه في تقرير النظم ، والله أعلم.
المسألة الثانية : قد ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} (الإسراء : 85) وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال كان النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم ، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام ، فقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه ، فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ، ثم إن قريشاً بعثوه وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث : عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب ، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح وما هو ؟
فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول ، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا : قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد ، وأخبروا بما قاله اليهود فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أخبركم بما سألتم عنه غداً" ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به ، وقالوا : وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم ، وفيها خبر أولئك الفتية ، وخبر الرجل الطواف.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2882)
المسألة الثالثة : الكهف الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار ، وفي الرقيم أقوال. الأول : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : كل القرآن اعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم. الثاني : روى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول السدي. الثالث : قال سعيد بن جبير ومجاهد : الرقيم لوح من حجارة وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ذلك اللوح على باب الكهف ، وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا الرقيم الكتاب ، والأصل فيه المرقوم ، ثم نقل إلى فعيل ، والرقم الكتابة ، ومنه قوله تعالى : {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} (المطففين : 9) أي مكتوب ، قال الفراء : الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ، ونظن أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه ، وقيل الناس رقموا حديثهم نقراً في جانب الجبل ، وقوله : {كَانُوا مِنْ ءَايَـاتِنَا عَجَبًا} المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في / أحوال مخلوقاتنا فلا تحسب ذلك فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا ، والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به ، والتقدير كانوا معجوباً منهم ، فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر ، ثم قال تعالى : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} لا يجوز أن يكون إذ هنا متعلقاً بما قبله على تقدير أم حسبت إذ أوى الفتية لأنه كان بين النبي وبينهم مدة طويلة فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف بل يتعلق بمحذوف ، والتقدير اذكر إذ أوى ، ومعنى أوى الفتية في الكهف صاروا إليه وجعلوه مأواهم قال فقالوا : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر والرزق والأمن من الأعداء وقوله من لدنك يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده وهيىء لنا أي أصلح من قولك هيأت الأمر فتهيأ : {مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} الرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان. الأول : التقدير وهيىء لنا أمراً ذا رشد حتى نكون بسببه راشدين مهتدين. الثاني : اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً ثم قال تعالى : {فَضَرَبْنَا عَلَى ا ءَاذَانِهِمْ} قال المفسرون : معناه أنمناهم وتقدير الكلام أنه تعالى ضرب على آذانهم حجاباً يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة والتقدير ضربنا عليهم حجاباً إلا أنه حذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة ثم إنه تعالى بين أنه ضرب على آذانهم في الكهف وهو ظرف المكان وقوله سنين عدداً ظرف الزمان وفي قوله عدداً بحثان. الأول : قال الزجاج ذكر العدد ههنا يفيد كثرة السنين وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقداره بدون التعديد أما إذا أكثر فهناك يحتاج إلى التعديد فإذا قلت أقمت أياماً عدداً أردت به الكثرة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
البحث الثاني : في انتصاب قوله عدداً وجهان. أحدهما : نعت لسنين المعنى سنين ذات عدد أي معدودة هذا قول الفراء وقول الزجاج وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير ، أحدهما : حذف المضاف. والثاني : تسمية المفعول باسم المصدر. قال الزجاج : ويجوز أن ينتصب على المصدر ، المعنى تعد عداً ثم قال تعالى : {ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ} يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم وقوله : {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ} لنعلم اللام لام الغرض فيدل على أن أفعال الله معللة بالأغراض وقد سبق الكلام فيه.
المسألة الثانية : ظاهر اللفظ يقتضي أنه تعالى إنما بعثهم ليحصل له هذا العلم وعند هذا يرجع إلى أنه تعالى هل يعلم الحوادث قبل وقوعها أم لا ، فقال هشام : لا يعلمها إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية والكلام فيه قد سبق ، ونظائر هذه الآية كثيرة في القرآن منها ما سبق في هذه السورة ومنها قوله في سورة البقرة : {إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه } (البقرة : 143) وفي آل عمران / {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ} (التوبة : 16) وقوله : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} (الكهف : 7) وقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ} (محمد : 31).
(1/2883)
المسألة الثالثة : {أَيُّ} رفع بالإبتداء {وَأَحْصَى } خبره وهذه الجملة بمجموعها متعلق العلم فلهذا السبب لم يظهر عمل قوله : {لِنَعْلَمَ} في لفظة {أَيُّ} بل بقيت على ارتفاعها ونظيره قوله : اذهب فاعلم أيهم قام قال تعالى : {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ} (القلم : 40) وقوله : {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَـن ِ عِتِيًّا} (مريم : 69) وقرىء ليعلم على فعل ما لم يسم فاعله وفي هذه القراءة فائدتان. إحداهما : أن على هذا التقدير لا يلزم إثبات العلم المتجدد لله بل المقصود أنا بعثناهم ليحصل هذا العلم لبعض الخلق. والثانية : أن على هذا التقدير يجب ظهور النصب في لفظة أي ، لكن لقائل أن يقول : الإشكال بعد باق لأن ارتفاع لفظة أي بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه. ولمجيب أن يجيب فيقول : إنه لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد لأن العوامل النحوية علامات ومعرفات ولا يمتنع اجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
المسألة الرابعة : اختلفوا في الحزبين فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك ، فالملوك حزب وأصحاب الكهف حزب. والقول الثاني : قال مجاهد : الحزبان من هذه الفتية لأن أصحاب الكهف لما انتبهوا اختلفوا في أنهم كم ناموا والدليل عليه قوله تعالى : {قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُم قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍا قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف : 19) فالحزبان هما هذان ، وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. القول الثالث : قال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.
المسألة الخامسة : قال أبو علي الفارسي قوله أحصى ليس من باب أفعل التفضيل لأن هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس فأما قولهم ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق ، فمن الشواذ والشاذ لا يقاس عليه بل الصواب أن أحصى فعل ماضٍ وهو خبر المبتدأ والمبتدأ والخبر مفعول نعلم وأمداً مفعول به لأحصى وما في قوله تعالى : {لِمَا لَبِثُوا } مصدرية والتقدير أحصى أمداً للبثهم ، وحاصل الكلام لنعلم أي الحزبين أحصى أمد ذلك اللبث ، ونظيره قوله : {أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ} (المجادلة : 6) وقوله : {وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدَا } (الجن : 28).
المسألة السادسة : احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات نفتقر إلى تقديم مقدمتين :
المقدمة الأولى : في بيان أن الولي ما هو فنقول ههنا وجهان ، الأول : أن يكون فعيلاً مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية. الثاني : / أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح. وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البقرة : 257) وقوله : {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـالِحِينَ} (الأعراف : 196) وقوله تعالى : {أَنتَ مَوْلَـانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 286) وقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد : 11) وقوله : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه } (المائدة : 55) وأقول الولي هو القريب في اللغة فإذا كان العبد قريباً من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه وكان الرب قريباً منه برحمته وفضله وإحسانه فهناك حصلت الولاية.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2884)
المقدمة الثانية : إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان فذاك إما أن يكون مقروناً بالدعوى أو لا مع الدعوى والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين ، فهذه أربعة أقسام. القسم الأول : إدعاء الإلهية وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل ، أن فرعون كان يدعي الإلهية وكانت تظهر خوارق العادات على يده وكما نقل ذلك أيضاً في حق الدجال. قال أصحابنا : وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس. والقسم الثاني : وهو ادعاء النبوة فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً وجب ظهور الخوارق على يده وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء ، وإن كان كاذباً لم يجز ظهور الخوارق على يده وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة. وأما القسم الثالث : وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا. وأما القسم الرابع : وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده وعند المعتزلة لا يجوز. وأما القسم الثاني : وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى ، فذلك الإنسان إما أن يكون صالحاً مرضياً عند الله ، وإما أن يكون خبيثاً مذنباً. والأول هو القول بكرامات الأولياء ، وقد اتفق أصحابنا على جوازه وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي. وأما القسم الثالث : وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردوداً عن طاعة الله تعالى فهذا هو المسمى بالاستدراج فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين ، إذا عرفت ذلك فنقول : الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول. أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات :
الحجة الأولى : قصة مريم عليها السلام ، وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس كما قال : {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } (الكهف : 18) / إلى قوله : {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} (الهف : 17) ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى : {قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِه قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } (النمل : 39) وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان فسقط هذا الاستدلال. أجاب القاضي عنه بأن قال : لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علماً له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات ، قلنا : إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة سنين وتسع سنين وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحساناً إليهم. أما الأخبار فكثيرة : الخبر الأول : ما أخرج في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر ، أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلاً عابداً ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت : يا جريج فقال يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى فدعته ثانياً فقال مثل ذلك حتى قال ثلاث مرات وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه قالت : اللهم لا تمته حتى تريه المومسات ، وكانت زانية هناك فقالت لهم : أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء ، وكان هناك راعٍ يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أعياها راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت ولدي هذا من جريج فأتاها بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم حين قال بيده يا غلام من أبوك ؟
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2885)
فقال : الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه. وقالوا : نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم ، وبناها كما كانت ، وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللهم لا تجعلني مثله ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذا ، فقال الصبي : اللهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه في ذلك : فقال إن الشاب كان جباراً من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإن هذه قيل إنها زنت ولم تزن وقيل إنها سرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله". الخبر الثاني : وهو خبر الغار وهو مشهور في "الصحاح" عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار فقالوا : والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، فقال رجل منهم : كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما / فقمت والقدح في يدي انتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه ، ثم قال الآخر : كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت : لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال : يا عبد الله أد إلي أجرتي ، فقلت له : كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق فقال : يا عبد الله أتستهزىء بي ؟
فقلت : إني لا أستهزىء بك فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون". وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه. الخبر
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2886)
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلّم : "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله. الخبر الرابع : روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه البقرة فقالت : إني لم أخلق لهذا ، وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما". الخبر الخامس : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "بينما رجل يسمع رعداً أو صوتاً في السحاب : أن اسق حديقة فلان ، قال فعدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له ما اسمك ؟
قال : فلان بن فلان بن فلان قلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟
قال : ولم تسأل عن ذلك ؟
قلت : لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان ، قال : أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي وأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً". "أما الآثار" فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم بما ظهر عن سائر الصحابة ، أما أبو بكر رضي الله عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى الله عليه وسلّم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد انفتح وإذا بهاتف يهتف من القبر ادخلوا الحبيب إلى الحبيب ، وأما عمر رضي الله عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته وأحدها ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر : يا سارية الجبل الجبل قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فكتبت تاريخ تلك الكلمة فقدم رسول مقدم الجيش فقال : يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت قلت سمعت بعض / المذكرين قال : كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلّم لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم. الثاني : روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه جارية واحدة حسناء ، فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر ، فكتب عمر على خزفة : أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر ، وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليك فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. الثالث : وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك. الرابع : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة : يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال. الخامس : روى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك ، وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر رضي الله عنه وضع درته تحت رأسه ونام على التراب ، فعجب الرسول من ذلك وقال : إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ثم قال في نفسه : إني وجدته خالياً فأقتله وأخلص الناس منه. فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم. وأقول هذه الوقائع رويت بالآحاد ، وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات/ ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات. وأما عثمان رضي الله عنه فروى أنس قال : سرت في الطريق فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم ؟
فقلت : أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لا ولكن فراسة صادقة. الثاني : أنه لما طعن بالسيف فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2887)
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . (البقرة : 137) الثالث : أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته. وأما علي كرم الله وجهه فيروي أن واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتى به إلى علي فقال له : أسرقت ؟
قال نعم. فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا ، فقال ابن الكرا : من قطع يدك فقال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول فقال قطع يدك وتمدحه ؟
فقال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء ارفع / الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه. أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة فنذكر منها شيئاً قليلاً. الأول : روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إلي يريدني فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع. الثاني : روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله. الثالث : قالوا لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه زق خمر ، فقال ما هذا ؟
قال : خل ، فقال خالد : اللهم اجعله خلاً. فذهب الرجل إلى أصحابه فقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل ؟
فقال هذا والله دعاء خالد بن الوليد. الرابع : الواقعة المشهورة وهي أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وماضره. الخامس : روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. السادس : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر فمن أرادها طالعها. وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات فمن وجوه :
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
الحجة الأولى : أن العبد ولي الله قال الله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) والرب ولي العبد قال تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البقرة : 257) وقال : {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـالِحِينَ} (الأعراف : 166) وقال : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه } (المائدة : 55) وقال : {أَنتَ مَوْلَـانَا} (البقرة : 286) وقال : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا } (محمد : 11) فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب وأيضاً الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب قال تعالى : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } (المائدة : 54) وقال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه } (البقرة : 165) وقال : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة : 222) وإذا ثبت هذا فنقول : العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ولهذا قال تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 45).
الحجة الثانية : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أن المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية ، والأول : قدح في / قدرة الله وهو كفر ، والثاني : باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مني مفازة أو تسخير حية أو أسد فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفاً في مفازة فأي بعد فيه ؟
(1/2888)
الحجة الثالثة : قال النبي صلى الله عليه وسلّم حكاية عن رب العزة : "ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً وقلباً ويداً ورجلاً بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي" وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه وبصره. إذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة ماء في مفازة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
الحجة الرابعة : قال عليه السلام حاكياً عن رب العزة : "من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وهذا قريب من قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح : 10) وقال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُه ا أَمْرًا} (الأحزاب : 36) وقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} (الأحزاب : 57) فجعل بيعة محمد صلى الله عليه وسلّم بيعة مع الله ورضاء محمد صلى الله عليه وسلّم رضاء الله وإيذاء محمد صلى الله عليه وسلّم إيذاء الله فلا جرم كانت درجة محمد صلى الله عليه وسلّم أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال : "من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذاء نفسه ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول : "يوم القيامة مرضت فلم تعدني ، استسقيتك فما سقيتني ، استطعمتك فما أطعمتني فيقول يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي" وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلباً أو ورداً.
الحجة الخامسة : أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس فقد يخصه أيضاً بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره ، بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلاً والمنصب تبعاً وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبداً بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي / بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض.
الحجة السادسة : لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } (النمل : 20) وقال عليه السلام : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علماً بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلباً وأقل ضعفاً ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. وذلك لأن علياً كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعاً وبصراً فإذا صار نور جلال الله سمعاً له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصراً له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يداً له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2889)
الحجة السابعة : وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية ، وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق ، بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السموات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبهاً بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال ، أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته وقل انغماسها في تدبير هذا البدن ، وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة ، وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال ، وذلك هو الكرامات ، وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة ، وفيها النورانية والكدرة ، وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضاً كذلك ، ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير : 19 ـ 20) وقال في قوم آخرين من الملائكة : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَـاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا} (النجم : 26) فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية ، القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة ، ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة. ولنقبض ههنا عنان البيان فإن وراءها أسراراً دقيقة وأحوالاً / عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها ، ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات/ واحتج المنكرون للكرامات بوجوه. الشبهة الأولى : وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلاً على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلاً ، وذلك باطل. والشبهة الثانية : تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه : "لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم" قالوا : هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل ، ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك. الشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2890)
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانفُسِ } (النحل : 7) والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد ـ لا على الوجه ـ طعن في هذه الآية ، وأيضاً أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد. الشبهة الرابعة : قالوا : هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهماً فهل نطالبه بالبينة أم لا ؟
فإن طالبناه بالبينة كان عبثاً لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب ، ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني ، وإن لم نطالبه بها فقد تركنا قوله عليه السلام : "البينة على المدعي" فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل. الشبهة الخامسة : إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين ، فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقاً للعادة وذلك يقدح في المعجزة والكرامة. "والجواب" عن الشبهة الأولى : أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية ؟
فقال قوم من المحققين : إن ذلك لا يجوز ، فعلى هذا القول يكون الفرق بين المعجزات والكرامات أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية ، والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان ، أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفراً ولا معرفتها إيماناً فكان دعوى الولاية طلباً لشهوة النفس ، فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق ؛ أما الذين قالوا : يجوز للولي دعوى الولاية فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه : الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءاً عن المعصية ، ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقاً في دعوى النبوة ، وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقاً في دعوى الولاية ، وبهذا / الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعناً في معجزات الأنبياء عليهم السلام. الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلّم يدعي المعجزة ويقطع بها ، والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها لأن المعجزة يجب ظهورها ، أما الكرامة (فـ)ـلا يجب ظهورها. الثالث : أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة. الرابع : أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعناً في نبوة النبي بل يصير مقوياً لها. "والجواب" عن الشبهة الثانية : أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل ؛ أما الولي فإنما يكون ولياً إذا كان آتياً بالفرائض والنوافل ، ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض فظهر الفرق. "والجواب" على الشبهة الثالثة : أن قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانفُسِ } محمول على المعهود المتعارف ، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم. وهذا هو "الجواب" عن الشبهة الرابعة وهي التمسك بقوله عليه السلام البينة على المدعي. "والجواب" عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى : {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} (سبأ : 13) وكما قال إبليس : {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ} (الأعراف : 17) وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحاً في كونها على خلاف العادة.
(1/2891)
المسألة السابعة : في الفرق بين الكرامات والاستدراج ، اعلم أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد وقد يكون استدراجاً له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن ، أحدها : الاستدراج قال الله تعالى : {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (الأعراف : 182) ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعداً من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج. وثانيها : المكر قال تعالى : {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ} (الأعراف : 99) ، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} (آل عمران : 54) وقال : {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل : 50). وثالثها : الكيد قال تعالى : {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
النساء : 142) وقال : {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} (البقرة : 9). ورابعها : الإملاء قال تعالى : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } (آل عمران : 178). وخامسها : / الإهلاك قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَـاهُم} (الأنعام : 44) وقال في فرعون : {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُه فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَه فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ } (القصص : 39 ، 40) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات. فنقول : إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج/ وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة. فلهذا المعنى قال المحققون : أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء. والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه :
الحجة الأولى : أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذ الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقاً لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا : {لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ } (البقرة : 32) وقال تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } (الأنعام : 91) وأيضاً قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
الحجة الثانية : أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور.
(1/2892)
الحجة الثالثة : أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل. رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرىء في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } (فاطر : 10) فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى (ذكره) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول.
الحجة الرابعة : أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم مناقب نفسه / وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي.
الحجة الخامسة : أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيماً ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا } (الجمعة : 5) وقيل أيضاً في حقهم : {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } (آل عمران : 19) فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد.
الحجة السادسة : أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل ، ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه : أما إليك فلا ، فالاستغناء بالفقير فقر والتقوي بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص ، فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته. أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
الحجة السابعة : أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون ، قال إبليس : {أَنَا خَيْرٌ مِّنْه } (الأعراف : 12) وقال فرعون : {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} (الزخرف : 51) وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا قال عليه السلام : "ثلاث مهلكات ، وختمها بقوله : وإعجاب المرء بنفسه".
الحجة الثامنة : أنه تعالى قال : {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} (الأعراف : 144) {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99) فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية.
الحجة التاسعة : أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما خيره الله بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً ترك الملك ، ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه صلى الله عليه وسلّم ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكاً كان افتخاره بعبيده ، فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" وقيل في المعراج : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } (الإسراء : 1).
الحجة العاشرة : أن محب المولى غير ، ومحب ما للمولى غير ، فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى ، فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محباً للمولى بل كان محباً لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه. وما كان المولى محبوباً له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب. والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر / حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات.
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُا وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ا } وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء من هذه الأفعال والأحوال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
(1/2893)
المسألة الثامنة : في أن الولي هل يعرف كونه ولياً ، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز ، وحجة المانعين وجوه :
الحجة الأولى : لو عرف الرجل كونه ولياً لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه : أحدها : قوله مالي : {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ} واليأس أيضاً غير جائز لقوله تعالى : {يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَا يـاَسُواْ مِن} ولقوله تعالى : {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّه إِلا الضَّآلُّونَ} والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز ، واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر ، فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفراً. الثاني : أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالباً لا يحصل الأمن. الثالث : أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف. الرابع : أنه تعالى وصف المخلصين بقوله : {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَـاشِعِينَ} قيل رغباً في ثوابنا/ ورهباً من عقابنا. وقيل : رغباً في فضلنا ، ورهباً من عدلنا. وقيل رغباً في وصالنا ، ورهباً من فراقنا. والأحسن أن يقال رغباً فينا ، ورهباً منا.
الحجة الثانية : على أن الولي لا يعرف كونه ولياً ، أن الولي إنما يصير ولياً لأجل أن الحق يحبه لا لأجل أنه يحب الحق ، وكذلك القول في العدو ، ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأن الطاعات والمعاصي محدثة ، وصفات الحق قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يصير غالباً للقديم غير المتناهي. وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة. وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة وتمام التحقيق أن محبته وعداوته صفة ، وصفة الحق غير معللة ، ومن كانت محبته لا لعلة ، فإنه يمتنع أن يصير عدواً بعلة المعصية ، ومن كانت عدواته لا لعلة يمتنع أن يصير محباً لعلة الطاعة ، ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما لا جرم قال عيسى عليه السلام : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} .
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
الحجة الثالثة : على أن الولي لا يعرف كونه ولياً ؛ أن الحكم بكونه ولياً وبكونه من أهل / الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة ، والدليل عليه قوله تعالى : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها ، وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل ، والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد ، وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل ، ولهذا قال تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة ، فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد ، فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه ولياً ، أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه ولياً فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان. أحدهما : كونه في الظاهر منقاداً للشريعة. الثاني : كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة ، فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما عرف لا محالة كونه ولياً ، أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر ، وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله ، وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله. والجواب : أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر ، والتجربة خطر ، والجزم غرور. ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار ، تارة من النيران ، وأخرى من الأنوار ، والله العالم بحقائق الأسرار ، ولنرجع إلى التفسير.
جزء : 21 رقم الصفحة : 441
442
(1/2894)
اعلم أنه تعالى ذكر من قبل جملة من واقعتهم ثم قال : {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } أي على وجه الصدق : {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم} كانوا جماعة من الشبان آمنوا بالله ، ثم قال تعالى في صفاتهم : {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي ألهمناها الصبر وثبتناها : {إِذْ قَامُوا } وفي هذا القيام أقوال : الأول : قال مجاهد كانوا عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد ، فقال رجل منهم أكبر القوم إني لأجد / في نفسي شيئاً ما أظن أن أحداً يجده ، قالوا ما تجد ؟
قال أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض. القول الثاني : أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار ، وقالوا : ربنا رب السموات والأرض ، وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت ، فثبت الله هؤلاء الفتية ، وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار ، وأقروا بربوبية الله ، وصرحوا بالبراءة عن الشركاء والأنداد. والقول الثالث : وهو قول عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم وهذا بعيد لأن الله استأنف قصتهم بقوله : {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} وقوله : {لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا} معنى الشطط في اللغة مجاوزة الحد ، قال الفراء يقال قد أشط في السوم إذ جاوز الحد ولم يسمع إلا أشط يشط أشطاطاً وشططاً ، وحكى الزجاج وغيره شط الرجل وأشط إذا جاوز الحد ، ومنه قوله : {وَلا تُشْطِطْ} (ص : 22) وأصل هذا من قولهم شطت الدار إذا بعدت ، فالشطط البعد عن الحق ، وهو ههنا منصوب على المصدر ، والمعنى لقد قلنا إذا قولاً شططاً ، أما قوله : {هَـا ؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً } هذا من قول أصحاب الكهف ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام {لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَـانا بَيِّنٍ} بحجة بينة ، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة ، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدلائل على ذلك لا يدل على عدم المدلول ، ومن الناس من يحتج بعدم الدليل على عدم المدلول ويستدل على صحة هذه الطريقة بهذه الآية. فقال إنه تعالى استدل على عدم الشركاء والأضداد بعدم الدليل عليها فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية ، ثم قال : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب عليه ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 442
444
اعلم أن المراد أنه قال بعضهم لبعض : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} واعتزلتم الشيء الذي يعبدونه إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادة الله : {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت كذا فافعل كذا ، ومعناه : إذهبوا إليه واجعلوه مأواكم : {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه } أي يبسطها عليكم : {وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} قرأن افع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء والباقون مرفقاً بكسر الميم وفتح الفاء ، قال الفراء : وهما لغتان واشتقاقهما من الإرتفاق ، وكان الكسائي ينكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء ، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أن الفتح أقيس والكسر أكثر وقيل المرفق ما ارتفقت به ، والمرفق بالفتح المرافق ثم قال تعالى : {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن عامر تَزْوَرُّ ساكنة الزاي المعجمة مشددة الراء مثل تحمر ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور بالألف والتخفيف والباقون تزاور بالتشديد والألف والكل بمعنى واحد ، والتزاور هو الميل والانحراف ، ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق ، وأما التشديد فأصله تتزاور سكنت التاء الثانية وأدغمت في الزاي ، وأما التخفيف فهو تفاعل من الزور وأما تزور فهو من الإزورار.
البحث الثاني : قوله : {وَتَرَى الشَّمْسَ} أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ، ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 444
البحث الثالث : قوله : {ذَاتَ الْيَمِينِ} أي جهة اليمين وأصله أن ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنها تأنيث ذو في قولهم رجل ذو مال ، وامرأة ذات مال ، والتقدير كأنه قيل تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين ، وأما قوله : {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} ففيه بحثان :
(1/2895)
البحث الأول : قال الكسائي قرضت المكان أي عدلت عنه وقال أبو عبيدة القرض في أشياء فمنها القطع ، وكذلك السير في البلاد أي إذا قطعها. تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا فيقول المجيب إنما قرضته فقوله : {تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال.
البحث الثاني : للمفسرين ههنا قولان : القول الأول : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء / الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل ، والمقصود أن الله تعالى صان أصحاب الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس وإلا لفسدت أجسامهم فهي مصونة عن العفونة والفساد. والقول الثاني : أنه ليس المراد ذلك ، وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ضوء الشمس من الوقوع. وكذا القول حال غروبها/ وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف ، وهذا قول الزجاج واحتج على صحته بقوله : {ذَالِكَ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّه } قال ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً فلم يكن ذلك من آيات الله ، وأما إذا حملنا الآية على هذا الوجه الثاني كان ذلك كرامة عجيبة فكانت من آيات الله ، واعلم أنه تعالى أخبر بعد ذلك أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء ، قال : {وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْه } أي من الكهف ، والفجوة متسع في مكان ، قال أبو عبيدة وجمعها فجوات ، ومنه الحديث : "فإذا وجد فجوة نص" ثم قال تعالى : {ذَالِكَ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّه } وفيه قولان الذين قالوا إنه يمنع وصول ضوء الشمس بقدرته قالوا المراد من قوله ذلك أي ذلك التزاور والميل ، والذين لم يقولوا به قالوا المراد بقوله ذلك أي ذلك الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة ، من آيات الله الدالة على عجائب قدرته وبدائع حكمته ، ثم بين تعالى أنه كما أن بقاءهم هذه المدة الطويلة مصوناً عن الموت والهلاك من تدبيراته ولطفه وكرمه ، فكذلك رجوعهم أولاً عن الكفر ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه فقال : {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } مثل أصحاب الكهف : {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَه وَلِيًّا مُّرْشِدًا} كدقيانوس الكافر وأصحابه ، ومناظرات أهل الجبر والقدر في هذه الآية معلومة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 444
445
اعلم أن معنى قوله : {وَتَحْسَبُهُمْ} على ما ذكرناه في قوله : {وَتَرَى الشَّمْسَ} أي لو رأيتهم لحسبتهم {أَيْقَاظًا} وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة :
ووجدوا إخوانهم أيقاظاً
/ ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد ، وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر ، ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول ، قال الواحدي : وإنما يحسبون {أَيْقَاظًا} لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء. وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ، ولفظ القرآن لا يدل عليه ، وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف ؟
وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم. وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب ؟
وقوله : {ذَاتَ} منصوبة على الظرف لأن المعنى في ناحية {عَنِ الْيَمِينِ} أو على ناحية {الْيَمِينِ} كما قلنا في قوله : {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} وقوله : {وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلاً من ملكهم ، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه ، وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مراراً ، فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم ، وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 445
(1/2896)
{بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ، ومنه الحديث في الصلاة : "أنه نهى عن افتراش السبع" وقال : "لا تفترش ذراعيك افتراش السبع" قوله : {بِالْوَصِيدِ } يعني فناء الكهف قال الزجاج الوصيد فناء البيت وفناء الدار وجمعه وصائد ووصد ، وقال يونس والأخفش والفراء الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف ، وقال السدي : الباب والكهف لا يكون له باب ولا عتبة وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت ، ثم قال : {بِالْوَصِيدِا لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} أي أشرفت عليهم يقال اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم ، ويقال أطلعت فلاناً على الشيء فاطلع وقوله : {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} قال الزجاج قوله : {فِرَارًا} منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت : {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} أي فزعاً وخوفاً قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام ، فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوباً ، وقيل : إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعاً شديداً ، فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به. وهذا هو الأصح وقوله : {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة والباقون بتخفيف اللام ، وروى عن ابن كثير بالتخفيف والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة/ قال الأخفش الخفيفة أجود في كلام العرب ، يقال : ملأتني رعباً ، ولا يكادون يعرفون ملأتني ، ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله :
/ فيملأ بيتنا أقطاً وسمناً
وقول الآخر :
ومن مالىء عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال الآخر :
لا تملأ الدلو وعرق فيها
وقال الآخر :
امتلأ الحوض وقال قطني
وقد جاء التثقيل أيضاً ، وأنشدوا للمخبل السعدي :
وإذا قتل النعمان بالناس محرما
فملأ من عوف بن كعب سلاسله
وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين في جميع القرآن والباقون بالإسكان.
جزء : 21 رقم الصفحة : 445
446
اعلم أن التقدير وكما : {فَضَرَبْنَا عَلَى ا ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّا إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَـاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِه إِلَـاهًا لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا} وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم ، فإن قيل : هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا ؟
قلنا : لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة ، وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته. ثم قال تعالى : / {قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ} أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف : {لَبِثْتُم قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار ، فلذلك قالوا لبثنا يوماً فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم ، ثم قال تعالى : {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ، قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة. ثم قال : {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَـاذِه إِلَى الْمَدِينَةِ}
جزء : 21 رقم الصفحة : 446
(1/2897)
قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ(ها) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف ، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه ، والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ، ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق ، وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد ، ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها. ويقال أيضاً للورق الرقة ، قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة ، قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس ، وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله : {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا} . قال ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم. وقال مجاهد : كان ملكهم ظالماً فقولهم : {أَزْكَى طَعَامًا} يريدون أيها أبعد عن الغضب ، وقيل أيها أطيب وألذ ، وقيل أيها أرخص ، قال الزجاج : قوله : {أَيُّهَآ} رفع بالابتداء ، و{أَزْكَى } خبره و{طَعَامًا} نصب على التمييز ، وقوله : {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة : {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم : ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه ، ومنه قوله تعالى : {فَأَصْبَحُوا ظَـاهِرِينَ} (الصف : 14) أي عالين ، وكذلك قوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (التوبة : 33) أي ليعليه وقوله : {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم ، والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله : {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـاكَ } (هود : 91) وقوله : {أَن تَرْجُمُونِ} (الدخان : 20) وأصله الرمي ، قال الزجاج : أي يقتلوكم بالرجم ، والرجم أخبث أنواع القتل : {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} أي يردوكم إلى دينهم {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله : {إِذًا أَبَدًا} يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً ، قال القاضي : ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل ، والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر ، فإن قيل : أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا : {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} / قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة ، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه ، والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 446
(1/2898)
قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ(ها) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف ، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه ، والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ، ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق ، وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد ، ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها. ويقال أيضاً للورق الرقة ، قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة ، قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس ، وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله : {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا} . قال ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم. وقال مجاهد : كان ملكهم ظالماً فقولهم : {أَزْكَى طَعَامًا} يريدون أيها أبعد عن الغضب ، وقيل أيها أطيب وألذ ، وقيل أيها أرخص ، قال الزجاج : قوله : {أَيُّهَآ} رفع بالابتداء ، و{أَزْكَى } خبره و{طَعَامًا} نصب على التمييز ، وقوله : {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة : {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم : ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه ، ومنه قوله تعالى : {فَأَصْبَحُوا ظَـاهِرِينَ} (الصف : 14) أي عالين ، وكذلك قوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (التوبة : 33) أي ليعليه وقوله : {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم ، والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله : {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـاكَ } (هود : 91) وقوله : {أَن تَرْجُمُونِ} (الدخان : 20) وأصله الرمي ، قال الزجاج : أي يقتلوكم بالرجم ، والرجم أخبث أنواع القتل : {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} أي يردوكم إلى دينهم {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله : {إِذًا أَبَدًا} يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً ، قال القاضي : ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل ، والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر ، فإن قيل : أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا : {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} / قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة ، فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه ، والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 446
450
(1/2899)
اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة ، فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالو : إن أصل هذا أن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه ، فكان العثار سبباً لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين : الأول : أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولاً خارجاً عن العادة. والثاني : أن ذلك الرجل لما دخل إلى لسوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام : هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم. وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزاً ، واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم ؟
فقال : بعت بها أمس شيئاً من التمر ، وخرجنا فراراً من / الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى : {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفرة منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك ، وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم : الجسد والروح يبعثان جميعاً ، وقال آخرون : الروح تبعث ، وأما الجسد فتأكله الأرض. ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف. فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد ، لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 450
{إِذْ يَتَنَـازَعُونَ بَيْنَهُمْ} متعلق باعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم. واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث ، فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته ، وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها ، وقيل : إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس ، فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا. والقول الثالث : أن بعضهم قال : الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال آخرون : بل الأولى أن يبني على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة. والقول الرابع : أن الكفار قالوا : إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنياناً/ والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً. والقول الخامس : أنهم تنازعوا في قدر مكثهم. والسادس : أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم ، ثم قال تعالى : {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } وهذا فيه وجهان. أحدهما : أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم. الثاني : أن هذا من كلام الله تعالى ذكره رداً للخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ثم قال تعالى : {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى ا أَمْرِهِمْ} قيل المراد به الملك المسلم ، وقيل : أولياء أصحاب الكهف ، وقيل : رؤساء البلد : {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد ، ثم قال تعالى : {سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الضمير في قوله : {سَيَقُولُونَ} عائد إلى المتنازعين. روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه. الأول : أن الواو في قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 450
(1/2900)
{وَثَامِنُهُمْ} هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك / جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ، ومنه قوله تعالى : {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} (الحجر : 4) وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها "أمر ثابت مستقر ، فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، وأنهم قالوا قولاً متقرراً متحققاً عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس. الوجه الثاني : قالوا : إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صوناً للفظ عن التعطيل ، وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح. الوجه الثالث : أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله : {رَجْمَا بِالْغَيْبِ } وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه ، فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان ، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن. والوجه الرابع : أنه تعالى لما حكى قولهم : {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قال بعده : {قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } فاتباع القولين الأولين بكونهما رجماً بالغيب وإتباع هذا القول الثالث بقوله : {قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة. والوجه الخامس : أنه تعالى قال : {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول. كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : كانوا سبعة وأسماؤهم هذا : يمليخا ، مكسلمينا ، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوس ، ودبرنوس ، وسادنوس ، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته ، والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : أنا من ذلك العدد القليل ، وكان يقول : إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 450
الوجه السادس : أنه تعالى لما قال : {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُم قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق. فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة ، ثم خص الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث. الوجه السابع : أنه تعالى قال لرسوله ؛ {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَآءً ظَـاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب ، وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة ، وأيضاً أنه تعالى قال : {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي ، فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام ، والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي ، لأن الأصل فيما سواه العدم ، وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله : {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف / من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام والله أعلم. بقي في الآية مباحث.
البحث الأول : في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه.
البحث الثاني : خص القول الأول بسين الاستقبال ، وهو قوله سيقولون ، والسبب فيه أن حرف العطف يوجب دخول القولين الآخرين فيه.
البحث الثالث : الرجم هو الرمي ، والغيب ما غاب عن الإنسان فقوله : {رَجْمَا بِالْغَيْبِ } معناه أن يرى ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة ، يقال فلان يرمي بالكلام رمياً ، أي يتكلم من غير تدبر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 450
(1/2901)
البحث الرابع : ذكروا في فائدة الواو في قوله : {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وجوهاً الوجه الأول : ما ذكرنا أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وثانيها : أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد قال تعالى : {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف ، فقالوا وثمانية ، فجاء هذا الكلام على هذا القانون ، قالوا : ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات ، وهي قوله : {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} (التوبة : 112) لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة وقوله : {حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر : 73) لأن أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة ، وقوله : {ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا} (التحريم : 5) هو العدد الثامن مما تقدم ، والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ، ومعناه ما ذكرناه ، قال القفال : وهذا ليس بشيء ، والدليل عليه قوله تعالى : {هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَـامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } (الحشر : 23) ولم يذكر الواو في النعت الثامن ، ثم قال تعالى : {قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } وهذا هو الحق ، لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم والحوادث التي حدثت في الماضي والمستقبل لا تحصل إلا عند الله تعالى ، وإلا عند من أخبره الله عنها ، وقال ابن عباس أنا من أولئك القليل ، قال القاضي : إن كان قد عرفه ببيان الرسول صح ، وإن كان قد تعلق فيه بحرف الواو فضعيف ، ويمكن أن يقال : الوجوه السبعة المذكورة وإن كانت لا تفيد الجزم إلا أنها تفيد الظن ، واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعه بأن نهي رسوله عن شيئين/ عن المراء والاستفتاء ، أما النهي عن المراء ، فقوله : {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَآءً ظَـاهِرًا} والمراد من المراء الظاهر أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد ، بل يقول : هذا التعيين لا دليل عليه ، فوجب التوقف وترك القطع. ونظيره قوله تعالى : {وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (العنكبوت : 46) وأما النهي عن الاستفتاء فقوله : {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} ، وذلك لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم ، واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية قالوا لأن قوله : {رَجْمَا بِالْغَيْبِ } وضع الرجم فيه موضع الظن فكأنه قيل : ظناً بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا : رجم بالظن مكان قولهم ظن ، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين ، ألا ترى إلى قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 450
وما هو عنها بالحديث المرجم
/ أي المظنون هكذا قاله صاحب الكشاف ، وذلك يدل على أن القول بالظن مذموم عند الله ثم إنه تعالى لما ذم هذه الطريقة رتب عليه من استفتاء هؤلاء الظانين ، فدل ذلك على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله ، وجواب مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مراراً.
جزء : 21 رقم الصفحة : 450
454
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن المسائل الثلاثة ، قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً ، ثم نزلت هذه الآية ، اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين. الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان عالماً بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غداً فربما جاءته الوفاة قبل الغد ، وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غداً ، وإذا كان كل هذه الأمور محتملاً ، فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفاً لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه ، وعن كلامه عليه السلام ، أما إذا قال إن شاء الله كان محترزاً عن هذا المحذور ، وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله. الثاني : أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب ويمكن أن يجاب عن الأول : أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل ، وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحداً منها.
(1/2902)
/ المسألة الثانية : قوله : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا ، وفيه قولان : الأول : التقدير : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } أن يأذن لك في ذلك القول ، والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار. القول الثاني : أن يكون التقدير : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا} إلا أن تقول : {إِن شَآءَ اللَّهُ} والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ، ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق ، فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد ، والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول : {إِن شَآءَ اللَّهُ} حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير.
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
المسألة الثالثة : اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة ، وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غداً إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل/ أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها تلا تصلح عذراً في هذا الباب ، لأن المغلوب لا يمنع الغالب. إذا ثبت هذا فنقول : أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال : إن شاء الله دافعاً للحنث فلا يكون دافعاً للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة ، فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادراً على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غداً ، ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله : {إِن شَآءَ اللَّهُ} تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث ، ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب ، فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيراً من الفقهاء قالوا : إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه ؟
قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع / الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولاً حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة ، وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع.
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
(1/2903)
المسألة الرابعة : احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } قالوا : الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ} ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً فهو معدوم في الحال ، فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئاً وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما أنه قال : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ} (النحل : 1) والمراد سيأتي أمر الله ، أما قوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ففيه وجهان : الأول : أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم ، وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه ، وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة ، وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً ، واحتج ابن عباس بقوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لأن الظاهر أن المراد من قوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} هو الذي تقدم ذكره في قوله : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } وقوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ} غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال : إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب ، واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً ، أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود/ والإيمان ، يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس في الأستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله : هذا يرجع عليك ، فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك ؟
فاستحسن المنصور كلامه ورضي به. واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه. وأيضاً فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه. فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي ، والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلاً بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
(1/2904)
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (المائدة : 1) وقال : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } (الإسراء : 34) فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات / خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلاً لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً ، فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة ، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلاً فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه. أحدها : واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة. وثانيها : واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. وثالثها : حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها ، وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاماً مستأنفاً يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز ثم قال تعالى : {وَقُلْ عَسَى ا أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَدًا} وفيه وجوه : الأول : أن ترك قوله : {أَن يَشَآءَ اللَّه } ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله : {لاقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَدًا} المراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني : إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. والثالث : أن قوله : {لاقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَدًا} إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف. وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك ، وأما قوله تعالى : {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلَـاثَ مِا ئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا ا لَه غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا أَبْصِرْ بِه وَأَسْمِعْا مَا لَهُم مِّن دُونِه مِن وَلِىٍّ وَلا يُشْرِكُ فِى حُكْمِه أَحَدًا}
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله : {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ} قولان : الأول : أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال : {سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وكذا إلى أن قال : {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ} أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده : {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا } وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضاً ما روي في مصحف عبد الله : وقالوا ولبثوا في كهفهم. والقول الثاني : أن قوله : {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ} هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة/ وأما قوله : {سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله : {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَآءً ظَـاهِرًا} وقوله : {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا ا لَه غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } لا يوجب أن ما قبله حكاية ، وذلك لأنه تعالى أراد : {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا ا لَه غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب.
/ المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله : {سِنِينَ} عطف بيان لقوله : لأنه لما قال : {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ} لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بياناً لقوله : فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة. وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله : {نُنَبِّئُكُم بِالاخْسَرِينَ أَعْمَـالا} (الكهف : 103).
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
(1/2905)
المسألة الثالثة : قوله : {وَازْدَادُوا تِسْعًا} ؟
المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا : لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين ؟
وما الفائدة في قوله {وَازْدَادُوا تِسْعًا} ؟
قلنا : قال بعضهم : كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية ، وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ، ويمكن أن يقال : لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال : {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا } معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها ، وإنما كان أولى بأن يكون عالماً به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم ، وإذا كان كذلك كان عالماً بغيب السموات والأرض فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى : {أَبْصِرْ بِه وَأَسْمِعْ } وهذه كلمة تذكر في التعجب ، والمعنى ما أبصره وما أسمعه ، وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (البقرة : 175) ثم قال تعالى : {مَا لَهُم مِّن دُونِه مِن وَلِىٍّ} وفيه وجوه. الأول : ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل. الثاني : ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه. الثالث : أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب ، فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم. ثم قال : {وَلا يُشْرِكُ فِى حُكْمِه أَحَدًا} والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولاً بخلافه. والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعاً لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده. وحاصله يرجع إلى قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى : {وَلا يُشْرِكُ فِى حُكْمِه أَحَدًا} وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفاً على قوله : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ} أو على قوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} والمعنى ولا تسأل أحداً عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحداً في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك.
/
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
المسألة الرابعة : اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم ، أما الزمان الذي حصلوا فيه ، فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة ، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم ، وقيل : إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح ، وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحق. وقال قوم : إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وأما مكان هذا الكهف ، فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم ، قال : فوجه ملك الروم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه ، قال : وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم ، قال : فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره ، ثم قال القفال : والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر ، والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف ، وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك ، فقال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً ، فقال لابن عباس : لا أنتهي حتى أعلم حالهم ، فبعث أناساً فقال لهم : اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم ، وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال ، وإنما يستفاد ذلك من نص ، وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه.
(1/2906)
المسألة الخامسة : اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة. أحدها : أنه تعالى قادر على كل الممكنات. والثاني : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وثالثها : أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة ، فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل ، وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة. وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً : لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة ، وأقول : هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة ، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة ، وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة. / والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها. ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ، ثم قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف.
جزء : 21 رقم الصفحة : 454
455
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة ، وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل ، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال : {وَاتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } وفي الآية مسألة وهي : أن قوله : {اتْلُ} يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال : {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِه } أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره ، فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد ، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلاً. أما قوله : {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا} اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى : {لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} (النحل : 103) والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 455
458
/ اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك ، فإذا حضرنا لم يحضروا ، وتعين لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} (الأنعام : 52) الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزناً سواء غابوا أو حضروا. وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل. ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} (الأنعام : 52) ففي تلك الآية نهي الرسول صلى الله عليه وسلّم عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمي ، أما قوله : {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة.
(1/2907)
المسألة الثانية : في قوله : {بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} وجوه : الأول : المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل : ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس. الثاني : أن المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث : المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه ، ثم قال : {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيداً وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى : {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ} ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلاً بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 458
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أن يزدرى فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله : {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } نصب في موضع الحال. يعني أنك (إن) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا ، ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ وَكَانَ أَمْرُه فُرُطًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله : {أَغْفَلْنَا} يدل على هذا المعنى ، قالت المعتزلة : المراد بقوله تعالى : {أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا} أنا وجدنا قلبه غافلاً وليس المراد خلق الغفلة فيه ، والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم : قاتلناكم فما أجبناكم ، وسألناكم فما ابخلناكم ، وهجوناكم فما أفحمناكم ، أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين. ثم نقول : حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه : الأول : أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم. الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك. الثالث : لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلاً لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة ، وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو ، ويقال : كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال : وانكسر واندفع. الرابع : قوله تعالى : {وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه. والجواب : قوله المراد من قوله : {أَغْفَلْنَا} أي وجدناه غافلاً ، وليس المارد تحصيل الغفلة فيه. قلنا : الجواب عنه من وجهين. الأول : أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازاً في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه : أحدها : أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان. وثانيها : أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان. وثالثها : أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازاً في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازاً في التبع موافق للمعقول ، أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازاً في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازاً في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان. الوجه الثاني : في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 458
(1/2908)
{أَغْفَلْنَا} على إيجاد الغفلة وذلك لأن الدليل العقلي دل على أنه يمتنع كون العبد موجداً للغفلة في نفسه والدليل عليه أنه إذا حاول إيجاد الغفلة ، فأما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين والأول باطل ، وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن تحصل له الغفلة عن شيء آخر ، لأن الطبيعة المشترك فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كل تلك الأنواع على السوية ، أما الثاني فهو أيضاً باطل لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر أقسام الغفلات إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين بعينه ، فعلى هذا لا يمكنه أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا إذا تصور أن تلك الغفلة غفلة عن كذا ، ولا يمكنه أن يتصور كون تلك الغفلة غفلة عن كذا إلا إذا تصور كذا لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين. فثبت أنه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا مع الشعور بكذا لكن الغفلة عن كذا ضد الشعور بكذا ؛ فثبت / أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه اغفلة إلا عند اجتماع الضدين وذلك محال ، والموقوف على المحال محال ، فثبت أن العبد غير قادر على إيجاد الغفلة ، فوجب أن يكون خالق الغفلات وموجدها في العباد هو الله ، وهذه نكتة قاطعة في إثبات هذا المطلوب ، وعند هذا يظهر أن المراد بقوله تعالى : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه } هو إيجاد الغفلة لا وجدانها ، أما حديث المدح والذ فقد عارضناه مراراً وأطواراً بالعلم والداعي ، أما قوله تعالى بعد هذه الآية : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } فالبحث عنه سيأتي إن شاء الله تعالى ، أما قوله : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه } لو كان المراد إيجاد الغفلة لوجب ذكر الفاء ، لا ذكر الواو ، فنقول : هذا إنما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتباع الهوى كما أن الكسر من لوازمه حصول الإنكسار ، وليس الأمر كذلك لأنه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ، ومع ذلك فلا يتبع الهوى بل يبقى متوقفاً لا ينافي مقام الحيرة والدهشة والخوف من الكل فسقط هذا السؤال ، وذكر القفال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً أخرى. فأحدها : أنه تعالى لما صب عليهم الدنيا صباً وأدى ذلك إلى رسوخ الغفلة في قلوبهم صح على هذا التأويل أنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم كما في قوله تعالى : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 6). والوجه الثاني : أن معنى قوله : {أَغْفَلْنَا} أي تركناه غافلاً فلم نسمه بسمة أهل الطهارة والتقوى وهو من قولهم بعير غفل أي لا سمة عليه. وثالثها : أن المراد من قوله أغفلنا قلبه أي خلاه مع الشيطان ولم يمنع الشيطان منه فيقال في : الوجه الأول : إن فتح باب لذات الدنيا عليه هل يؤثر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر ، فإن أثر كان أثر إيصال اللذات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه. وذلك عين القول بأنه تعالى فعل ما يوجب حصول الغفلة في قلبه ، وإن كان لا تأثير له في حصول هذه الغفلة بطل إسناده إليه ، وقد يقال في : الوجه الثاني : إن قوله أغفلنا قلبه بمنزلة قوله سودنا قلبه وبيضنا وجهه ولا يفيد إلا ما ذكرناه ، ويقال في الوجه الثالث إن كان لتلك التخلية أثر في حصول تلك الغفلة فقد صح قولنا ، وإلا بطل استناد تلك الغفلة إلى الله تعالى.
جزء : 21 رقم الصفحة : 458
المسألة الثانية : قوله : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة ، والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله ، وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته. والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق ، وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات ، فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة ، فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله : {أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا} والإقبال على الخلق هو المراد بقوله : {وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} .
/ المسألة الثالثة : قيل : {فُرُطًا} أي مجاوزاً للحد من قولهم : فرس فرط ، إذا كان متقدماً الخيل ، قال الليث : الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط ، وأنشد شعراً :
لقد كلفني شططا
وأمراً خائباً فرطا
(1/2909)
أي مضيعاً ، فقوله وكان أمره فرطاً معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصاً بإيقاع التفريط والتقصير فيه ، وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه. فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة ، والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال : {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه } ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله : {أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء ، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضاً من العرى وقارىء يقرأ القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ماذا كنتم تصنعون ؟
قلنا : يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع ، فقال عليه السلام : "الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم" ثم جلس وسطنا وقال : "أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة".
جزء : 21 رقم الصفحة : 458
المسألة الثانية : قوله : {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة ، والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله ، وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته. والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق ، وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات ، فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة ، فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله : {أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا} والإقبال على الخلق هو المراد بقوله : {وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} .
/ المسألة الثالثة : قيل : {فُرُطًا} أي مجاوزاً للحد من قولهم : فرس فرط ، إذا كان متقدماً الخيل ، قال الليث : الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط ، وأنشد شعراً :
لقد كلفني شططا
وأمراً خائباً فرطا
أي مضيعاً ، فقوله وكان أمره فرطاً معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصاً بإيقاع التفريط والتقصير فيه ، وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه. فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة ، والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال : {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه } ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله : {أَغْفَلْنَا قَلْبَه عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ} ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء ، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضاً من العرى وقارىء يقرأ القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ماذا كنتم تصنعون ؟
قلنا : يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع ، فقال عليه السلام : "الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم" ثم جلس وسطنا وقال : "أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة".
جزء : 21 رقم الصفحة : 458
460
في الآية مسائل :
(1/2910)
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه. الأول : أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك ، قال بعده : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة. الوجه الثاني : في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله ، والحق الذي / جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا. والوجه الثالث : في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحاً لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار ، فإن قيل : أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل. أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر ، وهذا ضرر عظيم ، قلنا : أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح ، فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته.
جزء : 21 رقم الصفحة : 460
المسألة الثانية : قالت المعتزلة قوله تعالى : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } صريح في أن الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره. فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن ، ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت : هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا وذلك لأن الآية صريحة في أن حصول الإيمان وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضاً يدل له ، فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له. إذا عرفت هذا فنقول حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال. فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارت إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري والاختيار الضروري يوجب الفعل ، فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل ، وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه ، فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل ، ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة. فالإنسان مضطر في صورة مختار ، ولقد قرر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فقال : فإن قلت إني أجد في نفسي وجداناً ضرورياً أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل وإن شئت الترك قدرت على الترك فالفعل والترك بي لا بغيري. وأجاب عنه ، وقال : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة ، وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل. بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة ، وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضاً أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى.
المسألة الثالثة : قوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } فيه فوائد :
/ الفائدة الأولى : الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال.
الفائدة الثانية : أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير.
جزء : 21 رقم الصفحة : 460
(1/2911)
الفائدة الثالثة : أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين ، بل نفع الإيمان يعود عليهم ، وضرر الكفر يعود عليهم ، كما قال تعالى : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) ، واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة ، وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح. أما الوعيد فقوله تعالى : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين ، فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه. فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام ناراً وهي الجحيم ، ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين : الصفة الأولى : قوله : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات ، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب. وقال بعضهم : المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله : {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ} (المرسلات : 30) وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط. والصفة الثانية : لهذه النار قوله : {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال : هذا هو المهل ، قال أبو عبيدة والأخفش كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل ، وقيل : إنه الصديد والقيح ، وقيل إنه ضرب من القطران. ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى : {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ} (الغاشية : 4 ، 5) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء. قال تعالى حكاية عنهم : {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ} (الأعراف : 50) وقال في آية أخرى : {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (إبراهيم : 50) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص وقوله تعالى : {يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} وارد على سبيل الاستهزاء كقوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 460
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى : {بِئْسَ الشَّرَابُ} أي أن الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغاً عظيماً ثم قال تعالى : {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا} قال قائلون : ساءت النار منزلاً ومجتمعاً للرفقة لأن أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة. قال تعالى في صفة أهل الجنة : {وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا} (النساء : 69) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين / والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء وبئس موضع الترافق النار كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة. وقال آخرون مرتفقاً أي متكأ ، وسمي المرفق مرفقاً لأنه يتكأ عليه ، فالإتكاء إنما يكون للاستراحة ، والمرتفق موضع الاستراحة والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 460
461
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة.
المسألة الثانية : قوله : {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجراً ، وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء الواجب لا يوجب شيئاً آخر.
المسألة الثالثة : نظير قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} الخ قول الشاعر :
إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيداً للأعمال والجزاء عليها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 461
(1/2912)
المسألة الرابعة : أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معاً ولك أن تجعل أولئك كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه : أولها : صفة مكانهم وهو قوله : { أولئك لَهُمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ} والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة ، ويجوز أن يكون العدن إسماً لموضع معين من الجنة / وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله : {جَنَّـاتُ} لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار. وثانيها : إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي ، وإما لباس التستر ، أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته : {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} (الإنسان : 21) وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى : {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (الحج : 23) ، وأما لباس التستر فقوله : {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره ، أي غليظ ، فإن قيل : ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي : {يُحَلَّوْنَ} على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم ، قلنا : يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم. وثالثها : كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك. قالوا : الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة ، أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة. ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال : {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله : {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا} .
جزء : 21 رقم الصفحة : 461
467
/ اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغني فقيراً ، أما الذي يجب / حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ} أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
{قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} (الصافات : 51) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضاً فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال المؤمن : اللهم إني اشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ثم اشترى أخوه خدماً وضياعاً بألف فقال المؤمن : اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى : {جَعَلْنَا لاحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} ، فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات : الصفة الأولى : كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية ، والصفة الثانية : قوله : {وَحَفَفْنَـاهُمَا بِنَخْلٍ} أي وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين نظيره قوله تعالى : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (الزمر : 75) أي واقفين حول العرش محيطين به ، والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
له لحظات في حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل
(1/2913)
قال صاحب "الكشاف" : حفوه إذا طافوا به ، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً كقوله : غشيته وغشيته به ، قال : وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضاً حسن في المنظر. الصفة الثالثة : {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} والمقصود منه أمور. أحدها : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه. وثانيها : أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض. وثالثها : أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة. الصفة الرابعة : قوله تعالى : {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـاًا } كلا إسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان ، وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان. وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ، ورأيت كلا أخويك ، ومررت بكلا أخويك. وجاءني كلتا أختيك ، ورأيت كلتا أختيك ، ومررت بكلتا أختيك ، وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف ، وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً. وقوله : {أُكُلَهَا وَلَمْ} حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز ، وقوله : {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـاًا } أي لم تنقص والظلم النقصان ، يقول الرجل : ظلمني حقي أي نقصني. الصفة الخامسة : قوله تعالى : {وَفَجَّرْنَا خِلَـالَهُمَا نَهَرًا} أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين. وفي قراءة يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين وفجرنا مشددة والتخفيف هو الأصل لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و{خِلَـالَهُمَا} أي وسطهما وبينهما. ومنه قوله تعالى : {وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ} (التوبة : 47). ومنه يقال خللت القوم أي دخلت بين القوم. الصفة السادسة : قوله تعالى : {وَكَانَ لَه ثَمَرٌ} قرأ عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين وهو جمع ثمار أو ثمرة ، وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة : أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما ، وبالفتح حمل الشجر قال قطرب : كان أبو عمرو بن العلاء يقول : الثمر المال والولد ، وأنشد للحارث بن كلدة :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
ولقد رأيت معاشرا
قد أثمروا مالاً وولدا
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
ما أثمروه أمن مال ومن ولد
(1/2914)
وقوله : {وَكَانَ لَه ثَمَرٌ} أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر. وعن مجاهد الذهب والفضة : أي كان مع الجنتين أشياء من النقود ، ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده : {فَقَالَ لِصَـاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُه ا أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} والمعنى أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم : حار إذا رجع ، قال تعالى : {إِنَّه ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى } (الانشقاق : 14 ، 15) ، فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر : {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه/ وحاصل الكلام أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله ، ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة فقال : {وَدَخَلَ جَنَّتَه } وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال ، فإن قيل : لم أفرد الجنة بعد التثنية ؟
قلنا : المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحداً منهما ، ثم قال تعالى : {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه } وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام ، والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعاً تلك النعم في غير موضعها ، ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال : {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِه أَبَدًا * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً} فجمع بين هذين ، فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبداً مع أنها متغيرة متبدلة. فإن قيل : هب أنه شك في القيامة فكيف قال : ما أظن أن تبيد هذه أبداً مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية ؟
قلنا : المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده ، ثم قال : {وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} أي مرجعاً وعاقبة وانتصابه على التمييز ونظيره قوله تعالى : {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى } وقوله : {لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقاً له ، والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء. والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية ، قرأ نافع وابن كثير خيراً منهما ، والمقصود عود الكناية إلى الجنتين ، والباقون منها ، والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها ، ثم ذكر تعالى جواب المؤمن فقال جل جلاله : {قَالَ لَه صَاحِبُه وَهُوَ يُحَاوِرُه ا أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا} وفيه بحثان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
البحث الأول : أن الإنسان الأول قال : {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً} وهذا الثاني كفره حيث قال : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} وهذا يدل على أن الشاك في حصول البعث كافر.
البحث الثاني : هذا الاستدلال يحتمل وجهين : الأول : يرجع إلى الطريقة المذكورة في القرآن وهو أنه تعالى لما قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة فقوله : {خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا} إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء. الوجه الثاني : أنه لما خلقك هكذا فلم يخلقك عبثاً ، وإنما خلقك للعبودية وإذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب وللمذنب عقاب وتقريره ما ذكرناه في سورة يس ، ويدل على هذا الوجه قوله : {ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا} أي هيأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله أمرك ثم قال المؤمن : {لَّـاكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى} وفيه بحثان :
البحث الأول : قال أهل اللغة لكنا أصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فاجتمعت النونان فادغمت نون لكن في النون التي بعدها ومثله :
وتقلينني لكن إياك لا أقلى
أي لكن أنا لا أقليك وهو في قوله : {هُوَ اللَّهُ رَبِّى} ضمير الشأن وقوله : {اللَّهُ رَبِّى} جملة من المبتدأ والخبر واقعة في معرض الخبر لقوله : هو فإن قيل قوله : {لَكُنَّآ} استدراك لماذا ؟
قلنا لقوله : {أَكَفَرْتَ} كأنه قال لأخيه : أكفرت بالله لكني مؤمن موحد كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
(1/2915)
والبحث الثاني : قرأ ابن عامر ويعقوب الحضرمي ونافع في رواية : {لَّـاكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى} في الوصل بالألف. وفي قراءة الباقين : {لَّـاكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى} بغير ألف والمعنى واحد ثم قال المؤمن : {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا} ذكر القفال فيه وجوهاً : أحدها : إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلي ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى. وثانيها : لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها : أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّه } فأمره أن يقول هذين الكلامين الأول قوله : {مَا شَآءَ اللَّهُ} وفيه وجهان : الأول : أن تكون (ما) شرطية ويكون الجزاء محذوفاً والتقدير أي شيء شاء الله كان. والثاني : أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله ، واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع وكل ما لم يرده لم يقع وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر وهو صريح في إبطال قول المعتزلة أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم : ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا : لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه ، واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جواباً عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر ، باطل لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به فظهر الفرق وأجاب القفال عنه بأن قال : هلا إذا دخلت بستانك قلت ما شاء الله كقول الإنسان هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله ، ومثله قوله : {سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهم ثلاثة وقوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
{وَقُولُوا حِطَّةٌ} (البقرة : 58) أي قولوا هذه حطة وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال كل ما شاء الله وقع لأن هذا الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي ، وأقول : إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد فلا يصح أيضاً على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقع بمشيئة الله. اللهم إلا أن نقول المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل. والكلام الثاني : الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله : {لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّه } أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره. والمقصود إنه قال المؤمن للكافر : هلا قلت عند دخول جنتك الأمر ما شاء الله والكائن ما قدره الله اعترافاً بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها ، وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال : {إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا} من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلاً وأقل مفعولاً ثانياً ومن قرأ بالرفع جعل قوله : {إِنَّآ} مبتدأ وقوله {أَقُلْ} خبر والجملة مفعولاً ثانياً لترن واعلم أن ذكر الولد ههنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله : {وَأَعَزُّ نَفَرًا} الأعوان والأولاد كأنه يقول له : إن كنت تراني : {أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا} وأنصاراً في الدنيا الفانية : {فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ} إما في الدنيا ، وإما في الآخرة. ويرسل على جنتك : {حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ} أي عذاباً وتخريباً والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب / أي مقداراً قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها. قال الزجاج : عذاب حسبان وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك وقيل حسباناً أي مرامي الواحد منها حسبانة وهي الصواعق :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
(1/2916)
{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أي فتصبح جنتك أرضاً ملساء لا نبات فيها والصعيد وجه الأرض ، زلقاً أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقاً ثم قال : {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا} أي يغوص ويسفل في الأرض : {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَه طَلَبًا} أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه. قال أهل اللغة في قوله : {مَآؤُهَا غَوْرًا} أي غائراً وهو نعت على لفظ المصدر كما يقال : فلان زور وصوم للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال نساء نوح أي نوائح ثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِه } وهو عبارة عن إهلاكه بالكلية وأصله من إحاطة العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله : {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } (يوسف : 66) ومثله قولهم : أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم. ثم قال تعالى : {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} وهو كناية عن الندم والحسرة فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى ، وقد يمسح إحداهما على الأخرى ، وإنما يفعل هذا ندامة على ما أنفق في الجنة التي وعظه أخوه فيها وعذله : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي ساقطة على عروشها فيمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكرم فهذه العروش سقطت ثم سقطت الجدران عليها ويمكن أن يراد من العروش السقوف وهي سقطت على الجدران. وحاصل الكلام أن هذه اللفظة كناية عن بطلانها وهلاكها ، ثم قال تعالى : {وَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} والمعنى أن المؤمن لما قال : {لَّـاكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا} فهذا الكافر تذكر كلامه وقال : {وَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} فإن قيل هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه وليس الأمر كذلك لأن أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف : 33) وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" وأيضاً فلما قال : {وَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال بعده : {وَلَمْ تَكُن لَّه فِئَةٌ يَنصُرُونَه مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} والجواب عن السؤال الأول : أنه لما عظمت حسرته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في كل عمره عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي الحرمان عن الدنيا والدين عليه. فلهذا السبب عظمت حسرته والجواب عن السؤال الثاني : أنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في التوحيد والرد عن الشرك لأجل طلب الدنيا فلهذا السبب ما صار توحيده مقبولاً عند الله ثم قال تعالى : {وَلَمْ تَكُن لَّه فِئَةٌ يَنصُرُونَه مِن دُونِ اللَّهِ} وفيه بحثان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي : (ولم يكن له فئة) بالياء لأن قوله : {فِئَةٌ} جمع فإذا / تقدم على الكناية جاز التذكير ، ولأنه رعاية للمعنى. والباقون بالتاء المنقوطة باثنتين من فوق لأن الكناية عائدة إلى اللفظة وهي الفئة.
البحث الثاني : المراد من قوله : {يَنصُرُونَه مِن دُونِ اللَّهِ} هو أنه ما حصلت له فئة يقدرون على نصرته من دون الله أي هو الله تعالى وحده القادر على نصرته ولا يقدر أحد غيره أن ينصره ثم قال تعالى : {هُنَالِكَ الْوَلَـايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّا هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} .
المسألة الأولى : اختلف القراء في ثلاثة مواضع من هذه الآية. أولها : في لفظ الولاية ففي قراءة حمزة والكسائي بكسر الواو وفي قراءة الباقين بالفتح وحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : كسر الواو لحن قال صاحب الكشاف : الولاية بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك. وثانيها : قرأ أبو عمرو والكسائي قوله : الحق بالرفع والتقدير هنالك الولاية الحق لله وقرأ الباقون بالجر صفة لله. وثالثها : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر عقباً بضم القاف وقرأ عاصم وحمزة عقبى بتسكين القاف.
(1/2917)
المسألة الثانية : {هُنَالِكَ الْوَلَـايَةُ لِلَّهِ} فيه وجوه. الأول : أنه تعالى لما ذكر من قصة الرجلين ما ذكر علمنا أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقال : {هُنَالِكَ الْوَلَـايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } أي في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام تكون الولاية لله يوالي أولياءه فيغلبهم على أعدائه ويفوض أمر الكفار إليهم فقوله هنالك إشارة إلى الموضع والوقت الذي يريد الله إظهار كرامة أوليائه وإذلال أعدائه (فيهما). والوجه الثاني : في التأويل أن يكون المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويلتجيء إليه كل محتاج مضطر يعني أن قوله : {وَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} كلمة ألجيء إليها ذلك الكافر فقالها جزعاً مما ساقه إليه شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها. والوجه الثالث : المعنى هنالك الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم يعني أنه تعالى نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله في قوله : {فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ} ويعضده قوله : {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي لأوليائه. والوجه الرابع : أن قوله هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الآخرة الولاية لله كقوله لمن الملك اليوم لله ثم قال تعالى : {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} أي في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه : {وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي هو خير عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه وقد ذكرنا أنه قرىء عقبى بضم القاف وسكونها وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
0
اعلم أن المقصود : اضرب مثلاً آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين فقال : {وَاضْرِبْ لَهُم} أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين : {مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ثم ذكر المثل فقال : {كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الارْضِ} وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى : {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج : 5) ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيماً ، وهو النبت المتكسر المتفتت. ومنه قوله : هشمت أنفه وهشمت الثريد. وأنشد :
عمرو الذي هشم الثريد لأهله
ورجال مكة مسنتون عجاف
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب : {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} بتكوينه أولاً وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً وأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء ؛ ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به. والباء في قوله : {فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الارْضِ} فيه وجوه. الأول : التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة. والثاني : فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفاً. وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 467
468
(1/2918)
لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنعقد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجاً بديهياً أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض. ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له / في نظره وزناً فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال : {وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة ، لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة ، لأن خيرات الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية والله أعلم. والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً قيل إنها قولنا : "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وللشيخ الغزالي رحمه الله في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف ، فقال : روي أن من قال سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات ، فإذا قال والحمد لله صارت عشرين ، فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين ، فإذا قال والله أكبر صارت أربعين. قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة. والقول الثاني : أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس. والقول الثالث : أنها الطيب من القول كما قال تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 468
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} (الحج : 24). والقول الرابع : أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملاً باطلاً وسعياً ضائعاً. أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى : {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيراً وأفضل ، لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 468
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} (الحج : 24). والقول الرابع : أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملاً باطلاً وسعياً ضائعاً. أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى : {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيراً وأفضل ، لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 468
471
(1/2919)
/ اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان واختلفوا في الناصب لقوله : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} على وجوه : أحدها : أنه يكون التقدير واذكر لهم : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} عطفاً على قوله : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (الكهف : 45). الثاني : أنه يكون التقدير : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} حصل كذا وكذا يقال لهم : {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةا } لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم : هذا في هذا الموضع. الثالث : أن يكون التقدير {وَخَيْرٌ أَمَلا} في {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} والأول أظهر. إذا عرفت هذا فنقول : إنه ذكر في الآية من أحوال القيامة أنواعاً. النوع الأول : قوله : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} وفيه بحثان :
البحث الأول : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير على فعل ما لم يسم فاعله الجبال بالرفع بإسناد تسير إليه اعتباراً بقوله تعالى : {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} (التكوير : 3) والباقون نسير باسناد فعل التسيير إلى نفسه (تعالى و) الجبال بالنصب لكونه مفعول نسير ، والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله : {وَحَشَرْنَـاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه. ونقل صاحب الكشاف قراءة أخرى وهي تسير الجبال بإسناد تسير إلى الجبال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 471
البحث الثاني : قوله : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير ، فيحتمل أن يقال : إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه / والحق أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} (طه : 105 ـ 107) ولقوله : {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنابَثًّا} (الواقعة : 5 ، 6) والنوع الثاني : من أحوال القيامة قوله تعالى : {وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً} وفي تفسيره وجوه : أحدها : أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات ، ولا شيء من الجبال ، ولا شيء من الأشجار ، فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها ، وهو المراد من قوله : {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} . وثانيها : أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فهي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (الانشقاق : 4) وقوله : {وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة : 2) وقوله : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} . وثالثها : أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار/ فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة. والنوع الثالث : من أحوال القيامة قوله : {وَحَشَرْنَـاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحداً ، أي لم نترك من الأولين والآخرين أحداً إلا وجمعناهم لذلك اليوم ، ونظيره قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} (الواقعة : 49 ، 50) ومعنى لم نغادر لم نترك ، يقال : غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء ، ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول ، ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها.
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم ، فقال : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} وفيه مسألتان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 471
المسألة الأولى : في تفسير الصف وجوه. أحدها : أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفاً واحداً ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضاً ، قال القفال : ويشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ، ومنه اشتق الصفصف للصحراء. وثانيها : لا يبعد أن يكون الخلق صفوفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض ، وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفاً صفوفاً كقوله : {يُخْرِجُكُمْ طِفْلا} (غافر : 67) أي أطفالاً. وثالثها : صفاً أي قياماً ، كما قال تعالى : {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } (الحج : 36) قالوا قياماً.
(1/2920)
المسألة الثانية : قالت المشبهة قوله تعالى : {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر : 22) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفاً ، وكذلك قوله تعالى : {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان ، وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضاً عليه ، لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم ، ثم قال تعالى : {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةا } وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه ، لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار : / {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةا } عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ } وقال تعالى : {أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِـاَايَـاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} (مريم : 77 ـ 80) ثم قال تعالى : {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق ، ثم قال تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 471
{وَوُضِعَ الْكِتَـابُ} والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال ، والمراد الجنس وهو صحف الأعمال : {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون ، وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات : {مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا } وهي عبارة عن الإحطاة بمعنى لا يترك شيئاً من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار : 10 ـ 12) وقوله : {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية : 29) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة : {إِلا أَحْصَـاهَا } إلا ضبطها وحصرها ، قال بعض العلماء : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر. لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جداً : {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا : {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل ، ولا يزيد في عقابه المستحق ، ولا يعذب أحداً بجرم غيره ، بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الجبائي : هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل : أحدها : أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالماً. وثانيها : أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب. وثالثها : بطلان قولهم لله أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلماً منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له. أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي ، وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا ههنا.
جزء : 21 رقم الصفحة : 471
(1/2921)
المسألة الثانية : عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف ، وأيوب ، وسليمان. فيدعو بالمملوك ويقول له : ما شغلك عني فيقول جعلتني عبداً للآدمي فلم تفرغني ، فيدعو يوسف عليه السلام ، ويقول : كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ، / ثم يدعو بالمبتلي فإذا قال شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة فيقول : ماذا عملت فيما آتيتك فيقول شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان عليه السلام فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار" ، وعن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن جسده فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه كيف عمل به".
المسألة الثالثة : دلت الآية على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب ، وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره فقالت المعتزلة : الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله ، والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله ، واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثواباً وعقاباً وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة ، في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلاً بالله كان أعظم في كونه كبيرة ، وكل ما كان أقوى في كونه إضراراً بالغير كان أكثر في كونه ذنباً أو معصية فهذا هو الضبط.
جزء : 21 رقم الصفحة : 471
475
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى ، وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين فأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد وكيف أتواضع له وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بعين هذه المعاملة فقالوا : كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء مع أنا من أنساب شريفة وهم من أنساب نازلة ونحن أغنياء وهم فقراء ، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي بعينها طريقة إبليس ثم إنه تعالى حذر عنها وعن الاقتداء بها في قوله : {أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ} فهذا هو وجه النظم وهو حسن معتبر ، وذكر القاضي وجهاً آخر فقال : إنه تعالى لما ذكر من قبل أمر القيامة وما يجري عند الحشر ووضع الكتاب وكأن الله تعالى يريد أن يذكر ههنا أنه ينادي المشركين ويقول لهم أين شركائي الذي زعمتم وكان قد علم تعالى أن إبليس هو الذي يحمل الإنسان على إثبات هؤلاء الشركاء ، لا جرم قدم قصته في هذه الآية إتماماً لذلك الغرض ثم قال القاضي : وهذه القصة وإن كان تعالى قد كررها في سور كثيرة إلا أن في كل موضع منها فائدة مجددة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 475
(1/2922)
المسألة الثانية : أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال : الأول : أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ولهم فيه وجوه. الأول : أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } (الصافات : 158) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} (الأنعام : 100). والثاني : أن الجن سموا جناً للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن. الثالث : أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة كقولهم كوفي وبصري وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير. والقول الثاني : أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم. والقول الثالث : قول من قال كان من الملائكة فمسخ وغير. وهذه المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلاً في هذه الآية وهو قوله : {أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة. بقي أن يقال : إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر ، وأيضاً / لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم ، وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ثم قال تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه } وفي ظاهره إشكال لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه ، فلهذا السبب ذكروا فيه وجوهاً. الأول : قال الفراء : ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته. والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين وقال رؤبة :
يهوين في نجد وغور غائرا
فواسقا عن قصدها جوائرا
الثاني : حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال : لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق ، فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال : فسق عن أمر ربه. الثالث : قال قطرب : فسق عن أمر ربه رده كقوله واسأل القرية واسأل العير قال تعالى : {أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّا } وفيه مسائل :
جزء : 21 رقم الصفحة : 475
المسألة الأولى : المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هو أشرف من آدم ، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم ، إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة. هذا هو تقرير الكلام. فإن قيل : إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات. فأولها : إثبات إبليس. وثانيها : إثبات ذرية إبليس. وثالثها : إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم. ورابعها : أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس. وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد صلى الله عليه وسلّم. فالجاهل بصدق النبي جاهل بها. إذا عرفت هذا فنقول المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبياً صادقاً أو ما عرفوا ذلك ؟
فإن عرفوا كونه نبياً صادقاً قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلّم عن قول انتهو عنه ، وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبياً جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة والجواب أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه ، فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجراً لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع.
المسألة الثانية : قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد ، إذ لو أراده وخلقه فيه ثم عاقبه عليه لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهم فكيف يوبخهم بقوله : {بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا} ! ؟
تعالى الله عنه علواً كبيراً. بل على هذا المذهب لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله. والجواب : المعارضة بالداعي والعلم.
(1/2923)
المسألة الثالثة : إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين / أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله ، لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلّم هو النخوة وإظهار العجب. فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع فهو مقتد بإبليس وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق فنسأل الله الخلاص منه ثم قال تعالى : {بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا} أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به فأطاعه بدل طاعته ، ثم قال : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} وفيه مسألتان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 475
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} إلى من يعود ؟
فيه وجوه : أحدها : وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله : {اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} (النساء : 66) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله : {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لإضلالهم وقوله : {عَضُدًا} أي أعواناً. وثانيها : وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال : إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟
ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة ، فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى : {بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا} والمراد بالظالمين أولئك الكفار. وثالثها : أن يكون المراد من قوله : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة. فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل ، وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل ، بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء وما كنت بالفتح ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم ، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. وقرأ علي رضوان الله عليه : {مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} بالتنوين على الأصل. وقرأ الحسن : {عَضُدًا} بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين ، وقرىء : {عَضُدًا} بالفتح وسكون الضاد بضمتين / بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه ، واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال : {عَضُدًا * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} وفيه أبحاث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 475
البحث الأول : قرأ حمزة : (نقول) بالنون عطفاً على قوله : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ} و{أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} والباقون قرأوا بالياء.
البحث الثاني : واذكر يوم نقول عطفاً على قوله : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا } .
(1/2924)
البحث الثالث : المعنى واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم : {نَادُوا شُرَكَآءِىَ} أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة ، ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن فدعوهم ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا : {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا} (غافر : 47) ثم قال تعالى : {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ولم يدفعوا عنهم ضرراً وما أوصلوا إليهم نفعاً. ثم قال تعالى : {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} وفيه وجوه : الأول : قال صاحب "الكشاف" : الموبق المهلك من وبق يبق وبوقاً ووبقاً. إذا هلك وأوبقه غيره فيجوز أن يكون مصدراً كالمورد والموعد وتقرير هذا الوجه أن يقال : إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم وأدخل عيسى الجنة وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق وهو ذلك الوادي في جهنم. الوجه الثاني : قال الحسن : (موبقاً) أي عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك. ومنه قوله : لا يكن حبك كلفاً ، ولا بغضك تلفاً. الوجه الثالث : قال الفراء البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكاً في يوم القيامة. الوجه الرابع : الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده ، لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان ثم قال تعالى : {وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} وفي هذا الظن قولان : الأول : أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين. والثاني : وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة ، لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها. كما قال : {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (الفرقان : 12) وقوله : {مُّوَاقِعُوهَا} أي مخالطوها فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة يقال لها مواقعة ثم قال تعالى : {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} أي لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة تسوقهم إليها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 475
476
/ اعلم أن أولئك الكفرة لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبين تعالى بالوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبهتهم باطلة وذكر فيه المثلين المتقدمين ، قال بعده : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو إشارة إلى ما سبق والتصريف يقتضي التكرير والأمر كذلك لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة ومع تلك الجوابات الشافية والأمثلة المطابقة فهؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وانتصاب قوله جدلاً على التمييز قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام جادلوهم في الدين حتى صاروا هم مجادلين لأن المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ، ثم قال : {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} وفيه بحثان :
البحث الأول : قالت المعتزلة : الآية دالة على أنه لم يوجد ما يمنع من الإقدام على الإيمان وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه حصل المانع. قال أصحابنا : العلم بأنه لا يؤمن مضاد لوجود الإيمان. فإذا كان ذلك العلم قائماً كان المانع قائماً. وأيضاً حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما وجب لأن الفعل الاختياري بدون الداعي محال ، ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان. وإذا ثبت هذا ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 476
(1/2925)
البحث الثاني : المعنى أنه لما جاءهم الهدى وهو الدليل الدال على صحة الإسلام ، وثبت أنه / لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة. والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان ثم قال تعالى : {إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ} ـ وهو عذاب الاستئصال ـ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} قرأ حمزة وعاصم والكسائي قبلاً بضم القاف والباء جميعاً وهو جمع قبيل بمعنى ضروب من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء وقيل مقابلة وعياناً والباقون قبلاً بكسر القاف وفتح الباء أي عياناً أيضاً ، وروى صاحب الكشاف قبلاً بفتحتين أي مستقبلاً. والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا ، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا ، واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين ، لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين. ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق. وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضاً أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزواً وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة. قال النحويون ما في قوله : {وَمَآ أُنْذِرُوا } يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفاً ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 476
477
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي / والخذلان. الصفة الأولى : قوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه } أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم. الصفة الثانية : (قوله) : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن} وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام ، والعجب أن قوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه } متمسك القدرية ، وقوله : {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر ، والتجربة تكشف عن صدق قولنا. وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة ، وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة ، لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادراً عليها ، أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن ، أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال : المراد أنه يغفر كثيراً لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيراً ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال :
جزء : 21 رقم الصفحة : 477
{بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو إما يوم القيامة ، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح (وقوله) : {لَّن يَجِدُوا مِن دُونِه مَوْاـاِلا} (أي) منجى ولا ملجأ ، يقال وأل إذا لجأ ، ووأل إليه إذا لجأ إليه ، ثم قال تعالى : {وَتِلْكَ الْقُرَى } يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا ، وتلك مبتدأ ، والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى ، وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة : {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} أي وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر ، والمهلك الإهلاك أو وقته ، وقرىء لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة ، أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم ، والموعد وقت أو مصدر ، والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً ليكونوا إلى التوبة أقرب.
جزء : 21 رقم الصفحة : 477
481
(1/2926)
/ اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي أن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه العلم ، وهذا وإن كان كلاماً مستقلاً في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين. أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر ، وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة : إن أخبركم محمد عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا ، وهذا ليس بشيء لأنه لا يلزم من كونه نبياً من عند الله تعالى أن يكون عالماً بجميع القصص والوقائع ، كما أن كون موسى عليه السلام نبياً صادقاً من عند الله لم يمنع من أمر الله إياه بأن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه فظهر مما ذكرنا أن هذه القصة قصة مستقلة بنفسها ، ومع ذلك فهي نافعة في تقرير المقصود في القصتين المتقدمتين.
المسألة الثانية : أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس صاحب موسى بن عمران ، وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب ، وقيل هو كان نبياً قبل موسى بن عمران فقال ابن عباس كذب عدو الله ، واعلم أنه كان ليوسف عليه السلام ولدان أفرائيم وميشا فولد افرائيم نون وولد نون يوشع بن نون وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته ، وأما ولد ميشا فقيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران ، ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم والخضر هو الذي خرق / السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، وموسى بن ميشا معه ، هذا هو قول جمهور اليهود ، واحتج القفال على صحة قولنا إن موسى هذا هو صاحب التوراة ، قال إن الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلا وأراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الإسم يوجب الإنصراف إليه ، ولو كان المراد شخصاً آخر مسمى بموسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة ، كما أنه لما كان المشهور في العرف من أبي حنيفة رحمه الله هو الرجل المعين فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواء لقيدناه مثل أن نقول قال أبو حنيفة الدينوري ، وحجة الذين قالوا : موسى هذا غير صاحب التوراة أنه تعالى بعد أن أنزل التوراة عليه وكلمه بلا واسطة وحج خصمه بالمعجزات القاهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك لتعلم الاستفادة ، وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء فيحتاج في تعلمها إلى من دونه وهذا أمر متعارف معلوم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 481
المسألة الثالثة : اختلفوا في فتى موسى فالأكثرون على أنه يوشع بن نون/ وروى القفال عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي هريرة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلّم يقول فتاه يوشع بن نون. والقول الثاني : أن فتى موسى أخو يوشع وكان صاحباً لموسى عليه السلام في هذا السفر. والقول الثالث : روى عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَـاـاهُ لا أَبْرَحُ} قال يعني عبده ، قال القفال واللغة تحتمل ذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ، وليقل فتاي وفتاتي" وهذا يدل على أنهم كانوا يسمون العبد فتى والأمة فتاة.
(1/2927)
المسألة الرابعة : قيل إن موسى عليه السلام لما أعطي الألواح وكلمه الله تعالى قال : من الذي أفضل مني وأعلم ؟
فقيل عبد لله يسكن جزائر البحر وهو الخضر ، وفي رواية أخرى أن موسى عليه السلام لما أوتي من العلم ما أوتي ظن أنه لا أحد مثله فأتاه جبريل عليه السلام وهو بساحل البحر قال : يا موسى انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثم يرتفع فأنت فيما أوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر ، قال الأصوليون : هذه الرواية ضعيفة لأن الأنبياء يجب أن يعلموا أن معلومات الله لا نهاية لها وأن يعلموا أن معلومات الخلق يجب كونها متناهية وكل قدر متناه فإن الزائد عليه ممكن فلا مرتبة من مراتب العلم إلا وفوقها مرتبة ولهذا قال تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} وإذا كانت هذه المقدمات معلومة فمن المستبعد جداً أن يقطع العاقل بأنه لا أحد أعلم مني لا سيما موسى عليه السلام مع علمه الوافر بحقائق الأشياء وشدة براءته عن الأخلاق الذميمة كالعجب والتيه والصلف. والرواية الثالثة : قيل إن موسى / عليه السلام سأل ربه : أي عبادك أحب إليك ؟
قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال فأي عبادك أقضى ؟
قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : فأي عبادك أعلم ؟
قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي ، فقال موسى عليه السلام : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه ، فقال : اعلم منك الخضر ، قال فأين أطلبه ؟
قال : على الساحل عند الصخرة. قال يا رب : كيف لي به ؟
قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان ورقد موسى واضطرب الحوت وطفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال : وأني بأرضك السلام فعرفه نفسه ، فقال : يا موسى أنا على علم علمني الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا ، فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر ـ أقول نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك العصفور من ذلك الماء إلى كلية ماء البحر نسبة متناه إلى متناه ونسبة معلومات جميع المخلوقات إلى معلومات الله تعالى نسبة متناه إلى غير متناه ، فأين إحدى النسبتين من الأخرى والله العالم بحقائق الأمور ، ونرجع إلى التفسير ، أما قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 481
(1/2928)
{لا أَبْرَحُ} قال الزجاج قوله : {لا أَبْرَحُ} ليس معناه لا أزول ، لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضاً ، أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه والإعراض عنه ، يقال : زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها ، فقوله : لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير والذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل وهذا الفعل ـ وأقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول/ والعرب تقول : لا أبرح ولا أزال ولا انفك ولا افتأ بمعنى واحد. قال القفال : وقالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال. يقال : زال يزال ويزول كما يقال دام يدام ويدوم ومات يمات ويموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله : لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدماً للعدم فيكون ثبوتاً ، فقوله : لا أزال ولا أبرح يفيد الدوام والثبات على العمل فإن قيل : إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر ، قلنا : حذف الخبر لأن الحال والكلام يدلان عليه ، أما الحال فلأنها كانت حال سفر ، وأما الكلام فلأن قوله : {حَتَّى ا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} غاية مضروبة تستدعي شيئاً هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ويحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان. وأما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقيل غيره وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه ، ومن الناس من قال : البحران موسى والخضر / لأنهما كانا بحري العلم وقرىء مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقباً أي أسير زماناً طويلاً وقيل الحقب : ثمانون سنة وقد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى : {لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا} (النبأ : 23) وحاصل الكلام أن الله عز وجل كان أعلم موسى حال هذا العالم ، وما أعلمه موضعه بعينه ، فقال موسى عليه السلام : لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى : {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان ، الأول : مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى (قول) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق (الله) ما قاله. والقول الثاني : أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع (فيه) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن ، والمفسرون على القول الأول ، ثم قال تعالى : {نَسِيَا حُوتَهُمَا} وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 481
البحث الأول : الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنساناً فيقال له : إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلاناً عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حياً وطفر إلى البحر ، فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده. إذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر وسارت وفي كيفية طفرها روايات أيضاً قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت وقيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر(ت) هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت.
(1/2929)
البحث الثاني : المراد من قوله : {نَسِيَا حُوتَهُمَا} أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل الله حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى ؟
أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيراً فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان. وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيهاً / لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على القلب والخاطر ، أما قوله : {فَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ سَرَبًا} ففيه وجوه. الأول : أن يكون التقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب والسرب هو الذهاب ومنه قوله : {وَسَارِبُا بِالنَّهَارِ} (الرعد : 10). الثاني : أن الله تعالى أمسك إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق والكوة حتى سرى الحوت فيه فلما جاوز أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النسيان المذكور وذهبا كثيراً وتعبا وجاعا : {قَالَ لِفَتَـاـاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـاذَا نَصَبًا} الفتى : {قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى} الهمزة في أرأيت همزة الاستفهام ورأيت على معناه الأصلي وقد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه أرأيت ما حدث لي ؟
كذلك ههنا كأنه قال : أرأيت ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة ، فحذف مفعول أرأيت لأن قوله : {فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ} يدل عليه ثم قال : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ أَنْ أَذْكُرَه } وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 481
البحث الأول : أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجباً ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان.
البحث الثاني : قال الكعبي : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ أَنْ أَذْكُرَه } يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه ، أثر قال القاضي : والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى.
البحث الثالث : قوله : أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي : وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} وفيه وجوه : الأول : أن قوله عجباً صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذاً عجباً ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل وصيرورته حياً وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما. والثاني : أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب. الثالث : قيل إنه تم الكلام عند قوله : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ} ثم قال بعده : عجباً والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجباً حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله ، ثم قال تعالى : {قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلباً للتخفيف لدلالة الكسرة عليه ، وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم ؟
فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضاً مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي / فرجعا وقوله : {قَصَصًا} فيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما. والثاني : أن يكون مصدراً لقوله فارتدا على آثارهما ، لأن معناه فاقتصا على آثارهما. وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 481
البحث الأول : أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجباً ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان.
(1/2930)
البحث الثاني : قال الكعبي : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ أَنْ أَذْكُرَه } يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه ، أثر قال القاضي : والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى.
البحث الثالث : قوله : أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي : وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} وفيه وجوه : الأول : أن قوله عجباً صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذاً عجباً ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل وصيرورته حياً وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما. والثاني : أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب. الثالث : قيل إنه تم الكلام عند قوله : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ} ثم قال بعده : عجباً والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجباً حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله ، ثم قال تعالى : {قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلباً للتخفيف لدلالة الكسرة عليه ، وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم ؟
فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضاً مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي / فرجعا وقوله : {قَصَصًا} فيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما. والثاني : أن يكون مصدراً لقوله فارتدا على آثارهما ، لأن معناه فاقتصا على آثارهما. وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 481
485
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ} فيه بحثان :
البحث الأول : قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه. الأول : أنه تعالى قال : {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ} والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } (الزخرف : 32) وقوله : {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى ا إِلَيْكَ الْكِتَـابُ إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } (القصص : 86) والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة.
الحجة الثانية : قوله تعالى : {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله. وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة.
الحجة الثالثة : أن موسى عليه السلام قال : {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى ا أَن} (الكهف : 66) والنبي لا يتبع غير النبي / في التعليم وهذا أيضاً ضعيف ، لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما في غير تلك العلوم فلا.
الحجة الرابعة : أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له : {صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال : {وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} وكل ذكل يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى ، ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق النبي وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها. فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير. قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير ، فإن قالوا : إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
الحجة الخامسة : احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة : {وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِى } ومعناه فعلته بوحي الله ، وهو يدل على النبوة. وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر.
الحجة السادسة : ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك ، فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا ؟
قال : الذي بعثك إلي. قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة ، ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات.
(1/2931)
البحث الثاني : قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر ، وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفاً إلا أخضر ذلك الموضع ، قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر. وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر ، وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبياً فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأناً من موسى صاحب التوراة/ لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى ، وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأناً من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل ، فإن قلنا : إنه كان من بني إسرائيل (فقد) كان من أمة موسى لقوله تعالى : حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون : {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل } (الشعراء : 17) والأمة لا تكون أعلى حالاً من النبي ، وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل : {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} (البقرة : 47) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول : إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
المسألة الثالثة : قوله : {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة ، والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية ، وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية ، وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول : / إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور ، وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظرياً حاصلاً من غير كسب وطلب ، وإما أن يكون كسبياً ، أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب ، مثل تصورنا الألم واللذة ، والوجود والعدم ، ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وأن الواحد نصف الإثنين. وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم ، وهذا الطريق على قسمين. أحدهما : أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات. وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال ، وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب. والنوع الثاني : أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل ، وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل ، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية ، إذا عرفت هذا فنقول : جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفساً مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبداً شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية ، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام ، وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله : {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ} وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية. فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ ، ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. ثم قال تعالى : {قَالَ لَه مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى ا أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} وفيه مسألتان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ويعقوب {رَشَدًا} بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رَشَد ورُشْد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله {رَشَدًا} أي علماً ذا رشد قال القفال قوله : {رَشَدًا} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الرشد راجعاً إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به. والثاني : أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت.
(1/2932)
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر. فأحدها : أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال : {هَلْ أَتَّبِعُكَ} . وثانيها : أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع. وثالثها : أنه قال على أن : وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم. ورابعها : أنه قال : {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله ، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك ، بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك ، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله. وخامسها : أن قوله : {مِمَّا عُلِّمْتَ} اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم. وسادسها : أن قوله : {رَشَدًا} طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال. وسابعها : أن قوله : {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً. وثامنها : أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير ، فإنا إذا قلنا : لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة ، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها ، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، إذا ثبت هذا فنقول قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
{هَلْ أَتَّبِعُكَ} يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها. وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض. وتاسعها : أن قوله : {أَتَّبِعُكَ} يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. وعاشرها : أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد. والحادي عشر : أنه قال : {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى ا أَن} فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم. والثاني عشر : أنه قال : {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى ا أَن} فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى / حكى عن الخضر أنه قال : {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض ، ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض. ثم إنه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد ، وذلك لأنه إذا رأى شيئاً أو سمع كلاماً فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكراً إلا أنه كان في الحقيقة حقاً صواباً ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته ، وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة ، وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة ، وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض ، وقوله : {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي ، وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
(1/2933)
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. قالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} كذباً ، ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل. أجاب الجبائي عنه : أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه ، يقال في العرف : إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً و(لا) أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى : {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي كان يشق عليهم الاستماع ، فيقال له : هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز. وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى : {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته ، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم ، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ، ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا : إن الخضر قال لموسى : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} وقال موسى : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام ، والجواب أن يحمل قوله : {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه.
المسألة الثانية : لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} معناه ستجدني صابراً إن شاء الله كوني صابراً ، وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابراً أم لا. ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه/ وهذا يدل على صحة قولنا : إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده ، قالت المعتزلة : هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب ، وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل ؟
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية ، والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ} (الجن : 23) وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب.
المسألة الرابعة : قول الخضر لموسى عليه السلام : {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا} نسبة إلى قلة العلم والخبر ، وقول موسى له : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد ، وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات ، وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير. فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال : {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلا تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ حَتَّى ا أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا المبتدىء لتعليمك إياه وإخبارك به ، وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء. وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع ، وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 485
486
/ اعلم أن موسى وذلك العالم لما تشارطا على الشرط المذكور وسارا فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فركباها وأقدم ذلك العالم على خرق السفينة ، وأقول لعله أقدم على خرق جدار السفينة لتصير السفينة بسبب ذلك الخرق معيبة ظاهرة العيب فلا يتسارع الغرق إلى أهلها فعند ذلك قال موسى له : {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وفيه بحثان :
البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي : {أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ} بفتح الياء على إسناد الغرق إلى الأهل والباقون لتغرق أهلها على الخطاب ، والتقدير لتغرق أنت أهل هذه السفينة.
(1/2934)
البحث الثاني : أن موسى عليه السلام لما شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نسي الشرط المتقدم فلهذا المعنى قال ما قال ، واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجهين. الأول : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان من الأنبياء ، ثم قال موسى عليه السلام : {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} فإن صدق موسى في هذا القول دل ذلك على صدور الذنب العظيم عن ذلك النبي ، وإن كذب دل على صدور الكذب عن موسى عليه السلام. الثاني : أنه التزم أن لا يعترض على ذلك العالم. وجرت العهود المؤكدة لذلك ، ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب. والجواب عن الأول : أنه لما شاهد موسى عليه السلام منه الأمر الخارج عن العادة قال هذا الكلام ، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً ، بل لأنه أحب أن يقف على وجهه وسببه ، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه إنه أمر يقال أمر الأمر إذا عظم وقال الشاعر :
داهية دهياء
وعلى الثاني : أنه فعل بناء على النسيان ، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه لما خالف الشرط لم يزد على أن قال : {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} فعند هذا اعتذر موسى عليه السلام بقوله : {لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي بشيء : {وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني من أمري عسراً ، وهو اتباعه إياه يعني ولا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة ، وقرىء : {عُسْرًا} بضمتين.
جزء : 21 رقم الصفحة : 486
487
/ اعلم أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضاً للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب ، وأما تناول هذا اللفظ للصبي الصغير فظاهر ، وليس في القرآن كيف لقياه هل كان يلعب مع جمع من الغلمان الصبيان أو كان منفرداً ؟
وهل كان مسلماً أو كان كافراً ؟
وهل كان منعزلاً ؟
وهل كان بالغاً أو كان صغيراً ؟
وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله : {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أليق بالبالغ منه بالصبي لأن الصبي لا يقتل وإن قتل ، وأيضاً فهل قتله بأن حز رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في لفظ القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام فعند هذا قال موسى عليه السلام : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَا بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْـاًا نُّكْرًا} وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف والباقون زكية بغير ألف قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة ، وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت.
البحث الثاني : ظاهر الآية يدل على أن موسى عليه السلام استبعد أن يقتل النفس إلا لأجل القصاص بالنفس وليس الأمر كذلك لأنه قد يحل دمه بسبب من الأسباب ، وجوابه أن السبب الأقوى هو ذلك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 487
(1/2935)
البحث الثالث : النكر أعظم من الإمر في القبح ، وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان اتلافاً للنفس لأنه كان يمكن أن لا يحصل الغرق ، أما ههنا حصل الإتلاف قطعاً فكان أنكر وقيل إن قوله : {لَقَدْ جِئْتَ شَيْـاًا إِمْرًا} أي عجباً والنكر أعظم من العجب وقيل النكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس فهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر ومنهم من قال : الإمر أعظم. قال : لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد وأيضاً الإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر وأنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه ما زاد على أن ذكره ما عاهده عليه فقال : {أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة لك لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى } مع العلم بشدة حرصه على مصاحبته وهذا كلام نادم شديد الندامة ثم قال : {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا} والمراد منه أنه يمدحه بهذه الطريقة من حيث احتمله مرتين أولاً وثانياً ، مع قرب المدة وبقي مما يتعلق بالقراءة في هذه الآية ثلاثة مواضع : الأول : قرأ نافع برواية ورش وقالون وابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكراً بضم الكاف في جميع القرآن والباقون ساكنة الكاف حيث كان وهما لغتان. الثاني : الكل قرأوا : {فَلا تُصَـاحِبْنِى } بالألف إلا يعقوب فإنه قرأ : (لا تصحبني) من صحب والمعنى واحد / الثالث : في {لَّدُنِّى} قراءات. الأولى : قراءة نافع وأبي بكر في بعض الروايات عن عاصم : {مِن لَّدُنِّى} بتخفيف النون وضم الدال. الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم : مشددة النون وضم الدال. الثالثة : قرأ أبو بكر عن عاصم بالإشمام وغير إشباع. الرابعة : {مِن لَّدُنِّى} بضم اللام وسكون الدال في بعض الروايات عن عاصم وهذه القراءات كلها لغات في هذه اللفظة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 487
489
اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات : الأول : إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين : {رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص : 24). الجواب : أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد. السؤال الثاني : لم قال : {حَتَّى ا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم ، والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر :
ليت الغراب غداة ينعب دائما
كان الغراب مقطع الأوداج
السؤال الثالث : إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى } وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله. الجواب : أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا : قد تكون من المندوبات ، وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوماً ، فإن قالوا : ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة ، ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديداً إلا أنه ما بلغ حد الهلاك ، ثم قال تعالى : {فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} وفيه بحثان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 489
البحث الأول : يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً ، وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض. ونظيره : زاره من الإزورار ، وأضافه وضيفه أنزله ، وجعله ضيفه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا أهل قرية لئاماً.
(1/2936)
البحث الثاني : رأيت في كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحمل من الذهب وقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاءاً حتى تصير القراءة هكذا : فأتوا أن يضيفوهما. أي أتوا لأن يضيفوهما ، أي كان إتيان أهل تلك القرية إليهما لأجل الضيافة ، وقالوا : غرضنا منه أن يندفع عنا هذا اللؤم فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله ، وذلك يوجب القدح في الإلهية. فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية ، ثم قال تعالى : {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَه } أي فرأيا في القرية حائطاً مائلاً ، فإن قيل كيف يجوز وصف الجدار بالإرادة مع أن الإرادة من صفات الأحياء قلنا هذا اللفظ ورد على سبيل الاستعارة/ وله نظائر في الشعر قال :
يريد الرمح صدر أبي براء
ويرغب عن دماء بني عقيل
وأنشد الفراء :
جزء : 21 رقم الصفحة : 489
إن دهراً يلف شملي بجمعل
لزمان يهم بالإحسان
في مهمة فلقت به هاماتها
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ونظيره من القرآن قوله تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} وقوله : {أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} وقوله : {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} وقوله : {أَن يَنقَضَّ} يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته. وقيل : انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة ، وقرىء أن ينقض من النقض ، وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولاً ، وأما قوله : {فَأَقَامَه } قيل نقضه ثم بناه ، وقيل : أقامه بيده ، وقيل : مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته ، واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك. وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى } فلا جرم قال : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات ، وقرىء : {لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} والتاء تخذت أصل كما في تبع ، واتخذ / افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع ، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} وههنا سؤالات. السؤال الأول : قوله : هذه إشارة إلى ماذا ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر يحصل الفراق حيث قال : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى } فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} أي هذا الفراق الموعود. الثاني : أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق. السؤال الثاني : ما معنى قوله : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} ؟
الجواب : معناه هذا فراق حصل بيني وبينك ، فأضيف المصدر إلى الظرف ، حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فكان المعنى هذا فراق بيننا ، أي اتصالنا ، كقول القائل : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، أي أحدنا هكذا قاله الزجاج ، ثم قال العالم لموسى عليه السلام : {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة ، وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه ، فإذا قيل : ما تأويله فالمعنى ما مصيره.
جزء : 21 رقم الصفحة : 489
إن دهراً يلف شملي بجمعل
لزمان يهم بالإحسان
في مهمة فلقت به هاماتها
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
(1/2937)
ونظيره من القرآن قوله تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} وقوله : {أَن يَقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} وقوله : {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} وقوله : {أَن يَنقَضَّ} يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته. وقيل : انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة ، وقرىء أن ينقض من النقض ، وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولاً ، وأما قوله : {فَأَقَامَه } قيل نقضه ثم بناه ، وقيل : أقامه بيده ، وقيل : مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته ، واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك. وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى } فلا جرم قال : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات ، وقرىء : {لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} والتاء تخذت أصل كما في تبع ، واتخذ / افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع ، واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} وههنا سؤالات. السؤال الأول : قوله : هذه إشارة إلى ماذا ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر يحصل الفراق حيث قال : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءا بَعْدَهَا فَلا تُصَـاحِبْنِى } فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} أي هذا الفراق الموعود. الثاني : أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق. السؤال الثاني : ما معنى قوله : {هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} ؟
الجواب : معناه هذا فراق حصل بيني وبينك ، فأضيف المصدر إلى الظرف ، حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فكان المعنى هذا فراق بيننا ، أي اتصالنا ، كقول القائل : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، أي أحدنا هكذا قاله الزجاج ، ثم قال العالم لموسى عليه السلام : {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة ، وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه ، فإذا قيل : ما تأويله فالمعنى ما مصيره.
جزء : 21 رقم الصفحة : 489
493
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام : "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر وذلك لأن الظاهر أنه يحرم التصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن تخريق السفينة تنقيص لملك الإنسان من غير سبب ظاهر ، وقتل الغلام تفويت لنفس معصومة من غير سبب ظاهر ، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر ، وفي هذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنياً عن الأسباب الظاهرة المعلومة ، بل كان ذلك الحكم مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدل على أن ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ويطلع بها على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى عليه السلام في معرفة الشرائع والأحكام بناء الأمر على الظواهر وهذا العالم كانت مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائق الأمور والإطلاع على أسرارها الكامنة ، فبهذا الطريق ظهر أن مرتبته في العلم كانت فوق مرتبة موسى عليه السلام. إذا عرفت هذا فنقول : المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى ؛ فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 493
أما المسألة الأولى : فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها ، وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها ، ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما.
وأما المسألة الثانية : فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حياً كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم ، ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين ، فهلذا السبب أقدم على قتله.
(1/2938)
والمسألة الثالثة : أيضاً كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام. وفيه ضرر شديد ، فالحاصل أن ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على بواطن الأشياء وبالأطلاع على حقائقها كما هي عليها في أنفسها ، وكان مخصوصاً ببناء الأحكام الحقيقية على تلك الأحوال الباطنة ، وأما موسى عليه السلام فما كان كذلك بل كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور فلا جرم ظهر التفاوت بينهما في العلم/ فإن قال قائل فحاصل الكلام أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها في نفسها ، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه ، وموسى عليه السلام إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم فكان من الواجب / على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكن له تعلمه ، وهذه المسائل الثلاثة علوم لا يمكن تعلمها فما الفائدة في ذكرها وإظهارها. والجواب : أن العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة ، وأما العلم ببواطن الأشياء فإنما يمكن تحصيله بناء على تصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسدانية ، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم : {وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (الكهف : 65) ، ثم إن موسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتطلع على حقائق الأمور.
جزء : 21 رقم الصفحة : 493
المسألة الثانية : اعلم أن ذلك العالم أجاب عن المسألة الأولى بقوله : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} وفيه فوائد. الفائدة الأولى : أن تلك السفينة كانت لأقوام محتاجين متعيشين بها في البحر والله تعالى سماهم مساكين ، واعلم أن الشافعي رحمه الله احتج بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة. الفائدة الثانية : أن مراد ذلك العالم من هذا الكلام أنه ما كان مقصودي من تخريق تلك السفينة تغريق أهلها بل مقصودي أن ذلك الملك الظالم كان يغصب السفن الخالية عن العيوب فجعلت هذه السفينة معيبة لئلا يغصبها ذلك الظالم فإن ضرر هذا التخريق أسهل من الضرر الحاصل من ذلك الغصب ، فإن قيل وهل يجوز للأجنبي أن يتصرف في ملك الغير لمثل هذا الغرض ، قلنا هذا مما يختلف أحواله بحسب اختلاف الشرائع فلعل هذا المعنى كان جائزاً في تلك الشريعة ، وأما في شريعتنا فمثل هذا الحكم غير بعيد ، فإنا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق ويأخذون جميع ملك الإنسان ، فإن دفعنا إلى قاطع الطريق بعض ذلك المال سلم الباقي فحينئذ يحسن منا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ليسلم الباقي وكان هذا منا يعد إحساناً إلى ذلك المالك. الفائدة الثالثة : أن ذلك التخريق وجب أن يكون واقعاً على وجه لا تبطل به تلك السفينة بالكلية إذ لو كان كذلك لم يكن الضرر الحاصل من غصبها أبلغ من الضرر الحاصل من تخريقها ، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً. الفائدة الرابعة : لفظ الوراء على قوله : {وَكَانَ وَرَآءَهُم} فيه قولان : الأول : أن المراد منه وكان أمامهم ملك يأخذ ، هكذا قاله الفراء وتفسيره قوله تعالى : {مِّن وَرَآاـاِهِمْ جَهَنَّمُ } (الجاثية : 10) أي أمامهم ، وكذلك قوله تعالى : {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} (الإنسان : 27) وتحقيقه أن كل ما غاب عنك فقد توارى عنك وأنت متوار عنه ، فكل ما غاب عنك فهو وراءك وأمام الشيء وقدامه إذا كان غائباً عنه متوارياً عنه فلم يبعد إطلاق لفظ وراء عليه. والقول الثاني : يحتمل أن يكون الملك كان من وراء الموضع الذي يركب منه صاحبه وكان مرجع السفينة عليه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 493
(1/2939)
وأما المسألة الثانية : وهي قتل الغلام فقد أجاب العالم عنها بقوله : {وَأَمَّا الْغُلَـامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} قيل : إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة ، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق. وربما أدى ذلك الفسق إلى الكفر ، وقيل : إنه كان صبياً إلا أن الله تعالى علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت منه هذه المفاسد ، وقوله : {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـانًا وَكُفْرًا} الخشية بمعنى الخوف وغلبة الظن والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنه تولد مثل هذا الفساد منه ، وقوله : {أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـانًا} فيه قولان : الأول : أن يكون المراد أن ذلك الغلام يحمل أبويه على الطغيان والكفر كقوله : {وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} (الكهف : 73) أي لا تحملني على عسر وضيق وذلك لأن أبويه لأجل حب ذلك الولد يحتاجان إلى الذب عنه ، وربما احتاجا إلى موافقته في تلك الأفعال المنكرة. والثاني : أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطغاة الكفار ، فإن قيل : هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظن ؟
قلنا : إذا تأكد ذلك الظن بوحي الله جاز ثم قال تعالى : {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَواةً} أي أردنا أن يرزقهما الله تعالى ولداً خيراً من هذا الغلام زكاة أي ديناً وصلاحاً ، وقيل : إن ذكره الزكاة ههنا على مقابلة قول موسى عليه السلام : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَا بِغَيْرِ نَفْسٍ} فقال العالم : أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه كما ذكرته من الزكاة ، ويكون المراد من الزكاة الطهارة فكأن موسى عليه السلام قال : أقتلت نفساً طاهرة لأنها ما وصلت إلى حد البلوغ فكانت زاكية طاهرة من المعاصي فقال العالم : إن تلك النفس وإن كانت زاكية طاهرة في الحال إلا أنه تعالى علم منها أنها إذا بلغت أقدمت على الطغيان والكفر فأردنا أن يجعل لهما ولداً أعظم زكاة وطهارة منه وهو الذي يعلم الله منه أنه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات ومن قال إن ذلك الغلام كان بالغاً قال : المراد من صفة نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله ثم قال : {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أي يكون هذا البدل أقرب عطفاً ورحمة بأبويه بأن يكون أبر بهما وأشفق عليهما والرحم الرحمة والعطف. روى أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة عظيمة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 493
بقي من مباحث هذه الآية موضعان في القراءة. الأول : قرأ نافع وأبو عمرو يبدلهما بفتح الباء وتشديد الدال وكذلك في التحريم : {أَن يُبْدِلَه ا أَزْوَاجًا} وفي القلم : {عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا} والباقون ساكنة الباء خفيفة الدال وهما لغتان أبدل يبدل وبدل يبدل. الثاني : قراءة ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو رحماً بضم الحاء والباقون بسكونها وهما لغتان مثل نكر ونكر وشغل وشغل.
(1/2940)
وأما المسألة الثالثة : وهي إقامة الجدار فقد أجاب العالم عنها بأن الداعي له إليها أنه كان تحت ذلك الجدار كنز وكان ذلك ليتيمين في تلك المدينة وكان أبوهما صالحاً ولما كان ذلك الجدار مشرفاً على السقوط ولو سقط لضاع ذلك الكنز فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين / رعاية لحقهما ورعاية لحق صلاح أبيهما فأمرني بإقامة ذلك الجدار رعاية لهذه المصالح ، وفي الآية فوائد. الفائدة الأولى : أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال : {إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} وسماه أيضاً مدينة حيث قال : {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ} . الفائدة الثانية : اختلفوا في هذا الكنز فقيل : إنه كان مالاً وهذا هو الصحيح لوجهين. الأول : أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال. والثاني : أن قوله : {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علماً بدليل أنه قال : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا} والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة : 34) وقيل : كان لوحاً من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله. الفائدة الثالثة : قوله : {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا} يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن ابن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله مال الغلامين ؟
قال : بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه ؟
قال : قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون. وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه فيردها إليهم بالسلامة ، فإن قيل : اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنزل تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما ؟
فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار. وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به ؟
الجواب : لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم (إن) ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ولما قرر العالم هذه الجوابات قال :
جزء : 21 رقم الصفحة : 493
{رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال : {وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِى } يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال ، وهو أنه قال : {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} وقال : {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَواةً} وقال : {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد ؟
والجواب : أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال : أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية ، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى ، لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
جزء : 21 رقم الصفحة : 493
495
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ } (الكهف : 83) هو ذلك السؤال.
(1/2941)
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالاً : الأول : أنه هو الاسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله : {حَتَّى ا إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف : 86) وأيضاً بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله : {حَتَّى ا إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} (الكهف : 90) وأيضاً بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفياً مستتراً ، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر. ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية ، أو ما يقرب منها ، وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الإسم وجوهاً : الأول : أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي / مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد. والثاني : أن الفرس قالوا : إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا : يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منه فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب ، وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب. والقول الثاني : قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية ، قيل : إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال :
جزء : 21 رقم الصفحة : 495
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكاً علا في الأرض غير مفندي
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد
(1/2942)
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك. والقول الثالث : أنه كان عبداً صالحاً ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ، وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً : الأول : سأل ابن الكوا علياً رضي الله عنه عن ذي القرنين وقال أملك هو أم نبي فقال : لا ملك ولا نبي كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمى بذي القرنين وملك ملكه. الثاني : سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس. الثالث : قيل كان صفحتاً رأسه من نحاس. الرابع : كان على رأسه ما يشبه القرنين. الخامس : (كان) لتاجه قرنان. السادس : عن النبي صلى الله عليه وسلّم سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها. السابع : كان له قرنان أي ضفيرتان. الثامن : أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمده الظلمة من ورائه. التاسع : يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه. العاشر : رأى في المنام كأنه صعد الفلك فتعلق بطرفي الشمس وقرنيها وجانبيها فسمي / لهذا السبب بذي القرنين. الحادي عشر : سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة. والقول الرابع : أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول : يا ذا القرنين فقال : اللهم اغفر. أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة فهذا جملة ما قيل في هذا الباب ، والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه والله أعلم.
المسألة الثالثة : اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا ؟
منهم من قال : إنه كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه. الأول : قوله : {إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى الارْضِ} والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة. والثاني : قوله : {وَءَاتَيْنَـاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا} ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في قوله : {وَءَاتَيْنَـاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا} هو أنه تعالى آتاه في النبوة سبباً. الثالث : قوله تعالى : {قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً ومنهم من قال إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.
جزء : 21 رقم الصفحة : 495
المسألة الرابعة : في دخول السين في قوله : {سَأَتْلُوا } معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحياً وأخبرني عن كيفية تلك الحال/ وأما قوله تعالى : {إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى الارْضِ} فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال : {وَءَاتَيْنَـاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا} قالوا : السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله : {وَءَاتَيْنَـاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا} معناه : أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا : إنه كان نبياً قالوا : من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة ، والذين أنكروا كونه نبياً قالوا : المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سبباً ، إلا أن لقائل أن يقول : إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل ، ثم قال : {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئاً أتبع سبباً يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء ، وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 495
497
/ اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله إليه حتى بلغه ، أما قوله : {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ففيه مباحث :
(1/2943)
الأول : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة ، وعن أبي ذر ، قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه ؟
قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تغرب في عين حامية ؛ وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عامر ، والباقون حمئة ، وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة ، فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ ؟
قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب ؟
قال : في ماء وطين كذلك نجده في التوراة ، والحمئة ما فيه ماء ، وحمأة سوداء ، واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية ، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً.
جزء : 21 رقم الصفحة : 497
البحث الثاني : أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ، ولا شك أن الشمس في الفلك ، وأيضاً قال : {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا } ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود ، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض ، إذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله : {تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} من وجوه. الأول : أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب / في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر ، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. الثاني : أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار ، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله : {تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة. الثالث : قال أهل الأخبار : إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد ، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا : حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا : حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر ، ووقت الضحوة في بلد ثالث. ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ، ونصف الليل في بلد خامس ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار. وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال : إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة ، فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى : {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا } الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. والقول الثاني : أن يكون الضمير عائداً إلى العين الحامية ، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ، ثم قال تعالى : {قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} وفيه مباحث :
جزء : 21 رقم الصفحة : 497
الأول : أن قوله تعالى : {قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة ، وذلك يدل على أنه كان نبياً وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر.
البحث الثاني : قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة ، قال ابن جريج : هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب.
(1/2944)
البحث الثالث : قوله تعالى : {قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفاراً فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم ، وقال الأكثرون : هذا التعذيب هو القتل ، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء ، ثم قال ذو القرنين : {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُه ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّه فَيُعَذِّبُه عَذَابًا نُّكْرًا} أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر. والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته : {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} ثم قال : {فَسَوْفَ نُعَذِّبُه } أي بالقتل في الدنيا : {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّه فَيُعَذِّبُه عَذَابًا نُّكْرًا} أي منكراً فظيعاً : {وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلَه جَزَآءً الْحُسْنَى } قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : {جَزَآءً الْحُسْنَى } بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة ، فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة ، وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان. الأول : فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح. والثاني : أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله : {وَلَدَارُ الاخِرَةِ} (الأنعام : 32) و{حَقُّ الْيَقِينِ} (الواقعة : 95) ثم قال : {وَسَنَقُولُ لَه مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله : {قَوْلا مَّيْسُورًا} (الإسراء : 28) وقرىء يسراً بضمتين.
جزء : 21 رقم الصفحة : 497
498
اعلم أنه تعالى لما بين أولاً أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً وفيه قولان. الأول : أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. والقول الثاني : أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك ، وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال : سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم ، فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} وفيه وجوه : الأول : أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من / الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. والثاني : كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر. والثالث : كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب ، قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك ، من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين. والرابع : أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال : أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده : {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 498
499
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سبباً آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين ، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. وههنا مباحث :
(1/2945)
الأول : قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسداً بفتحها حيث كان ، وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسداً ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي : هما لغتان ، وقيل : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين ، وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد ، وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري ، قال صاحب الكشاف : السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه ، والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس.
البحث الثاني : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال ، وقيل : جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان ، وقيل : هذا المكان في مقطع أرض الترك ، وحكى محمد بن جرير الطبري في / تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع ، وذكر ابن خردا (ذبة) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند ، قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة ، والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 499
البحث الثالث : أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزاً عنهما {قَوْمًا } أي أمة من الناس : {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف ، والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين ، ثم قال تعالى : {قَالُوا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الارْضِ} فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله : {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} والجواب : أن نقول كاد فيه قولان. الأول : أن إثباته نفي ، ونفيه إثبات ، فقوله : {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئاً ، بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة. والقول الثاني : أن كاد معناه المقاربة ، وعلى هذا القول فقوله : {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا. وعلى هذا القول فلا بد من إضمار ، وهو أن يقال : لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها ، وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 499
(1/2946)
البحث الرابع : في يأجوج ومأجوج قولان : الأول : أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف. والقول الثاني : أنهما مشتقان ، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز. وقرأ الباقون ياجوج وماجوج. وقرىء في رواية آجوج ومأجوج ، والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوهاً. الأول : قال الكسائي : يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر. الثاني : أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك. الثالث : قال القتيبي : هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجاً إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه. الرابع : قال الخليل : الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل : إنهما من الترك ، وقيل : {يَأْجُوجَ} من الترك {وَمَأْجُوجَ} من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبراً ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في / الأظفار وأضراساً كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئاً أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده ، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين : {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى ا أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} قرأ حمزة والكسائي خراجاً والباقون خرجاً. قيل : الخراج والخرج واحد ، وقيل هما أمران متغايران ، وعلى هذا القول اختلفوا : قيل : الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئاً منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء ، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة. وقال الفراء : الخراج هو الإسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض. فقال ذو القرنين : {مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى} أي ما جعلني مكيناً من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه ، وهو كما قال سليمان عليه السلام : {فَمَآ ءَاتَـاـانِاَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَـاـاكُم } (النمل : 36) قرأ ابن كثير : (ما مكنني) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام ، ثم قال ذو القرنين : {فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أي لا حاجة لي في مالكم ولكن برجال وآلة أبني بها السد ، وقيل المعنى : بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي ، والردم هو السد. يقال : ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم : ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع.
جزء : 21 رقم الصفحة : 499
500
اعلم أن {ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ } قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة ، قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان ، وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله : شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له ، وقوله : {حَتَّى ا إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً ، واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها ، والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها. قال صاحب الكشاف : قيل بعدما بين : {السَّدَّيْنِ} مائة فرسخ. بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرىء : {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} بضمتين. بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر ، وقوله : {عَلَيْهِ قِطْرًا} منصوب بقوله : {أُفْرِغْ} وتقديره آتوني قطراً : {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال : {فَمَا اسْطَـاعُوا } فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرىء : {فَمَا} بقلب السين صاداً {اسْطَـاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته ، ثم قال ذو القرنين : {هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى } فقوله هذا إشارة إلى السد ، أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته : {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى} يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكاً أي مدكوكاً مسوى بالأرض. وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرىء دكاء بالمد أي أرضاً مستوية {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا} وههنا آخر حكاية ذي القرنين.
(1/2947)
جزء : 21 رقم الصفحة : 500
501
اعلم أن الضمير في قوله بعضهم عائد إلى : {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} وقوله : {يَوْمَـاـاِذٍ} فيه وجوه : الأول : أن يوم السد ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج. الثاني : أن عند الخروج يموج بعضهم في بعض قيل إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ويأكلون لحوم الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عليهم حيوانات فتدخل آذانهم فيموتون. والقول الثالث : أن المراد من قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ} يوم القيامة وكل ذلك محتمل إلا أن الأقرب أن / المراد الوقت الذي جعل الله ذلك السد دكاً فعنده ماج بعضهم في بعض وبعده نفخ في الصور وصار ذلك من آيات القيامة ، والكلام في الصور قد تقدم وسيجيء من بعد ، وأما عرض جهنم وإبرازه حتى يصير مكشوفاً بأهواله فذلك يجري مجرى عقاب الكفار لما يتداخلهم من الغم العظيم ، وبين تعالى أنه يكشفه للكافرين الذين عموا وصموا ، أما العمى فهو المراد من قوله : {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى} والمراد منه شدة انصرافهم عن قبول الحق ، وأما الصمم فهو المراد من قوله : {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} يعني أن حالتهم أعظم من الصمم لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة واحتج الأصحاب بقوله : {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} على أن الاستطاعة مع الفعل وذلك لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا ، قال القاضي : المراد منه نفرتهم عن سماع ذلك الكلام واستثقالهم إياه كقول الرجل : لا أستطيع النظر إلى فلان.
جزء : 21 رقم الصفحة : 501
502
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين من حال الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به الرسول أتبعه بقوله : {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ } والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر الآيات وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله وهو استفهام على سبيل التوبيخ.
المسألة الثانية ؛ قرأ أبو بكر ولم يرفعه إلى عاصم : {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بسكون السين ورفع الباء. وهي من الأحرف التي خالف فيها عاصماً ، وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن / أبي طالب ، وعلى هذا التقدير فقوله : حسب مبتدأ ، أن يتخذوا خبر ، والمعنى أفكافيهم وحسبهم أن يتخذوا كذا وكذا ، وأما الباقون فقرأوا فحسب على لفظ الماضي ، وعلى هذا التقدير ففيه حذف والمعنى : أفحسب الذين كفروا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً.
المسألة الثالثة : في العباد أقوال قيل : أراد عيسى والملائكة ، وقيل : هم الشياطين يوالونهم ويطيعونهم ، وقيل : هي الأصنام سماهم عباداً كقوله : {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } ، ثم قال تعالى : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـافِرِينَ نُزُلا} وفي النزل قولان : الأول : قال الزجاج إنه المأوى والمنزل. والثاني : أنه الذي يقام للنزيل وهو الضيف ، ونظيره قوله : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم ذكر تعالى ما نبه به على جهل القوم فقال : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاخْسَرِينَ أَعْمَـالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} قيل إنهم هم الرهبان كقوله تعالى : {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} وعن مجاهد أهل الكتاب وعن علي أن ابن الكواء سأله عنهم فقال : هم أهل حروراء والأصل أن يقال هو الذي يأتي بالأعمال يظنها طاعات وهي في أنفسها معاصي وإن كانت طاعات لكنها لا تقبل منهم لأجل كفرهم فأولئك إنما أتوا بتلك الأعمال لرجاء الثواب ، وإنما أتبعوا أنفسهم فيها لطلب الأجر والفوز يوم القيامة فإذا لم يفوزوا بمطالبهم بين أنهم كانوا ضالين ، ثم إنه تعالى بين صنعهم فقال : { أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآاـاِه فَحَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} وفيه مسألتان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 502
المسألة الأولى : لقاء الله عبارة عن رؤيته بدليل أنه يقال : لقيت فلاناً أي رأيته ، فإن قيل : اللقاء عبارة عن الوصول ، قال تعالى : {فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى ا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (القمر : 12) وذلك في حق الله تعالى محال ، فوجب حمله على لقاء ثواب الله ، والجواب أن لفظ اللقاء ، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول والملاقاة إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور ، والذي يقولونه من أن المراد منه لقاء ثواب الله فهو لا يتم إلا بالإضمار ، ومن المعلوم أن حمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج معه إلى الإضمار.
(1/2948)
المسألة الثانية ؛ استدلت المعتزلة بقوله تعالى : {فَحَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} على أن القول بالإحباط والتكفير حق ، وهذه المسألة قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها ، ثم قال تعالى : {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا} وفيه وجوه. الأول : أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار. الثاني : لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات ومقدار السيئات. الثالث : قال القاضي : إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته. وهذا التفسير بناء على قوله بالإحباط والتكفير ، ثم قال تعالى : {ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} فقوله : {ذَالِكَ} أي ذلك الذي ذكرناه وفصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة ، وقوله : {جَهَنَّمُ} عطف بيان لقوله : {جَزَآؤُهُمْ} ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين : أحدهما : كفرهم. الثاني : أنهم أضافوا إلى / الكفر أن اتخذوا آيات الله واتخذوا رسله هزواً ، فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم حتى استهزأوا بهم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 502
503
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ، ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم ، أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح. فقال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} .
المسألة الثانية : عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان.
المسألة الثالثة : عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها ، وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ، ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها ، فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة".
المسألة الرابعة : قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلاً للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولاً فلا بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله ، فإن قالوا : أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر ، فكذلك ههنا جعل جملة الجنة نزلاً للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة ، والجواب : قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوباً عن رؤية الله كما قال تعالى : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} (المطففين : 15 ، 16) فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوباً عن الله ، ثم قال تعالى : {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} الحول التحول ، يقال : حال من مكانه حولاً كقوله عاد في حبها عوداً يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها ، وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 503
505
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى} والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط ، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات ، تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي ، قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات ، وروي أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة : 269) ثم تقرأون : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
جزء : 21 رقم الصفحة : 505
(1/2949)
المسألة الثانية : احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية ، وقالوا : إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى ، قال الجبائي : وأيضاً قوله : {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى} يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه ، وأيضاً قال : {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِه مَدَدًا} وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثاً والذي يكون المحدث مثلاً له فهو أيضاً محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية ، واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يسلك طريقة التواضع فقال : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى ا إِلَىَّ} أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد ، والآية تدل على مطلوبين : الأول : أن كلمة {إِنَّمَآ} تفيد الحصر / وهي قوله : {أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ} . والثاني : أن كون الإله تعالى : {إِلَاهًا وَاحِدًا } يمكن إثباته بالدلائل السمعية ، وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية ، ثم قال : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه } والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه ، وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات : أولها : قوله : { أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآا ِه } (الكهف : 105). وثانيها : قوله : {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} (الكهف : 107) وثالثها : قوله : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّه } ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال : {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح/ ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان : أن يؤتى به لله ، وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك ، فقال : {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّه أَحَدَا } . قيل : نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني" فقال عليه الصلاة والسلام : "إن الله لا يقبل ما شورك فيه" وروي أيضاً أنه قال له : "لك أجران أجر السر وأجر العلانية" فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة ، والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به ، والمقام الأول مقام المبتدئين ، والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد صلى الله عليه وسلّم رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 21 رقم الصفحة : 505
505
(1/2950)
سورة مريم
عليها السلام
(وهي ثمان وتسعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 21 رقم الصفحة : 505
506
قبل الخوض في القراءات لا بد من مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى : / أن حروف المعجم على نوعين ثنائي وثلاثي ، وقد جرت عادة العرب أن ينطقوا بالثنائيات مقطوعة ممالة فيقولوا : با تا ثا وكذلك أمثالها ، وأن ينطقوا بالثلاثيات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة فيقولوا دال ذال صاد ضاد وكذلك أشكالها ، أما الزاي وحده من بين حروف المعجم فمعتاد فيه الأمران ، فإن من أظهر ياءه في النطق حتى يصير ثلاثياً لم يمله ، ومن لم يظهر ياءه في النطق حتى يشبه الثنائي يمله. أما المقدمة الثانية : ينبغي أن يعلم أن إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل والإمالة فرع عليه ولهذا يجوز إشباع كل ممال ولا يجوز إمالة كل مشبع من الفتحات. المقدمة الثالثة : للقراء في القراءات المخصوصة بهذا الموضع ثلاثة طرق : أحدها : أن يتمسكوا بالأصل وهو إشباع فتحة الهاء والياء. وثانيها : أن يميلوا الهاء والياء. وثالثها : أن يجمعوا بين الأصل والفرع فيقع الاختلاف بين الهاء والياء فيفتحوا أحدهما أيهما كان ويكسروا الآخر ولهم في السبب الموجب لهذا الاختلاف قولان : الأول : أن الفتحة المشبعة أصل والإمالة فرع مشهور كثير الاستعمال فأشبع أحدهما وأميل الآخر ليكون جامعاً لمراعاة الأصل والفرع وهو أحسن من مراعاة أحدهما وتضييع الآخر. القول الثاني : أن الثنائية من حروف المعجم إذا كانت مقطوعة كانت بالإمالة ، وإذا كانت موصولة كانت بالإشباع وها ويا في قوله تعالى : {كاهيعاص } مقطوعان في اللفظ موصولان في الخط فأميل أحدهما وأشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعياً جانب القطع اللفظي وجانب الوصل الخطي ، إذا عرفت هذا فنقول فيه قراءات : إحداها : وهي القراءة المعروفة فيه فتحة الهاء والياء جميعاً. وثانيها : كسر الهاء وفتح الياء وهي قراءة أبي عمرو وابن مبادر والقطعي عن أيوب ، وإنما كسروا الهاء دون الياء ليكون فرقاً بينه وبين الهاء الذي للتنبيه فإنه لا يكسر قط. وثالثها : فتح الهاء وكسر الياء وهو قراءة حمزة والأعمش وطلحة والضحاك عن عاصم ، وإنما كسروا الياء دون الهاء ، لأن الياء أخت الكسرة وإعطاء الكسرة أختها أولى من إعطائها إلى أجنبية مفتوحة للمناسبة. ورابعها : إمالتهما جميعاً وهي قراءة الكسائي والمفضل ويحيى عن عاصم والوليد بن أسلم عن ابن عامر والزهري وابن جرير وإنما أمالوهما للوجهين المذكورين في إمالة الهاء وإمالة الياء. وخامسها : قراءة الحسن وهي ضم الهاء وفتح الياء ، وعنه أيضاً فتح الهاء وضم الياء ، وروى صاحب "الكشاف" عن الحسن بضمهما ، فقيل له لم تثبت هذه الرواية عن الحسن لأنه أورد ابن جنى في كتاب "المكتسب" أن قراءة الحسن ضم أحدهما وفتح الآخر لا على التعيين ، وقال بعضهم : إنما أقدم الحسن على ضم أحدهما لا على التعيين لأنه تصور أن عين الفعل في الهاء والياء ألف منقلب عن الواو كالدار والمال ، وذلك لأن هذه الألفات وإن كانت مجهولة لأنها لا اشتقاق لها فإنها تحمل على ما هو مشابه لها في اللفظ. والألف إذا وقع عيناً فالواجب أن يعتقد أنه منقلب عن الواو لأن الغالب / في اللغة ذلك فلما تصور الحسن أن ألف الهاء والياء منقلب عن الواو جعله في حكم الواو وضم ما قبله لأن الواو أخت الضمة. وسادسها : ها يا بإشمامهما شيئاً من الضمة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 506
المسألة الثالثة : قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الحروف بعضها من بعض بأدنى سكتة مع إظهار نون العين وباقي القراء يصلون الحروف بعضها ببعض ويخفون النون.
المسألة الثالثة : القراءة المعروفة صاد ، ذكر بالإدغام ، وعن عاصم ويعقوب بالإظهار.
البحث الثاني : المذاهب المذكورة في هذه الفواتح قد تقدمت لكن الذي يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى كهيعص ثناء من الله على نفسه/ فمن الكاف وصفه بأنه كاف ومن الهاء هاد ومن العين عالم ومن الصاد صادق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أنه حمل الكاف على الكبير والكريم ، ويحكى أيضاً عنه أنه حمل الياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى ، وعن الربيع بن أنس في الياء أنه من مجير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في العين أنه من عزيز ومن عدل ، وهذه الأقوال ليست قوية لما بينا أنه لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطناً ، واللغة لا تدل على ما ذكروه فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلّم أو الملائكة أو الجنة أو النار فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكماً لا تدل عليه اللغة أصلاً.
جزء : 21 رقم الصفحة : 506
507
فيه مسائل :
(1/2951)
المسألة الأولى : في لفظة ذكر أربع قراءات صيغة المصدر أو الماضي مخففة أو مشددة أو الأمر ، أما صيغة المصدر فلا بد فيها من كسر رحمة ربك على الإضافة ثم فيها ثلاثة أوجه : أحدها : نصب الدال من عبده والهمزة من زكرياء وهو المشهور. وثانيها : برفعهما والمعنى وتلك الرحمة هي عبده زكرياء عن ابن عامر. وثالثها : بنصب الأول وبرفع الثاني والمعنى رحمة ربك عبده وهو زكرياء. وأما صيغة الماضي بالتشديد فلا بد فيها من نصب رحمة. وأما صيغة الماضي بالتخفيف ففيها وجهان. أحدهما : رفع الباء من ربك والمعنى ذكر ربك عبده زكرياء. وثانيها : نصب الباء من ربك والرفع في عبده زكرياء وذلك بتقديم المفعول على الفاعل وهاتان القراءتان للكلبي ، وأما صيغة الأمر فلا بد من نصب رحمة وهي قراءة ابن عباس. واعلم أن على تقدير جعله صيغة المصدر والماضي يكون التقدير هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك.
المسألة الثانية : يحتمل أن يكون المراد من قوله رحمة ربك أعني عبده زكرياء ثم في كونه رحمة وجهان : أحدهما : أن يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعات. والآخر : أن / يكون رحمة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى أمة محمد لأن الله تعالى لما شرح لمحمد صلى الله عليه وسلّم طريقه في الإخلاص والإبتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لفظاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة فكان زكرياء رحمة ، ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي رحم بها عبدة زكرياء.
جزء : 21 رقم الصفحة : 507
507
قوله تعالى : {إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} راعى سنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. وثانيها : أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة. وثالثها : أسره من مواليه الذين خافهم. ورابعها : خفي صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات ، فإن قيل من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً ، والجواب من وجهين : الأول : أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن الصوت كان ضعيفاً لنهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداء نظراً إلى قصده وخفياً نظراً إلى الواقع. الثاني : أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى : {فَنَادَتْهُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } (آل عمران : 39) فكون الإجابة في الصلاة يدل على كون الدعاء في الصلاة فوجب أن يكون النداء فيها خفياً.
جزء : 21 رقم الصفحة : 507
511
القراءة فيها مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {وَهَنَ} بالحركات الثلاث.
المسألة الثانية : إدغام السين في الشين (من الرأس شيباً) عن أبي عمرو.
المسألة الثالثة : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ} بفتح الياء وعن الزهري بإسكان الياء من الموالي وقرأ عثمان وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير وزيد بن ثابت وابن عباس خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر التاء وهذا يدل على معنيين : أحدهما : أن يكون ورائي بمعنى بعدي والمعنى / أنهم قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه. والثاني : أن يكون بمعنى قدامي والمعنى أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق من به تقو واعتضاد.
المسألة الرابعة : القراءة المعروفة : {مِن وَرَآءِى} بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة وعن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء وقرأ ابن كثير كعصاي.
المسألة الخامسة : من يرثني ويرث وجوه : أحدها : القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة. وثانيها : وهي قراءة أبي عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة بالجزم فيهما جواباً للدعاء. وثالثها : عن علي ابن أبي طالب وابن عباس وجعفر بن محمد والحسن وقتادة : {وَلِيًّا * يَرِثُنِى} جزم وارث بوزن فاعل. ورابعها : عن ابن عباس : {يَرِثُنِى} وارث من آل يعقوب. وخامسها : عن الجحدري {وَيَرِثُ} تصغير وارث على وزن أفيعل (اللغة) الوهن ضعف القوة قال في "الكشاف" شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وأنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة ، وأما الدعاء فطلب الفعل ومقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة ، وأما أصل التركيب في (ولي) فيدل على معنى القرب والدنو يقال وليته أليه ولياً أي دنوت وأوليته أدنيته منه وتباعد ما بعده وولي ومنه قول ساعدة (ابن جؤبة) :
جزء : 21 رقم الصفحة : 511
وعدت عواد دون وليك تشغب
(1/2952)
وكل مما يليك وجلست مما ايليه ومنه الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي ، والولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة وولي اليتيم والقتيل وولي البلد لأن من تولى أمراً فقد قرب منه ، وقوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه ، أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب وقولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب وفيه معنى القرب أيضاً لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرمى والمبني اسم لموضع والمرمي والبناء ، وأما العاقر فهي التي لا تلد والعقر في اللغة الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة وعقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه ، وأما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة وللصحبة أخرى كآل فرعون وللموافقة في الدين كآل النبي صلى الله عليه وسلّم واعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة : أحدها : كونه ضعيفاً. والثاني : أن الله تعالى ما رد دعاءه البتة. والثالث : كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال. أما المقام الأول : وهو كونه ضعيفاً فأثر الضعف ، / إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر ، والضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن وهو قوله : {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى} وتقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن وجعلت كذلك لمنفعتين : إحداهما : لأن تكون أساساً وعمداً يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول. والثانية : أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر ، وما كان كذلك فيجب أن يكون صلباً ليكون صبوراً على ملاقاة الآفات بعيداً من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول : إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى ، ولأن العظم إذا كان حاملاً لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجباً لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة. المقام الثاني : أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين : أحدهما : ما روي أن محتاجاً سأل واحداً من الأكابر وقال : أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا ، فقال : مرحباً بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته. وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانياً لكان الرد محبطاً للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه. والثاني : وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردوداً بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغاً إلى الغاية القصوى في ألم القلب ، واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى. المقام الثالث : بيان كون المطلوب منتفعاً به في الدين وهو قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 511
(1/2953)
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى} وفيه أبحاث : الأول : قال ابن عباس والحسن : إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من يقوم بميراثه مقام الولد ، والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعيناً في الحياة. الثاني : اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم : خافهم على إفساد الدين ، وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في / العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب ، وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد اعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولداً يكون هو ذلك النبي ، وذلك يقتضي أن يكون خائفاً من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك. ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما. أما قوله : {وَإِنِّي خِفْتُ} فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً ، كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله : {وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا} أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولوداً في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله : وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضاً فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى} (المائدة : 116) والله أعلم وأما قوله من ورائي ففيه قولان : الأول : قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلاً من أن يخاف شرهم ؟
قلنا : إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 511
(1/2954)
{فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه. الأول : قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه : {قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } (آل عمران : 38). والثاني : قوله في هذه السورة : {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} . والثالث : قوله تعالى في سورة الأنبياء : {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّه رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا} (الأنبياء : 89) وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك. "الجواب" : أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد ؟
وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء : {وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا} إنما هو على معنى مسألته ولداً من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من لدنك ولياً كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن / تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه. أحدها : أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك. وثانيها : أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح. وثالثها : يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحاك. ورابعها : يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال فلقوله تعالى : {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}
جزء : 21 رقم الصفحة : 511
(1/2955)
وأما في العلم فلقوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ} (غافر : 53) وقال عليه السلام : "العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم" وقال تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ } (النمل : 15 ، 6) وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غماً وحزناً ، وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه. واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام : "رحم الله زكريا ما كان له من يرثه" وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين. الأول : أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال. الثاني : أنه قال {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي صلى الله عليه وسلّم رضياً وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضياً معصوماً ، وأما قوله عليه السلام : "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فهذا لا يمنع أن يكون خاصاً به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر ، وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتماً به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الإبن أن يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام : "إنا معشر الأنبياء" فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله : "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح ، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائماً مستمراً. السابع : اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب ههنا هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء / عليه السلام فهو من ولد هرون أخى موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل صلى الله عليه وسلّم وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب ههنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل. وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم ، واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوهاً. أحدها : أن المراد واجعله رضياً من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية ، وهذا غاية ما يكون به المرء رضياً. وثانيها : المراد بالرضي أن يكون رضياً في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد. وثالثها : المراد بالرضي أن لا يكون متهماً في شيء ولا يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي. ورابعها : أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء :
جزء : 21 رقم الصفحة : 511
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة : 182) وكانا في ذلك الوقت مسلمين ، وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا ههنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضياً بفعله ، فلما سأل الله تعالى جعله رضياً دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. فإن قيل : المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً فينسب ذلك إلى الله تعالى. والجواب من وجهين : الأول : أن جعله رضياً لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضياً لكان ذلك مجازاً وهو خلاف الأصل. والثاني : أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجباً لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع.
جزء : 21 رقم الصفحة : 511
513
فيه مسائل :
(1/2956)
المسألة الأولى : اختلفوا في من المنادي بقوله : يا زكريا ، فالأكثرون على أنه هو الله تعالى وذلك لأن ما قبل هذه الآية يدل على أن زكريا عليه السلام إنما كان يخاطب الله تعالى ويسأله وهو قوله : {رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى} (مريم : 4) وقوله : {وَلَمْ أَكُنا بِدُعَآاـاِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (مريم : 4) وقوله : {فَهَبْ لِى} (مريم : 5) وما بعدها يدل على أنه كان يخاطب الله تعالى وهو يقول : {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} إذا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاباً مع الله تعالى وجب أن يكون النداء من الله تعالى وإلا لفسد النظم ، ومنهم من قال هذا نداء الملك واحتج عليه بوجهين. الأول : قوله تعالى في سورة آل عمران : {فَنَادَتْهُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } (آل عمران : 39). الثاني : أن زكريا / عليه السلام لما قال : {أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَـامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} (مريم : 8 ، 9) وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله فوجب أن يكون كلام الملك. والجواب عن الأول : أنه يحتمل أن يقال حصل النداءان نداء الله ونداء الملائكة. وعن الثاني : أنا نبين إن شاء تعالى أن قوله : {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} يمكن أن يكون كلام الله.
المسألة الثانية ؛ فإن قيل إن كان الدعاء بإذن فما معنى البشارة ، وإن كان بغير إذن فلماذا أقدم عليه ؟
والجواب هذا أمر يخصه فيجوز أن يسأل بغير إذن ، ويحتمل أنه أذن له فيه ولم يعلم وقته فبشر به.
جزء : 21 رقم الصفحة : 513
المسألة الثالثة : اختلف المفسرون في قوله : {لَمْ نَجْعَل لَّه مِن قَبْلُ سَمِيًّا} على وجهين : أحدهما : وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم. الثاني : أن المراد بالسمي النظير كما في قوله : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) واختلفوا في ذلك على وجوه. أحدها : أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله : {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم : 6) فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيهاً في الدين ، ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا. وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق. وثانيها : أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود ، وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية. وثالثها : أنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر ، واعلم أن الوجه الأول أولى وذلك لأن حمل السمي على النظير وإن كان يفيد المدح والتعظيم ولكنه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة وإنه لا يجوز ، وأما قول الله تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} فهناك إنما عدلنا عن الظاهر لأنه قال : {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَـادَتِه ا هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) ومعلوم أن مجرد كونه تعالى مسمى بذلك الاسم لا يقتضي وجوب عبادته ، فلهذه العلة عدلنا عن الظاهرة ، أما ههنا لا ضرورة في العدول عن الظاهر فوجب اجراؤه عليه ولأن في تفرده بذلك الاسم ضرباً من التعظيم لأنا نشاهد أن الملك إذا كان له لقب مشهور فإن حاشيته لا يتلقبون به بل يتركونه تعظيماً له فكذلك ههنا.
جزء : 21 رقم الصفحة : 513
(1/2957)
المسألة الرابعة : في أنه عليه السلام سمي بيحيى روى الثعلبي فيه وجوهاً. أحدها : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحيا به عقر أمه. وثانيها : عن قتادة أن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة والله تعالى سمى المطيع حياً والعاصي ميتاً بقوله تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) وقال : {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا} (الأنفال : 24). وثالثها : إحياؤه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ما من أحد إلا وقد عصى أو هم إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها". ورابعها : عن أبي القاسم بن حبيب أنه استشهد وأن الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى : {أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران : 169). وخامسها : ما قاله / عمرو بن عبد الله المقدسي : أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قل ليسارة ، وكان اسمها كذلك ، بأني مخرج منها عبداً لا يهم بمعصية اسمه حيي. فقال : هبي له من اسمك حرفاً فوهبته حرفاً من اسمها فصار يحيى وكان اسمها يسارة فصار اسمها سارة. وسادسها : أن يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى فصار قلبه حياً بذلك الإيمان وذلك أن أم يحيى كانت حاملاً به فاستقبلتها مريم وقد حملت بعيسى فقالت لها أم يحيى : يا مريم أحامل أنت ؟
فقالت : لماذا تقولين ؟
فقالت : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. وسابعها : أن الدين يحيا به لأنه إنما سأله زكريا لأجل الدين ، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأن أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الإشتقاق ، ولهذا قال أهل التحقيق أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات وهي لا تفيد في المسمى صفة البتة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 513
514
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً وبكياً بكسر العين والصاد والجيم والباء ، وقرأ حفص عن عاصم بكياً بالضم والباقي بالكسر والباقون جميعاً بالضم ، وقرأ ابن مسعود بفتح العين والصاد من عتياً وصلياً. وقرأ أبي بن كعب وابن عباس عسياً بالسين غير المعجمة والله أعلم.
المسألة الثانية : في الألفاظ وهي ثلاثة : الأول : الغلام الإنسان الذكر في ابتداء شهوته للجماع ومنه اغتلم إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ يقال : غلام ثعلب. الثاني : العتي والعبسي واحد تقول عتا يعتو عتواً وعتياً فهو عات وعسا يعسو عسواً وعسياً فهو عاص والعاسي هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس وليل عات طويل وقيل شديد الظلمة. الثالث : لم يقل عاقرة لأن ما كان على فاعل من صفة المؤنث مما لم يكن للمذكر فإنه لا تدخل فيه الهاء نحو امرأة عاقر وحائض قال الخليل : هذه الصفات مذكرة وصف بها المؤنث كما وصفوا المذكر بالمؤنث حين قالوا : رجل ملحة وربعة وغلام نفعة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 514
(1/2958)
المسألة الثالثة : في هذه الآية سؤالان : الأول : أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله : {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} مع أنه هو الذي طلب الغلام ؟
السؤال الثاني : أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكوراً بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه ، وهذا التعجب يدل على كونه شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم / السلام. والجواب عن السؤال الأول : أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل ، وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله : {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّه رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَه وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه ا } (الأنبياء : 89 ، 90) وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام ، وذكر السدي في الجواب وجهاً آخر فقال : إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال : إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك ، فلما شك زكريا قال : {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا ، وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعاً إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها والله أعلم ، والجواب عن السؤال الثاني من وجوه : الأول : أن قوله : {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـامٍ اسْمُه يَحْيَى } (مريم : 7) ليس نصاً في كون ذلك الغلام ولداً له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا ، بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحاً فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى عليه. الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك تعظيماً وتعجباً. الثالث : أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت باسحق قالت : {وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا } (هود : 72) فأزيل تعجبها بقوله : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّه } (هود : 73) وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى ، وإما مبالغة في تأكيد التفسير.
جزء : 21 رقم الصفحة : 514
515
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} وجوه. أحدها : أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقاً له ثم ابتدأ قال ربك. وثانيها : نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره / هو علي هين وهو كقوله تعالى : {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَالِكَ الامْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر : 66) وثالثها ؛ أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئاً. ورابعها : أن اذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد ، وقوله : {كَذَالِكَ قَالَ رَبُّكَ} أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال.
المسألة الثانية ؛ قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين.
المسألة الثالثة : إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئاً كان.
(1/2959)
المسألة الرابعة : في وجه الاستدلال بقوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصرف والنفي المحض كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار وأما الآن فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معاً أولى أن يكون قادراً على تبديل الصفات وإذا أوجده عن عدم فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوة التي عنها يتولد الماءان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد ولذلك قال : {فَاسْتَجَبْنَا لَه وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه ا } (الأنبياء : 90) فهذا وجه الاستدلال.
المسألة الخامسة : الجمهور على أن قوله قال كذلك قال ربك يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله : {رَضِيًّا * يَـازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} (مريم : 7) قول الله تعالى وقوله : {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} قول الله تعالى وهذا بعيد لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى فكيف يصح إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين ، والأولى أن يقال قائل هذا القول أيضاً هو الله تعالى كما أن الملك العظيم إذا وعد عبده شيئاً عظيماً فيقول العبد من أين يحصل لي هذا فيقول إن سلطانك ضمن لك ذلك كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً مما يوجب عليه الوفاء بالوعد فكذا ههنا.
جزء : 21 رقم الصفحة : 515
515
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم طلب الآية لتحقيق البشارة وهذا بعيد لأن بقول الله تعالى قد تحققت البشارة فلا يكون إظهار الآية أقوى من ذلك من صريح القول وقال آخرون : البشارة بالولد وقعت مطلقة فلا يعرف وقتها بمجرد البشارة فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع وهذا هو الحق.
/ المسألة الثانية : اتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه فإن مجرد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ثم اختلفوا على قولين : أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً. والثاني : أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ومن قراءة التوراة وهذا القول عندي أصح لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرض وقد يكون من فعل الله فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزاً إلا إذا عرف أنه ليس لمرض بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام مع القوم مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة علم بالضرورة أن ذلك الاعتقال ليس لعلة ومرض بل هو لمحض فعل الله فيتحقق كونه آية ومعجزة ومما يقوي ذلك قوله تعالى : {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ} خص ذلك بالتكلم مع الناس وهذا يدل بطريق المفهوم أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس.
المسألة الثالثة : اختلفوا في معنى {سَوِيًّا} فقال بعضهم : هو صفة لليالي الثلاث وقال أكثر المفسرين هو صفة لزكريا والمعنى : آيتك أن لا تكلم الناس في هذه المدة مع كونك سوياً لم يحدث بك مرض.
جزء : 21 رقم الصفحة : 515
516
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِه مِنَ الْمِحْرَابِ} قيل كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى إليهم ، وقيل : كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه وأنهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم وهو لا يتكلم فأوحى إليهم.
المسألة الثانية : لا يجوز أن يكون المراد من قوله أوحى إليهم الكلام لأن الكلام كان ممتنعاً عليه فكان المراد غير الكلام وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص أو بكتابة لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما بشر به فكما حصل السرور له حصل لهم فظهر لهم إكرام الله تعالى له بالإجابة ، واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى في سورة آل عمران : {ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا } (آل عمران : 41) والرمز لا يكون كناية للكلام.
المسألة الثالثة : اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة وهو جائز في اللغة يقال : سبحه الضحى أي صلاة الضحى وعن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى : "إني لأسبحها" أي لأصليها إذا ثبت هذا فنقول روي عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشي صلاة العصر / ويحتمل أن يكون إنما كانوا يصلون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه ، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 516
520
اعلم أنه تعالى وصف {يَحْيَى } في هذه الآية بصفات تسع : الصفة الأولى : كونه مخاطباً من الله تعالى بقوله : {وَعَشِيًّا * يَـايَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ بِقُوَّةٍ } وفيه مسائل :
(1/2960)
المسألة الأولى : أن قوله : {وَعَشِيًّا * يَـايَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ} يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه.
المسألة الثانية : الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} (الجاثية : 16) ويحتمل أن يكون كتاباً خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة.
المسألة الثالثة : قوله : {بِقُوَّةٍ } ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه. الصفة الثانية : قوله تعالى : {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} اعلم أن في الحكم أقوالاً. الأول : أنه الحكمة ومنه قول الشاعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين. والثاني : وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا. والثالث : أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمداً عليهما السلام ، وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين : الأول : أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه / اللفظة فوجب حملها عليها. الثاني : أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا ؟
قلنا : هذا السائل ، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه ، فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات ، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر. الصفة الثالثة ؛ قوله تعالى : {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال : حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ذكر الخليل ذلك في الحديث : "أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع من المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها". فهذا هو الأصل ثم قيل : تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه ، وقد اختلف الناس في وصف الله بالحنان فأجازه بعضهم ، وجعله بمعنى الرؤوف الرحيم ، ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا : لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى ، إذا عرفت هذا فنقول : الحنان هنا فيه وجهان. أحدهما : أن يجعل صفة لله. وثانيهما : أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول : التقدير وآتيناه الحكم حناناً أي رحمة منا ، ثم ههنا احتمالات : الأول : أن يكون الحنان من الله ليحيى ، المعنى : آتيناه الحكم صبياً ، ثم قال : {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} أي إنما آتيناه الحكم صبياً حناناً من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفاً له. الثاني : أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال : إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
(1/2961)
{وَزَكَواةً } أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء. والثالث : أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال : {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا} منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده ، أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه. الأول : آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } (آل عمران : 159) وقال : {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 128) ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة ، ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} (النور : 2) وقال : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } (التوبة : 123) وقال : {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ يُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لا ـاِمٍ } (المائدة : 54) فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية ، وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن رباح : {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} والمعنى آتيناه الحكم صبياً تعظيماً إذ جعلناه نبياً وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روى أنه مر ورقة بن / نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ، ويقول : أحد أحد فقال : والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً أي معظماً. الصفة الرابعة : قوله : {وَزَكَواةً } وفيه وجوه : أحدها : أن المراد وآتيناه زكاة أي عملاً صالحاً زكياً ، عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج. وثانيها : زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن. وثالثها : زكيناه بحسن الثناء كما تزكى الشهود الإنسان. ورابعها : صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكبي. وخامسها : بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام :
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
{وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} (مريم : 31) واعلم أن هذا يدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى وحمله على الألطاف بعيد لأنه عدول عن الظاهر. الصفة الحامسة : قوله : {وَكَانَ تَقِيًّا} وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله ، وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك ، فإن قيل ما معنى : {وَكَانَ تَقِيًّا} وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا : إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه. الصفة السادسة : قوله : {وَبَرَّا بِوَالِدَيْهِ} وذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين ، ولهذا السبب قال : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الإسراء : 23). الصفة السابعة : قوله : {وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا} والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين كقوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر : 88) وقال تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران : 159) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر ، ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد ، وقال سفيان في قوله : {جَبَّارًا عَصِيًّا} إنه الذي يقبل على الغضب والدليل عليه قوله تعالى : {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا بِالامْسِا إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ} (القصص : 19) وقيل : كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق فهو جبار لقوله تعالى : {وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء : 130). الصفة الثامنة : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
(1/2962)
{عَصِيًّا} وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم. الصفة التاسعة : قوله : {وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} وفيه أقوال : أحدها : قال محمد بن جرير الطبري : {وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ} أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم : {وَيَوْمَ يَمُوتُ} أي وأمان عليه من عذاب القبر : {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي ومن عذاب القيامة. وثانيها : قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة. وثالثها : قال عبد الله بن نفطوية : {وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} أي أول ما يرى الدنيا {وَيَوْمَ يَمُوتُ} أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة. وإنما قال : {حَيًّا} تنبيهاً على كونه من الشهداء لقوله تعالى : {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) فروع. الأول : هذا لاسلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى. الثاني : ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله : {سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ} (الصافات : 79). {سَلَـامٌ عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ} (الصافات : 109) لأنه قال و{يَوْمَ وُلِدَ} وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام. الثالث : روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام : أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي ، وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به. الرابع : السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له ، وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر ، فقد يجوز أن يكون ثواباً كالمدح والتعظيم والله تعالى أعلم. القول في فوائد هذه القصة. الفائدة الأولى : تعليم آداب الدعاء وهي من جهات. أحدها : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
{نِدَآءً خَفِيًّا} (مريم : 3) وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأعراف : 55) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الإنكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه. وثانيها : أن المحتسب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه : {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم : 4) ثم يذكر كثرة نعم الله على ما في قوله : {وَلَمْ أَكُنا بِدُعَآاـاِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (مريم : 4). وثالثها : أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى} (مريم : 5). ورابعها : أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع. الفائدة الثانية : ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور : أحدها : نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية. وثانيها : إجابة الله تعالى دعاءه. وثالثها : أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معاً. ورابعها : اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح. وخامسها : أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية. الفائدة الثالثة : كونه تعالى قادراً على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة رداً على أهل الطبائع. الفائدة الرابعة : صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى : {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـاًا} . الفائدة الخامسة : أن المعدوم ليس بشيء والآية نص في ذلك فإن قيل المراد ولم تك شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـاًا مَّذْكُورًا} (الإنسان : 1) قلنا : الإضمار خلاف الأصل وللخصم أن يقول الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئاً ونحن نقول به لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة / غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. الفائدة السادسة : أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول : الأول : أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله :
(1/2963)
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ا قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } (آل عمران : 37 ، 38) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا. الثاني : وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله : {فَنَادَتْهُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} (آل عمران : 39) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله : {رَضِيًّا * يَـازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} (مريم : 7) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين. الثالث : أنه قال في آل عمران : {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } (آل عمران : 40) فذكر أولاً كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال : {أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَـامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (مريم : 8) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب. الرابع : قال في آل عمران : {وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ} وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته. الخامس : قال في آل عمران : {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُر} (آل عمران : 41) وقال ههنا : {ثَلَـاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (مريم : 10) وجوابه : دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن والله أعلم. القصة الثانية : قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقياً إلى الأصعب فالأصعب.
جزء : 21 رقم الصفحة : 520
521
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذ بدل من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقت هذا الوقوع لهذه القصة العجيبة فيه.
المسألة الثانية : النبذ أصله الطرح والإلقاء والانتباذ افتعال منه ومنه : {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران : 187) وانتبذت تنحت يقال جلس نبذة من الناس ونبذة بضم النون وفتحها أي ناحية وهذا إذا جلس قريباً منك حتى لو نبذت إليه شيئاً وصل إليه ونبذت الشيء رميته ومنه النبيذ لأنه يطرح في الإناء / وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول : إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى : {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجاباً مستوراً وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلاً من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم ستراً وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكوراً واختلف المفسرون فيه على وجوه. الأول : أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام. والثاني : أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة. والثالث : قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها. والرابع : أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت (على) الله (أن) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك. وخامسها : عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.
المسألة الثالثة : المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى : {مَكَانًا شَرْقِيًّا} فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 521
(1/2964)
المسألة الرابعة : أنها لما جلست في ذلك المكان أرسل الله إليها الروح واختلف المفسرون في هذا الروح فقال الأكثرون : إنه جبريل عليه السلام وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً والأول أقرب لأن جبريل عليه السلام يسمى روحاً قال الله تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ـ 194) وسمي روحاً لأنه روحاني وقيل خلق من الروح وقيل لأن الدين يحيا به أو سماه الله تعالى بروحه على المجاز محبة له وتقريباً كما تقول لحبيبك روحي وقرأ أبو حيوة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المتقين في قوله : {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة : 88 ، 89) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا وإذا ثبت أنه يسمى روحاً فهو هنا يجب أن يكون المراد به هو لأنه قال : {إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاهَبَ لَكِ غُلَـامًا زَكِيًّا} (مريم : 19) ولا يليق ذلك إلا بجبريل عليه السلام واختلفوا في أنه كيف ظهر لها. فالأول : أنه ظهر لها على صورة شاب أمرد حسن الوجه سوي الخلق. والثاني : أنه ظهر لها على صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وكل ذلك محتمل ولا دلالة في اللفظ على التعيين ثم قال : وإنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فلو ظهر لها / في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ثم ههنا إشكالات. أحدهما : وهو أنه لو جاز أن يظهر الملك في صورة إنسان معين فحينئذ لا يمكننا القطع بأن هذا الشخص الذي أراه في الحال هو زيد الذي رأيته بالأمس لاحتمال أن الملك أو الجني تمثل في صورته وفتح هذا الباب يؤدي إلى السفسطة ، لا يقال هذا إنما يجوز في زمان جواز البعثة فأما في زماننا هذا فلا يجوز لأنا نقول هذا الفرق إنما يعلم بالدليل ، فالجاهل بذلك الدليل يجب أن لا يقطع بأن هذا الشخص الذي أراه الآن هو الشخص الذي رأيته بالأمس. وثانيها : أنه جاء في الأخبار أن جبريل عليه السلام شخص عظيم جداً فذلك الشخص العظيم كيف صار بدنه في مقدار جثة الإنسان أبأن تساقطت أجزاؤه وتفرقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبريل أو بأن تداخلت أجزاؤه وذلك يوجب تداخل الأجزاء وهو محال. وثالثها : وهو أنا لو جوزنا أن يتمثل جبريل عليه السلام في صورة الآدمي فلم لا يجوز تمثله في صورة جسم أصغر من الآدمي حتى الذباب والبق والبعوض ومعلوم أن كل مذهب جر إلى ذلك فهو باطل. ورابعها : أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التواتر فلعل الشخص الذي حارب يوم بدر لم يكن محمداً بل كان شخصاً آخر تشبه به وكذا القول في الكل. والجواب عن الأول أن ذلك التجويز لازم على الكل لأن من اعترف بافتقار العالم إلى الصانع المختار فقد قطع بكونه تعالى قادراً على أن يخلق شخصاً آخر مثل زيد في خلقته وتخطيطه وإذا جوزنا ذلك فقد لزم الشك في أن زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمس أم لا ، ومن أنكر الصانع المختار وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب وتشكلات الفلك لزمه تجويز أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص مثل زيد في كل الأمور وحينئذ يعود التجويز المذكور. "وعن الثاني" : أنه لا يمتنع أن يكون جبريل عليه السلام له أجزاء أصلية وأجزاء فاضلة والأجزاء الأصلية قليلة جداً فحينئذ يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان ، هذا إذا جعلناه جسمانياً أما إذا جعلناه روحانياً فأي استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير. "وعن الثالث" : أن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن السؤال الرابع والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 521
522
وفيه وجوه : أحدها : أرادت أن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة به فإني عائذة به منك وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله : {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة : 278) أي أن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال. وثانيها : أن معناه / ما كنت تقياً حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي. وثالثها ؛ أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقى يتبع النساء فظنت مريم عليها السلام أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي والأول هو الوجه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 522
523
وفيه مسائل :
(1/2965)
المسألة الأولى : لما علم جبريل خوفها قال : {إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها : {إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال : إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالاً فكيف يصح ذلك وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولاً وكل ذلك كان عالماً به وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولاً للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالماً به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزاً له بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان. الأول : أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام : {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36). الثاني : أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها والذي يقال فيه : إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة وهو ضعيف لأن للخصم أن يقول لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به ، بل ههنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من كونها كذلك كونها أمثالاً لذات الله تعالى لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية سلمنا كونه جسماً فلم قلت الجسم لا يقدر عليه قوله الأجسام متماثلة قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به / أنها متماثلة في تمام ماهياتها. والأول مسلم لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى أنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك والجواب الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال اجماع الأمة فقط والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 523
المسألة الثالثة : الزكي يفيد أموراً ثلاثة : الأول : أنه الطاهر من الذنوب. والثاني : أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي ، وفي الزرع النامي زكي. والثالث : النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبياً وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازاً وفي الآخر حقيقة.
المسألة الرابعة : سماه زكياً مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئاً فهو شقي عندك. وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكياً ، لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب وأنت فإنما تسمى بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 523
524
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.
(1/2966)
المسألة الثانية : لقائل أن يقول قولها : {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} يدخل تحته قولها : {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت : {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌا قَالَ كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } (آل عمران : 47) فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه : أحدها : أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله : {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} (الأحزاب : 49) والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات. وثانيها : أن أعادتها لتعظيم حالها كقوله : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى } (البقرة : 238) وقوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} / فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفراد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء ، وقال ابن جني في كتاب "التمام" هو فعيل ولو كان فعولاً لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر.
المسألة الرابعة : أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله : {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} وهو كقوله في آل عمران : {كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} (آل عمران : 47) لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 524
المسألة الخامسة : الكناية في : {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} وفي قوله : {وَلِنَجْعَلَه ا ءَايَةً لِّلنَّاسِ} تحتمل وجهين : الأول : أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب. الثاني : أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب ، فأما قوله تعالى : {وَرَحْمَةً مِّنَّا } فيحتمل أن يكون معطوفاً على {وَلِنَجْعَلَه ا ءَايَةً لِّلنَّاسِ} أي فعلنا ذلك : {وَرَحْمَةً مِّنَّا } فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على الآية أي : ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك.
المسألة السادسة : قوله : {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضاً فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجباً يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام : "من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب".
جزء : 21 رقم الصفحة : 524
526
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الله تعالى أمر النفخ في آيات فقال : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (التحريم : 12) أي في عيسى عليه السلام كما قال لآدم عليه السلام : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) وقال فنفخنا فيها لأن عيسى / عليه السلام كان في بطنها واختلفوا في النافخ فقال بعضهم كان النفخ من الله تعالى لقوله : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} وظاهره يفيد أن النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل ، وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} فكذا ههنا وقال آخرون : النافخ هو جبريل عليه السلام لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام : {لاهَبَ لَكِ} (مريم : 19) أنه أمر أن يكون من قبله حتى يحصل الحمل لمريم عليها السلام فلا بد من إحالة النفخ إليه ، ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على قولين : الأول : قول وهب إنه نفخ جبريل في جيبها حتى وصلت إلى الرحم. الثاني : في ذيلها فوصلت إلى الفرج. الثالث : قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت فجاءتها أختها امرأة زكريا تزورها فالتزمتها فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها ، فقالت امرأة زكريا إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى : {مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} (آل عمران : 39). الرابع : أن النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها فحملت في الحال ، إذ عرفت هذا ظهر أن في الكلام حذفاً وهو ، وكان أمراً مقضياً ، فنفخ فيها فحملته.
(1/2967)
المسألة الثانية : قيل حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة ، وقيل بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأحوال.
جزء : 21 رقم الصفحة : 526
المسألة الثالثة : {فَانتَبَذَتْ بِه } أي اعتزلت وهو في بطنها كقوله : {تَنابُتُ بِالدُّهْنِ} (المؤمنون : 20) أي تنبت والدهن فيها ، واختلفوا في علة الإنتباذ على وجوه. أحدها : ما رواه الثعلبي في "العرائس" عن وهب قال : إن مريم لما حملت بعيسى عليه السلام كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد اجتهاداً ولا عبادة منهما ، وأول من عرف حمل مريم يوسف فتحير في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قط ، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فأول ما تكلم أنه قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري ، فقالت : قل قولاً جميلاً قال : أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث ، وهل يكون ولد من غير ذكر ؟
قالت نعم : ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة ، أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها ، فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول إن الله قادر على ما يشاء فيقول له كن فيكون/ فقالت له مريم : أو لم / تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى ؟
فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب ، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة ، وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها. وثانيها : أنها استحيت من زكريا فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا. وثالثها : أنها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد لنذر أمها وتشاح الأنبياء في تربيتها وتكفل زكريا بها ، ولأن الرزق كان يأتيها من عند الله تعالى ، فلما كانت في نهاية الشهرة استحيت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا. ورابعها : أنها خافت على ولدها لو ولدته فيما بين أظهرهم ، واعلم أن هذه الوجوه محتملة ، وليس في القرآن ما يدل على شيء منها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 526
المسألة الرابعة : اختلفوا في مدة حملها على وجوه : الأول : قول ابن عباس رضي الله عنهما إنها كانت تسعة أشهر كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر. الثاني : أنها كانت ثمانية أشهر ، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ابن مريم عليه السلام. الثالث : وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك سبعة أشهر. الرابع : أنها كانت ستة أشهر. الخامس : ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة. السادس : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً كانت مدة الحمل ساعة واحدة ويمكن الاستدلال عليه من وجهين : الأول : قوله تعالى : {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِه } (مريم : 23) {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ} (مريم : 23) ، {فَنَادَاـاهَا مِن تَحْتِهَآ} (مريم : 24) والفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة لا يقال انتباذها مكاناً قصياً كيف يحصل في ساعة واحدة لأنا نقول : السدي فسره بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها. الثاني : أن الله تعالى قال في وصفه : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ} (آل عمران : 59) فثبت أن عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى له : {كُن فَيَكُونُ} وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل ، وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة.
المسألة الخامسة : {قَصِيًّا} أي بعيد من أهلها ، يقال مكان قاص ، وقصي بمعنى واحد مثل عاص وعصي ، ثم اختلفوا فقيل : أقصى الدار ، وقيل وراء الجبل ، وقيل : سافرت مع ابن عمها يوسف وقد تقدمت هذه الحكاية.
(1/2968)
المسألة السادسة : قال صاحب "الكشاف" : منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء فإنك لا تقول جئت المكان ، وأجاءنيه زيد كما تقول بلغنيه وأبلغته ، والمعنى أن طلقها ألجأها إلى جذع النخلة ثم يحتمل أنها إنما ذهبت إلى النخلة طلباً لسهولة الولادة / للتشبث بها. ويحتمل للتقوية والاستناد إليها ، ويحتمل للتستر بها ممن يخشى منه القالة إذا رآها ، ولذلك حكى الله عنها أنها تمنت الموت.
المسألة السابعة : قال في "الكشاف" قرأ ابن كثير في رواية المخاض بالكسر يقال مخضت الحامل ومخاضاً وهو تمخض الولد في بطنها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 526
المسألة الثامنة : قال في "الكشاف" كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة ، وكان الوقت شتاء والتعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس/ فإذا قيل : جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره وإما أن يكون تعريف الجنس أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة كان الله أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء ، ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا عند اللقاح ، وإذا قطعت رأسها لم تثمر ، فكأنه تعالى قال كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح ، ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر.
المسألة التاسعة : لم قالت : {قَالَتْ يَـالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـاذَا} مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين ، والجواب من وجهين : الأول : قال وهب : أنساها كربة الغربة وما سمعته من الناس (من) بشارة الملائكة بعيسى عليه السلام. الثاني : أن عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك. وروى عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال : طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة وتأكل من الثمر وددت أبي ثمرة ينقرها الطائر وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض وقال : ليتني هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئاً! وقال علي يوم الجمل : يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، وعن بلال : ليت بلال لم تلده أمه. فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث : لعلها قالت ذلك لكي لا تقع المعصية ممن يتكلم فيها ، وإلا فهي راضية بما بشرت به.
المسألة العاشرة : قال صاحب "الكشاف" النسي ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطمث ونحوها كالذبح اسم ما من شأنه أن يذبح كقوله : {وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات : 107) تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه به ومن حقه أن ينسى في العادة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة نسياً بالفتح والباقون نسياً بالكسر قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر والجسر والجسر ، وقرأ محمد بن كعب القرظي نسيئاً بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أهله لقلته وقرأ الأعمش منسياً بالكسر على الإتباع كالمغير والمنخر والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 526
529
في الآية مسائل :
(1/2969)
المسألة الأولى : فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه : الأول : أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير. والثاني : أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد. والثالث : أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه : الأول : أن قوله : {فَنَادَاـاهَا مِن تَحْتِهَآ} بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحداً والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه ، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام ، فقد صح قولنا. الثاني : أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة. الثالث : أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى : {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِه } (مريم : 22) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى. والرابع : وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيراً لها بما تقدم من أصناف البشارات ، وأما قوله : {مِن تَحْتِهَآ} فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان : الأول : أن يكونا معاً في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى : {إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} (الأحزاب : 10) بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم : / إنه ناداها من أقصى الوادي. والثاني : أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث : يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 529
المسألة الثانية : اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري : {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} فقال : إن كان لسرياً وإن كان لكريماً/ فقال له حميد : يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك ، واحتج من حمله على النهر بوجهين : أحدهما : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن السري فقال : هو الجدول. والثاني : أن قوله : {فَكُلِى وَاشْرَبِى} يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله (على) عيسى بوجهين : الأول : أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله : {وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى } (الزخرف : 51) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز. الثاني : أنه موافق لقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً وَءَاوَيْنَـاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون : 50) والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان : الأول : إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان : أحدهما : أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب. والثاني : أنه كان هناك ماء جار. والأول : أقرب لأن قوله : {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه. الثاني : اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقاً وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش.
(1/2970)
المسألة الثالثة : قال القفال : الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة وقال قطرب : كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع وأما الباء في قوله بجذع النخلة فزائدة والمعنى هزي إليك أي حركي جذع النخلة ، قال الفراء : العرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة ، وقال الأخفش : يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي على جذعها ، إذا عرفت هذا فنقول : قد تقدم أن الوقت كان شتاء وأن النخلة كانت يابسة ، واختلفوا في أنه هل أثمر الرطب وهو على حاله أو تغير ، وهل أثمر مع الرطب غيره ؟
والظاهر / يقتضي أنه صار نخلة لقوله بجذع النخلة وأنه ما أثمر إلا الرطب.
جزء : 21 رقم الصفحة : 529
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" : تساقط فيه تسع قراءات تساقط بادغام التاء وتتساقط بإظهار التاءين وتساقط بطرح الثانية ويساقط بالياء وإدغام التاء وتساقط وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع.
المسألة الخامسة : رطباً تمييز أو مفعول على حسب القراءة الجني المأخوذ طرياً وعن طلحة بن سليمان جنياً بكسر الجيم للأتباع والمعنى جمعنا لك في السري والرطب فائدتين : إحداهما : الأكل والشرب. والثانية : سلوة الصدر بكونهما معجزتين فإن قال قائل : فتلك الأفعال الخارقة للعادات لمن ؟
قلنا : قالت المعتزلة : إنها كانت معجزة لزكريا وغيره من الأنبياء وهذا باطل لأن زكرياء عليه السلام ما كان له علم بحالها ومكانها فكيف بتلك المعجزات ، بل الحق أنها كانت كرامات لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام.
المسألة السادسة : فكلي واشربي وقري عيناً قرىء بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء ، ثم قال : وقري عيناً ، وههنا سؤال ، وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران : أحدهما : أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن. والثاني : ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفاً من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن دلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن. إذا ثبت هذا فنقول : فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف ، والجواب أن هذا الخوف كان قليلاً لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى.
المسألة السابعة : قال صاحب "الكشاف" قرأ ترئن بالهمزة ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال {صَوْمًا} صمتاً وفي مصحف عبد الله صمتاً وعن أنس بن مالك مثله وقيل صياماً إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم ، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة ، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس ، وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 529
المسألة الثامنة : أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام / لمعنيين : أحدهما : أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى. والثاني : كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً.
المسألة التاسعة : اختلفوا في أنها هل قالت معهم : {إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ صَوْمًا} فقال قوم : إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتها فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها ، وقال آخرون : إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم : {إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} وهذه الصيغة وإن كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام.
جزء : 21 رقم الصفحة : 529
530
وفيه مسائل :
(1/2971)
المسألة الأولى : اختلفوا في أنها كيف أتت بالولد على أقوال : الأول : ما روي عن وهب قال : أنساها كرب الولادة وما سمعته من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته وأقبلت به إلى قومها. الثاني : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوماً حتى طهرت من النفاس ثم أتت به قومها تحمله فكلمها عيسى في الطريق ، فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. وهذان الوجهان محتملان وليس في القرآن ما يدل على التعيين.
المسألة الثانية : الفريء ، البديع وهو من فري الجلد يروى أنهم لما رأوها ومعها عيسى عليه السلام قالوا لها : {لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا فَرِيًّا} فيحتمل أن يكون المراد شيئاً عجيباً خارجاً عن العادة من غير تعيير وذم ويحتمل أن يكون مرادهم شيئاً عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده : {فَرِيًّا * يَـا أُخْتَ هَـارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هرون ففيه أربعة أقوال : الأول : أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح ، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا ، وهو قول / قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هرون تبركاً به وباسمه. الثاني : أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي صلى الله عليه وسلّم إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم. والثالث : كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة. الرابع : كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به ، وهذا هو الأقرب لوجهين : الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولاً على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون. الثاني : أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش.
جزء : 21 رقم الصفحة : 530
المسألة الثالثة : القراءة المشهورة : {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} وقرأ عمرو بن رجاء التميمي : (ما كان أباك امرؤ سوء}.
المسألة الرابعة : أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا : لسخريتها بنا أشد من زناها ، روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته ، وقيل : كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان. وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها ، فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك : .
المسألة الرابعة : أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا : لسخريتها بنا أشد من زناها ، روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته/ وقيل : كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان. وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها ، فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} (مريم : 30) فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم ؟
قلنا : إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت ، فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة ، بقي ههنا بحثان :
البحث الأول : قوله : {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا} أي حصل في {الْمَهْدِ} فكان ههنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ ، وإن كان الناس قد ذكروا وجوهاً أخر.
البحث الثاني : اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى : كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 530
537
(1/2972)
اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع : الصفة الأولى : قوله : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} وفيه فوائد : الفائدة الأولى : أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سبباً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى ، فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} وكان ذلك الكلام وإن كان موهماً من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة ، ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية. الفائدة الثانية : أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذباً لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهاً. الفائدة الثالثة : أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم ، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها. الفائدة الرابعة : وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة. وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد ، واعلم أن مذهب النصارى متخبط جداً ، وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز ، ومع ذلك فإنا نذكر تقسيماً حاصراً يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول : إما أن يعتقدوا كونه متحيزاً أو لا ، فإن اعتقدوا كونه متحيزاً أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام ، وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه. وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام فإذا لم يكن جسماً استحال ذلك ثم
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
نقول للناس قولان في الإنسان : منهم من قال إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها ومنهم من يقول إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول : هؤلاء النصارى ، إما أن يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن / المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه ، أو يقولوا لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول ولكن نقول إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلهاً ، أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا : إنه على سبيل التشريف اتخذه ابناً كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلاً فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب ، والكل باطل ، أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعاً ، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد ، إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً ، فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل ، وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضاً لا يكون اتحاداً بل يكون قولاً بعدم ذينك الشيئين ، وحصول شيء ثالث ، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالوجود لأنه يستحيل أن يقال : المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال. وأما الحلول فلنا فيه مقامان : الأول : أن التصديق مسبوق بالتصور فلا بد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة : أحدها : كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم ، واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسماً وهم وافقونا على أنه ليس بجسم. وثانيها : حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول : المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعاً لحصول محله فيه ، وهذا أيضاً إنما يعقل في حق الأجسام لا في حق الله تعالى. وثالثها : حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول : هذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجاً فكان ممكناً فكان مفتقراً إلى المؤثر ، وذلك محال ، وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته. المقام الثاني : احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقاً بأن قالوا : لو حل لحل ، إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان ، فالقول
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
(1/2973)
بالحلول باطل ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان ، لأنا دللنا على أن الله قديم. وعلى أن الجسم محدث ، ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجباً لذاته ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل لأنه لما كانت ذاته واجبة الوجود لذاته وحلوله في المحل أمر جائز ، والموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحل أمراً زائداً على ذاته وذلك محال لوجهين : أحدهما : أن حلوله في المحل لو كان زائداً على ذاته لكان حلول ذلك الزائد في محله زائداً على ذاته أو لزم التسلسل وهو محال. والثاني : أن حلوله في ذلك لما كان زائداً على ذاته فإذا حل في محل وجب أن يحل فيه صفة محدثة ، وذلك محال لأنه لو كان قابلاً للحوادث / لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته ، وكانت حاصلة أزلاً ، وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال ، فحصول قابليتها وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن قيل لم لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل. لأنه يلزم ، إما حدوث الحال أو قدم المحل ، قلنا : لا نسلم وجوب أحد الأمرين ، ولم لا يجوز أن يقال : إن ذاته تقتضي الحلول بشرط وجود المحل ففي الأزل ما وجد المحل فلم يوجد شرط هذا الوجوب فلا جرم لم يجب الحلول ، وفيما لا يزال حصل هذا الشرط فلا جرم وجب سلمنا أنه يلزم ، إما حدوث الحال أو قدم المحل فلم لا يجوز. قوله : إنا دللنا على حدوث الأجسام ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون محله ليس بجسم ولكنه يكون عقلاً أو نفساً أو هيولى على ما يثبته بعضهم ، ودليلكم على حدوث الأجسام لا يقبل حدوث هذه الأشياء ، قوله ثانياً : لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل ، قلنا : لا نسلم وجوب أحد الأمرين بل ههنا احتمالان آخران : أحدهما : أن العلة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكنها لا تكون محتاجة إلى المعلول فلم لا يجوز أن يقال : إن ذاته غنية عن ذلك المحل ولكن ذاته توجب حلول نفسها في ذلك المعلول فيكون وجوب حلولها في ذلك المحل من معلولات ذاته ، وقد ثبت أن العلة وإن استحال انفكاكها عن المعلول لكن ذلك لا يقتضي احتياجها إلى المعلول. الثاني : أن يقال إنه في ذاته يكون غنياً عن المحل وعن الحلول ، إلا أن المحل يوجب لذاته صفة الحلول ، فالمفتقر إلى المحل صفة من صفاته وهي حلوله في ذلك المحل فأما ذاته فلا ولا يلزم من افتقار صفة من
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
(1/2974)
صفاته الإضافية إلى الغير افتقار ذاته إلى الغير وذلك لأن جميع الصفات الإضافية الحاصلة له مثل كونه أولاً وآخراً ومقارناً ومؤثراً ومعلوماً ومذكوراً مما لا يتحقق إلا عند حصول التحيز/ وكيف لا والإضافات لا بد في تحققها من أمرين ، سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل. قوله يلزم أن يكون حلوله فيه زائداً عليه ، ويلزم التسلسل ، قلنا : حلوله في المحل لما كان جائزاً كان حلوله في المحل زائداً عليه. أما كون ذلك الحلول حالاً في المحل أمر واجب فلا يلزم أن يكون حلول الحلول زائداً عليه فلا يلزم التسلسل. قوله ثانياً : يلزم أن يصير محل الحوادث ، قلنا : لم لا يجوز ذلك قوله يلزم أن يكون قابلاً للحوادث في الأزل ، قلنا : لا شك أن تمكنه من الإيجاد ثابت له إما لذاته أو لأمر ينتهي إلى ذاته ، وكيف كان فيلزم صحة كونه مؤثراً في الأزل فكل ما ذكرتموه في المؤثرية فنحن نذكره في القابلية ، والجواب : أنا نقرر هذه الدلالة على وجه آخر بحيث تسقط عنها هذه الأسئلة ، فنقول : ذاته ، إما أن تكون كافية اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيعود ما قلنا إنه يلزم إما قدم المحل أو حدوث الحال. وإن كان الثاني كان كونه مقتضياً لذلك الحلول أمراً زائداً على ذاته حادثاً فيه فعلى التقديرات كلها يلزم من حدوث حلوله في محل حدوث شيء فيه لكن يستحيل أن يكون قابلاً للحوادث ، وإلا لزم أن يكون في الأزل قابلاً لها وهو محال على ما بيناه ، وأما المعارضة بالقدرة فغير واردة لأنه تعالى لذاته قادر على الإيجاد في الأزل فهو قادر على الإيجاد فيما لا يزال فههنا أيضاً لو كانت ذاته قابلة / للحوادث لكانت في الأزل قابلة لها فحينئذ يلزم المحال المذكور. هذا تمام القول في هذه الأدلة ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر. أحدها : أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه ، والمراد من الكلمة العلم. فنقول : العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين. وذلك غير معقول ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه ، فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى ، وإن كان الثاني
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
(1/2975)
لزم أن يقال : إن الله تعالى لم يبق عالماً بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل. وثانيها : مناظرة جرت بيني وبين بعض النصارى ، فقلت له هل تسلم أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا ؟
فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديماً لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل ، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد وعمرو بل كيف أنها ما حلت في هذه الهرة وفي هذا الكلب ، فقال لي : إن هذا السؤال لا يليق بك لأنا إنما أثبتنا ذلك الاتحاد أو الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، فإذا لم نجد شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره فكيف نثبت الاتحاد أو الحلول ، فقلت له : إني عرفت من هذا الكلام أنك ما عرفت أول الكلام لأنك سلمت لي أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنه وجد ما يدل على حصوله في حق عيسى عليه السلام ولم يوجد ذلك الدليل في حق زيد وعمرو ولكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو وعلى السنور والكلب عدم ذلك الحلول ، فثبت أنك مهما جوزت القول بالاتحاد والحلول لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد وذلك الحلول في حق كل واحد بل في حق كل حيوان ونبات ولا شك أن المذهب الذي يسوق قائله إلى مثل هذا القول الركيك يكون باطلاً قطعاً/ ثم قلت له : وكيف دل إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص على ما قلت ؟
أليس أن انقلاب العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميت حياً فإذا ظهر ذلك على يد موسى عليه السلام ولم يدل على إهليته فبأن لا يدل هذا على آلهية عيسى أولى. وثالثها : أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهداً في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية. ورابعها : المسيح إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقول بقدمه باطل لأنا نعلم / بالضرورة أنه ولد وكان طفلاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر ، وإن كان محدثاً كان مخلوقاً ولا معنى للعبودية إلا ذلك ، فإن قيل : المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه ، قلنا : هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح (إلا) عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية. وخامسها : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فإن كان لله ولد فلا بد وأن يكون من جنسه فإذن قد اشتركا من بعض الوجوه ، فإن لم يتميز أحدهما عن الآخر بأمر ما فكل واحد منهما هو الآخر ، وإن حصل الإمتياز فما به الإمتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم وقوع التركيب في ذات الله وكل مركب ممكن ، فالواجب ممكن هذا خلف محال هذا كله على الإتحاد والحلول. أما الاحتمال الثالث : وهو أن يقال معنى كونه إلهاً أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام والتصرف في هذا العالم فهذا أيضاً باطل لأن النصارى حكوا عنه الضعف والعجز وأن اليهود قتلوه ولو كان قادراً على خلق الأجسام لما قدروا على قتله بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكراً يذبون عنه. وأما الاحتمال الرابع : وهو أنه اتخذه ابناً لنفسه على سبيل التشريف فهذا قد قال به قوم من النصارى يقال لهم الأرميوسية وليس فيه كثير خطأ إلا في اللفظ فهذا جملة الكلام على النصارى وبه ثبت صدق ما حكاه الله تعالى عنه أنه قال : إني عبد الله. الصفة الثانية : قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
{الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى} وفيه مسائل :
(1/2976)
المسألة الأولى : اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره وقال أبو القاسم البلخي إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان : أحدهما : أنه كان في ذلك الصغر نبياً. الثاني : روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر. ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبياً ، واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور : أحدها : أن النبي لا يكون إلا كاملاً والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفراً بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امراأة. وثانيها : أنه لو كان نبياً في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدماً على ادعائه للنبوة إذ النبي لا بد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدماً على التحدي وإنه غير جائز. وثالثها : أنه لو كان نبياً في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام ، وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبياً في ذلك الوقت. أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصاً ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه ، فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل. وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدماً على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام/ أو يقال : إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم / عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة ، وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام ، فثبت بهذا أنه لا امتناع في كونه نبياً في ذلك الوقت وقوله : {الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى} يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة ، أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام.
المسألة الثانية : اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة ، وقال أبو مسلم : المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام ههنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس ، وقال قوم : المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق.
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
(1/2977)
المسألة الثالثة : اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبياً لأن قوله : {الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى} يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقاً لذلك الكلام أو متقدماً عليه بأزمان ، والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبياً وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام. الصفة الثالثة : قوله : {وَجَعَلَنِى نَبِيًّا} قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولاً لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة. الصفة الرابعة : قوله : {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} فلقائل أن يقول كيف جعله مباركاً والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهوداً وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل ، والجواب ذكروا في "تفسير المبارك" وجوهاً : أحدها : أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتاً على دين الله مستقراً عليه. وثانيها : أنه إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم : أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم : اكتب فقال : أي شيء أكتب ، فقال : اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال : هل تدري ما أبجد ؟
فعلاه بالدرة ليضربه فقال : يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله. وثالثها : البركة الزيادة والعلو فكأنه قال : جعلني في جميع الأحوال غالباً مفلحاً منجحاً لأني ما دمت أبقى في الدنيا / أكون على الغير مستعلياً بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء. ورابعها : مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمة والأبرص فقالت : طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به ، فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً. أما قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
(1/2978)
{أَيْنَ مَا كُنتُ} فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف. الصفة الخامسة : قوله : {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى} فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً صغيراً والقلم مرفوع عنه على ما قاله صلى الله عليه وسلّم : "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ" الحديث وجوابه من وجهين : الأول : أن قوله : {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ} لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ. الثاني : لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغاً عاقلاً تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } (آل عمران : 59) فكما أنه تعالى خلق آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام ، وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله : {مَا دُمْتُ حَيًّا} فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى. الصفة السادسة : قوله تعالى : {وَبَرَّا بِوَالِدَتِى} أي جعلني براً بوالدتي وهذا يدل على قولنا : إن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن الآية تدل على أن كونه براً إنما حصل بجعل الله وخلقه وحمله على الألطاف عدول عن الظاهر ثم قوله : {وَبَرَّا بِوَالِدَتِى} إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها. قال صاحب "الكشاف" : جعل ذاته براً لفرط بره ونصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفني بها واحد. الصفة السابعة ؛ قوله : {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا} وهذا أيضاً يدل على قولنا لأنه لما بين أنه جعله براً وما جعله جباراً فهذا إنما يحسن لو أن الله تعالى جعل غير جباراً وغيره بار بأمه ، فإن الله تعالى لو فعل ذلك بكل أحد لم يكن لعيسى عليه السلام مزيد تخصيص بذلك ، ومعلوم أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص وقوله : {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا} أي ما جعلني متكبراً بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جباراً لكنت عاصياً شقياً. وروي أن عيسى عليه السلام قال : قلبي لين وأنا صغير في نفسي وعن بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا : {وَبَرَّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا} ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً وقرأ : {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} . الصفة / الثامنة : هي قوله : {وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} وفيه مسائل :
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
المسألة الأولى : قال بعضهم : لام التعريف في السلام منصرف إلى ما تقدم في قصتي يحيى عليه السلام من قوله : {وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ} (مريم : 15) أي السلام الموجه إليه في المواطن الثلاثة موجه إلي أيضاً وقال صاحب "الكشاف" : الصحيح أن يكون هذا التعريف تعويضاً باللعن على من اتهم مريم بالزنا وتحقيقه أن اللام للاستغراق فإذا قال : {وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ} فكأنه قال وكل السلام علي وعلى أتباعي فلم يبق للأعداء إلا اللعن ونظيره قول موسى عليه السلام : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } (طه : 47) بمعنى أن العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام اللجاج والعناد ويليق به مثل هذا التعريض.
المسألة الثانية : روى بعضهم عن عيسى عليه السلام أنه قال ليحيى أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي وأجاب الحسن فقال : إن تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه.
(1/2979)
المسألة الثالثة : قال القاضي : السلام عبارة عما يحصل به الأمان ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى أنه فعله بيحيى ، ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخافات في كل الأحوال ، واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في زمان الطفولية واحتجوا عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى لا سيما وهم من أشد الناس بحثاً عن أحواله وأشد الناس غلواً فيه حتى زعموا كونه إلهاً ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه عليه السلام تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم ، أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها ففي تركهم لذلك دلالة على أنه عليه السلام تكلم في المهد وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين فلذلك لم يشتهر وعن الثاني لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله.
جزء : 21 رقم الصفحة : 537
539
وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قرأ عاصم وابن عامر : {قَوْلَ الْحَقِّ} بالنصب وعن ابن مسعود : {قَوْلَ الْحَقِّ} و{قَالَ اللَّهُ} وعن الحسن : {قَوْلَ الْحَقِّ} بضم القاف وكذلك في الأنعام قوله : {الْحَقِّ} والقول والقال القول في معنى واحد كالرهب والرهب والرهب ، أما ارتفاعه فعلى أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ، وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عند الله الحق لا الباطل والله أعلم.
المسألة الثانية : لا شبهة أن المراد بقوله : {ذَالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } الإشارة إلى ما تقدم وهو قوله : {قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَـاـانِىَ} (مريم : 30) أي ذلك الموصوف بهذه الصفات هو عيسى ابن مريم وفي قوله : {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن الله. فأما قوله {الْحَقِّ} ففيه وجوه : أحدها : وهو أن نفس عيسى عليه السلام هو قول الحق وذلك لأن الحق هو اسم الله فلا فرق بين أن نقول عيسى كلمة الله وبين أن نقول عيسى قول الحق. وثانيها : أن يكون المراد : "ذلك عيسى ابن مريم القول الحق" إلا أنك أضفت الموصوف إلى الصفة فهو كقوله : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} (الواقعة : 95) وفائدة قولك : القول الحق تأكيد ما ذكرت أولاً من كون عيسى عليه السلام ابناً لمريم. وثالثها : أن يكون {قَوْلَ الْحَقِّ} خبراً لمبتدأ محذوف كأنه قيل ذلك عيسى ابن مريم ووصفنا له هو قول الحق فكأنه تعالى وصفه أولاً ثم ذكر أن هذا الموصوف هو عيسى ابن مريم ثم ذكر أن هذا الوصف أجمع هو قول الحق على معنى أنه ثابت لا يجوز أن يبطل كما بطل ما يقع منهم من المرية ويكون في معنى إن هذا لهو الحق اليقين. فأما امتراؤهم في عيسى عليه السلام فالمذاهب التي حكيناها من قول اليهود والنصارى وقد تقدم ذكر ذلك في سورة آل عمران ، روي أن عيسى عليه السلام لما رفع حضر أربعة من أكابرهم وعلمائهم فقيل للأول ما تقول في عيسى ؟
فقال : هو إله والله إله وأمه إله ، فتابعه على ذلك ناس وهم الإسرائيلية ، وقيل للرابع ما تقول ؟
فقال : هو عبد الله ورسوله وهو المؤمن المسلم ، وقال أما تعلمون أن عيسى كان يطعم وينام وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك ؟
فخصمهم. أما قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 539
(1/2980)
{مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } فهو يحتمل أمرين : أحدهما : أن ثبوت الولد له محال فقولنا : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقوله ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمة الله تعالى وكماله فقوله : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان لله أن يظلم أي لا يليق ذلك بحكمته وكمال إلهيته ، واحتج الجبائي بالآية بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأنه تعالى صرح بأنه ليس له هذا الإيجاد أي ليس له هذا الاختيار وأجاب أصحابنا عنه بأنه الكذب محال على الله تعالى فلا جرم قال : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } أما قوله : {سُبْحَـانَه ا إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال {سُبْحَـانَه ا } ثم قال عقيبه : {إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} كان كالحجة على تنزيهه عن الولد وبيان ذلك أن الذي يجعل ولداً لله/ إما أن يكون / قديماً أزلياً أو يكون محدثاً فإن كان أزلياً فهو محال لأنه لو كان واجباً لذاته لكان واجب الوجود أكثر من واحد. هذا خلف. وإن كان ممكناً لذاته كان مفتقراً في وجوده إلى الواجب لذاته غنياً لذاته فيكون الممكن محتاجاً لذاته فيكون عبداً له لأنه لا معنى للعبودية إلا ذلك ، وأما إن كان الذي يجعل ولداً يكون محدثاً فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم وإيجاده وهو المراد من قوله : {إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} فيكون عبداً له لا ولداً له فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بقوله : {إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} على قدم كلام الله تعالى قالوا : لأن الآية تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن فيكون فلو كان قوله كن محدثاً لافتقر حدوثه إلى قول آخر ولزم التسلسل وهو محال ، فثبت أن قول الله قديم لا محدث ، واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه : أحدها : أنه تعالى أدخل عليه كلمة إذا وهذه الكلمة دالة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلا في الاستقبال. وثانيها : أن حرف الفاء للتعقيب والفاء في قوله : {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه } يدل على تأخر ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخر عن غيره محدث. وثالثها : الفاء في قوله : {فَيَكُونُ} يدل على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل فيكون قول الله متقدماً على حدوث الحادث تقدماً بلا فصل والمتقدم على المحدث تقدماً بلا فصل يكون محدثاً ، فقول الله محدث. واعلم أن استدلال الفريقين ضعيف ، أما استدلال الأصحاب فلأنه يقتضي أن يكون قوله : {كُن} قديماً وذلك باطل بالاتفاق ، وأما استدلال المعتزلة فلأنه يقتضي أن يكون قول الله تعالى هو المركب من الحروف والأصوات وهو محدث وذلك لا نزاع فيه إنما المدعي قدم شيء آخر.
جزء : 21 رقم الصفحة : 539
المسألة الثالثة : من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنه تعالى إذا أحدث شيئاً قال له كن وهذا ضعيف لأنه ، إما أن يقول له كن قبل حدوثه أو حال حدوثه. فإن كان الأول كان ذلك خطاباً مع المعدوم وهو عبث وإن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة والإرادة فأي تأثير لقوله كن فيه ، ومن الناس من زعم أن المراد من قوله : {كُن} هو الخليق والتكوين وذلك لأن القدرة على الشيء غير وتكوين الشيء غير فإن الله سبحانه قادر في الأزل وغير مكون في الأزل ، ولأنه الآن قادر على عوالم سوى هذا العالم وغير مكون لها ، والقادرية غير المكونية والتكوين ليس هو نفس المكون لأنا نقول المكون إنما حدث لأن الله تعالى كونه فأوجده ، فلو كان التكوين نفس المكون لكان قولنا المكون إنما وجد بتكوين الله تعالى نازلاً منزلة قولنا المكون إنما وجد بنفسه وذلك محال ، فثبت أن التكوين غير المكون فقوله : {كُن} إشارة إلى الصفة المسماة بالتكوين ، وقال آخرون قوله : {كُن} عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات. فإن وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع / يجري مجرى العبد المطيع المسخر المنقاد لأوامر مولاه ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة.
جزء : 21 رقم الصفحة : 539
541
اعلم أن قوله : {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه } فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن ، ومعناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه ، وقرأ الكوفيون وأبو عبيدة بالكسر على الابتداء ، وفي حرف أبي {إِنَّ اللَّهَ} بالكسر من غير واو أي بسبب ذلك فاعبدوه.
(1/2981)
المسألة الثانية : أنه لا يصح أن يقول الله : {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه } فلا بد وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى ، وفيه قولان : الأول : التقدير فقل يا محمد إن الله ربي وربكم بعد إظهار البراهين الباهرة في أن عيسى هو عبد الله. الثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني : الواو في وإن الله عطف على قول عيسى عليه السلام : {قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَـاـانِىَ} (مريم : 30) كأنه قال : إني عبد الله وإنه ربي وربكم فاعبدوه ، وقال وهب بن منبه عهد إليهم حين أخبرهم عن بعثه ومولده ونعته أن الله ربي وربكم أي كلنا عبيد الله تعالى.
جزء : 21 رقم الصفحة : 541
المسألة الثالثة : قوله : {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ} يدل على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى على خلاف قول المنجمين إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب ويدل أيضاً على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه فلما قال : {إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ} / أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى وذلك يدل على التوحيد ، أما قوله : {فَاعْبُدُوه } فقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتباً على ذكر وصف الربوبية فدل على أنه إنما تلزمنا عبادته سبحانه لكونه رباً لنا ، وذلك يدل على أنه تعالى إنما تجب عبادته لكونه منعماً على الخلائق بأصول النعم وفروعها ، ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام لما منع أباه من عبادة الأوثان قال : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} يعني أنها لما لم تكن منعمة على العباد لم تجز عبادتها ، وبهذه الآية ثبت أن الله تعالى لما كان رباً ومربياً لعباده وجب عبادته ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلق العبادة بكون المعبود منعماً ، أما قوله : {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم وأنه سمي هذا القول بالصراط المستقيم تشبيهاً بالطريق لأنه المؤدي إلى الجنة ، أما قوله تعالى : {فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِنا بَيْنِهِمْ } ففي الأحزاب أقوال : الأول : المراد فرق النصارى على ما بينا أقسامهم. الثاني : المراد النصارى واليهود فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً. الثالث : المراد الكفار الداخل فيهم اليهود والنصارى والكفار الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلّم وإذا قلنا المراد بقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه } أي قل يا محمد إن الله ربي وربكم ، فهذا القول أظهر لأنه لا تخصيص فيه ، وكذا قوله : {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } مؤكد لهذا الاحتمال ، وأما قوله : {مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فالمشهد إما أن يكون هو الشهود وما يتعلق به أو الشهادة وما يتعلق بها. أما الأول : فيحتمل أن يكون المراد من المشهد نفس شهودهم هول الحساب ، والجزاء في القيامة أو مكان الشهود فيه وهو الموقف ، أو وقت الشهود ، وأما الشهادة فيحتمل أن يكون المراد شهادة الملائكة والأنبياء وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال ، وأن يكون مكان الشهادة أو وقتها ، وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه ، وإنما وصف ذلك المشهد بأنه عظيم لأنه لا شيء أعظم مما يشاهد في ذلك اليوم من محاسبة ومساءلة ، ولا شيء من المنافع أعظم مما هنالك من الثواب ولا بد من المضار أعظم مما هنالك من العقاب ، أما قوله تعالى : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } ففيه مسائل :
جزء : 21 رقم الصفحة : 541
(1/2982)
المسألة الأولى : قالوا : التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه ، ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول ، قال الفراء قال سفيان : قرأت عند شريح : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} (الصافات : 12) فقال : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال : إن شريحاً شاعر يعجبه علمه ، وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها : {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم ، وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى ، وإذا عرفت هذا فنقول : للتعجب صفتان : إحداهما : ما أفعله. / والثانية : أفعل به كقوله تعالى : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} والنحويون ذكروا له تأويلات : الأول : قالوا : أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} (البقرة : 228) ، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ} (البقرة : 233) ، {قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَـالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـانُ مَدًّا } (مريم : 75) أي يمد له الرحمن مداً ، وكذا قولهم : رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة. الثاني : أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً أي بأن يصفه بالكرم ، والباء زائدة مثل قوله : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (البقرة : 195) ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلاً. ثالثاً : وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيداً بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرماً حتى لو أردت جعل غيره كريماً فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك ، كما أن من قال : أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 541
المسألة الثانية : قوله {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } فيه ثلاثة أوجه. أحدها : وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم ، وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صماً وعمياً في الدنيا ، وقيل : معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم. وثانيها : قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا. وثالثها : قال الجبائي : ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله : {لَـاكِنِ الظَّـالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} ففيه قولان : الأول : لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق. والثاني : {لَـاكِنِ الظَّـالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين/ وأما قوله تعالى : {وَأَنذِرْهُمْ} فلا شبهة في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلّم بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضاً في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب ، أما قوله تعالى : {إِذْ قُضِىَ الامْرُ} ففيه وجوه : أحدها : إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمرالثواب والعقاب. وثانيها : إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله : {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون. وثالثها : روي أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن قوله : قضى الأمر : "فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح وأهل النار غماً على غم" واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير / جسماً حيوانياً بل المراد أنه لا موت البتة بعد ذلك وأما قوله : {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده : {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى : {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة.
القصة الثالثة : قصة إبراهيم عليه السلام.
جزء : 21 رقم الصفحة : 541
545
(1/2983)
اعلم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر ، والمنكرون للتوحيد هم الذين أثبتوا معبوداً سوى الله تعالى ، وهؤلاء فريقان : منهم من أثبت معبوداً غير الله حياً عاقلاً فاهماً وهم النصارى ، ومنهم من أثبت معبوداً غير الله جماداً ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان فقال : {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ} والواو في قوله واذكر عطف على قوله : {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} كأنه لما انتهت قصة عيسى وزكريا عليهما السلام قال قد ذكرت حال زكريا فاذكر حال إبراهيم وإنما أمر بذكره لأنه عليه السلام ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلدته مشتغلين بالعلم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب الغيب ومعجزاً قاهراً دالاً على نبوته. وإنما شرع في قصة إبراهيم عليه السلام لوجوه : أحدها : أن إبراهيم عليه السلام كان أب العرب وكانوا مقرين / بعلو شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى : {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } (الحج : 78) وقال تعالى : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه } (البقرة : 130) فكأنه تعالى قال للعرب إن كنتم مقلدين لآبائكم على ما هو قولكم : {وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} (الزخرف : 23) ومعلوم أن أشرف آبائكم وأجلهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأوثان وإن كنتم من المستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إما تقليداً وإما استدلالاً. وثانيها : أن كثيراً من الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام. وثالثها : أن كثيراً من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 545
(1/2984)
{قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى ا أُمَّةٍ} (الزخرف : 22) و{قَالُوا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَـابِدِينَ} (الأنبياء : 53) فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيهاً لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام : {إِنَّه كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} وفي الصديق قولان : أحدهما : أنه مبالغة في كونه صادقاً وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبىء عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال. والثاني : أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهوراً به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقاً إلا إذا كان صادقاً في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه أولئك هُمُ الصِّدِّيقُونَا وَالشُّهَدَآءُ} (الحديد : 19) قلنا : المؤمنون بالله ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقاً في كل ما أخبر عنه لأن الله تعالى صدقه ومصدق الله صادق وإلا لزم الكذب في كلام الله تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقاً في كل ما يقول ، ولأن الرسل شهداء الله على الناس على ما قال الله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) والشهيد إنما يقبل قوله : إذا لم يكن كاذباً. فإن قيل : فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله : {بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ} (الأنبياء : 63) و{إِنِّى سَقِيمٌ} قلنا قد شرحنا في تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئاً من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقاً ولا يجب في كل صديق أن يكون نبياً ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً. وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند الله وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده. وقوله : {كَانَ صِدِّيقًا} قيل : إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقاً نبياً أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة. قال صاحب "الكشاف" : هذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقاً نبياً أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات / أما قوله : فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام. النوع الأول : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 545
(1/2985)
{لابِيهِ يَـا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه : أحدها : أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الانعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله : و{إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوه } (آل عمران : 51) وقال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لايجوز الاشتغال بعبادتها. وثانيها : أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها ، وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات حتى يكون العبد آمناً من وقوع الغلط للمعبود. وثالثها : أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب. ورابعها : أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك ، والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس. وخامسها : إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها. وسادسها : إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذاً فأي رجاء للغير فيها واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه. أحدها : لا يسمع. وثانيها : لا يبصر. وثالثها : لا يغني عنك شيئاً كأنه قال له : بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر/ كما قال : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى } (طه : 46) ويقضي الحوائج : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل : 62) واعلم أن قوله ههنا {لِمَ تَعْبُدُ} محمول على نفس العبادة وأما قوله في المقام الثالث : {لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ } لا يقال ذلك بل المراد الطاعة لأنهم ما كانوا يعبدون الشيطان فوجب حمله على الطاعة ولأنا نقول ليس إذا تركنا الظاهر ههنا لدليل وجب ترك الظاهر في المقام الأول بغير دليل فإن قيل : إما أن يقال إن أبا إبراهيم كان يعتقد في تلك الأوثان أنها آلهة بمعنى أنها قادرة مختارة موجدة للناس والحيوانات أو يقال إنه ما كان يعتقد ذلك بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها ، وأنها مشفع بها ، أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان ، فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأول كان في نهاية الجنون لأن العلم بأن هذا الخشب المنحوت في هذه الساعة ليس خالقاً للسموات والأرض من / أجلى العلوم الضرورية ، فالشاك فيه يكون فاقداً لأجلى العلوم الضرورية فكان مجنوناً والمجنون لا يجوز إيراد الحجة عليه والمناظرة معه ، وإن كان من القسم الثاني فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك لأن ذلك المذهب إنما يبطل بإقامة الدلالة على أن الكواكب ليست أحياء ولا قادرة على خلق الأجسام وخلق الحياة ومعلوم أن الدليل المذكور ههنا لا يفيد ذلك المطلوب فعلمنا أن هذه الدلالة عديمة الفائدة على كل التقديرات ، قلنا : لا نزاع أنه لا يخفى على العاقل أن الخشبة المنحوتة لا تصلح لخلق العالم وإنما مذهبهم هذا على الوجه الثاني ، وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذه الدلالة عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أن عبادتها تفيد نفعاً إما على سبيل الخاصية الحاصلة من الطلسمات أو على سبيل أن الكواكب تنفع وتضر ، فبين إبراهيم عليه السلام أنه لا منفعة في طاعتها ولا مضرة في الإعراض عنها فوجب أن لا تحسن عبادتها. النوع الثاني : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 545
(1/2986)
{شَيْـاًا * يَـا أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد ـ أما أهل التعليم فقالوا : إنه أمره بالإتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع ، وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضاً من هذا الوجه ، ومن الناس من طعن أنه أمره بالإتباع لتحصل الهداية ، فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه ، ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لا بد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل. "والجواب" عن الأول : أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه ، فعند هذا عاد السائل فقال : أنا لا أنكر أنه لا بد من الدلالة ، ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ ، وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لا بد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض ، أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لا بد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي ، ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله : {فَاتَّبِعْنِى } ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد. والنوع الثالث : قوله : {سَوِيًّا * يَـا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَا إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيًّا} أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه/ لأنه أعظم الخصال المنفرة ، واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصياً لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه ، وأيضاً فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي ، ومن كان كذلك كان حقيقاً أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل : إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور : أحدها : إثبات الصانع. وثانيها : إثبات الشيطان. وثالثها : إثبات أن الشيطان عاص لله. ورابعها : أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته في شيء من الأشياء. وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك الإنسان كان مستفاداً من طاعة الشيطان ، ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة ، ولعل أبا إبراهيم كان منازعاً في كل هذه المقدمات ، / وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده ، فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصياً للرحمن ، ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان ، بل لعله يقلب ذلك على خصمه ، قلنا : الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولاً من قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 545
(1/2987)
{لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة ، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال. النوع الرابع : قوله : {يَـا أَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـن ِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا} قال الفراء : معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره ، والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر ، فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك كان خائفاً لا قاطعاً ، واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفاً إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله : {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا} فذكروا في الولي وجوهاً : أحدها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله الى الولاية الحقيقية لقوله تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67) وقال : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} (العنكبوت : 25) وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم : {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } (إبراهيم : 22) واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة ، أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط. وثانيها ؛ أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير موالياً للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى : {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَـانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} (النساء : 119). وثالثها : ولياً أي تالياً للشيطان ، تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تالياً ولياً فإن قيل قوله : {أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـن ِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا}
جزء : 21 رقم الصفحة : 545
يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالاً من العذاب نفسه وأعظم ، فما السبب لذلك. "والجواب" : أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة : 72) فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم. واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب ، وختم الكلام بقوله / {إِلَيْكَ لاقْتُلَكَا إِنِّى أَخَافُ} وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه : أحدها : قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الإسراء : 23) والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نوراً على نور. وثانيها : أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقاً لطيفاً يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعياً في الإغواء. وثالثها : ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام : "أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري" والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 545
547
(1/2988)
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد ، وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان ، وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ ، وأورد كل ذلك مقروناً باللطف والرفق ، قابله أبوه بجواب يضاد ذلك ، فقابل حجته بالتقليد ، فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله : {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَـا إِبْرَاهِيمُ } فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم ، وقابل رفقه في قوله : (مريم : 44) بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال : {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلّم ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة ، أما قوله : {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَـا إِبْرَاهِيمُ } فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول. وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها ، وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب / فاسد غير مبني على دليل وشبهة ، ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه ، أما قوله : {لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَا وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الرجم ههنا قولان : الأول : أنه الرجم باللسان ، وهو الشتم والذم ، ومنه قوله : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ} (النور : 4) أي بالشتم ، ومنه الرجم ، أي المرمي باللعن ، قال مجاهد : الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم. والثاني : أنه الرجم باليد ، وعلى هذا التقدير ذكروا وجوهاً : أحدها : لأرجمنك بإظهار أمرك للناس ليرجموك ويقتلوك. وثانيها : لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني. وثالثها : عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش. ورابعها : قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعاً ، ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى : {وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى ، فإن قيل : أفما يدل قوله تعالى : {وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} على أن المراد به الرجم بالشتم ؟
قلنا : لا ، وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هرباً من ذلك فهو في معنى قوله : {وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} .
جزء : 21 رقم الصفحة : 547
المسألة الثانية : في قوله تعالى : {وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} قولان : أحدهما : المراد واهجرني بالقول. والثاني : بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر.
المسألة الثالثة : في قوله : {مَلِيًّا} قولان : الأول : ملياً أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد. والثاني : ملياً بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به.
المسألة الرابعة : عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك ، أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك ، ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين. أحدهما : أنه وعده التباعد منه ، وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الإنقياد لذلك الأمر وقوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكَ } توادع ومتاركة كقوله تعالى : {لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} (القصص : 55) ، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} (الفرقان : 63) وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج ، وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ، ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار ، ثم إنه لما ودع أباه بقوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكَ } ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء ، وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز ، فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز ، إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم : {سَلَـامٌ عَلَيْكَا سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } وقوله : {وَاغْفِرْ لابِى ا إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ} (الشعراء : 86) وأما أن أباه كان كافراً فذاك بنص القرآن / وبالإجماع ، وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين. الأول : قوله تعالى :
جزء : 21 رقم الصفحة : 547
(1/2989)
{مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 113). الثاني : قوله في سورة الممتحنة : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ} ـ إلى قوله ـ {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه ، "والجواب" : لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه : أحدها : أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع ، فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه. وثانيها : أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة ، كما في قوله : {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (الجاثية : 14) والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حياً بعذاب الدنيا المعجل. وثالثها : أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان ، والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى : {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِى قُرْبَى مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ} (التوبة : 113) فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم. ثم قال بعد ذلك : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه } (التوبة : 114) فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن ، فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه ، فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ} ـ إلى قوله ـ {إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} (الممتحنة : ) قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية. فإن كثيراً من الأشياء هي من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام. ورابعها : لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئآت المقربين ، أما قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 547
{إِنَّه كَانَ بِى حَفِيًّا} أي لطيفاً رفيقاً يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق ، ومنه قوله تعالى : {إِن يَسْـاَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا } (محمد : 37) أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه على عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران. "الجواب الثاني" من الجوابين قوله : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضاً وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك ، فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله : {عَسَى ا أَلا أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا} أرجو أن لا أكون كذلك ، وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء : 82) وأما قوله : {شَقِيًّا} مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولاً في / قوله : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} .
جزء : 21 رقم الصفحة : 547
548
(1/2990)
اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك ديناً ودنيا ، بل نفعه فعوضه أولاداً أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولاً إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والإنقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة ، ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال : {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان ، كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية ، واستجاب الله دعوته في قوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل : {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } (الحج : 78) {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } (النحل : 123) قال بعضهم : إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (مريم : 48) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال : {وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةًا وَكُلا جَعَلْنَا صَـالِحِينَ} . وثانيها : أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال : {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة : 114) لا جرم أن الله سماه أباً للمسلمين فقال : {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } . وثالثها : تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال : {فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّه لِلْجَبِينِ} (
جزء : 21 رقم الصفحة : 548
الصافات : 103) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال : {وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات : 107). ورابعها : أسلم نفسه فقال : {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (البقرة : 131) فجعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فقال : {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء : 69). وخامسها : أشفق على هذه الأمة فقال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} (البقرة : 129) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس ، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وسادسها : في حق سارة في قوله : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى } (النجم : 37) لا جرم جعل موطىء قدميه مباركاً : {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاه مَ مُصَلًّى } (البقرة : 125). وسابعها : عادى كل الخلق في الله فقال : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) لا جرم اتخذه الله خليلاً على ما قال : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} (النساء : 125) ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد.
(القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام)
جزء : 21 رقم الصفحة : 548
549
(1/2991)
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور : أحدها : أنه كان مخلصاً فإذا قرىء بفتح اللام فهو من الإصطفاء والإختباء كأن الله تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرىء بالكسر فمعناه أخلص لله في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده ، ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به ، فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. وثانيها : كونه رسولاً نبياً ولا شك أنهما وصفان مختلفان لكن المعتزلة زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبي وكل نبي رسول ومن الناس من أنكر ذلك وقد بينا الكلام فيه في سورة الحج في قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ} (الحج : 52). وثالثها : قوله تعالى : {وَنَـادَيْنَـاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ} من اليمين أي من ناحية اليمين والأيمن صفة الطور أو الجانب. ورابعها : قوله : {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} ولما ذكر كونه رسولاً قال : {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} وفي قوله : قولان : أحدهما : المراد قرب المكان عن أبي العالية قربه حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح. والثاني : قرب المنزلة أي رفعنا قدره وشرفناه بالمناجاة ، قال القاضي : وهذا أقرب لأن استعمال القرب في الله قد صار بالتعارف لا يراد به إلا المنزلة وعلى هذا الوجه يقال في العبادة تقرب ، ويقال في الملائكة عليهم السلام إنهم مقربون وأما {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} فقيل فيه أنجيناه من أعدائه وقيل هو من المناجاة في المخاطبة وهو أولى. وخامسها : قوله : {وَوَهَبْنَا لَه مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَـارُونَ نَبِيًّا} قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هرون عليه السلام أكبر من موسى عليهما السلام ، وإنما وهب الله له نبوته لا شخصه وأخوته وذلك إجابة لدعائه في قوله : {وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى * هَـارُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِه أَزْرِى} (طه : 29 ، 30 ، 31) فأجابه الله تعالى إليه بقوله : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } (طه : 36) وقوله : {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} .
(القصة الخامسة قصة إسمعيل عليه السلام)
جزء : 21 رقم الصفحة : 549
550
(1/2992)
اعلم أن إسمعيل هذا هو إسمعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، واعلم أن الله تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بأشياء : أولها : قوله : {إِنَّه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وهذا الوعد يمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الله تعالى ويمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الناس. أما الأول : فهو أن يكون المراد أنه كان لا يخالف شيئاً مما يؤمر به من طاعة ربه وذلك لأن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى الأنبياء وأمرهم بتأدية الشرع فلا بد من ظهور وعد منهم يقتضي القيام بذلك ويدل على القيام بسائر ما يخصه من العبادة. وأما الثاني : فهو أنه عليه السلام كان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده فالله تعالى وصفه بهذا الخلق الشريف وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة ، وأيضاً وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به حيث قال : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ} (الصافات : 102) ويروى أن عيسى عليه السلام قال له رجل : انتظرني حتى آتيك فقال عيسى عليه السلام : نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء لحاجة إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هنالك للميعاد ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس". وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أي وقت ينتظره فقال : إن واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل ، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال : إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى. وثانيها : قوله : {وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا} وقد مر تفسيره. وثالثها : قوله : {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَه بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ} والأقرب في الأهل أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع فيدخل فيه كل أمته من حيث لزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة ، هذا إذا حمل الأمر على المفروض من الصلاة والزكاة فإن حمل على الندب فيهما كان المراد أنه كما كان يتهجد بالليل يأمر أهله أي من كان في داره في ذلك الوقت بذلك وكان نظره لهم في الدين يغلب على شفقته عليهم في الدنيا بخلاف ما عليه أكثر الناس ، وقيل : كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} (الشعراء : 214) {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } (طه : 132) {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) وأيضاً فهم أحق أن يتصدق عليهم فوجب أن يكونوا بالإحسان الديني أولى ، فأما الزكاة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها طاعة الله تعالى والاخلاص فكأنه تأوله على ما يزكو به الفاعل عند ربه والظاهر أنه إذا قرنت الزكاة إلى الصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة وكان يعرف من خاصة أهله أن يلزمهم الزكاة فيأمرهم بذلك أو يأمرهم أن يتبرعوا بالصدقات على الفقراء. ورابعها : قوله ؛ {وَكَانَ عِندَ رَبِّه مَرْضِيًّا} وهو في نهاية المدح لأن المرضى عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات.
/ (القصة السادسة قصة إدريس عليه السلام)
جزء : 21 رقم الصفحة : 550
550
اعلم أن إدريس عليه السلام هو جد أبي نوح عليه السلام وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ قيل سمي إدريس لكثرة دراسته واسمه أخنوخ ووصفه الله تعالى بأمور : أحدها : أنه كان صديقاً. وثانيها : أنه كان نبياً وقد تقدم القول فيهما. وثالثها : قوله : {وَرَفَعْنَـاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} وفيه قولان : أحدهما : أنه من رفعة المنزلة كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح : 4) فإن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود. الثاني : أن المراد به الرفعة في المكان إلى موضع عال وهذا أولى ، لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الله رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت ، وقال آخرون : بل رفع إلى السماء وقبض روحه سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً عن قوله : {وَرَفَعْنَـاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} قال : جاءه خليل له من الملائكة فسأله حتى يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة ، وأنا أقول كيف ذلك وهو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك. واعلم أن الله تعالى إنما مدحه بأن رفعه إلى السماء لأنه جرت العادة أن لا يرفع إليها إلا من كان عظيم القدر والمنزلة ، ولذلك قال في حق الملائكة : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأنبياء : 19) وههنا آخر القصص.
جزء : 21 رقم الصفحة : 550
551
(1/2993)
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخراً فقال : { أولئك الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين / في السورة من لدن زكريا إلى إدريس ، ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح ، والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام ، فقد كان سابقاً على نوح على ما ثبت في الأخبار والذين هم من ذرية من حمل مع نوح هو إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح وإسمعيل وإسحق ويعقوب من ذرية إبراهيم ثم خص بعضهم بأنهم من ولد إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من قبل الأم فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء ، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم ، ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال : { أولئك الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّـانَ مِن} تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجداً وبكياً خضوعاً وخشوعاً وحذراً وخوفاً ، والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم. وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الأيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي ، واختلفوا فقال بعضهم في السجود : إنه الصلاة وقال بعضهم : المراد سجود التلاوة على حسب ما تعبدنا به وقيل : المراد الخضوع والخشوع والظاهر يقتضي سجوداً مخصوصاً عند التلاوة ثم يحتمل أن يكون المراد سجود التلاوة للقرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلون ذلك لا لأجل ذكر السجود في الآية ، قال الزجاج في بكياً : جمع باك مثل شاهد وشهود وقاعد وقعود ثم قال الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا مقدرين للسجود ومن قال في بكياً إنه مصدر فقد أخطأ لأن سجداً جمع ساجد وبكياً معطوف عليه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "اتلو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وعن صالح المري قال : قرأت القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي : يا صالح هذه القراءة فأين البكاء ؟
وعن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ما اغرورقت عين به بماء إلا حرم الله على النار جسدها" وعن أبي هريرة رضي الله عنه : "لا يلج النار من بكى من خشية الله" وقال العلماء : يدعو في سجود التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك وإن قرأ سجدة سبحان قال : اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وإن قرأ هذه السجدة قال : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آيات كتابك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 551
551
(1/2994)
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخراً فقال : { أولئك الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين / في السورة من لدن زكريا إلى إدريس ، ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح ، والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام ، فقد كان سابقاً على نوح على ما ثبت في الأخبار والذين هم من ذرية من حمل مع نوح هو إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح وإسمعيل وإسحق ويعقوب من ذرية إبراهيم ثم خص بعضهم بأنهم من ولد إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من قبل الأم فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء ، ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم ، ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال : { أولئك الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّـانَ مِن} تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجداً وبكياً خضوعاً وخشوعاً وحذراً وخوفاً ، والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم. وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الأيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي ، واختلفوا فقال بعضهم في السجود : إنه الصلاة وقال بعضهم : المراد سجود التلاوة على حسب ما تعبدنا به وقيل : المراد الخضوع والخشوع والظاهر يقتضي سجوداً مخصوصاً عند التلاوة ثم يحتمل أن يكون المراد سجود التلاوة للقرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلون ذلك لا لأجل ذكر السجود في الآية ، قال الزجاج في بكياً : جمع باك مثل شاهد وشهود وقاعد وقعود ثم قال الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا مقدرين للسجود ومن قال في بكياً إنه مصدر فقد أخطأ لأن سجداً جمع ساجد وبكياً معطوف عليه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "اتلو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وعن صالح المري قال : قرأت القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي : يا صالح هذه القراءة فأين البكاء ؟
وعن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ما اغرورقت عين به بماء إلا حرم الله على النار جسدها" وعن أبي هريرة رضي الله عنه : "لا يلج النار من بكى من خشية الله" وقال العلماء : يدعو في سجود التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك وإن قرأ سجدة سبحان قال : اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وإن قرأ هذه السجدة قال : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آيات كتابك.
جزء : 21 رقم الصفحة : 551
(1/2995)
552
/ اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الأنبياء بصفات المدح ترغيباً لنا في التأسي بطريقتهم ذكر بعدهم من هو بالضد منهم فقال : فخلف من بعدهم خلف ، وظاهر الكلام أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم يقال : خلفه إذا أعقبه ثم قيل في عقب الخبر خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون ، كما قالوا : وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث : "في الله خلف من كل هالك" وفي الشعر للبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ثم وصفهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإضاعة الصلاة في مقابلة قوله : {خَرُّوا سُجَّدًا} (السجدة : 15) واتباع الشهوات في مقابلة قوله : {وَبُكِيًّا } لأن بكاءهم يدل على خوفهم واتباع هؤلاء لشهواتهم يدل على عدم الخوف لهم وظاهر قوله : {فَخَلَفَ مِن } تركوها لكن تركها قد يكون بأن لا تفعل أصلاً وقد يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله : {إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ} على أن تارك الصلاة كافر ، واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال : {وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه ، أجاب الكعبي عنه : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما ، وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار بالله تعالى وهما متغايران ، فكذا في هذه الصورة. ثم بين تعالى أن من هذه صفته {يَلْقَوْنَ غَيًّا} وذكروا في الغي وجوهاً : أحدها : أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد ، قال الشاعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 552
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وثانيها : قال الزجاج : {يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي يلقون جزاء الغي ، كقوله تعالى : {يَلْقَ أَثَامًا} (الفرقان : 68) أي مجازاة الآثام. وثالثها : غياً عن طريق الجنة. ورابعها : الغي واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها / والوجهان الأولان أقرب فإن كان في جهنم موضع يسمى بذلك جاز ولا يخرج من أن يكون المراد ما قدمنا لأنه المعقول في اللغة ، ثم بين سبحانه أن هذا الوعيد فيمن لم يتب ، وأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة لا يلحقهم ظلم ، وههنا سؤالان : الأول : الاستثناء دل على أنه لا بد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك ، لأن من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة ، أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليها الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة ، وكذا الصوم فههنا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح ، و"الجواب" أن هذه الصورة نادرة ، والمراد منه الغالب. السؤال الثاني : قوله : {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْـاًا} هذا إنما يصح لو كان الثواب مستحقاً على العمل ، لأنه لو كان الكل بالتفضل لاستحال حصول الظلم لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد. "الجواب" : أنه لما أشبهه أجرى على حكمه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 552
554
(1/2996)
اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور : أحدها : قوله ؛ {جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَـانُ عِبَادَه بِالْغَيْبِ } والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها : وعد الرحمن لعباده وأما قوله : {بِالْغَيْبِ } ففيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى وعد(هم إيا)ها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. والثاني : أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم. والوجه الأول : أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد حاصل ، لذلك قال بعده : {إِنَّه كَانَ وَعْدُه مَأْتِيًّا} أما قوله : {مَأْتِيًّا} فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها ، قال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله : {إِنَّه كَانَ وَعْدُه مَأْتِيًّا} بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل / والمراد تقرير ذلك في القلوب. وثانيها : قوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلَـامًا } (مريم : 62) واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله : {لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً} (الغاشية : 11) وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) ، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} (القصص : 55) أما قوله : {إِلا سَلَـامًا } ففيه بحثان :
جزء : 21 رقم الصفحة : 554
البحث الأول : أن فيه إشكالاً وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وثانيها : أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع. وثالثها : أن يكون هذا من جنس قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني : أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِم وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 23 ، 24) وقوله : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58). ورابعها : قوله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} وفيه سؤالان : السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة. "والجواب" من وجهين : الأول : قال الحسن أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك. الثاني : أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحاً ومساء وبكرة وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. السؤال الثاني : قال تعالى : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} (الإنسان : 13) وقال عليه السلام : "لا صباح عند ربك ولا مساء" والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء. "والجواب" المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي. وخامسها : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 554
(1/2997)
{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} وفيه أبحاث : الأول : قوله : {تِلْكَ الْجَنَّةُ} هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة. وثانيها : ذكروا في نورث وجوهاً الأول : نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث. الثاني : أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثاً قاله الحسن. الثالث : أن الإتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم / الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث الوارث المال من المتوفى. ورابعها : معنى من كان تقياً من تمسك باتقاء معاصيه وجعله عادته واتقى ترك الواجبات ، قال القاضي : فيه دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك. "والجواب" : الآية تدل على أن المتقي يدخلها وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من مفهوم قولنا المتقي عن الكفر وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل تحته فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها.
جزء : 21 رقم الصفحة : 554
556
اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أو قوله : {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} (مريم : 63) كلام الله وقوله : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل. "والجواب" أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه : {إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} (البقرة : 117) هو كلام الله وقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ} (آل عمران : 51) كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر ، واعلم أن ظاهر قوله تعالى : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه قوالت اليهود : نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه ، فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك ، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه ، فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الكهف : 23) وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم : {لَه مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}
جزء : 21 رقم الصفحة : 556
أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلاً وماضياً وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلاً وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسياً لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلّم ويتصل به : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} أي بل هو {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ} قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه : أحدها : أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم لقوله بأمر ربك وظاهر والأمر بحال التكليف أليق ، وثانيها : أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة. وثالثها : أن ما في سياقه من قوله : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول صلى الله عليه وسلّم فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسياً يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث :
(1/2998)
/ البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" التنزل على معنيين : أحدهما : النزول على مهل. والثاني : بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى.
البحث الثاني : ذكروا في قوله : {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَالِكَ } وجوهاً : أحدها : له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره. وثانيها : له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة. وثالثها : ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها. ورابعها : ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وخامسها : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه.
جزء : 21 رقم الصفحة : 556
البحث الثالث : قوله : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي تاركاً لك كقوله : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } (الضحى : 3) أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك ، أما قوله : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فالمراد أن من يكون رباً لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالاً بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما ، واحتج / أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ، لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض. والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما ، قال صاحب "الكشاف" : رب السموات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلّم بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا : لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته. "والمعنى" أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك ، أما قوله تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له ، والأقرب هو كونه منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه ، فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة ، ومن الناس من قال : المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين : الأول : أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره. الثاني : هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل ؟
لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية ، والقول الأول هو الصواب والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 556
557
(1/2999)
اعلم أنه تعالى لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها فكأن سائلاً سأل وقال هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا ، وأما في الآخرة فقد أنكرها قوم فلا بد من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى / يظهر أن الاشتغال بالعبادة مفيد فلهذا حكى الله تعالى قول منكري الحشر فقال : {وَيَقُولُ الانسَـانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} وإما قالوا ذلك على وجه الإنكار والاستبعاد ، وذكروا في الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الجنس بأسره فإن قيل كلهم غير قائلين بذلك فكيف يصح هذا القول ؟
قلنا الجواب من وجهين : الأول : أن هذه المقالة لما كانت موجودة فيما هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل رجل منهم. والثاني : أن هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلا أن بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبني على محض الطبع بالدلالة القاطعة التي قامت على صحة القول به. الثاني : أن المراد بالإنسان شخص معين فقيل : هو أبو جهل ، وقيل : هو أبي بن خلف ، وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ، ثم إن الله تعالى أقام الدلالة على صحة البعث بقوله : {أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـاًا} والقراء كلهم على {يَذْكُرُ} بالتشديد إلا نافعاً وابن عامر وعاصماً فقد خففوا ، أي أو لا يتذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل وإذا قرىء أو لا يذكر فهو أقرب إلى المراد إذ الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل لا من شيء فجائز أن يعاد ثانياً. قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ، ونظيره قوله : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (
جزء : 21 رقم الصفحة : 557
يس : 79) وقوله : {وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء وهو ضعيف لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض وهذا المجموع ما كان شيئاً ، ولكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً ؟
فإن قيل : كيف أمر تعالى الإنسان بالذكر مع أن الذكر هو العلم بما قد علمه من قبل ثم تخللهما سهو ؟
قلنا : المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرىء أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرىء أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً ، ثم إنه سبحانه لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه. أحدها : قوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَـاطِينَ} وفائدة القسم أمران : أحدهما : أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين. والثاني : أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافاً إلى اسم رسوله صلى الله عليه وسلّم تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلّم ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله : {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ إِنَّه لَحَقٌّ} (الذاريات : 23) والواو في {الشَّيَـاطِينَ} ويجوز أن تكون للعطف وأن تكون بمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع ، والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. وثانيها : قوله : {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم ثم إنه تعالى يحضرهم على أذل صورة لقوله تعالى : {جِثِيًّا} لأن البارك على ركبتيه صورته صورة الذليل أو صورته صورة العاجز ، فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى : {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } (الجاثية : 28) والسبب فيه جريان العادة أن الناس في مواقف المطالبات من / الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من الاستنظار والقلق ، أو لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم ، وإذا كان هذا عاماً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار ؟
قلنا : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد الذل في حقهم. وثالثها : قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 557
(1/3000)
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَـن ِ عِتِيًّا} والمراد بالشيعة وهي فعلة كفرقة وفئة الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (الأنعام : 159) والمراد أنه تعالى يحضرهم أولا حول جهنم جثياً ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدهم تمرداً في كفره خص بعذاب أعظم لأن عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره ، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل كعذاب من يقتدي به مع الغفلة قال تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} (النحل : 88). وقال : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت : 13) فبين تعالى أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتواً وأشد تمرداً ليعلم أن عذابه أشد ، ففائدة هذه التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب ، فلذلك قال في جميعهم : {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب ، واختلفوا في إعراب أيهم فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة حتى لو جيء به لأعرب وقيل أيهم هو أشد.
جزء : 21 رقم الصفحة : 557
560
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل : {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَـاطِينَ} ثم قال : {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} (مريم : 68) أردفه بقوله : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة ، قالوا : إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور : أحدها : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى ا أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء : 101) والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها. والثاني : قوله : {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } (الأنبياء : 102) ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها. وثالثها : قوله : {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَـاـاِذٍ ءَامِنُونَ} (النحل : 89) وقال الأكثرون : إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } فلم يخص. وهذا الخطاب مبتدأ / مخالف للخطاب الأول ، ويدل عليه قوله : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا } أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم : الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة ، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى : {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} (يوسف : 19) ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى : {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (القصص : 23) وأراد به القرب. ويقال : وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول جهنم :
جزء : 21 رقم الصفحة : 560
(1/3001)
{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} (مريم : 71) أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء : 101) ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة : أليس الله يقول : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا" ، ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً. القول الثاني : أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء : 98) وقال : {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَا وَبِئْسَ الْوِرْدُ} (هود : 98) ويدل عليه قوله تعالى : {الْحُسْنَى ا أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى : {وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار ، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال : "أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور ، فقال عليه السلام : يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا" ، وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلّم ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر : "أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها". والقائلون بهذا القول يقولون : المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103) ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف ، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه". وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم ، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار ، فقال بعضهم : البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار ، والكفار يكونون في وسط / النار. وثانيها : أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : "يردونها كأنها إهالة" وعن جابر بن عبد الله : "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة". وثالثها : أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم ، كما في حق إبراهيم عليه السلام. وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً. واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين ، فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها. وثالثها : أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه. ورابعها : أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين. وخامسها : أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا ، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وسادسها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر :
جزء : 21 رقم الصفحة : 560
وبضدها تتبين الأشياء
(1/3002)
فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء : 101) فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله : {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } (الأنبياء : 102) فإن قيل : هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة ؟
قلنا : ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} (إبراهيم : 48) وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها. أما قوله : {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم : خلق الله وضرب الأسير ، واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال : إن قوله : {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً. "والجواب" أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ} قرىء ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله ، قال القاضي : الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق / لا يكون متقياً ، ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثياً فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبداً. قال ابن عباس : المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله ، واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته ، وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال : إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد ، فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا } فصارت هذه الآية التي توهموها دليلاً من أقوى الدلائل على فساد قولهم : قال القاضي : وتدل الآية أيضاً ، على فساد قول من يقول : إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار ، قلنا : هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة ، ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعاً ولا عاصياً ، فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 560
{وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مراراً كثيرة في هذا الكتاب ، أما قوله : {جِثِيًّا} قال صاحب "الكشاف" قوله : {وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
جزء : 21 رقم الصفحة : 560
560
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا : لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا ، لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عن خدمته في العز والراحة ، ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء ، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين ، هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى : {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه } (الأحقاف : 11) ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون / بالزينة الفاخرة ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم. بقي بحثان :
الأول : قوله : {بَيِّنَـاتٍ تَعْرِفُ} يحتمل وجوهاً : أحدها : أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً. وثانيها : أنها ظاهرات الإعجاز تحدى بها فما قدروا على معارضتها. وثالثها : المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال ولا اعتراض مثل قوله تعالى في إثبات صحة الحشر : {أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْـاًا} (مريم : 67).
(1/3003)
البحث الثاني : قرأ ابن كثير : {مَّقَامًا} بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل ، والباقون بالفتح وهو موضع القيام ، والمراد والندى المجلس يقال : ندى وناد ، والجمع الأندية ، ومنه قوله : {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } (العنكبوت : 29) وقال : {فَلْيَدْعُ نَادِيَه } (العلق : 17) ويقال : ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس ، ومنه دار الندوة بمكة وكانت مجتمع القوم. ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 560
561
وتقرير هذا الجواب أن يقال : إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم ، فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيباً لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غماً في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحداً من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى وهي أن من وجد الدنيا كان حبيباً لله تعالى ، أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غماً ، وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة ، بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول : أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ، ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية ، والأثاث متاع البيت ، أما رئياً فقرىء على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة ، أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول ، فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء. أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان : أحدهما : بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئياً. والثاني : ريئاً على القلب كقولهم راء في رأى ، أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء ، والإدغام ، أو من الري الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم : ريان من النعيم. والثاني : بالياء على حذف الهمزة رأساً ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئاً بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها ، وأما بالزاي المنقطة من فوق زياً فاشتقاقه من الزي وهو الجمع ، لأن الزي محاسن مجموعة ، والمعنى أحسن من هؤلاء ، والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 561
562
/ اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة ، فلا بد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله : {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} مذكور في مقابلة قولهم : {خَيْرٌ مَّقَامًا} (مريم : 73) {وَأَضْعَفُ جُندًا} في مقابلة قولهم : {أَحْسَنُ أَثَـاثًا وَرِءْيًا} (مريم : 73) فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكاناً فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب. {وَأَضْعَفُ جُندًا} فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه. بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه : أحدها : مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} (فاطر : 37) وكقولهم : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } . وثانيها : أن قوله : {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله {وَإِمَّا السَّاعَةَ} المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون ، ويمكن أيضاً أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن الصحة إلى المرض ، ومن الأمن إلى الخوف ، ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم ، ويمكن أيضاً أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر ، وكل هذه الوجوه مذكورة ، واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما / ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى ، واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل ، فنقول : إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطاً بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطاً بالبعض ، فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط ، فصح قوله :
جزء : 21 رقم الصفحة : 562
(1/3004)
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص ، هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثواباً على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان ، قال صاحب "الكشاف" : يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مداً ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه/ ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال : {وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه ، والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه ، وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى ، وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثواباً فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال : "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً فأزال الورق عنه ثم قال : إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطاً كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة ، وكان أبو الدرداء يقول : لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون". والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثواباً من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها : {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} ولا يجوز أن يقال : هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم : {خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (مريم : 73).
جزء : 21 رقم الصفحة : 562
563
(1/3005)
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل أولاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين ، وأجاب عنها أورد عنهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال : {أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِـاَايَـاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} قرأ حمزة والكسائي ولداً وهو جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب ، وعن يحيى بن يعمر ولداً بالكسر ، وعن الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أنها في العاص بن وائل ، قال خباب بن الأرت : كان لي عليه دين فاقتضيته فقال : لا والله حتى تكفر بمحمد قلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم لا حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث فقال : فإني إذا مت بعثت ؟
قلت : نعم. قال : إني بعثت وجئتني فسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك ، وقيل : صاغ خباب له حلياً فاقتضاه فطلب الأجرة فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون ، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم ، فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله : {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـن ِ عَهْدًا} قال صاحب "الكشاف" : أطلع الغيب من قولهم أطلع الجبل أي ارتقى إلى أعلاه ويقال مر مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له مالكاً له والاختيار في هذه الكلمة أن تقول : أو قد بلغ من عظم شأنه أنه ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار ، والمعنى أن الذي ادعى أن يكون حاصلاً له لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الأمرين ، إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إليه ؟
وقيل : في العهد كلمة الشهادة عن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول ؟
ثم إنه سبحان بين من حاله ضد ما ادعاه ، فقال : {كَلا } وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما يقوله ويتمناه فإن قيل لم قال : {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير قال تعالى : {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق : 18) قلنا فيه وجهان : أحدهما : سيظهر له ويعلم أنا كتبنا. الثاني : أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك وإن كان في الحال في الانتقام ويكون غرضه من هذا الكلام محض التهديد فكذا ههنا ، أما قوله تعالى : {وَنَمُدُّ لَه مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أي نطول له من العذاب ما يستأهله ونزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ويقال مده وأمده بمعنى ويدل عليه قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ويمد له بالضم ، أما قوله ونرثه ما يقول أي يزول عنه ما وعده من مال وولد فلا يعود كما لا يعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك في الآخرة يبقى فرداً فلذلك قال : {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} فلا يصح أن ينفرد في الآخرة بمال وولد : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الأنعام : 94) والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 563
566
(1/3006)
/ اعلم أنه تعالى لما تكلم في مسألة الحشر والنشر ، تكلم الآن في الرد على عباد الأصنام فحكى عنهم أنهم إنما اتخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا لهم عزاً ، حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصاراً ، ينقذونهم من الهلاك. ثم أجاب الله تعالى بقوله : {كَلا } وهو ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة ، وقرأ ابن نهيك : {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي كلهم سيكفرون بعبادة هذه الأوثان وفي "محتسب" ابن جني كلا بفتح الكاف والتنوين وزعم أن معناه كل هذا الاعتقاد والرأي كلا ، قال صاحب "الكشاف" : إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريرا واختلفوا في أن الضمير في قوله : {سَيَكْفُرُونَ} يعود إلى المعبود أو إلى العابد فمنهم من قال إنه يعود إلى المعبود ، ثم قال بعضهم : أراد بذلك الملائكة لأنهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم ويتبرءون منهم ويخاصمونهم وهو المراد من قوله : {أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (سبأ : 40) وقال آخرون : إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ومن الناس من قال الضمير يرجع إلى العباد أي أن هؤلاء المشركين يوم القيامة ينكرون أنهم عبدوا الأصنام ثم قال تعالى : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23) أما قوله : {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} فذكر ذلك في مقابلة قوله : {لَهُمْ عِزًّا} (مريم : 81) والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أن يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلالهم لا عزاً أو يكونون عليهم عوناً والضد العون ، يقال من أضدادكم أي من أعوانكم وكأن العون يسمى ضداً / لأنه يضاد عدوك وينافيه باعانته لك عليه ، فإن قيل : ولم وحد ؟
قلنا : وحد توحيد قوله عليه السلام : "وهم يد على من سواهم" لاتفاق كلمتهم فإنهم كشيء واحد لفرط انتظامهم وتوافقهم ، ومعنى كون الآلهة عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها واعلم أنه تعالى لما ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنهم يسألونهم وينقادون لهم فقال : {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} وفيه مسائل :
جزء : 21 رقم الصفحة : 566
(1/3007)
المسألة الأولى : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فقالوا قول القائل : أرسلت فلاناً على فلان موضوع في اللغة لإفادة أنه سلطه عليه لإرادة أن يستولي عليه. قال عليه السلام : سم الله وأرسل كلبك عليه إذا ثبت هذا فقوله : {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} يفيد أنه تعالى سلطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم وذلك يفيد المقصود ثم يتأكد هذا بقوله : {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} فإن معناه إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لتؤزهم أزاً ويتأكد بقوله : {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم} (الإسراء : 64) قال القاضي : حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم فلا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين وذلك كفر من قائله ، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلا بد من التأويل فنحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة. كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال : أرسل كلبه عليه وإن لم يرد أذى الناس ، وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } (إبراهيم : 22) هذا تمام كلامه ونقول لا نسلم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فإن قوله : {أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ} لو أرسلهم الله إلى الكفار لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين ، قلنا الله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه ، فأين هذا من الإرسال إليهم ، قوله : ضلال الكافر من قبل الله تعالى فأي تأثير للشيطان فيه ؟
قلنا : لم لا يجوز أن يقال : إن إسماع الشيطان إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه ذلك الضلال بشرط سلامة فهم السامع لأن كلام الشيطان من خلق الله تعالى فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان وإلى الله تعالى من هذين الوجهين ، قوله لم لا يجوز أن يكون المراد بالإرسال التخلية قلنا : كما خلى بين الشيطان والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء ثم إنه تعالى خص الكافر بأنه أرسل الشيطان عليه فلا بد من فائدة زائدة ههنا ولأن قوله : {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي تحركهم تحريكاً شديداً كالغرض من ذلك الإرسال فوجب أن يكون الأز مراداً / لله تعالى ويحصل المقصود منه فهذا ما في هذا الموضع والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 566
المسألة الثانية : قال ابن عباس : {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي تزعجهم في المعاصي إزعاجاً نزلت في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط قال صاحب "الكشاف" : الأز والهز والاستفزاز أخوات في معنى التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتحثهم وتهيجهم لها بالوساس والتسويلات ، أما قوله تعالى : {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِم إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجلته به أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا أو يبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا بَلَـاغٌ } (الأحقاف : 35) عن ابن عباس أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد دخول قبرك ، آخر العدد فراق أهلك. وعن ابن السماك رحمه الله أنه كان عند المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وذكروا في قوله : {نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} وجهين آخرين : الأول : نعد أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها. والثاني : نعد الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان/ ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـن ِ وَفْدًا} قال صاحب "الكشاف" : نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو اذكر يوم نحشر ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب" ثم تلا هذه الآية. وفيها مسائل :
(1/3008)
المسألة الأولى : قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال ؟
المسألة الثانية ؛ المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله : {إِلَى الرَّحْمَـانِ} يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن.
جزء : 21 رقم الصفحة : 566
المسألة الثالثة : طعن الملحد فيه فقال قوله : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـن ِ وَفْدًا} هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم ، أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله : {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ} ورداً فقوله : {نَسُوقُ} يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء ، والورد اسم للعطاش ، لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش. وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون أما قوله : {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَـاعَةَ} أي فليس لهم والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم / أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا ، وقال بعضهم : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون وقال بعضهم : بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاع الواضحات وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه : {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـن ِ عَهْدًا} والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهداً التوحيد والنبوة فوجب أن يكون داخلاً تحته ومما يؤكد قولنا : ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم : "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً ؟
قالوا ؛ وكيف ذلك ؟
قال : يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة" ، فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي : الآية دالة على مذهبه وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا والله أعلم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 566
567
(1/3009)
اعلم أنه تعالى لما رد على عبده الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولداً : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَـارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه } (التوبة : 30) وقالت العرب الملائكة بنات الله والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في إفساد / قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله أما قوله : {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْـاًا إِدًّا} فقرىء إداً بالكسر والفتح. قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلي. قرىء يتفطرن بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في يكاد فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالتاء من فوق ، والانفطار من فطرة إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود يتصدعن وقوله : {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أي تهد هداً أو مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض ، فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه ا إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر : 41). وثانيها : أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً من فظاعتها وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده. وثالثها : أن السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم. ورابعها : أن السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله : {أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا} ففيه مسائل :
جزء : 21 رقم الصفحة : 567
المسألة الأولى : في إعرابه ثلاثة أوجه. أحدها : أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه أو منصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعاً بأنه فاعل {هَدًّا} أي هدها دعاء الولد للرحمن ، والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول.
المسألة الثانية : إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه.
المسألة الثالثة : قوله : {دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ} هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولداً أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعة ما في قوله صلى الله عليه وسلّم : "من ادعى إلى غير مواليه". قال الشاعر :
إنا بني نهشل لا ندعى لأب
أي لا ننتسب إليه/ ثم قال تعالى : {وَمَا يَنابَغِى لِلرَّحْمَـانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي هو محال ، أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها ، وأما التبني فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا مشبه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل ، وكل ذلك لا يليق به ، ثم قال : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـن ِ عَبْدًا} والمراد أنه ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي / الرحمن أي يأوي إليه ويلتجىء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً راجياً كما يفعل العبيد ، ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى لأنه لا تخصيص فيه وقوله : {لَّقَدْ أَحْصَـاـاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته فهو سبحانه ميحط بهم ، ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم.
جزء : 21 رقم الصفحة : 567
5
(1/3010)
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا} وللمفسرين في قوله : {وُدًّا} قولان : الأول : وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك ، وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء تخصيصاً لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم ، والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام ، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية : "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل قد أحببت فلاناً فأحبوه فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض وإذا أبغض عبداً فمثل ذلك". وعن كعب قال : مكتوب في التوراة والإنجيل لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ، ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن قوله : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا} . القول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم معنى : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا} أي يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء ، يقال : آتيت فلاناً محبته ، وجعل لهم ما يحبون ، وجعلت له وده ، ومن كلامهم : يود لو كان كذا ، ووددت أن / لو كان كذا أي أحببت ، ومعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة. والقول الأول : أولى لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ، ولأنا ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وفسرها بذلك فكان ذلك أولى ، وقال أبو مسلم : بل القول الثاني أولى لوجوه : أحدها : كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين. وثانيها : أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين. وثالثها : أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أن الله تعالى فعله فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. "والجواب" عن الأول : أن المراد يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء ، وروى عنه عليه السلام : أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال : "إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي. وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل" وهذا هو "الجواب" عن الكلام الثاني لأن الكافر والفاسق ليس كذلك. "والجواب" عن الثالث : أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم ، أما قوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 5
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر ، ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلّم فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين/ لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لداً ، ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضاً سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب ، ثم أكد تعالى في ذلك فقال : {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ} لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم برؤية أو إدراك أو وجدان : {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزَا } وهو الصوت الخفي ، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية ، والأقرب في قوله : {أَهْلَكْنَا} أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 5
5
(1/3011)
سورة طه
وهي مائة وثلاثون وخمس آيات
جزء : 22 رقم الصفحة : 5
15
سورة طه
اعلم أن قوله {طه} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الطاء وقرأ حمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء ، قال الزجاج وقرىء طه بفتح الطاء وسكون الهاء وكلها لغات. قال الزجاج من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح ومن كسر الطاء والهاء فأمال الكسرة لأن الحرف مقصور والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسرة.
المسألة الثانية : للمفسرين فيه قولان : أحدهما : أنه من حروف التهجي والآخر أنه كلمة مفيدة ، أما على القول الأول فقد تقدم الكلام فيه في أول سورة البقرة والذي زادوه ههنا أمور : / أحدها : قال الثعلبي : طا شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار. وثانيها : يحكى عن جعفر الصادق عليه السلام الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم. وثالثها : يا مطمع الشفاعة للأمة ويا هادي الخلق إلى الملة. ورابعها : قال سعيد بن جبير هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي. وخامسها : الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه قيل يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام الغيوب. وسادسها : الطاء طول القراء والهاء هيبتهم في قلوب الكفار. قال الله تعالى : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (آل عمران : 151). وسابعها : الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة تكون أربعة عشر ومعناه يا أيها البدر وقد عرفت فيما تقدم أن أمثال هذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها. القول الثاني : قول من قال : إنها كلمة مفيدة وعلى هذا القول ذكروا وجهين : أحدهما : معناه يا رجل وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي رضي الله عنهم ثم قال سعيد بن جبير بلسان النبطية وقال قتادة بلسان السريانية وقال عكرمة بلسان الحبشة وقال الكلبي بلغة عك وأنشد الكلبي لشاعرهم :
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أرواح الملاعين
وقد تكلم الناس على هذا القول من وجهين : الأول : أنه بمعنى يا رجل في اللغة حمل عليه لكنه لا يجوز إن ثبت على هذا المعنى إلا في لغة العرب إذ القرآن بهذه اللغة نزل فيحتمل أن تكون لغة العرب في هذه اللفظة موافقة لسائر اللغات التي حكيناها ، فأما على غير هذا الوجه فلا يحتمل ولا يصح. الثاني : قال صاحب "الكشاف" : إن كان طه في لغة عك بمعنى يا رجل فلعلهم تصرفوا في يا هذا فقلبوا الياء طاء فقالوا : طا واختصروا في هذا واقتصروا على ها فقوله طه بمعنى يا هذا واعترض بعضهم عليه وقالوا : لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طا ها. وثانيهما : أنه عليه السلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وكان الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قالوا هياك في إياك وهرقت في أرقت ويجوز أن يكون الأصل من وطىء على ترك الهمزة فيكون أصله طأ يا رجل ثم أثبت الهاء فيها للوقف والوجهان ذكرهما الزجاج ، أما قوله تعالى : {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : إن جعلت طه تعديداً لأسماء الحروف فهذا ابتداء كلام وإن جعلتها اسماً للسورة احتمل أن يكون قوله : {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم.
المسألة الثانية : قرىء {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى } .
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
(1/3012)
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً : أحدها : قال مقاتل إن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال عليه السلام : "بل بعثت رحمة للعالمين" قالوا : بل أنت تشقى فأنزل الله تعالى / هذه الآية رداً عليهم وتعريفاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم بأن دين الإسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وثانيها : أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام : "أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً" أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وروى أيضاً أنه عليه السلام : "كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام" وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة ، وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله : {لِتَشْقَى } ذلك ، قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئاً من ذلك فلا بد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى ، وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له : ما أمرناك بذلك. وثالثها : قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به ، فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى : {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ} (الكهف : 6) الآية ، {وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } (يونس) 65). ورابعها : أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى : {لَّسْتَ عَلَيْهِم} (الغاشية : 22) ، {حَفِيظًا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام : 107) أي ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم. وخامسها : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وفي ذلك الوقت كان عليه السلام مقهوراً تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبداً بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل تصير معظماً مكرماً. وأما قوله تعالى : {إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في كلمة إلا ههنا قولان ، أحدهما : أنه استثناء منقطع بمعنى لكن. والثاني : التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك.
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
المسألة الثانية : إنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاماً في الجميع وهو كقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) وقال سبحانه وتعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان : 1) وقال : {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـافِلُونَ} (يس : 6) وقال : {وَتُنذِرَ بِه قَوْمًا لُّدًّا} (مريم : 97) وقال : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
المسألة الثالثة : وجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم به وببيانه فيدخل تحت قوله لمن يخشى الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل. وأما قوله تعالى : {تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الارْضَ وَالسَّمَـاوَاتِ الْعُلَى} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في نصب تنزيلا وجوهاً. أحدها : تقديره نزل تنزيلاً ممن خلق الأرض فنصب تنزيلاً بمضمر. وثانيها : أن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه / تذكرة. وثالثها : أن ينصب على المدح والاختصاص. ورابعها : أن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله تعالى : {تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى } تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين وقرىء تنزيل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
المسألة الثانية : فائدة الانتقال من لفظ التكلم إلى لفظ الغيبة أمور ، أحدها : أن هذه الصفات لا يمكن ذكرها إلا مع الغيبة. وثانيها : أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فتضاعفت الفخامة من طريقين. وثالثها : يجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه.
المسألة الثالثة : أنه تعالى عظم حال القرآن بأن نسبه إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها وإنما قال ذلك لأن تعظيم الله تعالى يظهر بتعظيم خلقه ونعمه وإنما عظم القرآن ترغيباً في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه وذلك معتاد في الشاهد فإنه تعظم الرسالة بتعظيم حال المرسل ليكون المرسل إليه أقرب إلى الامتثال.
المسألة الرابعة : يقال سماء عليا وسموات علا وفائدة وصف السموات بالعلا الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها أما قوله تعالى : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ففيه مسائل :
(1/3013)
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
المسألة الأولى : قرىء الرحمن مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه إما أن يكون رفعاً على المدح والتقدير هو الرحمن وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح ؟
قلنا : إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ.
المسألة الثانية : المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه. أحدها : أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان ، ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنياً عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع الله عرش. وثانيها : أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفاً مركباً وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال. وثالثها : أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكناً من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثاً لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم. ورابعها : هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل ، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه / بذلك المكان فيكون محتاجاً وهو على الله محال. وخامسها : أن قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته ، فلو كان جالساً لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية. وسادسها : قوله تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله. وسابعها : أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلهاً فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثاً ولم يكن إلهاً فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر. وثامنها : أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس ، فلو كان المعبود مختصاً بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقاً لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين ، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المبعود تحت جميع الأشياء. وتاسعها : أجمعت الأمة على أن قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
(1/3014)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصاً بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركباً منقسماً فلا يكون أحداً في الحقيقة فيبطل قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وعاشرها : أن الخليل عليه السلام قال : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) ولو كان المعبود جسماً لكان آفلاً أبداً غائباً أبداً فكان يندرج تحت قوله : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} فثبت بهذه الدلائل أن الإستقرار على الله تعالى محال وعند هذا للناس فيه قولان ، الأول : أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار : قوله عليه السلام "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" ، وقوله عليه السلام : "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله عليه السلام : "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين : الأول : أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الإستواء الجلوس وهذا هو التأويل. وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه فهو جاهل بالله تعالى ، اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفاً من الخطأ فهذا يكون قريباً ، وهو أيضاً ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والإستيلاء وقد تعذر حمله على الإستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز. والثاني : وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن / الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار ، فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين ، وإما أن نتركهما معاً ، وإما أن نرجح النقل على العقل ، وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل. والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزهاً عن المكان وحاصلاً في المكان وهو محال. والثاني : أيضاً محال لأنه يلزم رفع النقيضين معاً وهو باطل. والثالث : باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معاً ، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الإستواء الإستيلاء قال الشاعر :
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
(1/3015)
فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه. أحدها : أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال. وثانيها : أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه ، وكان المستولى عليه موجوداً قبل ذلك ، وهذا في حق الله تعالى محال ، لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه. وثالثها : الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. والجواب : أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية ، قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش ، وهو سرير الملك لا يحصل إلامع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على البلد يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة ، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ، ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد ، ومنه قوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة : 64) أي هو بخيل {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة : 64) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط ، والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن. وأقول : إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضاً يقولون المراد من قوله : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } (طه : 12) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل ، وقوله : {قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى ا إِبْرَاهِيمَ} (ابراهيم : 69) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة ، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى ، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه ، وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه ، فهذا تمام الكلام في هذه الآية ، ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق. أما قوله تعالى : {لَه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
فاعلم أنه سبحانه لم شرح ملكه بقوله : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } والملك لا ينتظم إلا بالقدرة والعلم ، لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم. أما القدرة فهي هذه الآية والمراد أنه سبحانه مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما ، ومالك لما في الارض من المعادن والفلزات ومالك لما بينهما من الهواء. ومالك لما تحت الثرى ، فإن قيل الثرى هو السطح الأخير من العالم فلا يكون تحته شيء فكيف يكون الله مالكاً له قلنا : الثرى في اللغة التراب الندي فيحتمل أن يكون تحته شيء وهو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات ، أما العلم فقوله تعالى : {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وفيه قولان ، أحدهما : أن قوله : {وَأَخْفَى} بناء المبالغة ، وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام : الجهر ، والسر. والأخفى. فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به ، وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض ، وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم. ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر ، والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة ، والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة/ فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب ، والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها ، والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ، ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه ، ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر ، ويحتمل أيضاً ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر ، وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب. القول الثاني : أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } (البقرة : 255) فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط ؟
قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره ، فاعلم أنه غني عن جهرك ، وإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
(1/3016)
الأعراف : 205) وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لاستماع الله تعالى ، وإنما هو لغرض آخر ، واعلم أن الله تعالى لذاته عالم وأنه عالم بكل المعلومات في كل الأوقات بعلم واحد وذلك العلم غير متغير ، وذلك العلم من لوازم ذاته من غير أن يكون موصوفاً بالحدوث أو الإمكان والعبد لا يشارك الرب إلا في السدس الأول وهو أصل العلم ثم هذا السدس بينه وبين عباده أيضاً نصفان فخمسة دوانيق ونصف جزء من العلم مسلم له والنصف الواحد لجملة عباده ، ثم هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق كلهم من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وحملة / العرش وسكان السموات وملائكة الرحمة وملائكة العذاب وكذا جميع الأنبياء الذين أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وكذا جميع الخلائق كلهم في علومهم الضرورية والكسبية والحرف والصناعات وجميع الحيوانات في إدراكاتها وشعوراتها والاهتداء إلى مصالحها في أغذيتها ومضارها ومنافعها ، والحاصل لك من ذلك الجزء أقل من الذرة المؤلفة ، ثم إنك بتلك الذرة عرفت أسرار إلهيته وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة. فإذا كنت بهذه الذرة عرفت هذه الأسرار فكيف يكون علمه بخمس دوانيق ونصف. أفلا يعلم بذلك العلم أسرار عبوديتك ؟
فهذا تحقيق قوله : {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} بل الحق أن الدينار بتمامه له ، لأن الذي علمته فإنما علمته بتعليمه على ما قال : {أَنزَلَه بِعِلْمِه } (النساء : 166) وقال : {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (الملك : 14) ولهذا مثال وهو الشمس فإن ضوءها يجعل العالم مضيئاً ، ولا ينتقص ألبتة من ضوئها شيء ، فكذا ههنا فكيف لا يكون عالماً بالسر والأخفى ، فإن من تدبيراته في خلق الأشجار وأنواع النبات أنها ليس لها فم ولا سائر آلات الغذاء فلا جرم أصولها مركوزة في الأرض تمتص بها الغذاء فيتأدى ذلك الغذاء إلى الأغصان ومنها إلى العروق ومنها إلى الأوراق ، ثم إنه تعالى جعل عروقها كالأطناب التي بها يمكن ضرب الخيام. وكما أنه لا بد من مد الطنب من كل جانب لتبقى الخيمة واقفة ، كذلك العروق تذهب من كل جانب لتبقى الشجرة واقفة ، ثم لو نظرت إلى كل ورقة وما فيها من العروق الدقيقة المبثوثة فيها ليصل الغذاء منها إلى كل جانب من الورقة ليكون ذلك تقوية لجرم الورقة فلا يتمزق سريعاً ، وهي شبه العروق المخلوقة في بدن الحيوان لتكون مسالك للدم والروح فتكون مقوية للبدن ، ثم انظر إلى الأشجار فإن أحسنها في المنظر الدلب والخلاف ، ولا حاصل لهما ، وأقبحها شجرة التين والعنب ، و(لكن) انظر إلى منفعتهما ، فهذه الأشياء وأشباهها تظهر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
أما قوله تعالى : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } فالكلام فيه على قسمين. الأول : في التوحيد اعلم أن دلائل التوحيد ستأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) وإنما ذكره ههنا ليبين أن الموصوف بالقدرة وبالعلم على الوجه الذي تقدم واحد لا شريك له ، وهو الذي يستحق العبادة دون غيره ، ولنذكر ههنا نكتاً متعلقة بهذا الباب وهي أبحاث :
(1/3017)
البحث الأول : اعلم أن مراتب التوحيد أربع. أحدها : الإقرار باللسان. والثاني : الاعتقاد بالقلب. والثالث : تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة. والرابع : أن يصير العبد مغموراً في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شيء غير عرفان الأحد الصمد. أما الإقرار باللسان فإن وجد خالياً عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق ، وأما الاعتقاد بالقلب إذا وجد خالياً عن الإقرار باللسان ففيه صور. الصورة الأولى : أن من نظر وعرف الله تعالى وكما عرفه مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بكلمة الشهادة فقال قوم إنه لا يتم إيمانه والحق أنه يتم لأنه أدى ما كلف به وعجز عن التلفظ به فلا يبقى مخاطباً ، ورأيت في (بعض) الكتب أن ملك الموت / مكتوب على جبهته لا إله إلا الله لكي إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكر عن الذكر. الصورة الثانية : أن من عرف الله ومضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بالكلمة ولكنه قصر فيه ، قال الشيخ الغزالي : يحتمل أن يقال اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفظ جارياً مجرى امتناعه من الصلاة والزكاة وكيف يكون من أهل النار ، وقد قال عليه السلام : "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" وقلب هذا الرجل مملوء من الإيمان ؟
وقال آخرون : الإيمان والكفر أمور شرعية نحن نعلم أن الممتنع من هذه الكلمة كافر. الصورة الثالثة : من أقر باللسان واعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلد والاختلاف في صحة إيمانه مشهور. أما المقام الثالث : وهو إثبات التوحيد بالدليل والبرهان فقد بينا في تفسير قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) أنه يمكن إثبات هذا المطلوب بالدلائل العقلية والسمعية واستقصينا القول فيها هناك. أما المقام الرابع : وهو الفناء في بحر التوحيد فقال المحققون : العرفان مبتدأ من تفريق ونقض وترك ورفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحق للذات المريدة بالصدق منتبه إلى الواحد القهار ، ثم وقوف هذه الكلمات محيطة بأقصى نهايات درجات السائرين إلى الله تعالى.
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
البحث الثاني : في الأخبار الواردة في التهليل ، أولها : عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء : أستغفر الله ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات". وثانيها : قال عليه السلام : "إن الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها ، فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله عز وجل". وثالثها : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال عليه السلام : "ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت : يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله قال يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله". وثانيها : قال سفيان الثوري : سألت جعفر بن محمد عن حم عسق قال : الحاء حكمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته/ يقول الله جل ذكره : بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. وخامسها : أن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من قام في السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب له الله ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة".
(1/3018)
البحث الثالث : في النكت. أحدها : ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله : التصديق والتعظيم والحلاوة والحرية ، فمن ليس له التصديق فهو / منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الحلاوة فهو مراء ومن ليس له الحرية فهو فاجر. وثانيها : قال بعضهم قوله : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} (إبراهيم : 24) إنه لا إله إلا الله : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُه } (فاطر : 10) لا إله إلا الله : {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (العصر : 3) لا إله إلا الله : {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } (سبأ : 46) لا إله إلا الله : {وَقِفُوهُم إِنَّهُم} (الصافات : 24) عن قول لا إله إلا الله : {مَّجْنُون * بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (الصافات : 37) هو لا إله إلا الله : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } (إبراهيم : 27) هو لا إله إلا الله : {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ } (إبراهيم : 27) عن قول لا إله إلا الله. وثالثها : أن موسى بن عمران عليه السلام قال : "يا رب علمني شيئاً أذكرك به ، قال : قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون لا إله إلا الله فقال : قل لا إله إلا الله قال إنما أردت شيئاً تحصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع ومن فيهن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله".
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
البحث الرابع : في إعرابه قالوا كلمة لا ههنا دخلت على الماهية ، فانتفت الماهية ، وإذا انتفت الماهية انتفت كل أفراد الماهية. وأما الله فإنه اسم علم للذات المعينة إذ لو كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد ، فقالوا : لا استحقت عمل أن لمشابهتها لها من وجهين ، أحدهما : ملازمة الأسماء ، والآخر تناقضهما فإن أحدهما لتأكيد الثبوت والآخر لتأكيد النفي ، ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم ، إذا ثبت هذا فنقول لما قالوا : إن زيداً ذاهب كان يجب أن يقولوا لا رجلاً ذاهب إلا أنهم بنوا لا مع ما دخل عليه من الاسم المفرد على الفتح ، أما البناء فلشدة اتصال حرف النفي بما دخل عليه كأنهما صارا اسماً واحداً ، وأما الفتح فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توفيقاً بين الدليل الموجب للإعراب والدليل الموجب للبناء. الثاني : خبره محذوف والأصل لا إله في الوجود ولا حول ولا قوة لنا وهذا يدل على أن الوجود زائد على الماهية.
البحث الخامس : قال بعضهم تصور الثبوت مقدم على تصور السلب ، فإن السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره فكيف قدم ههنا السلب على الثبوت. وجوابه : أنه لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه. القسم الثاني : من الكلام في الآية البحث عن أسماء الله تعالى وفيه أبحاث :
(1/3019)
البحث الأول : قال عليه السلام : "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أيها الناس أنا جعلت لكم نسباً وأنتم جعلتم لأنفسكم نسباً ، أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي وأضع نسبكم ، أين المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"/ واعلم أن الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقاسم : كامل لا يحتمل النقصان ، وناقص لا يحتمل الكمال ، وثالث يقبل الأمرين ، أما الكامل الذي لا يحتمل النقصان فهو الله تعالى وذلك في حقه بالوجوب الذاتي وبعده الملائكة فإن من كمالهم أنهم : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} (التحريم : 6) ومن صفاتهم أنهم : {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} (الأنبياء : 26) ومن / صفاتهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا ، وأما الناقص الذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات والنبات والبهائم ، وأما الذي يقبل الأمرين جميعاً فهو الإنسان تارة يكون في الترقي بحيث يخبر عنه بأنه {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) وتارة في التسفل بحيث يقال : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ} (التين : 5) وإذا كان كذلك استحال أن يكون الإنسان كاملاً لذاته ، وما لا يكون كاملاً لذاته استحال أن يصير موصوفاً بالكمال إلى أن يصير منتسباً إلى الكامل لذاته. لكن الانتساب قسمان : قسم يعرض للزوال وقسم لا يكون يعرض للزوال. أما الذي يكون يعرض للزوال ، فلا فائدة فيه ومثاله الصحة والمال والجمال ، وأما الذي لا يكون يعرض للزوال فعبوديتك لله تعالى فإنه كما يمتنع زوال صفة الإلهية عنه يمتنع زوال صفة العبودية عنك فهذه النسبة لا تقبل الزوال ، والمنتسب إليه وهو الحق سبحانه لا يقبل الخروج عن صفة الكمال. ثم إذا كنت من بلد أو منتسباً إلى قبيلة فإنك لا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة والقبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضي فلأن تشتغل بذكر الله تعالى ونعوت كبريائه بسبب الانتساب الذاتي كان أولى فلهذا قال : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 180) وقال : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } .
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
البحث الثاني : في تقسيم أسماء الله تعالى. اعلم أن اسم كل شيء ، إما أن يكون واقعاً عليه بحسب ذاته أو بحسب أجزاء ذاته أو بحسب الأمور الخارجة عن ذاته. أما القسم الأول : فقد اختلفوا في أنه هل لله تعالى اسم على هذا الوجه وهذه المسألة مبنية على أن حقيقة الله تعالى هل هي معلومة للبشر أم لا ؟
فمن قال إنها غير معلومة للبشر قال : ليس لذاته المخصوصة اسم ، لأن المقصود من الاسم أن يشار به إلى المسمى وإذا كانت الذات المخصوصة غير معلومة امتنعت الإشارة العقلية إليها ، فامتنع وضع الاسم لها ، وقد تكلمنا في تحقيق ذلك في تفسير اسم الله ، وأما الاسم الواقع عليه بحسب أجزاء ذاته فذلك محال لأنه ليس لذاته شيء من الأجزاء لأن كل مركب ممكن وواجب الوجود لا يكون ممكناً فلا يكون مركباً ، وأما الاسم الواقع بحسب الصفات الخارجة عن ذاته ، فالصفات إما أن تكون ثبوتية حقيقية أو ثبوتية إضافية أو سلبية أو ثبوتية مع إضافية أو ثبوتية مع سلبية أو إضافية مع سلبية أو ثبوتية وإضافية وسلبية ولما كانت الإضافات الممكنة غير متناهية ، وكذا السلوب غير متناهية ، أمكن أن يكون للباري تعالى أسماء متباينة لا مترادفة غير متناهية. فهذا هو التنبيه على المأخذ.
البحث الثالث : يقال : إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ، ألف لا يعلمها إلا الله تعالى وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء. وأما الألف الرابع فإن المؤمنين يعلمونها فلثمائة منها في التوراة وثلثمائة في الإنجيل وثلثمائة في الزبور ومائة في الفرقان تسع وتسعون منها ظاهرة وواحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنة.
البحث الرابع : الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء ومدحاً ، كقوله جاعل / وفالق وخالق فإذا قيل : {فَالِقُ الاصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} (الأنعام : 96) صار مدحاً/ وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قرن بغيره صار أبلغ نحو قولنا : حي فإذا قيل الحي القيوم أو الحي الذي لا يموت كان أبلغ وأيضاً قولنا بديع فإنك إذا قلت بديع السموات والأرض ازداد المدح ، ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده كقولك : دليل. وكاشف فإذا قيل : يا دليل المتحيرين ، ويا كاشف الضر والبلوى جاز ، ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً أو مقروناً كقولنا الرحمن الرحيم.
البحث الخامس : من الأسماء ما يكون مقارنتها أحسن كقولك الأول الآخر المبدىء المعيد الظاهر الباطن ومثاله قوله تعالى في حكاية قول المسيح : {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَا وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة : 118) وبقية الأبحاث قد تقدمت في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
(1/3020)
البحث السادس : في النكت (أولها) رأى بشر الحافي كاغداً مكتوباً فيه : بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك وبلعه فرأى في النوم قائلاً يقول : يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة. وثانيها : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الأعراف : 180) وليس حسن الأسماء لذواتها لأنها ألفاظ وأصوات بل حسنها لحسن معانيها ثم ليس حسن أسماء الله حسناً يتعلق بالصورة والخلقة فإن ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلاً اسم الستار والغفار والرحيم إنا كانت حسناء لأنها دالة على معنى الإحسان ، وروى أن حكيماً ذهب إليه قبيح وحسن والتمسا الوصية فقال للحسن : أنت حسن والحسن لا يليق به الفعل القبيح ، وقال للآخر أنت قبيح والقبيح إذا فعل الفعل القبيح عظم قبحه. فنقول : إلهنا أسماؤك حسنة وصفاتك حسنة فلا تظهر لنا من تلك الأسماء الحسنة والصفات الحسنة إلا الإحسان ، إلهنا يكفينا قبح أفعالنا وسيرتنا فلا نضم إليه قبح العقاب ووحشة العذاب. وثالثها : قوله عليه السلام : "اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه" إلهنا حسن الوجه عرضى أما حسن الصفات والأسماء فذاتي فلا تردنا عن إحسانك خائبين خاسرين. رابعها : ذكر أن صياداً كان يصيد السمك فصاد سمكة وكان له ابنة فأخذتها ابنته فطرحتها الماء وقالت : إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها ، إلهنا تلك الصبية رحمت غفلة هاتيك السمكة وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس وأخرجتنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منها وألقنا في بحار رحمتك مرة أخرى. وخامسها : ذكرت من الأسماء خمسة في الفاتحة ، وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فذكرت الإلهية وهي إشارة إلى القهارية والعظمة فعلم أن الأرواح لا تطيق ذلك القهر والعلو فذكر بعده أربعة أسماء تدل على اللطف ، الرب وهو يدل على التربية والمعتاد أن من ربى أحداً فإنه لا يهمل أمره ثم ذكر الرحمن الرحيم وذلك هو النهاية في اللطف والرأفة ثم ختم الأمر بالملك والملك العظيم لا ينتقم من الضعيف العاجز ولأن عائشة قالت لعلي عليه السلام : "ملكت فأشجع فأنت أولى بأن تعفو عن هؤلاء الضعفاء". وسادسها : عن محمد بن كعب القرظي قال موسى عليه السلام : "إلهي أي خلقك أكرم عليك ؟
قال / الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري ، قال : فأي خلقك أعلم ؟
قال : الذي يلتمس إلى علمه علم غيره ، قال : فأي خلقك أعدل ؟
قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس ، قال : فأي خلقك أعظم جرماً ؟
قال : الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له". إلهنا إنا لا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا. وسابعها : قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ سيعلم الجمع من أولى بالكرم ، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟
فيقومون فيتخطون رقاب الناس ، ثم يقال : أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ؟
ثم ينادي منادٍ أين الحامدون لله على كل حال ؟
ثم تكون التبعة والحساب على من بقي إلهنا فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا ومنتهى طاقتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك. ومن أراد الاستقصاء في الأسماء والصفات فعليه بكتاب لوامع البينات في الأسماء والصفات وبالله التوفيق.
جزء : 22 رقم الصفحة : 15
19
اعلم أنه تعالى لما عظم حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه اتبع ذلك بما يقوي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله : {وَكُلا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِه فُؤَادَكَ } (هود : 120) وبدأ بموسى عليه السلام لأن المحنة والفتنة الحاصلة له كانت أعظم ليسلي قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم بذلك ويصبره على تحمل المكاره فقال : {وَهَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَهَلْ أَتَـاـاكَ} يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى عليه السلام فقال : {وَهَلْ أَتَـاـاكَ} أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له ، وهذا قول الكلبي. ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال : أليس قد أتاك ، وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس.
المسألة الثانية : قوله : {وَهَلْ أَتَـاـاكَ} وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله / تعالى لكن المقصود منه تقرير الجواب في قلبه ، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك كما يقول المرء لصاحبه هل بلغك خبر كذا ؟
فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمى إليه ، ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل النبي عليه السلام لا من قبل الله تعالى.
جزء : 22 رقم الصفحة : 19
(1/3021)
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {إِذْ رَءَا نَارًا} أي هل أتاك حديثه حين رأى ناراً قال المفسرون : استأذن موسى عليه السلام شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد حاد عن الطريق فقدح موسى عليه السلام النار فلم تور المقدحة شيئاً ، فبينا هو مزاولة ذلك إذ نظر ناراً من بعيد عن يسار الطريق. قال السدي : ظن أنها نار من نيران الرعاة وقال آخرون : إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في لفظ القرآن ما يدل على ذلك ، واختلفوا فقال بعضهم الذي رآه لم يكن ناراً بل تخيله ناراً والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء ، قيل : النارس أربعة أقسام : نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ، ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى : {جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا} (يس : 80) ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ، ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام وقيل أيضاً النار على أربعة أقسام : أحدها : نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام. وثانيها : حرقة بلا نور وهي نار جهنم. وثالثها : الحرقة والنور وهي نار الدنيا. ورابعها : لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار ، فلما أبصر النار توجه نحوها (فقال لأهله امثكثوا}. فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع ، وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم : . فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع ، وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم : {إِنِّى ءَانَسْتُ نَارًا} أي أبصرت/ والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين فإنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم وقيل هو أيضاً ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان منتفياً حقيقة لهم أتى بكلمة إني لتوطين أنفسهم ولما كان الإيناس بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال : {فَلَمَّا قَضَى } ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به. والنكتة فيه أن قوماً قالوا : كذب إبراهيم للمصلحة وهو محال لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز عن الكذب فلم يقل آتيكم ولكن قال لعلي آتيكم ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما :
جزء : 22 رقم الصفحة : 19
{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} والهدى ما يهتدى به وهو اسم مصدر فكأنه قال أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة ، ومعنى الاستعلاء على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها {فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا} أي أتى النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة / تغير ضوء النار فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً ، قال وهب : فظن موسى عليه السلام أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء. وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا موسى قال القاضي الذي يروى من أن الزند ما كان يورى فهذا جائز وأما الذين يروى من أن النار كانت تتأخر عنه فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممتنع إلا أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام وفي قوله : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } (طه : 13) دلالة على أن هذه الحالة أوحى الله إليه وجعله نبياً ، وعلى هذا الوجه يبعد ما ذكروه من تأخر النار عنه وبين فساد ذلك قوله تعالى : {فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا نُودِىَ يَـامُوسَى } وإن كانت تتأخر عنه حالاً بعد حال لما صح ذلك ولما بقي لفاء التعقيب فائدة قلنا : القاضي إنما بنى هذا الاعتراض على مذهبه في أن الإرهاص غير جائز وذلك عندنا باطل فبطل قوله وأما التمسك بفاء التعقيب فقريب لأن تخلل الزمان القليل فيما بين المجيء والنداء لا يقدح في فاء التعقيب.
المسألة الرابعة : قرأ أبو عمرو وابن كثير (أنى) بالفتح أي نودي بأني أنا ربك والباقون بالكسر أي نودي فقيل : يا موسى أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته.
(1/3022)
المسألة الخامسة : قال الأشعري إن الله تعالى أسمعه الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا صوت ، وأما المعتزلة فإنهم أنكروا وجود ذلك الكلام فقالوا : إنه سبحانه خلق ذلك النداء في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها لأن النداء كلام الله تعالى والله قادر عليه ومتى شاء فعله ، وأما أهل السنة من أهل ما وراء النهر فقد أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى عليه السلام صوت خلقه الله تعالى في الشجرة واحتجوا بالآية على أن المسموع هو الصوت المحدث قالوا : إنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار والمرتب على المحدث محدث فالنداء محدث.
جزء : 22 رقم الصفحة : 19
المسألة السادسة : اختلفوا في أن موسى عليه السلام كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا : يجوز أن يخلق الله تعالى له علماً ضرورياً بذلك ويجوز أن يعرفه بالمعجزة/ قالت المعتزلة : أما العلم الضروري فغير جائز لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوماً له بالضرورة لخرج موسى عن كونه مكلفاً لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف ، وبالإتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه. أولها : منهم من قال نعلم قطعاً أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو. وثانيها : يروى أن موسى عليه السلام لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة / وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى ؟
فقال : لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت ؟
قال : أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك. ثم إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال : ما يدريك أنك تسمع كلام الله ؟
فقال : لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي ، فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين. ومعنى إطلاقه هذه الجهات أنى أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذناً. وثالثها : لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزاً. ورابعها : أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن تلك الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه.
المسألة السابعة : قالوا : إن تكرير الضمير في {إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} كان لتوليد الدلالة وإزالة الشبهة.
جزء : 22 رقم الصفحة : 19
المسألة الثامنة : ذكروا في قوله : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } وجوهاً. أحدها : كانتا من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه : {إِذْ نَادَاـاهُ رَبُّه } وهذا قول علي عليه السلام وقول مقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي. والثاني : إنما أمر بخلعهما لينال قدميه بركة الوادي وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد. وثالثها : أن يحمل ذلك على تعظيم البقعة من أن يطأها إلا حافياً ليكون معظماً لها وخاضعاً عند سماع كلام ربه ، والدليل عليه أنه تعالى قال عقيبه : {إِذْ نَادَاـاهُ رَبُّه } وهذا يفيد التعليل فكأنه قال تعالى : اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى. وأما أهل الإشارة فقد ذكروا فيها وجوهاً : أحدها : أن النعل في النوم يفسر بالزوجة والولد فقوله : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } إشارة إلى أن لا يلفت خاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما. وثانيها : المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا يلتفت بخاطره إلى ما سوى الله تعالى والمراد من الوادي المقدس قدس جلال الله تعالى وطهارة عزته يعني أنك لما وصلت إلى بحر المعرفة فلا تلتفت إلى المخلوقات. وثالثها : أن الإنسان حال الاستدلال على الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث أو ممكن وكل ما كان كذلك فله مدبر ومؤثر وصانع وهاتان المقدمتان تشبهان النعلين لأن بهما يتوصل العقل إلى المقصود ويتنقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تينك المقدمتين لأن بقدر الاشتغال بالغير يبقى محروماً عن الاستغراق فيه فكأنه قيل له لا تكن مشتغل القلب والخاطر بتينك المقدمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى ولجة ألوهيته.
(1/3023)
المسألة التاسعة : استدلت المعتزلة بقوله : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } على أن كلام الله تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى اخلع نعليك يا موسى ومعلوم أن ذلك سفه فإن / الرجل في الدار الخالية إذا قال : يا زيد افعل ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين بعد ذلك جنوناً وسفهاً فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى وأجاب أصحابنا عنه من وجهين : الأول : أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً. والثاني : أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا ههنا وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق.
جزء : 22 رقم الصفحة : 19
المسألة العاشرة : ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة ، وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظوراً لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغاً فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام : "أيما إيهاب دبغ فقد طهر" وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلّم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : "ما لكم خلعتم نعالكم" قالوا : خلعت فخلعنا قال : "فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً" فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلّم الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر.
المسألة الحادية عشر : قرىء طوى بالضم والكسر منصرفاً وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ومن لم ينونه ترك صرفه لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسماً للبقعة.
المسألة الثانية عشرة : في طوى وجوه : الأول : أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد. والثاني : معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى عليه السلام نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى. والثالث : طوى أي طياً قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه مر بذلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال : طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدي والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 19
21
قرأ حمزة : (وإنا اخترناك) وقرأ أبي بن كعب : (وإني اخترتك) ههنا مسائل :
المسألة الأولى : معناه اخترتك للرسالة وللكلام الذي خصصتك به ، وهذه الآية تدل على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق لأن قوله : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} يدل على أن ذلك المنصب العلي إنما حصل لأن الله تعالى اختاره له ابتداء لا أنه استحقه على الله تعالى.
المسألة الثانية : قوله : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } فيه نهاية الهيبة والجلالة فكأنه قال : لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه فقوله : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} يفيد نهاية اللطف والرحمة وقوله : {فَاسْتَمِعْ} يفيد نهاية الهيبة فيحصل له من الأول نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف.
المسألة الثالثة : قوله : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى} يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضاً الفاء في قوله : {فَاعْبُدْنِى} تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن الله هو المستحق للعبادة.
(1/3024)
المسألة الرابعة : أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد ، أولاً ثم بالعبادة ثانياً ، أمره بالصلاة ثالثاً احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين : الأول : أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان. الثاني : أنه قال : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} ولم يبين كيفية الصلاة قال : القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيباً عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجهاً إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر. والجواب : أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى : {فَاعْبُدْنِى} وأيضاً فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله : {اتْلُ مَآ} على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة ، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة ، قوله : لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية.
جزء : 22 رقم الصفحة : 21
المسألة الخامسة : في قوله : {لِذِكْرِى } وجوه : أحدها : لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي. وثانيها : لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. وثالثها : لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها. ورابعها : لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق. وخامسها : لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. وسادسها : لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر. وسابعها : لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى : {لا تُلْهِيهِمْ تِجَـارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور : 37) / وثامنها : لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا} (النساء : 103). وتاسعها : {أَقِمِ الصَّلَواةَ} حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها. روى قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك" ثم قرأ : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين. أحدهما : أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه فدية من إطعام أو دم. وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام : "فليصلها إذا ذكرها" قلنا قوله : {لِذِكْرِى } معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي.
جزء : 22 رقم الصفحة : 21
(1/3025)
المسألة السادسة : لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال : لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه الله الآية والخبر والأثر والقياس ، أما الآية فقوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ} أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (الإسراء : 78) أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام : "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها" والفاء للتعقيب وأيضاً روى جابر بن عبد الله قال : "جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي صلى الله عليه وسلّم وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها وهذا الحديث مذكور في "الصحيحين" قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين : أحدهما : أنه عليه الصلاة والسلام قال : "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك. والثاني : إن فعل النبي صلى الله عليه وسلّم إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله تعالى : {وَأَنْ أَقِيمُوا } (النور : 56) ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : "من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام / يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام" وقد يروى هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، وأما القياس فهو أنهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه الله أنه روى في حديث أبي قتادة : "أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها" ولو كان وقت التذكر معيناً للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطاً لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعاً ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما فههنا أيضاً لو كان شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان.
جزء : 22 رقم الصفحة : 21
24
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا} (طه : 14) أتبعه بقوله : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله {لِذِكْرِى } أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ} لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال : {أَكَادُ أُخْفِيهَا} وفيه سؤالان :
(1/3026)
السؤال الأول : هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله : {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة : 71) أي وفعلوا ذلك فقوله : {أَكَادُ أُخْفِيهَا} يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين ، أحدهما : قوله : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34). والثاني : أن قوله : {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. والجواب : من وجوه ، أحدها : أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله : {أَكَادُ أُخْفِيهَا} معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله : {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. وثانيها : أن كاد من الله واجب فمعنى قوله : {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي أنا أخفيها / عن الخلق كقوله : {عَسَى ا أَن يَكُونَ قَرِيبًا} (الإسراء : 51) أي هو قريب قاله الحسن. وثالثها : قال أبو مسلم : {أَكَادُ} بمعنى أريد وهو كقوله : {كَذَالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } (يوسف : 76) ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله. ورابعها : معناه : {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود : {أَكَادُ أُخْفِيهَا} من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل ، ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه ، قال قطرب : هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون : إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله. وخامسها : {أَكَادُ} صلة في الكلام والمعنى : إن الساعة آتية أخفيها ، قال زيد الخيل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 24
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه. وسادسها : قال أبو الفتح الموصلي {أَكَادُ أُخْفِيهَا} تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه. وسابعها : قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله) {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (القمر : 1) قال امرؤ القيس :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
معنى هذاأي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها. وثامنها : أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء : {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } وهذا الوجه بعيد والله أعلم. السؤال الثاني : ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت ؟
الجواب : لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية ، وإنه لا يجوز. أما قوله : {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28).
المسألة الثانية : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله : {بِمَا تَسْعَى } يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي.
/ المسألة الثالثة : احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة أما قوله : {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لا يُؤْمِنُ بِهَا} فالصد المنع وههنا مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 24
(1/3027)
المسألة الأولى : في هذين الضميرين وجهان. أحدهما : قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه. وثانيهما : قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة. قال القاضي : وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.
المسألة الثانية : الخطاب في قوله : {فَلا يَصُدَّنَّكَ} يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلّم والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك وليس الأمر كما ظن ، لأنه إذا كان مكلفاً بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره ، ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله : {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم.
المسألة الثالثة : المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان ، أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب. والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله : لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته ، فكذا ههنا كأنه قيل : لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً صلباً.
المسألة الرابعة : الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله : {فَلا يَصُدَّنَّكَ} يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 24
المسألة الخامسة : قال القاضي قوله : {فَلا يَصُدَّنَّكَ} يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر ، والجواب : المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم ، أما قوله تعالى : {وَاتَّبَعَ هَوَا هُ} فالمعنى أن منكر / البعث إنما أنكره اتباعاً للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله : {فَتَرْدَى } فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار. واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا : المقام مقامان. أحدهما : مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى. والثاني : مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام اولا : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة : علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد ، فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } (طه : 14) وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا} (طه : 14) ثم في هذا أيضاً تعثر لأن قوله : {فَاعْبُدْنِى} إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله : {لِذِكْرِى } إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله : {إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} (طه : 12) واختتمها بمحض القهر وهو قوله : {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَا هُ فَتَرْدَى } تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف ، وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات.
جزء : 22 رقم الصفحة : 24
28
(1/3028)
اعلم أن قوله : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} لفظتان ، فقوله : {وَمَا تِلْكَ} إشارة إلى العصا ، وقوله : {بِيَمِينِكَ} إشارة إلى اليد ، وفي هذا نكت ، إحداها : أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزاً قاهراً وبرهاناً باهراً ، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة ، فإذا صار / الجماد بالنظر الواحد حيواناً ، وصار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ، ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد ، فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة. وثانيها : أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعباناً يبتلع سحر السحرة ، فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. وثالثها : كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعباناً وبرهاناً ، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة ، فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية ، ثم ههنا سؤالات : الأول : قوله : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } سؤال ، والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه. والجواب فيه فوائد : إحداها : أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئاً شريفاً فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم : هذا ما هو ؟
فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا. فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية ، وكضربه البحر حتى انفلق ، وفي الحجر حتى انفجر منه الماء ، عرضه أولاً على موسى فكأنه قال له : يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع ، ثم إنه قلبه ثعباناً عظيماً ، فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } . وثانيها : أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ، ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولاً بقوله : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم ، تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا ، أو لأنه لما تكلم معه أولاً بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة ، والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد ، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. وثالثها : أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية ، فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر/ تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها. ورابعها : فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. السؤال الثاني : قوله : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة ، ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلّم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد. الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمداً عليه السلام في قوله : {فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى } (النجم : 10) إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق ، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلّم كان سراً لم يستأهل له أحد من الخلق. والثاني : إن كان موسى تكلم معه وهو (تكلم) مع موسى فأمة محمد صلى الله عليه وسلّم يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال صلى الله عليه وسلّم : "المصلي يناجي ربه" والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
(1/3029)
{سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58). السؤال الثالث : ما إعراب قوله : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } الجواب ، قال صاحب "الكشاف" : (تلك بيمينك) كقوله : {وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } (هود : 72) في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسماً موصولاً وصلته {بِيَمِينِكَ} قال الزجاج : معناه وما التي بيمينك ، قال الفراء : معناه ما هذه التي في يمينك ، واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء ، ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال. الأول : قوله : {هِىَ عَصَاىَ} قرأ ابن أبي إسحق : (هي عصي) ومثلها : (يا بشرى) قرأ الحسن (هي عصاي) بسكون الياء والنكث ههنا ثلاثة. إحداها : أنه قال : {هِىَ عَصَاىَ} فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولاً بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقاً في بحر معرفة الحق ولكن محمداً صلى الله عليه وسلّم عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء : {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } (النجم : 17) ولما قيل له امدحنا ، قال : "لا أحصي ثناء عليك" ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال : "أنت كما أثنيت على نفسك". وثانيها : لما قال : {عَصَاىَ} قال الله سبحانه وتعالى : {أَلْقِهَا} ، فلما ألقاها {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى } ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك. ولهذا قال الخليل عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} وفي الحديث : "يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتي بذلك المال على صورة شجاع أقرع" الحديث بتمامه. وثالثها : أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب ، إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. الثاني : قوله : {قَالَ هِىَ} والتوكي ، والإتكاء ، واحد كالتوقي ، والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئاً على العصا وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم : "اتكىء على رحمتي" بقوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
(1/3030)
{حَكِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال : 64) وقال : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة : 67) فإن قيل : أليس قوله : {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين ؟
قلنا قوله : {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} معطوف على الكاف في قوله : {حَسْبَكَ اللَّه } والمعنى الله حسبك ، وحسب من اتبعك من المؤمنين. الثالث : قوله : {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى} أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله. وقال أهل / اللغة : هش على غنمه ، يهش بضم الهاء في المستقبل ، وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل ، وهش الرغيف يهش بكسر الهاء. قاله ثعلب ، وقرأ عكرمة : (وأهس) بالسين غير المنقوطة ، والهش زجر الغنم ، واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله : {قَالَ هِىَ} ثم بمصالح رعيته في قوله : {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى} فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول : نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلّم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال : 33). "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمته فيقول : "أمتي أمتي". والرابع : قوله : {وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى } أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها ، وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً ، والأرب بفتح الراء ، والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة ، وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال : جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صواباً كما قال : {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (البقرة : 184) ثم ههنا نكت. إحداها : أنه لما سمع قول الله تعالى : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} عرف أن لله فيه أسراراً عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالاً لا تفصيلاً بقوله : {وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى } . وثانيها : أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة. فقال موسى : إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ، لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها. وثالثها : أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ورابعها : أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى ، ثم قال وهب : كانت ذات شعبتين كالمحجن ، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ، (و)إذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب ، وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلاً. وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويصيران شمعتين في الليالي ، وإذا ظهر عدو حاربت عنه. وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت. وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام. واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذه الجوابات أمره الله تعالى بإلقاء العصا فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
(1/3031)
{أَلْقِهَا يَـامُوسَى } وفيه نكت ، إحداها : أنه عليه السلام لما قال : {وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى } أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال : {قَالَ أَلْقِهَا يَـامُوسَى * فَأَلْقَـاـاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى } . وثانيتها : كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا ، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولاً : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } (طه : 12) إشارة إلى ترك الهرب ، ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب. كأنه سبحانه قال : إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك / وطالباً لحظك فلا تكون خالصاً لمعرفتي فكن تاركاً للهرب والطلب لتكون خالصاً لي. وثالثتها : أن موسى عليه السلام مع علو درجته/ وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابة. ورابعتها : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان مجرداً عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل ، لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا ، واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال : القدرة على إلقاء العصا ، إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا : {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (آل عمران : 182) وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال ، أما قوله : {فَأَلْقَـاـاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى } ففيه أسئلة : السؤال الأول : ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت ؟
الجواب فيه وجوه : أحدها : أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء ، والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلاً قاهراً والعجب أن موسى عليه السلام قال : أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له. وثانيها : أن النداء كان إكراماً له فقلب العصا حية مزيداً في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سبباً لزوال الوحشة عن قلبه. وثالثها : أنه عرض عليه ليشاهده أولاً فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه. ورابعها : أنه كان راعياً فقيراً ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيهاً على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين. وخامسها : أنه لما قال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
{قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا } إلى قوله : {وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ أُخْرَى } فقيل له : {أَلْقِهَا} فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له : ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها ، تنبيهاً على سر قوله : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه } (الذاريات : 50) وقوله ؛ {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91). السؤال الثاني : قال ههنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان ، أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ، وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان : أحدهما : أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها. والثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان ، والدليل عليه قوله تعالى : {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} . السؤال الثالث : كيف كانت صفة الحية. الجواب كان لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها ، أما قوله تعالى : {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى } ففيه سؤالات : السؤال الأول : لما نودي موسى / وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه معبوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف. والجواب من وجوه : أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط. وأيضاً فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول. وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه. قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة. وثانيها : قال بعضهم : خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها. وثالثها : أن مجرد قوله : {لا تَخَفْ} لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى : {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ} (الأحزاب : 1) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله : {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا} (
(1/3032)
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
النمل : 10) يدل عليه ، ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلّم فإنه عليه السلام أظهر تعلق القلب بالعصا والنفرة عن الثعبان ، وأما محمد عليه السلام فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار. السؤال الثاني : متى أخذها ، بعد انقلابها عصا أو قبل ذلك. والجواب : روي أنه أدخل يده بين أسنانها فانقلبت خشبة والقرآن يدل عليه أيضاً بقوله : {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى } وذلك يقع في الاستقبال ، وأيضاً فهذا أقرب للكرامة لأنه كما أن انقلاب العصا حية معجزة فكذلك إدخال يده في فمها من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر فيكون فيه توالي المعجزات فيكون أقوى في الدلالة. السؤال الثالث : كيف أخذه ، أمع الخوف أو بدونه. والجواب : روي مع الخوف ولكنه بعيد ، لأن بعد توالي الدلائل يبعد ذلك. وإذا علم موسى عليه السلام أنه تعالى عند الأخذ سيعيدها سيرتها الأولى فكيف يستمر خوفه ، وقد علم صدق هذا القول وقال بعضهم لما قال له ربه : {لا تَخَفْ} بلغ من ذلك ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه إلى أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. السؤال الرابع : ما معنى سيرتها الأولى ، والجواب : قال صاحب "الكشاف" : السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال : سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة. السؤال الخامس : علام انتصب سيرتها ، الجواب فيه وجهان : أحدهما : بنزع الخافض يعني إلى سيرتها. وثانيهما : أن يكون سنعيدها مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها كانت أولاً عصا فصارت حية فسنجعلها عصا كما كانت فنصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى يعني سنيعدها سائرة بسيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها.
جزء : 22 رقم الصفحة : 28
29
/ اعلم أن هذا هو المعجزة الثانية وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال لك ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنه يجنحهما عند الطيران ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلى جناحك إلى صدرك والأول أولى لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر لأنه قال : {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله : {تَخْرُجْ} معنى واعلم أن معنى ضم اليد إلى الجناح ما قال في آية أخرى : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} (النمل : 12) لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان قد ضم يده إلى جناحه والله أعلم.
المسألة الثانية : السوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة والبرص أبغض شيء إلى العرب فكان جديراً بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها كانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير برص ثم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور.
المسألة الثالثة : بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء من صلة البيضاء كما تقول ابيضت من غير سوء وفي نصب آية وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام ، وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك ، فإن قيل الكبرى من نعت الآيات فلم لم يقل الكبر ؟
قلنا : بل هي نعت الآية والمعنى لنريك الآية الكبرى ولئن سلمنا ذلك فهو كما قدمنا في قوله : {قَالَ هِىَ} (طه : 18) ، و{الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (طه : 8).
المسألة الرابعة : قال الحسن : اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه تعالى : ذكر {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى} عقيب ذكر اليد وهذا ضعيف لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون ، وأما العصا ففيه تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ، ثم عاد عصا بعد ذلك. فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم ، وأما قوله : {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى} فقد بينا أنه عائد إلى الكل وأنه غير مختص باليد.
جزء : 22 رقم الصفحة : 29
(1/3033)
المسألة الخامسة : أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى ، وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعاً فكان ذكره أولى. قال وهب : قال الله تعالى لموسى عليه السلام : "اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط / من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي : وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ، لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي ، في كلام طويل ، قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده".
جزء : 22 رقم الصفحة : 29
46
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية ، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء.
المطلوب الأول : قوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله : {وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِى} (الشعراء : 13) فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة ، وقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي ، وقيل : شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور. أحدها : فائدة الدعاء وشرائطه. وثانيها : ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب. وثالثها : ما معنى شرح الصدر. ورابعها : بماذا يكون شرح الصدر. وخامسها : كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلّم. وسادسها : صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً ، فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال ، وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين. الأول : أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل ، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } (طه : 13) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } (طه : 17) ثم أظهر له المعجزات / العظيمة والكرامات الجسيمة ، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل ، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر. والثاني : أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام : "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء ؟
فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية.
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3034)
أما البحث الأول : وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله : {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } (البقرة : 286) إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول : اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملاً في ذاته مكملاً لغيره ، أما كونه كاملاً في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته ، وكل ما كان كذلك كان كاملاً في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملاً في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملاً وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال ، فإنه لو كان حاصلاً في الأزل لاستحال التأثير فيه ، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه ، وإن كان كاملاً في الأزل إلا أنه يصير مكملاً فيما لا يزال ، فإن قيل : إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملاً في الأزل فقد كان عارياً عن صفات الكمال فيكون ناقصاً وهو محال/ قلنا : النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكناً في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصاناً ، كما أن قولنا : إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصاناً لأنه غير ممكن الوجود في نفسه ، وكقولنا : إنه لا يعلم عدداً مفصلاً كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه ، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل ، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم ، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. إذا ثبت هذا فنقول : إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب. أحدها : أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في الوجود. وثانيها : أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادراً على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال ، فكان ذلك وإن كان كمالاً للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز. وثالثها : أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان ، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان : أحدهما : أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي / إلى غير المتناهي ، فتكون أيضاً الضيافة ضيافة للأقل ، وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له ، وهذا لا يكون وجوداً. الثاني : أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل ؟
وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثاً وهو محال كما قيل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
(1/3035)
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين. والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا ، وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } (الأعراف : 156) ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات ، ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود ، وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي ، فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض ، فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض. والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم ، فعدن ذلك صار بعض الموجودات حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر ، فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك : يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك ، لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ، ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى/ فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود. فقال القادرون عند ذلك : إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال ، وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك : "بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب" حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور / البصيرة وجوهر الهداية فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة ، الوجود والحياة والقدرة والعقل ، فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا صلى الله عليه وسلّم لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها ، ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان ، وكما أن الكواكب المركوزة في السموات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وأضوائها. فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم ، وبتلك النقوش على ناقش. وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء ، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيراً فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار ، فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3036)
{رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة ، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت ، وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات. فهذا هو المراد من قوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} ثم قال : {وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له ، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} وعبر عن حصول الفاعل بقوله : {وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته ، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون : يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها. ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته. ويمكن أن يقال أيضاً : كأن موسى عليه السلام قال : إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال : {وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في / مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة. فقال موسى عليه السلام : ما تلك الخدمات ؟
فقال : وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعاً أربعة من الخدمة ، القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة ، ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى : يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري. الفصل الثاني : في قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلباً للقرب فتفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء ، أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه. الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية ، أما الأصولية فأولها في البقرة : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (البقرة : 189). وثانيها : في بني إسرائيل {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} . وثالثها : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} (طه : 105). ورابعها : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا} (النازعات : 42) وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي. أحدها : {يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَا قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ} (البقرة : 215) وثانيها : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } (البقرة : 217). وثالثها : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} (البقرة : 219). ورابعها : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ} (البقرة : 219). وخامسها : {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ} (البقرة : 220). وسادسها : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِا قُلْ هُوَ أَذًى} (البقرة : 222). وسابعها : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِا قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } (الأنفال : 1). وثامنها : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِا قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} (الكهف : 83). وتاسعها : {وَيَسْتَنابِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَا قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّه لَحَقٌّ } (يونس : 53). وعاشرها :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3037)
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ } (النساء : 176). والحادية عشر : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186) إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة ، فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب ، وهو قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } (الأعراف : 187) وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول : أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وكالتشريف المحدد في كونه مخاطباً من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ. وأما الصورة الثانية وهي قوله : {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} (طه : 105) فالسبب أن قولهم : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (طه : 105) سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يجيب بلفظ / الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة ، ثم كيفية الجواب أنه قال : {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكناً في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف ، فإن قيل : إنهم قالوا : أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء. وأما الصورة الثالثة : فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها. وأما الصورة الرابعة : وهي قوله : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه. أحدها : أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال : يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات. قال لرسوله صلى الله عليه وسلّم : اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ} (المائدة : 27). {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} (الأعراف : 175). {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مُوسَى ا } (مريم : 51) ، {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِسْمَـاعِيلَ } (مريم : 54). {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِدْرِيسَ } (مريم : 56). {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} (الحجر : 51) ، ثم قال في قصة يوسف : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف : 3) وفي أصحاب الكهف : {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } (الكهف : 13). وما ذاك إلالما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب ، والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال : يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب ، وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل. وثانيها : أن قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} يدل على أن العبد له (أن يسأل) وقوله : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } يدل على أن الرب قريب من العبد. وثالثها : لم يقل فالعبد مني قريب ، بل قال أنا منه قريب ، وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو ، هو في مركز العدم وحضيض الفناء ، فكيف يكون قريباً ، بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجوداً وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } .
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3038)
ورابعها : أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعياً لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقاً بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال : فقل إني قريب بل قال : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا / جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . والوجه الثاني : في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام : "الدعاء مخ العبادة" ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام (العبادة) لأن قوله : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (طه : 14) إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله : {فَاعْبُدْنِى} (طه : 14) فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . والوجه الثالث : وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌا أُجِيبُ} (البقرة : 186). {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60). {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } (الأعراف : 56). {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأعراف : 55). {هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (غافر : 65). {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } (الإسراء : 110). {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف : 205) وقال صلى الله عليه وسلّم : "ادعوا بياذا الجلال والإكرام" فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال : الدعاء على خلاف العقل من وجوه : أحدها : أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور ، فأي حاجة بنا إلى الدعاء. وثانيها : أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وثالثها : الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب. ورابعها : المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه. وخامسها : فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى. وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب. وسادسها : قال عليه السلام رواية عن الله تعالى : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء. وسابعها : أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله : "حسبي من سؤالي علمه بحالي" استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء. والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الأعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات. وعن الثاني : أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وعن الثالث : أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك. وعن الرابع : يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء. وعن الخامس : أنه إذا دعا إظهاراً للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات ، ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمراً ورد مجملاً لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء. الوجه الرابع : في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3039)
{فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 43) وقال عليه السلام : "لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت" ولكن يجزم فيقول : اللهم اغفر لي فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري. الوجه الخامس : في فضل الدعاء قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلاً عظيماً فقال في حقهم : {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} (البقرة : 47) وقال أيضاً : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِه يَـاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ} (المائدة : 20) ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام : {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ } (البقرة : 68) وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم : {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} (آل عمران : 52) سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطباً لهم من غير واسطة : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقال : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه } (النساء : 32) فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال : "اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم" فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} واعلم أنه تعالى قال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186) ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام : أحدها : عبد العصمة : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ} (الحجر : 42) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد العصمة : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} (طه : 41) فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وثانيها : عبد الصفوة : {وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ا } (
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
النمل : 59) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد الصفوة : {قَالَ يَـامُوسَى ا إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـالَـاتِي وَبِكَلَـامِي} (الأعراف : 144) فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وثالثها : عبد البشارة : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا أولئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّه وَ أولئك هُمْ} (الزمر : 17 ، 18) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } (طه : 13) فأراد مزيد البشارة فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . ورابعها : عبد الكرامة : {الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} (الزخرف : 68) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك : {لا تَخَافَآا إِنَّنِى مَعَكُمَآ} (طه : 46) فأراد الزيادة عليها فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وخامسها : عبد المغفرة : {نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر : 49) ، وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك : {رَبِّ اغْفِرْ لِى} (ص : 35) فغفر له فأراد الزيادة فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وسادسها : عبد الخدمة : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (البقرة : 21) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} فطلب الزيادة فيها فقال : {اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وسابعها : عبد القربة : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌا أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (البقرة : 186) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بالقرب : {وَنَـادَيْنَـاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} (مريم : 52) فأراد كمال القرب فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} .
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3040)
الفصل الثالث : في قوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} وفيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة (التي) أحدها : معرفة التوحيد : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } (طه : 14) ، وثانيها : أمره بالعبادة والصلاة : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا} (طه : 14) ، وثالثها : معرفة الآخرة : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ} (طه : 15) / ورابعها : حكمة أفعاله في الدنيا : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } (طه : 17) ، وخامسها : عرض المعجزات الباهرة عليه : {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى} (طه : 23) ، وسادسها : إرساله إلى أعظم الناس كفراً وعتواً فكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأموناً من غوائل شياطين الجن والإنس. وثانيها : أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وثالثها : الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالساً في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحداً في الوجود فلهذا عقبه بقوله : {وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات. ورابعها : رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو ، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلّم : "أرنا الأشياء كما هي" واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلا فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلّم قيل له : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) والعلم هو المقصود ، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم لا جرم أعطى المقدمة ، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء. وسادسها : الداعي له صفتان : إحداهما : أن يكون عبداً للرب : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186). وثانيتهما : أن يكون الرب له : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملاً من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وسابعها : أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله : {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} (مريم : 52) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت : {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} صرت قريباً منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريباً منك فعند ذلك : {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وثامنها : قال موسى عليه السلام : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح : 1) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال : {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (الأحزاب : 46) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر / قابلاً للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلّم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور ، والوضوء نور ، والصلاة نور ، والقبر نور ، والجنة نور ، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة. الفصل الرابع : في قوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر فقال : نور يقذف في القلب ، فقيل : وما أمارته فقال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول ، ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3041)
{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه } (الزمر : 22) واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور ، أحدها : وصف ذاته بالنور : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (النور : 35). وثانيها : الرسول : {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ} (المائدة : 15). وثالثها : القرآن : {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَه ا } (الأعراف : 157). ورابعها : الإيمان : {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة : 32). وخامسها : عدل الله : {وَأَشْرَقَتِ الارْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (الزمر : 69). وسادسها : ضياء القمر : {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (نوح : 16) ، وسابعها : النهار : {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1). وثامنها : البينات : {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } (المائدة : 44). وتاسعها : الأنبياء : {نُّورٌ عَلَى نُورٍ } (النور : 35). وعاشرها : المعرفة : {مَثَلُ نُورِه كَمِشْكَـاوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } (النور : 35) إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك. وثانيها : رب اشرح لي صدري ، بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثها : رب اشرح لي صدري ، باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعها : رب اشرح لي صدري ، بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسها : رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسها : رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة. وسابعها : رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنها : رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك. وتاسعها : رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبهاً بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين. وعاشرها : رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح ، واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار ، ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجاً احتاج إلى سبعة أشياء : زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة. فأولها : لا بد من زند المجاهدة :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (العنكبوت : 69). وثانيها : حجر التضرع : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأعراف : 55). وثالثها : حراق منع الهوى : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } (النازعات : 40). ورابعها : كبريت الإنابة : {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} الزمر : 54) ملطخاً رؤوس تلك / الخشبات بكبريت توبوا إلى الله. وخامسها : مسرجة الصبر : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 45). وسادسها : فتيلة الشكر : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } (إبراهيم : 7). وسابعها : دهن الرضا : {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} (الطور : 48) أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته : {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } (فاطر : 2) ثم اطلبها بالخشوع والخضوع : {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} (طه : 108) فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} فهنالك تسمع ؛ {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } (طه : 36) ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه : أحدها : الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10). وثانيها : الشمس تغيب ليلاً وتعود نهاراً قال إبراهيم عليه السلام : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلاً : {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ} (المزمل : 6) {وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} (آل عمران : 17) بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} (الإسراء : 1). وثالثها : الشمس تفنى : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3042)
التكوير : 1) وشمس المعرفة لا تفنى : {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58). ورابعها : الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح. وخامسها : الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } (آل عمران : 106). وسادسها : الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق ، جزياً مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي. وسابعها : الشمس تصدع والمعرفة تصعد : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10). وثامنها : الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى : {وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ} (الكهف : 46). وتاسعها : الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء. وعاشرها : الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى وذلك يدل على الحسد مع التكبر ، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى ، وذلك يدل على التواضع مع الشرف. وحادي عشرها : الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق. وثاني عشرها : الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} وأما النكت : فإحداها : الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن : 26) والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق : {شِهَابًا رَّصَدًا} (الجن : 9) والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وثانيتها : استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك ، وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك. وثالثتها : من استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ} (الحجرات : 7) أفلا يمده وهو معنى قوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} .
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
ورابعتها : اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في / قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . وخامستها : المجوس أوقدوا ناراً فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه ، واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات ، أحدها : الحياة : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضاً ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضاً فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب : {قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام : 91) وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته : {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍا وَمَا يَشْعُرُونَ} (النحل : 21). وثانيها : الشفاء : {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (التوبة : 14) فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبداً فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبداً. وثالثها : الطهارة : { أولئك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } (الحجرات : 3) فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانياً ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (الأنفال : 37). ورابعها : الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد صلى الله عليه وسلّم لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل : {إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } (
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3043)
القصص : 56) وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل : {يُضِلُّ بِه كَثِيرًا وَيَهْدِي بِه كَثِيرًا } (البقرة : 26) أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول : {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يونس : 25). وخامسها : الكتابة : { أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} وفيه نكت : الأولى : أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه. الثانية : بشر الحافي أكرم كاغداً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك. والثالثة : كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعي رحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف ، وقال الله تعالى : {لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة : 79) فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم. وسادسها : السكينة : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} (الفتح : 4) فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان خائفاً فلما نزلت السكينة عليه قال : لا تحزن فلما نزلت سكينة / الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب : {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } (فصلت : 30) وأيضاً لما نزلت السكينة صار من الخلفاء : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ} (النور : 55) أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه. وسابعها : المحبة والزينة : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} (
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
(1/3044)
الحجرات : 7) والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها. وثامنها : {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (الأنفال : 63) والنكتة أن محمداً صلى الله عليه وسلّم ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم (في) غيبة ولا حضور : "سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فالرحيم كيف يتركهم. وتاسعها : الطمأنينة : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وموسى طلب الطمأنينة فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلاً لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه : أحدها : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. وثانيها : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم. وثالثها : في قلوبهم مرض. ورابعها : جعلنا قلوبهم قاسية. وخامسها : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. وسادسها : ختم الله على قلوبهم. وسابعها : أم على قلوب أقفالها. وثامنها : كلا بل ران على قلوبهم. وتاسعها : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم. إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير. الفصل الخامس : في حقيقة شرح الصدر ، ذكر العلماء فيه وجهين : الأول : أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم ، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته ، فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها ، فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى ، فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوفقه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفوراً عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية. الثاني : أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر ، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير / ممنوعاً عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعاً عن الإبصار والخيال ، فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجاً إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالاً من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر. وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة. المثال الأول : اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبداً والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة ، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام : "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام : "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه" ولهذا خلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين ، وقلبك وصدرك هو القلعة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان
(1/3045)
الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} . المثال الثاني : اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } (القصص : 88) فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول / الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر.
الفصل السادس : في الصدر علم أنه يجيء والمراد منه القلب : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} (الزمر : 22) ، {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} ، {وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} (العاديات : 10) ، {يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} (غافر : 19) وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46) واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب ، وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) وقال بعضهم المواد أربعة : الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ} (الزمر : 22) والقلب مقر الإيمان : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات : 7) والفؤاد مقر المعرفة : {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } (النجم : 11) ، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا} (الإسراء : 36) واللب مقر التوحيد : {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ} (الرعد : 19) واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خالياً عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ ، ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة ، ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى ، فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات ، وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات ، ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له ، فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعاً لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة ، وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة ، وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال ، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب ، ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر ، كان الإحتراق أتم فقال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى / مقام الاحتراق بأنوار الجلال ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : "أرنا الأشياء كما هي" فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال : "لا أحصى ثناء عليك".
(1/3046)
الفصل السابع : في بقية الأبحاث إنما قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله ، وأما كيفية شرح صدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح : 1) والله أعلم بالصواب.
المطلوب الثاني : قوله : {وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} والمراد منه عند أهل السنة خلقها وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة ، فإن قيل : كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال ، قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف.
المطلوب الثالث : قوله : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه. أحدها : قوله تعالى : {خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن : 3 ، 4) ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له ، أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} كالتفسير لقوله : {خَلَقَ الانسَـانَ} كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان ، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. وثانيها : اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان ، قال زهير :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
(1/3047)
وقال علي : ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم ، وقالوا : المرء بأصغريه قلبه ولسانه. وقال صلى الله عليه وسلّم : "المرء مخبوء تحت لسانه". وثالثها : أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال : {قَالَ يَـا اَادَمُ أَنابِئْهُم بِأَسْمَآئِهِم فَلَمَّآ أَنابَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (البقرة : 33). ورابعها : أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبداً صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل : "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الإعضاء فقوله : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح ، وقوله : {وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل ، وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون / إلا باللسان. فلهذا قال : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى} . وخامسها : وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت والجود والإعطاء أفضل الطاعات ، وليس في الأعضاء أفضل من اليد ، فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل : "اليد العليا خير من اليد السفلى" فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء ، ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف فوجب أن يكون أشرف الأعضاء ، ومن الناس من مدح الصمت لوجوه ، أحدها : قوله عليه السلام : "الصمت حكمة وقليل فاعله" ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا. وثانيها : أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح ، ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع ، أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك ، والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب ، فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر ، فالأولى ترك الكلام. وثالثها : أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي ، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل ، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء ، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان ، والصور والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف ، واليد لا تصل إلى غير الأجسام ، وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب ، وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام. ورابعها : قالوا : ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة ، فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال : مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والانصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
{فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } (الأعراف : 204) والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى} .
المسألة الثانية : اختلفوا في تلك العقدة التي كانت في لسان موسى عليه السلام على قولين ، الأول : كان ذلك التعقد خلقة الله تعالى فسأل الله تعالى إزالته. الثاني : السبب فيه أنه عليه السلام حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب منه التمرة والجمرة فقربا إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة / واللسان آلة الذكر فكيف يحترق ولأن إبراهيم عليه السلام لم يحترق بنار نمروذ وموسى عليه السلام لم يحترق حين ألقى في التنور فكيف يحترق هنا ؟
ومنهم من قال : احترقت اليد دون اللسان لئلا يحصل حق المواكلة والممالحة. الثالث : احترق اللسان دون اليد لأن الصولة ظهرت باليد أما اللسان فقد خاطبه بقوله يا أبت. والرابع : احترقا معاً لئلا تحصل المواكلة والمخاطبة.
(1/3048)
المسألة الثالثة : اختلفوا في أنه عليه السلام لم طلب حل تلك العقدة على وجوه. أحدها : لئلا يقع في أداء الرسالة خلل ألبتة. وثانيها : لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الإستخفاف بقائلها وعدم الالتفات إليه. وثالثها : إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه. ورابعها : طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جداً فإذا انضم إليه تعقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية ، فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفاً وتسهيلاً.
المسألة الرابعة : قال الحسن رحمه الله : إن تلك العقدة زالت بالكلية بدليل قوله تعالى : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } (طه : 36) وهو ضعيف لأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقدة من لساني بل قال : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى} فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله ، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء قليل لقوله : حكاية عن فرعون {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف : 52) أي يقارب أن لا يبين وفي ذلك دلالة على أنه كان يبين مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه من وجهين. أحدهما : المراد بقوله : ولا يكاد يبين أي لا يأتي ببيان ولا حجة. والثاني : إن كاد بمعنى قرب ولو كان المراد هو البيان اللساني لكان معناه أنه لا يقارب البيان فكان فيه نفي البيان بالكلية وذلك باطل لأنه خاطب فرعون والجمع وكانوا يفقهون كلامه فكيف يمكن نفي البيان أصلاً بل إنما قال ذلك تمويهاً ليصرف الوجوه عنه قال أهل الإشارة إنما قال : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى} لأن حل العقد كلها نصيب محمد صلى الله عليه وسلّم وقال تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (الأنعام : 152) فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
المطلوب الرابع : قوله : {وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى} واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله ولذلك قال عيسى ابن مريم : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} (آل عمران : 52) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال : 64) وقال عليه السلام : "إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين ، فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر" وههنا مسائل :
المسألة الأولى : الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه أو من الوزر / وهو الجبل الذي يتحصن به لأن الملك يعتصم برأيه في رعيته ويفوض إليه أموره أو من الموازرة وهي المعاونة ، والموازرة مأخوذة من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل أمر صعب قاله الأصمعي وكان القياس أزيراً فقلبت الهمزة إلى الواو.
المسألة الثانية : قال عليه السلام : "إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شراً كفه" وكان أنوشروان يقول : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ، ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير.
المسألة الثالثة : إن قيل الإستعانة بالوزير إنما يحتاج إليها الملوك أما الرسول المكلف بتبليغ الرسالة والوحي من الله تعالى إلى قوم على التعيين فمن أين ينفعه الوزير ؟
وأيضاً فإنه عليه السلام سأل ربه أن يجعله شريكاً له في النبوة فقال : {وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى} فكيف يكون وزيراً. والجواب : عن الأول أن التعاون على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة له مزية عظيمة في تأثير الدعاء إلى الله تعالى فكان موسى عليه السلام واثقاً بأخيه هرون فسأل ربه أن يشد به أزره حتى يتحمل عنه ما يمكن من الثقل في الإبلاغ.
المطلوب الخامس : أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه.
(1/3049)
المطلوب السادس : أن يكون الوزير الذي من أهله هو أخوه هرون وإنما سأل ذلك لوجهين. أحدهما : أن التعاون على الدين منقبة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله ، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه والموافقة له ، وقوله هرون في انتصابه وجهان. أحدهما : أنه مفعول الجعل على تقدير اجعل هرون أخي وزيراً لي. والثاني : على البدل من وزيراً وأخي نعت لهرون أو بدل ، واعلم أن هرون عليه السلام كان مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقوله تعالى عن موسى : {وَأَخِى هَـارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا} (القصص : 34) ومنها أنه كان فيه رفق قال : {أَمْرِى * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } (طه : 94) ومنها أنه كان أكبر سناً منه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
المطلوب السابع : قوله : أشدد به أزري وفيه مسائل :
المسألة الأولى : القراءة العامة : {اشْدُدْ بِه أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ} على الدعاء وقرأ ابن عامر وحده : {اشْدُدْ بِه أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ} على الجزاء والجواب ، حكاية عن موسى عليه السلام أي أنا أفعل ذلك ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل {أَخِى} مرفوعاً على الابتداء {اشْدُدْ بِه أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ} خبره ويوقف على هرون.
المسألة الثانية : الأزر القوة وآزره قواه قال تعالى : {فَـاَازَرَه } أي أعانه قال أبو عبيدة {أَزْرِى} أي ظهري وفي كتاب الخليل : الأزر الظهر.
المسألة الثالثة : أنه عليه السلام لما طلب من الله تعالى أن جعل هرون وزيراً له طلب منه أن يشد به أزره ويجعله ناصراً له لأنه لا اعتماد على القرابة.
/ المطلوب الثامن : قوله : {وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى} والأمر ههنا النبوة ، وإنما قال ذلك لأنه عليه السلام علم أنه يشد به عضده وهو أكبر منه سناً وأفصح منه لساناً ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال : {كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد ، وعلى كلا التقديرين فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به ، وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات ، أما قوله تعالى : {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} ففيه وجوه : أحدها : إنك عالم بأنا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك ولا نريد بها أحداً سواك. وثانيها : {كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} لأن هذه الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليها. وثالثها : إنك بصير بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو أصلح لنا ، وإنما قيد الدعاء بهذا إجلالاً لربه عن أن يتحكم عليه وتفويضاً للأمر بالكلية إليه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 46
53
/ اعلم أن السؤال هو الطلب فعل بمعنى مفعول كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول ، واعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية ، وكان من المعلوم أن قيامه بما كلف به تكليف لا يتكامل إلا بإجابته إليها ، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على الإبلاغ على الحد الذي كلف به فقال : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } وعد ذلك من النعم العظام عليه لما فيه من وجوه المصالح ثم قال : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } فنبه بذلك على أمور : أحدها : كأنه تعالى قال : إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال. وثانيها : إني كنت قد ربيتك فلو منعتك الآن مطلوبك لكان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي. وثالثها : إنا لما أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك من حالة نازلة إلى درجة عالية دل هذا على أن نصبناك لمنصب عال ومهم عظيم فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع من المطلوب ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أن هذه اللفظة لفظة مؤذية والمقام مقام التلطف ؟
والجواب إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصلت إليه ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها بمحض التفضل والإحسان.
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
(1/3050)
السؤال الثاني : لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة ؟
والجواب : لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير. واعلم أن المنن المذكورة ههنا ثمانية : المنة الأولى : قوله : {إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّه } أما قوله : {إِذْ أَوْحَيْنَآ} فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكن من تزويجها نفسها فكيف تصلح للنبوة ويدل عليه قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ } (الأنبياء : 7) وهذا صريح في الباب ، وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) وقال : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّـانَ} (المائدة : 111) ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه : أحدها : المراد رؤيا رأتها أم موسى عليه السلام وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت وقذفه في البحر وأن الله تعالى يرده إليها. وثانيها : أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة فكل من تفكر فيما وقع إليه ظهر له الرأي الذي هو أقرب إلى الخلاص ويقال لذلك الخاطر إنه وحي. وثالثها : المراد منه الإلهام لكنا / متى بحثنا عن الإلهام كان معناه خطور رأي بالبال وغلبة على القلب فيصير هذا هوالوجه الثاني وهذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأن الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني. والجواب : لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان إفضاء الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون. ورابعها : لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إن ذلك النبي عرفها ، إما مشافهة أو مراسلة ، واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها من أنواع الخوف ما لحقها. والجواب : أن ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أن موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أن الله تعالى كان يأمره بالذهاب إليه مراراً. وخامسها : لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة. وسادسها : لعل الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله : {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم : 17) وأما قوله : {مَا يُوحَى } فمعناه وأوحينا إلى أمك ما يجب أن يوحى وإنما وجب ذلك الوحي لأن الواقعة واقعة عظيمة ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي فكان الوحي واجباً أما قوله تعالى : {أَنِ اقْذِفِيهِ} ففيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
المسألة الأولى : أن هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول.
المسألة الثانية : القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ومنه قوله تعالى : {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (الأحزاب : 26).
المسألة الثالثة : روى أنها اتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى عليه السلام وقيرت رأسه وشقوقه بالقار ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبه وسيأتي تمام القصة في سورة القصص ، قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون.
المسألة الرابعة : اليم هو البحر والمراد به ههنا نيل مصر في قول الجميع واليم اسم يقع على البحر وعلى النهر العظيم.
المسألة الخامسة : قال الكسائي الساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقذفه إلى أعلاه.
المسألة السادسة : قال صاحب "الكشاف" الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يؤدي إلى تنافر النظم فإن قيل المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلنا لا بأس بأن يقال المقذوف والملقى هو موسى عليه السلام / في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر ولا يحصل التنافر.
المسألة السابعة : لما كان تقدير الله تعالى أن يجري ماء اليم ويلقي بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل فليلقه اليم بالساحل أما قوله : {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّه } ففيه أبحاث :
البحث الأول : قوله : {يَأْخُذْهُ} جواب الأمر أي اقذفيه يأخذه.
(1/3051)
البحث الثاني : في كيفية الأخذ قولان/ أحدهما : أن امرأة فرعون كانت بحيث تستسقي الجواري فبصرت بالتابوت فأمرت به فأخذت التابوت فيكون المراد من أخذ فرعون التابوت قبوله له واستحبابه إياه. الثاني : أن البحر ألقى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى بركة فرعون فلما رآه أخذه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
البحث الثالث : قوله : {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّه } فيه إشكال وهو أن موسى عليه السلام لم يكن ذلك الوقت بحيث يعادى. وجوابه : أما كونه عدواً لله من جهة كفره وعتوه فظاهر وأما كونه عدواً لموسى عليه السلام فيحتمل من حيث إنه لو ظهر له حالة لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أمره إلى ما آل إليه من العداوة. المنة الثانية : قوله : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} وفيه قولان : الأول : وألقيت عليك محبة هي مني قال الزمخشري : {مِّنِّى} لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما أن يتعلق بمحذوف وهذا هو القول الثاني ويكون ذلك المحذوف صفة لمحبة أي وألقيت عليك محبة حاصلة مني واقعة بخلقي فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت : {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَا لا تَقْتُلُوهُ} (القصص : 9) يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه وهو كقوله تعالى : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} (مريم : 96) قال القاضي : هذا الوجه أقرب لأنه في حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب والمراد أن ما ذكرنا من كيفيته في الخلقة يستحلي ويغتبط فكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته وسهل الله تعالى له منهما في التربية ما لا مزيد عليه ويمكن أن يقال بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار وهو أن يقال : وألقيت عليك محبة حاصلة مني وواقعة بتخليقي وعلى التقدير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار بقي قوله : إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله تعالى قلنا : لا نسلم فإن محبة الله تعالى يرجع معناها إلى إيصال النفع إلى عباده وهذا المعنى كان حاصلاً في حقه في حال صباه وعلم الله تعالى أن ذلك يستمر إلى آخر عمره فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة. المنة الثالثة : قوله : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } قال القفال : لترى على عيني أي على وفق إرادتي ، ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا ههنا وفي كيفية المجاز قولان : الأول : المراد من العين العلم أن ترى على علم مني ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات / كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه. الثاني : المراد من العين الحراسة وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه فالعين كأنها سبب الحراسة فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى } (طه : 46) ويقال : عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة ، قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن المراد من قوله : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } الحفظ والحياطة كقوله تعالى : {إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُه ا فَرَجَعْنَـاكَ إِلَى ا أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ } فصار ذلك كالتفسير لحياطة الله تعالى له ، بقي ههنا بحثان :
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
الأول : الواو في قوله : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } فيه ثلاثة أوجه. أحدها : كأنه قيل : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } ألقيت عليك محبة مني ثم يكون قوله : {إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} متعلقاً بأول الكلام وهو قوله : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّكَ مَا يُوحَى } وإذ تمشي أختك. وثانيها : يجوز أن يكون قوله : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } متعلقاً بما بعده وهو قوله : {إِذْ تَمْشِى } وذكرنا مثل هذين الوجهين في قوله : {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام : 75). وثالثها : يجوز أن تكون الواو مقحمة أي وألقيت عليك محبة مني لتصنع وهذا ضعيف.
(1/3052)
الثاني : قرىء ولتصنع بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر وقرىء ولتصنع بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك وتصرفك على علم مني. المنة الرابعة : قوله : {إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} واعلم أن العامل في إذ تمشى ألقيت أو تصنع ، يروى أنه لما فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها لأن الله تعالى قد حرم عليه المراضع غير أمه اضطروا إلى تتبع النساء فلما رأت ذلك أخت موسى جاءت إليهم متنكرة فقالت : {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى ا أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَه لَكُمْ} (القصص : 12) ثم جاءت بالأم فقبل ثديها فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. أما قوله تعالى : {فَرَجَعْنَـاكَ إِلَى ا أُمِّكَ} أي رددناك ، وقال في موضع آخر : {فَرَدَدْنَـاهُ إِلَى ا أُمِّه } (القصص : 13) وهو كقوله : {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (المؤمنون : 99) أي ردوني إلى الدنيا ، أما قوله : {كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ } فالمراد أن المقصود من ردك إليها حصول السرور لها وزوال الحزن عنها ، فإن قيل : لو قال كي لا تحزن وتقر عينها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من نفي الحزن حصول السرور لها ، وأما لما قال أولاً كي تقر عينها كان قوله بعد ذلك : {وَلا تَحْزَنَ } فضلاً لأنه متى حصل السرور وجب زوال الغم لا محالة ، قلنا : المراد أنه تقر عينها بسبب وصولك إليها فيزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك. والمنة الخامسة : قوله : {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَـاكَ مِنَ الْغَمِّ} فالمراد به وقتلت بعد كبرك نفساً وهو الرجل الذي قتله خطأ بأن وكزه حيث استغاثه الإسرائيلي عليه وكان قبطياً فحصل له الغم من وجهين ، أحدهما : من عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون منه ما حكى الله تعالى عنه : {فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَآاـاِفًا يَتَرَقَّبُ} (القصص : 18) والآخر من عقاب الله تعالى حيث قتله لا بأمر الله فنجاه الله تعالى من الغمين ، أما من فرعون فحين وفق له المهاجرة إلى مدين / وأما من عقاب الآخرة فلأنه سبحانه وتعالى غفر له ذلك. المنة السادسة : قوله : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } وفيه أبحاث :
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
البحث الأول : في قوله : {فُتُونًا } وجهان : أحدهما : أنه مصدر كالعكوف والجلوس والمعنى وفتناك حقاً وذلك على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر كقوله تعالى : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء : 164) ، والثاني : أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروباً من الفتن وههنا سؤالان. السؤال الأول : إن الله تعالى عدد أنواع مننه على موسى عليه السلام في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع قوله : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } . الجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن الفتنة تشديد المحنة ، يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى : {فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت : 10) وقال تعالى : {الاـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} (العنكبوت : 1 ـ 3) وقال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُما مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (البقرة : 214) فالزلزلة المذكورة في الآية ومس البأساء والضراء هي الفتنة والفتون ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم. وثانيها : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } أي خلصناك تخليصاً من قولهم : فتنت الذهب من الفضة إذا أردت تخليصه وسأل سعيد بن جبير بن عباس عن الفتون فقال : نستأنف له نهاراً يا ابن جبير. ثم لما أصبح أخذ ابن عباس يقرأ عليه الآيات الواردة في شأن موسى عليه السلام من ابتداء أمره فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه السلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الإرتضاع من الأجانب ، ثم قصة أن موسى عليه السلام أخذ لحية فرعون ووضعه الجمرة في فيه ، ثم قصة قتل القبطي ، ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيراً لشعيب عليه السلام ، ثم عوده إلى مصر وأنه أخطأ الطريق في الليلة المظلمة واستئناسة بالنار من الشجرة وكان عند تمام كل واحدة منها يقول هذا من الفتون يا ابن جبير.
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
(1/3053)
السؤال الثاني : هل يصح إطلاق اسم الفتان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } والجواب لا لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي. المنة السابعة : قوله تعالى : {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَـامُوسَى } واعلم أن التقدير : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم ، أما مدة اللبث فقال أبو مسلم : إنها مشروحة في قوله تعالى : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} ـ إلى قوله ـ {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ} (القصص : 29) وهي إما عشرة وإما ثمان لقوله تعالى : {عَلَى ا أَن تَأْجُرَنِى ثَمَـانِىَ حِجَجٍا فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ } (القصص : 27) وقال وهب : لبث موسى عليه السلام عند شعيب عليه السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين / مهر امرأته ، والآية تدل على أنه عليه السلام لبث عنده عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر ، واعلم أن قوله : {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} بعد قوله : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } كالدلالة على أن لبثه في مدين من الفتون وكذلك كان ، فإنه عليه السلام تحمل بسبب الفقر والغربة محناً كثيرة ، واحتاج إلى أن آجر نفسه ، أما قوله تعالى : {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَـامُوسَى } فلا بد من حذف في الكلام لأنه على قدر أمر من الأمور ، وذكروا في ذلك المحذوف وجوهاً. أحدها : أنه سبق في قضائي وقدري أن أجعلك رسولاً لي في وقت معين عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر لا قبله ولا بعده ، ومنه قوله : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) ، وثانيها : على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة. وثالثها : أن القدر هو الموعد فإن ثبت أنه تقدم هذا الموعد صح حمله عليه ، ولا يمتنع ذلك لاحتمال أن شعيباً عليه السلام أو غيره من الأنبياء كانوا قد عينوا ذلك الموعد ، فإن قيل : كيف ذكر الله تعالى مجيء موسى عليه السلام في ذلك الوقت من جملة مننه عليه ، قلنا : لأنه لولا توفيقه له لما تهيأ شيء من ذلك. المنة الثامنة : قوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} والاصطناع اتخاذ الصنعة ، وهي افتعال من الصنع. يقال : اصطنع فلان فلاناً أي اتخذه صنيعه ، فإن قيل : إنه تعالى غني عن الكل فما معنى قوله لنفسي. والجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا تمثيل لأنه تعالى لما أعطاه من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه أهلاً لأن يكون أقرب الناس منزلة إليه وأشدهم قرباً منه. وثانيها : قالت المعتزلة : إنه سبحانه وتعالى إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ومن جملة الألطاف ما لا يعلم إلا سمعاً فلو لم يصطنعه بالرسالة لبقي في عهدة الواجب فصار موسى عليه السلام كالنائب عن ربه في أداء ما وجب على الله تعالى ، فصح أن يقول : واصطنعتك لنفسي ، قال القفال واصطنعتك أصله من قولهم اصطنع فلان فلاناً إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال : هذا صنيع فلان وجريح فلان وقوله لنفسي : أي لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل بغير ما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك ، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد عليه المنن الثمانية في مقابلة تلك الالتماسات الثمانية رتب على ذكر ذلك أمراً ونهياً ، أما الأمر فهو أنه سبحانه وتعالى أعاد الأمر بالأول فقال : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} عقبه بذكر ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : الباء ههنا بمعنى مع وذلك لأنهما لو ذهبا إليه بدون آية معهما لم يلزمه الإيمان وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد.
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
(1/3054)
المسألة الثانية : اختلفوا في الآيات المذكورة ههنا على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها اليد والعصا لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي اقتص الله تعالى فيها / حديث موسى عليه السلام فإنه تعالى لم يذكر في شيء منها أنه عليه السلام قد أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى عنه : {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَه فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ} (الشعراء : 31 ـ 33) وقال : {فَذَانِكَ بُرْهَـانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْه } (القصص : 32) فإذا قيل لهؤلاء كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين أجابوا بوجوه : الأول : أن العصا ما كانت آية واحدة بل كانت آيات فإن انقلاب العصا حيواناً آية ثم إنها في أول الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى : {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} (النمل : 10) ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ، ثم كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى. ثم إن موسى عليه السلام كان يدخل يده في فيها فما كانت تضر موسى عليه السلام فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى ، وكذلك اليد فإن بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالهما بعد حصولهما آية أخرى فصح أنهما كانتا آيات كثيرة لا آيتان. الثاني : هب أن العصا أمر واحد لكن فيها آيات كثيرة لأن انقلابها حية يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم ويدل على نبوة موسى عليه السلام ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً فهذه آيات كثيرة ولذلك قال : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} إلى قوله : {فِيهِ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } (آل عمران : 96 ، 97) فإذا وصف الشيء الواحد بأن فيه آيات فالشيئان أولى بذلك. الثالث : من الناس من قال : أقل الجمع إثنان على ما عرفت في أصول الفقه. القول الثاني : أن قوله : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} معناه أني أمدكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه فاذهبا فإن آياتي معكما كما يقال اذهب فإن جندي معك أي أني أمدك بهم متى احتجت. القول الثالث : أن الله تعالى آتاه العصا واليد وحل عقدة لسانه وذلك أيضاً معجز فكانت الآيات ثلاثة هذا هو شرح الأمر أما النهي فهو قوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
{وَلا تَنِيَا فِى ذِكْرِى} الوني الفتور والتقصير وقرىء ولا تنيا بكسر حرف المضارعة للاتباع ثم قيل فيه أقوال : أحدها : المعنى لا تنيا بل اتخذا ذكرى آلة لتحصيل المقاصد واعتقدا أن أمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري والحكمة فيه أن من ذكر جلال الله استحقر غيره فلا يخاف أحداً ولأن من ذكر جلال الله تقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في المقصود ، ولأن ذاكر الله تعالى لا بد وأن يكون ذاكراً لإحسانه وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره. وثانيها : المراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها فكان جديراً بأن يطلق عليه اسم الذكر. وثالثها : قوله : {وَلا تَنِيَا فِى ذِكْرِى} عند فرعون وكيفية الذكر هو أن يذكرا لفرعون وقومه أن الله تعالى لا يرضى منهم بالكفر ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب. ورابعها : أن يذكرا لفرعون آلاء الله ونعماءه وأنواع إحسانه إليه ثم قال بعد ذلك : {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى } وفيه سؤالان : الأول : ما الفائدة في ذلك بعد قوله : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} قال القفال فيه وجهان. أحدهما : أن قوله : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} يحتمل أن يكون كل واحد منهما / مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرة أخرى اذهبا ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به هرون دون موسى. والثاني : أن قوله : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ، ثم إن قوله : {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} أمر بالذهاب إلى فرعون وحده.
(1/3055)
السؤال الثاني : قوله : {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} خطاب مع موسى وهرون عليهما السلام وهذا مشكل لأن هرون عليه السلام لم يكن حاضراً هناك وكذلك في قوله تعالى : {قَالا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى } (طه : 45) أجاب القفال عنه من وجوه. أحدها : أن الكلام كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه كان متبوع هرون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هرون وكلام هرون على سبيل التقدير فالخطاب في تلك الحالة وإن كان مع موسى عليه السلام وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله : {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} (البقرة : 72) وقوله : {لَـاـاِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ } (المنافقون : 8) وحكي أن القائل هو عبد الله بن أبي وحده. وثانيها : يحتمل أن الله تعالى لما قال : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } سكت حتى لقي أخاه ، ثم إن الله تعالى خاطبهما بقوله : {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} . وثالثها : أنه حكى أنه في مصحف ابن مسعود وحفصة : {قَالا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ} أي قال موسى : أنا وأخي نخاف فرعون أما قوله تعالى : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} ففيه سؤالان :
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
السؤال الأول : لم أمر الله تعالى موسى عليه السلام باللين مع الكافر الجاحد. الجواب لوجهين : الأول : أنه عليه السلام كان قد رباه فرعون فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق وهذا تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين. الثاني : أن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبراً ، والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر فلهذا أمر الله تعالى بالرفق.
السؤال الثاني : كيف كان ذلك الكلام اللين. الجواب : ذكروا فيه وجوهاً. أحدها : ما حكى الله تعالى بعضه فقال : {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى ا أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } (النازعات : 18 ، 19) وذكر أيضاً في هذه السورة بعض ذلك فقال : {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} (طه : 47) إلى قوله : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } (طه : 47). وثانيها : أن تعداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. وثالثها : كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ورابعها : حكى عن عمرو بن دينار قال : بلغني أن فرعون عمر أربعمائة سنة وتسع سنين فقال له موسى عليه السلام : إن أطعتني عمرت مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة واعترضوا على هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة. أما الأول : فقيل لو حصلت له هذه الأمور الثلاثة في هذه المدة الطويلة لصار ذلك كالإلجاء إلى معرفة الله تعالى وذلك لا يصح مع التكليف. وأما الثاني : فلأن خطابه بالكنية أمر سهل فلا يجوز أن يجعل ذلك هو المقصود من قوله : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} / بل يجوز أن يكون ذلك من جملة المراد. وأما الثالث : فالاعتراض عليه كما في الأول أما قوله تعالى : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } فاعلم أنه ليس المراد أنه تعالى كان شاكاً في ذلك لأن ذلك محال عليه تعالى وإنما المراد : فقولا له قولاً ليناً ، على أن تكونا راجيين لأن يتذكر هو أو يخشى. واعلم أن أحوال القلب ثلاثة. أحدها : الإصرار على الحق. وثانيها : الإصرار على الباطل. وثالثها : التوقف في الأمرين ، وأن فرعون كان مصراً على الباطل وهذا القسم أردأ الأقسام فقال تعالى : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
(1/3056)
فيرجع من إنكاره إلى الإقرار بالحق وإن لم ينتقل من الإنكار إلى الإقرار لكنه يحصل في قلبه الخوف فيترك الإنكار وإن كان لا ينتقل إلى الإقرار فإن هذا خير من الإصرار على الإنكار واعلم أن هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لأنه تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان وإذا كان عالماً بذلك فكيف أمر موسى عليه السلام بذلك الرفق وكيف بالغ في ذلك الأمر بتلطيف دعوته إلى الله تعالى مع علمه استحالة حصول ذلك منه ؟
ثم هب أن المعتزلة ينازعون في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأنه لايحصل ذلك الإيمان وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العقاب والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بها بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه ؟
يا أخى العقول قاصرة عن معرفة هذه الأسرار ولا سبيل فيها إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ، ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة : فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن.
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
فيرجع من إنكاره إلى الإقرار بالحق وإن لم ينتقل من الإنكار إلى الإقرار لكنه يحصل في قلبه الخوف فيترك الإنكار وإن كان لا ينتقل إلى الإقرار فإن هذا خير من الإصرار على الإنكار واعلم أن هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لأنه تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان وإذا كان عالماً بذلك فكيف أمر موسى عليه السلام بذلك الرفق وكيف بالغ في ذلك الأمر بتلطيف دعوته إلى الله تعالى مع علمه استحالة حصول ذلك منه ؟
ثم هب أن المعتزلة ينازعون في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأنه لايحصل ذلك الإيمان وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العقاب والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً إلى من علم قطعاً أنه يمزق بها بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه ؟
يا أخى العقول قاصرة عن معرفة هذه الأسرار ولا سبيل فيها إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ، ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة : فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن.
جزء : 22 رقم الصفحة : 53
56
اعلم أن قوله : {قَالا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ} فيه أسئلة :
/ السؤال الأول : قوله : {قَالا رَبَّنَآ} يدل على أن المتكلم بذلك موسى وهرون عليهما السلام وهرون لم يكن حاضراً هذا المقال فكيف ذلك وجوابه قد تقدم.
السؤال الثاني : أن موسى عليه السلام قال : {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} (طه : 25) فأجابه الله تعالى بقوله : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } (طه : 36) وهذا يدل على أنه قد انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قال بعده : {إِنَّنَا نَخَافُ} فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر. والجواب : أن شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواحي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليه السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف.
السؤال الثالث : أما علم موسى وهرون وقد حملهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل الذي هو مقطعة عن الأداء. الجواب : قد أمنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما السوء من قبل تمام الأداء أو بعده وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما قال : {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } (البقرة : 260).
جزء : 22 رقم الصفحة : 56
(1/3057)
السؤال الرابع : لما تكرر الأمر من الله تعالى بالذهاب فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية. الجواب : لو اقتضى الأمر الفور لكان ذلك من أقوى الدلائل على المعصية لا سيما وقد أكثر الله تعالى من أنواع التشريف وتقوية القلب وإزالة الغم ولكن ليس الأمر على الفور فزال السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل أما قوله تعالى : {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى } فاعلم أن في : {أَن يَفْرُطَ} وجوهاً. أحدها : فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط يسبق الخيل والمعنى نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة. وثانيها : أنه مأخوذ من أفرط غيره إذا حمله على العجلة فكان موسى وهرون عليهما السلام خافا من أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقوبة وذلك الحامل هو إما الشيطان أو إدعاؤه للربوبية أو حبه للرياسة أو قومه وهم القبط المتمردون الذين حكى الله تعالى عنهم : {قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِه } (الأعراف : 60). وثالثها : يفرط من الإفراط في الأذية أما قوله : {أَوْ أَن يَطْغَى } فالمعنى يطغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته عليك واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه بأعذار يذكرها فلا بد وأن يختم كلامه بما هو الأقوى وهذا كما أن الهدهد ختم عذره بقوله : {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ} (النمل : 24) فكذا ههنا بدأ موسى بقوله : {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} وختم بقوله : {أَوْ أَن يَطْغَى } لما أن طغيانه في حق الله تعالى أعظم من إفراطه في حق موسى وهرون عليهما السلام. أما قوله : {قَالَ لا تَخَافَآا إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى } فالمراد لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان لأن ذلك هو المفهوم من الكلام يبين ذلك أنه تعالى لم يؤمنهما من الرد ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة أما قوله : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ} فهو عبارة عن الحراسة والحفظ وعلى هذا الوجه يقال : الله معك على وجه الدعاء وأكد ذلك بقوله : {أَسْمَعُ وَأَرَى } فإن من يكون مع الغير وناصراً له وحافظاً / يجوز أن لا يعلم كل ما يناله وإنما يحرسه فيما يعلم فبين سبحانه وتعالى أنه معهما بالحفظ والعلم في جميع ما ينالهما وذلك هو النهاية في إزالة الخوف قال القفال قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 56
{أَسْمَعُ وَأَرَى } يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله : {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى } والمعنى : {يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} بأن لا يسمع منا : {أَوْ أَن يَطْغَى } بأن يقتلنا فقال الله تعالى : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ} أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه ، واعلم أن هذه الآية تدل على أن كونه تعالى سميعاً وبصيراً صفتان زائدتان على العلم لأن قوله : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ} دل على العلم فقوله : {أَسْمَعُ وَأَرَى } لو دل على العلم لكان ذلك تكريراً وهو خلاف الأصل ثم إنه سبحانه أعاد ذلك التكليف فقال : {فَأْتِيَاهُ} لأنه سبحانه وتعالى قال في المرة الأولى : {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} (طه : 23 ، 24) وفي الثانية : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ} وفي الثالثة : {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} (طه : 43) وفي الرابعة قال ههنا فأتياه فإن قيل إنه تعالى أمرهما في المرة الثانية بأن يقولا له : {قَوْلا لَّيِّنًا} (طه : 44) وفي هذه المرة الرابعة أمرهما : {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل } وفيه تغليظ من وجوه : أحدها : أن قوله : {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} فيه أبحاث :
البحث الأول : انقياده إليهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع.
البحث الثاني : قوله : {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل } فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال من بناء أو غيره.
البحث الثالث : قوله : {وَلا تُعَذِّبْهُمْ } .
جزء : 22 رقم الصفحة : 56
(1/3058)
البحث الرابع : قوله : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } فما الفائدة في التليين أولاً والتغليظ ثانياً ؟
قلنا : لأن الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بد له من التغليظ فإن قيل : أليس كان من الواجب أن يقولا إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ، لأن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه ؟
قلنا : بل هذا أولى من تأخيره عنه لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجزة ، أما قوله : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } ففيه سؤال وهو أنه تعالى أعطاه آيتين وهما العصا واليد ثم قال : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} (طه : 42) وذلك يدل على ثلاث آيات وقال ههنا : {جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ} وهذا يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع ؟
أجاب القفال بأن معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال : قد جئناك ببيان من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة ، وأما قوله : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } فقال بعضهم هو من قول الله تعالى لهما كأنه قال : فقولا إنا رسولا ربك ، وقولا له : والسلام على من اتبع الهدى ، وقال آخرون بل كلام الله تعالى قد تم عند قوله : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } فقوله بعد ذلك : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } وعد من قبلهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة ، والسلام بمعنى السلامة كما يقال رضاع ورضاعة واللام وعلى ههنا بمعنى واحد كما قال / {لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} (الرعد : 25) على معنى عليهم وقال تعالى : {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } (فصلت : 46) وفي موضع آخر : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) ، أما قوله : {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (طه : 48) فاعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم وذلك لأن الألف واللام في قوله : {الْعَذَابَ} تفيد الاستغراق أو تفيد الماهية وعلى التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس فيمن كذب وتولى فوجب في غير المكذب المتولي أن لا يحصل هذا الجنس أصلاً ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام لأن العقاب المتناهي إذا حصل بعده السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يحسن مع حصول ذلك القدر أن يقال : إنه لا عقاب ، وأيضاً فقوله : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } ، وقد فسرنا السلام بالسلامة فظاهره يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى ، والعارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون صاحب السلامة.
جزء : 22 رقم الصفحة : 56
(1/3059)
البحث الرابع : قوله : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } فما الفائدة في التليين أولاً والتغليظ ثانياً ؟
قلنا : لأن الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بد له من التغليظ فإن قيل : أليس كان من الواجب أن يقولا إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ، لأن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه ؟
قلنا : بل هذا أولى من تأخيره عنه لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجزة ، أما قوله : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } ففيه سؤال وهو أنه تعالى أعطاه آيتين وهما العصا واليد ثم قال : {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـاَايَـاتِى} (طه : 42) وذلك يدل على ثلاث آيات وقال ههنا : {جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ} وهذا يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع ؟
أجاب القفال بأن معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال : قد جئناك ببيان من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة ، وأما قوله : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } فقال بعضهم هو من قول الله تعالى لهما كأنه قال : فقولا إنا رسولا ربك ، وقولا له : والسلام على من اتبع الهدى ، وقال آخرون بل كلام الله تعالى قد تم عند قوله : {قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } فقوله بعد ذلك : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } وعد من قبلهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة ، والسلام بمعنى السلامة كما يقال رضاع ورضاعة واللام وعلى ههنا بمعنى واحد كما قال / {لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ} (الرعد : 25) على معنى عليهم وقال تعالى : {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } (فصلت : 46) وفي موضع آخر : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) ، أما قوله : {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (طه : 48) فاعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم وذلك لأن الألف واللام في قوله : {الْعَذَابَ} تفيد الاستغراق أو تفيد الماهية وعلى التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس فيمن كذب وتولى فوجب في غير المكذب المتولي أن لا يحصل هذا الجنس أصلاً ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام لأن العقاب المتناهي إذا حصل بعده السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يحسن مع حصول ذلك القدر أن يقال : إنه لا عقاب ، وأيضاً فقوله : {وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } ، وقد فسرنا السلام بالسلامة فظاهره يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى ، والعارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون صاحب السلامة.
جزء : 22 رقم الصفحة : 56
62
اعلم أنهما عليهما السلام لما قالا : إنا رسولا ربك قال لهما : فمن ربكما يا موسى ، فيه مسائل :
المسألة الأولى : أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ثم إن موسى عليه / السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولاً في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولاً في المناظرة وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضاً على فساد قول التعليمية الذين يقولون نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن موسى عليه السلام اعترف ههنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول الحشوية الذين يقولون نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة.
المسألة الثانية : تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر ، إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل موسى عليه السلام بفرعون ههنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل : 125) وقال : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اللَّهِ} (التوبة : 6).
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
(1/3060)
المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفاً بالله تعالى فقيل إنه كان عارفاً إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبراً وتجبراً وزوراً وبهتاناً ، واحتجوا عليه بستة أوجه. أحدها : قوله : {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـا ؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الإسراء : 102) فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطاباً من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالماً بذلك وكذا قوله تعالى : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (النمل : 14). وثانيها : أنه كان عاقلاً وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلاً قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر. وثالثها : قول موسى عليه السلام ههنا : {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } وكلمة الذي تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له. ورابعها : قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد. وخامسها : أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب : {لا تَخَفْا نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} (القصص : 25) فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم ؟
وسادسها : أنه لما قال : {وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ} قال موسى عليه السلام : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (الشعراء : 24) قال : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء : 27) يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف / فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود ، ومن الناس من قال إنه كان جاهلاً بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجوداً لها ولا خالقاً لها ، واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً ، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة لموجبه ، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة. وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
المسألة الخامسة : أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال : {فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى } وقال في سورة الشعراء : {وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ} فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدماً على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضاً مما ينبه على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
المسألة السادسة : إنما قال : {فَمَن رَّبُّكُمَا} ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه رباً في قوله : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (الشعراء : 18) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى رباً آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (البقرة : 258) قال نمروذ له : {أَلَمْ تَرَ إِلَى} (البقرة : 258) ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
(1/3061)
المسألة السابعة : اعلم أن موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله : {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم في قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } (الأعلى : 1 ـ 3) قال إبراهيم عليه السلام : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ * الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان والهداية عبارة عن إبداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدماً على الهداية ولذلك قال : {فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) فالتسوية راجعة إلى القالب ونفخ الروح إشارة / إلى إبداع القوى وقال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) إلى أن قال : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون : 14) فظهر أن الخلق مقدم على الهداية ، والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في بحر لا ساحل له. ولنذكر منه أمثلة قريبة إلى الأفهام. أحدها : أن الطبيعي يقول : الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلاً الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ، ثم إنه سبحانه قلب هذا الترتيب في خلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما في البدن وهما بمنزلة الأرض ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب التي هي بمنزلة النار فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعرف أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة. وثانيها : إنك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال البق والبعوض في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بالهام مدبر عالم بجميع المعلومات. وثالثها : أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال واللآلى من البحار ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لذات الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها ، وهذا غير مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوانات فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ثم هداه لها ليدوم التناسل وهدى الأولاد لثدي الأمهات ، بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل في أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأخذ وخلق الرجل على تركيب خاص وأودع فيها قوة المشي وكذا العين والأذن وجميع الأعضاء ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموع واحد ، وهو الإنسان. وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية ، إما أن يكون واجباً أو جائزاً والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز ، والجائز لا بد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد ، والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة ، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لايعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً وإن كان جائزاً افتقر إلى سبب آخر والدور والتسلسل محالان ، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة / إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار ، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية ؟
فثبت أن المؤثر والمدبر قادر والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً/ ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال ، وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض
(1/3062)
وجب (أن) يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي صفاته عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى.
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
المسألة الثامنة : أن فرعون خاطب الاثنين بقوله : {فَمَن رَّبُّكُمَا} ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهرون وزيره وتابعه ، وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف : 52).
المسألة التاسعة : في قوله : {الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } وجهان : أحدهما : التقديم والتأخير أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به. وثانيهما : أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال : أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته ، وقرىء خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه ، والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه ، وأما قوله تعالى : {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى } فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوهاً. أحدها : أن موسى عليه السلام لما قرر على فرعون أمر المبدأ والمعاد قال فرعون : إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور : {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى } ما أثبتوه وتركوه ؟
فكان موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على إثبات الصانع قدح فرعون في تلك الدلالة بقوله إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد. وثانيها : أن موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولاً في قوله : {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (طه : 48) فقال فرعون : {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى } فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا ؟
وثالثها : وهو الأظهر أن فرعون لما قال : {فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى } فذكر موسى عليه السلام دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على هذا المطلوب / فقال : {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } فخاف فرعون أن يريد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال : {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى } فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال : {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـابٍ } ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها ، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم ، ثم ههنا مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
المسألة الأولى : اختلفوا في قوله : {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـابٍ } فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب ؟
وتحقيقه هو أن علم الله تعالى صفته وصفة الشيء قائمة به ، فأما أن تكون صفة الشيء حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين : الأول : معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول قوله : {فِى كِتَـابٍ } يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة ؟
الوجه الثاني : أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه ، وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك : {لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} .
(1/3063)
المسألة الثانية : اختلفوا في قوله : {لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما ، ثم ذكروا وجوهاً. أحدها : وهو الأحسن ما قاله القفال لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات واللفظ الثاني وهو قوله : ولا ينسى دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير. وثانيها : قال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وثالثها : قال الحسن لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. ورابعها : قال أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء. وخامسها : قال ابن جرير لا يخطىء في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صواباً وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة والتحقيق هو الأول.
المسألة الثالثة : أنه لما سأله عن الإله وقال : {فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى } وكان ذلك مما سبيله الإستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى ، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب ، واعلم أن موسى عليه السلام / لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة. أولها : قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} وفيه أبحاث :
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
البحث الأول : قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف {مَهْدًا} والباقون قرؤوا مهاداً فيهما قال أبو عبيدة : الذي اختاره مهاداً وهو اسم والمهد اسم الفعل ، وقال غيره : المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل ، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشاً يقال مهد مهداً ومهاداً وفرش فرشاً وفراشاً.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" : {الَّذِى جَعَلَ} مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه ، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبراً لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله : {فَأَخْرَجْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى } على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث : المراد من كون الأرض مهداً أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} . وثانيها : قوله تعالى : {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} قال صاحب "الكشاف" سلك من قوله : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} (المدثر : 42) {كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (الشعراء : 200) أي جعل لكم فيها سبلاً ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. وثالثها : قوله : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله : {فَأَخْرَجْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى } ففيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
(1/3064)
المسألة الأولى : قوله : {فَأَخْرَجْنَا} فيه وجوه. أحدها : أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجاً من نبات شتى. وثانيها : أن عند قوله : {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلاً بالكلام الأول بقوله : {فَأَخْرَجْنَا بِه } ثم يدل على هذا الاحتمال قوله : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } . وثالثها : قال صاحب "الكشاف" انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ} (الأنعام : 99) {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا } (فاطر : 27) {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنابَتْنَا بِه حَدَآاـاِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} (النمل : 60) واعلم أن قوله : {فَأَخْرَجْنَا} إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُم إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لاوْلِى النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} لا يليق بموسى عليه السلام وأيضاً فقوله : {فَأَخْرَجْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى } لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله : {فَأَخْرَجْنَا بِه أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى } لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال : إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله : {لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} ثم ابتدىء كلام الله تعالى من قوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} ويكون التقدير هو الذي {جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتاً.
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه ألبتة.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {أَزْوَاجًا} أي أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض {شَتَّى } صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم أما قوله : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } فهو حال من الضمير في أخرجنا والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها. وقد تضمن قوله كلوا سائر وجوه المنافع فهو كقوله : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} (البقرة : 188) وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) وقوله : {كُلُوا } أمر إباحة {إِنَّ فِى ذَالِكَ} أي فيما ذكرت من هذه النعم {لايَـاتٍ} أي لدلالات لذوي النهى أي العقول والنهية العقل. قال أبو علي الفارسي : النهي يجوز أن يكون مصدراً كالهدى ويجوز أن يكون جمعاً أما قوله : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ} فاعلم أنه سبحانه لما ذكر منافع الأرض والسماء بين أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ} وفيه سؤالان :
(1/3065)
السؤال الأول : ما معنى قوله : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ} مع أنه سبحانه وتعالى خلقنا من نطفة على ما بين ذلك في سائر الآيات. والجواب من وجهين : الأول : أنه لما خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب على ما قال : {كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) لا جرم أطلق ذلك علينا. الثاني : أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما يتولدان من الأغذية ، والغذاء إما حيواني أو نباتي والحيواني ينتهي إلى النبات والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين / من النطفة. والثالث : ذكرنا في قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ} (آل عمران : 6) خبر ابن مسعود أن الله يأمر ملك الأرحام أن يكتب الأجل والرزق والأرض التي يدفن فيها وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة ويذره على النطفة ثم يدخلها في الرحم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
السؤال الثاني : ظاهر الآية يدل على أن الشيء قد يكون مخلوقاً من الشيء وظاهر قول المتكلمين يأباه. والجواب : إن كان المراد من خلق الشيء من الشيء إزالة صفة الشيء الأول عن الذات وأحداث صفة الشيء الثاني فيه فذلك جائز لأنه لا منافاة فيه ، أما قوله تعالى : {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} فلا شبهة في أن المراد الإعادة إلى القبور حتى تكون الأرض مكاناً وظرفاً لكل من مات إلا من رفعه الله إلى السماء ، ومن هذا حاله يحتمل أن يعاد إليها أيضاً بعد ذلك ، أما قوله تعالى : {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } ففيه وجوه : أحدها : وهو الأقرب : {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} يوم الحشر والبعث. وثانيها : ومنها نخرجكم تراباً وطيناً ثم نحييكم بعد الإخراج وهذا مذكور في بعض الأخبار. وثالثها : المراد عذاب القبر عن البراء قال : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فذكر عذاب القبر وما يخاطب به المؤمن والكافر وأنه ترد روحه في جسده ويرد إلى الأرض وأنه تعالى يقول عند إعادتهم إلى الأرض إني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى" ، واعلم أن الله تعالى عدد في هذه الآيات منافع الأرض وهي أنه تعالى جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف أرادوا وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلف دوابهم وهي أصلهم الذي منه يتفرعون ثم هي كفاتهم إذا ماتوا ، ومن ثم قال عليه السلام : "بروا بالأرض فإنها بكم برة".
جزء : 22 رقم الصفحة : 62
63
اعلم أنه تعالى بين أنه أرى فرعون الآيات كلها ثم إنه لم يقبلها واختلفوا في المراد بالآيات ، فقال بعضهم أراد كل الأدلة ما يتصل بالتوحيد وما يتصل بالنبوة ، أما التوحيد فما ذكر في هذه السورة من قوله : {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } (طه : 50) وقوله : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا} (طه : 53) / الآية ، وما ذكر في سورة الشعراء : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الشعراء : 23 ، 24) الآيات ، وأما النبوة فهي الآيات التسع التي خص الله بها موسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل وعلى هذا التقرير معنى أريناه عرفناه صحتها وأوضحنا له وجه الدلالة فيها ، ومنهم من حمل ذلك على ما يتصل بالنبوة وهي هذه المعجزات ، وإنما أضاف الآيات إلى نفسه سبحانه وتعالى مع أن المظهر لها موسى عليه السلام لأنه أجراها على يديه كما أضاف نفخ الروح إلى نفسه فقال : {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء : 91) مع أن النفخ كان من جبريل عليه السلام ، فإن قيل قوله : كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملة الأيات ما أظهرها على الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل موسى عليه السلام والذين كانوا بعده قلنا : لفظ الكل وإن كان للعموم لكن قد يستعمل في الخصوص عند القرينة كما يقال دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال إن موسى عليه السلام أراه آياته وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء عليهم السلام فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى الله تعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه أنه كذب وأبى قال القاضي : الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك ولأن الله تعالى ذمه بأنه كذب وبأنه أبى ولو لم يقدر على ما هو فيه لم يصح ، واعلم أن هذا السؤال مر في سورة البقرة في قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 63
(1/3066)
{إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} (البقرة : 34) والجواب مذكور هناك ، ثم حكى الله تعالى شبهة فرعون وهي قوله : {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَـامُوسَى } وتركيب هذه الشبهة عجيب وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون به مبغضين له جداً وهو قوله : {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} وذلك لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله : {أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـارِكُم} (النساء : 66) ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته عليه السلام وهي أن ما جئتنا به سحر لا معجز ، ولما علم أن المعجز إنما يتميز عن السحر لكون المعجز مما يتعذر معارضته والسحر مما يمكن معارضته قال : {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِه } أما قوله تعالى : {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُه نَحْنُ وَلا أَنتَ} فاعلم أن الموعد يجوز أن يكون مصدراً ويجوز أن يكون اسماً لمكان الوعد كقوله : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 43) وأن يكون اسماً لزمان الوعد كقوله : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } (هود : 81) والذي في هذه الآية بمعنى المصدر أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلفه لأن الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف. أما الزمان والمكان فلا يصح وصفهما بذلك ، ومما يؤكد ذلك أن الحسن قرأ يوم الزينة بالنصب وذلك لا يطابق المكان والزمان وإنما نصب مكاناً لأنه هو المفعول الثاني للجعل والتقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى. أما قوله : {سُوًى} فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة وابن عامر {سُوًى} بضم السين والباقون بكسرها وهما لغتان مثل طوى وطوى ، وقرىء أيضاً منوناً وغير منون ، وذكروا في معناه وجوهاً : / أحدها : قال أبو علي مكاناً تستوي مسافته على الفريقين وهو المراد من قول مجاهد قال قتادة منصفاً بيننا. وثانيها : قال ابن زيد : {سُوًى} أي مستوياً لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض فسوى على التقدير الأول صفة المسافة وعلى هذا التقدير صفة المكان والمقصود أنهم طلبوا موضعاً مستوياً لا يكون فيه ارتفاع ولا انخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري. وثالثها : مكاناً يستوي حالنا في الرضاء به. ورابعها : قال الكلبي : مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه الآن.
جزء : 22 رقم الصفحة : 63
65
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : يحتمل أن قوله تعالى : {قَالَ مَوْعِدُكُمْ} أن يكون من قول فرعون فبين الوقت ويحتمل أن يكون من قول موسى عليه السلام ، قال القاضي والأول أظهر لأنه المطالب بالاجتماع دون موسى عليه السلام ، وعندي الأظهر أنه من كلام موسى عليه السلام لوجوه. أحدها : أنه جواب لقول فرعون فاجعل بيننا وبينك موعداً. وثانيها : وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. وثالثها : أن قوله : موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون إلى موسى وهرون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما أو على أن أقل الجمع إثنان وهو غير جائز أما لو جعلناه من موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استقام الكلام.
المسألة الثانية : يوم الزينة قرأ بعضهم بضم الميم وقرأ الحسن بالنصب قال الزجاج : إذا رفع فعلى خبر المبتدأ والمعنى وقت موعدكم يوم الزينة ومن نصب فعلى الظرف معناه موعدكم يقع يوم الزينة وقوله : {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} معناه موعدكم حشر الناس ضحى فموضع أن يكون رفعاً ويجوز فيه الخفض عطفاً على الزينة كأنه قال موعدكم يوم الزينة ويوم يحشر الناس ضحى فإن قيل ألستم قلتم في تفسير قوله : {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} إن التقدير اجعل مكان موعد لا نخلفه مكاناً سوى فهذا كيف يطابقه الجواب بذكر الزمان ؟
قلنا هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً / لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم فبذكر الزمان علم المكان.
جزء : 22 رقم الصفحة : 65
(1/3067)
المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في يوم الزينة وجوهاً. أحدها : أنه يوم عيد لهم يتزينون فيه. وثانيها : قال مقاتل يوم النيروز. وثالثها : قال سعيد بن جبير يوم سوق لهم. ورابعها : قال ابن عباس يوم عاشوراء ، وإنما قال يحشر فإنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم ، وقرىء وأن يحشر الناس بالياء والتاء يريد وأن تحشر الناس يا فرعون وأن يحشر اليوم ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة ، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم بقوله : {مَوْعِدُكُمْ} وجعل ضمير يحشر لفرعون وإنما أوعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله تعالى وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر العجيب في كل بدو وحضر ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر ، قال القاضي : إنه عين اليوم بقوله : {يَوْمُ الزِّينَةِ} ثم عين من اليوم وقتاً معيناً بقوله : {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} وأما قوله : {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَه ثُمَّ أَتَى } فاعلم أن التولي قد يكون إعراضاً وقد يكون انصرافاً والظاهر ههنا أنه بمعنى الانصراف وهو مفارقته موسى عليه السلام على الموعد الذي تواعدوا للاجتماع (فيه) ، قال مقاتل : فتولى أي أعرض وثبت على إعراضه عن الحق ودخل تحت قوله : {فَجَمَعَ كَيْدَه } السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة {ثُمَّ أَتَى } دخل تحت أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل أكثر من ذلك ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليهم وكان طول القبة سبعين ذراعاً ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير مما قالوه وأقدموا عليه فقال : {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن تزعموا بأن الذي جئت به ليس بحق وأنه سحر فيمكنكم معارضتي ، قال الزجاج : يجوز في انتصاب ويلكم أن يكون المعنى ألزمهم الله ويلا إن افتروا على الله كذبا ويجوز على النداء كقوله : {يَـاوَيْلَتَى ا ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا} (هود : 72) ، {قَالُوا يَـاوَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } (
جزء : 22 رقم الصفحة : 65
يس : 52) وقوله : {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي يعذبكم عذاباً مهلكاً مستأصلاً وقرأ حمزة وعاصم والكسائي برفع الياء من الإسحات والباقون بفتحها من السحت والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم والسحت لغة أهل الحجاز فكأنه تعالى قال : من افترى على الله كذباً حصل له أمران : أحدهما : عذاب الاستئصال في الدنيا أو العذاب الشديد في الآخرة وهو المراد من قوله : {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } . والثاني : الخيبة والحرمان عن المقصود وهو المراد بقوله : {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } ثم بين سبحانه وتعالى أنه لم قال موسى عليه السلام ذلك أعرضوا عن قوله : {فَتَنَـازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} وفي تنازعوا قولان : أحدهما : تفاوضوا وتشاوروا ليستقروا على شيء واحد. والثاني : قال مقاتل : اختلفوا فيما بينهم ثم قال بعضهم : دخل في التنازع فرعون / وقومه ومنهم من يقول : بل هم السحرة وحدهم والكلام محتمل وليس في الظاهر ما يدل على الترجيح وذكروا في قوله : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } وجوهاً. أحدها : أنهم أسروها من فرعون وعلى هذا التقدير فيه وجوه. الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما إن نجواهم قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه. والثاني : قال قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر. الثالث : قال وهب لما قال : {وَيْلَكُمْ} الآية قالوا ما هذا بقول ساحر. القول الثاني : أنهم أسروا النجوى من موسى وفرعون ونجواهم هو قولهم : {إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم} (طه : 63) وهو قول السدي. الوجه الثالث : أنهم أسروا النجوى من موسى وهرون ومن فرعون وقومه أيضاً وكان نجواهم أنهم كيف يجب تدبير أمر الحبال والعصي وعلى أي وجه يجب إظهارها فيكون أوقع في القلوب للعيوب وهو قول الضحاك.
جزء : 22 رقم الصفحة : 65
71
وفي الآية مسائل :
(1/3068)
المسألة الأولى : القراءة المشهورة : {إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} ومنهم من ترك هذه القراءة وذكروا وجوهاً أخر. أحدها : قرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر : (إن هذين لساحران) قالوا : هي قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير والحسن رضي الله تعالى عنه واحتج أبو عمرو وعيسى على ذلك بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن قوله : {إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} وعن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـابِئُونَ وَالنَّصَـارَى } (المائدة : 69) في المائدة ، وعن قوله : {لَّـاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَا وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} (النساء : 162) فقالت يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب ، وروى عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال : أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، وعن أبي عمرو أنه قال : إني لأستحي أن أقرأ : {إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} ، وثانيها : قرأ ابن كثير : (إن هذان) بتخفيف إن وتشديد نون هذان. وثالثها : قرأ حفص عن عاصم إن هذان بتخفيف النونين. ورابعها : قرأ عبد الله بن مسعود : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} بفتح الألف وجزم نونه (و) ساحران بغير لام. وخامسها : عن الأخفش : {قَالُوا إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} خفيفة في معنى ثقيلة وهي لغة قوم يرفعون بها / ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما. وسادسها : روى عن أبي بن كعب : (ما هذان إلا ساحران) وروي عنه أيضاً : (إن هذان لساحران) وعن الخليل مثل ذلك ، وعن أبي أيضاً : (إن ذان لساحران) فهذه هي القراءات الشاذة المذكورة في هذه الآية ، واعلم أن المحققين قالوا : هذه القراءات لا يجوز تصحيحها لأنها منقولة بطريق الآحاد ، والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر إذ لو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها مع كونها مع القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك ، فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة ولما كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدى إليه ، وأما الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ مما تقدم من وجوه : أحدها : أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كل القرآن وأنه باطل ، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة. وثانيها : أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما أن فيه لحناً وغلطاً. وثالثها : قال ابن الأنباري إن الصحابة هم الأئمة والقدوة فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الاتباع ، حتى قال بعضهم : اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. فثبت أنه لا بد من تصحيح القراءة المشهورة. واختلف النحويون فيه وذكروا وجوهاً : الوجه الأول : وهو الأقوى أن هذه لغة لبعض العرب وقال بعضهم هي لغة بلحارث بن كعب/ والزجاج نسبها إلى كنانة وقطرب نسبها إلى بلحارث بن كعب ومراد وخثعم وبعض بني عذرة ، ونسبها ابن جني إلى بعض بني ربيعة أيضاً وأنشد الفراء على هذه اللغة :
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى
مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وأنشد غيره :
تزود منا بين أذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
قال الفراء وحكى بعض بني أسد أنه قال هذا خط يدا أخي أعرفه. وقال قطرب هؤلاء يقولون : رأيت رجلان واشتريت ثوبان قال رجل من بني ضبة جاهلي :
أعرف منها الجيد والعينانا
ومنخرين أشبها ظبيانا
وقوله ومنخرين على اللغة الفاشية وما وراء ذلك على لغة هؤلاء.
وقال آخر :
طاروا علاهن فطر علاها
واشدد بمثنى حقب حقواها
/ وقال آخر :
كأن صريف ناباه إذا ما
أمرهما صرير الأخطبان
قال بعضهم : الأخطبان ذكر الصردان ، فصيرهما واحداً فبقي الاستدلال بقوله صريف ناباه ، قال : وأنشدني يونس لبعض بني الحرث :
كأن يميناً سحبل ومصيفه
مراق دم لن يبرح الدهر ثاويا
وأنشدوا أيضاً :
إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وقال ابن جني روينا عن قطرب :
هناك أن تبكي بشعشعان
رحب الفؤاد طائل اليدان
(1/3069)
ثم قال الفراء وذلك وإن كان قليلاً أقيس لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح ، فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً ولو كان ما بعده ياء ينبغي أن تنقلب ألفاً لانفتاح ما قبلها وقطرب ذكر أنهم يفعلون ذلك فراراً إلى الألف التي هي أخف حروف المد هذا أقوى الوجوه في هذه الآية ويمكن أن يقال أيضاً : الألف في هذا من جوهر الكلمة والحرف الذي يكون من جوهر الكلمة لا يجوز تغييره بسبب التثنية والجمع لأن ما بالذات لا يزول بالعرض فهذا الدليل يقتضي أن لا يجوز أن يقال : (إن هذين) فلما جوزناه فلا أقل من أن يجوز معه أن يقال إن هذان. الوجه الثاني : في الجواب أن يقال إن ههنا بمعنى نعم قال الشاعر :
ويقلن شيب قد علا
ك وقد كبرت فقلت إنه
أي فقلت نعم فالهاء في إنه هاء السكت كما في قوله تعالى : {هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ} (الحاقة : 29) وقال أبو ذؤيب :
شاب المفارق إن إن من البلى
شيب القذال مع العذار الواصل
أي نعم إن من البلى فصار إن كأنه قال نعم هذان لساحران ، واعترضوا عليه فقالوا : اللام لا تدخل في الخبر على الاستحسان إلا إذا كانت إن داخلة في المبتدأ ، فأما إذا لم تدخل أن على المبتدأ فمحل اللام المبتدأ إذ يقال لزيد اعلم من عمرو ولا يقال زيد لأعلم من عمرو ، وأجابوا عن هذا الاعتراض من وجهين ، الأول : لا نسلم أن اللام لا يحسن دخولها على الخبر والدليل عليه قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
أم الحليس لعجوز شهر به
ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وقال آخر :
خالي لأنت ومن جرير خاله
ينل العلاء ويكرم الأخوالا
وأنشد قطرب :
ألم تكن حلفت بالله العلي
أن مطاياك لمن خير المطي
وإن رويت إن بالكسر لم يبق الاستدلال إلا أن قطرباً قال : سمعناه مفتوح الهمزة وأيضاً فقد / أدخلت اللام في خبر أمسى ، قال ابن جني أنشدنا أبو علي :
مروا عجالى فقالوا كيف صاحبكم
فقال من سئلوا أمسى لمجهودا
وقال قطرب وسمعنا بعض العرب يقول : أراك المسالمي وإني رأيته لشيخاً وزيد والله لواثق بك وقال كثير :
وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها
لكالهائم المقصى بكل بلاد
وقال آخر :
ولكنني من حبها لعميد
وقال المعترض هذه الأشعار من الشواذ وإنما جاءت كذا لضرورة الشعر وجل كلام الله تعالى عن الضرورة وإنما تقرر هذا الكلام إذا بينا أن المبتدأ إذا لم يدخل عليه إن وجب إدخال اللام عليه لا على الخبر وتحقيقه أن اللام تفيد تأكيد موصوفية المبتدأ بالخبر واللام تدل على حالة من حالات المبتدأ وصفة من صفاته فوجب دخولها على المبتدأ لأن العلة الموجبة لحكم في محل لا بد وأن تكون مختصة بذلك المحل لا يقال هذا مشكل بما إذا دخلت إن على المبتدأ فإن ههنا يجب إدخال اللام على الخبر مع أن ما ذكرتموه حاصل فيه لأنا نقول ذلك لأجل الضرورة وذلك لأن كلمة إن للتأكيد واللام للتأكيد فلو قلنا : إن لزيداً قائم لكنا قد أدخلنا حرف التأكيد على حرف التأكيد وذلك ممتنع فلما تعذر إدخالها على المبتدأ لا جرم أدخلناها على الخبر لهذه الضرورة ، وأما إذا لم يدخل حرف إن على المبتدأ كانت هذه الضرورة زائلة فوجب إدخال اللام على المبتدأ لا يقال إذا جاز إدخال حرف النفي على حرف النفي في قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
ما إن رأيت ولا سمعت به
كاليوم طالبني أنيق أجرب
(1/3070)
والغرض به تأكيد النفي فلم لا يجوز إدخال حرف التأكيد على حرف التأكيد والغرض به تأكيد الإثبات لأنا نقول الفرق بين البابين أن قولك زيد قائم يدل على الحكم بموصوفية زيد بالقيام فإذا قلت إن زيداً قائم فكلمة إن تفيد تأكيد ذلك الحكم فلو ذكرت مؤكداً آخر مع كلمة إن صار عبثاً ، أما لو قلت : رأيت فلاناً فهذا للثبوت فإذا أدخلت عليه حرف النفي أفاد حرف النفي معنى النفي ولا يفيد التأكيد لأنه مستقل بإفادة الأصل فكيف يفيد الزيادة فإذا ضممت إليه حرف نفي آخر صار الحرف الثاني مؤكداً للأول فلا يكون عبثاً فهذا هو الفرق بين البابين فهذا منتهى تقرير هذا الاعتراض وهو عندي ضعيف ، لأن الكل اتفقوا على أنه إذا اجتمع النقل والقياس فالنقل أولى ، ولأن هذه العلل في نهاية الضعف فكيف يدفع بها النقل الظاهر. الوجه الثاني : في الجواب عن قولهم اللام لا يحسن دخولها على الخبر إلا إذا دخلت كلمة إن على المبتدأ كما ذكره الزجاج فقال : إن وقعت موقع نعم واللام في موقعها والتقدير نعم هذان لهما ساحران فكانت اللام داخلة على المبتدأ لا على الخبر. قال : وعرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحق فارتضياه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا. قال ابن جنى : هذا القول غير صحيح لوجوه : الوجه / الأول : أن الأصل أن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل به ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام لأن التأكيد إنما يحتاج إليه حيث لم يكن العلم به حاصلاً. الوجه الثاني : أن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب فالجمع بينهما غير جائز ولأن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. الوجه الثالث : امتناع أصحابنا البصريين من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو قولك زيد ضربت فلا يجيزون زيد ضربت نفسه على أن يجعل النفس توكيداً للهاء المؤكدة المقدرة في ضربت أي ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم به ، وإذا كان كذلك فقد استغنى عن تأكيده فكذا ههنا. الوجه الرابع : أن جميع النحويين حملوا قول الشاعر : أم الحليس لعجوز شهر به. على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة ولو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لما عدل عنه النحويون ولما حملوا الكلام عليه على الإضطرار إذا وجدوا له وجهاً ظاهراً ، ويمكن الجواب عن اعتراض ابن جنى بأنه إنما حسن حذف المبتدأ لأن في اللفظ ما يدل عليه وهو قوله : هذان أما لو حذف التأكيد فليس في اللفظ ما يدل عليه فلا جرم كان حذف المبتدأ أولى من حذف التأكيد ، وأما امتناعهم من تأكيد الضمير في قولهم : زيد ضربت نفسه فذاك إنما كان لأن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر فإذا قال زيد : ضربت نفسه كان قوله نفسه مفعولاً فلا يمكن جعله تأكيداً للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع ههنا لهذه العلة لا لأن تأكيد المحذوف مطلقاً ممتنع وأما قوله : النحويون حملوا قول الشاعر : أم الحليس لعجوز شهر به. على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة فلو جاز ما قاله الزجاج لما عدل عنه النحويون ، فهذا اعتراض في نهاية السقوط لأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً فما أكثر ما ذهل المتقدم عنه وأدركه المتأخر فهذا تمام الكلام في شرح هذا. الوجه الثالث : في الجواب أن كلمة إن ضعيفة في العمل لأنها تعمل بسبب مشابهة الفعل فوجب كونها ضعيفة في العمل وإذا ضعفت جاز بقاء المبتدأ على إعرابه الأصلي وهو الرفع.
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
المقدمة الأولى : أنها تشبه الفعل وهذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال ، وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الإسم وهو تأكيد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت : قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الإسم.
المقدمة الثانية : أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل فذلك ظاهر بناء على الدوران.
(1/3071)
المقدمة الثالثة : أنها لم تنصب الاسم وترفع الخبر فتقريره أن يقال : إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً أو تنصبهما معاً أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول / باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول إن عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر ألبتة ولأنها أعطيت عمل الفعل ، والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك. والقسم الثاني : أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه. والقسم الثالث : أيضاً باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع وفي المفعول بالنصب فلو جعل النصب ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع ، ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين. القسم الرابع : وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر ، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصيلة لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب العمل عدول عن الأصل فذلك يدل على أن العمل بهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض.
المقدمة الرابعة : لما ثبت أن تأثيرها في نصب الاسم بسبب هذه المشابهة وجب جواز الرفع أيضاً ، وذلك لأن كون الاسم مبتدأ يقتضي الرفع ودخول إن على المبتدأ لا يزيل عنه وصف كونه مبتدأ لأنه يفيد تأكيد ما كان لا زوال ما كان إذا ثبت هذا فنقول : وصف كونه مبتدأ يقتضي الرفع وحرف إن يقتضي النصب ولكن المقتضى الأول أولى بالاقتضاء من وجهين : أحدهما : أن وصف كونه مبتدأ صفة أصلية للمبتدأ ودخول إن عليه صفة عرضية والأصل راجح على العارض. والثاني : أن اقتضاء وصف المبتدأ للرفع أصلي واقتضاء حرف إن للنصب صفة عارضة بسبب مشابهتها بالفعل فيكون الأول أولى فثبت بمجموع ما قررنا أن الرفع أولى من النصب فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من أصل الجواز ولهذا السبب إذا جئت بخبر إن ثم عطفت على الاسم إسماً آخر جاز فيه الرفع والنصب معاً. الوجه الرابع : في الجواب قال الفراء : هذا أصله ذا زيدت الهاء لأن ذا كلمة منقوصة فكملت بالهاء عند التنبيه وزيدت ألفاً للتثنية فصارت هذا إن فاجتمع ساكنان من جنس واحد فاحتيج إلى حذف واحد ولا يمكن حذف ألف الأصل لأن أصل الكلمة منقوصة فلا تجعل أنقص فحذف ألف التثنية لأن النون يدل عليه فلا جرم لم تعمل إن لأن عملها في ألف التثنية ، وقال آخرون : الألف الباقي إما ألف الأصل أو ألف التثنية. فإن كان الباقي ألف الأصل لم يجز حذفها لأن العامل الخارجي لا يتصرف في ذات الكلمة ، وإن كان الباقي ألف التثنية فلا شك أنهم أنابوها مناب ألف الأصل ، وعوض الأصل أصل لا محالة فهذا الألف أصل فلا يجوز حذفه ويرجع حاصل هذا إلى الجواب الأول. الوجه الخامس : في الجواب حكى الزجاج عن قدماء النحويين أن الهاء ههنا مضمرة والتقدير إنه هذان لساحران ، وهذه الهاء كناية عن الأمر والشأن ، فهذا ما قيل في هذا الموضع ، فأما من خفف فقرأ إن هذان لساحران فهو حسن فإن ما بعد الخفيفة رفع واللام بعدها في الخبر لازمة واجبة وإن كانت في إن الثقيلة جائزة ليظهر الفرق بين إن المؤكدة وإن النافية. قال الشاعر :
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
/ وإن مالك للمرتجى إن تضعضعت
رحا الحرب أو دارت على خطوب
وقال آخر :
إن القوم والحي الذي أنا منهم
لأهل مقامات وشاء وجامل
الجامل جمع جمل ، ثم من العرب من يعمل إن ناقصة كما يعملها تامة اعتباراً بكان فإنها تعمل وإن نقصت في قولك : لم يكن لبقاء معنى التأكيد ، وإن زال الشبه اللفظي بالفعل لأن العبرة للمعنى ، وهذه اللغة تدل على أن العبرة في باب الإعمال الشبه المعنوي بالفعل وهو إثبات التوكيد دون الشبه اللفظي كما أن التعويل في باب كان على المعنى دون اللفظ لكونه فعلاً محضاً ، وأما اللغة الظاهرة وهي ترك إعمال إن الخفيفة دالة على أن الشبه اللفظي في إن الثقيلة أحد جزأي العلة في حق عملها وعند الخفة زال الشبه فلم تعمل بخلاف السكون فإنه عامل بمعناه لكونه فعلاً محضاً ولا عبرة للفظه.
(1/3072)
المسألة الثانية : أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه. فأحدها : قولهم : {هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ} وهذا طعن منهم في معجزات موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر ، ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا : كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه. وثانيها : قوله : {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم} وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ ، والمولد شديدة على القلوب ، وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله : {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَـامُوسَى } (طه : 57) وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها. وثالثها : قوله : {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وههنا بحثان :
البحث الأول : قال الفراء : الطريقة الرجال الأشراف الذين هم قدوة لغيرهم يقال هم طريقة قومهم ، ويقال للواحد أيضاً : هو طريقة قومه ، وجعل الزجاج الآية من باب حذف المضاف أي ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى ، وعلى التقديرين ، فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهرون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا اسرائيل لقول موسى عليه السلام : {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل } (الشعراء : 17) وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عدداً وأموالاً ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى : {كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم : 32) ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة.
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
البحث الثاني : {الْمُثْلَى } مؤنثة لتأنيث الطريقة ، واختلفوا في أنه لم سمى الأفضل بالأمثل / فقال بعضهم : الأمثل : الأشبه بالحق ، وقيل : الأمثل الأوضح والأظهر ، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم مبالغتهم في التنفير عن موسى عليه السلام والترغيب في إبطال أمره حكى عنهم أنهم قالوا : {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا } قرأ أبو عمرو بوصل الألف وفتح الميم من أجمعوا يعني لا تدعوا شيئاً من كيدهم إلا جئتم به دليله قوله : {فَجَمَعَ كَيْدَه } وقرأ الباقون بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان : أحدهما : قال الفراء : الإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء ، يقال : أجمعت على الخروج مثل أزمعت. والثاني : بمعنى الجمع وقد مضى الكلام في هذا عند قوله : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} (يونس : 71) قال الزجاج : ليكن عزمكم كلكم كاليد مجمعاً عليه لا تختلفوا ثم ائتوا صفاً ، ذكر أبو عبيدة والزجاج وجهين : أحدهما : أن الصف موضع الجمع والمعنى ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم ، والمعنى : ائتوا مصلى من المصليات أو كان الصف علماً للمصلى بعينه فأمروا بأن يأتوه. والثاني : أن يكون الصف مصدراً والمعنى ثم ائتوا مصطفين مجتمعين لكي يكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم ، وهذا قول عامة المفسرين ، وقوله : {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } اعتراض ، يعني : وقد فاز من غلب فكانوا يقرون بذلك أنفسهم فيما اجتمعوا عليه من إظهار ما يظهرونه من السحر.
جزء : 22 رقم الصفحة : 71
75
اعلم أنه لما تقدم ذكر الموعد وهو يوم الزينة وتقدم أيضاً قوله : {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا } (طه : 64) صار ذلك مغنياً عن قوله فحضروا هذا الموضع وقالوا : {إِمَّآ أَن تُلْقِىَ} لدلالة ما تقدم عليه وقوله : {إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } معناه إما أن تلقى ما معك قبلنا ، وإما أن نلقى ما معنا قبلك ، وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع له ، فلا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته ، ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال : {بَلْ أَلْقُوا } أما قوله : {بَلْ أَلْقُوا } ففيه سؤالان :
(1/3073)
/ السؤال الأول : كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام : {بَلْ أَلْقُوا } فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفراً. والجواب من وجوه : أحدها : لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيماناً وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال. وثانيها : ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير : {أَلْقُوا مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ} (الشعراء : 43) إن كنتم محقين كما في قوله تعالى : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (البقرة : 23) أي إن كنتم قادرين. وثالثها : أنه لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً. وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ، ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا ههنا. ورابعها : أن لا يكون ذلك أمراً بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حساً لكي ينكشف الحق. وخامسها : أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله : {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } (طه : 61) وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمراً لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهياً وآمراً بالفعل الواحد محال ، فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال.
جزء : 22 رقم الصفحة : 75
السؤال الثاني : لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس ، فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز. والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاؤوا لمعارضته فقال عليه السلام : لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز ، ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سبباً لإزالة الشبهة ، وأما على التقدير الأول فإنه يكون سبباً لوقوع الشبهة فكان ذلك أولى. أما قوله : {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : {أَلْقُوا ا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} ميلاً من هذا الجانب وميلاً من هذا الجانب فخيل إلى موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى / فخاف فلما قيل له : {وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعاً فصاح بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصى كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئاً إلا أكلته فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحراً لبقيت فخروا سجداً وقالوا : {قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ} (الأعراف : 121/ 122).
المسألة الثانية : اختلفوا في عدد السحرة قال القاسم بن سلام : كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل. وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل ، وقال وهب : كانوا خمسة عشر ألفاً ، وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة : ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الاسكندرية. وقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك ، واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه والأقوال إذا تعارضت تساقطت.
جزء : 22 رقم الصفحة : 75
(1/3074)
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن تكون ناصباً فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى : {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل ، والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي اهـ.
المسألة الرابعة : قرىء عصيهم بالضم وهو الأصل والكسر إتباع نحو دلي ودلي وقسي وقسي وقرىء تخيل بالتاء المنقوطة من فوق بإسناد الفعل إلى الحبال والعصي وقرىء بالضم بالياء المنقطة من تحت بإسناد الفعل إلى الكيد والسحر وقال الفراء أي يخيل إليه سعيها.
المسألة الخامسة : الهاء في قوله : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} كناية عن موسى عليه السلام والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حياً من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة ويقال إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطرب ويتحرك. ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى ، فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلاً بقوله تعالى : {فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (الأعراف : 116) وبقوله تعالى : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } فهذا غير جائز لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد / لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود/ فإذن المراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى ، أما قوله تعالى : {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِه خِيفَةً مُّوسَى } فالإيجاس استشعار الخوف أي وجد في نفسه خوفاً ، فإن قيل : إنه لا مزيد في إزالة الخوف على ما فعله الله تعالى في حق موسى عليه السلام فإنه كلمه أولاً وعرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد ، ثم إنه تعالى صيرها كما كانت بعد أن كانت كأعظم ثعبان ، ثم إنه أعطاه الاقتراحات الثمانية وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن الثمانية ثم قال له بعد ذلك كله : {إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى } (
جزء : 22 رقم الصفحة : 75
طه : 46) فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه والجواب عنه من وجوه. أحدها : أن ذلك الخوف إنما كان لما طبع الآدمي عليه من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى عليه السلام أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره وهذا قول الحسن. وثانيها : أنه خاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه فيظنوا أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويشتبه ذلك عليهم وهذا التأويل متأكد بقوله : {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى } وهذا قول مقاتل. وثالثها : أنه خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه فيدوموا على اعتقاد الباطل. ورابعها : لعله عليه السلام كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي فلما تأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل الوحي في ذلك الوقت فيبقى في الخجالة. وخامسها : لعله عليه السلام خاف من أنه لو أبطل سحر أولئك الحاضرين فلعل فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيأتيه بهم فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهكذا من غير أن يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود ، ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بالإجمال أولاً وبالتفصيل ثانياً ، أما الإجمال فقوله تعالى : {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى } ودلالته على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أن أمره لا يظهر للقوم فآمنه الله تعالى بقوله : {إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى } وفيه أنواع من المبالغة. أحدها : ذكر كلمة التأكيد وهي إن. وثانيها : تكرير الضمير. وثالثها : لام التعريف. ورابعها : لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وأما التفصيل فقوله : {وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ} وفيه سؤال ، وهو أنه لمَ لم يقل وألق عصاك. والجواب : جاز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء عندها فألقه يتلقفها بإذن الله تعالى ويمحقها ، أما قوله : {تَلْقَفْ} أي فإنك إذا ألقيتها فإنها تلقف ما صنعوا قراءة العامة تلقف بالجزم والتشديد أي فألقها تتلقفها وقرأ ابن عامر تلقف بالتشديد وضم الفاء على معنى الحال أي ألقها متلقفة أو بالرفع على الاستئناف ، وروى حفص عن عاصم بسكون اللام مع التخفيف أي تأخذ بفيها ابتلاعاً بسرعة واللقف والتلقف جميعاً يرجعان إلى هذا المعنى ، وصنعوا ههنا بمعنى اختلقوا وزوروا والعرب تقول في الكذب : هو كلام مصنوع وموضوع وصحة قوله :
(1/3075)
جزء : 22 رقم الصفحة : 75
{تَلْقَفْ} أنه إذا ألقى ذلك وصارت حية تلقفت / ما صنعوا وفي قوله : {فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} (طه : 70) دلالة على أنه ألقى العصا وصارت حية وتلقفت ما صنعوه وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكى عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه : أحدها : ظهور حركة العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة. وثانيها : زيادة عظمه على وجه لا يتم ذلك بالحيلة. وثالثها : ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة. ورابعها : تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة. وخامسها : عوده خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة فكيف يحصل التعارض. وقرىء كيد ساحر بالرفع والنصب فمن رفع فعلى أن ما موصولة ومن نصب فعلى أنها كافة وقرىء كيد سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر ، كما يبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو ، بقي سؤالات :
السؤال الأول : لم وحد الساحر ، ولم يجمع. الجواب : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد فلو جمع تخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله : {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي هذا الجنس.
السؤال الثاني : لم نكر أولاً ثم عرف ثانياً. الجواب : كأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ.
السؤال الثالث : قوله : {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } يدل على أن الساحر لا يحصل له مقصوده بالسحر خيراً كان أو شراً وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية. الجواب : الكلام في السحر وحقيقته قد تقدم في سورة البقرة فلا وجه للإعادة والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 75
77
(1/3076)
/ اعلم أن في قوله : {فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} دلالة على أنه ألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر الأمر فخروا عند ذلك سجداً وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر فلما رأوا ما فعله موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر ألبتة ويقال : قال رئيسهم كنا نغالب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقيناه فاستدلوا بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى ، فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود ، أما قوله تعالى : {فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} فليس المراد منه أنهم أجبروا على السجود إلا لما كانوا محمودين بل التأويل فيه ما قال الأخفش وهو أنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ، وقال صاحب "الكشاف" : ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. فما أعظم الفرق بين الإلقاءين ، وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة : لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. قال القاضي : هذا بعيد لأنه تعالى لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين ، وذلك لا يليق به قولهم : {إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـايَـانَا} (طه : 73). وجوابه : لما جاز لإبراهيم عليه السلام مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى} (الشعراء : 82) فلم لا يجوز مثله في حق السحرة ، واعلم أن هذه القصة تنبه على أسرار عجيبة من أمور الربوبية ونفاذ القضاء الإلهي وقدره في جملة المحدثات ، وذلك لأن ظهور تلك الأدلة كانت بمرأى من الكل ومسمع فكان وجه الاستدلال فيها جلياً ظاهراً وهو أنه حدثت أمور فلا بد لها من مؤثر والعلم بذلك ضروري ، وذلك المؤثر إما الخلق ، وإما غيرهم. والأول بديهي البطلان لأن كل عاقل يعلم بالضرورة من نفسه أنه لا يقدر على إيجاد الحيوانات وتعظيم جثتها دفعة واحدة ثم يصغرها مرة أخرى كما كانت وهذه العلوم الجلية متى حصلت في العقل أفادت القطع بأنه لا بد من مدبر لهذا العالم ، فماذا يقول ألا ترى أن أولئك المنكرين جهلوا صحة هذه المقدمات وهذا في نهاية البعد ، لأنا بينا أن كل واحد منها بحيث لا يمكن ارتياب العاقل فيه وإذاً فقد عرفوا صحتها لكنهم أصروا على الجهل وكرهوا تحصيل العلم والسعادة لأنفسهم وأحبوا تحصيل الجهل والشقاوة لأنفسهم ما أرى أن عاقلاً يرضى بذلك لنفسه قط ، فلم يبق إلا أن يقال : العقل والدليل لا يكفي بل لا بد من مدبر يخلق هذه المقدمات في القلوب ، ويخلق الشعور بكيفية ترتيبها وبكيفية استنتاجها / للنتيجة حتى أنه متى فعل ذلك حصلت النتائج في القلوب وذلك يدل على أن الكل بقضائه وقدره فإنه لا اعتماد على العقول والقلوب في مجاريها وتصرفاتها ومن طرح التعصب عن قلبه ونظر إلى أحوال نفسه في مجاري أفكاره وأنظاره ازداد وثوقاً بما ذكرناه. أما قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 77
{قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـارُونَ وَمُوسَى } فاعلم أن التعليمية احتجوا بهذه الآية وقالوا : إنهم آمنوا بالله الذي عرفوه من قبل هرون وموسى فدل ذلك على أن معرفة الله لا تستفاد إلا من الإمام ، وهذا القول ضعيف بل في قولهم : {ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـارُونَ وَمُوسَى } فائدتان سوى ما ذكروه.
الفائدة الأولى : وهي أن فرعون ادعى الربوبية في قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } (النازعات : 24) والإلهية في قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} (القصص : 38) فلو أنهم قالوا : آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة ، والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هرون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} (الشعراء : 18) فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هرون على موسى قطعاً لهذا الخيال.
(1/3077)
الفائدة الثانية : وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا : رب هرون وموسى لأجل ذلك ، ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال : {قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُم إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ} وهذا الكلام مشتمل على شبهتين. إحداهما : قوله : {قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ} وتقريره أن الاعتماد على الخاطر الأول غير جائز بل لا بد فيه من البحث والمناظرة والاستعانة بالخواطر ، فلما لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال : {لَه قَبْلَ} دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن البصيرة بل عن سبب آخر. وثانيها : قوله : {إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } يعني أنكم تلامذته في السحر فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه ، ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 77
{لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ} قرىء لأقطعن ولأصلبن بالتخفيف. والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين خلاف الآخر ، فإن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال وقوله : {مِّنْ خِلَـافٍ} في محل النصب على الحال أي : لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ثم قال : {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} فشبه تمكن المصلوب في الجذع يتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قال في جذوع النخل والذي يقال في المشهور أن في بمعنى على فضعيف ثم قال : {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } أراد بقوله : {أَيُّنَآ} نفسه لعنه الله لأن قوله : {أَيُّنَآ} يشعر بأنه أراد نفسه وموسى عليه السلام بدليل قوله : {لَه قَبْلَ} وفيه تصالف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب واستضعاف موسى عليه السلام مع الهزء به لأن موسى عليه السلام قط لم / يكن من التعذيب في شيء ، فإن قيل : إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية بتلك العظمة التي شرحتموها وذكرتم أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى عليه السلام من شر ذلك الثعبان فمع قرب عهده بذلك وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ويستهزىء بموسى عليه السلام في قوله : {أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } قلنا لم لا يجوز أن يقال : إنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه كان يظهر تلك الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره ، ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أن العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء/ ومما يدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشد من عذاب البشر ، ثم إنه أنكر ذلك ، وأيضاً فقد كان عالماً بكذبه في قوله : {إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } لأنه علم أن موسى عليه السلام ما خالطهم ألبتة وما لقيهم وكان يعرف من سحرته أن أستاذ كل واحد من هو وكيف حصل ذلك العلم ، ثم إنه مع ذلك كان يقول هذه الأشياء فثبت أن سبيله في كل ذلك ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخره شهداء".
جزء : 22 رقم الصفحة : 77
80
(1/3078)
/ اعلم أنه تعالى لما حكى تهديد فرعون لأولئك حكى جوابهم عن ذلك بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة لهم في أصول الدين ، فقالوا : {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ} وذلك يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلا فعل بهم ما أوعدهم فقالوا : {لَن نُّؤْثِرَكَ} جواباً لما قاله وبينوا العلة وهي أن الذي جاءهم بينات وأدلة ، والذي يذكره فرعون محض الدنيا ، ومنافع الدنيا ومضارها لا تعارض منافع الآخرة ومضارها ، أما قوله : {وَالَّذِى فَطَرَنَا } ففيه وجهان : الأول : أن التقدير لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات وعلى الذي فطرنا أي وعلى طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته. الوجه الثاني : يجوز أن يكون خفضاً على القسم. واعلم أنهم لما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان فعل فرعون ما أوعدهم به فقالوا : {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } لا على معنى أنهم أمروه بذلك لكن أظهروا أن ذلك الوعيد لا يزيلهم ألبتة عن إيمانهم وعما عرفوه من الحق علماً وعملاً ، ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا : {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا} وقرىء : (نقضي هذه الحياة الدنيا) ووجهها أن الحياة في القراءة المشهورة منتصبة على الظرف فاتسع في الظرف باجرائه مجرى المفعول به كقولك : في صمت يوم الجمعة صيم والمعنى أن قضاءك وحكمك إنما يكون في هذه الحياة الدنيا وهي كيف كانت فانية وإنما مطلبنا سعادة الآخرة وهي باقية ، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني المتوصل به إلى السعادة الباقية ثم قالوا :
جزء : 22 رقم الصفحة : 80
{إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـايَـانَا} ولما كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر ، قالوا : {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ } وذكروا في ذلك الإكراه وجوهاً. أحدها : أن الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه فقالوا هذا القول لأجل ذلك أي كنا في التعلم أولاً والتعليم ثانياً مكرهين قاله ابن عباس. وثانيها : أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين ، إثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل فقالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا : ما هذا بساحر ، الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه. وثالثها : قال الحسن : إن السحرة حشروا من المدائن ليعارضوا موسى عليه السلام فأحضروا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور وربما كانوا مكرهين أيضاً في إظهار السحر. ورابعها : قال عمرو بن عبيد : دعوة السلطان إكراه وهذا ضعيف لأن دعوة السلطان إذا لم يكن معها خوف لم تكن إكراهاً ، ثم قالوا : {وَاللَّهُ خَيْرٌ} ثواباً لمن أطاعه. {وَأَبْقَى } عقاباً لمن عصاه ، وهذا جواب لقوله : {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } (طه : 71). قال الحسن : سبحان الله القوم كفار وهم أشد الكافرين كفراً ثبت في قلوبهم الإيمان في طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا : {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } في ذات الله تعالى والله إن أحدكم اليوم ليصحب القرآن ستين عاماً ثم إنه يبيع دينه بثمن حقير ، ثم ختموا هذا الكلام بشرح أحوال المؤمنين وأحوال المجرمين في عرصة القيامة ، فقالوا في المجرمين : / {إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا فَإِنَّ لَه جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الهاء في قوله : {إِنَّه } ضمير الشأن يعني أن الأمر والشأن كذا وكذا.
جزء : 22 رقم الصفحة : 80
(1/3079)
المسألة الثانية : استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر قالوا : صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم لقوله : {إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا} وكلمة من في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها والإستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، واعترض بعض المتكلمين من أصحابنا على هذا الكلام ، فقال : لا نسلم أن صاحب الكبيرة مجرم والدليل عليه أنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فإنه قال في هذه الآية : {وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ} وقال : {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ} (المطففين : 29) وأيضاً فإنه قال : {فَإِنَّ لَه جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } والمؤمن صاحب الكبيرة وإن عذب بالنار لا يكون بهذا الوصف ، وفي الخبر الصحيح : "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان". واعلم أن هذه الاعتراضات ضعيفة ، أما قوله : إن الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فهذا مسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط ، قوله ثانياً : إنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقه : إن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ، قلنا : لا نسلم فإن عذاب جهنم في غاية الشدة قال تعالى : {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } (آل عمران : 192) وأما الحديث فيقال : "القرآن متواتر فلا يعارضه خبر الواحد". ويمكن أن يقال : ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد وللخصم أن يجيب فيقول ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات ، وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات ، فلا يجوز المصير إليها ههنا. فإن اعترض إنسان آخر ، وقال : أجمعنا على أن هذه الآية مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطاً بثواب طاعته والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب ولكن عندنا العفو محبط للعقاب ، وعندنا أن المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم ، واعلم أن هذا الاعتراض أيضاً ضعيف أما شرط نفي التوبة فلا حاجة إليه لأنه قال : {مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا}
جزء : 22 رقم الصفحة : 80
أي حال كونه مجرماً والتائب لا يصدق عليه أنه أتى ربه حال كونه مجرماً. وأما صاحب الصغيرة فلأنه لا يسمى مجرماً لأن المجرم اسم للذم فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة ، بل الاعتراض الصحيح أن نقول : عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد وهو قوله تعالى : {وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ فَ أولئك لَهُمُ الدَّرَجَـاتُ الْعُلَى } وكلامنا فيمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر. فإن قيل : عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة ، قلنا : لم لا يجوز أن يقال : ثواب الإيمان يدفع عقاب المعصية فإن قالوا : لو كان كذلك لوجب أن لا يجوز لعنه وإقامة الحد عليه. قلنا : أما اللعن الغير جائز عندنا ، وأما إقامة الحد عليه فقد تكون على سبيل المحنة كما في حق التائب وقد تكون / على سبيل التنكيل. قالت المعتزلة قوله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّه } (المائدة : 38) فالله تعالى نص على أنه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل ، وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقاً للمدح والتعظيم ، وإذا لم يبق ذلك لم يبق الثواب كما قلنا. فدلنا ذلك على أن عقاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة. هذا منتهى كلامهم في مسألة الوعيد قلنا حاصل الكلام يرجع إلى أن النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل صار معارضاً للنصوص الدالة على كونه مستحقاً للثواب ، فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس وذلك لأن المؤمن كان ينقسم إلى السارق وغير السارق ، فالسارق ينقسم إلى المؤمن وإلى غير المؤمن فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص فإذا تعارضا تساقطا. ثم نقول : لا نسلم أن كلمة من في إفادة العموم قطعية بل ظنية ومسألتنا قطعية فلا يجوز التعويل على ما ذكرته ، وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب المحصول في الأصول.
المسألة الثالثة : تمسكت المجسمة بقوله : {إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا} فقالوا : الجسم إنما يأتي ربه لو كان الرب في المكان. وجوابه : أن الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتياناً إلى الله مجازاً كقول إبراهيم عليه السلام : {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الصافات : 99).
جزء : 22 رقم الصفحة : 80
(1/3080)
المسألة الرابعة : الجسم الحي لا بد وأن يبقى إما حياً أو يصير ميتاً فخلوه عن الوصفين محال ، فمعناه في الآية أنه يكون في جهنم بأسوء حال لا يموت موتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة. ثم ذكر حال المؤمنين فقال : {وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ فَ أولئك لَهُمُ الدَّرَجَـاتُ الْعُلَى } واعلم أن قوله : {قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ} يقتضي أن يكون آتياً بكل الصالحات. وذلك بالإتفاق غير معتبر ولا ممكن فينبغي أن يحمل ذلك على أداء الواجبات ، ثم ذكر أن من أتى بالإيمان والأعمال الصالحات كانت له الدرجات العلى ، ثم فسرها فقال : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} وفي الآية تنبيه على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى من الجنة لمن أتى ربه بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات التي هي غير عالية لا بد وأن تكون لغيرهم. ما هم إلا العصاة من أهل الإيمان ، أما قوله : {وَذَالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى } فقال ابن عباس : يريد من قال لا إله إلا الله ، وأقول لما دلت هذه الآية على أن الدرجات العالية هي جزاء من تزكى أي تطهر عن الذنوب وجب بحكم ذلك الخطاب أن الدرجات التي لا تكون عالية أن لا تكون جزاء من تزكى فهي لغيرهم ممن يكون قد أتى بالمعاصي وعفا الله بفضله ورحمته عنهم ، واعلم أنه ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم به ولكن ثبت ذلك في الأخبار.
جزء : 22 رقم الصفحة : 80
82
/ واعلم أن في قوله : {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى ا أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} دلالة على أن موسى عليه السلام في تلك الحالة كثر مستجيبوه. فأراد الله تعالى تمييزهم من طائفة فرعون وخلاصهم فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً ، والسري اسم لسير الليل والإسراء مثله ، فإن قيل : ما الحكمة في أن يسري بهم ليلاً ، قلنا لوجوه : أحدها : أن يكون اجتماعهم لا بمشهد من العدو فلا يمنعهم عن استكمال مرادهم في ذلك. وثانيها : ليكون عائقاً عن طلب فرعون ومتبعيه. وثالثها : ليكون إذا تقارب العسكران لا يرى عسكر موسى عسكر فرعون فلا يهابوهم ، أما قوله : {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا} ففيه وجهان : الأول : أي فاجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً ، وضرب اللبن عمله. والثاني : بين لهم طريقاً في البحر بالضرب بالعصا وهو أن يضرب البحر بالعصا حتى ينفلق ، فعدى الضرب إلى الطريق. والحاصل أنه أريد بضرب الطريق جعل الطريق بالضرب يبساً ثم بين تعالى أن جميع أسباب الأمن كان حاصلاً في ذلك الطريق. أحدها : أنه كان يبساً قرىء يابساً ويبساً بفتح الياء وتسكين الباء فمن قال : يابساً جعله بمعنى الطريق ومن قال يبساً بتحريك الباء فاليبس واليابس شيء واحد والمعنى طريقاً أيبس. ومن قال : يبساً بتسكين الباء فهو مخفف عن اليبس ، والمراد أنه ما كان فيه وحل ولا نداوة فضلاً عن الماء. وثانيها : قوله : {لا تَخَـافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى } أي لا تخاف أن يدركك فرعون فإني أحول بينك وبينه بالتأخير ، قال سيبويه : قوله : {تَخَـافُ} رفعه على وجهين : أحدهما : على الحال كقولك غير خائف ولا خاش. والثاني : على الإبتداء أي أنت لا تخاف وهذا قول الفراء ، قال الأخفش والزجاج : المعنى لا تخاف فيه كقوله : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} (البقرة : 48) أي لا تجزي فيه نفس وقرأ حمزة لا تخف وفيه وجهان. أحدهما : أنه نهي. والثاني : قال أبو علي : جعله جواب الشرط على معنى إن تضرب لا تخف وعلى هذه القراءة ذكروا في قوله : {وَلا تَخْشَى } ثلاثة أوجه. أحدهما : أن يستأنف كأنه قيل وأنت لا تخشى أي ومن شأنك أنك آمن لا تخشى. وثانيها : أن لا تكون الألف هي الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام الفعل ولكن زائدة للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله تعالى : {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب : 48) {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } (الأحزاب : 10). وثالثها : أن يكون مثل قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 82
(وتضحك مني شيخة عبشمية)
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً
(1/3081)
/ وثالثها : قوله : {وَلا تَخْشَى } والمعنى أنك لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء أما قوله : {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِه } قال أبو مسلم : زعم رواة اللغة أن أتبعهم وتبعهم واحد وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة والمعنى أتبعهم فرعون جنوده كقوله تعالى : {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } (طه : 94) أسرى بعبده وقال الزجاج : قرىء : (فأتبعهم فرعون وجنوده) أي ومعه جنوده وقرىء : {بِجُنُودِه } ومعناه ألحق جنوده بهم ويجوز أن يكون بمعنى معهم أما قوله : {فَغَشِيَهُم} فالمعنى : علاهم وسترهم وما غشيهم تعظيم للأمر أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقرىء : (فغشاهم من اليم ما غشيهم) وفاعل غشاهم إما الله سبحانه وتعالى أو ما غشيهم أو فرعون لأنه الذي ورط جنوده وتسبب في هلاكهم أما قوله : {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَه وَمَا هَدَى } فاحتج القاضي به وقال لو كان الضلال من خلق الله تعالى لما جاز أن يقال وأضل فرعون قومه بل وجب أن يقال الله تعالى أضلهم ولأن الله تعالى ذمه بذلك فكيف يجوز أن يكون خالقاً للكفر لأن من ذم غيره بشيء لا بد وأن يكون هو غير فاعل لذلك الفعل وإلا لاستحق ذلك الذم وقوله : {وَمَا هَدَى } تهكم به في قوله : {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر : 29) ولنذكر القصة وما فيها من المباحث. قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر وكان موسى عليه السلام وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلى والدواب لعيد يخرجون إليه فخرج بهم ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين وقد كان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر فلم يخرجوا بها فتحير القوم حتى دلتهم عجوز على موضع العظام فأخذوها فقال موسى عليه السلام للعجوز : احتكمي فقالت : أكون معك في الجنة. وذكر ابن عباس أن محمداً صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر هجموا على رجل من العرب وامرأة ليس لهم إلا عنز فذبحوها لهما فقال عليه السلام : إذا سمعت برجل قد ظهر بيثرب فاته فلعل الله يرزقك منه خيراً ، فلما سمع بظهور الرسول صلى الله عليه وسلّم أتاه مع امرأته فقال : أتعرفني ؟
قال : نعم عرفتك فقال له : احتكم ، فقال : ثمانون ضانية فأعطاه إياها وقال له : "أما إن عجوز بني إسرائيل خير منك" وخرج فرعون في طلب موسى عليه السلام وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب فلما انتهى موسى إلى البحر قال : ههنا أمرت ثم قال موسى عليه السلام للبحر : انفرق فأبى ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فقال لهم موسى عليه السلام : ادخلوا فيه فقالوا : كيف وأرضه رطبة فدعا الله فهبت عليه الصبا فجفت فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر فأقبل فرعون إلى تلك الطرق فقال قومه له : إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى وكان على فرس حصان وأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون وأبصر الحصان الفرس الحجر فاقتحم بفرعون على أثرها وصاحت الملائكة في الناس / الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم فغرقوا فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم ، فقالوا : ما هذا يا موسى ؟
قال : قد أغرق الله فرعون وقومه فرجعوا لينظروا إليهم فقالوا : يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم ، فدعا فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم ، وذكر ابن عباس أن جبريل عليه السلام قال : يا محمد لو رأيتني وأنا أدس فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب فهذا معنى قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 82
{فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} وفي القصة أبحاث.
البحث الأول : روي في الأخبار أن موسى عليه السلام لما ضرب بعصاه البحر حصل اثنا عشر طريقاً يابساً يتهيأ طروقه وبقي الماء قائماً بين الطريق والطريق كالطود العظيم وهو الجبل. فأخذ كل سبط من بني إسرائيل في طريق من هذه الطرق. ومنهم من قال : بل حصل طريق واحد وحجة القول الأول الأخبار ومن القرآن قوله تعالى : {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} (الشعراء : 63) وذلك لا يحصل إلا إذا حصل هناك طرق حتى يكون الماء القائم بين الطريقين كالطود العظيم وحجة القول الثاني ظاهر قوله : {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا} وذلك يتناول الطريق الواحد وإن أمكن حمله على الطرق نظراً إلى الجنس.
البحث الثاني : روي أن بني إسرائيل بعد أن أظهر موسى عليه السلام لهم الطريق وبينها لهم تعنتوا وقالوا : نريد أن يرى بعضنا بعضاً وهذا كالبعيد وذلك أن القوم لما أبصروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الخوف والخائف إذا وجد طريق الفرار والخلاص كيف يتفرغ للتعنت البارد.
(1/3082)
البحث الثالث : أن فرعون كان عاقلاً بل كان في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه إلى التهلكة فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البحر ليس بأمره فعند هذا ذكروا وجهين. أحدهما : أن جبريل عليه السلام كان على الرمكة فتبعه فرس فرعون ، ولقائل أن يقول : هذا بعيد لأنه يبعد أن يكون خوض الملك في أمثال هذه المواضع مقدماً على خوض جميع العسكر وما ذكروه إنما يتم إذا كان الأمر كذلك وأيضاً فلو كان الأمر على ما قالوه لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور وذلك مما يزيده خوفاً ويحمله على الإمساك في أن لا يدخل وأيضاً فأي حاجة لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة وقد كان يمكنه أن يأخذه مع قومه ويرميه في الماء ابتداء ، بل الأولى أن يقال : إنه أمر مقدمة عسكره بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.
البحث الرابع : أن الذي نقل عن جبريل عليه السلام أنه كان يدسه في الماء والطين خوفاً من أن يؤمن فبعيد لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء عليهم السلام.
البحث الخامس : الذي روي أن موسى عليه السلام كلم البحر قال له : انفلق لي لأعبر عليك ، فقال البحر : لا يمر علي رجل عاص. فهو غير ممتنع على أصولنا لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على لسان المقال. والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 82
85
/ اعلم أنه تعالى لما أنعم على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكرهم إياها ولا شك أن إزالة المضرة يجب أن تكون متقدمة على إيصال المنفعة ولا شك أن إيصال المنفعة الدينية أعظم في كونه نعمة من إيصال المنفعة الدنيوية ، فلهذا بدأ الله تعالى بقوله : {أَنجَيْنَـاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ} وهو إشارة إلى إزالة الضرر فإن فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والإخراج والإتعاب في الأعمال ، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية وهي قوله : {وَوَاعَدْنَـاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الايْمَنَ} ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك الوقت عليهم كتاباً فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية وهي قوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} ثم زجرهم عن العصيان بقوله : {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } ثم بين أن من عصى ثم تاب كان مقبولاً عند الله بقوله : {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} وهذا بيان المقصود من الآية ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي قد أنجيتكم ووعدتكم إلى قوله : {مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} كلها بالتاء إلا قوله : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } فإنها بالنون وقرأ الباقون كلها بالنون وقرأ نافع وعاصم وواعدناكم وقرأ حمزة والكسائي وواعدتكم.
المسألة الثانية : قال الكلبي : لما جاوز موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر قالوا له : أليس وعدتنا أن تأتينا من ربنا بكتاب فيه الفرائض والأحكام. قال بلى ، ثم تعجل موسى إلى ربه ليأتيهم بالكتاب ووعدهم أن يأتيهم إلى أربعين ليلة من يوم انطلق ، وإنما قال : {وَوَاعَدْنَـاكُمْ} لأنه إنما واعد موسى أن يؤتيه التوراة لأجلهم وقال مقاتل : إنما قال : واعدناكم لأن الخطاب له وللسبعين المختارة والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 85
المسألة الثالثة : قال المفسرون : ليس للجبل يمين ولا يسار بل المراد أن طور سيناء عن / يمين من انطلق من مصر إلى الشام وقرىء الأيمن بالجر على الجوار نحو حجر ضب خرب وانتفاع القوم بذلك إما لأن الله تعالى أنزل التوراة عليهم وفيها شرح دينهم ، وإما لأن الله تعالى لما كلم موسى على الطور حصل للقوم بسبب ذلك شرف عظيم.
المسألة الرابعة : قوله : {كُلُوا } ليس أمر إيجاب بل أمر إباحة كقوله : {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (المائدة : 2).
المسألة الخامسة : في الطيبات قولان : أحدهما : اللذائذ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة. والثاني : وهو قول الكلبي ومقاتل الحلال لأنه شيء أنزله الله تعالى إليهم ولم تمسه يد الآدميين ويجوز الجمع بين الوجهين لأن بين المعنيين معنى مشتركاً. وتمام القول في هذه القصة تقدم في سورة البقرة.
المسألة السادسة : في قوله تعالى : {وَلا تَطْغَوْا } فيه وجوه. أحدها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تطغوا ، أي لا يظلم بعضكم بعضاً فيأخذه من صاحبه. وثانيها : قال مقاتل والضحاك : لا تظلموا فيه أنفسكم بأن تتجاوزوا حد الإباحة. وثالثها : قال الكلبي : لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تعرضوا على الشكر ولا تعدلوا عن الحلال إلى الحرام.
(1/3083)
المسألة السابعة : قرأ الأعمش والكسائي فيحل ومن يحلل كلاهما بالضم وروى الأعمش عن أصحاب عبد الله فيحل بالكسر ومن يحلل بالرفع وقراءة العامة بالكسر في الكلمتين أما من كسر فمعناه الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ومنه قوله تعالى : {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّه } (البقرة : 196) والمضموم في معنى النزول وقوله : {فَقَدْ هَوَى } أي شقي وقيل فقد وقع في الهاوية ، يقال : هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى أسفل.
جزء : 22 رقم الصفحة : 85
المسألة الثامنة : اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً ، وبأن له غفراناً ومغفرة وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر. أما إنه وصف نفسه بكونه غافراً فقوله : {غَافِرِ الذَّنابِ} (غافر : 3) وأما كونه غفوراً فقوله : {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } (الكهف : 58) وأما كونه غفاراً فقوله : {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} وأما الغفران فقوله : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} (البقرة : 285) وأما المغفرة فقوله : {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ} (الرعد : 6) وأما صيغة الماضي فقوله : في حق داود عليه السلام {فَغَفَرْنَا لَه ذَالِكَ } (ص : 25) وأما صيغة المستقبل فقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) وقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } (الزمر : 53) وقوله في حق محمد صلى الله عليه وسلّم : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} (الفتح : 2) وأما لفظ الاستغفار فقوله : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } (محمد : 19) وفي حق نوح عليه السلام : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا} (نوح : 10) وفي الملائكة : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } (الشورى : 5) واعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة أما آدم عليه السلام فقال : {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (الأعراف : 23) ، وأما نوح عليه السلام فقال : {وَإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى } (هود : 47) ، وأما إبراهيم عليه السلام فقال : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء : 82) وطلبها لأبيه : {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } (مريم : 47) وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته : {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } (
جزء : 22 رقم الصفحة : 85
يوسف : 92) وأما موسى عليه السلام ففي قصة القبطي : {رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى} (الأعراف : 151) وأما داود عليه السلام : {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه } (ص : 24) أما سليمان عليه السلام : {رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا} (ص : 35) وأما عيسى عليه السلام : {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة : 118) وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فقول : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } (محمد : 19) وأما الأمة فقوله : {وَالَّذِينَ جَآءُو مِنا بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا} (الحشر : 10) واعلم أن بسط الكلام ههنا أن نبين أولاً حقيقة المغفرة ثم نتكلم في كونه تعالى غافراً وغفوراً وغفاراً ثم نتكلم في أن مغفرته عامة ثم نبين أن مغفرته في حق الأنبياء عليهم السلام كيف تعقل مع أنه لا ذنب لهم ، ويتفرع على هذه الجملة استدلال أصحابنا في إثبات العفو وتقريره أن الذنب إما أن يكون صغيراً أو كبيراً بعد التوبة أو قبل التوبة والقسمان الأولان يقبح من الله عذابهما ويجب عليه التجاوز عنهما وترك القبيح لا يسمى غفراناً فتعين أن لا يتحقق الغفران إلا في القسم الثالث وهو المطلوب/ فإن قيل : هذا يناقض صريح الآية لأنه أثبت الغفران في حق من استجمع أموراً أربعة : التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء ، قلنا : إن من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ثم أذنب بعد ذلك كان تائباً ومؤمناً وآتياً بالعمل الصالح ، ومهتدياً ومع ذلك يكون مذنباً فحينئذ يستقيم كلامنا ، وههنا نكتة ، وهي أن العبد له أسماء ثلاثة : الظالم والظلوم والظلام. فالظالم : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه } (فاطر : 32) والظلوم : {إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} (الأحزاب : 72) والظلام إذا كثر ذلك منه ، ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم فكأنه تعالى يقول : إن كنت ظالماً فأنا غافر وإن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت ظلاماً فأنا غفار : {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ} (طه : 82).
جزء : 22 رقم الصفحة : 85
(1/3084)
المسألة التاسعة : كثير اختلاف المفسرين في قوله تعالى : {ثُمَّ اهْتَدَى } وسبب ذلك أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلا بد وأن يكون مهتدياً ، فما معنى قوله ثم اهتدى بعد ذكر هذه الأشياء ؟
والوجوه الملخصة فيه ثلاثة. أحدها : المراد منه الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه ويؤكده قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } (فصلت : 30) وكلمة ثم للتراخي في هذه الآية وليست لتباين المرتبتين بل لتباين الوقتين فكأنه تعالى قال : الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح مما قد يتفق لكل أحد ولا صعوبة في ذلك إنما الصعوبة في المداومة على ذلك والاستمرار عليه. وثانيها : المراد من قوله : {ثُمَّ اهْتَدَى } أي علم أن ذلك بهداية الله وتوفيقه وبقي مستعيناً بالله في إدامة ذلك من غير تقصير ، عن ابن عباس. وثالثها : المراد من الإيمان الاعتقاد المبني على الدليل والعمل الصالح إشارة إلى أعمال الجوارح بقي بعد ذلك ما يتعلق بتطهير القلب من الأخلاق الذميمة وهو المسمى بالطريقة في لسان الصوفية ، ثم انكشاف حقائق الأشياء له وهو المسمى بالحقيقة في / لسان الصوفية فهاتان المرتبتان هما المرادتان بقوله : {ثُمَّ اهْتَدَى } .
المسألة العاشرة : منهم من قال : تجب التوبة عن الكفر أولاً ثم الإتيان بالإيمان ثانياً واحتج عليه بهذه الآية فإنه تعالى قدم التوبة على الإيمان ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 85
86
اعلم أن في قوله : {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَـامُوسَى } دلالة على أنه قد تقدم قومه في المسير إلى المكان ويجب أن يكون المراد ما نبه عليه في قوله تعالى : {وَوَاعَدْنَـاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الايْمَنَ} (طه : 80) في هذه السورة ، وفي سائر السور كقوله : {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَـاثِينَ لَيْلَةً} (الأعراف : 142) يريد الميقات عند الطور وعلى الآية سؤالات :
السؤال الأول : قوله : {وَمَآ أَعْجَلَكَ} استفهام وهو على الله محال. الجواب أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه.
السؤال الثاني : أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يقال إنه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم أو لم يكن ممنوعاً عنه ، فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء ، وإن قلنا إنه ما كان ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز من الله تعالى. والجواب : لعله عليه السلام ما وجد نصاً في ذلك إلا أنه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب.
السؤال الثالث : قال : {وَعَجِلْتُ} والعجلة مذمومة. والجواب : إنها ممدوحة في الدين. قال تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} (آل عمران : 133).
السؤال الرابع : قوله : {لِتَرْضَى } يدل على أنه عليه السلام إنما فعل ذلك لتحصيل الرضا لله تعالى وذلك باطل من وجهين. أحدهما : أنه يلزم تجدد صفة الله تعالى ، والآخر أنه تعالى قبل حصول ذلك الرضا وجب أن يقال : إنه تعالى ما كان راضياً عن موسى لأن تحصيل الحاصل محال ، ولما لم يكن راضياً عنه وجب أن يكون ساخطاً عليه ، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام. الجواب : المراد تحصيل دوام الرضا كما أن قوله : {ثُمَّ اهْتَدَى } المراد دوام الاهتداء.
السؤال الخامس : قوله : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ} يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي / عينه الله تعالى له ، وإلا لم يكن ذلك تعجيلاً ثم ظن أن مخالفة أمر الله تعالى سبب لتحصيل رضاه وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله تعالى. والجواب : ما ذكرنا أن ذلك كان بالاجتهاد وأخطأ فيه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 86
السؤال السادس : قوله : {إِلَيْكَ} يقتضي كون الله في الجهة لأن إلى لانتهاء الغاية. الجواب : توافقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل فالمراد إلى مكان وعدك.
(1/3085)
السؤال السابع : {وَمَآ أَعْجَلَكَ} سؤال عن سبب العجلة فكان جوابه اللائق به أن يقول : طلبت زيادة رضاك والشوق إلى كلامك ، وأما قوله : {هُمْ أُوْلاءِ عَلَى ا أَثَرِى} فغير منطبق عليه كما ترى والجواب من وجهين : الأول : أن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين : أحدهما : إنكار نفس العجلة. والثاني : السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين عند موسى عليه السلام بالجواب هذا الثاني فقال : لم يوجد مني إلا تقدم يسير لا يحتفل به في العادة وليس بيني وبين من سبقته إلا تقدم يسير يتقدم بمثله الوفد عن قومهم ثم عقبه بجواب السؤال عن العجلة فقال : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } . الثاني : أنه عليه السلام لما ورد عليه من هيبة عتاب الله تعالى ما ورد ذهل عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام ، واعلم أن في قوله : {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَـامُوسَى } دلالة على أنه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين ، واختلفوا في المراد بالقوم فقال بعضهم : هم النقباء السبعون الذين قد اختارهم الله تعالى ليخرجوا معه إلى الطور فتقدمهم موسى عليه السلام شوقاً إلى ربه. وقال آخرون : القوم جملة بني إسرائيل وهم الذين خلفهم موسى مع هرون وأمره أن يقيم فيهم خليفة له إلى أن يرجع هو مع السبعين فقال : {هُمْ أُوْلاءِ عَلَى ا أَثَرِى} يعني بالقرب مني ينتظرونني ، وعن أبي عمرو ويعقوب إثري بالكسر وعن عيسى بن عمر أثري بالضم ، وعنه أيضاً أولى بالقصر ، والأثر أفصح من الأثر. وأما الأثر فمسموع في فرند السيف وهو بمعنى الأثر غريب.
جزء : 22 رقم الصفحة : 86
90
/ اعلم أنه تعالى لما قال لموسى : {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ} (طه : 83) وقال موسى في جوابه : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (طه : 84) عرفه الله تعالى ما حدث من القوم بعد أن فارقهم مما كان يبعد أن يحدث لو كان معهم فقال : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} وههنا مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
المسألة الأولى : قالت المعتزلة : لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى خلق فيهم الكفر لوجهين ، الوجه الأول : الدلائل العقلية الدالة على أنه لا يجوز من الله أن يفعل ذلك. الثاني : أنه قال : {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} ولو كان الله خلق الضلال فيهم لم يكن لفعل السامري فيه أثر وكان يبطل قوله : {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} وأيضاً فلأن موسى عليه السلام لما طالبهم بذكر سبب تلك الفتنة قال : {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فلو حصل ذلك بخلق الله تعالى لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فينا لا ما ذكرت فكان يبطل تقسيم موسى عليه السلام وأيضاً فقال : {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضب عليهم فيما هو الخالق له ولما بطل ذلك وجب أن يكون لقوله : {فَتَنَّا} معنى آخر وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان. يقال : فتنت الذهب بالنار إذا امتحنته بالنار لكي يتميز الجيد من الرديء فههنا شدد الله التكليف عليهم وذلك لأن السامري لما أخرج لهم ذلك العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أن لها إلهاً ليس بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف فكان فتنة والتشديد في التكليف موجود قال تعالى : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت : 2) هذا تمام كلام المعتزلة قال الأصحاب : ليس في ظهور صوت عن عجل متخذ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون ذلك العجل إلهاً فحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديداً في التكليف فلا يصح حمل الآية عليه فوجب حمله على خلق الضلال / فيهم ، قولهم : أضاف الإضلال إلى السامري قلنا : أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن كان الموجد لها هو الله تعالى فكذا ههنا وأيضاً قرىء وأضلهم السامري أي وأشدهم ضلالاً السامري وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة الاستدلال ، ثم الذي يحسم مادة الشغب التمسك بفصل الداعي على ما سبق تقريره في هذا الكتاب مراراً كثيرة.
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
المسألة الثانية : المراد بالقوم ههنا هم الذين خلفهم مع هرون عليه السلام على ساحل البحر وكانوا ستمائة ألف افتتنوا بالعجل غير أثني عشر ألفاً.
(1/3086)
المسألة الثالثة : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية سعيد بن جبير : كان السامري علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر والذي عليه الأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة ، قال الزجاج وقال عطاء عن ابن عباس : بل كان رجلاً من القبط جاراً لموسى عليه السلام وقد آمن به.
المسألة الرابعة : روى في القصة أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا : قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل بعد ذلك والتوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ} من وجهين. الأول : أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته. الثاني : أن السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى عليه السلام وعزم على إضلالهم حال مفارقة موسى عليه السلام وكأنه قدر الفتنة موجودة.
المسألة الخامسة : إنما رجع موسى عليه السلام بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة.
المسألة السادسة : ذكروا في الأسف وجوهاً. أحدها : أنه شدة الغضب وعلى هذا التقدير لا يلزم التكرار لأن قوله : غضبان يفيد أصل الغضب وقوله : أسفاً يفيد كماله. وثانيها : قال الأكثرون حزناً وجزعاً يقال أسف يأسف أسفاً إذا حزن فهو آسف. وثالثها : قال قوم : الآسف المغتاظ وفرقوا بين الاغتياط والغضب بأن الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويوصف بالغضب من حيث كان الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه والغيظ تغير يلحق المغتاظ وذلك لا يصح إلا على الأجسام كالضحك والبكاء ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه عاتبهم بعد رجوعه إليهم قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه ليس المراد من قوله : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ} أنه تعالى خلق الكفر فيهم وإلا لما عاتبهم بل يجب أن يعاتب الله تعالى قال الأصحاب : وقد فعل ذلك بقوله : {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ} (الأعراف : 155) ومجموع تلك المعاتبات أمور. أحدها : قوله : {قَالَ يَـاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وفيه سؤالان :
السؤال الأول : قوله : {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإله آخر سوى العجل أما لما اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا هذا / إلهكم وإله موسى كيف يتوجه عليهم هذا الكلام. الجواب : أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام.
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
السؤال الثاني : ما المراد بذلك الوعد الحسن. الجواب : ذكروا وجوهاً. أحدها : أن المراد ما وعدهم من إنزال التوراة عليهم ليقفوا على الشرائع والأحكام ويحصل لهم بسبب ذلك مزية فيما بين الناس وهو الذي ذكره الله تعالى فيما تقدم من قوله : {وَوَاعَدْنَـاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الايْمَنَ} (طه : 80). وثانيها : أن الوعد الحسن هو الوعد الصدق بالثواب على الطاعات. وثالثها : الوعد هو العهد وهو قول مجاهد وذلك العهد هو قوله تعالى : {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } (طه : 81) إلى قوله : {ثُمَّ اهْتَدَى } (طه : 82) والدليل عليه قوله بعد ذلك : {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فكأنه قال : أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم ولا تطغوا فيه. ورابعها : الوعد الحسن ههنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا ، أما منافع الدين فهو الوعد بإنزال الكتاب الشريف الهادي إلى الشرائع والأحكام والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة. وأما منافع الدنيا فهو أنه تعالى قبل إهلاك فرعون كان قد وعدهم أرضهم وديارهم/ وقد فعل ذلك ثم قال : {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فالمراد أفنسيتم ذلك العهد أم تعمدتم المعصية ، واعلم أن طول العهد يحتمل أموراً : أحدها : أفطال عليكم العهد بنعم الله تعالى من إنجائه إياكم من فرعون وغير ذلك من النعم المعدودة المذكورة في أوائل سورة البقرة وهذا كقوله : {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } (الحديد : 16). وثانيها : يروى أنهم عرفوا أن الأجل أربعون ليلة فجعلوا كل يوم بأزاء ليلة وردوه إلى عشرين. قال القاضي : هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبه على أحد. وثالثها : أن موسى عليه السلام وعدهم ثلاثين ليلة فلما زاد الله تعالى فيها عشرة أخرى كان ذلك طول العهد ، وأما قوله : {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فهذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحداً لا يريد ذلك ولكن المعصية لما كانت توجب ذلك ، ومريد السبب مريد للمسبب بالعرض صح هذا الكلام واحتج العلماء بذلك على أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. أما قوله :
(1/3087)
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
{فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى} فهذا يدل على موعد كان منه عليه السلام مع القوم وفيه وجهان : أحدهما : أن المراد ما وعدوه من اللحاق به والمجيء على أثره. والثاني : ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور ، فعند هذا قالوا : {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} وفي أن قائل هذا الجواب من هو وجهان : الأول : أنهم الذين لم يعبدوا العجل فكأنهم قالوا : إنا ما أخلفنا موعدك بملكنا أي بأمر كنا نملكه وقد يضيف الرجل فعل قريبه إلى نفسه كقوله تعالى : {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} (البقرة : 50) ، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} (البقرة : 72) وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا / أن يصير ذلك سبباً لوقوع التفرقة وزيادة الفتنة. الوجه الثاني : أن هذا قول عبدة العجل والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا وفاعل السبب فاعل المسبب ومخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة فإنه كان كالمالك لنا. فإن قيل : كيف يعقل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة العجل الذي يعرف فسادها بالضرورة ، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم ، قلنا : هذا غير ممتنع في حق البله من الناس ، واعلم أن في بملكنا ثلاث قراءات ، قرأ حمزة والكسائي بضم الميم ونافع وعاصم بفتح الميم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر ، أما الكسر والفتح فهما واحد وهما لغتان مثل رطل ورطل. وأما الضم فهو السلطان ، ثم إن القوم فسروا ذلك العذر المجمل فقالوا : {وَلَـاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر حملنا مخففة من الحمل وقرأ ابن كثير ونافع وحفص وابن عامر : حملنا مشددة ، فمن قرأ بالتخفيف فمعناه حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من القوم ومن قرأ بالتشديد ففيه وجوه : أحدها : أن موسى عليه السلام حملهم على ذلك أي أمرهم باستعارة الحلي والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك. وثانيها : جعلنا كالضامن لها إلى أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله. وثالثها : أن الله تعالى حملهم ذلك على معنى أنه ألزمهم فيه حكم المغنم ، أما الأوزار فهي الأثقال ومن ذلك سمي الذنب وزراً لأنه ثقل ثم فيه احتمالات. أحدها : أنه لكثرتها كانت أثقالاً. وثانيها : أن المغانم كانت محرمة عليهم فكان يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أثقالاً. وثالثها : المراد بالأوزار الآثام والمعنى حملنا آثاماً ، روي في الخبر أن هرون عليه السلام قال : إنها نجسة فتطهروا منها ، وقال السامري : إن موسى عليه السلام إنما احتبس عقوبة بالحلي فيجوز أن يكونوا أرادوا هذا القول. وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثم وذنب. ورابعها : أن ذلك الحلي كان القبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر لا جرم أنها وصفت بكونها أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي. أما قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
(1/3088)
{فَقَذَفْنَـاهَا} فذكروا فيه وجوهاً في أنهم أين قذفوها ؟
الوجه الأول : قذفوها في حفرة كان هرون عليه السلام أمرهم بجمع الحلي فيها انتظاراً لعود موسى عليه السلام. والوجه الثاني : قذفوها في موضع أمرهم السامري بذلك. الوجه الثالث : في موضع جمع فيه النار ثم قالوا : فكذلك ألقى السامري أي فعل السامري مثل ما فعلنا ، أما قوله : {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَّه خُوَارٌ} فاختلفوا في أنه هل كان ذلك الجسد حياً أم لا ؟
فالقول الأول : لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صور صورة على شكل العجل وجعل فيها منافذ ومخارق بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. والقول الثاني : أنه صار حياً وخار كما يخور العجل واحتجوا عليه بوجوه : أحدها : قوله : {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (طه : 96) ولو لم يصر حياً لما بقي لهذا الكلام فائدة. وثانيها : أنه تعالى / سماه عجلاً والعجل حقيقة في الحيوان وسماه جسداً وهو إنما يتناول الحي. وثالثها : أثبت له الخوار وأجابوا عن حجة الأولين بأن ظهور خوارق العادة على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الإلتباس وههنا كذلك فوجب أن لا يمتنع ، وروى عكرمة عن ابن عباس أن هرون عليه السلام مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع ؟
فقال : أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال : اللهم أعطه ما سأل فلما مضى هرون قال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور فخار وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي ، أما قوله : {فَقَالُوا هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَى } ففيه إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين وليسوا بمكلفين ولأن مثل هذا الجنون على مثل ذلك الجمع العظيم محال وإن لم يعتقدوا ذلك فكيف قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ، وجوابه : لعلهم كانوا من الحلولية فجوزوا حلول الإله أو حلول صفة من صفاته في ذلك الجسم ، وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد لأن ظهور الخوار لا يناسب الإلهية ، ولكن لعل القوم كانوا في نهاية البلادة والجلافة ، وأما قوله : فنسي ففيه وجوه. الأول : أنه كلام الله تعالى كأنه أخبر عن السامري أنه نسي الاستدلال على حدوث الأجسام وأن الإله لايحل في شيء ولا يحل فيه شيء ثم إنه سبحانه بين المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله : {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا} أي لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع لا يكون إلهاً ولا يكون للإله تعلق به في الحالية والمحلية. الوجه الثاني : أن هذا قول السامري وصف به موسى عليه السلام والمعنى أن هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين. الوجه الثالث : فنسي وقت الموعد في الرجوع أما قوله : {يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} فهذا استدلال على عدم إلهيتها بأنها لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمر لا يعول إلا على دلائل إبراهيم عليه السلام بقي ههنا بحثان.
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
البحث الأول : قال الزجاج : الاختيار أن لا يرجع بالرفع بمعنى أنه لا يرجع وهذا كقوله : {وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا } (المائدة : 71) بمعنى أنه لا تكون وقرىء بالنصب أيضاً على أن أن هذه هي الناصبة للأفعال.
البحث الثاني : هذه الآية تدل على وجوب النظر في معرفة الله تعالى وقال في آية أخرى : {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّه لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } (الأعراف : 148) وهو قريب في المعنى من قوله في ذم عبدة الأصنام : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } (الأعراف : 195) وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ، ولكن / حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط. الثالث : قال بعض اليهود لعلي عليه السلام : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم ؟
فقال : إنما اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه ، وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ؟
جزء : 22 رقم الصفحة : 90
92
(1/3089)
اعلم أن هرون عليه السلام إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق أما شفقته على نفسه فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان مأموراً من عند أخيه موسى عليه السلام بقوله : {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف : 142) فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ولأمر موسى عليه السلام وذلك لا يجوز ، أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم ، فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار ؟
فقال : إنهم لم يغضبوا لغضبي. وقال ثابت البناني قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله في شيء ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم. وعن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "مثل المؤمنين في تواددهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وقال أبو علي الحسن الغوري : كنت في بعض المواضع فرأيت زورقاً فيها دنان مكتوب عليها لطيف فقلت للملاح : إيش هذا فقال : أنت صوفي فضولي وهذه خمور المعتضد ، فقلت له : أعطني ذلك المدرى ، فقال لغلامه : اعطه حتى نبصر إيش يعمل ، فأخذت المدرى وصعدت الزورق فكنت أكسر دنا دنا والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد وكان سيفه قبل كلامه فلما وقع بصره علي قال من أنت ؟
قلت المحتسب ، قال من ولاك الحسبة ؟
قلت : الذي ولاك الخلافة. قال : لم كسرت هذه الدنان ؟
قلت شفقة عليك إذا لم تصل يدي إلى دفع مكروه عنك. قال : فلم أبقيت هذا الواحد قلت إني لما كسرت هذه الدنان فإني إنما كسرتها حمية في دين الله فلما وصلت إلى هذا أعجبت فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته ، فقال : اخرج يا شيخ فقد وليتك الحسبة ، فقلت كنت أفعله لله تعالى فلا أحب أن أكون شرطياً. وأما الشفقة على / المسلمين فلأن الإنسان يجب أن يكون رقيق القلب مشفقاً على أبناء جنسه وأي شفقة أعظم من أن يرى جمعاً يتهافتون على النار فيمنعهم منها ، وعن أبي سعيد الخدري عنه عليه السلام : "يقول الله تعالى اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها في القاسية قلوبهم فإن فيهم غضبي" ، وعند عبد الله بن أبي أوفى قال : "خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا أبو بكر وعمر معه فجاء صغير فبكى فقال لعمر : ضم الصبي إليك فإنه ضال فأخذه عمر فإذا امرأة تولول كاشفة رأسها جزعاً على ابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : أدرك المرأة فناداها فجاءت فأخذت ولدها وجعلت تبكي والصبي في حجرها فالتفتت فرأت النبي صلى الله عليه وسلّم فاستحيت فقال عليه السلام عند ذلك : أترون هذه رحيمة بولدها ؟
قالوا : يا رسول الله كفى بهذه رحمة فقال "والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها". ويروى : "أنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس ومعه أصحابه إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال : من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا فسمع الشاب ذلك فولى ، فقال : إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد علي بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق/ فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلّم وتشعل النار بي حتى تبر يمينه ولا تشعل النار بأحد آخر ، فهبط جبريل عليه السلام وقال : "يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفدائه أمتك بنفسه وشفقته على الخلق". إذا ثبت ذلك فاعلم أن الأمر بالمعروف والشفقة على المسلمين واجب. ثم إن هرون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار ولم يبال بكثرتهم ولا بقوتهم بل صرح بالحق فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 92
(1/3090)
{قَبْلُ يَـاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِه } الآية وههنا دقيقة وهي أن الرافضة تمسكوا بقوله عليه السلام لعلي : "أنت مني بمنزلة هرون من موسى" ثم إن هرون ما منعته التقية في مثل هذا الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة نفسه والمنع من متابعة غيره ، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلّم على الخطأ لكان يجب على علي عليه السلام أن يفعل ما فعله هرون عليه السلام وأن يصعد على المنبر من غير تقية وخوف وأن يقول : {فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى} فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الأمة كانوا على الصواب ، واعلم أن هرون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله : {إِنَّمَا فُتِنتُم بِه } ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانياً بقوله : {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ} ثم دعاها ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله : {فَاتَّبِعُونِى} ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله : {وَأَطِيعُوا أَمْرِى} وهذا هو الترتيب الجيد لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ثم معرفة الله تعالى هي الأصل ثم النبوة ثم الشريعة ، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه ، وإنما قال : {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ} فخص هذا الموضع باسم الرحمن لأنه كان ينبئهم بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم ، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا : {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } كأنهم قالوا : لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول / موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك.
جزء : 22 رقم الصفحة : 92
94
اعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بهذه الآية من وجوه. أحدها : أن موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هرون باتباعه أو لم يأمره ، فإن أمره به فإما أن يكون هرون قد اتبعه أو لم يتبعه ، فإن اتبعه كانت ملامة موسى لهرون معصية وذنباً لأن ملامة غير المجرم معصية. وإن لم يتبعه كان هرون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية ، وأما إن قلنا : إن موسى عليه السلام ما أمره باتباعه كانت ملامته إياه بترك الاتباع معصية فثبت أن على جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هرون. وثانيها : قول موسى عليه السلام : {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} استفهام على سبيل الإنكار فوجب أن يكون هرون قد عصاه ، وأن يكون ذلك العصيان منكراً ، وإلا لكان موسى عليه السلام كاذباً وهو معصية ، فإذا فعل هرون ذلك فقد فعل المعصية. وثالثها : قوله : {أَمْرِى * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } وهذا معصية لأن هرون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه من النصيحة والوعظ والزجر ، فإن كان موسى عليه السلام قد بحث عن الواقعة ، وبعد أن علم أن هرون قد فعل ما قدر عليه كان الأخذ برأسه ولحيته معصية وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك أيضاً معصية. ورابعها : إن هرون عليه السلام قال : {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } فإن كان الأخذ بلحيته وبرأسه جائزاً كان قول هرون لا تأخذ منعاً له عما كان له أن يفعله فيكون ذلك معصية ، وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى عليه السلام فاعلاً للمعصية فهذه أمثلة لطيفة في هذا الباب. والجواب عن الكل : أنا بينا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَـانُ عَنْهَا} (البقرة : 36) أنواعاً من الدلائل الجلية في أنه لا يجوز صدور المعصية من الأنبياء ، وحاصل هذه الوجوه تمسك بظواهر قابلة للتأويل ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز ، إذا ثبتت هذه المقدمة فاعلم أن لنا في الجواب عن هذه الإشكالات وجوهاً. أحدها : أنا وإن اختلفنا في جواز المعصية على الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم ، وإن كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنعه الآخر أعني بهما / موسى وهرون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى والآخر كان ترك الأولى فلذلك فعَله أحدهما وتركه الآخر ، فإن قيل هذا التأويل غير جائز لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً وفعل المندوب وتركه لا يجزم به ، قلنا : تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع ، فنحن نحمل ذلك الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح ، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً. وثانيها : أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجره إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض لحيته فأجرى موسى عليه السلام أخاه هرون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب فأما قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 94
(1/3091)
{لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } فلا يمتنع أن يكون هرون عليه السلام خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل من سوء ظنهم أنه منكر عليه غير معاون له/ ثم أخذ في شرح القصة فقال : {إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسرائيل } ، وثالثها : أن بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام حتى أن هرون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليه السلام : أنت قتلته ، فلما واعد الله تعالى موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر وكتب له في الألواح من كل شيء ثم رجع فرآى في قومه ما رآى فأخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هرون عليه السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له فقال إشفاقاً على موسى : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم ما لا يليق بك. ورابعها : قال صاحب "الكشاف" : كان موسى عليه السلام رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء شديد الغضب لله تعالى ولدينه فلم يتمالك حين رآى قومه يعبدون عجلاً من دون الله تعالى من بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى ألواح التوراة لما غلب على ذهنه من الدهشة العظيمة غضباً لله تعالى وحمية وعنف بأخيه وخليفته على قومه فأقبل عليه إقبال العدو المكاشر ، واعلم أن هذا الجواب ساقط لأنه يقال : هب أنه كان شديد الغضب ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا ؟
فإن بقي عاقلاً مكلفاً فالأسئلة باقية بتمامها أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه أتى بغضب شديد وذلك من جملة المعاصي فقد زدت إشكالاً آخر. فإن قلتم بأنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما لا يرتضيه مسلم ألبتة فهذه أجوبة من لم يجوز الصغائر وأما من جوزها فلا شك في سقوط السؤال والله أعلم. أما قوله : {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ } ففيه وجهان : الأول : أن لا صلة والمراد ما منعك أن تتبعني. والثاني : أن يكون المراد ما دعاك إلى أن لا تتبعني فأقام منعك مقام دعاك وفي الاتباع قولان : أحدهما : ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. والثاني : أن تتبعني في وصيتي إذ قلت لك : {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف : 142) فلم تركت قتالهم وتأديبهم وهذا قول مقاتل ثم قال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 94
(1/3092)
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} ومعناه ظاهر / وهذا يدل على أن تارك المأمور به عاص والعاصي مستحق للعقاب لقوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَإِنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ} (الجن : 23) ولقوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَتَعَدَّ حُدُودَه يُدْخِلْهُ نَارًا خَـالِدًا فِيهَا} (النساء : 14) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب ، فأجاب هرون عليه السلام وقال : {قَالَ ابْنَ أُمَّ} قيل : إنما خاطبه بذلك ليدفعه عنه فيتركه ، وقيل : كان أخاه لأمه : {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } واعلم أنه ليس في القرآن دلالة على أنه فعل ذلك ، فإن النهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهى عنه كقوله : {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (الأحزاب : 48) وقوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) والذي فيه أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه وهذا القدر لا يدل على الاستخفاف به بل قد يفعل ذلك لسائر الأغراض على ما بيناه ، ومن الناس من يقول إنه أخذ ذؤابتيه بيمينه ولحيته بيساره ثم قال : {إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسرائيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} ولقائل أن يقول : إن قول موسى عليه السلام : (ما منعك أن لا تتبعن أفعصيت أمري) يدل على أنه أمره بشيء فكيف يحسن في جوابه أن يقال : إنما لم أمتثل قولك خوفاً من أن تقول : {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} فهل يجوز مثل هذا الكلام على العاقل. والجواب : لعل موسى عليه السلام إنما أمره بالذهاب إليه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فساد في القوم فلما قال موسى : (ما منعك أن لا تتبعن) قال لأنك إنما أمرتني باتباعك إذا لم يحصل الفساد فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقباً لقولك. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة كانوا أجانب عن الإيمان وما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا العذاب الشديد في الدنيا ولم يرجعوا عن الإيمان ، وأما قومه فإنهم رأوا انقلاب العصا ثعباناً والتقم كل ما جمعه السحرة ثم عاد عصا ورأوا اعتراف السحرة بأن ذلك ليس بسحر وأنه أمر إلهي ورأوا الآيات التسع مدة مديدة ثم رأوا انفراق البحر إثني عشر طريقاً وأن الله تعالى أنجاهم من الغرق وأهلك أعداءهم مع كثرة عددهم ، ثم إن هؤلاء مع ما شاهدوا من هذه الآيات لما خرجوا من البحر ورأوا قوماً يعبدون البقر قالوا : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، ولما سمعوا صوتاً من عجل عكفوا على عبادته ، وذلك يدل على أنه لا يحصل الغرض بالدلائل بل بالهداية ، قرأ حمزة والكسائي : (يا ابن أم) بكسر الميم والإضافة ودلت كسرة الميم على الياء والباقون بالفتح وتقديره يا ابن أماه والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 94
97
اعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من مخاطبة هرون عليه السلام وعرف العذر له في التأخير أقبل على السامري ويجوز أن يكون قد كان حاضراً مع هرون عليه السلام فلما قطع موسى الكلام مع هرون أخذ في التكلم مع السامري ، ويجوز أن يكون بعيداً ثم حضر السامري من بعد أو ذهب إليه موسى ليخاطبه ، فقال موسى عليه السلام : {مَا خَطْبُكُمَا } والخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه ، فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك ؟
معناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنعه ثم ذكر السامري عذره في ذلك فقال : {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرىء {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه } بالكسر وقرأ حمزة والكسائي بما لم تبصروا بالتاء المعجمة من فوق والباقون بالياء أي بما لم يبصر به بنو إسرائيل.
المسألة الثانية : في الإبصار قولان : قال أبو عبيدة : علمت بما لم يعلموا به ومنه قولهم : رجل بصير أي عالم وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال الزجاج في تقريره : أبصرته بمعنى رأيته وبصرت به بمعنى صرت به بصيراً عالماً. وقال آخرون : رأيت ما لم يروه فقوله بصرت به بمعنى أبصرته وأراد أنه رأى دابة جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب ثم قال : {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الحسن قبضة بضم القاف وهي اسم للمقبوض كالغرفة والضفة وأما القبضة فالمرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير وقرىء أيضاً فقبصت قبصة بالضاد والصاد فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع ونظيرهما الخضم والقضم الخاء بجميع الفم والقاف بمقدمه. قرأ ابن مسعود من أثر فرس الرسول.
جزء : 22 رقم الصفحة : 97
(1/3093)
المسألة الثانية : عامة المفسرين قالوا : المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته ثم اختلفوا أنه متى رآه فقال الأكثرون : إنما رآه يوم فلق البحر. وعن علي عليه السلام أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى عليه السلام إلى الطور أبصره السامري من بين الناس ، واختلفوا في أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي : إنما عرفه / لأنه رآه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل ، فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فلما رآه عرفه ، قال ابن جريج : فعلى هذا قوله : {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه } بمعنى رأيت ما لم يروه ومن فسر الكلمة بالعلم فهو صحيح ويكون المعنى علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء/ قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسئلة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : بصرت بما لم يبصروا به ، أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من سنتك ودينك فقذفته أي طرحته ، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة ، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا وبماذا يأمر الأمير ، وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً مع جحده وكفره فعلى مثل مذهب من حكى الله عنه قوله : {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر : 6) وإن لم يؤمنوا بالإنزال. واعلم أن هذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه. أحدها : أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل. وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه فبعيد ، لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبي صادق فكيف يحاول الإضلال وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له في الطفولية في حصول تلك المعرفة. ورابعها : أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه لكان لقائل أن يقول : فلعل موسى عليه السلام اطلع على شيء آخر يشبه ذلك فلأجله أتى بالمعجزات ويرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول : لم لا يجوز أن يقال إنهم لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن تفيد حصول تلك المعجزة ، أتوا بتلك المعجزة ، وحينئذ ينسد باب المعجزات بالكلية. أما قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 97
(1/3094)
{وَكَذَالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} فالمعنى فعلت ما دعتني إليه نفسي وسولت مأخوذ من السؤال فالمعنى لم / يدعني إلى ما فعلته أحد غيري بل اتبعت هواي فيه ، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع ذلك من السامري أجابه بأن بين حاله في الدنيا والآخرة وبين حال إلهه أما حاله في الدنيا فقوله : {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ } وفيه وجوه : أحدها : أن المراد : أني لا أمس ولا أمس قالوا : وإذا مسه أحد حم الماس والمسوس فكان إذا أراد أحد أن يمسه صاح خوفاً من الحمى وقال لا مساس. وثانيها : أن المراد بقوله : {لا مِسَاسَ } المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد وقال مقاتل : إن موسى عليه السلام أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له : اخرج أنت وأهلك فخرج طريداً إلى البراري ، اعترض الواحدي عليه فقال الرجل : إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس وإنما يقال له ذلك ، وهذا الاعتراض ضعيف لأن الرجل إذا بقي طريداً فريداً فإذا قيل له : كيف حالك فله أن يقول لا مساس أي لا يماسني أحد ولا أماس أحداً ، والمعنى إني أجعلك يا سامري في المطرودية بحيث لو أردت أن تخبر غيرك عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى نظم الكلام من الأول. وثالثها : ما ذكره أبو مسلم وهو أنه يجوز في حمله ما أريد مسي النساء فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له ولد يؤنسه فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } (الكهف : 46) وقرىء لا مساس بوزن فجاز وهو إسم علم للمرة الواحدة من المس ، وأما شرح حاله في الآخرة فهو قوله : {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَه } والموعد بمعنى الوعد أي هذه عقوبتك في الدنيا ثم لك الوعد بالمصير إلى عذاب الآخرة فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ، قرأ أهل المدينة والكوفة : لن تخلفه بفتح اللام أي لن تخلف ذلك الوعد أي سيأتيك به الله ولن يتأخر عنك وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن بكسر اللام أي تجيء إليه ولن تغيب عنه ولن تتخلف عنه وفتح اللام اختيار أبي عبيد كأنه قال : موعداً حقاً لا خلف فيه وعن ابن مسعود : لن نخلفه بالنون فكأنه عليه السلام حكى قول الله تعالى بلفظه كما مر بيانه في قوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 97
{لاهَبَ لَكِ} (مريم : 19) وأما شرح حال إلهه فهو قوله : {وَانظُرْ إِلَى ا إِلَـاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } قال المفضل في ظلت : إنه يقرأ بفتح الظاء وكسرها وكذلك : {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (الواقعة : 65) وأصله ظللت فحذفت اللام الأولى وذلك إنما يكون إذا كانت اللام الثانية ساكنة تستحب العرب طرح الأولى ومن كسر الظاء نقل كسرة اللام الساقطة إليها ومن فتحها ترك الظاء على حالها وكذلك يفعلون في المضاعف يقولون : مسته ومسسته ثم قال : {لَّنُحَرِّقَنَّه ثُمَّ لَنَنسِفَنَّه فِى الْيَمِّ نَسْفًا} وفي قوله : {لَّنُحَرِّقَنَّه } وجهان. أحدهما : المراد إحراقه بالنار وهذا أحد ما يدل على أنه صار لحماً ودماً ، لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ، وقال السدي : أمر موسى عليه السلام بذبح العجل فذبح فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف رماده وفي حرف ابن مسعود لنذبحنه ولنحرقنه وثانيهما لنحرقنه أي لنبردنه بالمبرد ، يقال : حرقه يحرقه إذا برده وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحماً ولا دماً فإن ذلك لا يصح أن يبرد بالمبرد ، ويمكن أن يقال : إنه صار لحماً فذبح ثم بردت عظامه بالمبرد / حتى صارت بحيث يمكن نسفها ، قراءة العامة بضم النون وتشديد الراء ومعناه لنحرقنه بالنار ، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة يعني لنبردنه ، واعلم أن موسى عليه السلام لما فرغ من إبطال ما ذهب إليه السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال : {إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ} أي المستحق للعبادة والتعظيم : {اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} قال مقاتل : يعلم من يعبده ومن لا يعبده.
جزء : 22 رقم الصفحة : 97
99
(1/3095)
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً ثم مع السامري ثانياً أتبعه بقوله : {كَذَالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} من سائر أخبار الأمم وأحوالهم تكثيراً لشأنك وزيادة في معجزاتك وليكثر الاعتبار والاستبصار للمكلفين بها في الدين : {وَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} يعني القرآن كما قال تعالى : {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـاه } (الأنبياء : 50) {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ} (الزخرف : 44) {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى} (ص : 1) {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} (الأنبياء : 2) {وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} (الحجر : 6) ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه : أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم. وثانيها : أنه يذكر أنواع آلاء الله تعالى ونعمائه ففيه التذكير والمواعظ. وثالثها : فيه الذكر والشرف لك ولقومك على ما قال : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) ، واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكراً فقال : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن} (النحل : 43) وكما بين نعمته بذلك بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به من وجوه : أولها : قوله : {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} فإنه يحمل يوم القيامة وزراً والوزر هو العقوبة الثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها / على المعاقب وصعوبة احتمالها الذي يثقل على الحامل وينقض ظهره أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم وقرىء يحمل ، ثم بين تعالى صفة ذلك الوزر من وجهين : أحدهما : أنه يكون مخلداً مؤبداً. والثاني : قوله : {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ حِمْلا} أي وما أسوأ هذا الوزر حملاً أي محمولاً وحملاً منصوب على التمييز. وثانيها : {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ } فالمراد بيان أن يوم القيامة هو يوم ينفخ في الصور وفيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 99
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ننفخ بفتح النون كقوله : {وَنَحْشُرُ} وقرأ الباقون ينفخ على ما لم يسم فاعله ونحشر بالنون لأن النافخ ملك التقم الصور والحاشر هو الله تعالى ، وقرىء يوم ينفخ بالياء المفتوحة على الغيبة والضمير لله تعالى أو لإسرافيل عليه السلام ، وأما : يحشر المجرمين فلم يقرأ به إلا الحسن وقرىء في الصور بفتح الواو جمع صورة.
المسألة الثانية : {فِى الصُّورِ } قولان : أحدهما : أنه قرن ينفخ فيه يدعي به الناس إلى المحشر. والثاني : أنه جمع صورة والنفخ نفخ الروح فيه ويدل عليه قراءة من قرأ : الصور بفتح الواو والأول أولى لقوله تعالى : {فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ} (المدثر : 8) والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوق عند الأسفار وفي العساكر.
المسألة الثالثة : المراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لأن قوله بعد ذلك : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـاـاِذٍ زُرْقًا} كالدلالة على أن النفخ في الصور كالسبب لحشرهم فهو نظير قوله : {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} (النبأ : 18) ، أما قوله : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـاـاِذٍ زُرْقًا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة قوله : {الْمُجْرِمِينَ} يتناول الكفار والعصاة فيدل على عدم العفو عن العصاة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر ، وقد تقدم هذا الكلام.
(1/3096)
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالزرقة على وجوه : أحدها : قال الضحاك ومقاتل : يعني زرق العيون سود الوجوه وهي زرقة تتشوه بها خلقتهم والعرب تتشاءم بذلك ، فإن قيل : أليس أن الله تعالى أخبر أنهم : يحشرون عمياً فكيف يكون أعمى وأزرق ؟
قلنا : لعله يكون أعمى في حال وأزرق في حال. وثانيها : المراد من الزرقة العمى. قال الكلبي : زرقاً أي عمياً ، قال الزجاج : يخرجون بصراء في أول مرة ويعمون في المحشر. وسواد العين إذا ذهب تزرق فإن قيل : كيف يكون أعمى ، وقد قال تعالى : {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} وشخوص البصر من الأعمى محال ، وقد قال في حقهم : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ} (الإسراء : 14) والأعمى كيف يقرأ. فالجواب : أن أحوالهم قد تختلف. وثالثها : قال أبو مسلم : المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم والأزرق شاخص لأنه لضعف بصره يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره وهو كقوله : {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} (إبراهيم : 41). ورابعها : زرقاً عطاشاً هكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال : لأنهم من شدة / العطش يتغير سواد عيونهم حتى تزرق ويدل على هذا التفسير قوله تعالى : {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} (مريم : 86). وخامسها : حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : طامعين فيما لا ينالونه. الصفة الثالثة : من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى : {يَتَخَـافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} وفيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 99
المسألة الأولى : يتخافتون أي يتسارون. يقال : خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير قوله تعالى : {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} (طه : 108) وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن المراد بقوله : {إِن لَّبِثْتُمْ} اللبث في الدنيا أو في القبر ، فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا ، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {قَـالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْـاَلِ الْعَآدِّينَ} (المؤمنون : 112 ، 113) فإن قيل : إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا ، أو ما نسوا ذلك ، والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه. والثاني : غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه : أحدها : لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدينا وما ذكروا إلا القليل فقالوا : ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال ، والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام : 23). وثانيها : أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم : ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم : بل ما لبثنا إلا يوماً واحداً أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم/ وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه الواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد. وثالثها : أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار. ورابعها : أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى قول من بالغ في التقليل فقال : {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} . القول الثاني : أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍا كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} (الروم : 55) وقال : {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَـانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } (الروم : 56) فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية ، أما من لم يجوز ، قال : إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان ، فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام ، وقال آخرون : إنه يوم / واحد ، فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى ، تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب.
(1/3097)
جزء : 22 رقم الصفحة : 99
المسألة الثالثة : الأكثرون على أن قوله : {إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} أي عشرة أيام ، فيكون قول من قال : {إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} أقل وقال مقاتل : {إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} أي عشر ساعات كقوله : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا} (النازعات : 46) وعلى هذا التقدير يكون اليوم أكثر ، والله أعلم واعلم أنه سبحانه وتعالى بين بهذا القول أعظم ما نالهم من الحيرة التي دفعوا عندها إلى هذا الجنس من التخافت.
جزء : 22 رقم الصفحة : 99
103
اعلم أنه تعالى لما وصف أمر يوم القيامة حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر فقال : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} وفي تقرير هذا السؤال وجوه. أحدها : أن قوله : {يَتَخَـافَتُونَ} (طه : 103) وصف من الله تعالى لكل المجرمين بذلك ، فكأنهم قالوا : كيف يصح ذلك والجبال حائلة ومانعة من هذا التخافت / وثانيها : قال الضحاك : نزلت في مشركي مكة قالوا : يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة ؟
وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء. وثالثها : لعل قومه قالوا : يا محمد إنك تدعي أن الدنيا ستنقضي فلو صح ما قلته لوجب أن تبتدىء أولاً بالنقصان ثم تنتهي إلى البطلان ، لكن أحوال العالم باقية كما كانت في أول الأمر ، فكيف يصح ما قلته من خراب الدنيا ؟
وهذه شبهة تمسك بها جالينوس في أن السموات لا تفنى ، قال : لأنها لو فنيت لابتدأت في النقصان أولاً حتى ينتهي نقصانها إلى البطلان ، فلما لم يظهر فيها النقصان علمنا أن القول بالبطلان باطل ، ثم أمر الله تعالى رسوله بالجواب عن هذا السؤال وضم إلى الجواب أموراً أخر في شرح أحوال القيامة وأهوالها.
الصفة الأولى : قوله : {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما قال : {فَقُلْ} مع فاء التعقيب لأن مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر ، فلا جرم أمره بالجواب مقروناً بفاء التعقيب. لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز ، أما في المسائل الفروعية فجائزة ، لذلك ذكر هناك قل من غير حرف التعقيب.
جزء : 22 رقم الصفحة : 103
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {يَنسِفُهَا} عائد إلى الجبال والنسف التذرية ، أي تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية فإذا زالت الجبال الحوائل فيعلم صدق قوله : {يَتَخَـافَتُونَ} قال الخليل : {يَنسِفُهَا} أي يذهبها ويطيرها ، أما الضمير في قوله : {فَيَذَرُهَا} فهو عائد إلى الأرض فاستغنى عن تقديم ذكرها كما في عادة الناس من الإخبار عنها بالإضمار كقولهم : ما عليها أكرم من فلان وقال تعالى : {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} وإنما قال : {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} ليبين أن ذلك النسف لا يزيل الاستواء لئلا يقدر أنها لما زالت من موضع إلى موضع آخر صارت هناك حائلة ، هذا كله إذا كان المقصود من سؤالهم الاعتراض على كيفية المخافتة ، أما لو كان الغرض من السؤال ما ذكرنا من أنه لا نقصان فيها في الحال فوجب أن لا ينتهي أمرها إلى البطلان ، كان تقرير الجواب : أن بطلان الشيء قد يكون بطلاناً يقع توليدياً ، فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان وقد يكون بطلاناً يقع دفعة واحدة ، وههنا لا يجب تقديم النقصان على البطلان ، فبين الله تعالى أنه يفرق تركيبات هذا العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة ههنا إلى تقديم النقصان على البطلان.
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصف الأرض ذلك الوقت بصفات. أحدها : كونها قاعاً وهو المكان المطمئن وقيل مستنقع الماء. وثانيها : الصفصف وهو الذي لا نبات عليه. وقال أبو مسلم : القاع الأرض الملساء المستوية وكذلك الصفصف. وثالثها : قوله : {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} وقال صاحب "الكشاف" : قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا : العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان ، فإن قيل : الأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين ؟
قلنا : اختيار هذا اللفظ له موقع بديع في وصف الأرض بالاستواء ونفي الاعوجاج ، وذلك لأنك لو عمدت إلى قطعة / أرض فسويتها وبالغت في التسوية فإذا قابلتها المقاييس الهندسية وجدت فيها أنواعاً من العوج خارجة عن الحس البصري. قال فذاك القدر في الاعوجاج لما لطف جداً ألحق بالمعاني فقيل فيه : عوج بالكسر ، واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأرض تكون ذلك اليوم كرة حقيقية لأن المضلع لا بد وأن يتصل بعض سطوحه بالبعض لا على الاستقامة بل على الاعوجاج وذلك يبطله ظاهر الآية. ورابعها : الأمت النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت وتحصل من هذه الصفات الأربع أن الأرض تكون ذلك اليوم ملساء خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والإعوجاج.
جزء : 22 رقم الصفحة : 103
(1/3098)
الصفة الثانية : ليوم القيامة قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لا عِوَجَ لَه } وفي الداعي قولان : الأول : أن ذلك الداعي هو النفخ في الصور وقوله : {لا عِوَجَ لَه } أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل. الثاني : أنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب والجزاء. فيسمعون صوت الداعي فيتبعونه ، ويقال : إنه إسرافيل عليه السلام يضع قدمه على الصخرة فإن قيل هذا الدعاء يكون قبل الإحياء أو بعده ؟
قلنا : إن كان المقصود بالدعاء إعلامهم وجب أن يكون ذلك بعد الإحياء لأن دعاء الميت عبث وإن لم يكن المقصود إعلامهم بل المقصود مقصود آخر مثل أن يكون لطفاً للملائكة ومصلحة لهم فذلك جائز قبل الإحياء.
الصفة الثالثة : قوله : {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} وفيه وجوه : أحدها : خشعت الأصوات من شدة الفزع وخضعت وخفيت فلا تسمع إلا همساً وهو الذكر الخفي ، قال أبو مسلم : وقد علم الإنس والجن بأن لا مالك لهم سواه فلا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس وهو أخفى الصوت ويكاد يكون كلاماً يفهم بتحريك الشفتين لضعفه. وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه. وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وعكرمة وابن زيد : الهمس وطء الأقدام ، فالمعنى أنه لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر.
جزء : 22 رقم الصفحة : 103
الصفة الرابعة : قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَرَضِىَ لَه قَوْلا} قال صاحب "الكشاف" : من يصلح أن يكون مرفوعاً ومنصوباً فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف إليه أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن والنصب على المفعولية ، وأقول : الاحتمال الثاني أولى لوجوه : الأول : أن الأول يحتاج فيه إلى الإضمار وتغيير الأعراب والثاني : لا يحتاج فيه إلى ذلك. والثاني : أن قوله تعالى : {لا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ} يراد به من يشفع بها والاستثناء يرجع إليهم فكأنه قال : لا تنفع الشفاعة أحداً من الخلق إلا شخصاً مرضياً. والثالث : وهو أن من المعلوم بالضرورة أن درجة الشافع درجة عظيمة فهي لا تحصل إلا لمن أذن الله له فيها وكان عند الله مرضياً ، فلو حملنا الآية على ذلك صارت جارية مجرى إيضاح الواضحات ، أما لو حملنا الآية على المشفوع له لم يكن ذلك إيضاح الواضحات فكان ذلك أولى/ إذا ثبت هذا فنقول : المعتزلة / قالوا : الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه لأن هذه الآية دلت على أن المشفوع له لا بد وأن يكون مرضياً عند الله. واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق لأن قوله ورضي له قولاً يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولاً واحداً من أقواله ، والفاسق قد ارتضى الله تعالى قولاً واحداً من أقواله وهو : شهادة أن لا إله إلا الله. فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل إنه تعالى استثنى عن ذلك النفي بشرطين : أحدهما : حصول الإذن. والثاني : أن يكون قد رضي له قولاً ، فهب أن الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين وهو أنه تعالى قد رضي له قولاً ، لكن لم قلتم إنه أذن فيه ، وهذا أول المسألة قلنا : هذا القيد وهو أنه رضي له قولاً كافٍ في حصول الاستثناء بدليل قوله تعالى : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء : 28) فاكتفى هناك بهذا القيد ودلت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولاً يحصل الإذن في الشفاعة ، وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود.
الصفة الخامسة : قوله : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} وفيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 103
المسألة الأولى : الضمير في قوله : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} عائد إلى الذين يتبعون الداعي ومن قال إن قوله : {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} المراد به الشافع. قال ذلك الضمير عائد إليه والمعنى لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء إلا لمن أذن له الرحمن في أن تشفع له الملائكة والأنبياء ، ثم قال : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني ما بين أيدي الملائكة كما قال في آية الكرسي ، وهذا قول الكلبي ومقاتل وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له. قال مقاتل : يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة وما كان منهم بعد خلقهم.
(1/3099)
المسألة الثانية : ذكروا في قوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وجوهاً : أحدها : قال الكلبي : {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا. وثانيها : قال مجاهد : {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا والأعمال {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الآخرة والثواب والعقاب. وثالثها : قال الضحاك يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة.
المسألة الثالثة : ذكروا في قوله : {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} وجهين : الأول : أنه تعالى بين أنه يعلم ما بين أيدي العباد وما خلفهم. ثم قال : {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} أي العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علماً. الثاني : المراد لا يحيطون بالله علماً والأول أولى لوجهين : أحدهما : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا قوله : {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . وثانيهما : أنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى.
جزء : 22 رقم الصفحة : 103
الصفة السادسة : قوله : {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِا وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} ومعناه أن في ذلك اليوم تعنوا الوجوه أي تذل ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره ومن / لفظ العنو أخذوا العاني وهو الأسير ، يقال : عنا يعنو عناء إذا صار أسيراً وذكر الله تعالى : {الْوُجُوهُ} وأراد به المكلفين أنفسهم لأن قوله : {وَعَنَتِ} من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه وهو كقوله : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} (الغاشية : 8 ، 9) وإنما خص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر وتفسير {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} قد تقدم/ وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث البقرة وآل عمران وطه}. قال الراوي : فوجدنا المشترك في السور الثلاث : . قال الراوي : فوجدنا المشترك في السور الثلاث : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} فبين تعالى على وجه التحذير أن ذلك اليوم لا يصح الإمتناع مما ينزل بالمرء من المجازاة ، وأن حاله مخالفة لحال الدنيا التي يختار فيها المعاصي ويمتنع من الطاعات ، أما قوله تعالى : {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} فالمراد بالخيبة الحرمان أي حرم الثواب من حمل ظلماً والمراد به من وافى بالظلم ولم يتب عنه واستدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من العفو فقالوا قوله : {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} يعم كل ظالم ، وقد حكم الله تعالى فيه بالخيبة والعفو ينافيه والكلام على عمومات الوعيد قد تقدم مراراً ، واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال يوم القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين فقال : {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} يعني ومن يعمل شيئاً من الصالحات والمراد به الفرائض فكان عمله مقروناً بالإيمان وهو قوله : {وَمَن يَأْتِه مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ} (طه : 75) فقوله : {فَلا يَخَافُ} في موضع جزم لكونه في موضع جواب الشرط والتقدير فهو لا يخاف ونظيره : {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه } (المائدة : 95) ، {فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّه فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} (الجن : 13) وقرأ ابن كثير : فلا يخف على النهي وهو حسن لأن المعنى فليأمن والنهي عن الخوف أمر بالأمن والظلم هو أن يعاقب لا على جريمة أم يمنع من الثواب على الطاعة ، والهضم أن ينقص من ثوابه ، والهضيمة النقيصة ومنه هضيم الكشح أي ضامر البطن ومنه : {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} (الشعراء : 148) أي لازق بعضه ببعض ومنه انهضم طعامي ، وقال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفي حقه من الإعظام لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم وقد يدخل النقص في بعض الثواب ويدخل فيما يقارنه من التعظيم فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين.
جزء : 22 رقم الصفحة : 103
105
(1/3100)
/ اعلم أن قوله : {وَكَذَالِكَ} عطف على قوله : {كَذَالِكَ نَقُصُّ} أي ومثل ذلك لا نزال وعلى نهجه أنزلنا القرآن كله ثم وصف القرآن بأمرين : أحدهما : كونه عربياً لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه وخروجه عن جنس كلام البشر. والثاني : قوله : {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي كررناه وفصلناه ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم لأن الوعيد فعل يتعلق فتكريره يقتضي بيان الأحكام فلذلك قال : {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} والمراد اتقاء المحرمات وترك الواجبات ولفظ لعل قد تقدم تفسيره في سورة البقرة في قوله : {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 183) أما قوله : {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} ففيه وجهان. الأول : أن يكون المعنى إنا إنما أنزلنا القرآن لأجل أن يصيروا متقين أي محترزين عما لا ينبغي أو يحدث القرآن لهم ذكراً يدعوهم إلى الطاعات وفعل ما ينبغي ، وعليه سؤالات :
السؤال الأول : القرآن كيف يكون محدثاً للذكر. الجواب : لما حصل الذكر عند قراءته أضيف الذكر إليه.
السؤال الثاني : لم أضيف الذكر إلى القرآن وما أضيفت التقوى إليه. الجواب : أن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح ، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يجز إسناده إلى القرآن ، أما حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إلى القرآن.
السؤال الثالث : كلمة أو للمنافاة ولا منافاة بين التقوى وحدوث الذكر بل لايصح الإتقاء إلا مع الذكر فما معنى كلمة أو. الجواب : هذا كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما فكذا ههنا. الوجه الثاني : أن يقال : إنا أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً ، فعلى هذين التقديرين يكون إنزاله تقوى ، ثم إنه تعالى لما عظم أمر القرآن ردفه بأن عظم نفسه فقال : {فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } تنبيهاً على ما يلزم خلقه من تعظيمه وإنما وصفه بالحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به فلهذا وصف بذلك ، وتعالى تفاعل من العلو وقد ثبت أن علوه وعظمته وربوبيته بمعنى واحد وهو اتصافه بنعوت الجلال وأنه لا تكفيه الأوهام ولا تقدره العقول وهو منزه عن المنافع والمضار فهو تعالى إنما أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وليقدموا على ما ينبغي ، وأنه تعالى منزه عن التكمل بطاعاتهم والتضرر بمعاصيهم ، فالطاعات إنما تقع بتوفيقه وتيسيره ، والمعاصي إنما تقع عدلاً منه وكل ميسر لما خلق له أما قوله : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه } ففيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 105
المسألة الأولى : في تعلقه بما قبله وجهان. الوجه الأول : قال أبو مسلم : إن من قوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (طه : 105) إلى ههنا يتم الكلام وينقطع ثم قوله : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} خطاب / مستأنف فكأنه قال : ويسألونك ولا تعجل بالقرآن. الوجه الثاني : روى أنه عليه السلام كان يخاف من أن يفوته منه شيء فيقرأ مع الملك فأمره بأن يسكت حال قراءة الملك ثم يأخذ بعد فراغه في القراءة فكأنه تعالى شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي وأنه موصوف بالإحسان والرحمة ومن كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي/ وإذ حصل الأمان عن السهو والنسيان قال : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} .
(1/3101)
المسألة الثانية ؛ قوله : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} ويحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك ، ويحتمل أن لا تعجل في تأديته إلى غيرك ، ويحتمل في اعتقاد ظاهره ، ويحتمل في تعريف الغير ما يقتضيه ظاهره ، وأما قوله : {مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه } فيحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك تمامه ، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك بيانه ، لأن هذين الأمرين لا يمكن تحصيلهما إلا بالوحي ، ومعلوم أنه عليه السلام لا ينهى عن قراءته لكي يحفظه ويؤديه فالمراد إذن أن لا يبعث نفسه ولا يبعث غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً ، لأنه يجب التوقف في معنى الكلام ما لم يأت عليه الفراغ لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات فهذا هو التحقيق في تفسير الآية. ولنذكر أقوال المفسرين : أحدها : أن هذا كقوله تعالى : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه } (القيامة : 16) وكان عليه السلام يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل مخافة النسيان فقيل له : لا تعجل إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون والله تعالى يزيدك فهماً وعلماً ، وهذا قول مقاتل والسدي ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وثانيها : لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحى إليك بيان معانيه وهذا قول مجاهد وقتادة. وثالثها : قال الضحاك : إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بأن اليهود قد غلبوا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه إلى جبريل ومنه إليك : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} . ورابعها : روى الحسن أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت : زوجي لطم وجهي فقال : بينكما القصاص فنزل قوله : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن القصاص حتى نزول قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} (النساء : 34) وهذا بعيد والاعتماد على التفصيل الأول أما قوله تعالى : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 105
المسألة الثالثة : الاستعجال الذي نهى عنه إن كان فعله بالوحي فكيف نهى عنه. الجواب : لعله فعله بالاجتهاد ، وكان الأولى تركه ، فلهذا نهى عنه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 105
107
/ اعلم أن هذا هي المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن : أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف ، ثم ههنا. واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً. أحدها : أنه تعالى لما قال : {كَذَالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } (طه : 99) ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة انجازاً للوعد في قوله : {كَذَالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } . وثانيها : أنه لما قال : {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه : 113) أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال : إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا : {إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم. وثالثها : أنه لما قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي ، فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان. ورابعها : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما قيل له : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه } (طه : 114) دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة. وخامسها : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما قيل له :
جزء : 22 رقم الصفحة : 107
(1/3102)
{وَلا تَعْجَلْ} ضاق قلبه وقال في نفسه : لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه فقيل له : إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصاً منك على العبادة ، وحفظاً لأداء الوحي / وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره ، أما قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ا ءَادَمَ مِن قَبْلُ} فلا شك أن المراد بالعهد أمر من الله تعالى أو نهي منه كما يقال في أوامر الملوك ووصاياهم أشار الملك إليه وعهد إليه. قال المفسرون : عهدنا إليه أن لا يأكل من الشجرة ولا يقربها ، وفي قوله تعالى : {مِّن قَبْلِه } وجوه. أحدها : من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن. وثانيها : قال ابن عباس : من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها. وثالثها : أي من قبل محمد صلى الله عليه وسلّم والقرآن وهو قول الحسن ، أما قوله : {فَنَسِىَ} فقد تكلمنا فيه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ، ونعيد ههنا منه شيئاً قليلاً ، وفي النسيان قولان : أحدهما : المراد ما هو نقيض الذكر ، وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان/ وكان الحسن رحمه الله يقول : والله ما عصى قط إلا بنسيان. والثاني : أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز عن الشجرة وأكل من ثمرتها ، وقرىء : فنسي أي فنساه الشيطان ، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يقال : أقدم على المعصية من غير تأويل وأن يقال : أقدم عليها مع التأويل ، والكلام فيه قد تقدم في سورة البقرة ، وأما قوله : {وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} ففيه أبحاث :
البحث الأول : الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومنه ولم نجد له عزماً وأن يكون نقيض العدم كأنه قال : وعدمنا له عزماً.
جزء : 22 رقم الصفحة : 107
البحث الثاني : العزم هو التصميم والتصلب ، ثم قوله : {وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} يحتمل ولم نجد له عزماً على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب ، ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزماً على ترك المعصية أو لم نجد له عزماً على التحفظ والاحتراز عن الغفلة ، أو لم نجد له عزماً على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا : إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد. وأما قوله : {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } فهذا يشتمل على مسائل : إحداها : أن المأمورين كل الملائكة أو بعضهم. وثانيتها : أنه ما معنى السجود. وثالثتها : أن إبليس هل كان من الملائكة أم لا ؟
وإن لم يكن فكيف صح الاستثناء وبأي شيء صار مأموراً بالسجود ؟
ورابعتها : أن هذا يدل على أن آدم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلّم أم لا ؟
وخامستها : أن قوله في صفة إبليس أنه أبى كيف لزم الكفر من ذلك الإباء وأنه هل كان كافراً ابتداء أو كفر بسبب ذلك. واعلم أن هذه المسائل مرت على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ، أما قوله : {فَقُلْنَا يَـا ـاَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } ففيه سؤالات : الأول : ما سبب تلك العداوة ؟
الجواب من وجوه : أحدها : أن إبليس كان حسوداً فلما رآى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده فصار عدواً له. وثانيها : أن آدم كان شاباً عالماً لقوله وعلم آدم الأسماء كلها ، وإبليس كان شيخاً جاهلاً لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله وذلك جهل ، والشيخ الجاهل / أبداً يكون عدواً للشاب العالم. وثالثها : أن إبليس مخلوق من النار وآدم مخلوق من الماء والتراب فبين أصليهما عداوة فبقيت تلك العداوة.
السؤال الثاني : لم قال : {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} مع أن المخرج لهما من الجنة هو الله تعالى. الجواب : لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك.
السؤال الثالث : لم أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حواء مع اشتراكهما في الفعل. الجواب من وجهين : أحدهما : أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على رعاية الفاصلة. الثاني : أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة ، وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه أما قوله : {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيهَا وَلا تَضْحَى } ففيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 107
المسألة الأولى : قرىء وإنك بالفتح والكسر ووجه الفتح العطف على أن لا تجوع فيها ، فإن قيل : أن لا تدخل على أن فلا يقال أن أن زيداً منطلق والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها ؟
قلنا : الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن أن ، إنما هي نائبة عن كل عامل ، فلما لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كان لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع أن وأن.
(1/3103)
المسألة الثانية : الشبع والري والكسوة والإكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان. فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب وذكرها بلفظ النفي لأضدادها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحى ليطرق سمعه شيئاً من أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يبالغ في الاحتراز عن السبب الذي يوقعه فيها ، وهذه الأشياء كلها كأنها تفسير الشقاء المذكور في قوله : {فَتَشْقَى } .
جزء : 22 رقم الصفحة : 107
110
/ واعلم أنه سبحانه بين أنه عظم آدم عليه السلام بأن جعله مسجوداً للملائكة وبين أنه عرفه شدة عداوة إبليس له ولزوجه وأنه لعداوته يدعوهم إلى المعصية التي إذا وقعت زالت تلك النعم بأسرها ، ثم إنه مع ذلك اتفق منه ومن حواء الإقدام على الزلة ما اتفق ، والعجب ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال : "لو أن أحلام بني آدم إلى قيام الساعة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم" ولكن المكادحة مع قضاء الله تعالى ممتنعة ، واعلم أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله : {فَقُلْنَا يَـا ـاَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيهَا وَلا تَضْحَى } (طه : 117 ـ 119) ورغبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله : {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} وفي انتظام المعيشة بقوله : {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها ، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته ، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي. ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه ، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله تعالى ذلك وقدره. وأما قوله : {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـانُ} (
جزء : 22 رقم الصفحة : 110
(1/3104)
الأعراف : 20) فقد تقدم في سورة البقرة أنه كيف وسوس ، وبماذا وسوس. فإن قيل : كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله : {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَـانُ} وأخرى بإلى ؟
قلنا قوله : فوسوس له معناه لأجله وقوله : {ءَاوَى ا إِلَيْهِ} معناه أنهى إليه الوسوسة كقوله حدث له وأسر إليه ثم بين أن تلك الوسوسة كانت بتطميعه في أمرين : أحدهما : قوله : {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها صار مخلداً بزعمه. الثاني : قوله : {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } أي من أكل من هذه الشجرة دام ملكه ، قال القاضي : ليس في الظاهر أن آدم قبل ذلك منه بل لوجدت هذه الوسوسة حال كون آدم عليه السلام نبياً لاستحال أن يكون آدم عليه السلام قبل ذلك منه ، لأنه لا بد وأن تحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فترة بالموت ، وبالمعنى فآدم لما كان نبياً امتنع أن لا يعلم ذلك. قلنا : لا نسلم بأنه لا بد من حصول هذه الفترة بين حال التكليف وحال المجازاة ، ولم لا يجوز أن يقال : لا حاجة إلى الفترة أصلاً ، وإن كان ولا بد فيكفي حصول الفترة بغشي أو نوم خفيف. ثم إن كان ولا بد من حصول الفترة بالموت فلم قلت : النبي لا بد وأن يعلم ذلك ، أليس قوم منكم يقولون إن موسى عليه السلام إنما سأل الرؤية لأنه ما كان يعرف امتناعها على الله تعالى فإذا جاز ذلك الجهل فلم لا يجوز هذا الجهل/ ثم ما الدليل على أن آدم كان نبياً في ذلك الوقت فإن مذهبنا أن واقعة الزلة إنما حصلت قبل رسالته لا بعدها ، / ثم إن الذي يدل على أن آدم عليه السلام قبل ذلك قوله تعالى عقيب ذكر الوسوسة فأكلا منها ، وهذا الترتيب مشعر بالعلية كقولهم : "زنى ماعز فرجم" "وسها رسول الله فسجد" فإن هذه الفاء تدل على أن الرجم كالمسبب للزنا والسجود كالمسبب للسهو فكذلك ههنا يجب أن يكون الأكل كالمعلل باستماع قوله : {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } وإنما يحصل هذا التعليل لو قبل آدم ذلك منه ، فإنه لو رد قوله لما أقدم على الأكل بناء على قوله ، فثبت أن آدم عليه السلام قبل ذلك من إبليس ثم إنه سبحانه بين أنهما لما أكلا بدت لهما سوآتهما ، قال ابن عباس : عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما وإنما جمع فقيل سوآتهما كما قال : {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم : 4) فإن قيل : هل كان ظهور سوآتهما كالجزاء على معصيتهما ، قلنا : لا شك أن ذلك كالمعلق على ذلك الأكل ، لكن يحتمل أن لا يكون عقاباً عليه ، بل إنما ترتب عليه لمصلحة أخرى أما قوله : {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } ففيه أبحاث :
جزء : 22 رقم الصفحة : 110
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وأخذ وأنشأ وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة ، وهي للشروع في أول الأمر ، وكاد لمقاربته والدنو منه.
(1/3105)
البحث الثاني : قرى يخصفان للتكثير والتكرير من خصف النعل ، وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان الورقة على سوآتهما للستر وهو ورق التين ، أما قوله : {وَعَصَى ا ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى } فمن الناس من تمسك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين : الأول : أن العاصي اسم للذم فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَتَعَدَّ حُدُودَه يُدْخِلْهُ نَارًا خَـالِدًا فِيهَا} (النساء : 14) ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه. والوجه الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان والغي ضد الرشد ومثل هذا الإسم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه. أجاب قوم عن الكلام الأول فقالوا : المعصية مخالفة الأمر ، والأمر قد يكون بالواجب والندب فإنهم يقولون : أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني ، وأمرته بشرب الدواء فعصاني ، وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم لا لكونه تاركاً للواجب بل لكونه تاركاً للمندوب ، فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي مستحق للعقاب والعرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب ، فإن قيل : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد ، قلنا : لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه ، أما قوله : أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني قلنا : لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ، ولئن سلمنا ذلك ولكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل وأنه لا يجوز الإخلال بذلك الفعل / وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً وإن لم يكن الوجوب حاصلاً ، وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب ، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب ، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركاً للواجب ، ومن الناس من سلم أن الآية تدل على صدور المعصية منه لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر/ وهذا قول عامة المعتزلة وهو أيضاً ضعيف ، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم ، ولأن ظاهر القرآن يدل على أنه يستحق العقاب وذلك لا يليق بالصغيرة ، وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف وكذلك القول في غوى ، وهذا أيضاً بعيد لأن مصالح الدنيا تكون مباحة ، ومن يفعلها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم للذم ولا يقال : (فدلالهما بغرور) وأما التمسك بقوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 110
(1/3106)
{فَغَوَى } فأجابوا عنه من وجوه : أحدها : أنه خاب من نعيم الجنة وذلك لأنه لما أكل من تلك الشجرة ليصير ملكه دائماً ثم لما أكل زال فلما خاب سعيه وما نجح قيل إنه غوى ، وتحقيقه أن الغي ضد الرشد ، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء يوصل إلى المقصود فمن توصل بشيء إلى شيء فحصل له ضد مقصوده كان ذلك غياً. وثانيها : قال بعضهم : غوى أي بشم من كثرة الأكل. قال صاحب الكشاف : هذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً ، فيقول في فنى وبقى فنا وبقا ، وهم بنو طيء فهو تفسير خبيث ، واعلم أن الأولى عندي في هذا الباب والأحسم للشغب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة. وههنا بحث لا بد منه وهو أن ظاهر القرآن وإن دل على أن آدم عصى وغوى لكن ليس لأحد أن يقول : إن آدم كان عاصياً غاوياً ، ويدل على صحة قولنا أمور : أحدها : قال العتبي : يقال لرجل قطع ثوباً وخاطه قد قطعه وخاطه ، ولا يقال : خائط ولا خياط حتى يكون معاوداً لذلك الفعل معروفاً به ، ومعلوم أن هذه الزلة لم تصدر عن آدم عليه السلام إلا مرة واحدة فوجب أن لا يجوز إطلاق هذا الاسم عليه. وثانيها : أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة ، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرفه بالرسالة والنبوة ، إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر إنه كافر بمعنى أنه كان كافراً ، بل وبتقدير أن يقال : هذه الواقعة وقعت بعد النبوة لم يجز أيضاً أن يقال ذلك لأنه عليه السلام تاب عنها ، كما أن الرجل المسلم إذا شرب الخمر أو زنى ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك إنه شارب خمر أو زانٍ فكذا ههنا. وثالثها : أن قولنا : عاص وغاو يوهم كونه عاصياً في أكثر الأشياء وغاوياً عن معرفة الله تعالى ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها فكأنه قال : عصى في كيت وكيت وذلك لا يوهم التوهم الباطل الذي ذكرناه. ورابعها : أنه يجوز من الله تعالى ما لا يجوز من غيره ، كما يجوز للسيد في عبيده وولده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغير السيد في عبده وولده ، أما قوله : {ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } فالمعنى ثم اصطفاه فتاب عليه أي عاد / عليه بالعفو والمغفرة وهداه رشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار وقبل الله منه ذلك ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود كان بكاؤه أكثر ، ولو جمع كل ذلك إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه ، ولو جمع كل ذلك إلى بكاء آدم لكان بكاء آدم على خطيئته أكثر" وقال وهب : إنه لما كثر بكاؤه أوحى الله تعالى إليه وأمره بأن يقول : "لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين" فقالها آدم عليه السلام ثم قال قل : "لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين" ثم قال قل : "لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم" قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الكلمات هي التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 110
112
(1/3107)
اعلم أن على أول هذه الآية سؤالاً وهو أن قوله : {اهْبِطَا} ، إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر فإن كان خطاباً لشخصين فكيف قال بعده : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} وهو خطاب الجمع وإن كان خطاباً لأكثر من شخصين فكيف قال : {اهْبِطَا} وذكروا في جوابه وجوهاً : أحدها : قال أبو مسلم : الخطاب لآدم ومعه ذريته ولإبليس ومعه ذريته فلكونهما جنسين صح قوله : {اهْبِطَا} ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} قال صاحب "الكشاف" : لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلا للبشر والسبب اللذين منهما تفرعوا جعلا كأنهما / البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم فقال : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} على لفظ الجماعة ، أما قوله : {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } فقال القاضي : يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء للناس والناس أعداء لهم ، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام ، وقوله : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ} فيه دلالة على أن المراد الذرية ، وقد اختلفوا في المراد بالهدى ، فقال بعضهم : الرسل وبعضهم قال : الآخر والأدلة وبعضهم قال القرآن ، والتحقيق أن الهدى عبارة عن الدلالة فيدخل فيه كل ذلك ، وفي قوله : {فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } دلالة على أن المراد بالهدى الذي ضمن الله على اتباعه ذلك اتباع الأدلة ، واتباعها لا يتكامل إلا بأن يستدل بها وبأن يعمل بها ، ومن هذا حاله فقد ضمن الله تعالى له أن لا يضل ولا يشقى ، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وثانيها : لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة ويمكنه فيها. وثالثها : لا يضل ولا يشقى في الدنيا فإن قيل : المتبع لهدى الله قد يحلقه الشقاء في الدنيا ، قلنا : المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل الشقاء بسبب آخر فلا بأس ، ولما وعد الله تعالى من يتبع الهدى أتبعه بالوعيد فيمن أعرض ، فقال :
جزء : 22 رقم الصفحة : 112
(1/3108)
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم بيانه ويحتمل أن يراد به الأدلة ، وقوله : {فَإِنَّ لَه مَعِيشَةً ضَنكًا} فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال : منزل ضنك ، وعيش ضنك ، فكأنه قال : معيشة ذات ضنك ، واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره. أما الأول : فقال به جمع من المفسرين وذلك لأن المسلم لتوكله على الله يعيش في الدنيا عيشاً طيباً كما قال : {فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَواةً طَيِّبَةً } (النحل : 97) والكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة أبداً فعيشته ضنك وحالته مظلمة ، وأيضاً فمن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة لكفره قال تعالى : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّه ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ} (البقرة : 61) وقال : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } (المائدة : 66) وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ا ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (الأعراف : 96) وقال : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح : 10 ـ 12) وقال : {وَأَلَّوِ اسْتَقَـامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا} (الجن : 16). وأما الثاني : وهو عذاب القبر ، فهذا قول عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن عذاب القبر للكافر قال والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً" قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في الأسود بن عبد العزى المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيها أضلاعه. وأما الثالث : وهو الضيق في الآخرة في جهنم ، فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم ، وشرابهم الحميم والغسلين فلا يموتون فيها / ولا يحيون وهذا قول الحسن وقتادة والكلبي. وأما الرابع : وهو الضيق في أحوال الدين فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المعيشة الضنك هي أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها. سئل الشبلي عن قوله عليه السلام : "إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية" فقال أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأي معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه ، وعن عطاء قال : المعيشة الضنك هي معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وأما الخامس : وهو أن يكون المراد الضيق في كل ذلك أو أكثره فروي عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "عقوبة المعصية ثلاثة : ضيق المعيشة والعسر في الشدة ، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله تعالى" أما قوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 112
(1/3109)
{وَنَحْشُرُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ أَعْمَى } ففيه وجوه : أحدها : هذا مثل قوله : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } (الإسراء : 97) وكما فسرت الزرقة بالعمى ، ثم قيل : إنه يحشر بصيراً فإذا سيق إلى المحشر عمى والكلام فيه وعليه قد تقدم في قوله : {زُرْقًا} (طه : 132). وثانيها : قال مجاهد والضحاك ومقاتل : يعني أعمى عن الحجة ، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القاضي : هذا القول ضعيف لأن في القيامة لا بد أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز لهم الحق من الباطل ، ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً ، والمراد به أنه كان من قبل ذلك كذلك ولا يليق بهذا قوله : {وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} ولم يكن كذلك في حال الدنيا أقول ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا فلو كان العمى الحاصل في الآخرة بين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر ، كما أنه ما كان له في الدنيا بسبب ذلك ضرر ، واعلم أن تحقيق الجواب عن هذا الاعتراض مأخوذ من أمر آخر وهو أن الأرواح الجاهلة في الدنيا المفارقة عن أبدانها على جهالتها تبقى على تلك الجهالة في الآخرة وأن تلك الجهالة تصير هناك سبباً لأعظم الآلام الروحانية. وبين هذه الطريقة وبين طريقة القاضي المبنية على أصول الاعتزال بون شديد. وثالثها : قال الجبائي : المراد من حشره أعمى أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً بل يبقى واقفاً متحيراً كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء/ أما قوله : {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَـاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَالِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } ففي تقرير هذا الجواب وجهان : أحدهما : أنه تعالى إنما أنزل به هذا العمى جزاء على تركه اتباع الهدى والإعراض عنه. والثاني : هو أن الأرواح البشرية إذا فارقت أبدانها جاهلة ضالة عن الاتصال بالروحانيات بقيت على تلك الحالة بعد المفارقة وعظمت الآلام الروحانية ، فلهذا علل الله تعالى حصول العمى في الآخرة بالإعراض عن الدلائل في الدنيا ، ومن فسر المعيشة الضنك بالضيق في الدنيا ، قال إنه تعالى بين أن من أعرض عن ذكره في الدنيا فله المعيشة الضنك في الدنيا ، والعمى في الآخرة ، أما قوله : {وَكَذَالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنا بِـاَايَـاتِ رَبِّه } فقد / اختلفوا فيه فبعضهم قال : أشرك وكفر ، وبعضهم قال : أسرف في أن عصى الله وقد بين تعالى المراد بذلك بقوله : {وَلَمْ يُؤْمِنا بِـاَايَـاتِ رَبِّه } لأن ذلك كالتفسير لقوله : أسرف وبين أنه يجزي من هذا حاله بما تقدم ذكره من المعيشة الضنك والعمى وبين بعد ذلك أن : {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } أما الأشد فلعظمه ، وأما الأبقى فلأنه غير منقطع.
جزء : 22 رقم الصفحة : 112
0
(1/3110)
اعلم أنه تعالى لما بين أن من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة أتبعه بما يعتبر (به) المكلف من الأحوال الواقعة في الدنيا بمن كذب الرسل فقال : {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} والقراءة العامة أفلم يهد بالياء المعجمة من تحت وفاعله هو قوله : {كَمْ أَهْلَكْنَا} قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم ، كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي أفلم نهد لهم بالنون ، قال الزجاج : يعني أفلم نبين لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا ، وأما قوله : {كَمْ أَهْلَكْنَا} فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية وأراد بقوله : {يَمْشُونَ فِى مَسَـاكِنِهِمْ } أن قريشاً يشاهدون تلك الآيات العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعم ، وما حل بهم من ضروب الهلاك ، وللمشاهدة في ذلك من الاعتبار ما ليس لغيره ، وبين أن في تلك الآيات آيات لأولى النهى ، أي لأهل العقول والأقرب أن للنهية مزية على العقل ، والنهي لا يقال إلا فيمن له عقل ينتهي به عن القبائح ، كما أن لقولنا : أولو العزم مزية على أولو الحزم ، فلذلك قال بعضهم : أهل الورع وأهل التقوى ، ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على / من كذب وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم فقال : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاماً ، ولا شبهة في أن الكلمة هي إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ ، أن أمته عليه السلام وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال ، واختلفوا فيما لأجله لم يفعل ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، قال بعضهم : لأنه علم أن فيهم من يؤمن ، وقال آخرون : علم أن في نسلهم من يؤمن ولو أنزل بهم العذاب لعمهم الهلاك ، وقال آخرون : المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا هو ، وقال أهل السنة : له بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله ومن شاء بعذابه من غير علة ، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل ، فلهذا قال أهل التحقيق : كل شيء صنيعه لا لعلة ، وأما الأجل المسمى ففيه قولان : أحدهما : ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب وهو يوم بدر. والثاني : ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذب وهو أقرب ، ويكون المراد ولولا كلمة سبقت تتضمن تأخير العذاب إلى الآخرة كقوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 112
{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} (القمر : 46) لكان العقاب لازماً لهم فيما يقدمون عليه من تكذيب الرسول وأذيتهم له ، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم ، فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم : إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة ، ويحتمل أيضاً تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفاً له عن ذلك/ ثم قال الكلبي ومقاتل : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، ثم قال : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وهو نظير قوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 45) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {بِحَمْدِ رَبِّكَ} في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه.
المسألة الثانية : إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى.
(1/3111)
المسألة الثالثة : اختلفوا في التسبيح على وجهين ، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه. أحدها : أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : دخلت الصلوات الخمس فيه ، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعاً قبل الغروب ، ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ويكون قوله : {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختصت في قوله : {حَـافِظُوا عَلَى} (البقرة : 238) بالتوكيد. القول / الثاني : أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة ، أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين ، فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما ، بقي قوله : {وَمِنْ ءَانَآى ِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } وأطراف النهار للنوافل. القول الثالث : أنها تدل على أقل من الخمس ، فقوله : قبل طلوع الشمس للفجر ، وقبل غروبها للعصر ، ومن آناء الليل للمغرب والعتمة ، فيبقى الظهر خارجاً. والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى. هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة ، قال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات ، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره ، وذلك لأنه تعالى صبره أولاً على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر ، والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائماً مظهراً لذلك وداعياً إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات.
جزء : 22 رقم الصفحة : 112
المسألة الرابعة : أفضل الذكر ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر. وذلك لسكون الناس وهدء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : {إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـاًا وَأَقْوَمُ قِيلا} (المزمل : 6) وقال : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ} (الزمر : 9) ولأن الليل وقت السكون والراحة. فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل.
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : النهار له طرفان فكيف قال : {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} بل الأولى أن يقول كما قال : {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ} (هود : 114) ، وجوابه من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ، ومنهم من قال : إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود ، أما قوله تعالى : {لَعَلَّكَ تَرْضَى } ففيه وجوه. أحدها : أن هذا كما يقول الملك الكبير : يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة ، وهو إشارة إلى قوله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى : 5) وقوله : {عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} ، وثانيها : لعلك ترضى ما تنال من الثواب. وثالثها : لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة. وقرأ الكسائي وعاصم : لعلك ترضى بضم التاء والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 112
118
/ اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله عليه السلام على ما يقولون ، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح أتبع ذلك بنهيه عن مد عينيه إلى ما متع به القوم فقال تعالى : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وجهان : أحدهما : المراد منه نظر العين وهؤلاء قالوا : مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه إعجاباً به كما فعل نظارة قارون حيث قالوا : {الدُّنْيَا يَـالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـارُونُ إِنَّه لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص : 79) حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بقولهم : {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا} (القصص : 80) وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك كما إذا نظر الإنسان إلى شيء مرة ثم غض ، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع قيل : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي لا تفعل ما أنت معتاد له. ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغير ذلك لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة ، فالناظر إليها محصل لغرضهم وكالمقوى لهم على اتخاذها. القول الثاني : قال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ليس هو النظر ، بل هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا.
جزء : 22 رقم الصفحة : 118
(1/3112)
المسألة الثانية : قال أبو رافع : "نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلّم فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف ، فقال : والله لا أفعل ذلك إلا برهن فأخبرته بقوله فأمرني أن أذهب بدرعه إليه فنزل قوله تعالى : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} " وقال عليه السلام : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم" وقال أبو الدرداء : الدنيا دار من لا دار له ومال / من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له. وعن الحسن : لولا حمق الناس لخربت الدنيا. وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال : لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم لها عبيداً ، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رآى ما عند السلاطين يتلو هذه الآية ، وقال الصلاة يرحمكم الله ، أما قوله عز وجل : {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه } (أي) ألذذنا به ، والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح ، يقال أمتعه إمتاعاً ومتعه تمتيعاً والتفعيل يقتضي التكثير ، أما قوله : {أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أي أشكالاً وأشباهاً من الكفار وهي من المزاوجة بين الأشياء وهي المشاكلة ، وذلك لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أصنافاً منهم ، وقال الكلبي والزجاج : رجالاً منهم/ أما قوله : {زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} ففي انتصابه أربعة أوجه. أحدها : على الذم وهو النصب على الاختصاص أو على تضمين متعنا معنى أعطينا وكونه مفعولاً ثانياً له أو على إبداله من محل الجار والمجرور أو على إبداله من أزواجاً على تقدير ذوي ، فإن قيل : ما معنى الزهرة فيمن حرك قلنا معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة كما جاء في الجهرة. قرىء : أرنا الله جهرة ، وأن يكون جمع زاهر وصفاً لهم بأنهم زهرة هذه الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلل وجوههم بخلاف ما عليه الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب ، أما قوله : {لِنَفْتِنَهُمْ فِيه } فذكروا فيه وجوهاً. أحدها : لنعذبهم به كقوله : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} (التوبة : 55). وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إضلالاً مني لهم. وثالثها : قال الكبي ومقاتل تشديداً في التكاليف عليهم لأن الإعراض عن الدنيا عند حضورها والإقبال إلى الله أشد من ذلك عند عدم حضورها ولذلك كان رجوع الفقراء إلى خدمة الله تعالى والتضرع إليه أكثر من تضرع الأغنياء ، ولأن على من أوتي الدنيا ضروباً من التكليف لولاها لما لزمتهم تلك التكاليف ولأن القادر على المعاصي يكون الاجتناب عن المعاصي أشق عليه من العاجز الفقير ، فمن هذه الجهات تكون الزيادة في الدنيا تشديداً في التكليف ثم قال لرسوله :
جزء : 22 رقم الصفحة : 118
(1/3113)
{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } والأظهر أن المراد أن مطلوبك الذي تجده من الثواب خير من مطلوبهم وأبقى ، لأنه يدوم ولا ينقطع وليس كذلك حال ما أوتوه من في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المراد ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة خير لك من حيث العاقبة وأبقى ، فذكر الرزق في الدنيا ووصفه بحسن عاقبته إذا رضي به وصبر عليه ، ويحتمل أن يكون المراد ما أعطى من النبوة والدرجات الرفيعة ، وأما قوله : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ} فمنهم من حمله على أقاربه ومنهم من حمله على كل أهل دينه ، وهذا أقرب وهو كقوله : {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَه بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ} (مريم : 55) وإن احتمل أن يكون المراد من يضمه المسكن إذ التنبيه على الصلاة والأمر بها في أوقاتها ممكن فيهم دون سائر الأمة يعنى كما أمرناك بالصلاة فامر أنت قومك بها ، أما قوله : {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } فالمراد كما تأمرهم فحافظ عليها فعلاً ، فإن الوعظ بلسان الفعل أتم منه بلسان القول ، وكان رسول الله / صلى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي عليهما السلام كل صباح ويقول : "الصلاة" وكان يفعل ذلك أشهراً ، ثم بين تعالى أنه إنما يأمرهم بذلك لمنافعهم وأنه متعال عن المنافع بقوله : {لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } وفيه وجوه. أحدها : قال أبو مسلم : المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج ، وهو كقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} (الذاريات : 56 ، 57). وثانيها : {لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا } لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك ونرزق أهلك ، ففرغ بالك لأمر الآخرة ، وفي معناه قول الناس : من كان في عمل الله كان الله في عمله. وثالثها : المعنى أنا لما أمرناك بالصلاة فليس ذلك لأنا ننتفع بصلاتك. فعبر عن هذا المعنى بقوله : {لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا } بل نحن نرزقك في الدنيا بوجوه النعم وفي الآخرة بالثواب ، قال عبد الله بن سلام : "كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية" واعلم أنه ليس في الآية رخصة في ترك التكسب لأنه تعالى قال في وصف المتقين :
جزء : 22 رقم الصفحة : 118
(1/3114)
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور : 37) ، أما قوله : والعاقبة للتقوى فالمراد والعاقبة الجميلة لأهل التقوى يعني تقوى الله تعالى ، ثم إنه سبحانه بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهتهم ، فكأنه من تمام قوله : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (طه : 130) وهي قولهم : {لَوْلا يَأْتِينَا بِاَايَةٍ مِّن رَّبِّه } أوهموا بهذا الكلام أنه يكلفهم الإيمان من غير آية ، وقالوا في موضع آخر : {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَاما بَلِ} (الأنبياء : 5) وأجاب الله تعالى عنه بقوله : {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى } وفيه وجوه : أحدها : أن ما في القرآن إذ وافق ما في كتبهم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يشتغل بالدراسة والتعلم وما رأى أستاذاً ألبتة كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً. وثانيها : أن بينة ما في الصحف الأولى ما فيها من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبنبوته وبعثته. وثالثها : ذكر ابن جرير والقفال (أن) المعنى : {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى } من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات وكفروا بها كيف عاجلناهم بالعقوبة فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك ، وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن ، فلهذا وصف القرآن بكونه : {بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى } واعلم أنه إنما ذكر الضمير الراجع إلى البينة لأنها في معنى البرهان والدليل ، ثم بين أنه تعالى أزاح لهم كل عذر وعلة في التكليف ، فقال : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} والمراد كان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذراً لهم ، فأما الآن وقد أرسلناك وبينا على لسانك لهم ما عليهم وما لهم فلا حجة لهم البتة بل الحجة عليهم. ومعنى : {مِّن قَبْلِه } يحتمل من قبل إرساله ويحتمل من قبل ما أظهره من البينات فإن قيل فما معنى قوله : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا } (طه : 134) والهالك لا يصح أن يقول قلنا المعنى لكان لهم أن يقولوا ذلك يوم القيامة ولذلك قال : {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } وذلك لا يليق إلا بعذاب الآخرة ، روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال عليه السلام : "يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك لك. وتلا قوله : {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلاً أنتفع به ، ويقول الصبي : كنت صغيراً لا أعقل فترفع لهم نار ، ويقال لهم : ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله تعالى أنه شقي ويبقى من في علمه أنه سعيد ، فيقول الله تعالى لهم : "عصيتم اليوم فكيف برسلي لو أتوكم" والقاضي طعن في الخبر وقال : لا يحسن العقاب على من لا يعقل ، واعلم أن في هذه الآية مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 118
المسألة الأولى : قال الجبائي : هذه الآية تدل على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنه يجب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده ولو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن ؟
وهلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ؟
وإن كان المعلوم أنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم الرسول لم يكن في ذلك حجة ، فصح أنه إنما يكون حجة لهم إذا كان في المعلوم أنهم يؤمنون عنده إذا أطاعوه.
المسألة الثانية : قال الكعبي قوله : {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده ، وأنه ليس قوله : {لا يُسْاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء : 23) كما ظنه أهل الجبر من أن ما هو جور منا يكون عدلاً منه بل تأويله : أنه لا يقع منه إلا العدل فإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة.
المسألة الثالثة : قال أصحابنا : الآية تدل على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع إذ لو تحقق العقاب قبل مجيء الشرع لكان العقاب حاصلاً قبل مجيء الشرع.
ثم إنه سبحانه ختم السورة بضرب من الوعيد فقال : {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أي كل منا ومنكم منتظر عاقبة أمره وهذا الانتظار يحتمل أن يكون قبل الموت ، إما بسبب الأمر بالجهاد أو بسبب ظهور الدولة والقوة ، ويحتمل أن يكون بالموت فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه ، ويحتمل أن يكون بعد الموت وهو ظهور أمر الثواب والعقاب ، فإنه يتميز في الآخرة المحق من المبطل بما يظهر على المحق من أنواع كرامة الله تعالى ، وعلى المبطل من أنواع إهانته {فَسَتَعْلَمُونَ} عند ذلك {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } إليه وليس هو بمعنى الشك والترديد ، بل هو على سبيل التهديد والزجر للكفار ، والله أعلم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 118
18
(1/3115)
سورة الأنبياء عليهم السلام
مائة واثنتا عشرة آية مكية
جزء : 22 رقم الصفحة : 18
121
اعلم أن قوله تعالى : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : القرب لا يعقل إلا في المكان والزمان ، والقرب المكاني ههنا ممتنع فتعين القرب الزماني ، والمعنى اقترب للناس وقت حسابهم.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول كيف وصف بالاقتراب ، وقد عبر بعد هذا القول قريب من ستمائة عام والجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مقترب عند الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى : {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه ا وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج : 47). وثانيها : أن كل آت قريب وإن طالت أوقات ترقبه ، وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
وثالثها : أن المعاملة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر ، فإنه لا يقال اقترب الأجل أما إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال : اقترب الأجل ، فعلى هذا الوجه قال العلماء : إن فيه دلالة على قرب القيامة ، ولهذا الوجه قال عليه السلام : "بعثت أنا والساعة كهاتين" وهذا الوجه قيل إنه عليه السلام ختم به النبوة ، كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي.
/ المسألة الثالثة : إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين فيكون أقرب إلى تلافي الذنوب والتحرر عنها خوفاً من ذلك والله أعلم.
المسألة الرابعة : إنما لم يعين الوقت لأجل أن كتمانه أصلح ، كما أن كتمان وقت الموت أصلح.
المسألة الخامسة : الفائدة في تسمية يوم القيامة بيوم الحساب أن الحساب هو الكاشف عن حال المرء فالخوف من ذكره أعظم.
المسألة السادسة : يجب أن يكون المراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل له ، ثم قال ابن عباس : المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين أما قوله تعالى : {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} فاعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الغفلة والإعراض. أما الغفلة فالمعنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسىء ثم إذا انتبهوا من سنة الغفلة ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 121
أما قوله : {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن أبي عبلة محدث بالرفع صفة للمحل.
المسألة الثانية : إنما ذكر الله تعالى ذلك بياناً لكونهم معرضين ، وذلك لأن الله تعالى يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً ويظهر لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون ، فما يزيدهم ذلك إلا لعباً واستسخاراً.
(1/3116)
المسألة الثالثة : المعتزلة احتجوا على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا : القرآن ذكر والذكر محدث فالقرآن محدث ، بيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} (ص : 87) وقوله : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) وقوله : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} (ص : 1) وقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) وقوله : {وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا } (يس : 69) وقوله : {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـاه } (الأنبياء : 5) وبيان أن الذكر محدث قوله في هذا الموضع : {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} وقوله في سورة الشعراء : {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} ثم قالوا : فصار مجموع هاتين المقدمتين المنصوصتين كالنص في أن القرآن محدث والجواب من وجهين : الأول : أن قوله : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ} وقوله : {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات فإذا ضممنا إليه قوله : {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} لزم حدوث المركب من الحروف والأصوات وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة ، وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر. الثاني : أن قوله : {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على ذكر ما محدث كما أن قول القائل لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه ، فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون / فاضلاً بل على أن في الرجال من هو فاضل وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث فيصير نظم الكلام هكذا القرآن ذكر وبعض الذكر محدث وهذا لا ينتج شيئاً كما أن قول القائل : الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس لا ينتج شيئاً فظهر أن الذي ظنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع. أما قوله : {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ففيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 121
المسألة الأولى : أن ذلك ذم للكفار وزجر لغيرهم عن مثله لأن الإنتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر ، وإذا كانوا عند استماعه لاعبين حصلوا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك البهيمة فيه الإنسان ثم أكد تعالى ذمهم بقوله : {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } واللاهية من لهى عنه إذا ذهل وغفل ، وإنما ذكر اللعب مقدماً على اللهو كما في قوله تعالى : {إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } (محمد : 36) تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه السخرية والإستهزاء معلل باللهو الذي معناه الذهول والغفلة ، فإنهم أقدموا على اللعب للهوهم وذهولهم عن الحق ، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : {وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حالان مترادفان أو متداخلان ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر لقوله : {وَهُمْ} .
أما قوله : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } ففيه سؤالان :
السؤال الأول : النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } . الجواب : معناه بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم.
السؤال الثاني : لم قال : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } . الجواب : أبدل الذين ظلموا من أسروا إشعاراً بأنهم هم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث أو هو منصوب المحل على الذم أو هو مبتدأ خبره : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قدم عليه والمعنى وهؤلاء أسروا النجوى فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم.
أما قوله : {هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويحتمل أن يكون التقدير وأسروا النجوى وقالوا هذا الكلام.
المسألة الثانية : إنما أسروا هذا الحديث لوجهين : أحدهما : أنه كان ذلك شبهة التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره ، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم. الثاني : يجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه.
جزء : 22 رقم الصفحة : 121
(1/3117)
المسألة الثالثة : أنهم طعنوا في نبوته بأمرين : أحدهما : أنه بشر مثلهم. والثاني : أن الذي أتى به سحر ، وكلا الطعنين فاسد. أما الأول : فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل / لا على الصور إذ لو بعث الملك إليهم لما علم كونه نبياً لصورته ، وإنما كان يعلم بالعلم فإذا ظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً ، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب وهو به آنس. وأما الثاني : وهو أن ما أتى به الرسول عليه السلام سحر وأنهم يرون كونه سحراً فجهل أيضاً ، لأن كل ما أتى به الرسول من القرآن وغيره ظاهر الحال لا تمويه فيه ولا تلبيس فيه. فقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن حالاً بعد حال مدة من الزمان وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأن الفعل عند توافر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها دلنا ذلك على أنه في نفسه معجزة وأنهم عرفوا حاله. فكيف يجوز أن يقال : إنه سحر والحال على ما ذكرناه ، وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه ، إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول وإن كانوا فيه مكابرين.
جزء : 22 رقم الصفحة : 121
المسألة الثالثة : أنهم طعنوا في نبوته بأمرين : أحدهما : أنه بشر مثلهم. والثاني : أن الذي أتى به سحر ، وكلا الطعنين فاسد. أما الأول : فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل / لا على الصور إذ لو بعث الملك إليهم لما علم كونه نبياً لصورته ، وإنما كان يعلم بالعلم فإذا ظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً ، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب وهو به آنس. وأما الثاني : وهو أن ما أتى به الرسول عليه السلام سحر وأنهم يرون كونه سحراً فجهل أيضاً ، لأن كل ما أتى به الرسول من القرآن وغيره ظاهر الحال لا تمويه فيه ولا تلبيس فيه. فقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن حالاً بعد حال مدة من الزمان وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأن الفعل عند توافر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها دلنا ذلك على أنه في نفسه معجزة وأنهم عرفوا حاله. فكيف يجوز أن يقال : إنه سحر والحال على ما ذكرناه ، وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه ، إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول وإن كانوا فيه مكابرين.
جزء : 22 رقم الصفحة : 121
122
أما قوله : {قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {قَالَ رَبِّى } حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وقرأ الباقون قل بضم القاف وحذف الألف وسكون اللام.
المسألة الثانية : أنه تعالى لما أورد هذا الكلام عقيب ما حكى عنهم وجب أن يكون كالجواب لما قالوه فكأنه قال إنكم وإن أخفيتم قولكم ، وطعنكم فإن ربي عالم بذلك وإنه من وراء عقوبته ، فتوعدوا بذلك لكي لا يعودوا إلى مثله.
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : فإن قلت فهلا قيل له يعلم السر لقوله : {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } (الأنبياء : 3) قلت القول علام يشمل السر والجهر فكأن في العلم به العلم بالسر وزيادة فكأن آكد في بيان الإطلاع على نجواهم من أن يقول : {يَعْلَمُ السِّرَّ} كما أن قوله تعالى : {يَعْلَمُ السِّرَّ} آكد من أن يقول يعلم سرهم فإن قلت فلم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله : {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الفرقان : 6) قلت : ليس بواجب أن يجيء بالآكد في قوله في كل موضع ، ولكن يجيء بالتوكيد مرة وبالآكد مرة أخرى ، ثم الفرق أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى ، فكأنه أراد أن يقول : إن ربي يعلم ما أسروه ، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثمة قصد وصف ذاته بأن قال : {أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فهو كقوله : {عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} (سبأ : 48) ، {عَـالِمِ الْغَيْبِا لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} (سبأ : 3).
جزء : 22 رقم الصفحة : 122
(1/3118)
المسألة الرابعة : إنما قدم السميع على العليم لأنه لا بد من سماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه ، أما قوله : {بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِـاَايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ} فاعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله : {هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} (الأنبياء : 3) ثم قال : {بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا : ندعي أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله تعالى. سلمنا أنه غير مانع ، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز ، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا : إنها أضغاث أحلام ، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه ، وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء ، وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزاً ، ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا : {بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ} فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام ، ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله : {مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا/ فأهلكهم الله ، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثاً. قال الحسن رحمه الله تعالى : إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 122
123
اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم : {مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (المؤمنون : 33) بقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ } فبين أن هذه عادة الله تعالى في الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلّم ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً للآيات التي ظهرت عليهم فإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم فلا مقال عليه في كونه بشراً فأما قوله تعالى : {فَسْـاَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فالمعنى أنه تعالى أمرهم أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة ، وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال تعالى : {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } (آل عمران : 186) فإن قيل إذا لم يوثق باليهود والنصارى ، فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل قلنا : إذا تواتر خبرهم وبلغ حد الضرورة جاز ذلك ، كما قد يعمل بخبر الكفار إذا تواتر ، مثل ما يعمل بخبر المؤمنين. ومن الناس من قال : المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلّم فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. ثم بين تعالى أنه لم يجعل الرسل قبله جسداً لا يأكلون الطعام وفيه أبحاث :
البحث الأول : قوله : {لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} صفة جسد والمعنى وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين.
جزء : 22 رقم الصفحة : 123
البحث الثاني : وحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي ضرب من الأجساد.
(1/3119)
البحث الثالث : أنهم كانوا يقولون : {مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِا لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيرًا} (الفرقان : 7) فأجاب الله بقوله : {وَمَا جَعَلْنَـاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} فبين تعالى أن هذه عادة الله في الرسل من قبل وأنه لم يجعلهم جسداً لا يأكلون بل جسداً يأكلون الطعام ولا يخلدون في الدنيا بل يموتون كغيرهم ، ونبه بذلك على أن الذي صاروا به رسلاً غير ذلك وهو ظهور المعجزات على أيديهم وبراءتهم عن الصفات القادحة في التبليغ ، أما قوله تعالى : {ثُمَّ صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ} فقال صاحب "الكشاف" : هو مثل قوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه سَبْعِينَ رَجُلا} (الأعراف : 155) والأصل في الوعد ومن قومه ومنه صدقوهم المقال : {وَمَن نَّشَآءُ} هم المؤمنون ، قال المفسرون : المراد منه / أنه تقدم وعده جل جلاله بأنه إنما يهلك بعذاب الاستئصال من كذب الرسل دون نفس الرسل ودون من صدق بهم ، وجعل الوفاء بما وعد صدقاً من حيث يكشف عن الصدق ومعنى : {وَأَهْلَكْنَا الْمُسِْرفِينَ} أي بعذاب الاستئصال وليس المراد عذاب الآخرة لأنه إخبار عما مضى وتقدم/ ثم بين تعالى بقوله : {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَـابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } عظيم نعمته عليهم بالقرآن في الدين والدنيا ، فلذلك قال فيه : {ذِكْرُكُمْ } وفيه ثلاثة أوجه : أحدها ؛ ذكركم شرفكم وصيتكم ، كما قال : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44). وثانيها : المراد فيه تذكرة لكم لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب ، ويكون المراد بالذكر الوعد والوعيد ، كما قال : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات : 55). وثالثها : المراد ذكر دينكم ما يلزم وما لا يلزم لتفوزوا بالجنة إذا تمسكتم به وكل ذلك محتمل ، وقوله : {أَفَلا تَعْقِلُونَ} كالبعث على التدبر في القرآن لأنهم كانوا عقلاء لأن الخوض من لوازم الغفلة والتدبر دافع لذلك الخوض ودفع الضرر عن النفس من لوازم الفعل فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل.
جزء : 22 رقم الصفحة : 123
124
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الاعتراضات وكانت تلك الاعتراضات ظاهرة السقوط لأن شرائط الإعجاز لما تمت في القرآن ظهر حينئذ لكل عاقل كونه معجزاً ، وعند ذلك ظهر أن اشتغالهم بإيراد تلك الاعتراضات كان لأجل حب الدنيا وحب الرياسة فيها فبالغ سبحانه في زجرهم عن ذلك فقال : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} قال صاحب "الكشاف" القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف القصم وذكر القرية وأنها ظالمة وأراد أهلها توسعاً لدلالة العقل على أنها لا تكون ظالمة ولا مكلفة ولدلالة قوله تعالى : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} فالمعنى أهلكنا قوماً وأنشأنا قوماً آخرين وقال : {فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ} ـ إلى قوله ـ {قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ} وكل ذلك لا يليق إلا بأهلها الذين كلفوا بتصديق الرسل فكذبوهم ولولا هذه / الدلائل لما جاز منه سبحانه ذكر المجاز لأنه يكون ذلك موهماً للكذب ، واختلفوا في هذا الإهلاك فقال ابن عباس : المراد منه القتل بالسيوف والمراد بالقرية حضور وهي وسحول قريتان باليمن ينسب إليهما الثياب. وفي الحديث : "كفن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ثوبين سحوليين" وروى : "حضوريين بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم" وروى : "أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء" فندموا واعترفوا بالخطأ ، وقال الحسن : المراد عذاب الاستئصال ، واعلم أن هذا أقرب لأن إضافة ذلك إلى الله تعالى أقرب من إضافته إلى القاتل ، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله تعالى بهذه الآية ، وأما قوله تعالى : {فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ}
جزء : 22 رقم الصفحة : 124
(1/3120)
فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم ، والركض ضرب الدابة بالرجل ، ومنه قوله تعالى : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين ، أما قوله : {لا تَرْكُضُوا } قال صاحب "الكشاف" : القول محذوف ، فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين ، أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل ، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم ، أما قوله : {وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـاكِنِكُمْ} أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة ، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه ، أما قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ} فهو تهكم بهم وتوبيخ ، ثم فيه وجوه : أحدها : أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. وثانيها : ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين. وثالثها : تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم. ورابعها : يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ ، أما قوله تعالى : {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم ، والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌا وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ} (يونس : 10) فإن قلت : لم سميت دعوى ؟
قلت : لأنهم كانوا دعوا بالويل : {فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا} أي يا ويل احضر فهذا وقتك ، وتلك مرفوع أو منصوب إسماً أو خبراً وكذلك : {كَانَ دَعْوَاـاهُمْ} قال المفسرون : لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) أما قوله : {حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا خَـامِدِينَ} / فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم ، كما تقول جعلناهم رماداً أي مثل الرماد فإن قيل : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل ، قلت : حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين ، والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد ، وخمدوا كما تخمد النار.
جزء : 22 رقم الصفحة : 124
(1/3121)
فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم ، والركض ضرب الدابة بالرجل ، ومنه قوله تعالى : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين ، أما قوله : {لا تَرْكُضُوا } قال صاحب "الكشاف" : القول محذوف ، فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين ، أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل ، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم ، أما قوله : {وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـاكِنِكُمْ} أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة ، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه ، أما قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ} فهو تهكم بهم وتوبيخ ، ثم فيه وجوه : أحدها : أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. وثانيها : ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين. وثالثها : تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم. ورابعها : يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ ، أما قوله تعالى : {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم ، والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى : {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌا وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ} (يونس : 10) فإن قلت : لم سميت دعوى ؟
قلت : لأنهم كانوا دعوا بالويل : {فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا} أي يا ويل احضر فهذا وقتك ، وتلك مرفوع أو منصوب إسماً أو خبراً وكذلك : {كَانَ دَعْوَاـاهُمْ} قال المفسرون : لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) أما قوله : {حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا خَـامِدِينَ} / فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم ، كما تقول جعلناهم رماداً أي مثل الرماد فإن قيل : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل ، قلت : حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين ، والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد ، وخمدوا كما تخمد النار.
جزء : 22 رقم الصفحة : 124
125
اعلم أن فيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم اتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه ومجازاة على ما فعلوا فقال : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما تسوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للهو واللعب ، وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية أما الدينية فليتفكر المتفكرون فيها على ما قال تعالى : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 191) وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى وهذا كقوله : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ} (ص : 27) وقوله : {مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} (الدخان : 39). والثاني : أن الغرض منه تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم والرد على منكريه لأنه أظهر المعجزة عليه فإن كان محمد كاذباً كان إظهار المعجزة عليه من باب اللعب وذلك منفي عنه وإن كان صادقاً فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن.
(1/3122)
المسألة الثانية : قال القاضي عبد الجبار : دلت الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى إذ لو كان كذلك لكان لاعباً فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب فنفى الاسم الموضوع للفعل يقتضي نفي الفعل. والجواب : يبطل ذلك بمسألة الداعي عن ما مر غيره مرة أما قوله : {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَـاعِلِينَ} فاعلم أن قوله : {اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ} معناه من جهة قدرتنا. وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن وقيل : المرأة وقيل من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس رداً لمن قال بولادة المسيح وعزيز فأما قوله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ} فاعلم أن قوله : {بَلِ} / اضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من عادتنا وموجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق ، واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو فدمغه ، فأما قوله تعالى : {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} يعني من تمسك بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلّم ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام إلى غير ذلك من الأباطيل ، وهو الذي عناه بقوله : {مِمَّا تَصِفُونَ} .
جزء : 22 رقم الصفحة : 125
126
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان. الأول : أنه تعالى لما نفى اللعب عن نفسه ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ونفي الحاجة لا يصح إلا بالقدرة التامة ، لا جرم عقب تلك الآية بقوله : {وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة. الثاني : وهو الأقرب أنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الإنقياد بين في هذه الآية أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات ، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.
المسألة الثانية : قوله : {وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } معناه أن كل المكلفين في السماء والأرض فهم عبيده وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم ، فيجب على الكل طاعته والانقياد لحكمه.
المسألة الثالثة : دلالة قوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه قد تقدم بيانها في سورة البقرة.
المسألة الرابعة : قوله : {وَمَنْا عِندَهُ} المراد بهم الملائكة بإجماع الأمة ولأنه تعالى وصفهم بأنهم : {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} وهذا لا يليق بالبشر وهذه العندية عندية الشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة ، فكأنه تعالى قال : الملائكة مع كمال شرفهم ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن طاعته فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته.
جزء : 22 رقم الصفحة : 126
المسألة الخامسة : قال الزجاج : ولا يستحسرون ولا يتعبون ولا يعيون قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت الاستحسار مبالغة في الحسور فكأن الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى / الحسور قلت في الأستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فيما يفعلون أما قوله تعالى : {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} فالمعنى أن تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا يتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر ، روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل ، قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله تعالى : {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} ثم قال : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} (فاطر : 1) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضاً قال : { أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة : 161) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح ؟
أجاب كعب الأحبار فقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذا اشتغالهم بالتبسيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. فإن قيل هذا القياس غير صحيح لأن الإشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام ، لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما التسبيح واللعن فهمنا من جنس الكلام فاجتماعهما محال. والجواب : أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون الله وببعضها يلعنون أعداء الله ، أو يقال معنى قوله : {لا يَفْتُرُونَ} أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : إن إفلانا يواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبداً مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها.
جزء : 22 رقم الصفحة : 126
134
(1/3123)
اعلم أن الكلام من أول السورة إلى ههنا كان في النبوات وما يتصل بها من الكلام سؤالاً وجواباً ، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الأضداد والأنداد.
/أما قوله تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الارْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : أم ههنا هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة قد أذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها ، والمنكر هو اتخاذهم آلهم من الأرض ينشرون الموتى ، ولعمري إن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات ، فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة ينشرون وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى ، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وبأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث ، ويقولون : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة ألبتة ؟
قلت : لأنهم لما اشتغلوا بعبادتها ولا بد للعبادة من فائدة هي الثواب فإقدامهم على عبادتها يوجب عليهم الإقرار بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب ، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل ، يعني إذا كانوا غير قادرين على أن يحيوا ويميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة.
المسألة الثانية : قوله : {مِّنَ الارْضِ} كقولك فلان من مكة أو من المدينة ، تريد مكي أو مدني إذ معنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لأن الآلهة على ضربين : أرضية وسماوية ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض ، لأنها إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة أو معمولة من بعض جواهر الأرض.
المسألة الثالثة : النكتة في {هُمْ يُنشِرُونَ} معنى الخصوصية كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة من الأرض لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
المسألة الرابعة : قرأ الحسن (ينشرون) وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها.
أما قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال أهل النحو إلا ههنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أمورهما شيء غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا ، ولا يجوز أن يكون بمعنى الاستثناء لأنا لو حملناه على الإستثناء لكان المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد ، وذلك باطل لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء لم يكن الله معهم أو كان فالفساد لازم. ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت أن المراد ما ذكرناه.
المسألة الثانية : قال المتكلمون : القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً ، إنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه/ فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر ، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس ، فلو امتنعا معاً لوجدا / معاً وذلك محال أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك محال أيضاً لوجهين : أحدهما : أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا في القدرة. وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح. وثانيهما : أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادراً والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً والعجز نقص وهو على الله محال. فإن قيل الفساد إنما يلزم عند اختلافهما في الإرادة وأنتم لا تدعون وجوب اختلافهما في الإرادة بل أقصى ما تدعونه أن اختلافهما في الإرادة ممكن ، فإذا كان الفساد مبنياً على الإختلاف في الإرادة وهذا الإختلاف ممكن والمبني على الممكن ممكن فكان الفساد ممكناً لا واقعاً فكيف جزم الله تعالى بوقوع الفساد ؟
قلنا الجواب من وجهين : أحدهما : لعله سبحانه أجرى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر من حيث إن الرعية تفسد
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
(1/3124)
بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب. والثاني : وهو الأقوى أن نبين لزوم الفساد لا من الوجه الذي ذكرناه بل من وجه آخر ، فنقول : لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدّورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما جميعاً فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً وذلك محال. وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد ، فنقول القول بوجود الإلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور لواحد منهما وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع ألبتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعاً ، أو نقول لو قدرنا إلهين ، فإما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال وإن اختلفا ، فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات ، فإن قلت : لم لا يجوز أن يتفقا على الشيء الواحد ولا يلزم الفساد لأن الفساد إنما يلزم لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو وهذا اختلاف ، أما إذا أراد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما بعينه فهناك لا يلزم وقوع مخلوق بين خالقين ، قلت : كونه موجداً له ، إما أن يكون نفس القدرة والإرادة أو نفس ذلك الأثر أو أمراً ثالثاً ، فإن كان الأول لزم الإشتراك في القدرة والإرادة والاشتراك في الموجد ، وإن كان الثاني فليس وقوع ذلك الأثر بقدرة أحدهما وإرادته أولى من وقوعه بقدرة الثاني ، لأن لكل واحد منهما إرادة مستقلة بالتأثير ، وإن كان الثالث وهو أن يكون الموجد له أمراً ثالثاً فذلك الثالث إن كان قديماً استحال كونه متعلق الإرادة. وإن كان حادثاً فهو نفس الأثر ، ويصير هذا القسم هو القسم الثاني الذي ذكرناه. واعلم أنك لما وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل وحدانية الله تعالى بل / وجود كل واحد من الجواهر والأعراض دليل تام على التوحيد من الوجه الذي بيناه. وهذه الدلالة قد ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه ، واعلم أن ههنا أدلة أخرى على وحدانية الله تعالى. أحدها : وهو الأقوى أن يقال : لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتيهما فلا بد وأن يشتركا في الوجود ولا بد وأن يمتاز
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
(1/3125)
كل واحد منهما عن الآخر بنفسه وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً مما به يشارك الآخر ومما به امتاز عنه/ وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره ، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف ، فإذن واجب الوجود ليس إلا الواحد وكل ما عداه فهو ممكن مفتقر إليه وكل مفتقر في وجوده إلى الغير فهو محدث فكل ما سوى الله تعالى محدث ، ويمكن جعل هذه الدلالة تفسيراً لهذه الآية. لأنا إنما دللنا على أنه يلزم من فرض موجودين واجبين أن لا يكون شيء منهما واجباً وإذا لم يوجد الواجب لم يوجد شيء من هذه الممكنات ، وحينئذ يلزم الفساد فثبت أنه يلزم من وجود إلهين وقوع الفساد في كل العالم. وثانيها : أنا لو قدرنا إلهين لوجب أن يكون كل واحد منهما مشاركاً للآخر في الإلهية ، ولا بد وأن يتميز كل واحد منهما عن الآخر بأمر ما وإلا لما حصل التعدد ، فما به الممايزة إما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال فالخالي عنه يكون خالياً عن الكمال فيكون ناقصاً والناقص لا يكون إلهاً ، وإن لم يكن صفة كمال فالموصوف به يكون موصوفاً بما لايكون صفة كمال فيكون ناقصاً ، ويمكن أن يقال : ما به الممايزة إن كان معتبراً في تحقق الإلهية فالخالي عنه لا يكون إلهاً وإن لم يكن معتبراً في الإلهية لم يكن الاتصاف به واجباً ، فيفتقر إلى المخصص فالموصوف به مفتقر ومحتاج. وثالثها : أن يقال : لو فرضنا إلهين لكان لا بد وأن يكونا بحيث يتمكن الغير من التمييز بينهما ، لكن الامتياز في عقولنا لا يحصل إلا بالتباين في المكان أو في الزمان أو في الوجوب والإمكان وكل ذلك على الإله محال فيمتنع حصول الإمتياز. ورابعها : أن أحد الإلهين إما أن يكون كافياً في تدبير العالم أو لا يكون فإن كان كافياً كان الثاني ضائعاً غير محتاج إليه ، وذلك نقص والناقص لا يكون إلهاً. وخامسها : أن العقل يقتضي احتياج المحدث إلى الفاعل ولا امتناع في كون الفاعل الواحد مدبراً لكل العالم. فأما ما وراء ذلك فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذلك محال فالقول بوجود الآلهة محال. وسادسها : أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يخص نفسه بدليل يدل عليه ولا يدل على غيره أو لا يقدر عليه. والأول محال لأن دليل الصانع ليس إلا بالمحدثات وليس في حدوث المحدثات ما يدل على تعيين أحدهما دون الثاني والتالي محال لأنه يفضي إلى كونه عاجزاً عن تعريف نفسه على التعيين والعاجز لا يكون إلهاً. وسابعها : أن أحد الإلهين إما أن يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر ، فإن قدر لزم أن يكون المستور عنه جاهلاً ، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزاً. وثامنها : لو / قدرنا إلهين لكان مجموع قدرتيهما بينهما أقوى من قدرة كل واحد منهما وحده ، فيكون كل واحد من القدرتين متناهياً والمجموع ضعف المتناهي فيكون الكل منتاهياً. وتاسعاً : العدد ناقص لاحتياجه إلى الواحد ، والواحد الذي يوجد من جنسه عدد ناقص ناقص ، لأن العدد أزيد منه ، والناقص لا يكون إلهاً فالإله واحد لا محالة. وعاشرها : أنا لو فرضنا معدوماً ممكن الوجود ثم قدرنا إلهين فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً ، وإن قدر أحدهما دون الآخر فهذا الآخر يكون إلهاً ، وإن قدرا جميعاً فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجاً إلى إعانة الآخر ، وإن قدر كل واحد على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادراً عليه وهو محال لأن إيجاد الموجود محال ، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول قد أزال قدرة الثاني وعجزه فيكون مقهوراً تحت تصرفه فلا يكون إلهاً. فإن قيل الواجد إذا أوجد مقدوره فقد زالت قدرته عنه فيلزمكم العجز ، قلنا : الواحد إذا أوجده فقد نفذت قدرته فنفاذ القدرة لا يكون عجزاً/ أما الشريك فإنه لما نفذت قدرته لم يبق لشريكه قدرة ألبتة بل زالت قدرته بسبب قدرة الأول فيكون تعجيزاً. الحادي عشر : أن نقرر هذه الدلالة على وجه آخر وهو أن نعين جسماً وتقول هل يقدر كل واحد منهما على خلق الحركة فيه بدلاً عن السكون وبالعكس ، فإن لم يقدر كان عاجزاً وإن قدر فنسوق الدلالة إلى أن نقول إذا خلق أحدهما فيه حركة امتنع على الثاني خلق السكون ، فالأول أزال قدرة الثاني وعجزه فلا يكون إلهاً ، وهذان الوجهان يفيدان العجز نظراً إلى قدرتيهما والدلالة الأولى إنما تفيد العجز بالنظر إلى أرادتيهما. وثاني عشرها : أنهما لما كانا عالمين بجميع المعلومات كان علم كل واحد منهما متعلقاً بعين معلوم الآخر فوجب تماثل علميهما والذات القابلة لأحد المثلين قابلة للمثل الآخر ، فاختصاص كل واحد منهما بتلك الصفة مع جواز اتصافه بصفة الآخر على البدل يستدعي مخصصاً يخصص كل واحد منهما بعلمه وقدرته فيكون كل واحد منهما عبداً فقيراً ناقصاً. وثالث عشرها : أن الشركة عيب ونقص في الشاهد ،
(1/3126)
والفردانية والتوحد صفة كمال ، ونرى الملوك يكرهون الشركة في الملك الحقير المختصر أشد الكراهية. ونرى أنه كلما كان الملك أعظم كانت النفرة عن الشركة أشد ، فما ظنك بملك الله عز وجل وملكوته فلو أراد أحدهما استخلاص الملك لنفسه ، فإن قدر عليه كان المغلوب فقيراً عاجزاً فلا يكون إلهاً ، وإن لم يقدر عليه كان في أشد الغم والكراهية فلا يكون إلهاً. ورابع عشرها : أنا لو قدرنا إلهين لكان إما أن يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر أو يستغني كل واحد منهما عن الآخر أو يحتاج أحدهما إلى الآخر والآخر يستغني عنه ، فإن كان الأول كان كل واحد منهما ناقصاً لأن المحتاج ناقص وإن كان الثاني كان كل واحد منهما مستغنياً عنه ، والمستغني عنه ناقص ، ألا ترى أن البلد إذا كان له رئيس والناس يحصلون مصالح البلد من غير رجوع منهم إليه ومن غير التفات منهم إليه عد ذلك الرئيس ناقصاً ، فالإله هو الذي يستغني به ولا يستغنى عنه ، وإن احتاج أحدهما إلى الآخر من غير عكس / كان المحتاج ناقصاً والمحتاج إليه هو الإله. واعلم أن هذه الوجوه ظنية إقناعية والاعتماد على الوجوه المتقدمة ، أما الدلائل السمعية فمن وجوه : أحدها : قوله تعالى :
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
{هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ وَالظَّـاهِرُ وَالْبَاطِنُ } (الحديد : 3) فالأول هو الفرد السابق ، ولذلك لو قال أول عبد اشتريته فهو حر فلو اشترى أولا عبدين لم يحنث لأن شرط الأول أن يكون فرداً. وهذا ليس بفرد فلو اشترى بعد ذلك واحداً لم يحنث أيضاً لأن شرط الفرد أن يكون سابقاً وهذا ليس بسابق. فلما وصف الله تعالى نفسه بكونه أولاً وجب أن يكون فرداً سابقاً فوجب أن لا يكون له شريك. وثانيها : قوله تعالى : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (الأنعام : 59) فالنص يقتضي أن لا يكون له شريك. وثالثها : أن الله تعالى صرح بكلمة {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (البقرة : 163) في سبعة وثلاثين موضعاً من كتابه وصرح بالوحدانية في مواضع نحو قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (البقرة : 163) وقوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) وكل ذلك صريح في الباب. ورابعها : قوله تعالى : {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه } حكم بهلاك كل ما سواه ، ومن عدم بعد وجوده لا يكون قديماً ، ومن لا يكون قديماً لا يكون إلهاً. وخامسها : قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } وهو كقوله : {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (المؤمنون : 91) وقوله : {إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا} (الإسراء : 42). وسادسها : قوله : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَه ا إِلا هُوَ } (الأنعام : 17) {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَآدَّ لِفَضْلِه } (يونس : 107) وقال في آية أخرى : {قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ} (الزمر : 38). وسابعها : قوله تعالى : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِه } (الأنعام : 46) وهذا الحصر يدل على نفي الشريك. وثامنها : قوله تعالى : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الزمر : 62) فلو وجد الشريك لم يكن خالقاً فلم يكن فيه فائدة ، واعلم أن كل مسألة لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها فإنه يمكن إثباتها بالسمع والوحدانية لا تتوقف معرفة صدق الرسل عليها ، فلا جرم يمكن إثباتها بالدلائل السمعية ، واعلم أن من طعن في دلالة التمانع فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة تقول بإلهيتها عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم قوله : {أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الارْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وبالله التوفيق.
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
أما قوله تعالى : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : أنه سبحانه لما أقام الدلالة القاطعة على التوحيد قال بعده : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي هو منزه لأجل هذه الأدلة عن وصفهم بأن معه إلهاً ، وهذا تنبيه على أن الإشتغال بالتسبيح إنما ينفع بعد إقامة الدلالة على كونه تعالى منزهاً وعلى أن طريقة التقليد طريقة مهجورة.
(1/3127)
المسألة الثانية : لقائل أن يقول أي فائدة لقوله : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} / ولمَ لم يكتف بقوله : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ؟
وجوابه أن هذه المناظرة إنما وقعت مع عبدة الأصنام ، إلا أن الدليل الذي ذكره الله تعالى يعم جميع المخالفين ، ثم إنه تعالى بعد ذكر الدليل العام نبه على نكتة خاصة بعبدة الأصنام ، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين ومدبر الخلائق من النور والظلمة واللوح والقلم والذات والصفات والجماد والنبات وأنواع الحيوانات أجمعين.
أما قوله تعالى : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} فاعلم أنه مشتمل على بحثين : أحدهما : أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت. والثاني : أن الخلائق مسؤولون عن أفعالهم ، أما البحث الأول ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكاً ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً ولذة وألماً وحياة وموتاً وصحة وسقماً وغنى وفقراً ، وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشريراً معاً ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً للخير والآخر فاعلاً للشر. ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخص ذلك بالموت والألم والفقر. فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى. فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك/ لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الإبتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب. ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم.
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
(1/3128)
المسألة الثانية : في الدلالة على أنه سبحانه : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه : أحدها : أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلا بد في قطع التسلسل من الإنتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته ، وكما أن ذاته منزهة عن الإفتقار إلى المؤثر والعلة ، وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الإستناد إلى الموجب والمؤثر. وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة ، إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلاً ، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار ، وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى أيضاً فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال. وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل.ورابعها : أن من فعل فعلاً لغرض ، فإما أن يكون متمكناً من تحصل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكناً / منه. فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً والعجز على الله تعالى محال ، أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض ، وكل ذلك في حق الله تعالى محال. وخامسها : أنه لو كان فعله معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائداً إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط. وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء. وسادسها : هو أنه لو فعل فعلاً لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون ، فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضاً ، وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك محال ، فإن قلت وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء. أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم ، قلنا : تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية ، ويعود التقسيم الأول. وسابعها : وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك. وثامنها : وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك ؟
فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسؤول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك ؟
إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال ، أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضاً محال ، لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له ، وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل ؟
فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر ، وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح/ وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالاً أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا.
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
أما البحث الثاني : وهو قوله تعالى : {وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} فهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم وفيه مسألتان :
(1/3129)
المسألة الأولى : أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي ، أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف ، واحتجوا على قولهم بوجوه. أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر. والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف / بالترجيح تكليفاً بالمحال ، والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوع ممتنع الوقوع. والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث ، وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق. وثانيها : قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثاً ، وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يطاق. وثالثها : قالوا : سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجاً وهو محال ، وإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سبباً لتوجيه العقاب عليه ، لم يكن هذا نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرراً عائداً إليه ، وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثاً وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم. والجواب عنها من وجهين : الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض. والثاني : وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى : لم كلفت عبادك ، إلا أن قد بينا أنه سبحانه : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} فظهر بهذا أن قوله : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} كالأصل والقاعدة لقوله : {وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن ، وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله : {وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} وإن كان متأكداً بقوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92) وبقوله : {وَقِفُوهُم إِنَّهُم} (الصافات : 24) إلا أنه يناقضه قوله : {فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ} (الرحمن : 39) والجواب : أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعاً للتناقض.
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
المسألة الثانية : قالت المعتزلة فيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما حقه الذم ، كما يحمد بما حقه المدح. وثانيها : أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه. وثالثها : أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم. ورابعها : أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم. وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل ، وقال : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } (طه : 134) ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى. وسادسها : قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى : ما حملك على معصيتي ؟
فيقول على مذهب الجبر : يا رب إنك خلقتني كافراً وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه ، ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقاً ، وقال الله تعالى : {هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ صِدْقُهُمْ } (المائدة : 119) فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له ، ومن يدعه يقول : هذا الكلام أو يحتج ؟
فقال ثمامة : أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده ، وهذا نهاية الانقطاع. والجواب عن هذه الوجوه : أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه.
وأما قوله تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةًا قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ } فاعلم أنه سبحانه كرر قوله : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً } استعظاماً لكفرهم أي وصفتم الله بأن له شريكاً فهاتوا برهانكم على ذلك. أما من جهة العقل ، أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولاً وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانياً ، أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثاً.
(1/3130)
أما قوله تعالى : {هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } ففيه مسألتان :
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
المسألة الأولى : في تفسيره وفيه أقوال : أحدها : {هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ} أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي : {هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، وليس في شيء منها أنى أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل ليس فيها إلا : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } كما قال بعد هذا : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وهذا قول ابن عباس واختيار القفال والزجاج. والثاني : وهو قول سعيد ابن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله : {وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } صفة للقرآن فإنه كما يشتمل على أحوال هذه الأمة فكذا يشتمل على أحوال الأمم الماضية. الثالث : ما ذكره القفال وهو أن المعنى قل لهم هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على بيان أحوال من معي من المخالفين والموافقين وعلى بيان أحوال من قبلي من المخالفين والموافقين فاختاروا لأنفسكم ، كأن الغرض منه التهديد.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قرىء : {هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } بالتنوين ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله : {أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا} (البلد : 14 ، 15) وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله : {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الارْضِ وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم : 2 ، 3) وقرىء : من معي ومن قبلي ، بكسر ميم من على ترك الإضافة في هذه القراءة وإدخال الجار على مع غريب والعذر فيه أنه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد فدخل من عليه كما يدخل على إخواته وقرىء : ذكر معي وذكر قبلي.
وأما قوله : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّا فَهُم مُّعْرِضُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد وطالبهم بالدلالة على ما ادعوه وبين أنه لا دليل لهم ألبتة عليه لا من جهة العقل ولا من جهة السمع ، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه ، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله وهو عدم العلم/ ثم ترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
/
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرىء : {الْحَقِّ } بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب ، والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
أما قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فاعلم أن يوحى ونوحى قراءتان مشهورتان ، وهذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد.
جزء : 22 رقم الصفحة : 134
136
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد فقال : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا} نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله وأضافوا إلى ذلك أنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } (الصافت : 158) ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله سبحانه لأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه ، ثم لا بد وأن يخالفه من وجه آخر وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله سبحانه وتعالى وكل مركب ممكن ، فاتخاذه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب. وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية ، ولذلك نزه نفسه عنه.
أما قوله : {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} فاعلم أنه سبحانه لما نزه نفسه عن الولد أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد وقرىء : {مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَه } من سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى أنهم يتبعونه في قوله ولا يقولون شيئاً حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله ، وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً كذلك مبني على أمره لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به.
(1/3131)
ثم إنه سبحانه ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات علموا كونه عالماً بظواهرهم هم وبواطنهم ، فكان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية. وذكر / المفسرون فيه وجوهاً. أحدها : قال ابن عباس : يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم. وثانيها : ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا وقيل على عكس ذلك. وثالثها : قال مقاتل : يعلم ما كان قبل أن يخلقهم وما يكون بعد خلقهم. وحقيقة المعنى أنهم يتقلبون تحت قدرته في ملكوته وهو محيط بهم ، وإذا كانت هذه حالتهم فكيف يستحقون العبادة وكيف يتقدمون بين يدي الله تعالى فيشفعون لمن لم يأذن الله تعالى له. ثم كشف عن هذا المعنى فقال : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } أي لمن هو عند الله مرضي : {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِه مُشْفِقُونَ} أي من خشيتهم منه ، فأضيف المصدر إلى المفعول ومشفقون خائفون ولا يأمنون مكره وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله تعالى" ونظيره قوله تعالى : {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ} (النساء : 38).
جزء : 22 رقم الصفحة : 136
أما قوله تعالى : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه فَذاَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء ، وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وههنا مسائل :
المسألة الأولى : هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه. أحدها : أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولاً ولا يعملون عملاً إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد. وثانيها : أنه سبحانه لما كان عالماً بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } (المائدة : 116). وثالثها : أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلهاً أو ولداً للإله لا يكون كذلك. ورابعها : أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد. وخامسها : نبه تعالى بقوله : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه فَذاَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة.
المسألة الثانية : احتجت المعتزلة بقوله تعالى : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم. والجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك : {إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } أي لمن قال لا إله إلا الله. واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه ، وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما.
المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أمور ثلاثة : أحدها : تدل على كون الملائكة مكلفين / من حيث قال : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِه مُشْفِقُونَ} ومن حيث الوعيد. وثانيها : تدل أيضاً على أن الملائكة معصومون لأنه قال : {وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} . وثالثها : قال القاضي عبد الجبار قوله : {كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة. والجواب : أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد.
جزء : 22 رقم الصفحة : 136
(1/3132)
142
اعلم أنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وهذه الدلائل أيضاً دالة على كونه منزهاً عن الشريك ، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم ، ووجود الإلهين يقتضي وقوع الفساد. فهذه الدلائل تدل من جهة على التوحيد فتكون كالتوكيد لما تقدم. وفيها أيضاً رد على عبدة الأوثان من حيث إن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات الشريفة كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع. فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها ، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا ستة أنواع من الدلائل :
النوع الأول : قوله : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَـاهُمَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ألم ير بغير الواو والباقون بالواو وإدخال الواو يدل على العطف لهذا القول على أمر تقدمه. قال صاحب "الكشاف" : قرىء رتقاً بفتح التاء ، وكلاهما في معنى / المفعول كالخلق والنفض أي كانتا مرتوقتين ، فإن قلت الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر فما بال الرتق ؟
قلت : هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئاً رتقاً.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : المراد من الرؤية في قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، إما الرؤية ، وإما العلم والأول مشكل ، أما أولاً فلأن القوم ما رأوهما كذلك البتة ، وأما ثانياً فلقوله سبحانه وتعالى : {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الكهف : 51) ، وأما العلم فمشكل لأن الأجسام ، قابلة للفتق والرتق في أنفسها ، فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا سبيل إليه إلا السمع ، والمناظرة مع الكفار الذين ينكرون الرسالة ، فكيف يجوز التمسك بمثل هذا الاستدلال. والجواب : المراد من الرؤية هو العلم وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه : أحدها : أنا نثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله : ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد. وثانياً : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل ، يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً. وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينها ، وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلّم فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.
جزء : 22 رقم الصفحة : 142
المسألة الثالثة : إنما قال كانتا رتقاً ولم يقل كن رتقاً لأن السموات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس ، قال الأخفش : السموات نوع والأرض نوع ، ومثله : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا } ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين/ ومرت بنا غنمان أسودان ، لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم.
المسألة الرابعة : الرتق في اللغة السد ، يقال : رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين. قال الزجاج : الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق ، قال المفضل : إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله : {وَمَا جَعَلْنَـاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (الأنبياء : 8) لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق.
(1/3133)
المسألة الخامسة : اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال : أحدها : وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أن المعنى كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية ، قال كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقهما بها. وثانيها : وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتفعة فجعلت سبع سموات / وكذلك الأرضون. وثالثها : وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر ، ونظيره قوله تعالى : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} (الطارق : 11 ، 12) ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا. فإن قيل : هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا ، قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع ، لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق وبرمة أعشار. واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار. ورابعها : قول أبي مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : {فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (
جزء : 22 رقم الصفحة : 142
الشورى : 11) وكقوله : {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ} (الأنبياء : 56) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق. أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض ، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة ، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه ، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض ، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود. وخامسها : أن الليل سابق على النهار ، لقوله تعالى : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس : 37) وكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر ، فإن قيل : فأي الأقاويل أليق بالظاهر ؟
قلنا : الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه ، والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً ، ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان ، والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة ، وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحاً ، ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني. وهو أن كل واحد منهما كان رتقاً ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعاً ، ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج ، ففتقهما لينزل المطر من السماء ، ويظهر النبات على الأرض.
المسألة السادسة : دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة ، لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك ، والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقاً لما فيه من المصلحة للملائكة ، ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقاً لما فيه من منافع العباد.
النوع الثاني من الدلائل : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّا أَفَلا يُؤْمِنُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" قوله : وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين ، فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله : {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } (النور : 45) أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله : {خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } (الأنبياء : 37) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه ومن هذا نحو من / في قوله عليه السلام : "ما أنا من دد ولا الدد مني" وقرىء حياً وهو المفعول الثاني.
جزء : 22 رقم الصفحة : 142
المسألة الثانية : لقائل أن يقول كيف قال : وخلقنا من الماء كل حيوان ، وقد قال : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر : 27) وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام : {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِى } (المائدة : 110) وقال في حق آدم : {خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) والجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام ، لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك.
(1/3134)
المسألة الثالثة : اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله : {كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } الحيوان فقط ، وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار نامياً وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر ، وهذا القول أليق بالمعنى المقصود ، كأنه تعالى قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً ، حجة القول الأول أن النبات لا يسمى حياً ، قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله تعالى : {كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } (الروم : 50) أما قوله تعالى : {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} فالمراد أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره ويتركوا طريقة الشرك.
النوع الثالث : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن تميد بهم كراهة أن تميد بهم أو لئلا تميد بهم فحذف لا واللام الأولى وإنما جاز حذف لا لعدم الالتباس كما ترى ذلك في قوله : {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَـابِ} .
المسألة الثانية : الرواسي الجبال ، والراسي هو الداخل في الأرض.
المسألة الثالثة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الأرض بسطت على الماء فكانت تنكفىء بأهلها كما تنكفىء السفينة ، لأنها بسطت على الماء فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال.
النوع الرابع : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وفيه مسائل :
جزء : 22 رقم الصفحة : 142
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الفج الطريق الواسع ، فإن قلت في الفجاج معنى الوصف فمالها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى : {لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} قلت لم تقدم وهي صفة ، ولكنها جعلت حالاً كقوله :
لعزة موحشاً طلل قديم
والفرق من جهة المعنى أن قوله سبلاً فجاجاً ، إعلام بأنه سبحانه جعل فيها طرقاً واسعة ، وأما قوله : {فِجَاجًا سُبُلا} فهو إعلام بأنه سبحانه حين خلقها جعلها على تلك الصفة ، فهذه الآية بيان لما أبهم في الآية الأولى.
المسألة الثانية : في قوله {فِيهَآ} قولان : أحدهما أنها عائدة إلى الجبال ، أي وجعلنا في الجبال التي هي رواسي فجاجاً سبلاً ، أي طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً. الثاني : / أنها عائدة إلى الأرض ، أي وجعلنا في الأرض فجاجاً وهي المسالك والطرق وهو قول الكلبي.
المسألة الثالثة : قوله : {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} معناه لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله تعالى.
المسألة الرابعة : في يهتدون قولان : الأول : ليهتدوا إلى البلاد. والثاني : ليهتدوا إلى وحدانية الله تعالى بالاستدلال ، قالت المعتزلة وهذا التأويل يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء. والكلام عليه قد تقدم ، وفيه قول ثالث وهو أن الإهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في مفهوم واحد وهو أصل الاهتداء فيحمل اللفظ على ذلك المشترك وحينئذ تكون الآية متناولة للأمرين ولا يلزم منه كون اللفظ المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً.
النوع الخامس : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَـاتِهَا مُعْرِضُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : سمى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت.
المسألة الثانية : في المحفوظ قولان : أحدهما : أن محفوظ من الوقوع والسقوط الذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله : {وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الارْضِ إِلا بِإِذْنِه } (الحج : 65) وقال : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالارْضُ بِأَمْرِه } (الروم : 25) وقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا } (فاطر : 41) وقال : {وَلا يَاُودُه حِفْظُهُمَا } (البقرة : 255). الثاني : محفوظاً من الشياطين قال تعالى : {وَحَفِظْنَـاهَا مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ} (الحجر : 17) ثم ههنا قولان : أحدهما : أنه محفوظ بالملائكة من الشياطين. والثاني : أنه محفوظ بالنجوم من الشياطين ، والقول الأول أقوى لأن حمل الآيات عليه مما يزيد هذه النعمة عظماً لأنه سبحانه كالمتكفل بحفظه وسقوطه على المكلفين بخلاف القول الثاني لأنه لا يخاف على السماء من استراق سمع الجن.
جزء : 22 رقم الصفحة : 142
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَهُمْ عَنْ ءَايَـاتِهَا مُعْرِضُونَ} معناه عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر في حركاتها وكيفية حركاتها وجهات حركاتها ومطالعها ومغاربها واتصالات بعضها ببعض وانفصالاتها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة.
(1/3135)
المسألة الرابعة : قرىء عن آيتها على التوحيد والمراد الجنس أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمرها والاهتداء بكواكبها ، وحياة الأرض بأمطارها وهم عن كونها آية بينة على وجود الخالق ووحدانيته معرضون.
النوع السادس : قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَا كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وفيه مسائل :
(1/3136)
المسألة الأولى : اعلم أنه سبحانه لما قال : {وَهُمْ عَنْ ءَايَـاتِهَا مُعْرِضُونَ} فصل تلك الآيات ههنا لأنه تعالى لو خلق السماء والأرض ولم يخلق الشمس والقمر ليظهر بهما الليل والنهار ويظهر بهما من المنافع بتعاقب الحر والبرد لم تتكامل نعم الله تعالى على عباده بل إنما يكون / ذلك بسبب حركاتها في أفلاكها ، فلهذا قال : {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وتقريره أن نقول قد ثبت بالأرصاد أن للكواكب حركات مختلفة فمنها حركة تشملها بأسرها آخذة من المشرق إلى المغرب وهي حركة الشمس اليومية/ ثم قال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة ، وههنا حركة أخرى من المغرب إلى المشرق قالوا وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة ، واستدلوا عليها بأنا وجدنا الكواكب السيارة كلما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة فإنه بعد ذلك يتقدمه نحو المشرق وهذا في القمر ظاهر جداً فإنه يظهر بعد الإجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها على قريب من نصف الشهر وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقته في ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي وتنكسف تلك الكواكب عنه بطرفه الغربي فعرفنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق ، وكذلك وجدنا للكواكب الثابتة حركة بطيئة على توالي البروج فعرفنا أن لها حركة من المغرب إلى المشرق. هذا ما قالوه ونحن خالفناهم فيه ، وقلنا : إن ذلك محال لأن الشمس مثلاً لو كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة ولا شك أنها متحركة بسبب الحركة اليومية من المغرب إلى المشرق لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة احدة وذلك محال لأن الحركة إلى الجهة تقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : الشمس حال حركتها إلى الجانب الشرقي تنقطع حركتها إلى الجانب الغربي وبالعكس ، وأيضاً فما ذكرتموه ينتقض بحركة الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها تتحرك إلى خلاف ذلك الجانب ، قلنا : أما الأول فلا يستقيم عل أصولكم لأن حركات الأفلاك مصونة عن الانقطاع عندكم ، وأما الثاني فهو مثال محتمل وما ذكرناه برهان قاطع فلا يتعارضان ، أما الذي احتجوا به على أن للكواكب حركة من المغرب إلى المشرق فهو ضعيف ، فإنه يقال لم لا يجوز أن يقال إن جميع الكواكب متحركة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض فيتخلف بعضها عن بعض بسبب ذلك التخلف فيظن أنها تتحرك إلى خلاف تلك الجهة مثلاً الفلك الأعظم استدارته من أول اليوم الأول إلى أول اليوم الثاني دورة تامة وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إلى أول اليوم الثاني دورة تامة إلا مقدار ثانية فيظن أن فلك الثوابت تحرك من الجهة الأخرى مقدار ثانية ولا يكون كذلك بل ذلك لأنه تخلف بمقدار ثانية ، وعلى هذا التقدير فجميع الجهات شرقية وأسرعها الحركة اليومية ، ثم يليها في السرعة فلك الثوابت ثم يليها زحل وهكذا إلى أن ينتهي إلى فلك القمر فهو أبطأ الأفلاك حركة وهذا الذي قلناه مع ما يشهد له البرهان المذكور فهو أقرب إلى ترتيب الوجود ، فإن على هذا التقدير تكون نهاية الحركة الفلك المحيط وهو الفلك الأعظم / ونهاية السكون الجرم الذي هو في غاية البعد وهو الأرض ، ثم إن كل ما كان أقرب إلى الفلك المحيط كان أسرع حركة وما كان منه أبعد كان أبطأ فهذا ما نقوله في حركات الأفلاك في أطوالها وأما حركاتها في عروضها فظاهرة وذلك بسبب اختلاف ميولها إلى الشمال والجنوب. إذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة ، فكان سائر الجوانب تخلو عن المنافع الحاصلة منه ، وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة ، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات فأحالتها كلها إلى النارية ، وبالجملة فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط المتوسط بينهما على كيفية أخرى فيكون في موضع شتاء دائم ويكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم تكن عودات متتالية/ وكان الكوكب يتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة والتأثير شديد الإفراط ، وكان يعرض قريباً مما لو لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت ، وأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم ينتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة ويبقى في كل جهة برهة تم بذلك تأثيره بحيث يبقى مصوناً عن طرفي الإفراط والتفريط. وبالجملة ، فالعقول لا تقف إلا على القليل من أسرار المخلوقات فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية.
جزء : 22 رقم الصفحة : 142
(1/3137)