الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
المسألة الثامنة : قوله : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } يدل على أن لله أمراً ونهياً على عباده ، وأن له تكليفاً على عباده ، والخلاف مع نفاة التكليف. واحتجوا عليه بوجوه : أولها : أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع. فكان الأمر به أمراً بتحصيل الحاصل وأنه محال ، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع ، فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال ، وثانيها : أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله ، كان واجب الوقوع ، فلا فائدة في الأمر ، وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الأمر به. وثالثها : أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض ، لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع ، امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة ، إلا إذا / صار علم الله جهلاً ، والعبد لا قدرة له على تجهيل الله ، وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم. فوجب أن يقال : لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلاً ، وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب/ فيكون هذا الأمر والتكليف إضراراً محضاً من غير فائدة ألبتة ، وهو لا يليق بالرحيم الحكيم ، ورابعها : أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث ، وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس باله ، وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد. فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع ، ودفع الضرر ، والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف ، فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً من غير فائدة ، وأنه لا يجوز.
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده ، وأن يكلفهم بما شاء. واحتج عليه بقوله : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد ، وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم ، وإذا كان مالكاً لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم ، لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه ، وذلك مستحسن ، فقوله سبحانه : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء.
المسألة التاسعة : دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً ، ولا كما يقولونه أيضاً من حيث العوض والثواب ، لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولاً ، ثم ذكر الأمر بعده ، وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقاً لهم موجداً لهم ، وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف ، هذا القدر سقط اعتبار الحسن ، والقبح ، والثواب ، والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف.
جزء : 14 رقم الصفحة : 278
المسألة العاشرة : دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر ، وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل ، إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت ، والدليل عليه قوله تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } فدل ذلك على أن له الأمر ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي ، والخبر ، والاستخبار ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
المسألة الحادية عشرة : أنه تعالى بين كونه تعالى خالقاً للسموات ، والأرض ، والشمس ، والقمر ، والنجوم.
ثم قال : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } أي لا خالق إلا هو.
ولقائل أن يقول : لا يلزم من كونه تعالى خالقاً لهذه الأشياء أن يقال : لا خالق على الإطلاق إلا هو ، فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق ؟
/ فنقول : الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقاً لبعض الأشياء ، وجب كونه خالقاً لكل الممكنات ، وتقريره : أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه ، والإمكان واحد في كل الممكنات ، وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين ، أو إلى مؤثر غير متعين. والثاني باطل ، لأن كل ما كان موجوداً في الخارج ، فهو متعين في نفسه ، فيلزم منه أن ما لا يكون متعيناً في نفسه لم يكن موجوداً في الخارج. وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج ، فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين ، فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجاً إلى ذلك المعين. فثبت أن الذي يكون مأثراً في وجود شيء واحد ، هو المؤثر في وجود كل الممكنات.
أما قوله تعالى : {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقاً للسموات ، والأرض ، والعرش ، والليل ، والنهار ، والشمس ، والقمر ، والنجوم وبين كون الكل مسخراً في قدرته وقهره ومشيئته ، وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف ، بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه ، فقال : {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} وقد تقدم تفسير {تَبَـارَكَ} فلا نعيده.
(1/1993)
واعلم أنه تعالى بدأ في أول الآية : رب السموات والأرضين/ وسائر الأشياء المذكورة ، ثم ختم الآية بقوله : {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} والعالم كل موجود سوى الله تعالى ، فبين كونه رباً وإلهاً وموجوداً ومحدثاً لكل ما سواه ، ومع كونه كذلك فهو رب ومرب ومحسن ومتفضل ، وهذا آخر الكلام في شرح هذه الآية.
جزء : 14 رقم الصفحة : 278
286
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة ، وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية ، والعلوم الحقيقية ، أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع ، فإن الدعاء مخ العبادة ، فقال : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ} فيه قولان : قال بعضهم : {اعْبُدُوا } وقال آخرون : هو الدعاء ، ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من الله تعالى ، وهذه صفة العبادة ، لأنه يفعل تقرباً ، وطلباً للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله : {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } (الأعراف : 56) والمعطوف ينبغي أن يكون مغايراً للمعطوف عليه. والقول الثاني هو الأظهر ، لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الدعاء ، فمنهم من أنكره. واحتج على صحة قوله بأشياء : الأول : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم الله تعالى ، وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة ، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضاً في طلبه. الثاني : أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب ، فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل ، وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب ، وإن قلنا أنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنه عند ذلك الدعاء ، صار مريداً له لزم وقوع التغير في ذات الله وفي صفاته ، وهو محال. لأن على هذا التقدير : يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات الله تعالى ، فيكون العبد متصرفاً في صفة الله بالتبديل والتغيير ، وهو محال. والثالث : أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء لأنه منزه عن أن يكون بخيلاً وأن اقتضت الحكمة منعه ، فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه. والرابع : أن الدعاء غير الأمر ، ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة ، وكون الآمر أعلى رتبة وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب ، وإنه لا يجوز. الخامس : الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب ، وذلك سوء أدب أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبهاً له ، وذلك كفر وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل ، وذلك جهل. السادس : إن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرف نفسه ، ولما طلب من الله شيئاً على التعيين وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات. السابع : كثيراً ما يظن العبد بشيء كونه نافعاً وخيراً ، ثم أنه عند دخوله في الوجود يصير سبباً للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة ، وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من الله غير جائز ، بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير ، وذلك حاصل من الله تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه. فلم يبق في الدعاء فائدة. الثامن : أن الدعاء عبارة عن / توجه القلب إلى طلب شيء من الله تعالى ، وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة الله تعالى ، وفي محبته/ وفي عبوديته ، وهذه مقامات عالية شريفة ، وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموماً. التاسع : روي أنه عليه الصلاة والسلام. قال حاكياً عن الله سبحانه : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء. العاشر : إن علم الحق محيط بحاجة العبد ، والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه ، فسكت ولم يذكر تلك الحاجة كان ذلك أدخل في الأدب ، وفي تعظيم المولى مما إذا أخذ يشرح كيفية تلك الحالة ، ويطلب ما يدفع تلك الحاجة ، وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد ، وجب اعتبار مثله في حق الله سبحانه ، ولذلك يقال أن الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار. قال جبريل عليه السلام ادع ربك. فقال الخليل عليه السلام : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
(1/1994)
واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات ، فإنه يقال أن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات ، وإن كان شقياً في علمه فلا فائدة في تلك العبادات ، وأيضاً يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه أن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جائعاً فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أن هذا الكلام باطل ههنا ، فكذا فيما ذكروه ، بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية ، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة ، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة ، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية ، فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. وقوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع ، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه ، فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال : "ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة" ثم قرأ : {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر : 60) في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186) والله أعلم.
المسألة الثانية : في تقرير شرائط الدعاء.
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهداً لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهداً لكون مولاه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة ، فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص ، فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص ، وهو المراد من قوله تعالى : {وَخُفْيَةً } والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الأخلاص عن شوائب الرياء ، وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه : {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء/ وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه ، وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط ، فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
المسألة الثالثة : "التضرع" التذلل والتخشع ، وهو إظهار ذل النفس من قولهم : ضرع فلان لفلان ، وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال "والخفية" ضد العلانية. يقال : أخفيت الشيء إذا سترته ، ويقال : أيضاً بالكسر ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه بكسر الخاء ههنا وفي الأنعام ، والباقون بالضم ، وهما لغتان :
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء ، ويدل على وجوه : الأول : هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقروناً باللإخفاء ، وظاهر الأمر للوجوب ، فإن لم يحصل الوجوب ، فلا أقل من كونه ندباً.
ثم قال تعالى بعده : {وَخُفْيَةًا إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين ، وهما التضرع والإخفاء ، فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب ، فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء ، فإن الله لا يثيبه ألبتة ، ولا يحسن إليه ، ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة ، فظهر أن قوله تعالى : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
الحجة الثانية : أنه تعالى أثنى على زكريا فقال : {إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} (مريم : 3) أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطه به إليه.
/ الحجة الثالثة : ما روى أبو موسى الأشعري ، أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام : "ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وإنه لمعكم".
(1/1995)
الحجة الرابعة : قوله عليه السلام : "دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية" وعنه عليه السلام : "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي" وعن الحسن أنه كان يقول : إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره ، يفقه الكثير وما يشعر به الناس ، ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواماً كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همساً ، لأن الله تعالى قال : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وذكر الله عبده زكريا فقال : {إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} .
الحجة الخامسة : المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة ، فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة ألبتة. فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصوناً عن الرياء وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها ، وهي : أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها ؟
فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صوناً لها عن الرياء وقال أخرون : الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات. وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صوناً لعمله عن البطلان ، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمه الله ، إخفاء التأمين أفضل. وقال الشافعي رحمه الله ، إعلانه أفضل ، واحتج أبو حنيفة على صحة قوله ، قال : في قوله : "آمين" وجهان : أحدهما : أنه دعاء. والثاني : أنه من أسماء الله ، فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف : 205) فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول :
أما قوله تعالى : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى ، لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة. واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء ، لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق ، واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال :
/ فالقول الأول : أنها عبارة عن أيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد.
والقول الثاني : أنها عبارة عن كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب والخير إلى العبد. وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي : أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا ؟
قال الكعبي وأبو الحسين : إنه تعالى غير موصوف بالإرادة ألبتة ، فكونه تعالى مريداً لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها ، وكونه تعالى مريداً لأفعال غيره كونه آمراً بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفاً بصفة الإرادة. وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفاً بصفة المريدية.
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه.
والقول الثالث : أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب إليه ، وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها. أقصى ما في الباب أن يقال : إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال ، إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى ، سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد ؟
أقصى ما في الباب ، أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي ؟
إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئياً ، ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان ، بل هي رؤية بلا كيف ، فلم لا يقولون ههنا أيضاً أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف ؟
فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع. بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها ، لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
المسألة الثانية : قوله : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين ما أمروا به. قال الكلبي وابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء.
(1/1996)
المسألة الثالثة : اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه ، فقد اعتدى وتعدى. فيدخل تحت قوله : {إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقد بينا أن من لا يحبه الله فإنه يعذبه ، فظاهر هذه الآية يقتضي أن كل من خالف أمر الله ونهيه ، فإنه يكون معاقباً ، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية على القطع بوعيد / الفساق ، وقالوا لا يجوز أن يقال المراد منه الاعتداء في رفع الصوت بالدعاء وبيانه من وجهين : الأول : أن لفظ {الْمُعْتَدِينَ} لفظ عام دخله الألف واللام ، فيفيد الاستغراق غايته أنه إنما ورد في هذه الصورة لكنه ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الثاني : أن رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه/ وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد.
والجواب المستقصى ما ذكرناه في سورة البقرة أن التمسك بهذه العمومات لا يفيد القطع بالوعيد.
ثم قال تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} معناه ولا تفسدوا شيئاً في الأرض ، فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء ، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف ، وإفساد العقول بسبب شرب المكسرات ، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة : النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول. فقوله : {وَلا تُفْسِدُوا } منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود ، والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه ، فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة ، وأما قوله : {بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا } فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين ، ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال : لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها ، ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع ، فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض ، فيحصل الإفساد بعد الإصلاح ، وذلك مستكره في بداهة العقول.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق.
إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصاً خاصاً دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص.
واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ } (الأعراف : 32) أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ، ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى ، فكذلك في هذه الآية أنها تدل / على أن الأصل في المضار والآلام ، الحرمة.
وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلاً تحت عموم هذه الآية ، وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية ، فتلك الآية دالة على أن الأصل في المنافع الحل ، وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة ، وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها ، وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات ، وأيضاً هذه الآية دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين ، فإنه انعقد وصح وثبت ، لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح ، والنص دل على أنه لا يجوز.
إذا ثبت هذا فنقول : أن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (المائدة : 1) وبعموم قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف : 2 ، 3) وتحت قوله : {وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون : 8 المعارج : 32) وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود.
إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصاً دالاً على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح ، قضينا فيه بالبطلان تقديماً للخاص على العام/ وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات. وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها.
ثم قال تعالى : {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } وفيه سؤالات :
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
(1/1997)
السؤال الأول : قال في أول الآية : {ادْعُوا رَبَّكُمْ} ثم قال : {وَلا تُفْسِدُوا } ثم قال : {وَادْعُوهُ} وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل.
والجواب : أن الذين قالوا في تفسير قوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} أي اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفاً من هذا الإشكال.
فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال ، وإن قلنا المراد من قوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} هو الدعاء كان الجواب أن قوله : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقروناً بالتضرع وبالإخفاء ، ثم بين في قوله {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين ، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء ، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته.
السؤال الثاني : أن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع / في الثواب لم تصح عبادته ، وذلك لأن المتكلمين فريقان : منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الألهية والعبودية ، فكونه إلهاً لنا وكوننا عبيداً له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ، فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً ، وهذا قول أهل السنة. ومنهم من قال : التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح ؛ وهذا هو قول المعتزلة.
إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول : فوجه وجوب بعض الأعمال ، وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه. ونهيه عما حرمه ، فمن أتى بهذه العبادات صحت. أما من أتى بها خوفاً من العقاب ، أو طمعاً في الثواب ، وجب أن لا يصح ، لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها ، وأما على القول الثاني : فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح ، فمن أتى بها للخوف من العقاب ، أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها ، فوجب أن لا تصح ، فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب ، والطمع في الثواب ، وجب أن لا يصح.
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض ، وقد ثبت بالدليل فساده ، فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
والجواب : ليس المراد من الآية ما ظننتم ، بل المراد : وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير ، في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ، ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها ، وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل ؟
السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن تحصل في قلبه هذا الخوف والطمع ؟
والجواب : أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتياً بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء ، ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف ، وأيضاً لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة ، فوجب كونه طامعاً في قبولها فلا جرم.
قلنا : بأن الداعي لا يكون داعياً إلا إذا كان كذلك فقوله : {خَوْفًا وَطَمَعًا } أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ، ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم. ويتأكد هذا بقوله : {يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون : 60) .
ثم قال تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة / إيصال الخير والنعمة ، فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال/ وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات ، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة : 1 النمل : 30).
المسألة الثانية : قال بعض أصحابنا : ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة. واحتجوا بهذه الآية ، وبيانه : أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين ، فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريباً من المحسنين ، أن لا يكون رحمة ، والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين ، فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين ، فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين ، فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين ، والعفو عن العذاب رحمة ، والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة ، فوجب أن لا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين ، والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين ، فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب ، وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار.
(1/1998)
الجواب : أن من آمن بالله وأقر بالتوحيد والنبوة ، فقد أحسن بدليل أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة ، وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد أجمعت الأمة على أنه دخل تحت قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } (يونس : 26) ومعلوم أن هذا الشخص لم يأت بشيء من الطاعات سوى المعرفة والإقرار ، لأنه لما بلغ بعد الصبح لم تجب عليه صلاة الصبح ، ولما مات قبل الظهر لم تجب عليه صلاة الظهر ، وظاهره أن سائر العبادات لم تجب عليه. فثبت أنه محسن ، وثبت أنه لم يصدر منه إلا المعرفة والإقرار ، فوجب كون هذا القدر إحساناً ، فيكون فاعله محسناً.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
إذا ثبت هذا فنقول : كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين ، ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين ، فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله ، وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم.
فإن قالوا : المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان. فنقول : هذا باطل ، لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسناً أن يكون آتياً بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم. فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال : إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث ؟
وذكروا في الجواب عنه وجوهاً : الأول : أن الرحمة تأنيثها / ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. الثاني : قال الزجاج : إنما قال : {قَرِيبٌ} لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر. الثالث : قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله : {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ} (البقرة : 275) فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ ، فلذلك ذكره قال الشاعر :
إن السماحة والمروءة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
قيل : أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم. والرابع : أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا : حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر. قال الواحدي : أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال : تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني ، لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضاً قريبة وبعيدة تنبيهاً على معنى قربت وبعدت بنفسها.
المسألة الخامسة : تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قرباً من الآخرة ، وبعداً من الدنيا ، فإن الدنيا كالماضي ، والآخرة كالمستقبل ، والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعداً عن الماضي ، وقرباً من المستقبل. ولذلك قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعداً في كل ساعة ، وأن الآخرة تزداد قرباً في كل ساعة ، وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت ، لا جرم ذكر الله تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} بناء على هذا التأويل.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
إذا ثبت هذا فنقول : كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين ، ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين ، فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله ، وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم.
فإن قالوا : المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان. فنقول : هذا باطل ، لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسناً أن يكون آتياً بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم. فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال : إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث ؟
وذكروا في الجواب عنه وجوهاً : الأول : أن الرحمة تأنيثها / ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. الثاني : قال الزجاج : إنما قال : {قَرِيبٌ} لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر. الثالث : قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله : {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ} (البقرة : 275) فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ ، فلذلك ذكره قال الشاعر :
إن السماحة والمروءة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح
(1/1999)
قيل : أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم. والرابع : أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا : حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر. قال الواحدي : أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال : تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني ، لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضاً قريبة وبعيدة تنبيهاً على معنى قربت وبعدت بنفسها.
المسألة الخامسة : تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قرباً من الآخرة ، وبعداً من الدنيا ، فإن الدنيا كالماضي ، والآخرة كالمستقبل ، والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعداً عن الماضي ، وقرباً من المستقبل. ولذلك قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعداً في كل ساعة ، وأن الآخرة تزداد قرباً في كل ساعة ، وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت ، لا جرم ذكر الله تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} بناء على هذا التأويل.
جزء : 14 رقم الصفحة : 286
293
/ اعلم أن في كيفية النظم وجهين : الأول : أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية. وكمال العلم ، والقدرة من العالم العلوي ، وهو السموات والشمس والقمر والنجوم ، أتبعه بذكر الدلائل من بعض أحوال العالم السفلي. واعلم أن أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة : الآثار العلوية ، والمعادن ، والنبات ، والحيوان ، ومن جملة الآثار العلوية الرياح ، والسحاب ، والأمطار ويترتب على نزول الأمطار أحوال النبات ، وذلك هو المذكور في هذه الآية.
الوجه الثاني : في تقرير النظم أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم ، أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {الرِّيحَ} على لفظ الواحد والباقون {الرِّيَـاحِ} على لفظ الجمع ، فمن قرأ {الرِّيَـاحِ} بالجمع حسن وصفها بقوله : {بَشَرًا} فإنه وصف الجمع بالجمع ، ومن قرأ {الرِّيحَ} واحدة قرأ {بَشَرًا} جمعاً لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير وكقوله : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 2) ثم قال : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } (العصر : 3 التين : 6) فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع وأما قوله : {نَشْرًا} (المرسلات : 3) ففيه قراآت : إحداها : قراءة الأكثرين {نَشْرًا} بضم النون والشين ، وهو جمع نشور مثل رسل ورسول ، والنشور بمعنى المنشر كالركوب بمعنى المركوب ، فكان المعنى رياح منشرة أي مفرقة من كل جانب والنشر التفريق ، ومنه نشر الثوب ، ونشر الخشبة بالمنشار. وقال الفراء : النشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب واحدها نشور وأصله من النشر ، وهو الرائحة الطيبة ومنه قول امرىء القيس ونشر العطر.
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
والقراءة الثانية : قرأ ابن عامر {نَشْرًا} بضم النون وإسكان الشين ، فخف العين كما يقال كتب ورسل.
والقراءة الثالثة : قرأ حمزة {نَشْرًا} بفتح النون وإسكان الشين والنشر مصدر نشرت الثوب / ضد طويته ويراد بالمصدر ههنا المفعول. والرياح كأنها كانت مطوية ، فأرسلها الله تعالى منشورة بعد انطوائها ، فقوله : {نَشْرًا} مصدر هو حال من الرياح والتقدير : أرسل الرياح منشرات ، ويجوز أيضاً أن يكون النشر هنا بمعنى الحياة من قولهم أنشر الله الميت فنشر. قال الأعشى :
يا عجباً للميت الناشر
فإذا حملته على ذلك وهو الوجه. كان المصدر مراداً به الفاعل كما تقول : أتاني ركضاً أي راكضاً ، ويجوز أيضاً أن يقال : أن أرسل ونشر متقاربان ، فكأنه قيل : وهو الذي ينشر الرياح نشراً.
والقراءة الرابعة : حكى صاحب "الكشاف" عن مسروق {نَشْرًا} بمعنى منشورات. فعل بمعنى مفعول كنقض وحسب ومنه قولهم : ضم نشره.
والقراءة الخامسة : قراءة عاصم {بَشَرًا} بالباء المنقطة بالمنطقة الواحدة من تحت جمع بشيراً على بشر من قوله تعالى : {يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} أي تبشر بالمطر والرحمة/ وروى صاحب "الكشاف" {بَشَرًا} بضم الشين وتخفيفه و{بَشَرًا} بفتح الباء وسكون الشين مصدر من بشره بمعنى بشره أي باشرات وبشرى.
(1/2000)
المسألة الثانية : اعلم أن قوله : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} معطوف على قوله : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأعراف : 54) ثم نقول : حد الريح أنه هواء متحرك. فنقول : كون هذا الهواء متحركاً ليس لذاته ولا للوازم ذاته ، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته فلا بد وأن يكون لتحريك الفاعل المختار وهو الله جل جلاله. قالت الفلاسفة : ههنا سبب آخر وهو أنه يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنه تسخيناً قوياً شديداً فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد ، فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعر الفلك متحركاً على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء فيمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها ، فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرق في الجوانب ، وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح ، ثم كلما كانت تلك الأدخنة أكثر ، وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد حركة فكانت الرياح أقوى وأشد. هذا حاصل ما ذكروه ، وهو باطل ، ويدل على بطلانه وجوه : الأول : أن صعود الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها ، ولا شك أن ذلك التسخن عرض لأن الأرض باردة يابسة بالطبع ، فإذا كانت تلك الأجزاء الأرضية متصعدة جداً كانت سريعة الانفعال ، فإذا تصاعدت ، ووصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جداً ، وإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك ، فبطل ما ذكروه.
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
الوجه الثاني : هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت ، وجب أن تنزل على الاستقامة ، لأن الأرض جسم ثقيل ، والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك ، فإنها تتحرك يمنة ويسرة.
الوجه الثالث : وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة ، فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير ، ثم عاد ذلك الغبار ، ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها ، وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار.
والوجه الرابع : أنه لو كان الأمر على ما قالوه ، لكانت الرياح كلما كانت أشد ، وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر ، لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر ، مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل. ما قالوه ، وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح. قال المنجمون : إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها ، وذلك أيضاً بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة ، وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم ، وليس كذلك ، وأيضاً قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص ، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار. فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى. وثبت بالدليل العقلي صحة قوله وهو : {الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} .
المسألة الثالثة : قوله : {بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } (النمل : 63) فيه فائدتان : إحداهما : أن قوله : {نَشْرًا} أي منشرة متفرقة ، فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة ، وجزء آخر يذهب يسرة ، وكذا القول في سائر الأجزاء ، فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول : لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة/ فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار.
والفائدة الثانية : في الآية أن قوله : {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال : إن الفتن تحدث بين يدي الساعة ، يريدون قبيلها ، والسبب في حسن هذا المجاز ، أن يدي الإنسان متقدماته / فكل ما كان يتقدم شيئاً يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة. فلما كانت الرياح تتقدم المطر ، لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ.
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
فإن قيل : فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح. فنقول : ليس في الآية إن هذا التقدم حاصل في كل الأحوال ، فلم يتوجه السؤال ، وأيضاً فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها.
(1/2001)
ثم قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا} يقال : أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب "الكشاف" : واشتقاق الإقلال من القلة ، لأن من يرفع شيئاً فإنه يرى ما يرفعه قليلاً ، وقوله : {سَحَابًا ثِقَالا} أي بالماء جمع سحابة ، والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً ، فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد : إحداها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر. وثانيها : أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول ، فلا جرم يبقى متعلقاً في الهواء. وثالثها : أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها. ورابعها : أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ ، وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها. وخامسها : أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح ، وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف. وسادسها : أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان ، وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جداً. وسابعها : أن هذه الرياح تارة تكون شرقية ، وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية. وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها ، ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها. وثامنها : أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر ، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضاً عجيب ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما : الرياح ثمان : أربع منها : عذاب ، وهو القاصف ، والعاصف ، والصرصر ، والعقيم ، وأربعة منها رحمة : الناشرات ، والمبشرات ، والمرسلات ، والذاريات ، / وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور" والجنوب من ريح الجنة ، وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض ، وعن السدي : أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ، ورحمته هو المطر.
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
إذا عرفت هذا فنقول : اختلاف الرياح في الصفات المذكورة/ مع أن طبيعة الهواء واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة ، يدل على أن هذه الأحوال. لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى : {سُقْنَـاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة.
فإن قيل : السحاب إن كان مذكراً يجب أن يقول : حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً ، وإن كان مؤنثاً يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق ؟
والجواب : أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة. فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً ، نظراً إلى اللفظ ، وعلى سبيل التأنيث أيضاً جائزاً ، نظراً إلى كونه جمعاً ، أما "اللام" في قوله : {سُقْنَـاهُ لِبَلَدٍ} ففيه قولان : قال بعضهم هذه "اللام" بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين. وقال آخرون : هذه "اللام" بمعنى من أجل ، والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حياً يسقيه. وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر ، خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة. قال الأعشى :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى : {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ} اختلفوا في أن الضمير في قوله : {بِه } إلى ماذا يعود ؟
قال الزجاج وابن الأنباري : جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء ، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء ، لأن السحاب آلة لإنزال الماء.
(1/2002)
ثم قال : {فَأَخْرَجْنَا بِه مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } الكناية عائدة إلى الماء ، لأن إخراج الثمرات كان بالماء. قال الزجاج : وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات ، لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد ، وعلى القول الأول ، فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار غير متولدة من الماء ، بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب ، وقال جمهور الحكماء : لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية ، ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج / الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة. والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول ، بأن طبيعة الماء والتراب واحدة. ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس ، ولحمه وماؤه حار رطب ، وعجمه بارد يابس ، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب ، يدل على أنها إنما حدثت بأحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى } وفيه قولان : الأول : أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار ، فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة. وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطراً كالمني أربعين يوماً ، وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء. قال مجاهد : إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها.
والقول الثاني : أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتاً ، والمعنى : أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه ، فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر ، فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتاً ، لأن من يقدر على إحداث الجسم ، وخلق الرطوبة والطعم فيه ، فهو أيضاً يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت ، والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق.
واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطراً على صفة المني/ فقد أبعد ، ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منياً ابتداء ، فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء ؟
وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة ، فبعضها يكون بالمشرق ، وبعضها يكون بالمغرب ، فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد ؟
فإن قالوا : إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر ؟
وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء ، إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء ، إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز.
ثم قال تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والمعنى : أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار ، ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضاً قادراً على إحياء الأجساد بعد موتها ، فقوله : {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى.
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
ثم قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّه ا وَالَّذِى خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا } .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان :
القول الأول : وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة ، وشبه نزول القرآن بنزول المطر ، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار ، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل ، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة ، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل.
(1/2003)
والقول الثاني : أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر ، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة ، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات ، كان ذلك أولى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس ، وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة ، وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة ، فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية ، ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى : {وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى ا أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } (المائدة : 83) ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال : {فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } (البقرة : 74) ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب ، ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب ، وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول : من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون / الجاه ، ومنهم من يكون بالعكس ، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود ، ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار ، وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافاً جوهرياً ذاتياً لا يمكن إزالته ولا تبديله ، وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفساً مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جارياً مجرى تكليف ما لا يطاق. فثبت بهذا البيان : أن السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه ، وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها ، والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً قليل الفائدة والخير ، كثير الفضول والشر.
والوجه الثاني : من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى : {بِإِذْنِ رَبِّه } وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
المسألة الثالثة : قرىء {يَخْرُجُ نَبَاتُه } أي يخرجه البلد وينبته.
أما قوله تعالى : {وَالَّذِى خَبُثَ} قال الفراء : يقال : خبث الشيء يخبث خبثاً وخباثة. وقوله : {إِلا نَكِدًا } النكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الليث : النكد : الشؤم واللؤم وقلة العطاء ، ورجل أنكد ونكد قال :
وأعط ما أعطيته طيبا
لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَالَّذِى خَبُثَ} صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً ، فحذف المضاف الذي هو النبات ، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه ، إلا أنه كان مجروراً بارزاً فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل ، أو يقدر ونبات الذي خبث ، وقرىء {نَكِدًا } بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد.
ثم قال تعالى : {كَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} قرىء {يُصْرَفْ} أي يصرفها الله ، وإنما ختم هذه الآية بقوله : {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سبباً لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيدة ، فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ، ومن الوجه الثاني تنبيه على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد ، فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها ، / فلا جرم قال : {نُصَرِّفُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها ، فهو كقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} .
جزء : 14 رقم الصفحة : 293
297
(1/2004)
اعلم أنه تعالى لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة ، وبينات قاهرة ، وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ، وفيه فوائد : أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم محمد عليه الصلاة والسلام بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت. فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم على الجهل والعناد يفيد تسلية الرسول عليه السلام وتخفيف ذلك على قلبه. وثانيها : أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة ، وذلك يقوي قلوب المحقين ويكسر قلوب المبطلين. وثالثها : التنبيه على أنه تعالى وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ولكنه لا يهملهم بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه. ورابعها : بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، لأنه عليه السلام كان أمياً وما طالع كتاباً ولا تلمذ أستاذاً ، فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ ، دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله ، وذلك يدل على صحة نبوته.
/ ولقائل أن يقول : الأخبار عن الغيوب الماضية لا يدل على المعجز ، لاحتمال أن يقال إن إبليس شاهد هذه الوقائع فألقاها إليه ، أما الأخبار عن الغيوب المستقبلة فإنه معجز لأن علم الغيب ليس إلا لله سبحانه وتعالى.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصة آدم عليه السلام ، وقد سبق ذكرها.
والقصة الثانية : قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قوله : {لَقَدْ أَرْسَلْنَآ} جواب قسم محذوف.
جزء : 14 رقم الصفحة : 297
فإن قالوا : ما السبب في أنهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد ، وذكر هذه اللام بدون قد نادر كقوله :
حلفت لها بالله حلفة فاجر * لناموا
قلنا : إنما كان كذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها. فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى "قد" عند استماع المخاطب كلمة القسم.
المسألة الثانية : قرأ الكسائي {غَيْرُه ا } بكسر الراء على أنه نعت للإله على اللفظ والباقون بالرفع على أنه صفة للإله على الموضع. لأن تقدير الكلام ما لكم إله غيره ، وقال أبو علي : وجه من قرأ بالرفع قوله : {وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّه } (آل عمران : 62) فكما أن قوله : {إِلا اللَّهُ} بدل من قوله : {لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ} كذلك قوله : {غَيْرُه ا } يكون بدلاً من قوله : {مِنْ إِلَـاهٍ } فيكون {غَيْرِ} رفعاً بالاستثناء ، وقال صاحب الكشاف : قرىء {غَيْرِ} الحركات الثلاث ، وذكر وجه الرفع والجر كما تقدم ، قال وأما النصب فعلى الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زيداً وغير زيد.
المسألة الثالثة : قال الواحدي : في الكلام حذف ، وهو خبر {مَآ} لأنك إذا جعلت {غَيْرُه ا } صفة لقوله : {إِلَـاهٍ } لم يبق لهذا المنفي خبر ، والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف ، لأنك إذا قلت زيد العاقل وسكت ، لم يفد ما لم تذكر خبره. ويكون التقدير ما لكم من إله غيره في الوجود ، أقول : اتفق النحويون على أن قولنا لا إله إلا الله لا بد فيه من إضمار ، والتقدير : لا إله في الوجود أو لا إله لنا إلا الله ولم يذكروا على هذا الكلام حجة ، فإنا نقول لم لا يجوز أن يقال دخل حرف النفي على هذه الحقيقة ؟
وعلى هذه الماهية ، فيكون المعنى أنه لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حق الله ، وإذا حملنا الكلام على هذا المعنى استغنينا عن الإضمار الذي ذكروه.
فإن قالوا : صرف النفي إلى الماهية لا يمكن لأن الحقائق لا يمكن نفيها ، فلا يمكن أن يقال / لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهية ، وإنما الممكن أن يقال إن تلك الحقائق غير موجودة ولا حاصلة ، وحينئذ يجب إضمار الخبر.
جزء : 14 رقم الصفحة : 297
فنقول : هذا الكلام بناء على أن الماهية لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها ، ولك باطل قطعاً. إذ لو كان الأمر كذلك لوجب امتناع ارتفاع الوجود لأن الوجود أيضاً حقيقة من الحقائق وماهية فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيات ؟
فإن قالوا : إذا قلنا لا رجل ، وعنينا به نفي كونه موجوداً ، فهذا النفي لم ينصرف إلى ماهية الوجود ، وإنما انصرف إلى كون ماهية الرجل موصوفة بالوجود.
(1/2005)
فنقول : تلك الموصوفية يستحيل أن تكون أمراً زائداً على الماهية وعلى الوجود ، إذ لو كانت الموصوفية ماهية ، والوجود ماهية أخرى ، لكانت تلك الماهية موصوفة أيضاً بالوجود ، والكلام فيه كما فيما قبله ، فيلزم التسلسل ، ويلزم أن لا يكون الموجود الواحد موجوداً واحداً ، بل موجودات غير متناهية وهو محال. ثم نقول موصوفية الماهية بالوجود إما أن يكون أمراً مغايراً للماهية والوجود ، وإما أن لا يكون كذلك. فإن لم يكن أمراً مغايراً لها فحينئذ يكون لذلك المغاير ماهية ووجود ، وماهيته لا تقبل الارتفاع ، وحينئذ يعود السؤال المذكور. فثبت بما ذكرنا أن الماهية أن لم تقبل النفي والرفع ، امتنع صرف حرف النفي إلى شيء من المفهومات ، فإن كانت الماهية قابلة للنفي والرفع ، فحينئذ يمكن صرف كلمة "لا" في قولنا لا إله إلا الله إلى هذه الحقيقة ، وحينئذ لا يحتاج إلى التزام الحذف والإضمار الذي يذكره النحويون ، فهذا كلام عقلي صرف ، وقع في هذا البحث الذي ذكره النحويون.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَآ} فيه قولان : قال ابن عباس : بعثنا. وقال آخرون : معنى الإرسال أنه تعالى حمله رسالة يؤديها ، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث ، فيكون البعث كالتابع لا أنه الأصل ، وهذا البحث بناء على مسألة أصولية ، وهي أنه هل من شرط إرسال الرسول إلى قوم ، أن يعرفهم على لسانه أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم ، أوليس ذلك بشرط ؟
بل يكون الغرض من بعثة الرسل مجرد تأكيد ما في العقول ، وهذا الخلاف إنما يليق بتفاريع المعتزلة ، ولا يليق بتفاريع مذاهبنا وأصولنا.
المسألة الخامسة : في الآية فوائد :
الفائدة الأولى : إنه تعالى حكى عن نوح في هذه الآية ثلاثة أشياء : أحدها : إنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى. والثاني : إنه حكم أن لا إله غير الله ، والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف ، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد.
/ ثم قال عقيبه : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة ، وعلى هذا التقدير : فهو قد خوفهم بيوم القيامة ، وهذا هو الدعوى الثالثة ، أو عذاب يوم الطوفان ، وعلى هذا التقدير : فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله/ والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة ، ولم يذكر على صحة واحد منها دليلاً ولا حجة ، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد ، فهذا باطل ، لما أن القول بالتقليد باطل. وأيضاً فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد ، فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد ؟
وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل ، فهذا الدليل غير مذكور.
جزء : 14 رقم الصفحة : 297
واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة ، وصحة المعاد ، وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحداً من الأنبياء لا يدعو أحداً إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل. أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام ، فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب.
الفائدة الثانية : أنه عليه السلام ذكر أولاً قوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ} وثانياً قوله : {مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه } والثاني كالعلة للأول ، لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً من الله ، ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم ، فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله ، ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي : أنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك ؟
وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا. وحينئذ لا يحسن عبادته ، فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطاً للعلم بحسن العبادة.
الفائدة الثالثة : في هذه الآية أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه } إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام ، فكان المعنى أعبدوا الله ما لكم من معبود غيره ، حتى يتطابق النفي والإثبات ، ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود وإلا لوجب كون الأصنام آلهة ، وأن لا يكون الإله إلهاً في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود ، فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة.
(1/2006)
واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} هل هو اليقين ، أو الخوف بمعنى الظن والشك. قال قوم : المراد منه الجزم واليقين ، لأنه كان جازماً بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في / الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين. وقال آخرون : بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه : الأول : إنه إنما قال : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التجويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب ، فوجب أن يذكره بلفظ الخوف. والثاني : أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفاً مجوزاً أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا ؟
والثالث : يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة : {يَخَافُونَ رَبَّهُم} (النحل : 50) أي يحذرون المعاصي خوفاً من العقاب. الرابع : إنه بتقدير أن يكون قاطعاً بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب ، وهو أنه عظيم جداً أو متوسط ، فكان هذا الشك راجعاً إلى وصف العقاب ، وهو كونه عظيماً أم لا ، لا في أصل حصوله.
جزء : 14 رقم الصفحة : 297
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه ، فقال : {قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِه إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} وقال المفسرون : {الْمَلا} الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء ، والدليل عليه أن قوله {مِن قَوْمِهِ} يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه/ وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف ، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملؤن صدور المجالس ، وتمتلىء القلوب من هيبتهم ، وتمتلىء الأبصار من رؤيتهم ، وتتوجه العيون في المحافل إليهم ، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء ، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر. وقوله : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ} هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية. وقوله : {فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} أي في خطأ ظاهر وضلال بين ، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحاً عليه السلام ذكرها ، وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد ، ولما ذكروا هذا الكلام. أجاب نوح عليه السلام بقوله : {قَالَ يَـاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَـالَةٌ} .
فإن قالوا : إن القوم قالوا : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} .
فجوابه أن يقال : ليس بي ضلال ، فلم ترك هذا الكلام ، وقال : ليس بي ضلالة ؟
قلت : لأن قوله : {لَيْسَ بِى ضَلَـالَةٌ} أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة ، فكان هذا أبلغ في عموم السلب ، ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به ، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها ، وهو كونه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين. ذكر ما هو المقصود من الرسالة ، وهو أمران : الأول : تبليغ الرسالة. والثاني : تقرير النصيحة. فقال : {أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو {أُبَلِّغُكُمْ} بالتخفيف ، من أبلغ ، والباقون بالتشديد. قال الواحدي : وكلا الوجهين جاء في التنزيل ، فالتخفيف قوله : {فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم} (هود : 57) والتشديد {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه } (المائدة : 67).
جزء : 14 رقم الصفحة : 297
المسألة الثانية : الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه : أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه ، وأما النصيحة : فهو أنه يرغبه في الطاعة ، ويحذره عن المعصية ، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه ، وقوله : {رِسَـالَـاتِ رَبِّى} يدل على أنه تعالى حمله أنواعاً كثيرة من الرسالة. وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي ، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا ، وقوله : {وَأَنصَحُ لَكُمْ} قال الفراء : لا تكاد العرب تقول : نصحتك ، إنما تقول : نصحت لك ، ويجوز أيضاً نصحتك. قال النابغة :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه ، والمعنى : أني أبلغ إليكم تكاليف الله ، ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح ، وأدعوكم إلى ما دعاني ، وأحب إليكم ما أحبه لنفسي.
ثم قال : {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وفيه وجوه : الأول : واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان. الثاني : واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقاباً شديداً خارجاً عما تتصوره عقولكم. الثالث : يجوز أن يكون المراد : واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون. ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام : حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 297
299
(1/2007)
اعلم أن قوله : {عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا } يدل على أن مراد / القوم من قولهم لنوح عليه السلام : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال ، وذلك من وجوه : أحدها : أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه ، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من الإرسال هو التكليف. والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعالياً عن النفع والضرر ، ولا منفعة فيه للعابد ، لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة ، وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب ، فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف ، فيكون التكليف عبثاً ، والله متعال عن العبث ، وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة. وثانيها : أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا : ما علم حسنه بالعقل فعلناه ، وما علم قبحه تركناه ، وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه ، فإن كنا مضطرين إليه فعلناه ، لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به ، وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب ، ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر. وثالثها : أن بتقدير : أنه لا بد من الرسول ؛ فإن إرسال الملائكة أولى ، لأن مهابتهم أشد ، وطهاراتهم أكمل ، واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر ، وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم. ورابعها : أن بتقدير : أن يبعث رسولاً من البشر ، فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيراً ، ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة ، ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي ، فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان ، فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين ، فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ، ثم أن نوحاً عليه الصلام أزال تعجبهم وقال : إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة ، لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء ، وهو ينافي التكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا} (الأنعام : 9) فبقي أن يكون أيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان ، وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم ، ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله ، ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله ، فهذا هو المراد من قوله : {لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف : 63).
جزء : 14 رقم الصفحة : 299
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية.
أما قوله : فالهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ؟
أي عجبتم أن جاءكم ذكر. وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوهاً. قال الحسن : إنه الوحي الذي جاءهم به. وقال آخرون : المراد بهذا الذكر المعجز ، ثم ذلك المعجز يحتمل / وجهين : أحدهما : أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتاباً ، وكان ذلك الكتاب معجزاً ، فسماه الله تعالى ذكراً ، كما سمي القرآن بهذا الاسم ، وجعله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلّم. والثاني : أن ذلك المعجز كان شيئاً آخر سوى الكتاب. وقوله : {الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ} قال الفراء : {عَلَى } ههنا بمعنى مع ما تقول : جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه ، كلاهما جائز. وقال ابن قتيبة : أي على لسان رجل منكم ، كما قال {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} (آل عمران : 194) أي على لسان رسلك. وقال آخرون : {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} منزل على رجل ، وقوله : {مِّنكُمْ} أي تعرفون نسبه فهو منكم نسباً ، وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب ، لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف ، وبطهارة أحواله أعلم ، وبما يقتضي السكون إليه أبصر ، ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول ، فقال : {لِيُنذِرَكُمْ } وما لأجله ينذر ، فقال : {وَلِتَتَّقُوا } وما لأجله يتقون ، فقال : {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وهذا الترتيب في غاية الحسن ، فإن المقصود من البعثة الإنذار ، والمقصود من الإنذار. التقوى عن كل ما لا ينبغي ، والمقصود من التقوى ، الفوز بالرحمة في دار الآخرة. قال الجبائي والكعبي والقاضي : هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم ، التقوى والفوز بالرحمة ، وذلك يبطل قول من يقول : إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد ، وخلقهم لأجل العذاب والنار.
(1/2008)
وجواب أصحابنا أن نقول : إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وإن توقف لزم الجبر ، ومتى لزم ذلك وجب القطع ، فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر ، وذلك يبطل مذهبكم. ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب ، ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين. وبين العلة في ذلك فقال : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ يَوْمَـاـاِذٍ} (القصص : 66) وقال : {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُم فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا } (الأنعام : 104) قال زهير :
جزء : 14 رقم الصفحة : 299
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب "الكشاف" : قرىء {عَامَيْنِ} والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت. والعامي على عمي حادث ، ولا شك أن عماهم كان ثابتاً راسخاً ، والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى : {وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ} (هود : 36).
جزء : 14 رقم الصفحة : 299
302
اعلم أن هذا هو القصة الثانية ، وهي قصة هود مع قومه.
أما قوله : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } ففيه أبحاث :
البحث الأول : انتصب قوله : {أَخَاهُمْ} بقوله : {أَرْسَلْنَا} في أول الكلام والتقدير {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه } {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } .
البحث الثاني : اتفقوا على أن هوداً ما كان أخاً لهم في الدين. واختلفوا في أنه. هل كان أخا قرابة قريبة أم لا ؟
قال الكلبي : إنه كان واحداً من تلك القبيلة ، وقال آخرون : إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفي هذا القدر في تسمية هذه الأخوة ، والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحداً من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل. وما بعثنا إليهم شخصاً من غير جنسهم مثل ملك أو جني.
/ البحث الثالث : أخاهم : أي صاحبهم ورسولهم ، والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم ، ومنه قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } (الأعراف : 38) أي صاحبتها وشبيهتها. وقال عليه السلام : "إن أخا صداء قد أذن وإنما يقيم من أذن" يريد صاحبهم.
البحث الرابع : قالوا نسب هود هذا : هود بن شالخ ، بن أرفخشد ، بن سام. بن نوح. وأما عاد فهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف ، قال ابن إسحق : والأحقاف ، الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت.
جزء : 14 رقم الصفحة : 302
البحث الخامس : اعلم أن ألفاظ هذه القصة موافقة للألفاظ المذكورة في قصة نوح عليه السلام إلا في أشياء : الأول : في قصة نوح عليه السلام : {فَقَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (الأعراف : 59) وفي قصة هود : {قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعواهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة. وأما هود فما كانت مبالغته إلى هذا الحد فلا جرم جاء "فاء التعقيب" في كلام نوح دون كلام هود. والثاني : أن في قصة نوح {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف : 59) وقال في هذه القصة : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا أَفَلا تَتَّقُونَ} والفرق بين الصورتين أن قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم ، فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال : {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وأما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريباً ، فلا جرم اكتفى هود بقوله : {أَفَلا تَتَّقُونَ} والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله : {أَفَلا تَتَّقُونَ} إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
والفرق الثالث : قال تعالى في قصة نوح : {قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِه } وقال في قصة هود : {قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِه } والفرق أنه كان في أشراف قوم هود من آمن به ، منهم مرثد بن سعد ، أسلم وكان يكتم إيمانه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن.
(1/2009)
والفرق الرابع : أنه تعالى حكى عن قوم نوح أنهم قالوا : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} وحكى عن قوم هود أنهم قالوا : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} والفرق بين الصورتين أن نوحاً عليه السلام كان يخوف الكفار بالطوفان العام وكان أيضاً مشتغلاً بإعداد السفينة وكان يحتاج إلى أن يتعب نفسه في إعداد السفينة ، فعند هذا ، القوم قالوا : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ} (الأعراف : 60) ولم يظهر شيء من العلامات التي تدل على ظهور الماء في تلك المفازة. أما هود عليه السلام فما ذكر شيئاً / إلا أنه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل. فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا : {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم : المراد منه القطع والجزم ، وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير. قال تعالى : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) وقال الحسن والزجاج : كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين ، وهذا يدل على أن حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر.
جزء : 14 رقم الصفحة : 302
والفرق الخامس : بين القصتين أن نوحاً عليه السلام. قال : {أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف : 62) وأما هود عليه السلام فقال : {أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} فنوح عليه السلام. قال : {أَنصَحَ لَكُمْ} وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال : {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام. قال : {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهود عليه السلام لم يقل ذلك ، ولكنه زاد فيه كونه أميناً ، والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة ، وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن القوم كانوا يبالغون في السفاحة على نوح عليه السلام ، ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله ، وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال : {رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا} (نوح : 5) فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل ، فقال : {وَأَنصَحُ لَكُمْ} وأما هود عليه السلام فقوله : {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} يدل على كونه مثبتاً في تلك النصيحة مستقراً فيها. أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالاً فحالاً ويوماً فيوماً ، وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن نوحاً عليه السلام قال : {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهوداً وصف نفسه بكونه أميناً. فالفرق أن نوحاً عليه السلام كان أعلى شأناً وأعظم منصباً في النبوة من هود ، فلم يبعد أن يقال : إن نوحاً كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود ، فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة ، واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أميناً : ومقصود منه أمور : أحدها : الرد عليهم في قولهم : {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} وثانيها : أن مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة فوصف نفسه بكونه أميناً تقريراً للرسالة والنبوة. وثالثها : كأنه قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ، ما وجدتم مني غدراً ولا مكراً ولا كذباً ، واعترفتم لي بكوني أميناً فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب ؟
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 302
واعلم أن الأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمن يأمن أمنا فهو آمن وأمين بمعنى واحد.
واعلم أن القوم لما قالوا له : {إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي سَفَاهَةٍ} فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ولم يزد على قوله : {لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ} وذلك يدل على أن ترك الانتقام أولى كما قال : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72).
أما قوله : {وَلَـاكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح. وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يدل على أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز.
(1/2010)
والفرق السادس : بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال : {عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف : 63) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله : {وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة ، وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام : {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف : 69).
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع ، والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة ، وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام : الأول : أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح ، وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح. والثاني : قوله : {وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَاصْطَةً} وفيه مباحث :
البحث الأول : {الْخَلْقِ } في اللغة عبارة عن التقدير ، فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية ، فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ، ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة ، وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة ، فبعضها أعظم وبعضها أضعف.
جزء : 14 رقم الصفحة : 302
إذا عرفت هذا فنقول : لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة ، فليس في اللفظ ألبتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد ، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة. قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً ، وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ، ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر ، وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله : / {وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَاصْطَةً} كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة ، وكون بعضهم محباً للباقين ناصراً لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم ، فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها ، فصح أن يقال : {وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَاصْطَةً} ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال : {فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ} وفيه بحثان :
البحث الأول : لا بد في الآية من إضمار ، والتقدير : واذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بتلك الإنعامان لعلكم تفلحون. وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل ، واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا : إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر ، فوجب أن يكون مجرد التذكر كافياً في حصول الصلاح. وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل. والله أعلم.
البحث الثاني : قال ابن عباس : {اللَّهَ لَعَلَّكُمْ} أي نعم الله عليكم. قال الواحدي : واحد الآلاء إلى وألو وإلى. قال الأعشى :
ف أبيض لا يرهب الهزال ولا
يقطع رحماً ولا يخون إلي
قال نظير الآلاء الآناء ، واحدها : أنا وإني وإني ، وزاد صاحب "الكشاف" في الأمثلة فقال : ضلع وأضلاع ، وعنب وأعناب.
جزء : 14 رقم الصفحة : 302
304
(1/2011)
/ اعلم أن هوداً عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع ، وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة ، وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات ، والجماد لا قدرة له على شيء أصلاً ، وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم. ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام. وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله ، وأن لا يعبدوا شيئاً من الأصنام ، ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد ، هذه الحجة التي ذكرها. ثم أن هوداً عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد. فقالوا : {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَه وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ} ثم قالوا : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} وذلك لأنه عليه السلام قال : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا أَفَلا تَتَّقُونَ} (المؤمنون : 32) فقوله : {أَفَلا تَتَّقُونَ} مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد. فلهذا المعنى قالوا : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذباً بدليل أنهم قالوا له : {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ} (الأعراف : 66) فلما اعتقدوا كونه كاذباً قالوا له : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذباً ، وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر ، فلا جرم استعجلوه على هذا الحد.
جزء : 14 رقم الصفحة : 304
ثم حكى الله تعالى عن هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام : {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب ، لأن العذاب ما كان حاصلاً في ذلك الوقت. وقد اختلفوا فيه. قال القاضي : تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر ، إلا أنا نقول : معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت ، لأن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة. واعلم أن هذا القول عندنا باطل ، بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات : أحدها : أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول العذاب عليهم ، فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت ، لا جرم قال هود في ذلك الوقت : {وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } وثانيها : أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع. ونظيره قولك لمن طلب منك شيئاً ، قد كان ذلك بمعنى أنه سيكون ، ونظيره قوله تعالى : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ} (النحل : 1) بمعنى : سيأتي أمر الله. وثالثها : أنا نحمل قوله : {وَقَعَ} على معنى وجد وحصل ، والمعنى : إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد ، لأن قولنا : حصل لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن.
المسألة الثانية : الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب لأن المراد من الغضب / العذاب ، فلو حملنا الرجس عليه لزم التكرير/ وأيضاً الرجس ضد التزكية والتطهير. قال تعالى : {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة : 103) وقال في صفة أهل البيت : {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) والمراد التطهر من العقائد الباطلة والأفعال المذمومة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الرجس عبارة عن العقائد الباطلة والأفعال المذمومة.
إذا ثبت هذا فقوله : {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} يدل على أنه تعالى خصهم بالعقائد المذمومة والصفات القبيحة ، وذلك يدل على أن الخير والشر من الله تعالى ، قال القفال : يجوز أن يكون الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كقوله تعالى : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة : 125) أي قد وقع عليكم من الله رين على قلوبكم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وتماديكم في الغي.
جزء : 14 رقم الصفحة : 304
واعلم أنا قد دللنا على أن هذه الآية تدل على أن كفرهم من الله ، فهذا الذي قاله القفال أن كان المراد منه ذلك. فقد جاء بالوفاق. إلا أنه شديد النفرة عن هذا المذهب وأكثر تأويل الآيات الدالة على هذا المذهب تدل على أنه لا يقول بهذا القول وإن كان المراد منه الجواب عما شرحناه ، فهو ضعيف لأنه ليس فيه ما يوجب رفع الدليل الذي ذكرناه ، والله أعلم.
وحاصل الكلام في الآية : أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفراً ، وهو المراد من قوله : {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} ثم خصهم بمزيد الغضب ، وهو قوله : {وَغَضَبٌ } .
(1/2012)
ثم قال : {أَتُجَـادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } والمراد منه : الاستفهام على سبيل الإنكار ، وذلك لأنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة ، مع أن معنى الإلهية فيها معدوم ، وسموا واحداً منها بالعزى مشتقاً من العز ، والله ما أعطاه عزاً أصلاً ، وسموا آخر منها باللات ، وليس له من الإلهية شيء. وقوله : {مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة ، ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيداً مجددا فقال : {فَانتَظِرُوا } ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام {إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} .
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة فقال : {فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَه بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود ، والمراد أنه تعالى أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح ، وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع ، وقطع الدابر : هو الاستئصال ، فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحداً ، ودابر الشيء آخره.
/ فإن قيل : لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين ، فما الفائدة في قوله بعد ذلك : {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .
قلنا : معناه أنهم مكذبون ، وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً ، ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 304
306
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة ، وهو قصة صالح.
أما قوله : {وَإِلَى ثَمُودَ} فالمعنى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (الأعراف : 59) {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } (الأعراف : 65) {إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـالِحًا} (هود : 61) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثموداً لقلة مائها من الثمد ، وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام. وإلى وادي القرى ، وقيل سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوع عليه السلام.
المسألة الثانية : قرىء {وَإِلَى ثَمُودَ} يمنع التصرف بتأويل القبيلة {وَإِلَى ثَمُودَ} بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر ، وقد ورد القرآن بهما صريحاً. قال تعالى : {أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُم أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ} (هود : 68).
/ واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء.
ثم قال : {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة ، وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة ، لأن التقليد وحده لو كان كافياً لكانت تلك البينة ههنا لغواً ، ثم بين أن تلك البينة هي الناقة فقال : {هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } وفيه مسائل :
جزء : 14 رقم الصفحة : 306
المسألة الأولى : ذكروا أنه تعالى لما أهلك عاداً قام ثمود مقامهم ، وطال عمرهم وكثر تنعمهم ، ثم عصوا الله ، وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحاً وكان منهم ، فطالبوه بالمعجزة. فقال : ما تريدون. فقالوا : تخرج معنا في عيدنا ، ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا ، فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك ، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا ، فخرج معهم فسألون أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة ، فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا ، فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل ، ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها ، وكانت في غاية الكبر وكان الماء عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها في يوم ، وفي اليوم الثاني شرباً لكل القوم قال السدي : وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ثم تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكل ، وكأنها كانت تصب اللبن صباً ، وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم وكان معها فصيل لها. فقال لهم صالح : يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه ، فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم ، ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه ، فنبت نباتاً سريعاً ، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب ، فأرادوا ماء يمزجونه به ، وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء ، واشتد ذلك عليهم ، فقال الغلام : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة ؟
فشد عليها ، فلما بصرت به شدت عليه ، فهرب منها إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه ، فلما مرت به تناولها فعثرها فسقطت. فذلك قوله : {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أمر ربهم/ فقال لهم صالح : إن آية العذابأن تصبحوا غداً حمراً ، واليوم الثاني صفراً ، واليوم الثالث سوداً ، فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا.
(1/2013)
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف العلماء في وجه كون الناقة إية. فقال بعضهم : إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة. قال القاضي : هذا إن صح فهو معجز من جهات : أحدها : خروجها من الجبل ، والثانية : كونها لا من ذكر وأنثى ، والثالثة : كمال خلقها من غير تدريج.
والقول الثاني : أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم ، ولجميع ثمود شرب يوم ، واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب ، وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من / الكلأ والحشيش.
والقول الثاني : أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم. وقال الحسن : بالعكس من ذلك ، فقال إنها لم تحلب قطرة لبن قط ، وهذا الكلام مناف لما تقدم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 306
والقول الرابع : أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء ، وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي.
واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية ، فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة. والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } فقوله : {ءَايَةً} نصب على الحال أي أشير إليها في حال كونها آية ، ولفظة (هذه) تتضمن معنى الإشارة ، و{ءَايَةً} في معنى دالة. فلهذا جاز أن تكون حالاً.
فإن قيل : تلك الناقة كانت آية لكل أحد ، فلماذا خص أولئك الأقواك بها ؟
فقال : {هَـاذِه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } .
قلنا : فيه وجوه : أحدها : أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا عنها ، وليس الخبر كالمعاينة. وثانيها : لعله يثبت سائر المعجزات ، إلا أن القوم التمسوا منه هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح ، فأظهرها الله تعالى لهم ، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص.
فإن قيل : ما الفائدة في تخصيص تلك الناقة بأنها ناقة الله ؟
قلنا : فيه وجوه : قيل أضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً كقوله : بيت الله ، وقيل : لأنه خلقها بلا واسطة ، وقيل : لأنها لا مالك لها غير الله. وقيل : لأنها حجة الله على القوم.
ثم قال : {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّه } أي الأرض أرض الله ، والناقة ناقة الله ، فذروها تأكل في أرض ربها ، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم ، ولا تمسوها بسوء ولا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوا منها شيئاً من أنواع الأذى. عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك".
ثم قال تعالى : {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ عَادٍ} قيل إنه تعالى لما أهلك عاداً عمر ثمود بلادها ، وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً.
ثم قال : {وَبَوَّأَكُمْ فِى الارْضِ} أنزلكم ، والمبوأ : المنزل من الأرض ، أي في أرض الحجر بين الحجاز والشام.
/ ثم قال : {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا} أي تبوؤن القصور من سهولة الأرض ، فإن القصور إنما تبنى من الطين واللبن والآجر ، وهذه الأشياء إنما تتخذ من سهولة الأرض {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} (الشعراء : 149) يريد تنحتون بيوتاً من الجبال تسقفونها.
جزء : 14 رقم الصفحة : 306
فإن قالوا : علام انتصب بيوتاً ؟
قلنا : على الحال كما يقال : خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما ، وهي من الحال المقدرة ، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ، ولا الثوب والقصبة قميصاً ، وقلما في حال الخياطة والبري. وقيل : كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء ، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين.
ثم قال : {فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ} يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم/ وذكر الكل طويل. فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها {وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} قيل المراد منه : النهي عن عقر الناقة ، والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد.
جزء : 14 رقم الصفحة : 306
309
(1/2014)
/ اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلىء القلوب من هيبتهم ، ومعنى الآية قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا ، يريد المساكين الذين آمنوا به ، وقوله : {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} بدل من قوله : {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } لأنهم المؤمنون. واعلم أنه وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين ، ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين ، وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم ، وكون المؤمنين مستضعفين معناه : أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم ، وهذا ليس فعلاً صادراً عنهم بل عن غيرهم ، فهو لا يكون صفة ذم في حقهم ، بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم. ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نحن موقنون مصدقون بما جاء به صالح. وقال المستكبرون : بل نحن كافرون بما جاء به صالح ، وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى ، وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه ، والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما ، فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد ، والإباء ، والإنكار ، والكفر. وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان ، والتصديق والانقياد ، وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى.
ثم قال تعالى : {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} قال الأزهري : العقر عند العرب ، كشف عرقوب البعير ، ولما كان العقر سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب. واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم ، لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم ، وقد يقال للقبيلة العظيمة : أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 309
ثم قال : {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} يقال : عتا يعتو عتواً ، إذا استكبر. ومنه يقال : جبار عات قال مجاهد : العتو الغلو في الباطل وفي قوله : {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} وجهان : الأول : معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله : {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّه } (الأعراف : 83) الثاني : أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم ، فكان أمر ربهم بتركها صار سبباً في إقدامهم على ذلك العتو ، كما يقال : الممنوع متبوع {وَقَالُوا يَـاصَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وإنما قالوا ذلك ، لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد.
ثم قال تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} قال الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة. قال تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلا} (المزمل : 14) قال الليث : يقال رجف الشيء يرجف رجفاً ورجفانا ، كرجفان البعير تحت الرحل ، وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح.
ثم قال : {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ} يعني في بلدهم ولذلك وحد الدار ، كما يقال : دار الحرب / ومررت بدار البزازين ، وجمع في آية أخرى فقال : {فِى دِيَـارِهِمْ} (هود : 94) لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به. وقوله : {جَـاثِمِينَ} قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير ، بمنزلة البروك للإبل ، فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل ، والمعنى : أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى ، يقال : الناس جثم. أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء ، ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها ، وهي البهيمة التي تربط لترمى ، فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود ، ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب ، وقيل بل سقطوا على وجوههم ، وقيل وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد. وقيل : بل عند نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض ، والكل متقارب. وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا : {يَـاصَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} قال تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} والفاء للتعقيب وهذا يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام وليس الأمر كذلك ، لأنه تعالى قال في آية أخرى : {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍا ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (هود : 65).
جزء : 14 رقم الصفحة : 309
والجواب : أن الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه أنه حصل عقيبه فزال السؤال.
السؤال الثاني : طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة ، وهي الرجفة والطاغية والصيحة ، وزعموا أن ذلك يوجب التناقض.
(1/2015)
والجواب : قال أبو مسلم : الطاغية. اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيواناً أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة ، فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) ويقال : طغى طغياناً وهو طاغ وطاغية. وقال تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاـاهَآ} (الشمس : 11) وقال في غير الحيوان : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ} (الحاقة : 11) أي غلب وتجاوز عن الحد ، وأما الرجفة ، فهي الزلزلة في الأرض ، وهي حركة خارجة عن المعتاد ، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها ، وأما الصيحة ، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة ، فالغالب أنها الزلزلة وكذلك الزجرة قال تعالى : {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} (النازعات : 13 ، 14) فبطل ما قاله الطاعن.
السؤال الثالث : أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة عن الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء ، وأيضاً شاهدوا أن الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين ، كان شرباً لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني ، وذلك أيضاً معجزة قاهرة ، ثم إن القوم لما نحروها ، وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن / نحروها ، فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب ، وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول ، ثم اصفروا في اليوم الثاني ، ثم اسودوا في اليوم الثالث ، فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر ، ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر ، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصراً على كفره غير تائب منه ؟
والجواب الأول أن يقال : إنهم قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحاً في نزول العذاب ، فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف ، وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 309
ثم قال تعالى : {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} وفيه قولان : الأول : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا ، والدليل عليه أنه تعالى قال : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ} والفاء تدل على التعقيب ، فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم. والثاني : أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم ، بدليل : أنه خاطب القوم. وقال : {يَـاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـاكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ} وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه قال لهم : {يَـاقَوْمِ} والأموات لا يوصفون بالقوم ، لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام ، وذلك في حق الميت مفقود. والثاني : أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز. والثالث : أنه قال : {وَلَـاكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ} فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم ، ويمكن أن يجاب عنه فنقول : قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه ، فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك ، يا أخي منذ كم نصحتك ، فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع ، فكذا ههنا ، والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة. وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة. فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه. وقيل : يخف عليه أثر تلك المصيبة ، وذكروا جواباً آخر ، وهو : أن صالحاً عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين ، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر. فقيل : تتكلم مع هؤلاء الجيف. فقال : "ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب".
جزء : 14 رقم الصفحة : 309
309
/ اعلم أن هذا هو القصة الرابعة. قال النحويون : إنما صرف لوط ونوح لخفته ، فإنه مركب من ثلاثة أحرف ، وهو ساكن الوسط {أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ؟
وفي قوله : {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ} وفيه بحثان :
البحث الأول : قال صاحب "الكشاف" : {مِنْ} الأولى زائدة لتوكيد النفي ، وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض.
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال : {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ} مع أن الشهوة داعية إلى ذلك العمل أبداً ؟
والجواب : أنا نرى كثيراً من الناس يستقذر ذلك العمل ، فإذا جاز في الكثير منهم استقذاره لم يبعد أيضاً انقضاء كثير من الإعصار بحيث لا يقدم أحد من أهل تلك الإعصاء عليه ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يقال : لعلهم بكليتهم أقبلوا على ذلك العمل ، والإقبال بالكلية على ذلك العمل مما لم يوجد في الإعصار السابقة. قال الحسن : كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم ، وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس : استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض.
(1/2016)
البحث الثاني : قوله : {مَا سَبَقَكُم} يجوز أن يكون مستأنفاً في التوبيخ لهم ، ويجوز أن يكون صفة الفاحشة ، كقوله تعالى : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس : 37) وقال الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني
جزء : 14 رقم الصفحة : 309
311
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحفص عن عاصم {إِنَّكُمْ} بكسر الألف ومذهب نافع أن يكتفي بالاستفهام بالأولى من الثاني في كل القرآن. وقرأ ابن كثير {أَاـاِنَّكُمْ} بهمزة غير ممدودة وبين الثانية ، وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف ، وبين الثانية. والباقون بهمزتين على الأصل. قال الواحدي : من استفهم كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله : {أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ} (الأعراف : 80) وكل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء.
المسألة الثانية : قوله : {شَهْوَةً} مصدر. قال أبو زيد شهي يشهي شهوة وانتصابها على المصدر ، لأن قوله : {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} معناه أتشتهون شهوة ؟
وإن شئت قلت إنها مصدر وقع موقع الحال.
/ المسألة الثالثة : في بيان الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل.
اعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ، فلا حاجة فيه إلى تعديد الوجوه على التفصيل ثم نقول موجبات القبح فيه كثيرة : أولها : أن أكثر الناس يحترزون عن حصول الولد ، لأن حصوله يحمل الإنسان على طلب المال وإتعاب النفس في الكسب ، إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة ، حتى أن الإنسان بطلب تلك اللذة يقدم على الوقاع ، وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى ، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع ، فوضع اللذة في الوقاع ، كشبه الإنسان الذي وضع الفخ لبعض الحيوانات ، فإنه لا بد وأن يضع في ذلك الفخ شيئاً يشتهيه ذلك الحيوان حتى يصير سبباً لوقوعه في ذلك الفخ ، فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ ، والمقصود منه إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع.
إذا ثبت هذا فنقول : لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد ، لم تحصل الحكمة المطلوبة ، ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل ، وذلك على خلاف حكم الله ، فوجب الحكم بتحريمه قطعاً ، حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد.
والوجه الثاني : وهو أن الذكورة مظنة الفعل ، والأنوثة مظنة الانفعال ، فإذا صار الذكر منفعلاً ، والأنثى فاعلاً ، كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة ، وعلى عكس الحكمة الإلهية.
جزء : 14 رقم الصفحة : 311
والوجه الثالث : الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة ، وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة ، فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة ، وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة ، فكان ذلك تشبهاً بالبهائم ، وخروجاً عن الغريزة الإنسانية ، فكان في غاية القبح.
والوجه الرابع : هب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل ، إلا أنه يبقى في إيجاب العار العظيم ، والعيب الكامل بالمفعول على وجه لا يزول ذلك العيب عنه أبداً لدهر ، والعاقل لا يرضى لأجل لذة خسيسة منقضية في الحال ، إيجاب العيب الدائم الباقي بالغير.
والوجه الخامس : أنه عمل يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول ، وربما يؤدي ذلك إلى إقدام المفعول على قتل الفاعل لأجل أنه ينفر طبعه عند رؤيته ، أو على إيجاب إنكائه بكل طريق يقدر عليه. أما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة ، فإنه يوجب استحكام الألفة والمودة وحصول المصالح الكبيرة ، كما قال تعالى : {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } (الروم : 21).
(1/2017)
/ والوجه السادس : أنه تعالى أودع في الرحم قوة شديدة الجذب للمني/ فإذا واقع الرجل المرأة قوي الجذب ، فلم يبق شيء من المني في المجاري إلا وينفصل. أما إذا واقع الرجل فلم يحصل في ذلك العضو المعين من المفعول قوة جاذبة للمني ، وحينئذ لا يكمل الجذب ، فيبقى شيء من أجزأ المني في تلك المجاري ، ولا ينفصل ، ويعفن ويفسد ويتولد منه الأورام الشديدة والأسقام العظيمة وهذه فائدة لا يمكن معرفتها إلا بالقوانين الطبية ، فهذه هي الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل ورأيت بعض من كان ضعيفاً في الدين يقول : إنه تعالى قال : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ * إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المؤمنون : 5 المعارج : 29) وذلك يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً سواء كان ذكراً أو أنثى قال : ولا يمكن أن يقال أنا نخصص هذا العموم بقوله تعالى : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 165) وقوله : {أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ} (الأعراف : 80) قال لأن هاتين الآيتين كل واحد منهما أعم من الأخرى من وجه ، وأخص من وجه ، وذلك لأن المملوك قد يكون ذكراً ، وقد يكون أنثى ، وأيضاً الذكر قد يكون مملوكاً ، وقد لا يكون مملوكاً ، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تخصيص إحداهما بالأخرى أولى من العكس ، والترجيح من هذا الجانب ، لأن قوله : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} شرع محمد ، وقصة لوط ، شرع سائر الأنبياء ، وشرع محمد عليه الصلاة والسلام أولى من شرع من تقدمه من الأنبياء ، وأيضاً الأصل في المنافع والملاذ الحل ، وأيضاً الملك مطلق للتصرف. فقل له الاستدلال إنما يقبل في موضع الاحتمال ، وقد ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد حرمة هذا العمل ، والمبالغة في المنع منه ، والاستدلال إذا وقع في مقابلة النقل المتواتر ، كان باطلاً.
جزء : 14 رقم الصفحة : 311
ثم قال تعالى حكاية عن لوط أنه قال لهم : {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} والمعنى كأنه قال لهم : أنتم مسرفون في كل الأعمال ، فلا يبعد منكم أيضاً إقدامكم على هذا الإسراف.
جزء : 14 رقم الصفحة : 311
311
والمراد منه أخرجوا لوطاً وأتباعه ، لأنه تعالى في غير هذه السورة قال : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا } (النمل : 56) ولأن الظاهر أنهم إنما سعوا في إخراج من نهاهم عن العمل الذي يشتهونه ويريدونه ، وذلك الناهي ليس إلا لوطاً وقومه ، وفي قوله : {يَتَطَهَّرُونَ} وجوه : الأول : / أن ذلك العمل تصرف في موضع النجاسة ، فمن تركه فقد تطهر. والثاني : أن البعد عن الإثم يسمى طهارة فقوله : {يَتَطَهَّرُونَ} أي يتباعدون عن المعاصي والآثام. الثالث : أنهم إنما قالوا : {أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} على سبيل السخرية بهم وتطهرهم من الفواحش ، كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : ابعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد.
جزء : 14 رقم الصفحة : 311
312
اعلم أن قوله {فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَهْلَه } يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب. قال ابن عباس : المراد ابنتاه. وقوله : {إِلا امْرَأَتَه } أي زوجته. يقال : امرأة الرجل بمعنى زوجته. ويقال : رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها ، وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل ، فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام ، عرفت الزوجية. وملك النكاح ، والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام ، تعرف الزوجية. وقوله : {كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ} يقال : غبر الشيء يغبر غبوراً ، إذا مكث وبقي. قال الهذلي :
فغبرت بعدهم بعيش ناصب
وأخال أني لاحق مستتبع
يعني بقيت فمعنى الآية : أنها كانت من الغابرين عن النجاة. أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة. يقال فلان غبر هذا الأمر. أي لم يدركه ، ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله ، بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب.
ثم قال : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا } يقال : مطرت السماء وأمطرت ، والأول أفصح ، وأمطرهم ، مطراً وعذاباً ، وكذلك أمطر عليهم ، والمراد أنه تعالى أمطر عليهم حجارة من السماء بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} (الحجر : 74).
ثم قال : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ظاهر هذا اللفظ وإن كان مخصوصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد سائر المكلفين ليعتبروا بذلك فينزجروا.
فإن قيل : كيف يعتبرون بذلك ، وقد آمنوا من عذاب الاستئصال ؟
/ قلنا : إن عذاب الآخرة أعظم وأدون من ذلك ، فعند سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنبة على عذاب الاستئصال ، ويكون ذلك زجراً وتحذيراً.
(1/2018)
المسألة الثانية : مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن اللواطة توجب الحد. وقال أبو حنيفة : لا توجبه. وللشافعي رحمه الله : أن يحتج بهذه الآية من وجوه : الأول : أنه ثبت في شريعة لوط عليه السلام رجم اللوطي ، والأصل في الثابت البقاء ، إلا أن يظهر طريان الناسخ ، ولم يظهر في شرع محمد عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الحكم ، فوجب القول ببقائه. الثاني : قوله تعالى : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) قد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن شرع من قبلنا حجة علينا. والثالث : أنه تعالى قال : {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} والظاهر أن المراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره وهو إنزال الحجر عليهم. ومن المجرمين ، الذين يعملون عمل قوم لوط ، لأن ذلك هو المذكور السابق فينصرف إليه ، فصار تقدير الآية : فانظر كيف أمطر الله الحجارة على من يعمل ذلك العمل المخصوص ، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب ، يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، فهذه الآية تقتضي كون هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص ، وإذا ظهرت العلة ، وجب أن يحصل هذا الحكم أينما حصلت هذه العلة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 312
314
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة ، وقد ذكرنا أن التقدير : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين ، وذكرنا الوجوه فيه ، واختلفوا في مدين. فقيل : أنه اسم البلد ، وقيل : إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام ، ومدين صار / اسماً للقبيلة ، كما يقال : بكر وتميم. وشعيب من أولاده ، وهو : شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن.
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء : الأول : أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله ، وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. فقال : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه } والثاني : أنه ادعى النبوة فقال : {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة ، لأنه لا بد لمدعي النبوة منها ، وإلا لكان متنبئاً لا نبياً ، فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه. فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه ، كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا. قال صاحب "الكشاف" : ومن معجزات شعيب : أنه دفع إلى موسى عصاه ، وتلك العصا حاربت التنين ، وأيضاً قال لموسى : أن هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض ، وقد وهبتها منك ، فكان الأمر كما أخبر عنه. ثم قال : وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام ، لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة.
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا ، وبين المعتزلة. وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبياً ورسولاً بعد ذلك ، يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي ، ويسمى ذلك إرهاصاً للنبوة ، فهذا الإرهاص عندنا جائز ، وعند المعتزلة غير جائز ، فالأحوال التي حكاها صاحب "الكشاف" هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام ، وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز ، والثالث : أنه قال : {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} .
جزء : 14 رقم الصفحة : 314
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع ، وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف ، فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال : {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} وههنا سؤالان :
السؤال الأول : الفاء في قوله : {فَأَوْفُوا } توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله : {قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } فكيف الوجه فيه ؟
والجواب : كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل. وهو أمر مستقبح في العقول ، ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة ، فلم يبق لكم فيه عذر {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ} .
/ السؤال الثاني : كيف قال الكيل والميزان ، ولم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود ؟
(1/2019)
والجواب : أراد بالكيل آلة الكيل ، وهو المكيال ، أو يسمى ما يكال به بالكيل ، كما يقال العيش لما يعاش به. والرابع : قوله : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه/ ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة ، وأخذ الرشوة ، وقطع الطريق. وانتزاع الأموال بطريق الحيل. والخامس : قوله : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة ، وهما يوجبان الفساد ، لا جرم قال بعده : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} وقد سبق تفسير هذه الكلمة ، وذكروا فيه وجوهاً فقيل : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا} بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن ، لأن ذلك يتبعه الفساد. وقيل : أراد به المنع من كل ما كان فساداً حملاً للفظ على عمومه. وقيل : قوله : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} منع من مفاسد الدنيا وقوله : {وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين ، واختلفوا في معنى {بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا } قيل : بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه ، فنهاهم عن الفساد ، وقد صارت صالحة. وقيل : المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم ، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله ، ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة ، والشفقة على خلق الله ، ويدخل فيه ترك البخس ، وترك الإفساد ، وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء ، كأنه تعالى يقول : إيصال النفع إلى الكل متعذر. وأما كف الشر عن الكل فممكن ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة. قال : {ذالِكُمْ} وهو إشارة إلى هذه الخمسة ، والمعنى : خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة ، والمراد : أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة ، رغبوا في المعاملات معكم ، فكثرت أموالكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مصدقين لي في قولي.
جزء : 14 رقم الصفحة : 314
315
/ اعلم أن شعيباً عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء. الأول : أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق ، لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} قولان : الأول : يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس. روي أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام. والثاني : أن يحمل الصراط على مناهج الدين ، قال صاحب "الكشاف" : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله : {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف : 16) قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين ، والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله : {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله : {بِكُلِّ صِرَاطٍ} يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا ، وفي مكان كذا ، وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها ، فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا ، فالباء للإلصاق ، وهو قد التصق بذلك المكان.
وأما قوله : {تُوعَدُونَ} فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال ، والتقدير : ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجاً في سبيل الله ، والحاصل : أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة. واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض. وجب حصول المغايرة بينها فقوله : {تُوعَدُونَ} يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد ، فقد يكون بالإيعاد بالمضار ، وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه ، وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه.
أما قوله : {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيباً منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة. وإذا تأملت علمت أن أحداً لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 315
ثم قال : {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية ، قال الزجاج : وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه ، كثر عددكم بعد القلة ، وكثركم بالغني بعد الفقر ، وكثركم بالقدرة بعد الضعف ، ووجه / ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل ، في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة. فأما تكثير عددهم بعد القلة ؛ فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط ، فولدت حتى كثر عددهم.
(1/2020)
ثم قال بعده : {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال ، ليصير ذلك زاجراً لكم عن العصيان والفساد ، فقوله : {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا ، وقوله : {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال ، احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا ، فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولاً والترهيب ثانياً.
ثم قال : {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِه وَطَآاـاِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا } والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن/ لأن قوله : {فَاصْبِرُوا } تهديد ، وكذلك قوله : {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا } والمراد إعلاء درجات المؤمنين ، وإظهار هوان الكافرين ، وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة.
ثم قال : {وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ} يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف ، فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية ، والكافر الشقي بأنواع العقوبات ، ونظيره قوله : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ} (ص : 28).
جزء : 14 رقم الصفحة : 315
319
/ اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال : {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين : إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية. وإما أن تعود إلى ملتنا ، والإشكال فيه أن يقال : إن قولهم : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر ، فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك ، وذلك في غاية الفساد ، وقوله : {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم} يدل أيضاً على هذا المعنى.
والجواب من وجوه : الأول : أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم. الثاني : أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم ، وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام. الثالث : أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه ، فتوهموا أنه كان على دين قومه. الرابع : لا يبعد أن يقال : إن شعيباً كان على شريعتهم ، ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه. الخامس : المراد من قوله : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء. تقول العرب : قد عاد إلي من فلان مكروه ، يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء. قال الشاعر :
جزء : 14 رقم الصفحة : 319
فإن تكن الأيام أحسن مدة
إلى فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ، ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك. أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين : الأول : قوله : {أَوَلَوْ كُنَّا كَـارِهِينَ} الهمزة للاستفهام ، والواو واو الحال. تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ، ومع كوننا كارهين : الثاني : قوله : {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم ، وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال : إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله. وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة ، والبراءة عن الكذب ، فالعود في ملتكم يبطل النبوة ، ويزيل الرسالة. وقوله : {إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } فيه وجوه : الأول : معنى {إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } علمنا قبحه وفساده ، ونصب الأدلة على أنه باطل. الثاني : أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم ، وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب. والثالث : أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم ، أو اعتقدوا أنه كان كذلك. فقوله : {بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } أي حسب معتقدكم وزعمكم.
/ أما قوله : {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} .
جزء : 14 رقم الصفحة : 319
(1/2021)
فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر ، والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح. أما وجه استدلال أصحابنا بهذه ، فمن وجهين : الأول : قوله : {إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه ، لا من الله تعالى ، وذلك على خلاف مقتضى قوله : {بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، ولما كانت تلك الملة كفراً ، كان هذا تجويزاً من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر ، فكاد هذا يكون تصريحاً من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر ، وذلك غير مذهبنا. قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ} (إبراهيم : 35) وكثيراً ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول : "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك" وقال يوسف : {تَوَفَّنِى مُسْلِمًا} (يوسف : 101) أجابت المعتزلة عنه من وجوه : الأول : أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء. والثاني : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ، كما يقال : لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار ، وشاب الغراب : فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته. ومن المعلوم أنه لا يكون نفياً لذلك أصلاً ، فهو على طريق التبعيد ، لا على وجه الشرط. الثالث : أن قوله : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو ، فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزاً كان مراداً لله تعالى ، وكون الضمير أفضل من الإظهار ، لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى ، كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع : أن قوله : {لَنُخْرِجَنَّكَ يَـاشُعَيْبُ} (الأعراف : 88) المراد الإخراج عن القرية ، فيحمل قوله : {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ} أي القرية ، لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية ، أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته. الخامس : أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر ، لأن قوله : {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} معناه : أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها. وقوله : {لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ} أي يكون ذلك العود جائزاً ، والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم ، ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب / الجواز هو الأمر. فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر ، فكان التقدير : إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها ، والشريعة التي صارت منسوخة ، لا يبعد أن يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 319
والوجه السادس : للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي ، فقال : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات ، كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير منسوخ ، لا جرم قال : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } والمعنى : إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه ، فحينئذ نعود إليها. فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها ، وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير ألبتة. فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة ، وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة ، ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب. وأما المعتزل فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين :
الوجه الأول : لما قالوا ظاهر قوله : {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده ، كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ، ولم يكن حراماً. قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله ، كان حسناً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى.
(1/2022)
والوجه الثاني : لهم أن قالوا : إن قوله : {لَنُخْرِجَنَّكَ يَـاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.
واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب.
أما قوله : {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه : قال القاضي : قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب : {إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا } معناه : إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات ، فحينئذ يكلفنا بها ، والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء ، فلذلك أتبعه بهذا القول. وقال أصحابنا : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، هو أن القوم لما قالوا لشعيب : إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا ، فقال شعيب : {وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا } فربما كان في علمه حصول قسم ثالث ، وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت / أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا ، وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي ، لأن قوله : {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } لائق بهذا الوجه ، لا بما قاله القاضي.
جزء : 14 رقم الصفحة : 319
المسألة الثانية : قوله : {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء ، لأن قوله : {وَاسِعُ} فعل ماض ، فيتناول كل ماض. وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات. وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال ، لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله ، والشقي من شقي في علم الله.
المسألة الثالثة : قوله : {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } يدل على أنه علم الماضي ، والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون ، فهذه أقسام أربعة ، ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه. أما الماضي : فإنه علم أنه لما كان ماضياً ، فإنه كيف كان. وعلم أنه لو لم يكن ماضياً ، بل كان حاضراً ، فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون. وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون ، فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي ، واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال ، وبحسب المستقبل ، وبحسب المعدوم المحض ، فيكون المجموع ستة عشر ، ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح ، وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها ، فحينئذ يلوح لعقلك من قوله : {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله.
المسألة الرابعة : قال الواحدي : قوله : {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } منصوب على التمييز.
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين : الأول : بالتوكل على الله. فقال : {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } فهذا يفيد الحصر ، أي عليه توكلنا لا على غيره ، وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب ، وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب. والثاني : الدعاء. فقال : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} قال ابن عباس والحسن وقتادة ، والسدي : احكم واقض. وقال الفراء : أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كنت أدري قوله : {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك. قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف ، والمراد منه : أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا الوجه يراد به الكشف والتبيين.
جزء : 14 رقم الصفحة : 319
ثم قال : {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَـاتِحِينَ} والمراد منه الثناء على الله. واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه / هو الذي يخلق الإيمان من العبد ، وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات ، ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين ، فلا شك أن الإيمان كذلك.
إذا ثبت هذا فنقول : لو كان الموجد للإيمان هو العبد ، لكان خير الفاتحين هو العبد ، وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين.
جزء : 14 رقم الصفحة : 319
320
(1/2023)
اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب. ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك ، حتى أضلوا غيرهم ، ولاموهم على متابعته فقالوا : {لَـاـاِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} واختلفوا فقال بعضهم : خاسرون في الدين. وقال آخرون : خاسرون في الدنيا ، لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس ، وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولاً وفي الإضلال ثانياً ، فاستحقوا الإهلاك فلهذا قال تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وهي الزلزلة الشديدة المهلكة ، فإذا انضاف إليها الجزاء الشديد المخوف على ما ذكره الله تعالى من قصة الظلمة ، كان الهلاك أعظم ، لأنه أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} أي في مساكنهم {جَـاثِمِينَ} أي خامدين ساكنين بلا حياة وقد سبق الاستقصاء في تفسير هذه الألفاظ.
ثم قال تعالى : {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا } وفيه بحثان :
/ البحث الأول : في قوله : {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } قولان : أحدهما : يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها. والثاني : المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني. قال الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها ، وعلى هذا الوجه كان قوله : {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها.
والقول الثاني : قال الزجاج : كأن لم يغنوا فيها ، كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى ، وهو من الغني الذي هو ضد الفقر.
جزء : 14 رقم الصفحة : 320
وإذا عرفت هذا فنقول : على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار. قال الشاعر :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
البحث الثاني : قوله : {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} كأن لم يغنوا فيها الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصاً بأولئك المكذبين ، وذلك يدل على أشياء : أحدها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار ، وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة ، وإلا لحصل في أتباع شعيب ، كما حصل في حق الكفار. والثاني : يدل على أن ذلك الفاعل المختار ، عالم بجميع الجزئيات ، حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. وثالثها : يدل على المعجز العظيم في حق شعيب ، لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة ، كان ذلك من أعظم المعجزات.
ثم قال تعالى : {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَـاسِرِينَ} وإنما كرر قوله : {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم/ والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم ، فيقول الرجل لغيره : أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هتك أعراضنا ، وأيضاً أن القوم لما قالوا : {لَـاـاِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ} بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون.
ثم قال تعالى : {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} واختلفوا في أنه تولى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك ، وقد سبق ذكر هذه المسألة. قال الكلبي : خرج من بين أظهرهم ، ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم.
ثم قال : {فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَـافِرِينَ} الأسى شدة الحزن. قال العجاج :
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
إذا عرفت هذا فنقول : في الآية قولان :
القول الأول : أنه اشتد حزنه على قومه ، لأنهم كانوا كثيرين ، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان ، فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم ، حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة. ثم عزى نفسه وقال : {فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَـافِرِينَ} لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر.
جزء : 14 رقم الصفحة : 320
والقول الثاني : أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم ، فلم تسمعوا قولي ، ولم تقبلوا نصيحتي {فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَـافِرِينَ} يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم. قال صاحب "الكشاف" : وقرأ يحيى بن وثاب {فَكَيْفَ} بكسر الهمزة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 320
321
(1/2024)
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء ، وأحوال ما جرى على أممهم ، كان من الجائز أن يظن أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال ، إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط ، فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم ، وبين العلة التي بها يفعل ذلك : قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ} وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة ، لأنها مجتمع الأقوام وقوله : {مِّن نَّبِىٍّ} فيه حذف وإضمار ، والتقدير : من نبي فكذب أو كذبه أهلها ، إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج : البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم ، والضراء ما نالهم من الأمراض. وقيل على العكس ، ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا ، معناه : يتضرعوا ، والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى ، ولما علمت أن قوله : {لَعَلَّهُمْ} لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى ، وجب حمله على أن / المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا. قالت المعتزلة : وهذا يدل على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة. وقال أصحابنا : لما ثبت بالدليل أن تعليل أفعال الله وأحكامه محال وجب حمل الآية على أنه تعالى فعل ، ما لو فعله غيره لكان ذلك شبيهاً بالعلة والغرض ، ثم بين تعالى أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد ، وإنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب فقال : {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} (الأعراف : 95) لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء ، يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر ، ومعنى الحسنة والسيئة ههنا الشدة والرخاء. قال أهل اللغة : {السَّيِّئَةُ } كل ما يسوء صاحبه ، و{الْحَسَنَةَ}
جزء : 14 رقم الصفحة : 321
ما يستحسنه الطبع والعقل ، والمعنى : أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة ، وبالرخاء أخرى. وقوله : {حَتَّى عَفَوا } قال الكسائي : يقال : قد عفا الشعر وغيره ، إذا كثر ، يعفو فهو عاف. ومنه قوله تعالى : {حَتَّى عَفَوا } يعني كثروا ومنه ما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ، أمر أن تحف الشوارب ، وتعفى اللحى يعني توفر وتكثر وقوله : {وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ} فالمعنى : أنهم متى نالهم شدة قالوا : ليس هذا بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل وتلك عادة الدهر ، ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله وهذه الحكاية تدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة ، وأمن بعد خوف ، بل عدلوا إلى أن هذه عادة الزمان في أهله ، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة ، فبين تعالى أنه أزال عذرهم وأزاح علتهم ، فلم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال ، وقوله : {فَأَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً} والمعنى : أنهم لما تمردوا على التقديرين ، أخذهم الله بغتة أينما كانوا ، ليكون ذلك أعظم في الحسرة. وقوله : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي يرون العذاب والحكمة في حكاية هذا المعنى أن يحصل الاعتبار لمن سمع هذه القصة وعرفها.
جزء : 14 رقم الصفحة : 321
ما يستحسنه الطبع والعقل ، والمعنى : أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة ، وبالرخاء أخرى. وقوله : {حَتَّى عَفَوا } قال الكسائي : يقال : قد عفا الشعر وغيره ، إذا كثر ، يعفو فهو عاف. ومنه قوله تعالى : {حَتَّى عَفَوا } يعني كثروا ومنه ما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ، أمر أن تحف الشوارب ، وتعفى اللحى يعني توفر وتكثر وقوله : {وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ} فالمعنى : أنهم متى نالهم شدة قالوا : ليس هذا بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل وتلك عادة الدهر ، ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله وهذه الحكاية تدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة ، وأمن بعد خوف ، بل عدلوا إلى أن هذه عادة الزمان في أهله ، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة ، فبين تعالى أنه أزال عذرهم وأزاح علتهم ، فلم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال ، وقوله : {فَأَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً} والمعنى : أنهم لما تمردوا على التقديرين ، أخذهم الله بغتة أينما كانوا ، ليكون ذلك أعظم في الحسرة. وقوله : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي يرون العذاب والحكمة في حكاية هذا المعنى أن يحصل الاعتبار لمن سمع هذه القصة وعرفها.
جزء : 14 رقم الصفحة : 321
322
(1/2025)
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم الله بغتة ، بين في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخيرات فقال : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ا ءَامَنُوا } أي آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر {وَاتَّقَوْا } ما نهى الله عنه وحرمه {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} بركات السماء بالمطر ، وبركات الأرض بالنبات والثمار ، وكثرة المواشي والأنعام ، وحصول الأمن والسلامة ، وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب ، والأرض تجري مجرى الأم ، ومنها يحصل جميع المنافع والخيرات بخلق الله تعالى وتدبيره. وقوله : {وَلَـاكِن كَذَّبُوا } يعني الرسل {فَأَخَذْنَـاهُمْ} بالجدوبة والقحط {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفر والمعصية.
ثم إنه تعالى أعاد التهديد بعذاب الاستئصال فقال : {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم ، والمقصود أنه تعالى خوفهم بنزول ذلك العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة ، وهو حال النوم بالليل ، وحال الضحى بالنهار ؛ لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه. وقوله : {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يحتمل التشاغل بأمور الدنيا ، فهي لعب ولهو ، ويحتمل خوضهم في كفرهم ، لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع. قرأ أكثر القراء {أَوَ أَمِنَ} بفتح الواو ، وهو حرف العطف دخلت عليه همزة الاستفهام ، كما دخل في قوله : {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} (يونس : 51) وقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ} (البقرة : 100) وهذه القراءة أشبه بما قبله وبعده ، لأن قبله {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } وما بعده {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه } (الأعراف : 99) {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ} (الأعراف : 100) وقرأ ابن عامر {أَوَ أَمِنَ} ساكنة الواو ، واستعمل على ضربين : أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشيئين ، كقوله : زيد أو عمرو جاء ، والمعنى أحدهما جاء.
جزء : 14 رقم الصفحة : 322
والضرب الثاني : أن تكون للاضراب عما قبلها ، كقولك : أنا أخرج أو أقيم ، أضربت عن الخروج ، وأثبت الإقامة ، كأنك قلت : لا بل أقيم. فوجه هذه القراءة أنه جعل "أو" للاضراب لا على أنه أبطل الأول ، وهو {الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ} (السجدة : 1 ، 2) فكان / المعنى من هذه الآية استواء هذه الضروب من العذاب ، وإن شئت جعلت "أو" ههنا التي لأحد الشيئين ، ويكون المعنى : أفأمنوا إحدى هذه العقوبات ، وقوله : {ضُحًى} الضحى صدر النهار ، وأصله الظهور من قولهم : ضحا للشمس إذا ظهر لها.
ثم قال تعالى : {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه } وقد سبق تفسير المكر في اللغة ، ومعنى المكر في حق الله تعالى في سورة آل عمران عند قوله : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه } (آل عمران : 54) ويدل قوله : {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّه } أن المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون. قاله على وجه التحذير ، وسمي هذا العذاب مكراً توسعاً/ لأن الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه ، فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به ، فسمي العذاب مكراً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون ، وبين أنه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه {إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ} وهم الذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربهم ، فلا يخافونه ، ومن هذه سبيله ، فهو أخسر الخاسرين في الدنيا والآخرة ، لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر ، وفي الآخرة في أشد العذاب.
جزء : 14 رقم الصفحة : 322
324
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم من الآيات حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال مجملاً ومفصلاً أتبعه ببيان أن الغرض من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلف القراء فقرأ بعضهم {أَوَلَمْ يَهْدِ} بالياء المعجمة من تحتها ، وبعضهم بالنون ، قال الزجاج : إذا قرىء بالياء المعجمة من تحت كان قوله : {أَن لَّوْ نَشَآءُ} مرفوعاً بأنه فاعله / بمعنى أو لم يهد للذين يخلفون أولئك المتقدمين ويرثون أرضهم وديارهم ، وهذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين ، إذا قرىء بالنون فهو منصوب ، كأنه قيل. أولم نهد للوارثين هذا الشأن. بمعنى أو لم نبين لهم أن قريشاً أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ؟
(1/2026)
المسألة الثانية : المعنى أو لم نبين للذين نبعثهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها فنهلكهم بعدهم ؟
وهو معنى لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، أي عقاب ذنوبهم ، وقوله : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي لا يقبلون ، ولا يتعظون ، ولا ينزجرون. وإنما قلنا : إن المراد إما الإهلاك. وإما الطبع على القلب ، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب ، فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه.
المسألة الثالثة : استدل أصحابنا على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان بقوله : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد على ما قررناه في آيات كثيرة. قال الجبائي : المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون ، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان. وقال الكعبي : إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 6).
جزء : 14 رقم الصفحة : 324
واعلم أن البحث عن حقيقة الطبع والختم قد مر مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الرابعة : قوله : {وَنَطْبَعُ} هل هو منقطع عما قبله أو معطوف على ما قبله. فيه قولان :
القول الأول : أنه منقطع عن الذي قبله ، لأن قوله : ماض وقوله : {بِذُنُوبِهِم وَنَطْبَعُ} مستقبل وهذا العطف ليس بمستحسن ، بل هو منقطع عما قبله ، والتقدير : ونحن نطبع على قلوبهم.
والقول الثاني : أنه معطوف على ما قبله. قال صاحب "الكشاف" : هو معطوف على ما دل عليه معنى {أَوَلَمْ يَهْدِ} كأنه قيل يغفلون عن الهداية ، ونطبع على قلوبهم أو معطوف على قوله : {يَرِثُونَ الارْضَ} ثم قال : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على {أَصَبْنَـاهُم} لأنهم كانوا كفاراً وكل كافر فهو مطبوع على قلبه ، فقوله بعد ذلك : {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يجري مجرى تحصيل الحاصل. وهو محال ، هذا تقرير قول صاحب "الكشاف" على أقوى الوجوه وهو ضعيف ، لأن كونه مطبوعاً عليه إنما يحصل حال استمراره وثباته عليه ، فهو يكفر أولاً ، ثم يصير مطبوعاً عليه في الكفر ، فلم يكن هذا منافياً لصحة العطف.
/ ثم قال تعالى : {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآئِهَا } قوله : {تِلْكَ} مبتدأ صفة و{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} خبر/ والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق ، وهم : قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت. وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام ، فلم نقصها عليك ، وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق ، فذكرها الله تعالى تنبيهاً لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
ثم عزاه الله تعالى بقوله : {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ} يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله : {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ } فيه قولان : الأول : قال ابن عباس والسدي : فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم ، فآمنوا كرهاً ، وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب. الثاني : قال الزجاج : {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات. الثالث : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنواب ما كذبوا به من قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الإنعام : 28) الرابع : قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر ، فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضاً. الخامس : ليؤمنوا في الزمان المستقبل.
جزء : 14 رقم الصفحة : 324
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال : {كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـافِرِينَ} قال الزجاج : والكاف في {كَذَالِكَ} نصب ، والمعنى : مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية ، يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبداً. والله أعلم بحقائق الأمور.
جزء : 14 رقم الصفحة : 324
324
(1/2027)
فيه أقوال : الأول : قال ابن عباس : يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم ، حيث قال : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) فلما أخذ الله منهم هذا العهد وأقروا به ، ثم خالفوا ذلك ، صار كأنه ما كان لهم عهد ، فلهذا قال : {وَمَا وَجَدْنَا لاكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } والثاني : قال ابن مسعود : العهد هنا الإيمان ، والدليل عليه قوله تعالى : {إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـن ِ عَهْدًا} (مريم : 87) يعني آمن وقال لا إله إلا الله والثالث : أن العهد عبارة عن وضع الأدلة الدالة على صحة التوحيد والنبوة ، وعلى هذا التقدير فالمراد / ما وجدنا لأكثرهم من الوفاء بالعهد.
ثم قال : {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَـاسِقِينَ} أي وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة ، صارفين عن الدين.
جزء : 14 رقم الصفحة : 324
325
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ، وذكر في هذه القصة من الشرح والتفصيل ما لم يذكر في سائر القصص ، لأجل أن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات سائر الأنبياء ، وجهل قومه كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام.
واعلم أن الكناية في قوله : {مِّنا بَعْدِهِمْ } يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم ، ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم ذكرهم بإهلاكهم وقوله : {بِـاَايَـاتِنَآ} فيه مباحث.
البحث الأول : هذه الآية تدل على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن غيره ، إذ لو لم يكن مختصاً بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره.
والبحث الثاني : هذه الآية تدل على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ، ومعجزات كثيرة.
والبحث الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول آياته العصا ثم اليد ، ضرب بالعصا باب فرعون ، ففزع منها فشاب رأسه ، فاستحيا فخضب بالسواد ، فهو أول من خضب. قال : وآخر الآيات الطمس. قال : وللعصا فوائد كثيرة منها ما هو مذكور في القرآن كقوله : {قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ} (طه : 18) وذكر الله من تلك المآرب في القرآن قوله : {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَا فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } (البقرة : 60) وذكر ابن عباس أشياء أخرى منها : أنه كان يضرب الأرض بها فتنبت ، ومنها : أنه كانت تحارب اللصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه ، ومنها : أنها كانت تشتعل في الليل كاشتعال الشمعة ، ومنها : أنها كانت تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة.
واعلم أن الفوائد المذكورة في القرآن معلومة ، فأما الأمور التي هي غير مذكورة في القرآن / فكل ما ورد به خبر صحيح فهو مقبول. وما لا فلا ، وقوله أنه كان يضرب بها الأرض فتخرج النبات ضعيف ، لأن القرآن يدل على أن موسى عليه السلام ، كان يفزع إلى العصا في الماء الخارج من الحجر ، وما كان يفزع إليها في طلب الطعام.
أما قوله : {فَظَلَمُوا بِهَا } أي فظلموا بالآيات التي جاءتهم ، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما كانت تلك الآيات قاهرة ظاهرة ، ثم إنهم كفروا بها فوضعوا الإنكار في موضع الإقرار والكفر في موضع الإيمان ، كان ذلك ظلماً منهم على تلك الآيات.
جزء : 14 رقم الصفحة : 325
ثم قال : {فَانظُرْ} أي بعين عقلك {كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وكيف فعلنا بهم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 325
327
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه كان يقال لملوك مصر : الفراعنة ، كما يقال لملوك فارس : الأكاسرة ، فكأنه قال : يا ملك مصر ، وكان اسمه قايوس ، وقيل : الوليد بن مصعب بن الريان.
المسألة الثانية : قوله : {إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ} فيه إشارة إلى ما يدل على وجود الإله تعالى. فإن قوله : {رَبِّ الْعَـالَمِينَ} يدل على أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه ، وإله يوجده ويخلقه.
(1/2028)
ثم قال : {حَقِيقٌ عَلَى ا أَن لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } والمعنى أن الرسول لا يقول إلا الحق ، فصار نظم الكلام. كأنه قال : أنا رسول الله ، ورسول الله لا يقول إلا الحق ، ينتج أني لا أقول إلا الحق ، ولما كانت المقدمة الأولى خفية ، وكانت المقدمة الثانية جلية ظاهرة ، ذكر ما يدل على صحة المقدمة الأولى ، وهو قوله : {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وهي المعجزة الظاهرة القاهرة. ولما قرر رسالة نفسه فرع عليه تبليغ الحكم ، وهو قوله : {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسرائيل } ولما سمع فرعون هذا / الكلام قال : {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـاَايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ} واعلم أن دليل موسى عليه السلام كان مبنياً على مقدمات : إحداها : أن لهذا العالم إلهاً قادراً عالماً حكيماً. والثانية : أنه أرسله إليهم بدليل أنه أظهر المعجز على وفق دعواه ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون رسولاً حقاً. والثالثة : أنه متى كان الأمر كذلك كان كل ما يبلغه من الله إليهم ، فهو حق وصدق. ثم إن فرعون ما نازعه في شيء من هذه المقدمات إلا في طلب المعجزة ، وهذا يوهم أنه كان مساعداً على صحة سائر المقدمات ، وقد ذكرنا في سورة طه أن العلماء اختلفوا في أن فرعون هل كان عارفاً بربه أم لا ؟
ولمجيب أن يجيب ، فيقول : إن ظهور المعجزة يدل أولاً على وجود الإله القادر المختار ، وثانياً : على أن الإله جعله قائماً مقام تصديق ذلك الرسول ، فلعل فرعون كان جاهلاً بوجود الإله القادر المختار ، وطلب منه إظهار تلك البينة حتى أنه إن أظهرها وأتى بها كان ذلك دليلاً على وجود الإله أولاً ، وعلى صحة نبوته ثانياً ، وعلى هذا التقدير : لا يلزم من اقتصار فرعون على طلب البينة ، كونه مقراً بوجود الإله الفاعل المختار.
جزء : 14 رقم الصفحة : 327
المسألة الثالثة : قرأ نافع {حَقِيقٌ عَلَى } مشدد الياء والباقون بسكون الياء والتخفيف. أما قراءة نافع يجوز أن يكون بمعنى فاعل. قال الليث : حق الشيء معناه وجب ، ويحق عليك أن تفعل كذا ، وحقيق علي أن أفعله ، بمعنى فاعل. والمعنى : واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق ، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول ، وضع فعيل في موضع مفعول. تقول العرب : حق علي أن أفعل كذا وإني لمحقوق على أن أفعل خيراً ، أي حق علي ذلك بمعنى استحق.
إذا عرفت هذا فنقول : حجة نافع في تشديد الياء أن حق يتعدى بعلي. قال تعالى : {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ } وقال : {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} فحقيق يجوز أن يكون موصولاً بحرف على من هذا الوجه ، وأيضاً فإن قوله : {حَقِيقٌ} بمعنى واجب ، فكما أن وجب يتعدى بعلي ، كذلك حقيق إن أريد به وجب ، يتعدى بعلي. وأما قراءة العامة {حَقِيقٌ عَلَى } بسكون الياء. ففيه وجوه : الأول : أن العرب تجعل الباء في موضع "علي" تقول : رميت على القوس وبالقوس ، وجئت على حال حسنة ، وبحال حسنة. قال الأخفش : وهذا كما قال : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} (الأعراف : 86) فكما وقعت الباء في قوله : {بِكُلِّ صِرَاطٍ} موضع "علي" كذلك وقعت كلمة "علي" موقع الباء في قوله : {حَقِيقٌ عَلَى ا أَن لا أَقُولَ} يؤكد هذا الوجه قراءة عبدالله {حَقِيقٌ عَلَى ا أَن لا أَقُولَ} وعلى هذه القراءة فالتقدير : أنا حقيق بأن لا أقول ، وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء ، وخبره {أَن لا أَقُولَ} الثاني : أن الحق هو الثابت الدائم ، والحقيق مبالغة فيه ، وكان المعنى : أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق. الثالث : الحقيق ههنا / بمعنى المحقوق ، وهو من قولك : حققت الرجل إذا ما تحققته وعرفته على يقين ، ولفظة {عَلَى } ههنا هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية ، كقوله تعالى : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } (الروم : 30) وتقول : جاءت فلان على هيئته وعادته ، وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات ، فمعنى الآية : أني لم أعرف ولم أتحقق إلا على قول الحق. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 327
أما قوله : {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسرائيل } أي أطلق عنهم وخلهم ، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة ، مثل ضرب اللبن ونقل التراب ، فعند هذا الكلام قال فرعون : {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـاَايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ} وفيه بحثان :
البحث الأول : أن لقائل أن يقول : كيف قال له {فَأْتِ بِهَآ} بعد قوله : {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ} .
وجوابه : إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فاتني بها وأحضرها عندي ، ليصح دعواك ويثبت صدقك.
والبحث الثاني : أن قوله : {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـاَايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ} جزاء وقع بين شرطين ، فكيف حكمه ؟
وجوابه أن نظيره قوله : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً. وههنا المؤخر في اللفظ يكون متقدماً في المعنى ، وقد سبق تقرير هذا المعنى فيما تقدم.
(1/2029)
جزء : 14 رقم الصفحة : 327
331
اعلم أن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة على صحة نبوته بين الله تعالى أن معجزته كانت قلب العصا ثعباناً ، وإظهار اليد البيضاء ، والكلام في هذه الآية يقع على وجوه : الأول : أن جماعة الطبيعيين ينكرون إمكان انقلاب العصا ثعباناً. وقالوا : الدليل على امتناعه أن تجويز انقلاب العصا ثعباناً يوجب ارتفاع الوثوق عن العلوم الضرورية وذلك باطل ، وما يفضي إلى الباطل فهو باطل. إنما قلنا : إن تجويزه يوجب ارتفاع الوثوق على العلوم الضرورية ، وذلك لأنا لو جوزنا أن يتولد الثعبان العظيم من العصا الصغيرة لجوزنا أيضاً أن يتولد الإنسان الشاب القوي عن التبنة / الواحدة والحية الواحدة من الشعير ، ولو جوز ذلك لجوزناه في هذا الإنسان الذي نشاهده الآن أنه إنما حدث الآن دفعة واحدة لا من الأبوين ، ولجوزنا في زيد الذي نشاهده الآن أنه ليس هو زيد الذي شاهدناه بالأمس ، بل هو شخص آخر حدث الآن دفعة واحدة ، ومعلوم أن من فتح على نفسه أبواب هذه التجويزات فإن جمهور العقلاء يحكمون عليه بالخبل والعته والجنون ، ولأن لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يقال : إن الجبال انقلبت ذهباً ومياه البحار انقلبت دماً ، ولجوزنا في التراث الذي كان في مزبلة البيت أنه انقلب دقيقاً ، وفي الدقيق الذي كان في البيت أنه نقلب تراباً. وتجويز أمثال هذه الأشياء مما يبطل العلوم الضرورية ويوجب دخول الإنسان في السفسطة ، وذلك باطل قطعاً. فما يفضي إليه كان أيضاً باطلاً.
فإن قال قائل : تجويز أمثال هذه الأشياء مختص بزمان دعوة الأنبياء ، وهذا لزمان ليس كذلك. فقد حصل الأمان في هذا الزمان عن تجويز هذه الأحوال.
فالجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا التجويز إذا كان قائماً في الجملة كان تخصيص هذا التجويز بزمان دون زمان مما لا يعرف إلا بدليل غامض. فكان يلزم أن يكون الجاهل بذلك الدليل الغامض جاهلاً باختصاص ذلك التجويز بذلك الزمان المعين. فكان يلزم من جمهور العقلاء الذين لا يعرفون ذلك الدليل الغامض أن يجوزوا كل ما ذكرناه من الجهات وأن لا يكونوا قاطعين بامتناع وقوعها ، وحيث نراهم قاطعين بامتناع وقوعها علمنا أن ما ذكرتموه فاسد. والثاني : أنا لو جوزنا أمثال هذه الأحوال في زمان دعوة النبوة فإنه يبطل أيضاً به القول بصحة النبوة ، فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً ، جاز في الشخص الذي شاهدناه أنه ليس هو الشخص الأول ، بل الله أعدم الشخص الأول دفعة واحدة ، وأوجد شخصاً آخر يساويه في جميع الصفات. وعلى هذا التقدير فلا يمكننا أن نعلم أن هذا الذي نراه الآن هو الذي رأيناه بالأمس. وحينئذ يلزم وقوع الشك في الذين رأوا موسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام أن ذلك الشخص هل هو الذي رأوه بالأمس أم لا ؟
ومعلوم أن تجويزه يوجب القدح في النبوة والرسالة. والثالث : وهو أن هذا الزمان وإن لم لكن زمان جواز المعجزات إلا أنه زمان جواز الكرامات عندكم. فيلزمكم تجويزه ، فهذا جملة الكلام في هذا المقام.
جزء : 14 رقم الصفحة : 331
واعلم أن القول بتجويز انقلاب العادات عن مجاريها صعب مشكل ، والعقلاء اضطربوا فيه وحصل لأهل العلم فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قول من يجوز ذلك على الإطلاق وهو قول أصحابنا ، وذلك لأنهم جوزوا / تولد الإنسان وسائر أنواع الحيوان والنبات دفعة واحدة من غير سابقة مادة ولا مدة ولا أصل ولا تربية. وجوزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً عاقلاً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ولا رطوبة ولا تركيب ، وجوزوا في الأعمى الذي يكون بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقعة التي تكون بأقصى المشرق ، مع أن الإنسان الذي يكون سليم البصر لا يرى الشمس الطالعة في ضياء النهار ، فهذا هو قول أصحابنا.
(1/2030)
والقول الثاني : قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق ، وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين. وقالوا : وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها ، واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم ، إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوماً لا دافع له ، وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر ، وعلى التقديرين : فالقول الذي ذكرناه لازم أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر ، فهذا القول باطل في صريح العقل ، إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد ، فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين ، ومن تجويز انقلاب الجبل ذهباً والبحر دماً ؟
فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر ، فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم. أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجباً بالذات وأما أن يكون فاعلاً بالاختيار. أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة ، وتقريره : أنه إذا كان مؤثراً ومرجحه موجباً بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سبباً لحدوث المعلول الحادث المتغير.
وءذا ثبت هذا فنقول : كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية ؟
وحينئذ تعود جميع الإلزامات المذكورة. وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلاً مختاراً ، فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال أن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنساناً دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهباً والبحر دماً ، فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها ألبتة.
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 331
والقول الثالث : وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض ، فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين ، ويجوزون انقلاب الماء ناراً وبالعكس ، ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر. ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفاً بالعلم والقدرة والحياة ، بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص ، وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضراً وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك ، وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز ، وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها ، وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم ، فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد.
(1/2031)
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول : ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله/ فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره ، فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة ، وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلاً للصفات التي باعتبارها تصير ثعباناً ، وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعباناً أمراً ممكناً لذاته ، وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات ، فلزم القطع بكونه تعالى قادراً على قلب العصا ثعباناً ، وذلك هو المطلوب ، وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث : إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات ، وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله ، وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم. قوله : : {فَإِذَا هِىَ} أي العصا وهي مؤنثة ، والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة. فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن ، ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء ، فعن ابن عباس : إنها ملأت ثمانين ذراعاً ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث ، وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً. وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعاً ووضع لحيها الأسفل على الأرض ، والأعلى على سور القصر ، وصاح فرعون يا موسى خذها. فأنا أومن بك ، فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت ، وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبيناً وجوه : الأول : تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه ، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات. والثاني : في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه. الثالث : المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب.
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 331
وأما قوله : {وَنَزَعَ يَدَه } فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله : {وَنَزَعَ يَدَه } أي أخرجها من جيبه أو من جناحه ، بدليل قوله تعالى : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} وقوله : {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} وقوله : {فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ} قال ابن عباس : وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء.
فإن قيل : بم يتعلق قوله : {لِلنَّـاظِرِينَ} .
قلنا : يتعلق بقوله : {بَيْضَآءَ} والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة ، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب. وبقي ههنا مباحث : فأولها : أن انقلاب العصا ثعباناً ، من كم وجه يدل على المعجز ؟
والثاني : أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء ؟
وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه. والثالث : أن المعجز الواحد كان كافياً ، فالجمع بينهما كان عبثاً.
وجوابه : أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك ، ومن الملحدين من قال : المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد ، وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة ، فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين ، وأظهرت فسادها ، كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ، ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها ، وصفت باليد البيضاء ، كما يقال في العرف : لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني. أي قوة كاملة ، ومرتبة ظاهرة. واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله. ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه ، فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل ؟
ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات. حكى عن قوم فرعون أنهم قالوا : {إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ} وذلك لأن السحر كان غالباً في ذلك الزمان/ ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة ، ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه. فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام. لكونه في النهاية من علم السحر ، أتى بتلك الصفة ، ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالباً للملك والرياسة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 331
فإن قيل : قوله : {إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ} حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه ، وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه ، فكيف الجمع بينهما ؟
وجوابه من وجهين : الأول : لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم ، فحكى الله تعالى قوله ثم ، وقولهم ههنا. والثاني : لعل فرعون قاله ابتداء / فتلقنه الملأ منه فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ ، فإن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة ، فكذا ههنا.
(1/2032)
وأما قوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله : {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِه } ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيباً لهم : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين : أحدهما : أن قوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} خطاب للجمع لا للواحد ، فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم. أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع. وأجيب عنه : بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيماً لشأنه ، لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (نوح : 1) {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1).
والحجة الثانية : أنه تعالى لما ذكر قوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} قال بعده : {قَالُوا أَرْجِهْ} ولا شك أن هذا كلام القوم ، وجعله جواباً عن قولهم : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} فوجب أن يكون القائل لقوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} غير الذي قالوا أرجه ، وذلك يدل على أن قوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} كلام لغير الملأ من قوم فرعون. وأجيب عنه : بأنه لا يبعد أن القوم قالوا : {إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ} ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} ثم أتبعوه بقولهم : {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولاً ، ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 331
والقول الثاني : أن قوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} من بقية كلام القوم ، واحتجوا عليه بوجهين : الأول : أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل ، فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم. والثاني : أن الرتبة معتبرة في الأمر ، فوجب أن يكون قوله : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} خطاباً من الأدنى مع الأعلى ، وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه.
وأجيب عن هذا الثاني : بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته ماذا تأمرون ؟
ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظماً لهم ومعتقداً فيهم ، ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين : أحدهما : أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده ، فإنه يقال للرئيس المطاع ما ترون في هذه الواقعة ؛ أي ما ترى أنت وحدك ، والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة. والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله. والثاني : أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته ، لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي ، والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 331
334
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع والكسائي {أَرْجِهْ} بغير همز وكسر الهاء والإشباع ، وقرأ عاصم وحمزة {أَرْجِهْ} بغير الهمز وسكون الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر بالهمز وضم الهاء ، ثم أن ابن كثير أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون. قال الواحدي : رحمه الله {قَالُوا أَرْجِهْ} مهموز وغير مهموز لغتان يقال أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته ، ومنه قوله تعالى : {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ} (التوبة : 106) {بِهَا مَن تَشَآءُ} (الأجزاب : 51) قرىء في الآيتين باللغتين ، وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز ، وسكون الهاء. فقال الفراء : هي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها وأنشد.
فيصلح اليوم ويفسده غداً
قال وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون : هذه طلحة قد أقبلت ، وأنشد.
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
ثم قال الواحدي : ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس. وقال الزجاج : هذا شعر لا نعرف قائله ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له أخطأت.
المسألة الثانية : في تفسير قوله : {أَرْجِهْ} قولان : الأول : الإرجاء التأخير فقوله : {أَرْجِهْ} أي أخره. ومعنى أخره : أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم ، فتصير عجلتك حجة عليك ، والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ، ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام.
والقول الثاني : وهو قول الكلبي وقتادة {أَرْجِهْ} احبسه. قال المحققون هذا القول ضعيف لوجهين : الأول : أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس ، والثاني : أن فرعون ما كان قادراً / على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا.
أما قوله : {وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ} ففيه مسألتان :
جزء : 14 رقم الصفحة : 334
(1/2033)
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وإلا لم يصح قوله : {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ} ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارفة ، وإنها إذا أمكنت فلا نبوة ، وإذا تعذرت فقد صحت النبوة ، وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه ، فقد سبق الاستقصاء فيه ، في سورة البقرة.
المسألة الثانية : نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي : أنه قال ختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها فعيلة لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به ، وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن ، وهي فعائل كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة.
والقول الثاني : أنها مفعلة ، وعلى هذا الوجه ، فمعنى المدينة المملوكة من دانه يدينه ، فقولنا مدينة من دان ، مثل معيشة من عاش ، وجمعها مداين على مفاعل. كمعايش ، غير مهموز ، ويكون اسماً لمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم.
والقول الثالث : قال المبرد مدينة أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه ، فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها/ واجتمع ساكنان الواو المزيدة التي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو لأنها زائدة ، وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كسروا الدال لتسلم الياء ، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء ، وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل ، ثم قال الواحدي : والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن.
المسألة الثالثة : {وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ} يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالاً يحشروا إليك ما فيها من السحرة. قال ابن عباس : وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ، ونقل القاضي عن ابن عباس ، أنهم كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلاً مجوسياً من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام ، وهي قرية بالموصل. وأقول هذا النقل مشكل ، لأن المجوس أتباع زرادشت ، وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام.
أما قوله : {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ} ففيه مسائل :
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 334
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي بكل سحار ، والباقون بكل ساحر ، فمن قرأ سحار فحجته أنه قد وصف بعليم ، ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به ، فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة في السحر ، ومن قرأ ساحر فحجته قوله : {وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ} (الأعراف : 120) {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} (الشعراء : 40) والسحرة جمع ساحر مثل كتبه وكاتب وفجرة وفاجر. واحتجوا أيضاً بقوله : {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (الأعراف : 116) واسم الفاعل من سحروا ساحر.
المسألة الثانية : الباء في قوله : {بِكُلِّ سَـاحِرٍ} يحتمل أن تكون بمعنى مع ، ويحتمل أن تكون باء التعدية. والله أعلم.
المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان ، وهذا يدل على صحة ما يقوله المتكلمون ، من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى عليه السلام كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفاً للسحر في الحقيقة ، ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب ، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة.
ثم قال تعالى : {وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـالِبِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص ، عن عاصم ، أن لنا لأجراً بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام ، ثم اختلفوا ، فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله : الاستفهام أحسن في هذا الموضع ، لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ؟
ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام ، ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} (الشعراء : 22) فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه أو تلك بالاستفهام ، وكما في قوله : {هَـاذَا رَبِّى } (الأنعام : 77 ، 78) والتقدير. أهذا ربي. وقيل : أيضاً المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجراً عظيماً ، لأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر ، والتنكير للتعظيم. كقول العرب : إن له لإبلاً ، وإن له لغنماً ، يقصدون الكثرة.
(1/2034)
جزء : 14 رقم الصفحة : 334
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : هلا قيل : {وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا } .
وجوابه : هو على تقدير : سائل سأل : ما قالوا إذ جاؤه.
فأجيب بقوله : {قَالُوا إِنَّ لَنَا لاجْرًا} أي جعلا على الغلبة.
/ فإن قيل : قوله : {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} معطوف ، وما المعطوف عليه ؟
وجوابه : أنه معطوف على محذوف ، سد مسده حرف الإيجاب ، كأنه قال إيجاباً لقولهم : إن لنا لأجراً ، نعم إن لكم لأجراً ، وإنكم لمن المقربين. أراد أني لا أقتصر بكم على الثواب ، بل أزيدكم عليه ، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي. قال المتكلمون : وهذا يدل على أن الثواب إنما يعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم ، والدليل عليه أن فرعون لما وعدهم بالأجر قرن به ما يدل على التعظيم ، وهو حصول القربة.
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً ، وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام ، وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان ، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون ، لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان ، فلم لم يقبلوا التراب ذهباً ، ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا ، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق ، وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 334
337
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء والكسائي : في باب "أما. وإما" إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة. وإذا كانت مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة. تقول في المفتوحة أما الله فاعبدوه. وأما الخمر فلا تشربوها. وأما زيد فقد خرج.
/ وأما النوع الثاني : فتقول : إذا كنت مشترطاً ، إما تعطين زيداً فإنه يشكرك ، قال الله تعالى : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ} (الأنفال : 57) وتقول في الشك لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقول في التخيير ، لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها ، وإما أن أبيعها والفرق بين ، إما إذا أتت للشك وبين أو ، أنك إذا قلت جاءت زيد أو عمرو فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت أو عمرو. فصار الشك فيهما جميعاً. فأول الإسمين في "أو" يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ، ألا ترى أنك تقول : قام أخوك وتسكت ، ثم تشك فتقول : أو أبوك ، وإذا ذكرت إما فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك وليس يجوز أن تقول ضربت إما عبد الله وتسكت وأما دخول {ءَانٍ} في قوله : {إِمَّآ أَن تُلْقِىَ} وسقوطها من قوله : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } (التوبة : 106) فقال الفراء : أدخل {ءَانٍ} في {أَمَّآ} في هذه الآية لأنها في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب ، كقول القائل : اختر ذا أو ذا ، كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي وقوله : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } ليس فيه أمر بالتخيير. ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا ، فلذلك لم يكن فيه "أن" والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {إِمَّآ أَن تُلْقِىَ} يريد عصاه {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} أي ما معنا من الحبال والعصي فمفعول الإلقاء محذوف وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر وقال أهل التصوف إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم : {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 337
واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل عى رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام : ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال : وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر. والأمر بالكفر كفر ، وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا ؟
(1/2035)
والجواب عنه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً. فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك. كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء في الجرة ، فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتة كذلك ههنا. الثاني : أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى عليه السلام أنهم / لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير/ فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم ، وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة ، وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبداً. الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر ، وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره ، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله. ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها ؛ يقول له هات ، وقل ، واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها ، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم قال تعالى : {فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه. قال القاضي : لو كان السحر حقاً ، لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ؟
فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه. قال الواحدي : بل المراد سحروا أعين الناس ، أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات ، وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي ، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً ، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها.
وأما قوله : {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} فالمعنى : أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي. قال المبرد : أرهبوهم ، والسين زائدة. قال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس ، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك : أيها الناس احذروا ، فهذا هو الاسترهاب. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى ، فأوحى الله عز وجل إليه {مُوسَى ا أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } قال المحققون : إن هذا غير جائز ، لأنه عليه السلام لما كان نبياً من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه ، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.
جزء : 14 رقم الصفحة : 337
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِه خِيفَةً مُّوسَى } (طه : 67).
قلنا : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب ، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم.
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم : {وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} روي أن السحرة قالوا قد علمنا / سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء ، فإنه لا طاقة لنا به. وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وقيل : سبعين ألفاً. وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات ، فمن مقل ومن مكثر ، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد.
ثم قال تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى ا أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي. وروى الواحدي عن ابن عباس : أنه قال : يريد وألهمنا موسى أن {أَلْقِ عَصَاكَ } .
ثم قال : {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه حذف وإضمار والتقدير {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَا فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ} .
المسألة الثانية : قرأ حفص عن عاصم {تَلْقَفْ} ساكنة اللام خفيف القاف ، والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام. وروي عن ابن كثير {تَلْقَفْ} بتشديد القاف. وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء. أما من خفف فقال ابن السكيت : اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته ، فأكلته أو ابتلعته ، ورجل لقف سريع الأخذ ، وقال اللحياني : ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة/ وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف ، وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
(1/2036)
المسألة الثالثة : قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً. واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام ، وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت. فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي ، أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين ، فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 337
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِه خِيفَةً مُّوسَى } (طه : 67).
قلنا : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب ، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم.
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم : {وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} روي أن السحرة قالوا قد علمنا / سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء ، فإنه لا طاقة لنا به. وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وقيل : سبعين ألفاً. وقيل : بضعة وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات ، فمن مقل ومن مكثر ، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد.
ثم قال تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى ا أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي. وروى الواحدي عن ابن عباس : أنه قال : يريد وألهمنا موسى أن {أَلْقِ عَصَاكَ } .
ثم قال : {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه حذف وإضمار والتقدير {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَا فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ} .
المسألة الثانية : قرأ حفص عن عاصم {تَلْقَفْ} ساكنة اللام خفيف القاف ، والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام. وروي عن ابن كثير {تَلْقَفْ} بتشديد القاف. وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء. أما من خفف فقال ابن السكيت : اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته ، فأكلته أو ابتلعته ، ورجل لقف سريع الأخذ ، وقال اللحياني : ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة/ وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف ، وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
المسألة الثالثة : قال المفسرون : لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً. واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام ، وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت. فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي ، أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين ، فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 337
المسألة الرابعة : قوله : {مَا يَأْفِكُونَ} فيه وجهان : الأول : معنى الإفك في اللغة قلب الشيء عن وجهه ، ومنه قيل للكذب إفك لأنه مقلوب عن وجهه. قال ابن عباس رضي الله عنهما : {مَا يَأْفِكُونَ} يريد يكذبون ، والمعنى : أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه وعلى هذ التقدير فلفظة {مَآ} موصوله والثاني : أن يكون {مَآ} مصدرية ، والتقدير : فإذا هي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك.
/ ثم قال تعالى : {فَوَقَعَ الْحَقُّ} قال مجاهد والحسن : ظهر. وقال الفراء : فتبين الحق من السحر. قال أهل المعاني : الوقوع : ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره ، وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا لوكان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، فلما فقدت ؛ ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره ، لا لأجل السحر ، فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر. قال القاضي قوله : {فَوَقَعَ الْحَقُّ} يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً.
فإن قيل : قوله : {فَوَقَعَ الْحَقُّ} يدل على قوة هذا الظهور ، فكان قوله : {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تكريراً من غير فائدة
(1/2037)
قلنا : المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي ، فعند ذلك ظهرت الغلبة ، فلهذا قال تعالى : {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} لأنه لا غلبة أظهر من ذلك {وَانقَلَبُوا صَـاغِرِينَ} لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته ، على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلاً قال الواحدي : لفظة {مَآ} في قوله : {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يجوز أن تكون بمعنى "الذي" فيكون المعنى بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر أي زال وذهب بفقدانها ويجوز أن تكون بمعنى المصدر. كأنه قيل بطل عملهم ، والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 337
338
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر ، بلهو أمر إلهي ، فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى ، قال المتكلمون : وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم ، وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه ، فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر ، علموا أنه من المعجزات الإلهية ، لا من جنس التمويهات البشرية. ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال ، لأنهم كانوا يقولون : لعله أكمل / منا في علم السحر ، فقدر على ما عجزنا عنه ، فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر. فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان. فإذا كان حال علم السحر كذلك ، فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله تعالى : {وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ} قالوا : دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين ، وما ذاك إلا الله رب العالمين. فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى. قال مقاتل : ألقاهم الله تعالى ساجدين. وقال المعتزلة : الجواب عنه من وجوه : الأول : أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة. لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين ؛ فصار كأن ملقياً ألقاهم. الثاني : قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. الثالث : أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود ، إلا أنا نقول : إن ذلك الملقي هو أنفسهم.
والجواب : أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى ، وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال. ثم أن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل. وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسنداً إلى الله تعالى ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر أولاً أنهم صاروا ساجدين ، ثم ذكر بعده أنهم قالوا : {بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ} فما الفائدة فيه مع أن الأيمان يجب أن يكون متقدماً على السجود ؟
وجوابه من وجوه : الأول : أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السجود شكراً لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان ، وعلامة أيضاً على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع.
جزء : 14 رقم الصفحة : 338
الوجه الثاني : لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا : {بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ} وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والوجه الصحيح هو الأول.
المسألة الرابعة : احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا : الدليل على أن معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي إن أولئك السحرة لما قالوا : {بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ} لم يتم إيمانهم فلما قالوا : {رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ} تم إيمانهم وذلك يدل على قولنا.
وأجاب العلماء عنه : بأنهم لما قالوا : {بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ} قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا : / {رَبِّ مُوسَى } قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا : {وَهَـارُونَ} زالت الشبهة ، وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء/ وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا برب العالمين ، وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهرون. وقيل : خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98).
جزء : 14 رقم الصفحة : 338
340
في الآية مسائل :
(1/2038)
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية حفص {أَمِنتُمْ} بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه {وَالشُّعَرَآءُ} وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام. قال الفراء : أما قراءة حفص {أَمِنتُمْ} بلفظ الخبر من غير مد ، فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم ، وأما القراءة بالهمزتين فأصله على وزن أفعلتم.
المسألة الثانية : اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم. خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام ، لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام.
/ فالشبهة الأولى : قوله : {إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ} والمعنى : أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل ، بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك ، فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق.
والشبهة الثانية : أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ، ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب. وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم : أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه السلام : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق ؟
قال الساحر : لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر ، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما ، فهذا هو قول فرعون {إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل ، ويحتمل أيضاً أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين ، ليصير صارفاً للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام. قال القاضي : وقوله : {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية ، لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره ، ثم قال : وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين.
جزء : 14 رقم الصفحة : 340
أما قوله : {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} لا شبهة في أنه ابتداء وعيد ، ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل ، بل فسره فقال : {لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى ، وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين ، أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى ، أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى ، وأما الصلب فمعروف. فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين ، واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه ؟
وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين. واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه : الأول : أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَه لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ} (الأعراف : 127) ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم ، لذكرهم أيضاً ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم. ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لأفرادهم بالذكر. والثاني : أن قوله تعالى حكاية عنهم {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم ، حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده. الثالث : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وهذا هو الأظهر / مبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام. وقال آخرون : إنه لم يقع من فرعون ذلك ، بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم : {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب.
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه ، وهو قولهم لفرعون : {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم ، بل يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل. يقال : نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء ، وقد مر عند قوله : {قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} (المائدة : 59) قال ابن عباس : يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا. والمراد : ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 340
(1/2039)
ثم قالوا : {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} معنى الإفراغ في اللغة الصب. يقال : درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب ، وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ ، فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإلأناء. قال مجاهد : المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع ، وفي الآية فوائد :
الفائدة الأولى : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أكمل من قوله : أنزل علينا صبراً ، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية ، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه.
والفائدة الثانية : أن قوله {صَبْرًا} مذكور بصيغة التنكير ، وذلك يدل على الكمال والتمام ، أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ} (البقرة : 96) أي على حياة كاملة تامة.
والفائدة الثالثة : إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى ، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه. قال القاضي : إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر ، وذلك معلوم في الأدعية.
والجواب : هذا عدول عن الظاهر ، ثم الدليل يأباه ، وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل ، فيكون الكل من الله تعالى.
وأما قوله : {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ، ووجه الاستدلال به ظاهر. والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق.
المسألة الثانية : احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد. فقال إنهم قالوا أولاً {مِنَّآ إِلا أَنْ} ثم قالوا ثانياً : {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان ، وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 340
342
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه ، بل خلى سبيله فقال قومه له : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَه لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ} .
واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك ، فحملوه على أخذه وحبسه. وقوله : {لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ} أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه ، وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك.
أما قوله : {وَيَذَرَكَ} فالقراءة المشهورة فيه {وَيَذَرَكَ} بالنصب. وذكر صاحب "الكشاف" : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون قوله : {وَيَذَرَكَ} عطفاً على قوله : {لِيُفْسِدُوا } لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم ، كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته ، فكأنه تركهم لذلك. وثانيها : أنه جواب للاستفهام بالواو ، وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني
وبينكم المودة والآخاء ؟
والتقدير : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك. قال الزجاج : والمعنى / أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى ؟
وثالثها : النصب بإضمار أن تقديره : أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك ؟
قال صاحب "الكشاف" : وقرىء {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } بالرفع عطفاً على {أَتَذَرُ} بمعنى أتذره ويذرك ؟
أي انطلق له ، وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك ؟
وقرأ الحسن {وَيَذَرَكَ} بالجزم ، وقرأ أنس بالنون والنصب ، أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها.
جزء : 14 رقم الصفحة : 342
(1/2040)
وأما قوله : {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } قال أبو بكر الأنباري : كان ابن عمر ينكر قراءة العامة ، ويقرأ إلاهتك أي عبادتك ، ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد ، قال ابن عباس : أما قراءة العامة {وَءَالِهَتَكَ } فالمراد جمع إله ، وعلى هذا التقدير : فقد اختلفوا فيه. فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً ، وأمرهم بعبادتها. وقال : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } ورب هذه الأصنام ، فذلك قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } وقال الحسن : كان فرعون يعبد الأصنام. وأقول : الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا : إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل. بل الأقرب أن يقال إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع ، وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب ، وأما المجدي في هذا العلم للخلق ، ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه ، فقوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم. وقوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} (القصص : 38) أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ، ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير : فلا امتناع في حمل قوله تعالى : {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } على ظاهره ، فهذا ما عندي في هذا الباب. والله أعلم.
واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام ، وحبسه ، وإنزال أنواع العذاب به ، فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفاً من موسى عليه السلام. ولكنه قال : {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْىِا نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير {سَنُقَتِّلُ} بفتح النون والتخفيف ، والباقون بضم النون والتشديد على التكثير. يعني أبناء بني إسرائيل ومن آمن بموسى عليه السلام.
جزء : 14 رقم الصفحة : 342
المسألة الثانية : أن موسى عليه السلام إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن / نسعى في تقليل رهطه وشيعته ، وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم. ثم بين أنه قادر على ذلك بقوله : {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ} والمقصود منه ترك موسى وقومه ، لا من عجز وخوف ، ولو أراد به البطش لقدر عليه ، كأنه يوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه ولعدم خوفه منه. واختلف المفسرون ، فمنهم من قال : كان يفعل ذلك كما فعله ابتداء عند ولادة موسى ، ومنهم من قال بل منع منه واتفق المفسرون على أن هذا التهديد وقع في غير الزمان الأول ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } وهذا يدل على أن الذي قاله الملأ لفرعون ، والذي قال فرعون لهم قد عرفه موسى عليه السلام ووصل إليه ، فعند ذل فال لقومه {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ا إِنَّ الارْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ا وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فههنا أمرهم بشيئين وبشرهم بشيئين. أما الذان أمر موسى عليه السلام بهما ؛ فالأول : الاستعانة بالله تعالى. والثاني : الصبر على بلاء الله. وإنما أمرهم أولاً بالاستعانة بالله وذلك لأن من عرف أنه لا مدبر في العالم إلا الله تعالى انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء ، ولأنه يرى عند نزول البلاء أنه إنما حصل بقضاء ا تعالى وتقديره. واستعداده بمشاهدة قضاء الله ، خفف عليه أنواع البلاء ، وأما الذان بشر بهما ؛ فالأول : قوله : {إِنَّ الارْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } وهذا إطماع من موسى عليه السلام قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه ، وذلك معنى الإرث ، وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف. والثاني : قوله : {وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فقيل : المراد أمر الآخرة فقط ، وقيل : المراد أمر الدنيا فقط وهو : الفتح ، والظفر ، والنصر على الأعداء ، وقيل المراد مجموع الأمرين ، وقوله : {لِّلْمُتَّقِينَ} إشارة إلى أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله يعينه في الدنيا والآخرة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 342
343
(1/2041)
اعلم أن قوم موسى عليه السلام ، لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا ، وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك ، لأن بني إسرائيل كانوا قبل / مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين ، فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ، فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب ، فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم ، فقالوا هذا الكلام.
فإن قيل : أليس هذا القول يدل على أنهم كرهوا مجيء موسى عليه السلام وذلك يوجب كفرهم ؟
والجواب : أن موسى عليه السلام لما جاء ، وعدهم بزوال تلك المضار فظنوا أنها تزول على الفور. فلما رأوا أنها ما زالت ، رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد فبين موسى عليه السلام أن الوعد بإزالتها لا يوجب الوعد بإزالتها في الحال ، وبين لهم أنه تعالى سينجز لهم ذلك الوعد في الوقت الذي قدره له ، والحاصل أن هذا ما كان بنفرة عن مجيء موسى عليه السلام بالرسالة ، بل استكشافاً لكيفية ذلك الوعد. والله أعلم.
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك قال موسى عليه السلام : {عَسَى رَبُّكُمْ} قال سيبويه : {عَسَى } طمع وإشفاق. قال الزجاج : وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب.
ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأن لفظ {عَسَى } ههنا ليس كلام الله تعالى بل هو حكاية عن كلام موسى عليه السلام ، إلا أنا نقول مثل هذا الكلام إذا صدر عن رسول ظهرت حجة نبوته عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الباهرة أفاد قوة النفس وأزال ما خامرها من الانكسار والضعف فقوى موسى عليه السلام قلوبهم بهذا القول وحقق عندهم الوعد ليتمسكوا بالصبر ويتركوا الجزع المذموم ثم بين بقوله : {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى.
واعلم أن النظر قد يراد به النظر الذي يفيد العلم. وهو على الله محال ، وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته. وهو أيضاً على الله محال ، وقد يراد به الانتظار. وهو أيضاً على الله محال ، وقد يراد به الرؤية ، ويجب حمل اللفظ ههنا عليها. قال الزجاج : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم ، وإنما يجازيهم على ما يقع منهم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 343
فإن قيل : إذا حملتم هذا النظر على الرؤية لزم الإشكال ، لأن الفاء في قوله : {فَيَنظُرَ} للتعقيب فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال ، وذلك يوجب حدوث صفة الله تعالى.
قلنا : تعلق رؤية الله تعالى بذلك الشيء نسبة حادثة والنسب والإضافات لا وجود لها في / الأعيان فلم يلزم حدوث الصفة الحقيقية في ذات الله تعالى. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 343
345
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} (الأعراف : 129) لا جرم بدأ ههنا بذكر ما أنزله بفرعون وبقومه من المحن حالاً بعد حال ، إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيهاً للمكلفين على الزجر عن الكفر والتمسك بتكذيب الرسل ، خوفاً من نزول هذه المحن بهم. فقال : {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : السنين جميع السنة قال أبو علي الفارسي : السنة على معنيين : أحدهما : يراد بها ـ الحول والعام ـ والآخر يراد بها ـ الجدب ـ وهو خلاف الخصب فمما أريد به الجدب هذه الآية وقوله صلى الله عليه وسلّم : "اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف" وقول عمر رضي الله عنه : إنا لا نقع في عام السنة ، فلما كانت السنة يعني بها الجدب ، اشتقوا منها كما يشتق من الجدب. ويقال : أسنتوا ، كما يقال أجدبوا. قال الشاعر :
ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو زيد : بعض العرب تقول ، هذه سنين ورأيت سنيناً ، فتعرب النون. ونحوه. قال الفراء : ومنه قول الشاعر :
دعاني من نجد فإن سنينه
لعبن بنا وشيبننا مردا
قال الزجاج : السنين في كلام العرب الجدوب ، يقال مستهم السنة ومعناه : جدب السنة. وشدة السنة.
إذا عرفت هذا فنقول : قال المفسرون : {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ} يريد الجوع والقحط عاماً بعد عام ، فالسنون لأهل البوادي {وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ} لأهل القرى.
ثم قال تعالى : {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : ظاهر الآية أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار لأجل أن يرجعوا عن طريقة التمرد والعناد إلى الانقياد والعبودية ، وذلك لأن أحوال الشدة ترقق القلب وترغب فيما عند الله ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاه } (ا"سراء : 67) وقوله : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} (فصلت : 51).
(1/2042)
جزء : 14 رقم الصفحة : 345
المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية تدل على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكروا ، لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر.
أجاب الواحدي عنه : بأنه قد جاء لفظ الابتلاء والاختبار في القرآن ، لا بمعنى أنه تعالى يمتحنهم ، لأن ذلك على الله تعالى محال ، بل بمعنى أنه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء والامتحان ، فكذا ههنا. والله أعلم.
ثم بين تعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال : {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَـاذِه } قال ابن عباس : يريد بالحسنة العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة {وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ} أي نحن مستحقون على العادة التي جرت من كثرة نعمنا وسعة أرزاقنا ، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه. وقوله : {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ } يريد القحط والجدب والمرض والضر والبلاء {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَه ا } أي يتشاءموا به. ويقولوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه ، والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين وقوله : {يَطَّيَّرُوا } هو في الأصل يتطيروا ، أدغمت التاء في الطاء ، لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا وقوله : {أَلا إِنَّمَا طَـا اـاِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} في الطائر قولان :
القول الأول : قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله تعالى أي من قبل الله أي إنما جاءهم الشر بقضاء الله وحكمه ، فالطائر ههنا الشؤم. ومثله قوله تعالى في قصة ثمود : {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَا قَالَ طَـا اـاِرُكُمْ عِندَ اللَّه } قال الفراء : وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة ، فقالوا غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا ، قال الأزهري : وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة ، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها ، والتطير ببارحها ، ونعيق غربانها ، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها ، فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها.
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طيرتهم باطلة ، فقال : {لا} وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتفاءل ، ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة ، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد ، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الفأل وأبطل الطيرة قال محمد الرازي رحمه الله : / ولا بد من ذكر فرق بين البابين. والأقرب أن يقال : إن الأرواح الإنسانية أصفى وأقوى من الأرواح البهيمية والطيرية. فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير ، وحركات البهائم ، فإن أرواحها ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال.
جزء : 14 رقم الصفحة : 345
القول الثاني : في تفسير الطائر قال أبو عبيدة : {بِمُوسَى وَمَن مَّعَه ا أَلا إِنَّمَا طَـا اـاِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أي حظهم. وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إنما طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم والعرب تقول : أطرت المال وطيرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه. أي حصل له ذلك السهم.
واعلم أن على كلا القولين ، المعنى : أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن الكل من الله تعالى ، وذلك لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطونها عن قضاء الله تعالى وتقديره ، والحق أن الكل من الله ، لأن كل موجود ، فهو إما واجب الوجود لذاته أو ممكن لذاته ، والواجب واحد وما سواه ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذته ، وبهذا الطريق يكون الكل من الله فإسنادها إلى غير الله يكون جهلاً بكمال الله تعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 345
347
اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره ، فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أنواع الجهالة والضلالة ، وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر ، وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم. وقالوا لموسى : إنا لا نقبل شيئاً منها ألبتة. وفي الآية مسائل :
(1/2043)
المسألة الأولى : في كلمة {مَهْمَا} قولان : الأول : أن أصلها "ماما" الأولى هي "ما" الجزاء ، والثانية هي التي تزاد توكيداً للجزاء ، كما تزاد في سائر حروف الجزاء ، كقولهم : إما ومما وكيفما قال الله تعالى : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} (الأنفال : 59) وهو كقولك : إن تثقفنهم ، ثم أبدلوا من ألف "ما" الأولى "ها" كراهة / لتكرار اللفظ ، فصار "مهما" هذا قول الخليل والبصريين. والثاني : وهو قول الكسائي الأصل "مه" التي بمعنى الكف ، أي أكفف دخلت على "ما" التي للجزاء كأنهم قالوا أكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا.
جزء : 14 رقم الصفحة : 347
المسألة الثانية : قال ابن عباس : أن القوم لما قالوا لموسى : مهما أتيتنا بآية من ربك ، فهي عندنا من باب السحر ، ونحن لا نؤمن بها ألبتة ، وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً ، فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له ، فأرسل عليهم الطوفان الدائم ليلاً ونهاراً سبتاً إلى سبت ، حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره وجاءهم الغرق ، فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به ، فأرسل إلى موسى عليه السلام وقال : اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحراً واحداً ، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك ، فأزال ا لله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض ، وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط. فقالوا : هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر. فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل النبات وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ، ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً ، فأكلت النبات ، فصرخ أهل مصر ، فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر ، فنظر أهل مصر إلى أن بقية من كلئهم وزرعهم تكفيهم. فقالوا : هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك. فأرسل الله بعد ذلك عليهم القمل ، سبتاً إلى سبت ، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته ، فصاحوا وسأل موسى عليه السلام ربه ، فأرسل الله عليها ريحاً حارة فأحرقتها ، واحتملتها الريح فألقتها في البحر ، فلم يؤمنوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع بعد ذلك فخرج من البحر مثل الليل الدامس ووقع في الثياب والأطعمة ، فكان الرجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضفادع ، فصرخوا إلى موسى عليه السلام ، وحلفوا بإلهه لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمنن بك ، فدعا الله تعالى فأمات الضفادع ، وأرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر ، ثم أظهروا الكفر والفساد ، فأرسل الله عليهم الدم فجرت أنهارهم دماً فلم يقدروا على الماء العذب ، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب حتى بلغ منهم الجهد ، فصرخوا وركب فرعون وأشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دماً ومكثوا سبعة أيام في ذل لا يشربون إلا الدم. فقال فرعون : {لَـاـاِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} (الأعراف : 134) إلى آخر الآية ، فهذا هو القول المرضي عند أكثر المفسرين ، وقد وقع في أكثرها اختلافات. أما الطوفان ، فقال الزجاج : الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً محيطاً مطبقاً بالقوم كلهم ، كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة ، / فإنه يقال له طوفان ، وكذلك القتل الذريع طوفان ، والموت الجارف طوفان. وقال الأخفش : هو فعلان من الطوف ، لأنه يطوف بالشيء حتى يعم. قال : وواحده في القياس طوفانه. وقال المبرد : الطوفان مصدر مثل "الرجحان والنقصان" فلا حاجة إلى أن يطلب له واحداً.
جزء : 14 رقم الصفحة : 347
(1/2044)
إذا عرفت هدا فنقول : الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس ، وقد روى عطاء عنه أنه قال : الطوفان هو الموت ، وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الطوفان هو الموت". وهذا القول مشكل لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة ، بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت ، مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما ، وأما الجراد ، فهو معروف والواحدة جرادة ، ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه. وقال اللحياني : أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد ، وإذا أصاب الجراد الزرع قيل جرد الزرع وأصل هذا كله من الجرد ، وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق ، ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره جرد وأرض جردة لا نبات فيها ، وأما القمل ، فقد اختلفوا فيه. فقيل هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له ، وهي بنات الجراد ، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً. فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ، ولزم جلودهم كأنه الجدري ، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم ، فقالوا : قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم. وعزة فرعون لا نؤمن بك أبداً ، وقرأ الحسن {وَالْقُمَّلَ} بفتح القاف ، وسكون الميم. يريد القمل المعروف. وأما الدم فما ذكرناه. ونقل صاحب "الكشاف" أنه قيل : سلط الله عليهم الرعاف. وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات.
وأما قوله تعالى : {مُفَصَّلَـاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا } ففيه وجوه : أحدها : {مُفَصَّلَـاتٍ} أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وثانيها : {مُفَصَّلَـاتٍ} أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة ؟
والدليل : أو يستمرون على الخلاف والتقليد. قال المفسرون : كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت ، وبين العذاب إلى العذاب شهر ، فهذا معنى قوله : {مُفَصَّلَـاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا } قال الزجاج : وقوله : {ءَايَـاتُ} منصوبة على الحال. وقوله : {فَاسْتَكْبَرُوا } يريد عن عبادة الله {وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} مصرين على الجرم والذنب. ونقل أيضاً أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون ، وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ ، ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز ، واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر.
/
جزء : 14 رقم الصفحة : 347
فإن قال قائل لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات ، فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها ؟
وأيضاً فقوم محمد صلى الله عليه وسلّم طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق.
والجواب : أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح ، فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة ، وعلم من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم أن أحداً منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفراً وعناداً ، فظهر الفرق. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 347
348
اعلم أنا ذكرنا معنى الرجز عند قوله : {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ} (البقرة : 59) في سورة البقرة وهو اسم للعذاب ، ثم إنهم اختلفوا في المراد بهذا الرجز فقال بعضهم : إنه عبارة عن الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب الذي كان نازلاً بهم. وقال سعيد بن جبير {الرِّجْزَ} معناه : الطاعون وهو العذاب الذي أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد ، فتركوا غير مدفونين ، واعلم أن القول الأول أقوى لأن لفظ {الرِّجْزَ} لفظ مفرد محلي بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق ، وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدم ذكرها ، وأما غيرها فمشكوك فيه ، فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى بين ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة ، لأنهم تارة يكذبون موسى عليه السلام ، وأخرى عند الشدائد يفزعون إليه نزع الأمة إلى نبيها ويسألونه أن يسأل ربه رفع ذلك العذاب عنهم ، وذلك يقتضي أنهم سلموا إليه كونه نبياً مجاب الدعوة ، ثم بعد زوال تلك الشدائد يعودون إلى تكذيبه والطعن فيه ، وأنه إنما يصل إلى مطالبة بسحره ، فمن هذا الوجه يظهر / أنهم يناقضون أنفسهم في هذه الأقاويل.
وأما قوله تعالى حكاية عنهم : {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } فقال صاحب "الكشاف" : ما في قوله : {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} مصدرية والمعنى : بعهده عندك وهو النبوة ، وفي هذه الباء وجهان :
الوجه الأول : أنها متعلقة بقوله : {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} والتقدير {ادْعُ لَنَا} متوسلاً إليه بعهده عندك.
(1/2045)
والوجه الثاني : في هذه الباء أن تكون قسماً وجوابها قوله : {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} أي أقسمنا بعهد الله عندك {لَـاـاِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} وقوله : {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسرائيل } كانوا قد أخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد فوعدوا موسى عليه السلام على دعائه بكشف العذاب عنهم الإيمان به والنخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين شاء. وقوله : {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى ا أَجَلٍ هُم بَـالِغُوهُ} المعنى أنا ما أزلنا عنهم العذاب مطلقاً ، وما كشفنا عنهم الرجز في جميع الوقائع ، بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين ، وعند ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به وقوله : {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} هو جواب لما يعني فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث وبادروه ولم يؤخروه كما كشفنا عنهم نكثوا.
جزء : 14 رقم الصفحة : 348
348
واعلم أن المعنى أنه تعالى ، لما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم ، ثم بلغوا الأجل المؤقت انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق ، والانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب ، واليم البحر ، قال صاحب "الكشاف" : اليم البحر الذي لا يدرك قعره ، وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه ، واشتقاقه من التيمم ، لأن المستقين به يقصدونه وبين تعالى بقوله : {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ} أن ذلك الانتقام هو لذلك التكذيب. وقوله : {وَكَانُوا عَنْهَا غَـافِلِينَ} اختلفوا في الكناية في عنها فقيل أنها عائدة إلى النقمة التي دل عليها قوله : {انتَقَمْنَا} والمعنى وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين ، وقيل الكناية عائدة إلى الآيات وهو اختيار الزجاج. قال : لأنهم كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم.
فإن قيل : الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة.
/ قلنا : المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها ، فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل : أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة ؟
فكيف يكون الانتقام لهذين دون غيرهما.
قلنا : ليس في الآية بيان أنه تعالى انتقم منهم لهذين معاً دلالة على نفي ما عداه ، والآية تدل على أن الواجب في الآيات النظر فيها ، ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها ، وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 348
349
اعلم أن موسى عليه السلام كان قد ذكر لبني إسرائيل قوله : {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارْضِ} (الأعراف : 129) فههنا لما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة ، بين ما فعله بالمؤمنين من الخيرات ، وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا} والمراد من ذلك الاستضعاف أنه كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ، واختلفوا في معنى مشارق الأرض ومغاربها ، فبعضهم حمله على مشارق أرض الشام. ومصر ومغاربها ، لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون لعنه الله وأيضاً قوله : {الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا} المراد باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام.
جزء : 14 رقم الصفحة : 349
(1/2046)
والقول الثاني : المراد جملة الأرض وذلك لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان قد ملك الأرض ، وهذا يدل على أن الأرض ههنا اسم الجنس. وقوله : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إسرائيل } قيل المراد من {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ} قوله : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الارْضِ} إلى قوله : {مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص : 6) والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ، ومعنى تمت على بني إسرائيل ، مضت عليهم واستمرت ، من قولهم تم عليك الأمر إذا مضى عليك. وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض ، وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأن الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق. فإذا حصل الموعود به فقد تم لك الوعد وكمل وقوله : {بِمَا صَبَرُوا } أي إنما حصل ذلك التمام بسبب صبرهم ، وحسبك به حاثاً على الصبر ، ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج ، وقرأ عاصم في رواية {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى } ونظيره {مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } (النجم : 18) وقوله : {وَدَمَّرْنَا} قال الليث : الدمار الهلاك التام. يقال : دمر القوم يدمرون دماراً أي هلكوا ، وقوله : {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُه } قال ابن عباس يريد الصانع {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} قال الزجاج : يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني ، قيل : وما كانوا يعرشون من الجنات ، ومنه قوله تعالى : {جَنَّـاتٍ مَّعْرُوشَـاتٍ} (الأنعام : 141) وقيل : {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء ، كصرح هامان وفرعون. وقرىء يعرشون بالكسر والضم ، وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح ، قال صاحب "الكشاف" : وبلغني أنه قرأ بعض الناس من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً منه ، وهذا آخر ما ذكره الله تعالى من قصة فرعون وقومه وتكذيبهم بآيات الله تعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 349
351
اعلم أنه تعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة العظمى ، وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة ، ولما بين تعالى في سائر السور كيف سيرهم في البحر مع السلامة ، وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا وجعله يبساً بين أن بني إسرائيل لما شاهدوا قوماً يعكفون على عبادة أصنامهم ، جهلوا وارتدوا وقالوا : / لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، ولا شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون ، ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده ، وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف.
أما قوله تعالى : {يَعْلَمُونَ * وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ} يقال : جاوز الوادي. إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره ، عبر به وقرىء بمعنى : أجزنا. يقال : أجاز المكان وجوزه بمعنى : جازه {الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى ا أَصْنَامٍ لَّهُمْ } قال الزجاج : يواظبون عليها ويلازمونها. يقال : لكل من لزم شيئاً وواظب عليه ، عكف يعكف ويعكف ، ومن هذا قيل لملازم المسجد متعكف. وقال قتادة : كان أولئك القوم من لخم ، وكانوا نزولاً بالريف. قال ابن جريج : كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل.
ثم حكى تعالى عنهم أنهم {قَالُوا يَـامُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وخالقاً ومدبراً ، لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره : لا يمكن أن يكون خالقاً للعالم ومدبراً له ، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3).
جزء : 14 رقم الصفحة : 351
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : لم كان هذا القول كفراً ؟
فنقول : أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر ، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم ، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والأكرام.
فإن قيل : فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم ؟
قلنا : بل من بعضهم ، لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل.
(1/2047)
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل ، وخلق الأشياء المنتفع بها ، والقادر على هذه الآشياء ليس إلا الله تعالى ، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به.
/ فإن قالوا : إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى/ فما الوجه في قبح هذه العبادة ؟
قلنا : فعلى هذا التقدير : لم يتخذوها آلهة أصلاً وإنما جعلوها كالقبلة ، وذلك ينافي قولهم {اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } واعلم أن {مَآ} في قوله : {كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة ، ويجوز أن تكون موصولة ، وفي قولهم : {لَهُمْ} ضمير يعود إليه ، و{ءَالِهَةً} بدل من ذلك الضمير تقديره : كالذي هو لهم آلهة.
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال : {إِنَّ هَـا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} قال الليث : التبار الهلاك. يقال : تبر الشيء يتبر تباراً والتتبير الإهلاك ، ومنه قوله تعالى : {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} ويقال للذهب المنكسر المتفتت : التبر فقوله : {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أي مهلك مدمر ، وقوله : {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قيل : البطلان عدم الشيء ، إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده ، والمراد من بطلان عملهم : أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر ، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سبباً لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها. فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى ، تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سبباً لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى ؛ وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل ، وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه ، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب ، والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب ، فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 351
351
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له : {اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوهاً : أولها : أنه حكم عليهم بالجهل فقال : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وثانيها : أنه قال : {إِنَّ هَـا ؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أي سبب للخسران والهلاك. وثالثها : أنه قال : {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعاً في الدنيا والدين. ورابعها : ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال : {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـاهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} والمعنى : أن الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ ، بل الإله هو الله الذي يكون / قادراً على الأنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم ، وهو المراد من قوله : {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته ، فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره. قال الواحدي رحمه الله : يقال : بغيت فلاناً شيئاً وبغيت له. قال تعالى : {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (التوبة : 47) أي يبغون لكم ، وفي انتصاب قوله : {إِلَـاهًا} وجهان : أحدهما : الحال كأنه قيل : أطلب لكم غير الله معبوداً ، ونصب {غَيْرِ} في هذا الوجه على المفعول به. الثاني : أن ينصب {إِلَـاهًا} على المفعول به {وَغَيْرُ} على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول : أبغيكم إلها غير الله. وقوله : {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} فيه قولان : الأول : المراد أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم. الثاني : أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين ، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال ، ومثاله : رجل تعلم علماً واحداً وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم ، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد ، إلا أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 351
351
واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة ، والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه ، تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة ، فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 351
353
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو : {وَعَدَنَا} بغير ألف ، والباقون {وَعَدَنَا} بالألف على المفاعلة ، وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة.
(1/2048)
المسألة الثانية : اعلم أنه روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر : أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فهذه الآية في بيان كيفية نزول التوراة ، واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة : {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى ا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية.
فإن قيل : وما الحكمة ههنا في ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر ؟
وأيضاً فقوله : {فَتَمَّ مِيقَـاتُ رَبِّه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } كلام عار عن الفائدة ، لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين.
قلنا : أما الجواب عن السؤال الأول فهو من وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى أمر موسى عليه السلام بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب.
والوجه الثاني : في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي ، وكلمه أيضاً فيه. فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.
والوجه الثالث : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى عليه السلام بادر إلى ميقات ربه قبل قومه ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَـامُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى ا أَثَرِى} فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين ، فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري ، رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى ، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى ، فتم أربعون ليلة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 353
والوجه الرابع : قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده ، والوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى ، فصار الوعد مختلفاً لاختلاف حال الحاضرين. والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني : أنه تعالى إنما قال : {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} إزالة التوهم أن ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين ، كأنه كان عشرين ، ثم أتمة بعشر ، فصار ثلاثين ، فأزال هذا الإيهام.
/ أما قوله تعالى : {فَتَمَّ مِيقَـاتُ رَبِّه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } ففيه بحثان :
البحث الأول : الفرق بين الميقات وبين الوقت ، أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال ، والوقت وقت للشيء قدرة مقدر أولاً.
والبحث الثاني : قوله : {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد.
وأما قوله : {وَقَالَ مُوسَى لاخِيهِ هَـارُونَ} فقوله : {هَـارُونَ} عطف بيان لأخيه وقرىء بالضم على النداء {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى} كن خليفتي فيهم {وَأَصْلَحَ} وكن مصلحاً أو {وَأَصْلَحَ} ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
فإن قيل : إن هرون كان شريك موسى عليه السلام في النبوة ، فكيف جعله خليفة لنفسه ، فإن شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته ورد الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة.
قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم ، إلا أنه كان موسى عليه السلام هو الأصل في تلك النبوة.
فإن قيل : لما كان هرون نبياً والنبي لا يفعل إلا الأصلاح ، فكيف وصاه بالإصلاح.
قلنا : المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله : {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } (البقرة : 260) والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 353
359
اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه ، وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية.
(1/2049)
/ المسألة الأولى : دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال : كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة ، ومنهم من قال : كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات. أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون ، انفقوا على أنه يجب كونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن. وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم ، وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه ، وذلك أني قلت يوماً إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي ، والأول : باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كان حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيداً ألبتة ، والثاني : يوجب كونها حادثة ، لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه ، والثاني حادث ، لأن كل ما كان وجوده متأخراً عن وجوده غيره فهو حادث ، فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث.
إذا ثبت هذا فنقول للناس ههنا مذهبان : الأول : أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى ، وهو قول الكرامية. الثاني : أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير ، وهو قول المعتزلة.
أما القول الثاني : وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات ، فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة. وتلك الصفة قديمة أزلية. والقائلون بهذا القول اختلفوا في الشيء الذي سمعه موسى عليه السلام. فقالت الأشعرية : إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية قالوا : وكما لا يتعذر رؤية ذاته ، مع أن ذاته ليست جسماً ولا عرضاً ، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً. وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة ، فأما الصفة الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك ما سمعه موسى عليه السلام ألبتة ، فهذا تفصيل مذاهب الناس في سماع كلام الله تعالى.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
المسألة الثانية : اختلفوا في أنه تعالى كلم موسى وحده أو كلمه مع أقوام آخرين وظاهر الآية يدل على الأول. لأن قوله تعالى : {وَكَلَّمَه رَبُّه } يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يداً على نفي الحكم عما عداه ، وقال القاضي : بل السبعون المختارون للميقات سمعوا أيضاً كلام الله تعالى. قال : لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى / عليه السلام عما يجري هناك ، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام وأيضاً فإن تكليم الله تعالى موسى عليه السلام على هذا الوجه معجز ، وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لا بد من ظهور هذا المعنى لغيره.
(1/2050)
المسألة الثالثة : قال أصحابنا هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه. الأول : أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية/ ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى ، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وحيث سألها ؛ علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى. قال القاضي : الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة : أحدها : ما قاله الحسن وغيره : أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى ، قال ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفاً بربه وبعدله وتوحيده ، فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السمع. وثانيها : أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه ، فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) فسأل موسى الرؤية لا لنفسه ، فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه ، وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم. وثالثها : أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار وأهل هذا التأويل مختلفون ، فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية. ومنهم من يقول : بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته ، وإن كانت من فعله ، كما نقوله في معرفة أهل الآخرة ، وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي. ورابعها : المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي. وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء ، وهو الذي ذكره أو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية. قال أصحابنا أما الوجه الأول ، فضعيف ويدل عليه وجوه : الأول : إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة ، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك ، كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة ، وذلك باطل بإجماع المسلمين. الثاني : أن المعتزلة يدعون العلم الضروري ، بأن كل ما كان مرئياً ، فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل. فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم. فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئياً ، يوجب تجويز كونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة ، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة ، فيلزمهم كون / موسى عليه السلام كافراً ، وذلك لا يقوله عاقل. وإن كان الثاني فنقول : لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل علماً بديهياً ضرورياً ، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلاً لموسى عليه السلام ، لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية ، ومن كان كذلك فهو مجنون ، فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ، ما كان كامل العقل بل كان مجنوناً وذلك كفر بإجماع الأمة ، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ، ما كان عالماً بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين ، فكان القول به باطلاً والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
وأما التأويل الثاني : وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه ، فهو أيضاً فاسد ويدل عليه وجوه : الأول : أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى : أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله تعالى : لن يروني ، فلما لم يكن كذلك ، بطل هذا التأويل. والثاني : أنه لو كان هذا السؤال طلباً للمحال ، لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا : {اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } (الأعراف : 138) منعهم عنه بقوله : {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف : 138) والثالث : أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته/ وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال ، فأما أن لا يذكر شيئاً من تلك الدلائل ألبتة ، مع أن ذكرها كان فرضاً مضيقاً ، كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام ، وأنه لا يجوز. والرابع : أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية ، إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام. أو ما آمنوا بها ، فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل ، مجرد قول موسى عليه السلام ، فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام ، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لا نسلم أن الله منع من الرؤية ، بل هذا قول افتريته على الله تعالى ، فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام {أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
(1/2051)
وأما التأويل الثالث : فبعيد أيضاً ويدل عليه وجوه : الأول : أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمراً أنظر إلى أمرك ، ثم حذف المفعول والمضاف ، إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا ، وهو قوله : {أَنظُرْ إِلَيْكَا قَالَ لَن تَرَانِى} (الأعراف : 143) فسوف تراني {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف. الثاني : أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل ، فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة. والثالث : أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة. ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول : أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود ؟
ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد. الرابع : أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده ، لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات / ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك ، فثبت أن هذا القول فاسد. وأما التأويل الرابع وهو أن يقال : المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه ، فهو أيضاً بعيد ، لأنه لو كان المراد ذلك ، لكان الواجب أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل ، وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية. علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
الحجة الثانية : من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال : لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله ، فإنه يقول له هذا لا يؤكل ، ولا يقول له لا تأكل. ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة ، لقال له : لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ، ولكنك لا تأكله. فلما قال تعالى : {لَن تَرَانِى} ولم يقل لا أرى ، علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية.
الحجة الثالثة : من الوجوه المستنبطة من هذه الآية ، أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز ، والمعلق على الجائز جائز ، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة. إنما قلنا : إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز ، لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل ، بدليل قوله تعالى : {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى } واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه. فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه.
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها ، لأنه لما كان ذلك الشرط أمراً جائز الوجود ، لم يلزم من فرض وقوعه محال ، فبتقدير حصول ذلك الشرط ، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب ، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول ، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله ، إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية ، وذلك باطل.
فإن قيل : إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته/ واستقرار الجبل حال حركته محال. فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول ، لا على شرط جائز الحصول ، فلم يلزم صحة ما قلتموه ؟
والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال : إنه حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان ساكناً أو متحركاً ، فإن كان الأول ، لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط ، وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقراً ، ولما لم يكن مستقراً كان متحركاً. فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية ، كان متحركاً لا ساكناً. فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقراً حال كونه ساكناً / فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية ، هو كون الجبل مستقراً حال كونه متحركاً ، وأنه شرط محال.
والجواب : هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجوداً كان واجب الوجود ، ولو أخذته بشرط كونه معدوماً كان واجب العدم ، فلو أخذته من حيث هو هو قطع النظر عن كونه موجوداً أو كونه معدوماً كان ممكن الوجود. فكذا ههنا الذي جعل شرطاً في اللفظ هو استقرار الجبل ، وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطاً أمر ممكن الوجود جائز الحصول ، وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
(1/2052)
الحجة الرابعة : من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا} وهذا التجلي هو الرؤية ، ويدل عليه وجهان : الأول : إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء ، وأبصار الشيء أيضاً يجلي لذلك الشيء. إلا أن الأبصار في كونه مجلياً أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى. الثاني : أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود. فثبت أن قوله تعالى : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا} هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية أقصى ما في الباب أن يقال : الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئاً ، إلا أنا نقول : لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم ، ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى ، والدليل عليه أنه تعالى قال : {فَضْلا يَـاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَه وَالطَّيْرَ } (سبأ : 10) وكونه مخاطباً بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا ههنا ، فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية. أمنا المعتزلة فقالوا : إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات. أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها ، فلا حاجة هنا إلى ذكرها. وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} (الأنعام : 103) قد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة. واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه : الأول : التمسك بقوله تعالى : {لَن تَرَانِى} وتقرير الاستدلال أن يقال : إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله ألبتة لا في الدنيا ولا في القيامة ، ومتى ثبت هذا ثبت أن أحداً لا يراه ألبتة / ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى ، فهذه مقدمات ثلاثة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
أما المقدمة الأولى : فتقريرها من وجوه : الأول : ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة "لن" للتأبيد. قال الواحدي رحمه الله : هذه دعوى باطلة على أهل اللغة ، وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ، ولا نقل صحيح. وقال أصحابنا : الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا } (البقرة : 95) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة. والثاني : أن قوله : {لَن تَرَانِى} يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة ، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضاً ضعيف ، لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه. الثالث : أن قوله لن أفعل كذا ، يفيد تأكيد النفي ، ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى : {لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه } (الحج : 73) وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية ، والجواب : أن {لَنْ} لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه ، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال. فكان قوله : {لَن تَرَانِى} نفياً لذلك المطلوب ، فأما أن يفيد النفي الدائم فلا. فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة.
أما المقدمة الثانية : فقالوا : القائل اثنان : قائل يقول : إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضاً يراه ، وقائل ينفي الرؤية عن الكل ، أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل.
وأما المقدمة الثالثة : فهي أن كل من نفي الوقوع نفي الصحة ، فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل. واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى ، فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية.
الحجة الثانية للقوم : أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقاً ، ولو كانت الرؤية جائزة. فلم خر عند سؤالها صعقاً ؟
والحجة الثالثة : أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك ، وهذه الكلمة للتنزيه ، فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره ، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى ، فكان قوله : {سُبْحَـاـنَكَ} تنزيهاً له عن الرؤية. فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى. وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات ، فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات ، وذلك على الله محال. فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
والحجة الرابعة : قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال : {تُبْتُ إِلَيْكَ} ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه ، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} .
(1/2053)
/ واعلم أن أصحابنا قالوا : الرؤية كانت جائزة ، إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه ، فهذا جملة الكلام في هذه الآية. والله أعلم بالصواب.
المسألة الرابعة : في البحث عن هذه الآية. نقل عن ابن عباس أنه قال : جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل ، وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً ، فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه ، فقال : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } قال صاحب "الكشاف" : ثاني مفعولي {أَرِنِى } محذوف ، أي {أَرِنِى } نفسك {أَنظُرْ إِلَيْكَ } وفي لفظ الآية سؤالات :
السؤال الأول : النظر : إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته ، وعلى التقدير الأول : يكون المعنى أرني حتى أراك ، وهذا فاسد ، وعلى التقدير الثاني : يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين : أحدهما : أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى. والثاني : أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد.
والجواب : أن قوله : {أَرِنِى } معناه اجعلني متمكناً من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.
السؤال الثاني : كيف قال : {لَن تَرَانِى} ولم يقل لن تنظر إلي ، حتى يكون مطابقاً لقوله : {أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
والجواب : أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.
والسؤال الثالث : كيف اتصل الاستدراك في قوله : {وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} بما قبله ؟
والجواب : المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ، ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق ، فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
أما قوله : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ} فقال الزجاج : {تَجَلَّى } أي ظهر وبان ، ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها ، وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ ، وقوله : {جَعَلَه دَكًّا} قال الزجاج : يجوز {دَكًّا} بالتنوين و{دَكَّآءَ } بغير تنوين أي جعله مدقوقاً مع الأرض يقال : دككت الشيء إذا دققته أدكه دكاً ، والدكاء والدكاوات : الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة. فعلى هذا ، الدك مصدر ، والدكاء اسم. ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله : {جَعَلَه دَكًّا} أنه قال : دكه دكاً مصدر مؤكد ، ويجوز جعله ذا دك. قال ومن قرأ {دَكَّآءَ } ممدوداً أراد جعله دكاء أي أرضاً مرتفعة ، وهو / موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال : جعله تراباً. وقوله : {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال الليث : الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان ، والصعقة الغشية. يقال : صعق الرجل وصعق ، فمن قال صعق فهو صعق. ومن قال صعق فهو مصعوق. ويقال أيضاً : صعق إذا مات ، ومنه قوله تعالى : {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ} (الزمر : 68) فسروه بالموت. ومنه قوله : {يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي يموتون. قال صاحب "الكشاف" : صعق أصله من الصاعقة ، ويقال لها : الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه.
إذا عرفت هذا فنقول : فسر ابن عباس قوله تعالى : {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } بالغشي ، وفسره قتادة بالموت ، والأول أقوى ، لقوله تعالى : {فَلَمَّآ أَفَاقَ} قال الزجاج : ولا يكاد يقال للميت : قد أفاق من موته ، ولكن يقال للذي يغشى عليه : أنه أفاق من غشيه ، لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا : {ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم مِّنا بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة : 56).
أما قوله : {قَالَ سُبْحَـانَكَ} أي تنزيهاً لك عن أن يسألك غيرك شيئاً بغير إذنك ، {تُبْتُ إِلَيْكَ} وفيه وجهان : الأول : {تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤال الرؤية في الدنيا. الثاني : {تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤال الرؤية بغير إذنك {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بأنك لا ترى في الدنيا ، أو يقال : {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
359
اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها ، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه ، وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا ، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية ، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها. والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية ، وهذا أيضاً أحد ما يدل على أن الرؤيا جائزة على الله تعالى ، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة.
(1/2054)
/ واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله : {اصْطَفَيْتُكَ} أي اتخذتك صفوة على الناس قال ابن عباس : يريد فضلتك على الناس ، ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال : {بِرِسَـالَـاتِي وَبِكَلَـامِي} قرأ ابن كثير ونافع على الواحد والباقون {النَّاسِ بِرِسَـالَـاتِي} على الجمع ، وذلك أنه تعالى أوحى إليه مرة بعد أخرى ، ومن قرأ فلأن الرسالة تجري مجرى المصدر ، فيجوز إفرادها في موضع الجمع ، وإنما قال : {إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} ولم يقل على الخلق ، لأن الملائكة قد تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام.
فإن قيل : كيف اصطفاه على الناس برسالاته مع أن كثيراً من الناس قد ساواه في الرسالة ؟
قلنا : إنه تعالى بين أنه خصه من دون الناس بمجموع الأمرين ، وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة ، وهذا المجوع ، ما حصل لغيره ، فثبت أنه إنما حصل التخصيص ههنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة ، وإنما كان الكلام بغير واسطة سبباً لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر ، لأن من سمع كلام الملك العظيم من فلق فيه كان أعلى حالاً وأشرف مرتبة ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب ، ولما ذكر هذين النوعين من النعمة العظيمة. قال : {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ} يعني فخذ هذه النعمة ، ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية ، واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً. والله أعلم.
جزء : 14 رقم الصفحة : 359
365
اعلم أنه تعالى لما بين أنه خص موسى عليه السلام بالرسالة ذكر في هذه الآية تفصيل تلك الرسالة فقال : {وَكَتَبْنَا لَه فِى الالْوَاحِ} نقل صاحب "الكشاف" عن بعضهم : أن موسى خر صعقاً يوم عرفة. وأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر ، وذكروا في عدد الألواح ، وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح. وقيل : سبعة. وقيل إنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء. وقال الحسن : كانت من خشب نزلت من السماء. وقال وهب : كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى عليه السلام ، وأما كيفية الكتابة. فقال ابن جريج كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور.
/ واعلم أنه ليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح ، وعلى كيفية تلك الكتابة ، فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قوي ، وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه.
وأما قوله : من كل شيء} فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم ، بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح.
وأما قوله : فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم ، بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح.
وأما قوله : {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ} فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله : {مِن كُلِّ شَىْءٍ } وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين : أحدهما : {مَّوْعِظَةٌ} والأخر {تَفْصِيلا} لما يجب أن يعلم من الأحكام ، فيدخل في الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية ، وذلك بذكر الوعد والوعيد ، ولما قرر ذلك أولاً أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام ، فقال : {وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ} ولما شرح ذلك ، قال لموسى : {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي بعزيمة قوية ونية صادقة ، ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها ، وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقاً ، ليكون في هذا التفصيل فائدة ، ولذلك قال بعض المفسرين : إن التكليف كان على موسى عليه السلام أشد ، لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره ، وقال بعضهم : بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء. وإن كان مشاركاً لقومه فيما عداه ، وفي قوله : {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } .
جزء : 15 رقم الصفحة : 365
سؤال : وهو أنه تعالى لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به ، وظاهر قوله {يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } يقتضي أن فيه ما لبس بأحسن ، وإنه لا يجوز لهم الأخذ به ، وذلك متناقض وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً : الأول : أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن ، كالقصاص ، والعفو ، والانتصار ، والصبر ، أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن ، وأكثر للثواب كقوله : {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم} (الزمر : 55) وقوله : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه ا } (الزمر : 18).
فإن قالوا : فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن ، فقد منع من الأخذ بذلك الحسن ، وذلك يقدح في كونه حسناً فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض.
(1/2055)
الوجه الثاني : في الجواب قال قطرب {يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } أي بحسنها وكلها حسن لقوله تعالى : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } (العنكبوت : 45) وقول الفرزدق :
بيتا دعائمه أعز وأطول
الوجه الثالث : قال بعضهم : الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات.
/ وأما قوله : {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَـاسِقِينَ} ففيه وجهان : الأول : أن المراد التهديد والوعيد على مخالفة أمر الله تعالى ، وعلى هذا التقدير : فيه وجهان : الأول : قال ابن عباس والحسن ومجاهد دار الفاسقين هي جهنم ، أي فليكن ذكر جهنم حاضراً في خاطركم لتحذروا أن تكونوا منهم. والثاني : قال قتادة : سأدخلكم الشام وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها وما صاروا إليه من النكال. وقال الكلبي : {دَارَ الْفَـاسِقِينَ} هي المساكن التي كانوا يمرون عليها إذا سافروا ، من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله تعالى.
والقول الثاني : أن المراد الوعد والبشارة بأنه تعالى سيورثهم أرض أعدائهم وديارهم. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 365
366
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله : {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَـاسِقِينَ} (الأعراف : 145) ذكر في هذه الآية ما يعاملهم به فقال : {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ} واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وذلك ظاهر ، وقالت المعتزلة : لا يمكن حمل الآية على ما ذكرتموه ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : قال الجبائي لا يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى يصرفهم عن الإيمان بآياته لأن قوله : {سَأَصْرِفُ} يتناول المستقبل وقد بين تعالى أنهم كفروا فكذبوا من قبل هذا الصرف ، لأنه تعالى وصفهم بكونهم متكبرين في الأرض بغير الحق وبأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ، فثبت أن الآية دالة على أن الكفر قد حصل لهم في الزمان الماضي ، فهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله.
الوجه الثاني : أن قوله : {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ} مذكور على وجه العقوبة على التكبر والكفر ، فلو كان المراد من هذا الصرف هو كفرهم ، لكان معناه أنه تعالى / خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ، ومعلوم أن العقوبة على الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز ، فثبت أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر.
الوجه الثالث : أنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه فكيف يمكن أن يقول مع ذلك {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (الانشقاق : 20) ، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر : 49} ، ، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا } (الإسراء : 94 ، الكهف : 55) فثبت أن حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن فوجب حملها على وجوه أخرى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 366
فالوجه الأول : قال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه ، ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به ، وهو شبيه بقوله : {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَا وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ا وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة : 67) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة.
والوجه الثاني : في التأويل ما ذكره الجبائي فقال : سأصرف هؤلاء المتكبرين على نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدين للأنبياء والمؤمنين ، وإنما يصرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم ، وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله.
والوجه الثالث : أن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان. فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات ، فحينئذ يصرفهم الله عنها.
والوجه الرابع : أن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها ، فإذا علم الله ذلك منه ، صح من الله تعالى أن يصرفه عنه.
والوجه الخامس : نقل عن الحسن أنه قال : إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه ، فالمراد من قوله : {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـاتِىَ} هؤلاء. فهذا جملة ما قيل في هذا الباب ، وظهر أن هذه الآية ليس فيها دلالة قوية على صحة ما يقول به في مسألة خلق الأعمال. والله أعلم.
(1/2056)
المسألة الثانية : معنى يتكبرون : أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم وهذه الصفة أعني التكبر لا تكون إلا لله تعالى ، لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد فلا جرم يستحق كونه متكبراً ، وقال بعضهم : التكبر : إظهار كبر النفس على غيرها. وصفة التكبر صفة ذم في جميع العباد ، وصفة مدح في الله جل جلاله ، لأنه يستحق إظهار ذلك على من سواه لأن ذلك في حقه حق. وفي حق غيره باطل.
/ واعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية قوله : {بِغَيْرِ الْحَقِّ } لأن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق ، فإن للمحق أن يتكبر على المبطل ، وفي الكلام المشهور التكبر على المتكبر صدقة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 366
أما قوله تعالى : {وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} ففيه مباحث :
البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي : {الرُّشْدِ} بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين. وفرق أبو عمرو بينهما فقال : {الرُّشْدِ} بضم الراء الصلاح لقوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا} (النساء : 6) أي صلاحاً ، و{الرُّشْدِ} بفتحهما الاستقامة في الدين. قال تعالى : {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (الكهف : 66) وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد ، مثل الحزن والحزن ، والسقم والقسم ، وقيل : {الرُّشْدِ} بالضم الاسم ، وبالفتحتين المصدر.
البحث الثاني : {سَبِيلَ الرُّشْدِ} عبارة عن سبيل الهدى والدين الحق والصواب في العلم والعمل و{سَبِيلَ الْغَىِّ} ما يكون مضاداً لذلك ، ثم بيّن تعالى أن هذا الصرف إنما كان لأمرين : أحدهما : كونهم مكذبين بآيات الله. والثاني : كونهم غافلين عنها ، والمراد أنهم واظبوا على الإعراض عنها حتى صاروا بمنزلة الغافل عنها. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 366
367
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته بقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـافِلِينَ} (الأعراف : 146) بين حال أولئك المكذبين ، فقد كان يجوز أن يظن أنهم يختلفون في باب العقاب لأن فيهم من يعمل بعض أعمال البر ، فبين تعالى حال جميعهم سواء كان متكبراً أو متواضعاً أو كان قليل الإحسان ، أو كان كثير الإحسان ، فقال : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَلِقَآءِ الاخِرَةِ} يعني بذلك جحدهم للميعاد وجرأتهم على المعاصي ، فبين تعالى أن أعمالهم محبطة ، والكلام في حقيقة الإحباط قد تقدم في سورة البقرة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى : {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفيه حذف والتقدير : هل يجزون إلا بما كانوا يعملون ؟
أو على ما كانوا يعملون. واحتج أصحابنا بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم في أن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد أن لا يفعل الواجب ، وإن لم يصدر منه فعل عند ذلك الواجب قالوا : هذه الآية تدل على أنه لا جزاء إلا على العمل ، وليس ترك الواجب بعمل ، فوجب أن لا يجازي / عليه ، فثبت أن الجزاء إنما حصل على فعل ضده. وأجاب أبو هاشم : بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء فسقط الاستدلال.
وأجاب أصحابنا عن هذا الجواب : بأن الجزاء إنما سمي جزاء لأنه يجزي ويكفي في المنع من المنهي ، وفي الحث على المأمور به فإن ترتب العقاب على مجرد ترك الواجب كان ذلك العقاب كافياً في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء ، فثبت أنه لا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 367
369
اعلم أن المراد من هذه الآية قصة اتخاذ السامري العجل ، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي : {حُلِيِّهِمْ} بكسر الحاء واللام وتشديد الياء للاتباع كدلي. والباقون : {حُلِيِّهِمْ} بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي كثدي وثدي ، وقرأ بعضهم : {مِنْ حُلِيِّهِمْ} على التوحيد ، والحلي اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة.
(1/2057)
المسألة الثانية : قيل : إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم ، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فجمع السامري تلك الحلي وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه ، فصاغ السامري عجلاً. ثم اختلف الناس ، فقال قوم كان قد أخذ كفاً من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة. فقال السامري : هذا إلهكم وإله موسى وقال أكثر المفسرين من المعتزلة : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص ، وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح ، فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ويظهر منه صوف مخصوص يشبه خوار العجل ، وقال آخرون : إنه جعل ذلك التمثال أجوب ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار. قال صاحب هذا القول والناس قد يفعلون الآن في هذه التصاوير التي يجرون فيها الماء على سبيل الفوارات ما يشبه ذلك ، فبهذا الطريق وغيره أظهر الصوت من ذلك التمثال ، ثم ألقى إلى الناس / أن هذا العجل إلههم وإله موسى. بقي في لفظ الآية سؤالات :
السؤال الأول : لم قيل : {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنا بَعْدِه مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا } والمتخذ هو السامري وحده ؟
.
والجواب : فيه وجهان : الأول : أن الله نسب الفعل إليهم ، لأن رجلاً منهم باشره كما يقال : بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائل والفاعل واحد. والثاني : أنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به ، فكأنهم اجتمعوا عليه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 369
السؤال الثاني : لم قال : {مِنْ حُلِيِّهِمْ} ولم يكن الحلي لهم ، وإنما حصل في أيديهم على سبيل العارية ؟
.
والجواب : أنه تعالى لما أهلك قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ، وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى : {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ} (الدخان : 25) ، {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (الشعراء : 58) ، {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ * كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ} (الدخان : 27/ 28).
السؤال الثالث : هؤلاء الذين عبدوا العجل هم كل قوم موسى أو بعضهم ؟
.
والجواب : أن قوله تعالى : {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنا بَعْدِه مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا} يفيد العموم. قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون. واحتج عليه بوجهين : الأول : عموم هذه الآية ، والثاني : قول موسى عليه السلام في هذه القصة {رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى} قال خص نفسه وأخاه بالدعاء ، وذلك يدل على من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك ، وقال آخرون : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه فإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين/ والدليل عليه قوله تعالى : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى ا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} (الأعراف : 181).
السؤال الرابع : هل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً على ما قاله بعضهم أو بقي ذهباً كما كان قبل ذلك ؟
.
والجواب : الذاهبون إلى الاحتمال الأول احتجوا على صحة قولهم بوجهين : الأول : قوله تعالى : {عِجْلا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ } والجسد اسم للجسم الذي يكون من اللحم والدم ، ومنهم من نازع في ذلك وقال بل الجسد اسم لكل جسم كثيف ، سواء كان من اللحم والدم أو لم يكن كذلك.
والحجة الثانية : أنه تعالى أثبت له خواراً ، وذلك إنما يتأتى في الحيوان. وأجيب عنه : بأن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه ، وقرأ علي رضي الله عنه : (جؤار) بالجيم والهمزة ، من جأر إذا صاح فهذا ما قيل في هذا الباب.
/ واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على فساد كون ذلك العجل إلهاً بقوله : {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّه لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَـالِمِينَ} وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد ، وكل من كان كذلك كان إما جماداً وإما حيواناً عاجزاً ، وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلهية ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلماً ولا هادياً إلى السبيل لم يكن إلهاً لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي ، وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلماً ، فمن لا يكون متكلماً لم يصح منه الأمر والنهي ، والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلهاً. وقالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن شرط كونه إلهاً أن يكون هادياً إلى الصدق والصواب ، فمن كان مضلاً عنه وجب أن لا يكون إلهاً.
جزء : 15 رقم الصفحة : 369
(1/2058)
فإن قيل : فهذا يوجب أنه لو صح أن يتكلم ويهدي ، يجوز أن يتخذ إلهاً ، وإلا فإن كان إثبات ذلك كنفيه في أنه لا يجوز أن يتخذ إلهاً فلا فائدة فيما ذكرتم.
والجواب من وجهين : الأول : لا يبعد أن يكون ذلك شرطاً لحصول الإلهية ، فيلزم من عدمه عدم الإلهية وإن كان لا يلزم من حصوله حصول الإلهية. الثاني : أن كل من قدر على أن يكلمهم وعلى أن يهديهم إلى الخير والشر فهو إله ، والخلق لا يقدرون على الهداية ، إنما يقدرون على وصف الهداية ، فأما على وضع الدلائل ونصبها فلا قادر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
واعلم أنه ختم الآية بقوله : {وَكَانُوا ظَـالِمِينَ} أي كانوا ظالمين لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 369
370
اعلم أنهم اتفقوا على أن المراد من قوله : {سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ} أنه اشتد ندمهم على عبادة العجل واختلفوا في الوجه الذي لأجله حسنت هذه الاستعارة.
فالوجه الأول : قال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم ، أي في قلوبهم كما يقال حصل في يديه مكروه ، وإن كان من المحال حصول المكروه الواقع في اليد ، إلا أنهم أطلقوا على المكروه الواقع في القلب والنفس كونه واقعاً في اليد ، فكذا ههنا.
/ والوجه الثاني : قال صاحب "الكشاف" : إنما يقال لمن ندم سقط في يده لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً ، فيصير ندمه مسقوطاً فيها ، لأن فاه قد وقع فيها.
والوجه الثالث : أن السقوط عبارة عن نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ، ولهذا قالوا سقط المطر ، ويقال : سقط من يدك شيء وأسقطت المرأة ، فمن أقدم على عمل فهو إنما يقدم عليه لاعتقاده أن ذلك العمل خير وصواب ، وأن ذلك العمل يورثه شرفاً ورفعة ، فإذا بان له أن ذلك العمل كان باطلاً فاسداً فكأنه قد انحط من الأعلى إلى الأسفل وسقط من فوق إلى تحت ، فلهذا السبب يقال للرجل إذا أخطأ : كان ذلك منه سقطة ، شبهوا ذلك بالسقطة على الأرض ، فثبت أن إطلاق لفظ السقوط على الحالة الحاصلة عند الندم جائز مستحسن ، بقي أن يقال : فما الفائدة في ذكر اليد ؟
فنقول : اليد هي الآلة التي بها يقدر الإنسان على الأخذ والضبط والحفظ ، فالنادم كأنه يتدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم ويشتغل بتلافيها ، فكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث إن بعد حصول ذلك الندم اشتغل بالتدارك والتلافي.
والوجه الرابع : حكى الواحدي عن بعضهم : أن هذا مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج. يقال : منه سقطت الأرض كما يقال : من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابها الثلج ، ومعنى سقط في يده أي وقع في يده السقيط ، والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ، فمن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء قط فصار هذا مثلاً لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل ، وكانت الندامة آخر أمره.
والوجه الخامس : قال بعض العلماء : النادم إنما يقال له سقط في يده ، لأنه يتحير في أمره ويعجز عن أعماله والآلة الأصلية في الأعمال في أكثر الأمر هي اليد. والعاجز في حكم الساقط فلما قرن السقوط بالأيدي علم أن السقوط في اليد إنما حصل بسبب العجز التام ويقال في العرف لمن لا يهتدي لما يصنع ، ضلت يده ورجله.
جزء : 15 رقم الصفحة : 370
والوجه السادس : إن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه ، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم ، كقوله : {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} (71) أي عليها ، والله أعلم.
(1/2059)
ثم قال تعالى : {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا } أي قد تبينوا ضلالهم تبييناً كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدماً لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : / ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ، ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير ، وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكاً في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ ؟
فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ فاسداً أو باطلاً غير جائز/ فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ، ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسداً وباطلاً فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير. ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلاً أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى فـ {قَالُوا لَـاـاِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ، ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم ، وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم ، وقرىء : (لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا) بالتاء {وَرَبُّنَا} بالنصب على النداء ، وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام : {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 370
والوجه السادس : إن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه ، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم ، كقوله : {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} (71) أي عليها ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا } أي قد تبينوا ضلالهم تبييناً كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدماً لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : / ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ، ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير ، وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكاً في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ ؟
فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ فاسداً أو باطلاً غير جائز/ فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ، ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسداً وباطلاً فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير. ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلاً أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى فـ {قَالُوا لَـاـاِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ، ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم ، وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم ، وقرىء : (لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا) بالتاء {وَرَبُّنَا} بالنصب على النداء ، وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام : {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 370
والوجه السادس : إن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه ، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم ، كقوله : {وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} (71) أي عليها ، والله أعلم.
(1/2060)
ثم قال تعالى : {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا } أي قد تبينوا ضلالهم تبييناً كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي : يجب أن يكون المؤخر مقدماً لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : / ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ، ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير ، وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكاً في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ ؟
فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ فاسداً أو باطلاً غير جائز/ فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ، ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسداً وباطلاً فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير. ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلاً أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى فـ {قَالُوا لَـاـاِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ، ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم ، وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم ، وقرىء : (لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا) بالتاء {وَرَبُّنَا} بالنصب على النداء ، وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام : {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 370
373
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى ا إِلَى قَوْمِه غَضْبَـانَ أَسِفًا} لا يمنع من أن يكون قد عرف خبرهم من قبل في عبادة العجل ، / ولا يوجب ذلك لجواز أن يكون عند الرجوع ومشاهدة أحوالهم صار كذلك ، فلهذا السبب اختلفوا فيه فقال قوم : إنه عند هجومه عليهم عرف ذلك. وقال أبو مسلم : بل كان عارفاً بذلك من قبل ، وهذا أقرب ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن قوله تعالى : {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى ا إِلَى قَوْمِه غَضْبَـانَ أَسِفًا} يدل على أنه حال ما كان راجعاً كان غضبان أسفاً ، وهو إنما كان راجعاً إلى قومه قبل وصوله إليهم ، فدل هذا على أنه عليه السلام قبل وصوله إليهم كان عالماً بهذه الحالة. الثاني : أنه تعالى ذكر في سورة طه أنه أخبره بوقوع تلك الواقعة في الميقات.
المسألة الثانية : في الأسف قولان : الأول : أن الأسف الشديد الغضب ، وهو قول أبي الدرداء وعطاء ، عن ابن عباس واختيار الزجاج. واحتجوا بقوله : {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (الزخرف : 55) أي أغضبونا. والثاني : وهو أيضاً قول ابن عباس والحسن والسدي ، إن الآسف هو الحزين. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن أبا بكر رجل أسيف أي حزين. قال الواحدي : والقولان متقاربان ، لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب ، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت ، وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت. فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً ، فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل ، أسفاً حزيناً ، لأن الله تعالى فتنهم. وقد كان تعالى قال له : {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنا بَعْدِكَ} (طه : 85).
أما بقوله : {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنا بَعْدِى } فمعناه بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي وهذا الخطاب إنما يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل ، وهم : هارون عليه السلام والمؤمنون معه ، ويدل عليه قوله : {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى} (الأعراف : 142) وعلى التقدير الأول يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله ، وعلى هذا التقدير الثاني ، يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى ، وههنا سؤالات :
جزء : 15 رقم الصفحة : 373
السؤال الأول : أين ما يقتضيه "بئس" من الفاعل ، والمخصوص بالذم.
والجواب : الفاعل مضمر يفسره قوله : {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى} والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.
السؤال الثاني : أي معنى لقوله : {مِنا بَعْدِى} بعد قوله : {خَلَفْتُمُونِى} .
والجواب : معناه من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ، ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعد ما كانت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأمنعهم من عبادة البقر حين قالوا : {اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلفين.
وأما قوله : {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } فمعنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته/ ولذلك صارت مذمومة / والسرعة غير مذمومة ، لأن معناها عمل الشيء في أول أوقاته. هكذا قاله الواحدي.
(1/2061)
ولقائل أن يقول : لو كانت العجلة مذمومة ، فلم قال موسى عليه السلام : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (طه : 84) قال ابن عباس المعنى : {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } يعني ميعاد ربكم فلم تصبروا له ؟
وقال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة ، فقد مات. وقال عطاء : يريد أعجلتم سخط ربكم ؟
وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ، ولما ذكر تعالى أن موسى رجع غضبان ذكر بعده ما كان ذلك الغضب موجباً له ، وهو أمران : الأول : أنه قال : {وَأَلْقَى} يريد التي فيها التوراة ، ولما كانت تلك الألواح أعظم معاجزه ، ثم أنه ألقاها دل ذلك على شدة الغضب ، لأن المرء لا يقدم على مثل هذا العمل إلا عند حصول الغضب المدهش. روي أن التوراة كانت سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد. وكان فيما رفع تفصيل كل شيء ، وفيما بقي الهدى والرحمة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يرحم الله أخي موسى ليس الخبر كالمعاينة لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه على ذلك متمسك بما في يده".
ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسرت ، فهذا ليس في القرآن وأنه لجراءة عظيمة على كتاب الله ، ومثله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام.
جزء : 15 رقم الصفحة : 373
والأمر الثاني : من الأمور المتولدة عن ذلك الغضب.
قوله تعالى : {رَبِّكُم وَأَلْقَى الالْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّه ا إِلَيْه } وفي هذا الموضع سؤال لمن يقدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ذكرناه في سورة طه مع الجواب الصحيح ، وبالجملة فالطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون إنه أخذ برأس أخيه يجره إليه على سبيل الإهانة والاستخفاف ، والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا إنه جر رأس أخيه إلى نفسه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل : فلماذا قال {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى} .
قلنا : الجواب عنه أن هرون عليه السلام خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل ، فقال له {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى} وما أطاعوني في ترك عبادة العجل ، وقد نهيتهم ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم بهم عن هذا العمل ، فلا تفعل بي ما تشمت أعدائي به فهم أعداؤك فإن القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام.
وأما قوله تعالى {ابْنَ أُمَّ} فاعلم أنه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {ابْنَ أُمَّ} / بكسر الميم ، وفي طه مثله على تقدير أمي فحذف ياء الأضافة لأن مبنى النداء على الحذف وبقي الكسر على الميم ليدل على الإضافة ، كقوله : {فَبَشِّرْ عِبَادِ} والباقون بفتح الميم في السورتين ، وفيه قولان : أحدهما : أنهما جعلا اسماً واحداً وبنى لكثرة أصحاب هذين الحرفين فصار بمنزلة اسم واحد نحو حضرموت وخمسة عشر. وثانيهما : أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة ، وأصله يا ابن أما كما قال الشاعر :
يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
وقوله : {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى} أي لم يلتفتوا إلى كلامي وكادوا يقتلونني ، فلا تشمت بي الأعداء يعني أصحاب العجل ولا تجعلني مع القوم الظالمين ، الذين عبدوا العجل أي لا تجعلني شريكاً لهم في عقوبتك لهم على فعلهم ، فعند هذا قال موسى عليه السلام : {رَبِّ اغْفِرْ لِى} أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة {وَلاخِى} في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَا وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ} .
واعلم أن تمام هذه السؤالات والجوابات في هذه القصة مذكور في سورة طه. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 373
374
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حال من عبد العجل.
واعلم أن المفعول الثاني من مفعولي ـ الاتخاذ ـ محذوف ، والتقدير : اتخذوا العجل إلهاً ومعبوداً ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَّه خُوَارٌ فَقَالُوا هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَى } (طه : 88) وللمفسرين في هذه الآية طريقان : الأول : أن المراد بالذين اتخذوا العجل هم الذين باشروا عبادة العجل ، وهم الذين قال فيهم : {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ} وعلى هذا التقدير ففيه سؤال ، وهو أن أولئك الأقوام تاب الله عليهم بسبب أنهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة عن ذلك الذنب ، وإذا تاب الله / عليهم فكيف يمكن أن يقال في حقهم أنه {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } .
(1/2062)
والجواب عنه : أن ذلك الغضب إنما حصل في الدنيا لا في الآخرة ، وتفسير ذلك الغضب هو أن الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم ، والمراد بقوله : {وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } هو أنهم قد ضلوا فذلوا.
فإن قالوا : السين في قوله : {سَيَنَالُهُمْ} للاستقبال ، فكيف يحمل هذا على حكم الدنيا ؟
قلنا : هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ، فأخبره في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ، فكان هذا الكلام سابقاً على وقوعهم في القتل وفي الذلة ، فصح هذا التأويل من هذا الاعتبار.
والطريق الثاني : أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم ، وعلى هذا التقدير : ففي الآية وجهان :
الوجه الأول : أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل ذلك في المناقب. يقولون للأبناء : فعلتم كذا وكذا ، وإنما فعل ذلك من مضى من آبائهم ، فكذا ههنا وصف اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم باتخاذ العجل ، وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ، ثم حكم عليهم بأنه {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ} في الآخرة {وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } كما قال تعالى في صفتهم : {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } (لبقرة : 61).
جزء : 15 رقم الصفحة : 374
والوجه الثاني : أن يكون التقدير {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} أي الذين باشروا ذلك {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ} أي سينال أولادهم ، ثم حذف المضاف بدلالة الكلام عليه.
أما قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} فالمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا ، قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ، ثم قرأ هذه الآية ، وذلك لأن المبتدع مفتر في دين الله.
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّـاَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنا بَعْدِهَا وَءَامَنُوا } فهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولاً ، وذلك بأن يتركها أولاً ويرجع عنها ، ثم يؤمن بعد ذلك. وثانياً : يؤمن بالله تعالى ، ويصدق بأنه لا إله غيره {إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران ، لأن قوله : {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّـاَاتِ} يتناول الكل. والتقدير : أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له ، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين ، والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 374
375
اعلم أنه تعالى لما بين لنا ما كان منه مع الغضب بين في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} أقوال :
القول الأول : أن هذا الكلام خرج على قانون الاستعارة كأن الغضب كان يقويه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا وكذا ، وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك ، فلما زال الغضب ، صار كأنه سكت.
والقول الثاني : وهو قول عكرمة ، أن المعنى : سكت موسى عن الغضب وقلب كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي ، والمعنى : أدخلت رأسي في القلنسوة.
القول الثالث : المراد بالسكوت السكون والزوال ، وعلى هذا جاز {سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} ولا يجوز صمت لأن {سَكَتَ} بمعنى سكن ، وأما صمت فمعناه سد فاه عن الكلام ، وذلك لا يجوز في الغضب.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام لما عرف أن أخاه هرون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذره ، فعند ذلك سكن غضبه. وهو الوقت الذي قال فيه : {رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى} (الأعراف : 151) وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه ، لأن ذلك أول ما تقدم من أمارات غضبه على ما فعله من الأمرين ، فجعل ضد ذينك الفعلين كالعلامة لسكون غضبه.
(1/2063)
المسألة الثالثة : قوله : {أَخَذَ الالْوَاحَ } المراد منه الألواح المذكورة في قوله تعالى : {وَأَلْقَى الالْوَاحَ} (الأعراف : 15) وظاهر هذا يدل على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل ، وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك وقوله : {وَفِى نُسْخَتِهَا} النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا كتبت كتاباً عن كتاب حرفاً بعد حرف. قلت : نسخت ذلك الكتاب ، كأنك نقلت ما في الأصل / إلى الكتاب الثاني. قال ابن عباس : لما ألقى موسى عليه السلام الألواح تكسرت فصام أربعين يوماً ، فأعاد الله تعالى الألواح وفيها عين ما في الأولى ، فعلى هذا قوله : {وَفِى نُسْخَتِهَا} أي وفيما نسخ منها. وأما إن قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها ، ولا شك أنها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ فهي أيضاً تكون نسخاً على هذا التقدير وقوله : {هُدًى وَرَحْمَةً} أي {هُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةً } من العذاب {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} يريد الخائفين من ربهم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 375
فإن قيل : التقدير للذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله : {لِرَبِّهِمُ} .
قلنا فيه وجوه : الأول : أن تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ، ونظيره قوله : {لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} (يوسف : 43)الثاني : أنها لام الأجل والمعنى : للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة. الثالث : أنه قد يزاد حرف الجر في المفعول ، وإن كان الفعل متعدياً كقولك قرأت في السورة وقرأت السورة ، وألقى يده وألقى بيده ، وفي القرآن {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (العلق : 14) وفي موضع آخر {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ} فعلى هذا قوله {لِرَبِّهِمُ} اللام صلة وتأكيد كقوله : {رَدِفَ لَكُم} وقد ذكرنا مثل هذا في قوله : {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران : 73).
جزء : 15 رقم الصفحة : 375
378
في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : الاختيار : افتعال من لفظ الخير يقال : اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختار : اختير ، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفاً نحو قال وباع ، ولهذا السبب استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما ، مختار ، والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفاً فاستويا في / اللفظ. وتحقيق الكلام فيه أن نقول : إن الأعضاء السليمة بحسب سلامتها الأصلية صالحة للفعل والترك ، وصالحة للفعل ولضده ، وما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع أن يصير مصدراً لأحد الجانبين دون الثاني ، وإلا لزم رجحان الممكن من غير مرجح ، وهو محال ، فإذا حكم الإنسان بأن له في الفعل نفعاً زائداً وصلاحاً راجحاً ، فقد حكم بأن ذلك الجانب خير له من ضده. فعند حصول هذا الاعتقاد في القلب يصير الفعل راجحاً على الترك ، فلولا الحكم بكون ذلك الطرف خيراً من الطرف الآخر امتنع أن يصير فاعلاً ، فلما كان صدور الفعل عن الحيوان موقوفاً على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً من تركه ، لا جرم سمى الفعل الحيواني فعلاً اختيارياً. والله أعلم.
فإن قيل : إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يرمي نفسه من شاهق جبل مع أنه يعلم أن ذلك ليس من الخيرات بل من الشرور.
فنقول : إن الإنسان لا يقدم على قتل نفسه إلا إذا اعتقد أنه بسبب ذلك القتل يتخلص عن ضرر أعظم من ذلك القتل ، والضرر الأسهل بالنسبة إلى الضرر الأعظم يكون خيراً لا شراً. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل. والله أعلم.
المسألة الثانية : قال جماعة النحويين : معناه واختار موسى من قومه سبعين. فحذفت كلمة "من" ووصل الفعل فنسب ، يقال : اخترت من الرجال زيداً واخترت الرجال زيداً ، وأنشدوا قول الفرزدق :
ومنا الذي اختار الرجال سماحة
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
قال أبو علي والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ، ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني ، من ذلك قولك اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيداً وقولك أستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر :
جزء : 15 رقم الصفحة : 378
أستغفر الله ذنباً لست أحصيه
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والله أعلم.
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم وقوله : {سَبْعِينَ رَجُلا} عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلفات.
(1/2064)
المسألة الثالثة : ذكروا أن موسى عليه السلام اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة ، فصاروا اثنين وسبعين ، فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا ، فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر / من خرج ، فقعد كالب ويوشع. وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخاً ، فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا/ ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى الميقات.
المسألة الرابعة : هذا الاختيار هل هو للخروج إلى الميقات الذي كلم الله تعالى موسى فيه وسأل موسى من الله الرؤية أو هو للخروج إلى موضع آخر ؟
فيه أقوال للمفسرين :
القول الأول : إنه لميقات الكلام والرؤية قالوا : إنه عليه السلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام ، حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى عليه السلام. ودخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا ، حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل. ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية وقالوا {سَأَلُوا مُوسَى ا أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ} (البقرة : 55) وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية ، فقال موسى عليه السلام : {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّـاىَا أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ } فالمراد منه قولهم : {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 378
والقول الثاني : أن المراد من هذا الميقات ميقات مغاير لميقات الكلام وطلب الرؤية ، وعلى هذا القول فقد اختلفوا فيه على وجوه : أحدها : أن هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل إلا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل. وثانيها : أنهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل. وثالثها : أنهم لما خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدها ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك الكلام فأخذتهم الرجفة. واحتج القائلون بهذا القول على صحة مذهبهم بأمور : الأول : أنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة التي لا ينكر أنه يمكن أن يكون هذا عوداً إلى تتمة الكلام في القصة الأولى إلا أن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الواحدة في وضع واحد. ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ما ذكر بعض القصة ، ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى ، فإنه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله تعالى عنه. الثاني : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم يظهر هناك منكر ، إلا أنهم {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنما حصلت بسبب ذلك القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقوله السفهاء منا ؟
فلما لم يقل موسى كذلك بل قال : {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ } علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بسبب إقدامهم على عبادة العجل لا بسبب إقدامهم على طلب الرؤية. الثالث : أن الله تعالى ذكر في ميقات الكلام والرؤية أنه خر موسى صعقاً وأنه جعل الجبل دكاً ، وأما الميقات المذكور في هذه الآية ، فإن الله تعالى ذكر أن القوم أخذتهم الرجفة ، ولم يذكر أن موسى عليه السلام أخذته الرجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ؟
واختصاص كل واحد من هذين الميقاتين بهذه الأحكام يفيد ظن أن أحدهما غير الآخر. واحتج القائلون بأن هذا الميقات هو ميقات الكلام وطلب الرؤية بأن قالوا إنه تعالى قال في الآية الأولى : {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا} (الأعراف : 143) فدلت هذه الآية على أن لفظ الميقات مخصوص بذلك الميقات ، فلما قال في هذه الآية : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه سَبْعِينَ رَجُلا لِّمِيقَـاتِنَا } وجب أن يكون المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات.
جزء : 15 رقم الصفحة : 378
وجوابه : أن هذا الدليل ضعيف ، ولا شك أن الوجوه المذكورة في تقوية القول الأول أقوى. والله أعلم.
والوجه الثالث : في تفسير هذا الميقات ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن موسى وهرون عليهما السلام انطلقا إلى سفح جبل ، فنام هرون فتوفاه الله تعالى ، فلما رجع موسى عليه السلام قالوا إنه هو الذي قتل هرون ، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً وذهبوا إلى هرون فأحياه الله تعالى وقال ما قتلني أحد ، فأخذتهم الرجفة هنالك ، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب. والله أعلم.
(1/2065)
المسألة الخامسة : اختلفوا في تلك الرجفة فقيل : إنها رجفة أوجبت الموت. قال السدي : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ولم يبق معي منهم واحد ؟
فماذا أقول لبني إسرائيل وكيف يأمنوني على أحد منهم بعد ذلك ؟
فأحياهم الله تعالى. فمعنى قوله : {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّـاىَ } أن موسى عليه السلام خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوا أنهم ماتوا ، فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني.
والقول الثاني : أن تلك الرجفة ما كانت موتاً ، ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وتنقصم ظهورهم ، وخاف موسى عليه السلام الموت ، فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة.
أما قوله : {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ } فقال أهل العلم : إنه لا يجوز أن يظن موسى عليه السلام أن الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم ، فيجب تأويل الآية ، وفيه بحثان : الأول : أنه / استفهام بمعنى الجحد ، وأراد أنك لا تفعل ذلك. كما تقول : أتهين من يخدمك ؟
أي لا تفعل ذلك. الثاني : قال المبرد : هو استفهام استعطاف ، أي لا تهلكنا.
وأما قوله : {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ} فقال الواحدي رحمه الله : الكناية في قوله : {هِىَ} عائدة إلى الفتنة كما تقول : إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند. والمعنى : أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا ، وعصمت قوماً عنها فثبتوا على الحق ، ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى ، فقال : {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ } ثم قال الواحدي : وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر. قالت المعتزلة : لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل ؛ تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ، ولأنه تعالى قال : {تُضِلُّ بِهَا} أي بالرجفة ، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها ، فوجب حمل هذه الآية على التأويل. فأما قوله : {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ} فالمعنى : امتحانك وشدة تعبدك ، لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها.
جزء : 15 رقم الصفحة : 378
وأما قوله : {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} ففيه وجوه : الأول : تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان ، وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه. والثاني : أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك ، والتقدير : تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء. والثالث : أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى ، وضلال من ضل ، جاز أن يضافا إليه.
واعلم أن هذه التأويلات متسعة ، والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه ، وتقريرها من وجوه : الأول : أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر ، إلا لأجل داعية مرجحة ، وخالق تلك الداعية هو الله تعالى ، وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى وأن الإضلال من الله تعالى. الثاني : أن أحداً من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمناً محقاً ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى. الثالث : أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل ، امتنع أن يخص أحد الاعتقادين بالتحصيل والتكوين ، لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه ، فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلاً ، وذلك يقتضي كون الشيء مشروطاً بنفسه وأنه محال ، فثبت أنه يمتنع أن / يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد ، وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة. والله أعلم.
(1/2066)
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك : {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـافِرِينَ} واعلم أن قوله : {أَنتَ وَلِيُّنَا} يفيد الحصر ، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت ، وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله : {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ } وقوله : {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } المراد منه أن إقدامه على قوله : {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ} جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله : {وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـافِرِينَ} معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلباً للثناء الجميل أو للثواب الجزيل ، أو دفعاً للربقة الخسيسة عن القلب ، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر ، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض ، بل لمحض الفضل والكرم ، فوجب القطع بكونه {خَيْرُ الْغَـافِرِينَ} والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 378
379
اعلم أن هذا من بقية دعاء موسى صلى الله عليه وسلّم عند مشاهدة الرجفة. فقوله : {وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} معناه أنه قرر أولاً أنه الأولى له إلا الله تعالى وهو قوله : {أَنتَ وَلِيُّنَا} ثم إن المتوقع من الولي والناصر أمران : أحدهما : دفع الضرر. والثاني : تحصيل النفع ، ودفع الضرر مقدم على تحصيل النفع ، فلهذا السبب بدأ بطلب دفع الضرر ، وهو قوله : {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع وهو قوله : {وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاخِرَةِ} وقوله : {وَاكْتُبْ} أي وجب لنا والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب وسؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله تعالى عنهم في قوله : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} .
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 379
واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته ، وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء ، فذكر السبب الأول أولاً ، وهو كونه تعالى ولياً له وفرع عليه طلب هذه الأشياء ، ثم ذكر بعده السبب الثاني ، وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال : {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } قال المفسرون : {هُدْنَآ} أي تبنا ورجعنا إليك ، قال الليث : "الهود" التوبة ، وإنما ذكر هذا السبب أيضاً لأن السبب الذي يقتضي حسن طلب هذه الأشياء ليس إلا مجموع هذين الأمرين كونه إلهاً ورباً وولياً ، وكوننا عبيداً له تائبين خاضعين خاشعين ، فالأول : عهد عزة الربوبية. والثاني : عهد ذلة العبودية ، فإذا حصلا واجتمعا فلا سبب أقوى منهما. ولما حكى الله تعالى دعاء موسى عليه السلام ذكر بعده ما كان جواباً لموسى عليه السلام ، فقال تعالى قال : {عَذَابِى أُصِيبُ بِه مَنْ أَشَآءُ } معناه إني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي ، ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه ، وقرأ الحسن {وَمَنْ أَسَآءَ} من الإساءة ، واختار الشافعي هذه القراءة وقوله : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } فيه أقوال كثيرة. قيل المراد من قوله : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل ، وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وإليه الإشارة بقوله : {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وقيل : الوجود خير من العدم ، وعلى هذا التقدير فلا موجود إلا وقد وصل إليه رحمته وأقل المراتب وجوده ، وقيل الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب ، وما بالعرض مرجوح مغلوب ، وقال المعتزلة : الرحمة عبارة عن إرادة الخير ، ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة واللذة والخير لأنه إن كان منتفعاً أو متمكناً من الانتفاع فهو برحمة الله من جهات كثيرة وإن حصل هناك ألم فله الأعواض الكثيرة ، وهي من نعمة الله تعالى ورحمته فلهذا السبب قال : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } وقال أصحابنا قوله : {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } من العام الذي أريد به الخاص ، كقوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 379
أما قوله : {وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا} .
فاعلم أن جميع تكاليف الله محصورة في نوعين : الأول : التروك ، وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، والاحتراز عنها والاتقاء منها ، وهذا النوع إليه الإشارة بقوله : {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } والثاني : الأفعال وتلك التكاليف إما أن تكون متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه.
أما القسم الأول : فهو الزكاة وإليه الإشارة بقوله : {وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ} .
(1/2067)
/ وأما القسم الثاني : فيدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أما العلم فالمعرفة ، وأما العمل فالإقرار باللسان والعمل بالأركان ويدخل فيها الصلاة وإلى هذا المجموع الإشارة بقوله : {وَالَّذِينَ هُم بِـاَايَـاتِنَا يُؤْمِنُونَ} ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة : 2/ 3).
جزء : 15 رقم الصفحة : 379
382
اعلم أنه تعالى لما بين أن من صفة من تكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة التقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بالآيات ، ضم إلى ذلك أن يكون من صفته اتباع {النَّبِىَّ الامِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَه مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ} واختلفوا في ذلك فقال بعضهم : المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة ، إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق ، وقال في قوله : {وَالانجِيلَ} أن المراد سيجدونه مكتوباً في الإنجيل ، لأن من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل ، وقال بعضهم : بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام الرسول فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا الرسول النبي الأمي. والقول الثاني أقرب ، لأن اتباعه قبل أن بعث ووجد لا يمكن. فكأنه تعالى بين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى ، ومن هذه صفته في أيام الرسول إذا كان مع ذلك متبعاً للنبي الأمي في شرائعه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى وصف محمداً صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية بصفات تسع.
/ الصفة الأولى : كونه رسولاً ، وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف.
الصفة الثانية : كونه نبياً ، وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 382
الصفة الثالثة : كونه أمياً. قال الزجاج : معنى {الامِّىِّ} الذي هو على صفة أمة العرب. قال عليه الصلاة والسلام : "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك ، فلهذا السبب وصفه بكونه أمياً. قال أهل التحقيق وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير. فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } (الأعلى : 6) والثاني : أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة ، كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله : {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِه مِن كِتَـابٍ وَلا تَخُطُّه بِيَمِينِكَا إِذًا ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت : 48) الثالث : أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى ، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر/ ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً ، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات.
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {الَّذِى يَجِدُونَه مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ} وهدا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل ، لأن ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله ، لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم النفرات ، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله ، وينفر الناس عن قبول قوله : فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكوراً في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 382
(1/2068)
الصفة الخامسة : قوله : {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} قال الزجاج : يجوز أن يكون قوله : {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} استئنافاً ، ويجوز أن يكون المعنى {يَجِدُونَه مَكْتُوبًا عِندَهُمْ} أنه {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} وأقول مجامع الأمر بالمعروف محصورة في قوله عليه الصلاة والسلام : "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته. أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله ، ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخضوع والخشوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد ، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً ، فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأن الانتفاع مشروط بالحياة ، ومع هذا فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله تعالى ، ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاٌ قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام. ومن حيث إن الله تعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام ، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب إظهار الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ، ويدخل فيه بر الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أن قوله عليه الصلاة والسلام : "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف.
الصفة السادسة : قوله : {وَيَنْهَـاـاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} والمراد منه أضداد الأمور المذكورة وهي عبادة الأوثان ، والقول في صفات الله بغير علم ، والكفر بما أنزل الله على النبيين ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين.
الصفة السابعة : قوله تعالى : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ} من الناس من قال : المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها وهذا بعيد لوجهين : الأول : أن على هذا التقدير تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ محض التكرير. الثاني : أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة ، لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي ؟
بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع وذلك لأن تناولها يفيد اللذة ، والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليل منفصل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 382
الصفة الثامنة : قوله تعالى : {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـا ئِثَ} قال عطاء عن ابن عباس ، يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله : {ذَالِكُمْ فِسْقٌ } وأقول : كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم ، والأصل في المضار الحرمة ، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه / الحرمة إلا لدليل منفصل. وعلى هذا الأصل : فرع الشافعي رحمه الله تحريم بيع الكلب ، لأنه روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم في كتاب الصحيحين أنه قال : "الكلب خبيث ، وخبيث ثمنه" وإذا ثبت أن ثمنه خبيث وجب أن يكون حراماً لقوله تعالى : {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـا ئِثَ} وأيضاً الخمر محرمة لأنها رجس بدليل قوله : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (المائدة : 90) إلى قوله : {رِجْسٌ} والرجس خبيث بدليل إطباق أهل اللغة عليه ، والخبيث حرام لقوله تعالى : {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـا ئِثَ} .
الصفة التاسعة : قوله تعالى : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحده على الجمع ، والباقون {عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} على الواحد. قال أبو علي الفارسي : الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه يدل على ذلك إضافته ، وهو مفرد إلى الكثرة ، كما قال : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ } (البقرة : 20) ومن جمع ، أراد ضروباً من العهود مختلفة ، والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما في قوله : {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } (الأحزاب : 10).
المسألة الثانية : الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه من الحراك لثقله ، والمراد منه : أن شريعة موسى عليه السلام كانت شديدة. وقوله : {وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } المراد منه : الشدائد التي كانت في عباداتهم كقطع أثر البول ، وقتل النفس في التوبة ، وقطع الأعضار الخاطئة ، وتتبع العروف من اللحم وجعلها الله أغلالاً ، لأن التحريم يمنع من الفعل ، كما أن الغل يمنع عن الفعل ، وقيل : كانت بنو إسرائيل إذا قامت إلى الصلاة لبسوا المسوح ، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعاً لله تعالى ، فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 382
(1/2069)
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة ، لأن كل ما كان ضرراً كان إصراً وغلاً ، وظاهر هذا النص يقتضي عدم المشروعية ، وهذا نظير لقوله عليه الصلاة والسلام : "لا ضرر ولا ضرار" في الإسلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" وهو أصل كبير في الشريعة.
واعلم أنه لما وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات التسع. قال بعده : {فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِه } قال ابن عباس : يعني من اليهود {وَعَزَّرُوهُ} يعني وقروه. قال صاحب "الكشاف" : أصل التعزير المنع ومنه التعزير وهو الضرب ، دون الحد ، لأنه منع من معاودة القبيح.
ثم قال تعالى : {وَنَصَرُوهُ} أي على عدوه {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَه ا } وهو القرآن. وقيل الهدى والبيان والرسالة. وقيل الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
فإن قيل : كيف يمكن حمل النور ههنا على القرآن ؟
والقرآن ما أنزل مع محمد ، وإنما أنزل مع جبريل.
/ قلنا : معناه إنه أنزل مع نبوته لأن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن.
ثم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات { أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 382
387
اعلم أنه تعالى لما قال : {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ثم بين تعالى أن من شرط حصول الرحمة لأولئك المتقين ، كونهم متبعين للرسول النبي الأمي ، حقق في هذه الآية رسالته إلى الخلق بالكلية. فقال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وفي هذه الكلمة مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى جميع الخلق. وقال طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية وهم أتباع عيسى الأصفهاني : أن محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب. وغير مبعوث إلى بني إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم ؛ هذه الآية. لأن قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب يتناول كل الناس.
ثم قال : {إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثاً إلى جميع الناس ، وأيضاً فما يعلم بالتواتر من دينه ، أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى كل العالمين. فأما أن يقال : إنه كان رسولاً حقاً أو ما كان كذلك ، فإن كان رسولاً حقاً ، امتنع الكذب عليه. ووجب الجزم بكونه صادقاً في كل ما يدعيه ، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق ، وجب كونه صادقاً في هذا القول ، وذلك يبطل قول من يقول : إنه كان مبعوثاً إلى العرب فقط ، لا إلى بني إسرائيل.
وأما قول القائل : إنه ما كان رسولاً حقاً ، فهذا يقتضي القدح في كونه رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم ، فثبت أن القول بأنه رسول إلى بعض الخلق دون بعض كلام باطل متناقض.
/ إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} من الناس من قال إنه عام دخله التخصيص ومنهم من أنكر ذلك ، أما الأولون فقالوا : إنه دخله التخصيص من وجهين : الأول : أنه رسول إلى الناس إذاكانوا من جملة المكلفين فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولاً إليهم ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال : "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" والثاني : أنه رسول الله إلى كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه ، حتى يمكنه عند ذلك متابعته ، أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف العالم لم يبلغهم خبر وجوده ولا خبر معجزاته ، فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته ومن الناس من أنكر القول بدخول التخصيص في الآية من هذين الوجهين :
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
أما الأول : فتقريره أن قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب وهذا الخطاب لا يتناول إلا المكلفين وإذا كان كذلك فالناس الذين دخلوا تحت قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} ليسوا إلا المكلفين من الناس ، وعلى هذا التقدير فلم يلزم أن يقال : إن قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} عام دخله التخصيص.
وأما الثاني : فلأنه يبعد جداً أن يقال : حصل في طرف من أطراف الأرض قوم لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام ، وخبر معجزاته وشرائعه ، وإذا كان ذلك كالمستبعد لم يكن بنا حاجة إلى التزام هذا التخصيص.
(1/2070)
المسألة الثانية : هذه الآية وإن دلت على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق/ بل يجب الرجوع في أنه هل كان في غيره من الأنبياء من كان مبعوثاً إلى كل الخلق أم لا ؟
إلى سائر الدلائل. فنقول : تمسك جمع من العلماء في أن أحداً غيره ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق لقوله عليه الصلاة والسلام : "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ، أرسلت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، ونصرت على عدوي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر ، وأطعمت الغنيمة دون من قبلي. وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي".
ولقائل أن يقول : هذا الخبر لا يتناول دلالته على إثبات هذا المطلوب ، لأنه لا يبعد أن يكون المراد مجموع هذه الخمسة من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولم يحصل لأحد سواه ولم يلزم من كون هذا المجموع من خواصه كون واحد من آحاد هذا المجموع من خواصه ، وأيضاً قيل إن آدم عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع أولاده ، وعلى هذا التقدير فقد كان مبعوثاً إلى جميع الناس ، وأن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة ، كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه ، مع أن جميع / الناس في ذلك الزمان ما كان إلا ذلك القوم.
أما قوله تعالى : {الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم إني رسول الله إليكم أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى.
واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة.
الأصل الأول : إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً. والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى : {الَّذِى لَه مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وذلك لأن أجسام السموات والأرض ، تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر ، من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم ، وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير ، وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل ، لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده ، أو إن حصل له مؤثر ، لكن كان ذلك المؤثر موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكناً.
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
والأصل الثاني : إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند ، وإليه الإشارة بقوله : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل ، لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان ، وأرسل أحد الإلهين نبياً إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقاً له ، بل كان مخلوقاً للإله الثاني ، وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته ، فكان بعثة الرسول إليه ، وإيجاب الطاعة عليه ظلماً وباطلاً. أما إذا ثبت أن الإله واحد ، فحينئذ يكون جميع الخلق عبيداً له ، ويكون تكليفه في الكل نافذاً وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازماً ، فثبت أن ما لم يثبت كون الإله تعالى واحداً لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكليف جائزاً.
والأصل الثالث : إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة ، لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك ، كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثاً ولغواً ، وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله : {يُحْىِا وَيُمِيتُ } لأنه لما أحيا أولاً ، ثبت كونه قادراً على الإحياء ثانياً ، فيكون قادراً على الإعادة والحشر والنشر ، وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاماً عظيماً ، فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية ، ليكون قيامه بتلك الطاعة قائماً مقام الشكر عن الإحياء الأول ، وأيضاً لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني ، فحينئذ يكون قادراً على إيصال الجزاء إليه.
(1/2071)
واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة. ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف ، لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه ، / وأيضاً إنه منعم على الكل بأعظم النعم ، وأيضاً إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم ، وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام ، في أنه يحسن منه تكليف الخلق ، أما بحسب السبب الأول ، فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ، وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة ، وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة ، فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل ، ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف ، فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً ، وعلى أن هذا الإله واحد ، وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله : {قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا الترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأنه لما بين أولاً أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن ، أردفه بذكر أن محمداً رسول حق من عند الله لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولاً ، ثم حصوله ثانياً ، ثم إنه بدأ بقوله : {مَا كَانَ} لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل ، والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه ، والأصل يجب تقديمه. فلهذا السبب بدأ بقوله : {مَا كَانَ} ثم أتبعه بقوله : {وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الامِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَـاتِه } .
واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبياً حقاً ، وتقريره : أن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت على نوعين :
النوع الأول : المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة ، وأجلها وأشرفها أنه كان رجلاً أمياً لم يتعلم من أستاذ ، ولم يطالع كتاباً ، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء ، لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء ، وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة ، ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين ، فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه ، مع أنه كان رجلاً أمياً لم يلق أستاذاً ولم يطالع كتاباً من أعظم المعجزات ، وإليه الإشارة بقوله : {النَّبِىِّ الامِّىِّ} .
والنوع الثاني : من معجزاته الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر ، ونبوع الماء من بين أصابعه. وهي تسمى بكلمات الله تعالى ، ألا ترى أن عيسى عليه السلام ، لما كان حدوثه أمراً غريباً مخالفاً للمعتاد ، لا جرم سماه الله تعالى كلمة. فكذلك المعجزات لما كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى ، وهذا النوع هو المراد بقوله : {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَـاتِه } / أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه ، فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبياً صادقاً من عند الله.
واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل ، وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل. أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرق الأمر والنهي والترغيب والترهيب. وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك ، فثبت أن لفظ {وَاتَّبِعُوهُ} يتناول القسمين. وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} دليلاً على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي ، ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل ، وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول صلى الله عليه وسلّم .
فإن قيل : الشيء الذي أتي به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجباً عليه ، ويحتمل أيضاً أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً ، فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً ، فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا ، كان ذلك تركاً لمتابعته ، ونقضاً لمبايعته. والآية تدل على وجوب متابعته ، فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا.
(1/2072)
قلنا : المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع ، بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنه تابعه عليه. ولو لم يأت به. قيل : إنه خالفه فيه. فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة ، ودلت الآية على وجوب المتابعة لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم. بقي ههنا أنا لا نعرف أنه عليه السلام أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب. فنقول : حال الدواعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم ، فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي ، لكونها أموراً مخفية عنا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر. لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها ، فزالت هذه الشبهة ، وتقريره : أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا لإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل.
إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال.
قلنا : إن هذا العمل فعله أفضل من تركه ، وإذا كان الأمر كذلك : فحينئذ نعمل أن الرسول / قد أتى به في الجملة ، لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل ، فعلمنا أنه عليه السلام قد أتى بهذا الطريق الأفضل. وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك ، والمشكوك لا يعارض المعلوم ، فثبت أنه عليه السلام أتى بالجانب الأفضل. ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى في هذه الآية : {وَاتَّبِعُوهُ} فهذا أصل شريف ، وقانون كلي في معرفة الأحكام ، دال على النصوص لقوله تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى } (النجم : 3 ، 4) فوجب علينا مثله لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
وأما قوله : {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ففيه بحثان : أحدهما : أن كلمة "لعل" للترجي ، وذلك لا يليق بالله ، فلا بد من تأويله. والثاني : أن ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من كل المكلفين الهداية والإيمان على قول المعتزلة ، والكلام في تقرير هذين المقامين قد سبق في هذا الكتاب مراراً كثيرة ، فلا فائدة في الإعادة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
387
واعلم أنه تعالى لما وصف الرسول ، وذكر أنه يجب على الخلق متابعته ، ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من اتبع الحق وهدى إليه ، وبين أنهم جماعة ، لأن لفظ الأمة ينبىء عن الكثرة ، واختلفوا في أن هذه الأمة متى حصلت ، وفي أي زمان كانت ؟
فقيل هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأسلموا مثل عبد الله بن سلام ، وابن صوريا والاعتراض عليه بأنهم كانوا قليلين في العدد ، ولفظ الأمة يقتضي الكثرة ، يمكن الجواب عنه بأنه لما كانوا مختلفين في الدين ، جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل : 120) وقيل : إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك ، وقال السدي وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء ، بقي سبط في جملة الإثني عشر فما صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم ، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ثم هؤلاء اختلفوا ، منهم من قال : إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن ومنهم من قال إنهم الآن على دين محمد صلى الله عليه وسلّم يستقبلون الكعبة ، وتركوا السبت وتمسكوا بالجمعة ، لا يتظالمون ولا يتحاسدون ولا يصل إليهم منا أحد ولا / إلينا منهم أحد. وقال بعض المحققين : هذا القول ضعيف لأنه إما أن يقال : وصل إليهم خبر محمد صلى الله عليه وسلّم ، أو ما وصل إليهم هذا الخبر.
فإن قلنا : وصل خبره إليهم ، ثم إنهم أصروا على اليهودية فهم كفار ، فكيف يجوز وصفهم بكونهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ؟
وإن قلنا بأنهم لم يصل إليهم خبر محمد صلى الله عليه وسلّم ، فهذا بعيد ، لأنه لما وصل خبرهم إلينا ، مع أن الدواعي لا تتوفر على نقل أخبارهم ، فكيف يعقل أن لا يصل إليهم خبر محمد عليه الصلاة والسلام مع أن الدنيا قد امتلأت من خبره وذكره ؟
فإن قالوا : أليس إن يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم ؟
قلنا : هذا ممنوع ، فمن أين عرف أنه لم يصل خبرنا إليهم ، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
(1/2073)
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق {وَبِه يَعْدِلُونَ} قال الزجاج : العدل الحكم بالحق. يقال : هو يقضي بالحق ويعدل ؛ وهو حكم عادل ، ومن ذلك قوله : {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ} (النساء : 129) وقوله : {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } (الأنعام : 152).
جزء : 15 رقم الصفحة : 387
389
اعلم أن المقصود من هذه الآية ، شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل : أحدهما : أنه تعالى جعلهم اثني عشر سبطاً ، وقد تقدم هذا في سورة البقرة ، أو المراد أنه تعالى فرق بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة ، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلاً من أولاد يعقوب ، فميزهم وفعل بهم ذلك لئلا يتحاسدوا فيقع فيهم الهرج والمرج. وقوله : {وَقَطَّعْنَـاهُمُ} أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض وقرىء {وَقَطَّعْنَـاهُمُ} بالتخفيف وههنا سؤالان :
/ السؤال الأول : مميز ما عدا العشرة مفرد ، فما وجه مجيئه مجموعاً ، وهلا قيل : اثني عشر سبطاً ؟
والجواب : المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة ، وكل قبيلة أسباط ، فوضع أسباطاً موضع قبيلة.
السؤال الثاني : قال : {اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} مع أن السبط مذكر لا مؤنث.
الجواب قال الفراء : إنما قال ذلك ، لأنه تعالى ذكر بعده {أُمَمًا } فذهب التأنيث إلى الأمم.
ثم قال : ولو قال : اثني عشر لأجل أن السبط مذكر كان جائزاً. وقال الزجاج : المعنى {وَقَطَّعْنَـاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ} فرقة {أَسْبَاطًا} فقوله : {أَسْبَاطًا} نعت لموصوف محذوف ، وهو الفرقة. وقال أبو علي الفارسي : ليس قوله : {أَسْبَاطًا} تمييزاً ، ولكنه بدل من قوله : {اثْنَتَىْ عَشْرَةَ} .
وأما قوله : {أُمَمًا } قال صاحب "الكشاف" : هو بدل من {اثْنَتَىْ عَشْرَةَ} بمعنى : وقطعناهم أمما لأن كل سبط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد ، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى ولا تكاد تأتلف. وقرىء {اثْنَتَىْ عَشْرَةَ} بكسر الشين.
جزء : 15 رقم الصفحة : 389
النوع الثاني : من شرح أحوال بني إسرائيل قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى ا إِذِ اسْتَسْقَـاـاهُ قَوْمُه ا أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } وهذه القصة أيضاً قد تقدم ذكرها في سورة البقرة. قال الحسن : ما كان إلا حجراً اعترضه وإلا عصاً أخذها.
واعلم أنهم كانوا ربما احتاجوا في التيه إلى ماء يشربونه ، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه الحجر. وكانوا يريدونه مع أنفسهم فيأخذوا منه قدر الحاجة ، وقوله : {فَانابَجَسَتْ} قال الواحدي : فانبجس الماء وانبجاسه انفجاره. يقال : بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس إذا تفجر ، هذا قول أهل اللغة ، ثم قال : والانبجاس والانفجار سواء ، وعلى هذا التقدير فلا تناقض بين الانبجاس المذكور ههنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة ، وقال آخرون : الانبجاس خروج الماء بقلة ، والانفجار خروجه بكثرة ، وطريق الجمع : أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ، ثم صار كثيراً ، وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء ، ولما ذكر تعالى أنه كيف كان يسقيهم ، ذكر ثانياً أنه ظلل الغمام عليهم ، وثالثا : أنه أنزل عليهم المن والسلوى ، ولا شك أن مجموع هذه الأحوال نعمة عظيمة من الله تعالى ، لأنه تعالى سهل عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه ودفع عنهم مضار الشمس.
ثم قال : {كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ } والمراد أقصر أنفسهم على ذلك المطعوم وترك غيره.
/ ثم قال تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا} وفيه حذف ، وذلك لأن هذا الكلام إنما يحسن ذكره لو أنهم تعدوا ما أمرهم الله به ، وذلك إما بأن تقول إنهم ادخروا مع أن الله منعهم منه ، أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم الله عنه ، أو لأنهم سألوا غير ذلك مع أن الله منعهم منه ، ومعلوم أن المكلف إذا ارتكب المحظور فهو ظالم لنفسه ، فلذلك وصفهم الله تعالى به ونبه بقوله : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وذلك أن المكلف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلا نفسه حيث سعى في صيرورة نفسه مستحقة للعقاب العظيم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 389
390
اعلم أن هذه لقصة أيضاً مذكورة مع الشرح والبيان في سورة البقرة.
(1/2074)
بقي أن يقال : إن ألفاظ هذه الآية تخالف ألفاظ الآية التي في سورة البقرة من وجوه : الأول : في سورة البقرة {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ} (البقرة : 58) وههنا قال : {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ} والثاني : أنه قال في سورة البقرة {فَكُلُوا } بالفاء وههنا {وَكُلُوا } بالواو. والثالث : أنه قال في سورة البقرة {رَغَدًا} وهذه الكلمة غير مذكورة في هذه السورة. والرابع : أنه قال في سورة البقرة : {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وقال ههنا على التقديم والتأخير. والخامس : أنه قال في البقرة {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـايَـاكُمْ } وقال ههنا : {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِى ئَـاتِكُمْ } والسادس : أنه قال في سورة البقرة : {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وههنا حذف حرف الواو. والسابع : أنه قال في سورة البقرة : {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } وقال ههنا : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} والثامن : أنه قال في سورة البقرة : {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقال ههنا : {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ، ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة.
أما الأول : وهو أنه قال في سورة البقرة : {ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ} وقال ههنا : {اسْكُنُوا } فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولاً ، ثم سكونها ثانياً.
جزء : 15 رقم الصفحة : 390
وأما الثاني : فهو أنه تعالى قال في البقرة : {ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا } بالفاء. وقال ههنا : {اسْكُنُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا } بالواو والفرق أن الدخول حالة مخصوصة ، كما يوجد بعضها ينعدم. فإنه إنما يكون داخلاً في أول دخوله ، وأما ما بعد ذلك فيكون سكوناً لا دخولاً.
إذا ثبت هذا فنقول : الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار. فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال : {ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ} وأما السكون فحالة مستمرة باقية. فيكون الأكل حاصلاً معه لا عقيبه فظهر الفرق.
وأما الثالث : وهو أنه ذكر في سورة البقرة {رَغَدًا} وما ذكره هنا فالفرق الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ ، لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ، ولما كان ذلك الأكل ألذ لا جرم ذكر فيه قوله : {رَغَدًا} وأما الأكل حال سكون القرية ، فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ما لم تكن اللذة فيه متكاملة ، فلا جرم ترك قوله : {رَغَدًا} فيه.
وأما الرابع : وهو قوله في سورة البقرة : {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} وفي سورة الأعراف على العكس منه ، فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر ، إلا أنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى ، وإظهار الخضوع والخشوع لم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير.
وأما الخامس : وهو أنه قال في سورة البقرة : {خَطَـايَـاكُمْ } وقال ههنا : {خَطِى ئَـاتِكُمْ } فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة ، فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع.
وأما السادس : وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة : {وَسَنَزِيدُ} بالواو وههنا حذف الواو فالفائدة في حذف الواو أنه استئناف ، والتقدير : كان قائلاً قال : وماذا حصل بعد الغفران ؟
فقيل له {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} .
وأما السابع : وهو الفرق بين قوله : {أَنزَلْنَآ} وبين قوله : {أَرْسَلْنَا} فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة ، والإرسال يشعر بها ، فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ، ثم جعله كثيراً ، وهو نظير ما ذكرناه في الفرق بين قوله : {فَانابَجَسَتْ} وبين قوله : {فَانفَجَرَتْ} .
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 390
وأما الثامن : وهو الفرق بين قوله : {يَظْلِمُونَ} وبين قوله : {يَفْسُقُونَ} فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين ، لأجل أنهم ظلموا أنفسهم ، وبكونهم فاسقين ، لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى ، فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين ، فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة ، وتمام العلم بها عند الله تعالى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 390
391
اعلم أن هذه القصة أيضاً مذكورة في سورة البقرة. وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم ، لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى ، وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء : الأول : أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيهاً لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبمعجزاته ليس شيئاً حدث في هذا الزمان ، بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلاً في أسلافهم من الزمان القديم.
(1/2075)
والفائدة الثانية : أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا ؟
ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة ، وغير ذاهل عن دقائقها ، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلّم رجلاً أمياً لم يتعلم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جارياً مجرى المعجز.
جزء : 15 رقم الصفحة : 391
المسألة الثانية : الأكثرون على أن تلك القرية أيلة. وقيل : مدين. وقيل طبرية ، والعرب تسمى المدينة قرية ، وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن ، وقوله : {الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى : {ذَالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُه حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (البقرة : 196) وقوله : {إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ} يعني يجاوزون حد الله فيه ، وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه ، وقرىء {يَعْدُونَ} بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و{يَعْدُونَ} من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و{السَّبْتِ} مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله : {إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ} معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم ، وكذلك قوله : {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} معناه : يوم تعظيمهم أمر السبت ، ويدل عليه قوله : {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ } ويؤكده أيضاً قراءة عمر بن عبد العزيز {يَوْمٍ} وقرىء {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ } بضم الباء ، وقرأ على رضى الله عنه {لا يَسْبِتُونَ } بضم الياء من أسبتوا ، وعن الحسن {لا يَسْبِتُونَ } على البناء للمفعول ، وقوله : {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} نصب بقوله : {يَعْدُونَ} والمعنى : سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان ، وقوله : {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع ، ودار شارعة أي دنت من الطريق ، ونجوم شارعة أي دنت من المغيب. وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها ، قال ابن عباس ومجاهد : إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به ، يوم الجمعة ، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل. وذلك بلاء ابتلاهم الله به ، فذلك معنى قوله : {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَا لا تَأْتِيهِمْ } وقوله : {كَذَالِكَ نَبْلُوهُم} أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم ، وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن/ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح ، لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن ذل الكفر والمعصية. فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 391
393
اعلم أن قوله : {وَإِذْ قَالَتِ} معطوف على قوله : {إِذْ يَعْدُونَ} وحكمه حكمه في الأعراب وقوله : {أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين ما كانوا يقلعون عن وعظهم. وقوله : {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } لتماديهم في الشر ، وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفعهم وقوله : {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} فيه بحثان :
البحث الأول : قرأ حفص عن عاصم {مَعْذِرَةً} بالنصب والباقون بالرفع ، أما من نصب {مَعْذِرَةً} فقال الزجاج معناه : نعتذر معذرة ، وأما من رفع فالتقدير : هذه معذرة أو قولنا معذرة وهي خبر لهذا المحذوف.
البحث الثاني : المعذرة مصدر كالعذر ، وقال أبو زيد : عذرته أعذره عذراً ومعذرة ، ومعنى عذره في اللغة أي قام بعذره ، وقيل : عذره ، يقال : من يعذرني أي يقوم بعذري ، وعذرت فلاناً فيما صنع أي قمت بعذره ، فعلى هذا معنى قوله : {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى ، فإنا إذا طولنا بإقامة النهي عن المنكر.
(1/2076)
قلنا : قد فعلنا فنكون بذلك معذورين ، وقال الأزهري : المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر وأقيم مقام الاعتذار. كأنهم قالوا : موعظتنا اعتذار إلى ربنا. فأقيم الاسم مقام الاعتذار ، ويقال : اعتذر فلان اعتذاراً وعذراً ومعذرة من ذنبه فعذرته ، وقوله : {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي وجائز عندنا أن ينتفعوا بهذا الوعظ فيتقوا الله ويتركوا هذا الذنب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 393
إذا عرفت هذا فنقول : في هذه الآية قولان :
القول الأول : أن أهل القرية منهم من صاد السمك وأقدم على ذلك الذنب ومنهم من لم يفعل ذلك ، وهذا القسم الثاني صاروا قسمين : منهم من وعظ الفرقة المذنبة ، وزجرهم عن ذلك الفعل ، ومنهم من سكت عن ذلك الوعظ ، وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم : لم تعظوهم ، مع العلم بأن / الله مهلكهم أو معذبهم ؟
يعني : أنهم قد بلغوا في الإصرار على هذا الذنب إلى حد لا يكادون يمنعون عنه ، فصار هذا الوعظ عديم الفائدة عديم الأثر ، فوجب تركه.
والقول الثاني : أن أهل القرية كانوا فرقتين : فرقة أقدمت على الذنب ، وفرقة أحجموا عنه ووعظوا الأولين ، فلما اشتغلت هذه الفرقة بوعظ الفرقة المذنبة المتعدية المقدمة على القبيح ، فعند ذلك قالت الفرقة المذنبة للفرقة الواعظة {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} بزعمكم ؟
قال الواحدي : والقول الأول أصح ، لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله : {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} خطاباً من الفرقة الناهية للفرقة المعتدية لقالوا : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
أما قوله : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِه } يعني : أنهم لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه ، أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الظالمين المقدمين على فعل المعصية.
واعلم أن لفظ الآية يدل على أن الفرقة المتعدية هلكت ، والفرقة الناهية عن المنكر نجت. أما الذين قالوا : {لِمَ تَعِظُونَ} فقد اختلف المفسرون في أنهم من أي الفريقين كانوا ؟
فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه توقف فيه. ونقل عنه أيضاً : هلكت الفرقتان ونجت الناهية ، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ولا نقول شيئاً. قال الحسن : الفرقة الساكتة ناجية ، فعلى هذا نجت فرقتان وهلكت الثالثة. واحتجوا عليه بأنهم لما قالوا : {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} دل ذلك على أنهم كانوا منكرين عليهم أشد الإنكار ، وأنهم إنما تركوا وعظهم لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ ولا ينتفعون به.
فإن قيل : إن ترك الوعظ معصية ، والنهي عنه أيضاً معصية ، فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله : {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } .
جزء : 15 رقم الصفحة : 393
قلنا : هذا غير لازم ، لأن النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية. فإذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ثم ذكر أنه تعالى أخذهم بعذاب بئيس ، والظاهر أن هذا العذاب غير المسخ المتأخر ذكره. وقوله : {بِعَذَابا بَئِيس } أي شديد وفي هذه اللفظة قراآت : أحدها : {بَئِيس } بوزن فعيل. قال أبو علي : وفيه وجهان : الأول : أن يكون فعيلاً من بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد. والآخر : ما قاله أبو زيد ، وهو أنه من البؤس وهو الفقر يقال بئس الرجل يبأس بؤساً وبأساً وبئيساً إذا افتقر فهو بائس ، أي فقير. فقوله : {بِعَذَابا بَئِيس } أي ذي بؤس. والقراءة الثانية {بِئْسَ} بوزن حذر. والثالثة : على قلب الهمزة ياء ، كالذيب في ذئب ، والرابعة : على فيعل. والخامسة : كوزن / ريس على قلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء فيها. والسادسة : على تخفيف بيس كهين في هين ، وهذه القراآت نقلها صاحب "الكشاف". ثم بين تعالى أنهم مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا.
جزء : 15 رقم الصفحة : 393
393
وفيه مباحث :
البحث الأول : العتو عبارة عن الإباء والعصيان ، وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا ، لأنهم أبوا عما نهوا عنه ، ومعلوم أنه ليس المراد ذلك فلا بد من إضمار ، والتقدير : فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه ، ثم حذف المضاف ، وإذا أبوا ترك المنهي كان ذلك ارتكاباً للمنهى.
البحث الثاني : من الناس من قال : إن قوله : {عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} ليس من المقال ، بل المراد منه : أنه تعالى فعل ذلك. قال : وفيه دلالة على أن قوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) هو بمعنى الفعل لا الكلام. وقال الزجاج : أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع فيكون أبلغ.
واعلم أن حمل هذا الكلام على هذا بعيد ، لأن المأمور بالفعل يجب أن يكون قادراً عليه ، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة.
(1/2077)
البحث الثالث : قال ابن عباس : أصبح القوم وهم قردة صاغرون ، فمكثوا كذلك ثلاثاً فرآهم الناس ثم هلكوا. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن شباب القوم صاروا قردة ، والشيوخ خنازير ، وهذا القول على خلاف الظاهر. واختلفوا في أن الذين مسخوا هل بقوا قردة ؟
وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا ، وانقطع نسلهم ، ولا دلالة في الآية عليه ، والكلام في المسخ وما فيه من المباحثات قد سبق بالاستقصاء في سورة البقرة. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 393
395
اعلم أنه تعالى لما شرح ههنا بعض مصالح أعمال اليهود وقبائح أفعالهم ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة ، قال سيبويه : أذن أعلم. وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه قوله تعالى : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُا بَيْنَهُمْ} (الأعراف : 44) وقوله : {تَأَذَّنَ} بمعنى أذن أي أعلم. ولفظة تفعل ، ههنا ليس معناه أنه أظهر شيئاً ليس فيه ، بل معناه فعل فقوله : {تَأَذَّنَ} بمعنى أذن كما في قوله : {سُبْحَـانَه وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس : 18) معناه علا وارتفع لا بمعنى أنه أظهر من نفسه العلو ، وإن لم يحصل ذلك فيه وأما قوله {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} ففيه بحثان :
البحث الأول : أن اللام في قوله : {لَيَبْعَثَنَّ} جواب القسم لأن قوله : {وَإِذْ تَأَذَّنَ} جار مجرى القسم في كونه جازماً بذلك الخبر.
البحث الثاني : الضمير في قوله : {عَلَيْهِمْ} يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله : {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَـاسِئِينَ} (الأعراف : 166) لكنه قد علم أن الذين مسخوا لم يستمر عليهم التكليف. ثم اختلفوا فقال بعضهم : المراد نسلهم والذين بقوا منهم. وقال آخرون : بل المراد سائر اليهود فإن أهل القرية كانوا بين صالح وبين متعد فمسخ المتعدي وألحق الذل بالبقية ، وقال الأكثرون : هذه الآية في اليهود الذين أدركهم الرسول صلى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى شريعته ، وهذا أقرب. لأن المقصود من هذه الآية تخويف اليهود الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلّم وزجرهم عن البقاء على اليهودية ، لأنهم إذا علموا بقاء الذل عليهم إلى يوم القيامة انزجروا.
البحث الثالث : لا شبهة في أن المراد اليهود الذين ثبتوا على الكفر واليهودية ، فأما الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم فخارجون عن هذا الحكم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 395
أما قوله : {إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } فهذا تنصيص على أن ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة وذلك يقتضي أن ذلك العذاب إنما يحصل في الدنيا ، وعند ذلك اختلفوا فيه فقال بعضهم : هو أخذ الجزية. وقيل : الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى : {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } وقيل : القتل والقتال. وقيل : الإخراج والإبعاد من الوطن ، وهذا القائل جعل هذه الآية في أهل خيبر وبني قريظة والنضير ، وهذه الآية نزلت في اليهود على أنه لا دولة ولا عز ، وأن الذل يلزمهم ، والصغار لا يفارقهم. ولما أخبر الله تعالى في زمان محمد عن هذه الواقعة. ثم شاهدنا بأن الأمر كذلك كان هذا أخباراً صدقاً عن الغيب ، فكان معجزاً ، والخبر المروي في أن أتباع الرجال هم اليهود إن صح ، فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ثم دانوا بإلهيته ، فذكروا بالاسم الأول ولولا ذلك لكان في وقت اتباعهم الدجال قد خرجوا عن الذلة والقهر ، وذلك خلاف هذه الآية. واحتج بعض العلماء / على لزوم الذل والصغار لليهود بقوله تعالى : {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ} (آل عمران : 112) إلا أن دلالتها ليست قوية لأن الاستثناء المذكور في هذه الآية يمنع من القطع على لزوم الذل لهم في كل الأحوال. أما الآية التي نحن في تفسيرها لم يحصل فيها تقييد ولا استثناء ، فكانت دلالتها على هذا المعنى قوية جداً. واختلفوا في أن الذين يلحقون هذا الذل بهؤلاء اليهود من هم/ فقال بعضهم : الرسول وأمته وقيل يحتمل دخول الولاة الظلمة منهم ، وإن لم يؤمروا بالقيام بذلك إذا أذلوهم. وهذا القائل حمل قوله : {لَيَبْعَثَنَّ} على نحو قوله : {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (مريم : 83) فإذا جاز أن يكون المراد بالإرسال التخلية ، وترك المنع ، فكذلك البعثة ، وهذا القائل. قال : المراد بختنصر وغيره إلى هذا اليوم ، ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله : {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } والمراد التحذير من عقابه في الآخرة مع الذلة في الدنيا {وَإِنَّه لَغَفُورٌ رَّحِيمُ } لمن تاب من الكفر واليهودية ، ودخل في الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلّم .
جزء : 15 رقم الصفحة : 395
395
(1/2078)
واعلم أن قوله : {وَقَطَّعْنَـاهُمُ} أحد ما يدل على أن الذي تقدم من قوله : {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} (الأعراف : 167) المراد جملة اليهود ، ومعنى أي فرقناهم تفريقاً شديداً. فلذلك قال بعده : {وَقَطَّعْنَـاهُمْ فِي الارْضِ أُمَمًا } وظاهر ذلك أنه لا أرض مسكونة إلا ومنهم فيها أمة ، وهذا هو الغالب من حال اليهود ، ومعنى قطعناهم ، فإنه قلما يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم.
ثم قال : {مِّنْهُمُ الصَّـالِحُونَ} قيل المراد القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام لأنه كان فيهم أمة يهدون بالحق. وقال ابن عباس ومجاهد : يريد الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلّم وآمنوا به وقوله : {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَالِكَ } أي ومنهم قوم دون ذلك ، والمراد من أقام على اليهودية.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله : {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَالِكَ } من يكون صالحاً إلا أن صلاحه كان دون صلاح الأولين لأن ذلك إلى الظاهر أقرب.
قلنا : أن قوله بعد ذلك : {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يدل على أن المراد بذلك من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح.
/ أما قوله : {وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أي عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات ، وهي النعم والخصب والعافية ، والسيئات هي الجدب والشدائد ، قال أهل المعاني : وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة ، أما النعم فلأجل الترغيب ، وأما النقم فلأجل الترهيب. وقوله : {يَرْجِعُونَ} يريد كي يتوبوا.
جزء : 15 رقم الصفحة : 395
397
اعلم أن قوله : {فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ظاهره أن الأول ممدوح. والثاني مذموم ، وإذا كان كذلك ، فيجب أن يكون المراد : فخلف من بعد الصالحين منهم الذين تقدم ذكرهم خلف. قال الزجاج : الخلف ما أخلف عليك مما أخذ منك ، فلهذا السبب يقال للقرن الذي يجيء في إثر قرن خلف ، ويقال فيه أيضاً خلف ، وقال أحمد بن يحيى : الناس كلهم يقولون خلف صدق وخلف سوء ، وخلف للسوء لا غير. وحاصل الكلام : أن من أهل العربية من قال الخلف والخلف قد يذكر في الصالح وفي الرديء ، ومنهم من يقول الخلف مخصوص بالذم قال لبيد.
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنهم من يقول : الخلف المستعمل في الذم مأخوذ من الخلف ، وهو الفساد ، يقال للردىء من القول خلف ، ومنه المثل المشهور سكت ألفاً ونطق خلفاً ، وخلف الشيء يخلف خلوفاً وخلفاً إذا فسد / وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته. وقوله : {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـاذَا الادْنَى } قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء ، يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ، وأما العرض بسكون الراء فما خالف العين ، أعني الدراهم والدنانير وجمعه عروض ، فكان كل عرض عرضاً وليس كل عرض عرضاً ، والمراد بقوله : {عَرَضَ هَـاذَا الادْنَى } أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها ، وفي قوله : {هَـاذَا الادْنَى } تخسيس وتحقير ، و{الادْنَى } إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلام. ثم حكى تعالى عنهم أنهم يستحقرون ذلك الذنب ويقولون سيغفر لنا.
جزء : 15 رقم الصفحة : 397
ثم قال : {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُه يَأْخُذُوه } والمراد الأخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها. ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال : {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَـاقُ الْكِتَـابِ} أي التوراة {أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة ، وقيل : المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار ، وذلك قول باطل.
فإن قيل : فهذا القول يدل على أن حكم التوراة هو أن صاحب الكبيرة لا يغفر له.
قلنا : أنهم كانوا يقطعون بأن هذه الكبيرة مغفورة ، ونحن لا نقطع بالغفران بل نرجو الغفران ، ونقول : إن بتقدير أن يعذب الله عليها فذلك العذاب منقطع غير دائم.
ثم قال تعالى : {وَدَرَسُوا مَا فِيه } أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه.
ثم قال : {وَالدَّارُ الاخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة {أَفَلا يَعْقِلُونَ} .
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَـابِ} يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به ، وقرأ أبو بكر عن عاصم {يُمَسِّكُونَ} مخففة والباقون بالتشديد. أما حجة عاصم فقوله تعالى : {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ} (البقرة : 229) وقوله : {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (الأحزاب : 37) وقوله : {فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (المائدة : 4) قال الواحدي : والتشديد أقوى ، لأن التشديد للكثرة وههنا أريد به الكثرة ، ولأنه يقال : أمسكته ، وقلما يقال أمسكت به.
إذا عرفت هذا فنقول : في قوله : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَـابِ} قولان :
(1/2079)
القول الأول : أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} والمعنى : إنا لا نضيع أجرهم وهو كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} (الكهف : 30) وهذا الوجه حسن لأنه لما ذكر وعيد من ترك التمسك بالكتاب أردفه بوعد من تمسك به.
جزء : 15 رقم الصفحة : 397
والقول الثاني : أن يكون مجروراً عطفاً على قوله : {الَّذِينَ يَتَّقُونَ} ويكون قوله : {إِنَّا لا نُضِيعُ} / زيادة مذكورة لتأكيد ما قبله.
فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردت بالذكر ؟
قلنا : إظهاراً لعلو مرتبة الصلاة ، وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 397
397
قال أبو عبيدة : أصل النتق قلع الشيء من موضعه ، والرمي به. يقال : نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبه. وامرأة ناتق ومنتاق إذا كثر ولدها لأنها ترمي بأولادها رمياً فمعنى {نَتَقْنَا الْجَبَلَ} أي قلعناه من أصله وجعلناه فوقهم وقوله : {كَأَنَّه ظُلَّةٌ} قال ابن عباس : كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط ، والجمع ظلل وظلال ، وهذه القصة مذكورة في سورة البقرة {وَظَنُّوا أَنَّه وَاقِعُا بِهِمْ} (الأعراف : 171) قال المفسرون : علموا وأيقنوا. وقال أهل المعاني : قوي في نفوسهم أنه واقع بهم إن خالفوه ، وهذا هو الأظهر في معنى الظن ، ومضى الكلام فيه عند قوله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) روى أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها ، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم ، وكان فرسخاً في فرسخ ، وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم ، فلما نظروا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجداً على حاجبه الأيسر ، وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى ، ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
ثم قال تعالى : {خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ} أي وقلنا خذوا ما آتيناكم أو قائلين : خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} من الأوامر والنواهي ، أي واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب ، ويجوز أن يراد : خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة ، إن كنتم تطيقونه كقوله : {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ فَانفُذُوا } (الرحمن : 33) واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لعلكم تتقون ما أنتم عليه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 397
403
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع توابعها على أقصى الوجوه ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين ، وفي تفسير هذه الآية قولان : الأول : وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عنها فقال : "إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة" وقال مقاتل : "إن الله مسح صفحة ظهر آدم سوداء كهيئة الذر فقال يآدم هؤلاء ذريتك.
(1/2080)
/ ثم قال لهم : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم ، فأهل القبول محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال ، وأرحام النساء. وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول {وَمَا وَجَدْنَا لاكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } (الأعراف : 102) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعكرة ، والكلبي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه أبصر آدم في ذريته قوماً لهم نور. فقال يا رب من هم ؟
فقال الأنبياء ، ورأى واحداً هو أشدهم نوراً فقال من هو ؟
قال داود ، قال فكم عمره قال سبعون سنة قال آدم : هو قليل قد وهبته من عمري أربعين سنة ، وكان عمر آدم ألف سنة ، فلما تم عمر آدم تسعمائه وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فقال بقي من أجلي أربعون سنة ، فقال : ألست قد وهبته من ابنك داود ؟
فقال ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً ، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها. أما المعتزلة : فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه. واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
الحجة الأولى : لهم قالوا : قوله : {مِنا بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} لا شك أن قوله : {مِن ظُهُورِهِمْ} يدل من قوله : {وَإِذْ أَخَذَ} فيكون المعنى : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا التقدير : فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً.
الحجة الثانية : أنه لو كان المرا أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال : {مِن ظُهُورِهِمْ} بل كان يجب أن يقول : من ظهره ، لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد ، وكذلك قوله : {ذُرِّيَّتُهُم} لو كان آدم لقال ذريته.
الحجة الثالثة : أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا : {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا} وهذا الكلام يليق بأولا آدم ، لأنه عليه السلام ما كان مشركاً.
الحجة الرابعة : أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل ، فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء ، ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم ؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كلياً لا يتذكر منها شيئاً لا بالقليل ولا بالكثير ، وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ. فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر ، وحيث لم نتذكر ذلك كان القول / بالتناسخ باطلاً. فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة ، وجب القول بمقتضاه ، فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه ، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال. وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضاً التزام مذهب التناسخ.
الحجة الخامسة : أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة ، فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع.
الحجة السادسة : أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم ، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة. وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات. وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة ، فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالماً فاهماً عاقلاً ؛ إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام ؟
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
الحجة السابعة : قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت ، أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا. والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان ؟
(1/2081)
الحجة الثامنة : قال الكعبي : إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل ، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات ؟
وأجاب الزجاج عنه فقال : لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال : {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ} (النمل : 18) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (الأنبياء : 79) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول ، وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا.
الحجة التاسعة : أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا / كذلك ، فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا/ فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال. وأما الثاني : وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر ، فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم.
الحجة العاشرة : قوله تعالى : {فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} (الطارق : 5 ، 6) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين ، لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته ؟
ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة.
قلنا : هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة. وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
الحجة الحادية عشرة : هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع ، بقي القول الأول. فنقول : إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل. والثاني : يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات : أولها وقت الميثاق ، وثانيها في الدنيا ، وثالثها في القبر ، ورابعها في القيامة. وأنه حصل له الموت ثلاث مرات. موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول ، وموت في الدنيا ، وموت في القبر ، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى : {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (غافر : 11).
الحجة الثانية عشرة : قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنين : 12) فلو كان القول بهذا الذر صحيحاً لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب ، وذلك باطل. لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة ، والعلقة ، والمضغة ، ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة ، وهو قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} وقوله : {قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَه * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه } (عبس : 17 ، 18) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف.
/ والقول الثاني : في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات : أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات ، وجعلها علقة ، ثم مضغة ، ثم جعلهم بشراً سوياً ، وخلقاً كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته ، وعجائب خلقه ، وغرائب صنعه. فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى ، وإن لم يكن هناك قول باللسان ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11) ومنها قوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) وقول العرب :
قال الجدار للوتد لم تشقني
قال سل من يدقني
فإن الذي ورايي
ما خلاني ورايي
وقال الشاعر :
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
امتلأ الحوض وقال قطنى
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه ، فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين ، وهذا القول الثاني لاطعن فيه البتة ، وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافياً لصحة القول الأول : إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا ؟
فإن قال قائل : فما المختار عندكم فيه ؟
(1/2082)
قلنا : ههنا مقامان : أحدهما : أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر ؟
والثاني : أن بتقدير أن يصح القول به ، فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هذه الآية ؟
أما المقام الأول : فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها ، ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع.
أما الوجه الأول : من الوجوه العقلية المذكورة ، وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن.
قلنا : خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية. والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى ، وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها.
فإن قالوا : فإذا جوزتم هذا ، فجوزوا أن يقال : إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدان
قلنا : الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى ، وبقينا فيها سنين ودهوراً ، امتنع في مجرى العادة نسيانها ، أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان ، وأقل وقت فلم / يبعد حصول النسيان فيه ، والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق ، لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساه ، أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساه ، فقد ظهر الفرق.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال : مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام. قلنا : عندنا البنية ليست شرطاً لحصول الحياة ، والجوهر الفرد الذي لا يتجزأ ، قابل للحياة والعقل ، فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهراً فرداً ، فلم قلتم إن ظهر آدم عليه السلام لا يتسع لمجموعها ؟
إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا : الإنسان جوهر فرد. وجزء لا يتجزأ في البدن. على ما هو مذهب بعض القدماء ، وأما إذا قلنا : الإنسان هو النفس الناطقة ، وإنه جوهر غير متحيز ، ولا حال في المتحيز فالسؤال زائل.
وأما الوجه الثالث : وهو قوله فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا ؟
فجوابنا أن نقول : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأيضاً أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال ، وإنطاق الجوارح قالوا : لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف ؟
فكذا ههنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف. وقيل أيضاً إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين.
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
وأما المقام الثاني : وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخد الميثاق من الذر. فهل يمكن جعله تفسيراً لألفاظ هذه الآية ؟
فنقول الوجوه الثلاثة المذكورة أولاً دافعة لذلك لأن قوله : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنا بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} فقد بينا أن المراد منه ، وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم ، وأيضاً لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته ولم يقل من ظهورهم ذريتهم. أجاب الناصرون لذلك القول : بأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه والطعن في تفسير رسول الله غير ممكن. فنقول : ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذر من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان وذلك الفلان فلان آخر/ فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض ، وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم ، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته وليس في الآية أيضاً ما يدل على بطلانه ، إلا أن الخبر قد دل عليه ، فثبت إخراج الذرية من ظهور /بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر ، وعلى هذا التقدير : فلا منافاه بين الأمرين ولا مدافعة ، فوجب المصير إليهما معاً. صوناً للآية. والخبر عن الطعن بقدر الإمكان ، فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام.
(1/2083)
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر وبالألف على الجمع والباقون {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} على الواحد. قال الواحدي : الذرية تقع على الواحد والجمع. فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله : {مَا هَـاذَا بَشَرًا} وعلى الجمع كقوله : {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} (التغابن : 6) وقوله : {إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ومن جمع قال : إن الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه ، وإن كان جميعاً فجمعه أيضاً حسن ، لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت. نحو الطرقات والجدرات ، وهو اختيار يونس أما قوله تعالى : {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } فنقول : أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها ، وأما على قول من أنكره قال : إنها محمولة على التمثيل ، والمعنى : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته ، أما قوله : {شَهِدْنَآ} ففيه قولان :
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
القول الأول : أنه من كلام الملائكة ، وذلك لأنهم لما قالوا {بَلَى } قال الله للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله : {قَالُوا بَلَى } لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا وقوله : {أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ} تقريره : أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار ، لئلا يقولوا ما أقررنا ، فأسقط كلمة "لا" كما قال : {وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل : 15) يريد لئلا تميد بكم ، هذا قول الكوفيين ، وعند البصريين تقريره : شهدنا كراهة أن يقولوا.
والقول الثاني : أن قوله : {شَهِدْنَآ} من بقية كلام الذرية ، وعلى هذا التقرير ، فقوله : {أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ} متعلق بقوله : {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ} والتقدير : وأشهدهم على أنفسهم ، بكذا وكذا ، لئلا يقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ} أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير ، فلا يجوز الوقف عند قوله : {شَهِدْنَآ} لأن قوله : {أَن يَقُولُوا } متعلق بما قبله وهو قوله : {وَأَشْهَدَهُمْ} فلم يجز قطعه منه. واختلف القراء في قوله : {أَن يَقُولُوا } أو تقولوا : فقرأ أبو عمرو بالياء جميعاً ، لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنا بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى ا شَهِدْنَآ } وكلا الوجهين حسن ، لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى.
/ أما قوله : {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ} قال المفسرون : المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا/ لأن آباءنا أشركوا ، فقلدناهم في ذلك الشرك ، وهو المراد من قوله : {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} والحاصل : أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر. وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل. قالوا : معنى الآية إنا نصبنا هذه الدلائل ، وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ} فما نبهنا عليه منبه أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا ، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه ، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء.
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
ثم قال : {وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ} والمعنى : أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية ، بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل ، وهو المراد من قوله : {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقيل : أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد ، وفي الآية قول ثالث ؛ وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان ، والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب ، وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة ، لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
(1/2084)
ثم قال : {وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ} والمعنى : أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية ، بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل ، وهو المراد من قوله : {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقيل : أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد ، وفي الآية قول ثالث ؛ وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان ، والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب ، وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة ، لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 403
406
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله : نزلت هذه الآية في بلعم / بن باعوراء ، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه ، وغزا أهله وكانوا كفاراً ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه ، وكان مجاب الدعوة ، وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال : بدعاء بلعم. فقال : كما سمعت دعاءه علي ، فاسمع دعائي عليه ، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة. فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته. ويقال أيضاً : إنه كان نبياً من أنبياء الله ، فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافراً. وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ، وأبو روق : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت ، وكان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ، فلما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام حسده ، ثم مات كافراً ، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلّم : "آمن شعره وكفر قلبه" يريد أن شعره كشعر المؤمنين ، وذلك أنه يوحد الله في شعره ، ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض ، وأحوال الآخرة ، والجنة والنار. وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلّم الفاسق كان يترهب في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار ، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلّم ، فمات هناك طريداً وحيداً ، وهو قول سعيد بن المسيب. وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلّم ، عن الحسن والأصم وقيل : هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه ، وهو قول قتادة ، وعكرمة ، وأبي مسلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 406
فإن قال قائل : فهل يصح أن يقال : إن المذكور في هذه الآية كان نبياً ، ثم صار كافراً ؟
قلنا : هذا بعيد ، لأنه تعالى قال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة ، إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف ، والدرجات العالية ، والمناقب العظيمة ، فمن كان هذا حاله ، فكيف يليق به الكفر ؟
أما قوله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى } ففيه قولان :
القول الأول : (آتيناه آياتنا) يعني : علمناه حجج التوحيد ، وفهمناه أدلته ، حتى صار عالماً بها {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج من محبة الله إلى معصيته ، ومن رحمة الله إلى سخطه ، ومعنى انسلخ : خرج منها. يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه.
والقول الثاني : ما ذكره أبو مسلم رحمه الله ، فقال قوله : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي بيناها فلم يقبل / وعرى منها ، وسواء قولك : انسلخ ، وعرى ، وتباعد ، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة/ وأقام على الكفر ، ونظيره قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا} (النساء : 47) وقال في حق فرعون : {وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } (طه : 56) وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون ، فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون ، فأعرض وأبى ، وكان عادياً ضالاً متبعاً للشيطان.
واعلم أن حاصل الفرق بين القولين : هو أن هذا الرجل في القول الأول ، كان عالماً بدين الله وتوحيده ، ثم خرج منه ، وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها ، والقول الأول أولى ، لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها ، وأيضاً فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالماً بدين الله تعالى ، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال.
جزء : 15 رقم الصفحة : 406
(1/2085)
أما قوله : {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ} ففيه وجوه : الأول : أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم ، أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له. والثاني : قال عبد الله بن مسلم {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ} أي أدركه. يقال : أتبعت القوم. أي لحقتهم. قال أبو عبيدة : ويقال : أتبعت القوم ، مثال : أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم. ويقال : ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم. أي حتى أدركتهم. وقوله {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين. قال أهل المعاني : المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى ، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ، ومال إلى الدنيا ، حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى ، وخاب في الآخرة والأولى ، فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته. وقوله : {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـاهُ بِهَا} قال أصحابنا معناه : ولو شئنا رفعناه للعمل بها ، فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصالحة منزلته ، ولفظة {لَوْ} تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فهذا يدل على أنه تعالى قد لا يريد الإيمان ، وقد يريد الكفر. وقال المعتزلة : لفظ الآية يحتمل وجوهاً أخرى سوى هذا الوجه. فالأول : قال الجبائي معناه : ولو شئنا لرفعناه بأعماله ، بأن نكرمه ، ونزيل التكليف عنه ، قبل ذلك الكفر حتى نسلم له الرفعة ، لكنا رفعناه بزيادة التكليف بمنزلة زائدة ، فأبى أن يستمر على الإيمان. الثاني : لو شئنا لرفعناه ، بأن نحول بينه وبين الكفر ، قهراً وجبراً ، إلا أن ذلك ينافي التكليف. فلا جرم تركناه مع اختياره.
والجواب عن الأول : أن حمل الرفعة على الأماتة بعيد ، وعن الثاني : أنه تعالى إذا منعه منه قهراً ، لم يكن ذلك موجباً للثواب والرفعة.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِنَّه ا أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ} قال أصحاب العربية : أصل الإخلاد اللزوم على / الدوام ، وكأنه قيل : لزم الميل إلى الأرض ، ومنه يقال : أخلد فلان بالمكان ، إذا لزم الإقامة به. قال مالك بن سويد :
بأبناء حي من قبائل مالك
وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قال ابن عباس : {وَلَـاكِنَّه ا أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ} يريد مال إلى الدنيا ، وقال مقاتل : بالدنيا ، وقال الزجاج : سكن إلى الدنيا. قال الواحدي : فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا ، وذلك لأن الدنيا هي الأرض ، لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض ، وإنما يقوى ويكمل بها ، فالدنيا كلها هي الأرض ، فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض ، ونقول : لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه ، ولكنا لم نشأ ، إلا أن قوله : {وَلَـاكِنَّه ا أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ} لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله : {وَاتَّبَعَ هَوَا هُ} معناه : أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى ، فلا جرم وقع في هاوية الردى ، وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم ، وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا الرجل بآياته وبيناته ، وعلمه الاسم الأعظم ، وخصه بالدعوات المستجابة ، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب ، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى ، كان بعده عن الله أعظم ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : "من ازداد علماً ، ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً" أو لفظ هذا معناه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 406
ثم قال تعالى : {فَمَثَلُه كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } قال الليث : اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر ، فإنه يدلع لسانه من العطش.
(1/2086)
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب ، وإنما وقع بالكلب اللاهث ، وأخس الحيوانات هو الكلب ، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث ، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا ، وأخلد إلى الأرض ، كان مشبهاً بأخس الحيوانات ، وهو الكلب اللاهث ، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه : الأول : أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء ، وفي حال الراحة ، وفي حال العطش ، وفي حال الري ، فكان ذلك عادة منه وطبيعة ، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية ، وطبيعته الخسيسة ، لا لأجل حاجة وضرورة ، فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس ، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا ، ويلقى نفسه فيها ، كانت حاله كحال ذلك اللاهث ، حيث واظب على العمل الخسيس ، والفعل القبيح ، لمجرد نفسه الخبيثة. وطبيعته الخسيسة ، لا لأجل الحاجة والضرورة. والثاني : أن الرجل العالم إذا توسل / بعلمه إلى طلب الدنيا ، فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات ، وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه ، ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا ، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة ، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة والثالث : أن الكلب اللاهث لا يزال لهثة البتة ، فكذلك الأنسان الحريص لا يزال حرصه البتة.
أما قوله تعالى : {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضاً لهث ، لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له ، فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال ، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له.
فإن قيل : ما محل قوله : {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } .
قلنا : النصب على الحال ، كأنه قيل كمثل الكلب ذليلاً لاهثاً في الأحوال كلها.
ثم قال تعالى : {ذَّالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله قال ابن عباس : يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه ، فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال.
جزء : 15 رقم الصفحة : 406
ثم قال : {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} يريد قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يريد يتعظون.
جزء : 15 رقم الصفحة : 406
406
اعلم أنه تعالى لما قال بعد تمثيلهم بالكلب {ذَّالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } وزجر بذلك عن الكفر والتكذيب أكده في باب الزجر بقوله تعالى : {سَآءَ مَثَلا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الليث : ساء يسوء فعل لازم ومتعد يقال : ساءت الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح وساءه يسوءه مساءة. قال النحويون : تقديره ساء مثلاً ، مثل القوم انتصب مثلاً على التمييز لأنك إذا قلت ساء جاز أن تذكر شيئاً آخر سوى مثلاً ، فلما ذكرت نوعاً ، فقد ميزته من سائر / الأنواع وقولك القوم ارتفاعه من وجهين : أحدهما : أن يكون مبتدأ ويكون قولك ساء مثلاً خبره والثاني : أنك لما قلت ساء مثلاً. قيل لك : من هو ؟
قلت القوم ، فيكون رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقرأ الجحدري : ساء مثل القوم.
البحث الثاني : ظاهر قوله : {سَآءَ مَثَلا} يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسوء ، وذلك غير جائز ، لأن هذا المثل ذكره الله تعالى ، فكيف يكون موصوفاً بالسوء ، وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكفر والدعوة إلى الإيمان ، فكيف يكون موصوفاً بالسوء ، فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها ، حتى صاروا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلب اللاهث.
أما قوله تعالى : {وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} فإما أن يكون معطوفاً على قوله : {كَذَّبُوا } فيدخل حينئذ في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وإما تقديم المفعول ، فهو للاختصاص كأنه قيل وخصوا أنفسهم بالظلم وما تعدى أثر ذلك الظلم عنهم إلى غيرهم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 406
408
في الآية مسألتان :
(1/2087)
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما وصف الضالين بالوصف المذكور وعرف حالهم بالمثل المذكور بين في هذه الآية أن الهداية من الله ، وأن الضلال من الله تعالى ، وعند هذه اضطربت المعتزلة ، وذكروا في التأويل وجوهاً كثيرة : الأول : وهو الذي ذكره الجبائي وارتضاه القاضي أن المراد من يهده الله إلى الجنة والثواب في الآخرة ، فهو المهتدي في الدنيا ، السالك طريقة الرشد فيما كلف ، فبين الله تعالى أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ، ومن يضلله عن طريق الجنة {فَ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} والثاني : قال بعضهم إن في الآية حذفاً ، والتقدير : من يهده الله فقبل وتمسك بهداه فهو المهتدي ، ومن يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر. الثالث : أن يكون المراد من يهده الله بمعنى أن من وصفه الله بكونه مهتدياً فهو المهتدي ، لأن ذلك كالمدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك الوصف الممدوح ، ومن يضلل أي ومن وصفه الله بكونه ضالاً {فَ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} والرابع : أن يكون المراد من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى / فهو المهتدي ومن يضلل عن ذلك لما تقدم منه من سوء اختياره ، فأخرج لهذا السبب بتلك الألطاف من أن يؤثر فيه فهو من الخاسرين.
واعلم أنا بينا أن الدلائل العقلية القاطعة ، قد دلت على أن الهداية والإضلال لا يكونان إلا من الله من وجوه : الأول : أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصول الداعي ليس إلا من الله فالفعل ليس إلا من الله. الثاني : أن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع ، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضد. الثالث : أن كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة ، فإذا حصل الكفر عقيبه علمنا أنه ليس منه بل من غيره ، ثم نقول :
أما التأويل الأول : فضعيف لأنه حمل قوله : {مَن يَهْدِ اللَّهُ} على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله : {فَهُوَ الْمُهْتَدِى } على الاهتداء إلى الحق في الدنيا ، وذلك يوجب ركاكة في النظم ، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد ، حتى يكون الكلام حسن النظم.
وأما الثاني : فإنه التزام لإضمار زائد ، وهو خلاف اللفظ ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ، ويخرج كلام الله عز وجل من أن يكون حجة ، فإن لكل أحد أن يضمر في الآية ما يشاء ، وحينئذ يخرج الكل عن الإفادة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 408
وأما الثالث : فضعيف لأن قول القائل فلان هدى فلاناً لا يفيد في اللغة البتة أنه وصفه بكونه مهتدياً ، وقياس هذا على قوله فلان ضلل فلاناً وكفره ، قياس في اللغة وأنه في نهاية الفساد والرابع : أيضاً باطل لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف ، فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار ، فحمل الآية على هذا التأويل بعيد. والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {فَهُوَ الْمُهْتَدِى } (الأعراف : 178) يجوز إثبات الياء فيه على الأصل ، ويجوز حذفها طلباً للتخفيف كما قيل في بيت الكتاب :
فطرت بمنصلي في يعملات
دوامي الأيد يخبطن السريحا
ومن أبياته أيضاً :
كخوف ريش حمامة نجدية
مسحت بماء البين عطف الأثمد
قال أبو الفتح الموصلي يريد كخواف محذوف الياء.
وأما قوله : {وَمَن يُضْلِلِ} يريد ومن يضلله الله ويخذله {فَ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} أي خسروا الدنيا والآخرة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 408
412
(1/2088)
هذه الآية هي الحجة الثانية في هذا الموضع على صحة مذهبنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وتقريره من وجوه : الأول : أنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ، ولا مزيد على بيان الله. الثاني : أنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم من أهل النار ، فلو لم يكونوا من أهل النار انقلب علم الله جهلاً وخبره الصدق كذباً وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال ، فعدم دخولهم في النار محال ، ومن علم كون الشيء محالاً امتنع أن يريده ، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يريد أن لا يدخلهم في النار ، بل يجب أن يريد أن يدخلهم في النار ، وذلك هو الذي دل عليه لفظ الآية. الثالث : أن القار على الكفر إن لم يقدر على الإيمان ، فالذي خلق فيه القدرة على الكفر ، فقد أراد أن يدخله في النار ، وإن كان قادراً على الكفر وعلى الإيمان معاً امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح ، وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل ، وإن حصل من قبله تعالى ، فلما كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر ، فقد خلقه للنار قطعاً. الرابع : أنه تعالى لو خلقه للجنة وأعانه على اكتساب تحصيل ما يوجب دخول الجنة ، ثم قدرنا أن العبد سعى في تحصيل الكفر الموجب للدخول في النار ، فحينئذ حصل مراد العبد ، ولم يحصل مراد الله تعالى ، فيلزم كون العبد أقدر وأقوى من الله تعالى ، وذلك لا يقوله عاقل والخامس : أن العاقل لا يريد الكفر والجهل الموجب لاستحقاق النار ، وإنما يريد الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الثواب والدخول في الجنة ، فلما حصل الكفر والجهل على خلاف قصد العبد وضد جهده واجتهاده ، وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد ، بل يجب أن يكون حصوله من قبل الله تعالى.
/ فإن قالوا : العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل ، لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح.
جزء : 15 رقم الصفحة : 412
فنقول : فعلى هذا التقدير : إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم ، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل وهو محال ، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر ، فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان ، فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } قالت المعتزلة : لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لأن كثيراً من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة. والعبادة والخير والصلاح. قال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه } (الفتح : 8 ، 9) وقال : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه } (النساء : 64) وقال : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَـاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } (الفرقان : 50) وقال : {هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِه ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } (الحديد : 9) وقال : {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (الحديد : 25) وقال : {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} (إبراهيم : 10) وقال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) وأمثال هذه الآيات كثيرة ، ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن ، فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } على ظاهره.
الوجه الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا مخلوقين للنار ، ولما كانوا قادرين على الإيمان البتة وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان.
الوجه الثالث : وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلاً ، لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم ، كالقطرة في البحر ، وكان كمن دفع إلى إنسان حلواً مسموماً فإنه لا يكون منعماً عليه ، فكذا ههنا. ولما كان القرآن مملوأ من كثرة نعمة الله على كل الخلق ، علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 412
الوجه الرابع : أن المدح والذم ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الوجه الخامس : لو أنه تعالى خلقهم للنار ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار ، لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.
(1/2089)
الوجه السادس : أن قوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} متروك الظاهر ، لأن جهنم اسم لذلك الموضع / المعين ، ولا يجوز أن يكون الموضع المعين مراداً منه ، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله تعالى بخلقهم منهم محذوف ، فكأنه قال : ولقد ذرأنا لكي يكفروا فيدخلوا جهنم ، فصارت الآية على قولهم متروكة الظاهر ، فيجب بناؤها على قوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} لأن ظاهرها يصح دون حذف.
الوجه السابع : أنه إذا كان المراد أنه إذا ذرأهم لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم ، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللام للعاقبة ، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار ، ونحن قد قلناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار ، فكان قولنا أولى ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، فوجب المصير فيه إلى التأويل ، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والأنس ، هي الدخول في نار جهنم ، جائز ذكر هذه اللام بمعنى العاقبة ، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشعر : أما القرآن فقوله تعالى : {وَكَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} (الأنعام : 105) ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك ، لكنهم لما قالوا ذلك ، حسن ورود هذا اللفظ ، وأيضاً قال تعالى : {رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاه زِينَةً وَأَمْوَالا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ } (يونس : 88) وأيضاً قال تعالى : {فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) وهم ما التقطوه لهذا الغرض إلا أنه لما كانت عاقبة أمرهم ذلك ، حسن هذا اللفظ ، وأما الشعر فأبيات قال :
وللموت تغدوا الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال :
له ملك ينادي كل يوم
لدوا للموت وابنو للخراب
وقال :
جزء : 15 رقم الصفحة : 412
وأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة
هذا منتهى كلام القوم في الجواب.
واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره ، وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ ، كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثاً. وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة ، فهي : معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله : {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَ أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} (الأعراف : 178) وهو صريح مذهبنا ، وما بعد هذه الآية وهو قوله : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} (الأعراف : 182 ، 183) ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس ، إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا ، كان كلام / المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفاً جداً.
أما قوله تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في خلق الأعمال فقالوا : لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ، ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات ، وآذان يسمعون بها الكلمات ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين ، وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين ، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين.
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك ، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به ، وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لو كانوا كذلك ، لقبح من الله تكليفهم ، لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم. فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة.
والجواب : أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء ، صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء ، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله ، وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عافل من نفسه. ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور ـ حبك الشيء يعمي ويصم ـ .
جزء : 15 رقم الصفحة : 412
(1/2090)
إذا ثبت هذا فنقول : إن أقواماً من الكفار بلغوا في عداوة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه ، والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان ، بل هو حاصل في القلب شاء الإنسان أم كره.
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد ، وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب ، فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم ، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه. ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن. روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب "مناقب الشافعي" رضي الله تعالى عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه / خطب الناس فقال وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص ، وإن أهلكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته المصيبة قتله الجزع/ وإن وجد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وأقول : هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف ، وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر ، لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها ، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر ، وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب "الأحياء" فصلاً في تقرير مذهب الجبر.
ثم قال فإن قيل : إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت ، وإن شئت الترك تركت ، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري ثم قال : وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئته ، وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه ، ما أظنك أن تقول ذلك ، وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له : بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء ، وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته ، فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك فالإنسان مضطر في صورة مختار.
المسألة الثانية : احتج العلماء بقوله تعالى : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} على أن محل العلم هو القلب ، لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 412
أما قوله : { أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة ، ومتشاركة أيضاً في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر ، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به : فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام.
ثم قال : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل ، والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها ، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها. فلهذا السبب قال تعالى : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وقال حكيم الشعراء :
الروح عند إله العرش مبدؤه
وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما
ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن
فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وجوه أخرى فقيل : لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع ، وقال مقاتل : هم أخطأ طريقاً من الأنعام ، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه. وقال الزجاج : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها ، وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه ، ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب ، وقيل إنها تفر أبداً إلى أربابها ، ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها. وقيل : لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد ، فأما إذا كان معها مرشد قلماتضل ، وهؤلاء الكفاء قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ثم إنه تعالى ختم الآية فقال : { أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ} قال عطاء : عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 412
417
(1/2091)
اعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله : { أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ} أمر بعده بذكر الله تعالى فقال : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله. والمخلص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله ، وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان ، ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ، ومن ظلمة إلى ظلمة ، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله ومعرفة الله تخلص عن نيران الآفات وعن حسرات الخسارات ، واستشعر بمعرفة رب الأرض والسموات وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } مذكور في سور أربعة : أولها : هذه / السورة. وثانيها : في آخر سورة بني إسرائيل في قوله : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } (الإسراء : 11) وثالثها : في أول طه وهو قوله : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (طه : 8) ورابعها : في آخر الحشر وهو قوله : {هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُا لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الحشر : 24).
إذا عرفت هذا فنقول : {الاسْمَآءُ} ألفاظ دالة على المعاني فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها ، ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال ، وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره إلى غيره ، وثبوت افتقار غيره إليه.
واعلم أن لنا في تفسير أسماء الله كتاباً كبيراً كثير الدقائق شريف الحقائق سميناه "بلوامع البينات في تفسير الأسماء والصفات" ، من أراد الاستقصاء فيه فليرجع إليه ، ونحن نذكر ههنا لمعاً ونكتاً منها. فنقول : إن أسماء الله يمكن تقسيمها من وجوه كثيرة.
الوجه الأول : أن نقول : الاسم إما أن يكون اسماً للذات ، أو لجزء من أجزاء الذات ، أو لصفة خارجة عن الذات قائمة بها. أما اسم الذات فهو المسمى بالاسم الأعظم ، وفي كشف الغطاء عما فيه من المباحثات أسرار. وأما اسم جزء الذات فهو في حق الله تعالى محال ، لأن هذا إنما يفعل في الذات المركبة من الأجزاء ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن ، فواجب الوجود يمتنع أن يكون له جزء.
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
وأما اسم الصفة فنقول : الصفة إما أن تكون حقيقية أو إضافية أو سلبية ، أو ما يتركب عن هذه الثلاثة ، وهي أربعة ، لأنه إما أن يكون صفة حقيقية مع إضافة أو مع سلب أو صفة سلبية مع إضافة أو مجموع صفة حقيقية وإضافة وسلبية. أما الصفة الحقيقية العارية عن الإضافة فكقولنا موجود عند من يقول : الوجود صفة ، أو قولنا واحد ، عند من يقول : الوحدة صفة ثانية ، وكقولنا حي ، فإن الحياة صفة حقيقية عارية عن النسب والإضافات ، وأما الصفة الإضافية المحضة فكقولنا : مذكور ومعلوم ، وأما الصفة السلبية ، فكقولنا : القدوس السلام. وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة ، فكقولنا : عالم وقادر ، فإن العلم صفة حقيقية ، وله تعلق بالمعلوم والقادر ، فإن القدرة صفة حقيقية ، ولها تعلق بالمقدور ، وأما الصفة الحقيقية مع السلبية. فكقولنا : قديم أزلي ، لأنه عبارة عن موجود لا أول له. وأما الصفة الإضافية مع السلبية ، فكقولنا : أول. فإنه هو الذي سبق غيره وما سبقه غيره ، وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة والسلب/ فكقولنا : حكيم ، فإنه هو الذي يعلم حقائق الأشياء ، ولا يفعل ما لا يجوز فعله فصفة العلم صفة حقيقية ، وكون هذه الصفة متعلقة بالمعلومات ، نسب وإضافات ، وكونه غير فاعل لما لا ينبغي سلب.
إذا عرفت هذا فنقول : السلوب ، غير متناهية ، والإضافات أيضاً غير متناهية ، فكونه خالقاً / للمخلوقات صفة إضافية ، وكونه محيياً ومميتاً إضافات مخصوصة ، وكونه رازقاً أيضاً إضافة أخرى مخصوصة. فيحصل بسبب هذين النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها لله تعالى ، لأن مقدوراته غير متناهية ، ولما كان لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته ، وإنما السبيل إلى معرفته بمعرفة أفعاله فكل من كان وقوفه على أسرار حكمته في مخلوقاته أكثر ، كان علمه بأسماء الله أكثر. ولما كان هذا بحراً لا ساحل له ولا نهاية له ، فكذلك لا نهاية لمعرفة أسماء الله الحسنى.
النوع الثاني : في تقسيم أسماء الله ما قاله المتكلمون : وهو أن صفات الله تعالى ثلاثة أنواع : ما يجب ، ويجوز ، ويستحيل على الله تعالى. ولله تعالى بحسب كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أسماء مخصوصة.
والنوع الثالث : في تقسيم أسماء الله أن صفات الله تعالى إما أن تكون ذاتية ، أو معنوية ، أو كانت من صفات الأفعال.
(1/2092)
والنوع الرابع : في تقسيم أسماء الله تعالى إما أن يجوز إطلاقها على غير الله تعالى ، أو لا يجوز. أما القسم الأول : فهو كقولنا : الكريم الرحيم العزيز اللطيف الكبير الخالق ، فإن هذه الألفاظ يجوز إطلاقها على العباد ، وإن كان معناها في حق الله تعالى مغايراً لمعناها في حق العباد. وأما القسم الثاني فهو كقولنا : الله الرحمن. أما القسم الأول : فإنها إذا قيدت بقيود مخصوصة صارت بحيث لا يمكن إطلاقها إلا في حق الله تعالى كقولنا : يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين ، ويا خالق السموات والأرضين.
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
النوع الخامس : في تقسيم أسماء الله أن يقال : من أسماء الله ما يمكن ذكره وحده ، كقولنا : يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم ، ومنها ما لا يكون كذلك ، كقولنا : مميت وضار ، فإنه لا يجوز إفراده بالذكر ، بل يجب أن يقال : يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع.
النوع السادس : في تقسيم أسماء الله تعالى أن يقال : أول ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها ، وذلك لأنا إنما نعلم وجوده سبحانه بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه ، فإذا دل الدليل على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود والعدم لذاته ، قضى العقل بافتقاره إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه ، وذلك المرجح ليس إلا الله سبحانه ، فثبت أن أول ما يعلم منه تعالى هو كونه مرجحاً ومؤثراً ، ثم نقول ذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة والأول باطل ، وإلا لدام العالم بدوامه ، وذلك باطل ، فبقي أنه إنما رجح على سبيل الصحة وكونه مرجحاً على سبيل الصحة ، ليس إلا كونه تعالى قادراً ، فثبت أن المعلوم منه بعد العلم بكونه مرجحاً ، هو كونه / قادراً. ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ، ثم إنا إذا علمنا كونه تعالى قادراً عالماً ، وعلمنا أن العالم القادر يمتنع أن يكون إلا حياً ، علمنا من كونه قادراً عالماً ، كونه حياً. فظهر بهذا أنه ليس العلم بصفاته تعالى وبأسمائه واقعاً في درجة واحدة ، بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } يفيد الحصر ، ومعناه أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى ، والبرهان العقلي قد يدل على صحة هذا المعنى ، وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته ، وإما ممكن لذاته ، والواجب لذاته ليس إلا الواحد وهو الله سبحانه ، وأما ما سوى ذلك الواحد/ فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته ، فهو محتاج في ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقية والإضافية والسلبية إلى تكوين الواجب لذاته ، ولولاه لبقي على العدم المحض والسلب الصرف ، فالله سبحانه كامل لذاته ، وكمال كل ما سواه فهو حاصل بجوده وإحسانه ، فكل كمال وجلال وشرف ، فهو له سبحانه بذاته ولذاته وفي ذاته ، ولغيره على سبيل العارية ، والذي لغيره من ذاته ، فهو الفقر والحاجة والنقصان والعدم ، فثبت بهذا البرهان البين أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله ، والصفات الحسنى ليست إلا لله ، وأن كل ما سواه ، فهو غرق في بحر الفناء والنقصان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن أسماء الله ليست إلا لله ، والصفات الحسنى ليست إلا لله ، فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال فهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه ، وعند هذا نقل عن جهم بن صفوان أنه قال : لا أطلق على ذات الله تعالى اسم الشيء. قال : لأن اسم الشيء يقع على أخس الأشياء وأكثرها حقارة وأبعدها عن درجات الشرف ، وإذا كان كذلك وجب القطع بأنه لا يفيد في المسمى شرفاً ورتبة وجلالة.
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بمقتضى هذه الآية أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على الشرف والكمال ، وثبت أن اسم الشيء ليس كذلك فامتنع تسمية الله بكونه شيئاً. قال ومعاذ الله أن يكون هذا نزاعاً في كونه في نفسه حقيقة وذاتاً وموجوداً ، إنما النزاع وقع في محض اللفظ ، وهو أنه هل يصح تسميته بهذا اللفظ أم لا ؟
فأما قولنا إنه منشىء الأشياء ، فهو اسم يفيد المدح والجلال والشرف ، فكان إطلاق هذا الاسم على الله حقاً ، ثم أكد هذه الحجة بأنواع أخر من الدلائل. فالأول : قوله تعلى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) معناه ليس مثل مثله شيء ، ولا شك أن عين الشيء مثل لمثل / نفسه. فلما ثبت بالعقل أن كل شيء فهو مثل مثل نفسه ، ودل الدليل القرآني على أن مثل مثل الله ليس بشيء ، كان هذا تصريحاً بأنه تعالى غير مسمى باسم الشيء ، وليس لقائل أن يقول "الكاف" في قوله : {لَيْسَ كَمِثْلِه } حرف زائد لا فائدة فيه ، لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد.
(1/2093)
الحجة الثانية : قوله تعالى : {خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الأنعام : 102 الرعد : 16 غافر : 62) ولو كان تعالى داخلاً تحت اسم الشيء لزم كونه تعالى خالقاً لنفسه وهو محال. لا يقال هذا عام دخله التخصيص ، لأنا نقول هذا كلام لا بد من البحث عنه فنقول : ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ، ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا حصل الأكثر الأغلب وكان الغالب الشاذ الخارج نادراً ، ألحقوا ذلك الأكثر بالكل ، وألحقوا ذلك النادر بالمعدوم ، وأطلقوا لفظ الكل عليه ، وجعلوا ذلك الشاذ النادر من باب تخصيص العموم.
وإذا عرفت هذا فنقول : إن بتقدير أن يصدق على الله تعالى اسم الشيء كان أعظم الأشياء هو الله تعالى ، وإدخال التخصيص في مثل هذا المسمى يكون من باب الكذب ، فوجب أن يعتقد أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء حتى لا يلزمنا هذا المحذور.
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
الحجة الثالثة : هذا الاسم ما ورد في كتاب الله ولا سنة رسوله ، وما رأينا أحداً من السلف قال في دعائه ياشيء ، فوجب الامتناع منه ، والدليل على أنه غير وارد في كتاب الله أن الآية التي يتوهم اشتمالها على هذا الاسم قوله تعالى : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } (الأنعام : 19) وقد بينا في سورة الأنعام أن هذه الآية لا تدل على المقصود ، فسقط الكلام فيه.
فإن قال قائل : فقولنا : موجود ومذكور وذات ومعلوم ، ألفاظ لا تدل على الشرف والجلال فوجب أن تقولوا إنه لا يجوز إطلاقها على الله تعالى. فنقول : الحق في هذا الباب التفصيل ، وهو أنا نقول : ما المراد من قولك : إنه تعالى شيء ، وذات ، وحقيقة ؟
إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشيء ، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة ، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا ؟
فنقول لا يجوز. لأنا رأينا السلف يقولون : يا الله يا رحمن يا رحيم إلى سائر الأسماء الشريفة ، وما رأينا ولا سمعنا أن أحداً يقول : يا ذات يا حقيقة يا مفهوم ويا معلوم ، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء والدعاء واجباً لله تعالى. والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } يدل على أنه تعالى حصلت له / أسماء حسنة ، وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها ، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية. ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال : يا جواد ، ولا يجوز أن يقال : يا سخي ، ولا أن يقال يا عاقل يا طبيب يا فقيه. وذلك يدل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية.
المسألة الخامسة : دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لأنها تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء لفظ الجمع ، وهي تفيد الثلاثة فما فوقها ، فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد ، فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } يقتضي إضافة الأسماء إلى الله ، وإضافة الشيء إلى نفسه محال. وأيضاً فلو قيل : ولله الذوات لكان باطلاً. ولما قال : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ} كان حقاً وذلك يدل على أن الاسم غير المسمى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
(1/2094)
المسألة السادسة : قوله : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى ، وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء ، وعرف بالدليل أن له إلهاً ورباً خالقاً موصوفاً بتك الصفات الشريفة المقدسة ، فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات ، ثم إن لتلك الدعوة شرائط كثيرة مذكورة بالاستقصاء في كتاب "المنهاج" لأبي عبد الله الحليمي ، وأحسن ما فيه أن يكون مستحضراً لأمرين : أحدهما : عزة الربوبية. والثانية : ذلة العبودية. فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر. فأما إذا لم يكن كذلك كان قليل الفائدة ، وأنا أذكر لهذا المعنى مثالاً ، وهو أن من أراد أن يقول في تحريمة صلاته الله أكبر ، فإنه يجب أن يستحضر في النية جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة الله تعالى في تخليق نفسه وبدنه وقواه العقلية والحسية أو الحركية ، ثم يتعدى من نفسه إلى استحضار آثار حكمة الله في تخليق جميع الناس ، وجميع الحيوانات ، وجميع أصناف النبات والمعادن ، والآثار العلوية من الرعد والبرق والصواعق التي توجد في كل أطراف العالم ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الأرضين والجبال والبحار والمفاوز ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق طبقات العناصر السفلية والعلوية ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق أطباق السموات على سعتها وعظمها ، وفي تخليق أجرام النيرات من الثوابت والسيارات ، ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الكرسي وسدرة المنتهى ، ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق العرش العظيم المحيط بكل هذه الموجودات ، ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق الملائكة من حملة العرش والكرسي وجنود عالم الروحانيات ، فلا يزال يستحضر من هذه الدرجات والمراتب أقصى ما يصل إليه فهمه وعقله وذكره وخاطره وخياله ، ثم عند استحضار جميع هذه الروحانيات / والجسمانيات على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها ، ويقول الله أكبر ، ويشير بقوله ـ الله ـ إلى الموجود الذي خلق هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود/ ورتبها بما لها من الصفات والنعوت ، وبقوله ـ أكبر ـ أي أنه لا يشبه لكبريائه وجبروته وعزه وعلوه وصمديته هذه الأشياء بل هو أكبر من أن يقال : إنه أكبر من هذه الأشياء. فإذا عرفت هذا المثال الواحد فقس الذكر الحاصل مع العرفان والشعور ، وعند هذا ينفتح على عقلك نسمة من الأسرار المودعة تحت قوله : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } .
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
أما قوله تعالى : {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـا اـاِه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة {يُلْحِدُونَ} ووافقه عاصم والكسائي في النحل. قال الفراء : {يُلْحِدُونَ} و{يُلْحِدُونَ} لغتان : يقال : لحدت لحداً وألحدت ، قال أهل اللغة : معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد. قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. يقال : قد ألحد في الدين ولحد ، وقال أبو عمرو من أهل اللغة : الإلحاد : العدل عن الاستقامة والانحراف عنها. ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر. قال الواحدي رحمه الله : والأجود قراءة العامة لقوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد } (الحج : 25) والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم : ملحد ، ولا تكاد تسمع العرب يقولون لاحد.
المسألة الثانية : قال المحققون : الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه : الأول : إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله ، مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة ، ومن ذلك أنهم سموا أصناماً لهم باللات والعزى والمناة ، واشتقاق اللات من الإله ، والعزى من العزيز ، واشتقاق مناة من المنان. وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن. والثاني : أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به ، مثل تسمية من سماه ـ أباً ـ للمسيح. وقول جمهور النصارى : أب ، وابن ، وروح القدس ، ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به ، ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم ، لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيهاً مستحقاً للذم ، وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب. قال أصحابنا : وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله ، فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام ، ثم لا يجوز أن يقال : يا خالق الديدان والقرود والقردان ، بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار ، وأن يقال : يا خالق الأرض والسموات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة. والثالث : أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه ، فإنه ربما كان مسماه أمراً غير لائق بجلال / الله ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء.
فإن قال قائل : هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق ؟
(1/2095)
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
قلنا : الحق عندي أن ذلك غير لازم لا في حق الله تعالى ، ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره : أن لفظ "علم" ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } (النساء : 113) {عَلَّمْنَـاهُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الكهف : 65) {الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 1 ، 2) ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم ، وأيضاً ورد قوله : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } (المائدة : 54) ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب. وأما في حق الأنبياء ، فقد ورد في حق آدم عليه السلام : {وَعَصَى ا ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى } (طه : 121) ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصياً غاوياً ، وورد في حق موسى عليه السلام {إِحْدَاهُمَا يَـا أَبَتِ اسْتَـاْجِرْه } (القصص : 26) ثم لا يجوز أن يقال إنه عليه السلام كان أجيراً/ والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد ، فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة.
ثم قال تعالى : {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله. قالت المعتزلة : الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد ، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله.
جزء : 15 رقم الصفحة : 417
418
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } فأخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون للنار أتبعه بقوله : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} ليبين أيضاً أن كثيراً منهم مخلوقان للجنة. واعلم أنه تعالى ذكر في قصة موسى قوله : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى ا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} فلما أعاد الله تعالى هذا الكلام ههنا حمله أكثر المفسرين على أن المراد منه قوم محمد صلى الله عليه وسلّم ، روى قتادة وابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنها هذه الأمة وروى أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال : "هذه فيهم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها" وعن الربيع بن أنس أنه قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآية فقال : "إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم" وقال ابن عباس يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار. قال الجبائي : هذه الآية تدل على أنه لا يخلو زمان البتة عمن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل ، لأنه لا يخلو إما أن يكون المراد زمان وجود محمد صلى الله عليه وسلّم ، / وهو الزمان الذي نزلت فيه هذه الآية. أو المراد أنه قد حصل زمان من الأزمنة حصل فيه قوم بالصفة المذكورة ، أو المراد ما ذكرنا أنه لا يخلو زمان من الأزمنة عن قوم موصوفين بهذه الصفة والأول باطل. لأنه قد كان ظاهراً لكل الناس أن محمداً وأصحابه على الحق ، فحمل الآية على هذا المعنى يخرجه عن الفائدة ، والثاني باطل أيضاً ، لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه قد حصل زمان ما في الأزمنة الماضية حصل فيه جميع من المحقين ، فلم يبق إلا القسم الثالث. وهو أدل على أنه ما خلا زمان عن قوم من المحقين وأن إجماعهم حجة ، وعلى هذا التقدير فهذا يدل على أن إجماع سائر الأمم حجة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 418
419
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} .
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة ، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى ، وما عليهم من الوعيد ، فقال : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا} وهذا يتناول جميع المكذبين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد أهل مكة ، وهو بعيد ، لأن صفة العموم يتناول الكل ، إلا ما دل الدليل على خروجه منه.
وأما قوله : {سَنَسْتَدْرِجُهُم} فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال ، درجة بعد درجة ، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم ، مات بعضهم عقيب بعضهم ، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزأ فجزأ.
(1/2096)
إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم ، ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب النعمة والخير في الدنيا ، فيزدادون بطراً وانهماكاً في الفساد وتمادياً في الغي ، ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم ، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى : "اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} .
/ ثم قال تعالى : {وَأُمْلِى لَهُم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملى زمان طويل من الدهر ومنه قوله : {وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} (مريم : 46) أي طويلاً. ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل ، فمعنى {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة. وقوله : {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} قال ابن عباس : يريد إن مكري شديد ، والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 419
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة ، وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين ، وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى ، وذلك ضد ما يقوله المعتزلة.
أجاب أبو علي الجبائي ، بأن المراد من الاستدراج ، أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون ، استدراجاً لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة ، وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال ، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة. قال وقد قال بعض المجبرة المراد : سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون. قال : وذلك فاسد ، لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم ، فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل ، لأن السين في قوله : {سَنَسْتَدْرِجُهُم} يفيد الاستقبال ، ولا يجب أن يكون المراد : أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر ، فالمراد إذن : ما قلناه ، ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفراً آخر ، والكفر هو فعله ، وإنما يعاقبه بفعل نفسه.
وأما قوله : {وَأَمْلَى لَهُمْ} فمعناه : أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر ، ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني ، وهذا معنى قوله : {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} لأن كيده هو عذابه/ وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون.
والجواب عنه من وجهين : الأول : أن قوله : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم} معناه : ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تمادياً في الذنب والكفر ، زادهم الله نعمة وخيراً في الدنيا ، فيصير فوزهم بلذات الدنيا سبباً لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعداً عن الرجوع إلى طاعة الله ، هذه حالة نشاهدها في بعض الناس ، وإذا كان هذا أمراً محسوساً مشاهداً فكيف يمكن إنكاره. الثاني : هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب ، إلا أن هذا أيضاً يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح ، لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج ، وهذا الإمهال مما قد يزيد به عتواً وكفراً وفساداً واستحقاق العقاب الشديد ، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجباً لتلك / الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صوناً له عن هذا العقاب ، أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف ، أو أن لا يخلقه إلا في الجنة ، صوناً له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة ، فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف. وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب ، علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار ، كما شرحه في الآية المتقدمة ، وهي قوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } (الأعراف : 179) وأنا شديد التعجب من هؤلاء المعتزلة ، فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوأ من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة القاطعة مطابقة لها ، ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية ، إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 419
420
(1/2097)
واعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته ، الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته ، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم. فقال : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ } والتفكر طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر ، والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له ، وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء ، ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي : طلباً لتحصيل تلك الرؤية بالبصر ، فكذلك الرؤية بالبصيرة ، وهي المسماة بالعلم واليقين ، حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء ، ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب ، طلباً لذلك الانكشاف والتجلي ، وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته ، فقوله تعالى : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا } أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفاناً حقيقياً تاماً ، وفي اللفظ محذوف. والتقدير : أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة ، والجنة حالة من الجنون ، كالجلسة والركبة ودخول "من" في قوله : {مِّن جِنَّةٍ } يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين : الأول : أن فعله عليه السلام كان مخالفاً لفعلهم ، وذلك لأنه عليه السلام كان معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة ، مشتغلاً بالدعوة إلى الله ، فكان العمل مخالفاً لطريقتهم ، فاعتقدوا فيه أنه مجنون. قال الحسن وقتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذا من قريش. فقال يا بني فلان يا بني فلان ، / وكان يحذرهم بأس الله وعقابه ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، واظب على الصياح طول هذه الليلة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام ، ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال. الثاني : أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه ، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي ، فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون ، وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله ، ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة ، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها ، وكان حسن الخلق ، طيب العشرة ، مرضي الطريقة نقي السيرة ، مواطباً على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين ، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون ، وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين ، أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين ، وترغيب المؤمنين ، ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير دلائل التوحيد ، لا جرم ذكر عقيبه ما يدل على التوحيد.
جزء : 15 رقم الصفحة : 420
422
فقال : {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} واعلم أن دلائل ملكوت السموات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة ، وقد فصلناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة.
(1/2098)
ثم قال : {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض. بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر ، ودليل قاهر على التوحيد ، ولنقرر هذا المعنى بمثال. فنقول : إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت ، فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول : إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ، وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية ، فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات ، والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسماً عاد السؤال فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه ، وأيضاً فتلك / الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصاً بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده ، فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسماً عاد السؤال فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وتعالى ، وأيضاً أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية. ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات. واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائز لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البحث الأول فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني ، مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر :
جزء : 15 رقم الصفحة : 422
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى : {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ} ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة ، أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال : {وَأَنْ عَسَى ا أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } (الأعراف : 185) ولفظة {ءَانٍ} في قوله : {وَأَنْ عَسَى } هي المخففة من الثقيلة تقديره : وأنه عسى ، والضمير ضمير الشأن ، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار ، وإذا كان هذا الاحتمال قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة ، والمبادرة إلى هذه الرؤية ، سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ، ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال : {فَبِأَيِّ حَدِيثا بَعْدَه يُؤْمِنُونَ} (الأعراف : 185) وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة ، فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره. واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة.
المطلب الأول : أن التقليد غير جائز ولا بد من النظر والاستدلال ، والدليل على أن الأمر كذلك قوله : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا } .
والمطلب الثاني : أن أمر النبوة متفرع على التوحيد ، والدليل عليه أنه لما قال : {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد ، ولولا أن الأمر كذلك ، لما كان إلى هذا الكلام حاجة.
والمطلب الثالث : تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى : {فَبِأَيِّ حَدِيثا بَعْدَه يُؤْمِنُونَ} على / أن القرآن ليس قديماً قالوا : لأن الحديث ضد القديم ، وأيضاً فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب ، ولذلك يقال : إن هذا الشيء حديث ، وليس بعتيق فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده ، ويقال : في الكلام إنه حديث ، لأنه يحدث حالاً بعد حال على الأسماع.
وجوابنا عنه : أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها.
(1/2099)
المطلب الرابع : أن النظر في ملكوت السموات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها وتفصيل الكلام في شرح أقسامها ، أن يقال كل ما سوى الله تعالى ، فهو إما أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز أو لا متحيزاً ، ولا حالاً في المتحيز ، أما المتحيز فإما أن يكون بسيطاً ، وإما أن يكون مركباً ، أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية ، أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب ، ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي ، ويدخل فيه أيضاً الجنة والنار ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع واستقص في تفصيل هذه الأقسام ، وأما السفلية فهي : طبقات العناصر الأربعة ، ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز ، وأما المركبات فهي أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ، واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة ، وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض ، فيقرب أجناسها من أربعين جنساً ، ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة ، ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له.
جزء : 15 رقم الصفحة : 422
وأما القسم الثالث : وهو أن الموجود لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ، فهو قسمان ، لأنه إما أن يكون متعلقاً بأجسام بالتدبير والتحريك ، وهو المسمى بالأرواح ، وإما أن لا يكون كذلك ، وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام. أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش ، كما قال تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} (الحاقة : 17) ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ويتلوها سكان الكرسي ، وإليهم الإشارة بقوله : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه ا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه إِلا} (البقرة : 255) ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السموات السبع. وإليهم الأشارة بقوله : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا * فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا} (الصافات : 1 ـ 3) ومن صفاتهم ، أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر فلعل الله سبحانه / له ألف ألف عالم وراء هذا العالم ، وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش ، وكرسي أعلى من هذا الكرسي ، وسموات أوسع من هذه السموات ، وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته ، بعد أن سمع قوله : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } (المدثر : 31) فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم : {سُبْحَـانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ } (البقرة : 32) ونعم ما قال أبو العلاء المعري :
يا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
جزء : 15 رقم الصفحة : 422
422
اعلم أنه تعالى عاد في هذه الآية مرة أخرى إلى نعت أحوال الضالين المكذبين فقال : {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه } واعلم أن استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله مثل ما سبق في الآية السالفة ، وتأويلات المعتزلة ، وجوابنا عنها مثل ما تقدم فلا فائدة في الإعادة ، وقوله : {وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـانِهِمْ} رفع بالاستئناف وهو مقطوع عما قبله ، وقرأ أبو عمرو "ويذرهم" بالياء ورفع الراء لتقدم اسم الله سبحانه ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء والحزم ، ووجه ذلك فيما يقول سيبويه : إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله : {فَلا هَادِيَ لَه } لأن موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط ، فحمل "ويذرهم" على موضع الذي هو جزم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 422
(1/2100)
425
اعلم أن في نظم الآية وجهين : الأول : أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر / أتبعه بالكلام في المعاد ، لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة. الثاني : أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {وَأَنْ عَسَى ا أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } (الأعراف : 185) باعثاً بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق ، فيصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن ذلك السائل من هو ؟
قال ابن عباس : إن قوماً من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن وقتادة : إن قريشاً قالوا : يا محمد بيننا وبينك قرابة ، فاذكر لنا متى الساعة ؟
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة ، أو لأن حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسمي بالساعة لهذا السبب أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق.
المسألة الثالثة : أيان معناه الاستفهام عن الوقت الذي يجيء ، وهو سؤال عن الزمان وحاصل الكلام أن أيان بمعنى متى ، وفي اشتقاقه قولان : المشهور أنه مأخوذ من الأين وأنكره ابن جني وقال : {أَيَّانَ} سؤال عن الزمان ، وأين سؤال عن المكان ، فكيف يكون أحدهما مأخوذاً من الآخر. والثاني : وهو الذي اختاره ابن جني أن اشتقاقه من أي فعلان منه ، لأن معناه أي وقت ولفظة أي ، فعل من أويت إليه ، لأن البعض آو إلى مكان الكل متسانداً إليه هكذا. قال ابن جني : وقرأ السلمي إيان بكسر الهمز.
المسألة الرابعة : مرساها "المرسي" ههنا مصدر بمعنى الإرساء لقوله تعالى : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } (هود : 41) أي إجراؤها وإرساؤها ، والإرساء الإثبات يقال رسى يرسوا ؛ إذا ثبت. قال تعالى : {وَالْجِبَالَ أَرْسَـاـاهَا} (النازعات : 32) فكان الرسو ليس اسماً لمطلق الثبات ، بل هو اسم لثبات الشيء إذا كان ثقيلاً ومنه إرساء الجبل ، وإرساء السفينة ، ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة ، بدليل قوله : {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الأعراف : 187) لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء.
جزء : 15 رقم الصفحة : 425
ثم قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) وقوله : {وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَآ} (الحج : 7) وقوله : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (طه : 15) ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : متى الساعة فقال عليه السلام : "ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال المحققون : والسبب في إخفاء الساعة عن العباد ؟
أنهم إذا لم يعلموا متى تكون ، كانوا على حذر منها ، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة ، / وأزجر عن المعصية ، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال : {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ} التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره/ والمعنى : لا يظهرها في وقتها المعين {إِلا هُوَ} أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو.
ثم قال تعالى : {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى : {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} (الإنسان : 27) وأيضاً وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال : {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} (الحج : 1) ووصف عذابها بالشدة فقال : {وَمَا هُم بِسُكَـارَى وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج : 2).
إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين في تفسير قوله : {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وجوه : قال الحسن : ثقل مجيئها على السموات والأرض ، لأجل أن عند مجيئها شققت السموات وتكورت الشمس والقمر وانتثرت النجوم وثقلت على الأرض لأجل أن في ذلك اليوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتبطل الجبال والبحار ، وقال أبو بكر الأصم : إن هذا اليوم ثقيل جداً على أهل السماء والأرض ، لأن فيه فناءهم وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب. وقال قوم : إن هذا اليوم عظيم الثقل على القلوب بسبب أن الخلق يعلمون أنهم يصيرون بعدها إلى البعث والحساب والسؤال والخوف من الله في مثل هذا اليوم شديد. وقال السدي : {ثَقُلَتْ} أي خفيت في السموات والأرض ولم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها. وقال قوم : {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض ، وكما يقال في المحمول الذي يتعذر حمله أنه قد ثقل على حامله ، فكذلك يقال في العلم الذي استأثر الله تعالى به أنه يثقل عليهم.
(1/2101)
جزء : 15 رقم الصفحة : 425
ثم قال : {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } وهذا أيضاً تأكيد لما تقدم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا بغتة فجأة على حين غفلة من الخلق. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الساعة تفجأ الناس ، فالرجل يصلح موضعه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوم بسلعته في سوقه. والرجل يخفض ميزانه ويرفعه "وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك".
ثم قال تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الحفي وجوه : الأول : الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي : يقال حفى بي حفاوة وتحفى بي تحفياً ، والحفي الكلام واللقاء الحسن ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّه كَانَ بِى حَفِيًّا} أي باراً لطيفاً يجيب دعائي إذا دعوته ، فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم / وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي ، ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشاً قالت لمحمد عليه السلام : إن بيننا وبينك قرابة ، فاذكر لنا متى الساعة. فقال تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ} أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم.
والقول الثاني : {حَفِىٌّ عَنْهَا } أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها ، وعلى هذا القول {حَفِىٌّ} فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال ، ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه ، قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة ، أي استقصى. فقوله : {كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها. قال صاحب "الكشاف" : هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، وإحفاء البقل استئصاله ، وأحفى في المسألة إذا ألحف ، وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به ، وعلى هذا التقدير : فالقولان الأولان متقاربان.
المسألة الثانية : في قوله : {عَنْهَا} وجهان : الأول : أن يكون فيه تقديم وتأخير والتقدير : يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف قوله : "بها" لطول الكلام ولأنه معلوم لا يحصل الالتباس بسبب حذفه. والثاني : أن يكون التقدير : يسألونك كأنك حفي بهم لأن لفظ الحفي يجوز أن يعدى تارة بالباء وأخرى بكلمة عن ويؤكد هذا الوجه بقراءة ابن مسعود {كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } .
جزء : 15 رقم الصفحة : 425
المسألة الثالثة : قوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } سؤال عن وقت قيام الساعة وقوله ثانياً : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ} سؤال عن كنه ثقل الساعة وشدتها ومهابتها ، فلم يلزم التكرار :
أجاب عن الأول بقوله : {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } .
وأجاب عن الثاني بقوله : {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ} والفرق بين الصورتين أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت قيام الساعة. والسؤال الثاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها ، وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قوله عند السؤال عن مقدار شدة القيامة الاسم الدال على غاية المهابة ، وهو قولنا الله ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وفيه وجوه : أحدها : ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق.
جزء : 15 رقم الصفحة : 425
426
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أن قوله : {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير ، ونظيره قوله تعالى في سورة يونس : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } (يونس : 48 ، 49) الثاني : روي أن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح ، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة. فأنزل الله تعالى هذه الآية : الثالث : قال بعضهم : لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين. وقال انظروا أي ناقتي ، فقال عبدالله بن أبي مع قومه ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته. فقال عليه السلاة والسلام : "إن ناساً من المنافقين. قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة" فوجدها على ما قال ، فأنزل الله تعالى : {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَآءَ اللَّه } .
(1/2102)
المسألة الثانية : اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وبين أن كل من كان عبداً كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى ، فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة ، وهذا العلم ؟
واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى : {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَآءَ اللَّه } والإيمان نفع والكفر ضر ، فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى ، وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه ، وتقريره ما ذكرناه مراراً أن القدرة على / الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان ، فخالق تلك القدرة يكون مريداً للكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان ، فخالق تلك القدرة يكون مريداً للكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلاً عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة ، فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريداً للكفر ، فثبت أن على جميع التقادير : لا يملك العبد لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله.
جزء : 15 رقم الصفحة : 426
أجاب القاضي عنه بوجوه : الأول : أن ظاهر قوله : {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَآءَ اللَّه } وإن كان عاماً بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا : يا محمد ألايخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو ، حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء ، فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله ، والمراد بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضر وقت القحط ، والأمراض وغيرها. الثاني : المراد لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فيما يتصل بعلم الغيب ، والدليل على أن المراد ذلك قوله : {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} الثالث : المراد : لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه ، والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه.
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ ، وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج الرسول صلى الله عليه وسلّم على عدم علمه بالغيب بقوله : {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} واختلفوا في المراد من هذا الخير. فقيل المراد منه : جلب منافع الدنيا وخيراتها ، ودفع آفاتها ومضراتها ، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب. وقيل : المراد منه ما يتصل بأمر الدين ، يعني : لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك ، فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك. وقيل : المراد منه : ما يتصل بالجواب عن السؤالات ، والتقدير : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير.
والجواب : عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره.
أما قوله : {وَمَا مَسَّنِىَ السُّواءُ } ففيه قولان :
القول الأول : قال الواحدي رحمه الله : تم الكلام عند قوله : {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ثم قال : {وَمَا مَسَّنِىَ السُّواءُ } أي ليس بي جنون ، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله : / {مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ } وهذا القول عندي بعيد جداً ويوجب تفكك نظم الآية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 426
والقول الثاني : إنه تمام الكلام الأول ، والتقدير : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير ، ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء. ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي ، ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدر الله عليه ، ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال : {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات ، والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله : {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيه قولان : أحدهما : أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلاأنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما ، يفيد ذكر الأخرى كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل : 81) والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيراً وبشيراً للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون. فلهذا السبب خصهم الله بالذكر ، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2).
جزء : 15 رقم الصفحة : 426
430
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل :
(1/2103)
المسألة الأولى : المروي عن ابن عباس {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} وهي نفس آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى {فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا} آدم {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِه ا فَلَمَّآ أَثْقَلَت} أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال : ما هذا يا حواء / إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج ؟
أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك ؟
فخافت حواء ، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام ، فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم أتاها وقال : إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث ، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله : {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا جَعَلا لَه شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا } أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً ، والمراد به الحرث هذا تمام القصة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 430
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى قال : {فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة. الثاني : أنه تعالى قال بعده : {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْـاًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الأعراف : 191) وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى ، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر. الثالث : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركون من لا يخلق شيئاً ، ولم يقل ما لا يخلق شيئاً ، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة "من" لا بصيغة "ما" الرابع : أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس ، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث ؟
وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم ؟
الخامس : أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح ، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار. فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس : أن بتقدير أن آدم عليه السلام ، سماه بعبد الحرث ، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له ، أو جعله صفة له ، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من قبله. فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم/ وذلك لا يقوله عاقل. فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه.
إذا عرفت هذا فنقول : في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد.
التأويل الأول : ما ذكره القفال فقال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل / وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم ، وقولهم بالشرك ، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل ، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لالائك ونعمائك. فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً ، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين ، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام.
جزء : 15 رقم الصفحة : 430
ثم قال تعالى : {فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عن ذلك الشرك ، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد.
التأويل الثاني : بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهم آل قصي ، والمراد من قوله : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ} قصي {وَجَعَلَ مِنْهَا} جنسـ {مِنْهَا زَوْجَهَا} عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد اللات ، وجعل الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
(1/2104)
التأويل الثالث : أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه : الأول : أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام ، وحكى عنهما أنهما قالا : { لئن ءَاتَيْتَنَا صَـالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ، ثم قال : {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا جَعَلا لَه شُرَكَآءَ} فقوله : {جَعَلا لَه شُرَكَآءَ} ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد ، والتقرير : فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما ؟
ثم قال : {فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم يقال لذلك المنعم : أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك ، فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي ؟
على التبعيد فكذا ههنا.
الوجه الثاني : في الجواب أن نقول : أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء / ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله : {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا جَعَلا لَه شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا } فنقول : التقدير ، فلما آتاهما ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذا فيما آتاهما ، أي فيما آتى أولادهماونظيره قوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) أي واسأل أهل القرية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 430
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله : {جَعَلا لَه شُرَكَآءَ} .
قلنا : لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله : {جَعَلا} المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين/ ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع ، وهو قوله تعالى : {فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
الوجه الثالث : في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله : {جَعَلا لَه شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا } عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام ، إلا أنه قيل : إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق. ثم بدا لهم في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته. وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة ، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلهذا قال تعالى : {فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه : "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه" وعلى هذا التقدير : فالإشكال زائل.
الوجه الرابع : في التأويل أن نقول : سلمنا صحة تلك القصة المذكورة ، إلا أنا نقول : إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث ، وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم. يقال في المثل : أنا عبد من تعلمت منه حرفاً ، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان : كتابة عبد وده فلان. قال الشاعر :
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه ، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه ، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد ، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية.
المسألة الثانية : في تفسير ألفاظ الآية وفيها مباحث :
جزء : 15 رقم الصفحة : 430
(1/2105)
البحث الأول : قوله : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} المشهور أنها نفس آدم وقوله : / {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} المراد حواء. قالوا ومعنى كونها مخلوقة من نفس آدم ، أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم. قالوا : والحكمة فيه أن الجنس إلى الجنس أميل ، والجنسية علة الضم ، وأقول هذا الكلام مشكل لأنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلق آدم ابتداء فما الذي حملنا على أن نقول أنه تعالى خلق حواء من جزء أجزاء آدم ؟
ولم لا نقول : إنه تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء ؟
وأيضاً الذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء ، وأيضاً الذي يقال : إن عدد أضلاع الجانب الأيسر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن فيه مؤاخذة تنبي عن خلاف الحس والتشريح. بقي أن يقال : إذا لم نقل بذلك ، فما المراد من كلمة {مِنْ} في قوله : {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فنقول : قد ذكرنا أن الإشارة إلى الشيء تارة تكون بحسب شخصه ، وأخرى بحسب نوعه قال عليه الصلاة والسلام : "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع. وقال عليه الصلاة والسلام : "في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون" والمراد خلق من النوع الإنساني زوجة آدم ، والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنساناً مثله قوله : {فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا} أي جامعها ، والغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشاها وتغشاها إذا علاها ، وذلك لأنه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها ، ومثله يجللها ، وهو يشبه التغطي واللبس. قال تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقوله : {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} قالوا يريد النطفة والمني والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر ، والحمل بكسر الحاء ما حمل على ظهر أو على الدابة. وقوله : {فَمَرَّتْ بِه } أي استمرت بالماء والحمل على سبيل الخفة ، والمراد أنها كانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل. قال صاحب "الكشاف" : وقرأ يحيى بن يعمر {فَمَرَّتْ بِه } بالتخفيف وقرأ غيره {تُحَرِّكْ بِه } من المرية. كقوله :
جزء : 15 رقم الصفحة : 430
{أَفَتُمَـارُونَه } وفي قراءة أخرى {أَفَتُمَـارُونَه } معناه وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت فيه {فَلَمَّآ أَثْقَلَت} أي صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها {دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يعني آدم وحواء { لئن ءَاتَيْتَنَا صَـالِحًا} أي ولداً سوياً مثلنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} لآلائك ونعمائك {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا} الله {صَـالِحًا جَعَلا لَه شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا } والكلام في تفسيره قد مر بالاستقصاء قرأ ابن كثير وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم ، في رواية حفص {جَعَلا لَه شُرَكَآءَ} بصيغة الجمع وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر {عَنْهُ} بكسر الشين وتنوين الكاف ومعناه جعلا له نظراء ذوي شرك وهم الشركاء ، أو يقال معناه أحدثا لله إشراكاً في الولد ومن قرأ {لِلَّهِ شُرَكَآءَ} فحجته قوله : {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُوا } وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس لأن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين ، هذا إذا حملنا هذه الآية على القصة المشهورة ، أما إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 430
432
اعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه ليس المراد بقوله : {فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما ذكره من قصة إبليس إذ لو كان المراد ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكلية ، وكان ذلك غاية الفساد في النظم والترتيب ، بل المراد ما ذكرناه في سائر الأجوبة من أن المقصود من الآية السابقة الرد على عبدة الأوثان. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المقصود من هذه الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقوله : {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْـاًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} معناه أيعبدون ما لا يقدر على أن يخلق شيئاً ؟
وهم يخلقون. أي وهم مخلوقون يعني الأصنام.
فإن قيل : كيف وحد {يَخْلُقُ} ثم جمع فقال : {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وأيضاًفكيف ذكر الواو والنون في جمع غير الناس ؟
والجواب عن الأول : أن لفظ {مَآ} تقع على الواحد والاثنين والجمع ، فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظاهر لفظها. ومحتملة للجمع فالله تعالى اعتبر الجهتين فوحد قوله : {يَخْلُقُ} رعاية لحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله : {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} رعابة لجانب المعنى.
(1/2106)
والجواب عن الثاني : وهو أن الجمع بالواو والنون في غير من يعقل كيف يجوز ؟
فنقول : لما اعتقد عابدوها أنها تعقل وتميز فورد هذا اللفظ بناء على ما يعتقدونه ويتصورونه ، ونظيره قوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33) وقوله : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} (يوسف : 4) وقوله : {نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النمل : 18).
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 432
المسألة الثانية : قوله : {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْـاًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} احتج أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير موجد ولا خالق لأفعاله ، قالوا : لأنه تعالى طعن في إلهية الأجسام بسبب أنها لا تخلق شيئاً وهذا الطعن إنما يتم لو قلنا إن بتقدير أنها كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلهيتها ، وهذا يقتضي أن كل من كان خالقاً كان إلهاً ، فلو كان العبد خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ولما كان ذلك باطلاً ، علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه.
أما قوله تعالى : {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها. والنصر : المعونة على العدو والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك . فكيف يليق بالعاقل عبادتها ؟
ثم قال : {وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه.
ثم قال : {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ } واعلم أنه تعالى لما أثبت بالآية المتقدمة أنه لا قدرة لهذه الأصنام على أمر من الأمور ، بين بهذه الآية أنه لا علم لها بشيء من الأشياء ، والمعنى أن هذا المعبود الذي يعبده المشركون معلوم من حاله أنه كما لا ينفع ولا يضر ، فكذا لا يصح فيه إذا دعى إلى الخير الأتباع. ولا يفصل حال من يخاطبه ممن يسكت عنه ، ثم قوى هذا الكلام بقوله : {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـامِتُونَ} وهذا مثل قوله : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} (البقرة : 6) وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل ، وههنا عطف الاسم على الفعل ، لأن قوله : {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} جملة فعلية : وقوله : {أَمْ أَنتُمْ صَـامِتُونَ} جملة إسمية.
واعلم أنه ثبت أن عطف الجملة الإسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة ، وتلك الفائدة هي أن صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالاً بعد حال ، وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار.
إذا عرفت هذا فنقول : إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام ، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين ، فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم ، فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة ، ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } وفيه سؤال : وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات ؟
وجوابه من وجوه : الأول : أن المشركين لما / ادعوا أنها تضر وتنفع ، وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم ، ولذلك قال : {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال : {إِنَّ الَّذِينَ} ولم يقل التي.
جزء : 15 رقم الصفحة : 432
والجواب الثاني : أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم ، فلم جعلتم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً ؟
ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم. فقال : {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } (الأعراف : 195) ثم أكد هذا البيان بقوله : {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله : {فَلْيَسْتَجِيبُوا } لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية ، ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) وقوله : {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة ، ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية ، وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها ، وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع.
جزء : 15 رقم الصفحة : 432
433
(1/2107)
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام. وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة ، وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان ، ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى ، فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة ، والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة ، وعن قوة الحياة ، وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام ، بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى / فضل هذه الأصنام البتة ، وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة ، لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة. هذا هو الوجه في تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وقد تعلق بعض أغمار المشبهة وجهاً لهم بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى. فقالوا : إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها ، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل ، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى. والجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن المقصود من هذه الآية : بيان أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم ، لأن الإنسان له رجل ماشية ، ويد باطشة ، وعين باصرة ، وأذن سامعة ، والصنم رجله غير ماشية ، ويده غير باطشة ، وعينه غير مبصرة ، وأذنه غير سامعة ، وإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم ، واشتغال الأفضل الأكمل بعبادة الأخس الأدون جهل ، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام ، لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال.
الوجه الثاني : في الجواب أن المقصود من ذكر هذا الكلام : تقرير الحجة التي ذكرها قبل هذه الآية وهي قوله : {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} (الأعراف : 192) يعني كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر ، ثم قرر تعالى ذلك بأن هذه الأصنام لم يحصل لها أرجل ماشية ، وأيد باطشة ، وأعين باصرة ، وآذان سامعة ، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن قادرة على الإنفاع والإضرار ، فامتنع كونها آلهة. أما إله العالم تعالى وتقدس فهو وإن كان متعالياً عن هذه الجوارح والأعضاء إلا أنه موصوف بكمال القدرة على النفع والضرر وهو موصوف بكمال السمع والبصر فظهر الفرق بين البابين.
جزء : 15 رقم الصفحة : 433
أما قوله تعالى : {قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} قال الحسن : إنهم كانوا يخوفون الرسول عليه السلام بآلهتهم ، فقال تعالى : {قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي بوجه من الوجوه ، وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في والباقون حذفوها ومثله في قوله : {كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ} قال الواحدي ، والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي ، وقد حذفوا هذه الياآت إذا كانت في القوافي كقوله :
يلمس الإحلاس في منزله
بيديه كاليهودي الممل
والذين أثبتوها فلأن الأصل هو الإثبات/ ومعنى قوله : {فَلا تُنظِرُونِ} أي لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركائكم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 433
434
اعلم أنه لما بين في الآيات المتقدمة أن هذه الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر بين بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى ، لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا أما تحصيل منافع الدين ، فبسبب إنزال الكتاب ، وأما تحصيل منافع الدنيا ، فهو المراد بقوله : {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـالِحِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : قرأ القراء وليي بثلاث ياآت ، الأولى ياء فعيل وهي ساكنة ، والثانية لام الفعل وهي كسورة ، قد أدغمت الأولى فيها فصار ياء مشددة ، والثالثة ياء الإضافة ، وروي عن أبي عمرو : ولي الله بياء مشددة ، ووجه ذلك أنه حذف الياء التي هي لام فعيل ، كما حذف اللام من قولهم فاماليت به فاله ، ثم أدغمت ياى فعيل في ياء الإضافة ، فقيل ولي الله وهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة ، وأما الباقون فأجازوا اجتماع ثلاث ياءات ، والله أعلم.
(1/2108)
المسألة الثانية : أن وليي الله أي الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين ويتولى الصالحين ينصرهم ، فلا تضرهم عداوة من عاداهم ، وفي ذلك يأمن المشركين من أن يضره كيدهم. وسمعت أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئاً ، فقيل له فيه فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين ، فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له ولياً فلا حاجة له إلى مالي ، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى : {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} (القصص : 17) ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته.
أما قوله : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} ففيه قولان :
القول الأول : أن المراد منه وصف الأصنام بهذه الصفات.
/ فإن قالوا : فهذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدمة فما الفائدة في تكريرها ؟
فنقول : قال الواحدي : إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة ، وبين من لا تجوز ، كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين ، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 434
والقول الثاني : أن هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير الله ، يعني أن الكفار كانوا يخوفون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فقال تعالى : إنهم لا يقدرون على شيء. بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم ذلك البتة.
فإن قيل : لم يتقدم ذكر المشركين ، وإنما تقدم ذكر الأصنام فكيف يصح ما ذكر ؟
قلنا : قد تقدم ذكرهم في قوله تعالى : {قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} (الأعراف : 195) أما قوله تعالى : {وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام. قلنا : المراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم : جبلان متناظران أي متقابلان ، فإن حملناها على المشركين فالمعنى : أنهم وإن كانوا ينظرون إلى الناس إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق لم ينتفعوا بذلك النظر والرؤية/ فصاروا كأنهم عمي ، وهذه الآية تدل على أن النظر غير الرؤية ، لأنه تعالى أثبت النظر ونفي الرؤية ، وذلك يدل على التغاير ، وأجيب عن هذا الاستدلال فقيل : معناه تحسبهم أنهم ينظرون إليك مع أنهم في الحقيقة لا ينظرون ، أي تظن أنهم ينظرونك مع أنهم لا يبصرونك ، والرؤية بمعنى الحسبان واردة قال تعالى : {وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى } (الحج : 2).
جزء : 15 رقم الصفحة : 434
435
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الله هو الذي يتولاه ، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار ، بين في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فقال : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال أهل اللغة : العفو الفضل وما أتي من غير كلفة.
إذا عرفت هذا فنقول : الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم ، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها ، وإما أن لا يجوز.
/ أما القسم الأول : فهو المراد بقوله : {خُذِ الْعَفْوَ} ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ؛ ويدخل فيه أيضاً التخلق مع الناس بالخلق الطيب ، وترك الغلظة والفظاظة كما قال تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران : 159) ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف ، كما قال تعالى : {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النحل : 125).
(1/2109)
وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه ، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف ، والعروف ، والعارفة ، والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ، وأن وجوده خير من عدمه ، وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال ، لكان ذلك سعياً في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز ، ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه ، فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} وقال في آية أخرى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) وقال : {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون : 3) وقال في صفة أهل الجنة : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} (الواقعة : 25) وإذا أحاط عقلك بهذا التقسيم ، علمت أن هذه الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير. قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : "يا جبريل ما هذا ؟
قال يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك" قال أهل العلم : تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك ، فقد عفوت عنه ، وإذا آتيت من حرمك فقد آتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين ، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه : وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ، وللمفسرين في تفسير هذه الآية طريق آخر فقالوا : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي ما عفا لك من أموالهم ، أي ما أتوك به عفواً فخذه ، ولا تسأل عما وراء ذلك. قالوا : كان هذا قبل فريضة الصدقة فلما نزلت آية وجوب الزكاة صارت هذه الآية منسوخة إلا قوله : {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بإظهار الدين الحق ، وتقرير دلائله {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} أي المشركين قالوا : وهذا منسوخ بآية السيف فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله : {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 435
واعلم أن تخصيص قوله : {خُذِ الْعَفْوَ} بما ذكره تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضاً فهذا الكلام إذا حملناه على أداء الزكاة لم يكن إيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة منافياً لذلك ، لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس ولا يشدد الأمر على المزكى فلم يكن إيجاب الزكاة سبباً لصيرورة هذه الآية منسوخة.
/ وأما قوله : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} فالمقصود منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن يصبر على سوء أخلاقهم/ وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها ، وليس فيه دلالة على امتناعه من القتال ، لأنه لا يمتنع أن يؤمر عليه السلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنه ليس من المتناقض أن يقال الشارع لا يقابل سفاهتهم بمثلها ؟
ولكن قاتلهم وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكناً فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ ، إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 435
436
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو زيد : لما نزل قوله تعالى : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (الأعراف : 199) قال النبي صلى الله عليه وسلّم : كيف يا رب والغضب ؟
فنزل قوله : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ} .
المسألة الثانية : اعلم أن نزغ الشيطان ، عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي ، عن أبي زيد نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم ، وقيل النزغ الازعاج ، وأكثر ما يكون عند الغضب ، وأصله الازعاج بالحركة إلى الشر ، وتقرير الكلام أنه تعالى لما أمره بالعرف فعند ذلك ربما يهيج سفيه ويظهر السفاهة فعند ذلك أمره تعالى بالسكوت عن مقابلته فقال : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} ولما كان من المعلوم أن عند إقدام السفيه على السفاهة يهيج الغضب والغيظ ولا يبقى الإنسان على حالة السلامة وعند تلك الحالة يجد الشيطان مجالاً في حمل ذلك الإنسان على ما لا ينبغي ، لا جرم بين تعالى ما يجري مجرى العلاج لهذا الغرض فقال : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } والكلام في تفسير الاستعاذة قد سبق في أول الكتاب على الاستقصاء.
(1/2110)
المسألة الثالثة : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقالوا : لولا أنه يجوز من الرسول الإقدام على المعصية أو الذنب ، وإلا لم يقل له {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } والجواب عنه من وجوه : الأول : أن حاصل هذا الكلام أنه تعالى قال له : إن حصل في قلبك من الشيطان نزغ ، كما أنه تعالى قال : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) ولم يدل ذلك على أنه أشرك. وقال : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) ولم يدل ذلك على أنه حصل فيهما آلهة. الثاني : هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس للرسول عليه السلام ، إلا أن هذا لا يقدح في عصمته ، إنما القادح / في عصمته لو قبل الرسول وسوسته ، والآية لا تدل على ذلك. عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ما من إنسان إلا ومعه شيطان" قالوا : وأنت يا رسول الله قال : وأنا ولكنه أسلم بعون الله ، فلقد أتاني فأخذت بحلقه ، ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً ، وهذا كالدلالة على أن الشيطان يوسوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الحج : 52) الثالث : هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس. وأنه عليه الصلاة والسلام يقبل أثر وسوسته ، إلا أنا نخص هذه الحالة بترك الأفضل والأولى. قال عليه الصلاة والسلام : "وإنه ليغان على قلبي وإني لا أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة".
جزء : 15 رقم الصفحة : 436
المسألة الرابعة : الاستعاذة بالله عند هذه الحالة أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه وشديد عقابه فيدعوه كل واحد من هذين الأمرين إلى الإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أمر الشرع.
المسألة الخامسة : هذا الخطاب وإن خص الله به الرسول إلا أنه تأديب عام لجميع المكلفين لأن الاستعاذة بالله على السبيل الذي ذكرناه لطف مانع من تأثير وساوس الشيطان ، ولذلك قال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ * إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل : 97 ، 98) إذا ثبت بالنص أن لهذه الاستعاذة أثراً في دفع نزع الشيطان/ وجبت المواظبة عليه في أكثر الأحوال.
المسألة السادسة : قوله : {إِنَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنه تعالى قال : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك ، وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 436
438
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد ينزغه الشيطان وبين أن علاج هذه الحالة الاستعاذة بالله ، ثم بين في هذه الآية أن حال المتقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب ، لأن الرسول لا يحصل له من الشيطان إلا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة ، وجوز في المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان ، وهذا المس يكون لامحالة أبلغ من النزغ.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بغير ألف ، والباقون {مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ} بالألف. قال الواحدي رحمه الله : اختلفوا في الطيف فقيل إنه مصد ، وقال أبو زيد يقال : طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا أقبل وأدبر. وأطاف يطيف إطافة إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم ، وطاف الخيال يطيف طيفاً إذا ألم في المنام. قال ابن الأنباري : وجائز أن يكون طيف أصله طيف. إلا أنهم استثقلوا التشديد ، فحذفوا إحدى الياءين وأبقوا ياء ساكنة ، فعلى القول الأول هو مصدر ، وعلى ما قاله ابن الأنباري هو من باب هين وهين وميت وميت ، ويشهد لصحة قول ابن الأنباري قراءة سعيد بن جبير {إِذَا مَسَّهُمْ} بالتشديد. هذا هو الأصل في الطيف ، ثم سمى الجنون والغضب والوسوسة طيفاً ، لأنه لمة من لمة الشيطان تشبه لمة الخيال. قال الأزهري : الطيف في كلام العرب الجنون ، ثم قيل للغضب طيف ، لأن الغضبان يشبه المجنون. وأما الطائف فيجوز أن يكون بمعنى الطيف ، مثل العافية والعاقبة ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلة. قال الفراء في هذه الآية : الطائف والطيف سواء ، وهو ما كان كالخيال الذي يلم بالإنسان ، ومنهم من قال : الطيف كالخطرة والطائف كالخاطر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 438
(1/2111)
المسألة الثالثة : اعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من الأعمال ، ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً ، واعتقد في المغضوب عليه كونه عاجزاً عن الدفع ، فعند حصول هذه الاعتقادات الثلاثة إذا كان واقعاً في ظلمات عالم الأجسام فيغتروا بظواهر الأمور ، فأما إذا انكشف له نور من عالم الغيب زالت هذه الاعتقادات الثلاثة من جهات كثيرة. أما الاعتقاد الأول : وهو استقباح ذلك الفعل من المغضوب عليه ، فإذا انكشف له أنه إنما أقدم على ذلك العمل ، لأنه تعالى خلق فيه داعية جازمة راسخة ، ومتى خلق الله فيه تلك الداعية امتنع منه أن لا يقدم على ذلك العمل ، فإذا تجلى هذا المعنى زال الغضب ، وأيضاً فقد يخطر ببال الإنسان أن الله تعالى علم منه هذه الحالة ، ومتى كان كذلك فلا سبيل له إلى تركها ، فعند ذلك يفر غضبه ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : "من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب" / وأما الاعتقاد الثاني والثالث : وهو اعتقاده في نفسه كونه قادراً ، وكون المغضوب عليه عاجزاً ، فهذان الاعتقادان أيضاً فاسدان من وجوه : أحدها : أنه يعتقد أنه كم أساء في العمل ، والله كان قادراً عليه ، وهو كان أسيراً في قبضة قدرة الله تعالى ، ثم إنه تجاوز عنه. وثانيها : أن المغضوب عليه كما أنه عاجز في يد الغضبان ، فكذلك الغضبان عاجز بالنسبة إلى قدرة الله. وثالثها : أن يتذكر الغضبان ما أمره الله به من ترك إمضاء الغضب والرجوع إلى ترك الإيذاء والإيحاش. ورابعها : أن يتذكر أنه إذا أمضى الغضب وانتقم كان شريكاً للسباع المؤذية والحياة القاتلة/ وإن ترك الانتقام واختار العفو كان شريكاً لأكابر الأنبياء والأولياء. وخامسها : أن يتذكر أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قوياً قادراً عليه ، فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه ، أما إذا عفا كان ذلك إحساناً منه إليه ، وبالجملة فالمراد من قوله تعالى : {اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا } ما ذكرناه من الاعتقادات الثلاثة ، والمراد من قوله : {تَذَكَّرُوا } ما ذكرناه من الوجوه التي تفيد ضعف تلك الاعتقادات وقوله : {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} معناه أنه إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ، ففي الحال يزول مس طائف الشيطان ، ويحصل الاستبصار والانكشاف والتجلي ويحصل الخلاص من وسوسة الشيطان.
المسألة الرابعة : قوله : {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} معنى {إِذَآ} ههنا للمفاجأة ، كقولك خرجت فإذا زيد وإذا في قوله : {إِذَا مَسَّهُمْ} يستدعي جزاء ، كقولك آتيك إذا احمر البسر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 438
أما قوله تعالى : {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الكناية في قوله : {وَإِخْوَانِهِمْ } إلى ماذا تعود على قولين.
القول الأول : وهو الأظهر أن المعنى : وإخوان الشياطين يمدون الشياطين في الغي ، وذلك لأن شياطين الأنس إخوان لشياطين الجن ، فشياطين الإنس يغوون الناس ، فيكون ذلك إمداداً منهم لشياطين الجن على الإغواء والأضلال.
والقول الثاني : أن إخوان الشياطين هم الناس الذين ليسوا بمتقين ، فإن الشياطين يكونون مدداً لهم فيه ، والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخاً من الشياطين.
المسألة الثانية : تفسير الإمداد تقوية تلك الوسوسة والإقامة عليها وشغل النفس عن الوقوف على قبائحها ومعايبها.
المسألة الثالثة : قرأ نافع {يَمُدُّونَهُمْ} (بضم الياء وكسر الميم من الإمداد ، والباقون {يَمُدُّونَهُمْ} بفتح الياء وضم الميم ، وهما لغتان مد يمد وأمد يمد ، وقيل مد معناه جذب ، وأمد معناه من الإمداد. / قال الواحدي ، عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت ، كقوله : {أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} (المؤمنون : 55) {وَأَمْدَدْنَـاهُم بِفَـاكِهَةٍ} (الطور : 22) وقوله : {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} (النمل : 36) وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال : {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة : 15) قراءة العامة وهي فتح الياء ومن ضم الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الإنشقاق : 24) وقوله : {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} (الأعراف : 202) قال الليث : الإقصار الكف عن الشيء قال أبو زيد : أقصر فلان عن الشر يقصر إقصاراً إذا كف عنه وانتهى قال ابن عباس : ثم لا يقصرون عن الضلال والإضلال ، أما الغاوي ففي الضلال وأما المغوي ففي الإضلال.
جزء : 15 رقم الصفحة : 438
439
(1/2112)
اعلم أنه تعالى : لما بين في الآية الأولى أن شياطين الجن والأنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال بين في هذه الآية نوعاً من أنواع الإغواء والإضلال وهو أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقوله : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) ثم أعاد : أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأتيهم ، فعند ذلك قالوا : {لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } قال الفراء : تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ، والمعنى لولا تقولتها وافتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون : {إِنْ هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ} (سبأ : 43) أو يقال هلا اقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقاً في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر رسوله أن يذكر الجواب الشافي ، وهو قوله : {اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى ا إِلَىَّ مِن رَّبِّى } ومعناه ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور ، وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته ، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح ، ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض ، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة ، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة ، فكان طلب الزيادة من باب التعنت ، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة : أولها : قوله : {هَـاذَا بَصَآاـاِرُ مِن رَّبِّكُمْ} أصل البصيرة الأبصار ، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، أطلق عليه لفظ البصيرة ، تسمية للسبب باسم المسبب. وثانيها : قوله : {وَهَدَى } والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أن الناس في معارف / التوحيد والنبوة والمعاد قسمان : أحدهما : الذين بلغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين. والثاني : الذين ما بلغوا إلى ذلك الحد إلا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلين : وهم أصحاب علم اليقين ، فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر ، وفي حق القسم الثاني وهم المقتصدون هدى ، وفي حق عامة المؤمنين رحمة ، ولما كانت الفرق الثلاث من المؤمنين لا جرم قال : {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 439
441
اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله : {هَـاذَا بَصَآاـاِرُ مِن رَّبِّكُمْ} (الأعراف : 203) أردفه بقوله : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الإنصات السكوت والاستماع ، يقال : نصت ، وأنصت ، وانتصت ، بمعنى واحد.
المسألة الثانية : لا شك أن قوله : {فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } أمره ، وظاهر الأمر للوجوب ، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً ، وللناس فيه أقوال.
القول الأول : وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر أنا نجري هذه الآية على عمومها ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت ، فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق ، ومعلمي الصبيان.
والقول الثاني : أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة. قال أبو هريرة رضي الله عنه : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية ، وأمروا بالإنصات ، وقال قتادة : كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم ، كم صليتم وكم بقي ؟
وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والقول الثالث : أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام. قال ابن عباس قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم ، فخلطوا عليه ، فنزلت هذه الآية وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والقول الرابع : أنها نزلت في السكوت عند الخطبة ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وهذا القول منقول عن الشافعي رحمه الله ، وكثير من الناس قد استبعد هذا القول ، وقال اللفظ / عام وكيف يجوز قصره على هذه الصورة الواحدة. وأقول هذا القول في غاية البعد لأن لفظة إذا تفيد الارتباط ، ولا تفيد التكرار ، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت الدار مرة واحدة طلقت طلقة واحدة ، فإذا دخلت الدار ثانياً لم تطلق بالاتفاق لأن كلمة {إِذَآ} لا تفيد التكرار.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } لا يفيد إلا وجوب الإنصات مرة واحدة ، فلما أوجبنا الاستماع عند قراءة القرآن في الخطبة ، فقد وفينا بموجب اللفظ ولم يبق في اللفظ دلالة على ما وراء هذه الصورة ، سلمنا أن اللفظ يفيد العموم إلا أنا نقول بموجب الآية ، وذلك لأن عند الشافعي رحمه الله : يسكت الإمام ، وحينئذ يقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام كما قال أبو سلمة للإمام سكتتان ، فاغتنم القراءة في أيهما شئت ، وهذا السؤال أورده الواحدي في "البسيط".
جزء : 15 رقم الصفحة : 441
(1/2113)
ولقائل أن يقول : سكوت الإمام إما أن نقول : إنه من الواجبات أو ليس من الواجبات والأول باطل بالإجماع والثاني يقتضي أن يجوز له أن لا يسكت. فبتقدير : أن لا يسكت يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام ، وذلك يفضي إلى ترك الاستماع ، وإلى ترك السكوت عند قراءة الإمام ، وذلك على خلاف النص ، وأيضاً فهذا السكوت ليس له حد محدود ومقدار مخصوص والسكتة للمأمومين مختلفة بالثقل والخفة ، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام ، وحينئذ يلزم المحذور المذكور ، وأيضاً فالإمام إنما يبقى ساكتاً ليتمكن المأموم من إتمام القراءة ، وحينئذ ينقلب الإمام مأموماً ، والمأموم إماماً ، لأن الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم ، وذلك غير جائز ، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الواحدي غير جائز ، وذكر الواحدي سؤالاً ثانياً على التمسك بالآية. فقال : إن الإنصات هو ترك الجهر والعرب تسمي تارك الجهر منصتاً ، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحداً.
ولقائل أن يقول : إنه تعالى أمره أولاً بالاستماع واشتغاله بالقراءة يمنعه من الاستماع ، لأن السماع غير ، والاستماع غير ، فالاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل ، قال تعالى لموسى عليه السلام : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } طه : 13) والمراد ما ذكرناه ، وإذا ثبت هذا وظهر أن الاشتغال بالقراءة مما يمنع من الاستماع علمنا أن الأمر بالاستماع يفيد النهي عن القراءة.
السؤال الثالث : وهو المعتمد أن نقول : الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن / بخبر الواحد فهب أن عموم قوله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام ، إلا أن قوله عليه الصلاة والسلام : "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وقوله : "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" أخص من ذلك العموم ، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب المصير إلى تخصيص عموم هذه الآية بهذا الخبر ، وهذا السؤال حسن.
جزء : 15 رقم الصفحة : 441
والسؤال الرابع : أن نقول : مذهب مالك وهو القول القديم للشافعي أنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلوات الجهرية ، عملاً بمقتضى هذا النص ، ويجب عليه القراءة في الصلوات السرية ، لأن هذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة ، وهذا أيضاً سؤال حسن ، وفي الآية قول خامس وهو أن قوله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطاباً مع المسلمين ، وهذا قول حسن مناسب وتقريره أن الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواماً من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها ، فأمر الله رسوله أن يقول جواباً عن كلامهم إنه ليس لي أن أقترح على ربي ، وليس لي إلا أن أنتظر الوحي ، ثم بين تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلّم إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة ، لأن القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله : {هَـاذَا بَصَآاـاِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف : 203) فلو قلنا إن قوله تعالى : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه ، وانقطع النظم ، وحصل فساد الترتيب ، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد منه شيئاً آخر سوى هذا الوجه وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة ، من حيث إنه معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته ، ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة ، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزاً دالاً على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ، فيستعينوا بهذا القرآن على طلب سائر المعجزات ، ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن : إنه بصائر وهدى ورحمة فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد ، ولو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب ، فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى ، وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه } خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج / بكونه معجزاً على صدق نبوته/ وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه ، ومما يقوى أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى ، وجوه :
جزء : 15 رقم الصفحة : 441
(1/2114)
الوجه الأول : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا : {لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت : 26) فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت ، حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز.
والوجه الثاني : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {هَـاذَا بَصَآاـاِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم.
ثم قال : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولو كان المخاطبون بقوله : {فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } هم المؤمنون لما قال : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعاً فكيف يقول بعده من غير فصل لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين ؟
أما إذا قلنا : إن المخاطبين بقوله : {فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } هم الكافرون ، صح حينئذ قوله : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأن المعنى ؛ فاستمعوا له وأنصتوا فلعلكم تطلعون على ما فيه من دلائل الإعجاز ، فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين ، فثبت أنا لو حملناه على ما قلناه حسن قوله : {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولو قلنا إن الخطاب خطاب مع المؤمنين لم يحسن ذكر لفظ "لعل" فيه. فثبت أن حمل الآية على التأويل الذي ذكرناه أولى ، وحينئذ يسقط استدلال الخصم به من كل الوجوه ، لأنا بينا بالدليل أن هذا الخطاب ما يتناول المؤمنين ، وإنما تناول الكفار في أول زمان تبليغ الوحي والدعوة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 441
445
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا } (الأعراف : 204) اعلم أن قارئاً يقرأ القرآن بصوت عال حتى يمكنهم استماع القرآن ، ومعلوم أن ذلك القارىء ليس إلا الرسول عليه السلام ، فكانت هذه الآية جارية مجرى أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يقرأ القرآن على القوم بصوت عال رفيع ، وإنما أمره بذلك ليحصل المقصود من تبليغ الوحي والرسالة ، ثم إنه / تعالى أردف ذلك الأمر ، بأن أمره في هذه الآية بأن يذكر ربه في نفسه ، والفائدة فيه : أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة ، لأنه بهذا الشرط أقرب إلى الأخلاص والتضرع.
المسألة الثانية : أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيداً بقيود.
القيد الأول : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفاً بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضراً لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة ، وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عارياً عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة. ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال : بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ولا يفهم منها شيئاً ، فإنه لا ينعقد البيع والشراء ، فكذا ههنا ويتفرع على ما ذكرنا أحكام :
الحكم الأول
سمعت أن بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر ، أمره بالخلوة والتصفية أربعين يوماً ، ثم عند استكمال هذه المدة وحصول التصفية التامة ، يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ، ويقول لذلك المريد اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء ، فكل اسم وجدت قلبه عند سماعه قوي تأثره وعظم شوقه ، فاعرف أن الله إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه ، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب.
الحكم الثاني
قال المتكلمون : هذه الآية تدل على إثبات كلام النفس لأنه تعالى لما أمر رسوله بأن يذكر ربه في نفسه وجب الاعتراف بحصول الذكر النفساني ولا معنى لكلام النفس إلا ذلك.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من الذكر النفساني العلم والمعرفة ؟
جزء : 15 رقم الصفحة : 445
قلنا : هذا باطل لأن الإنسان لا قدرة له على تحصيل العلم بالشيء ابتداء لأنه إما أن يطلبه حال حصوله أو حال عدم حصوله. والأول باطل لأنه يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لأن ما لا يكون متصوراً ، كان الذهن غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع كونه طالباً له فثبت أنه لا قدرة للإنسان على تحصيل التصورات ، فامتنع ورود الأمر به ، والآية دالة على ورود الأمر بالذكر النفساني ، فوجب أن يكون الذكر النفساني معنى مغايراً للمعرفة والعلم والتصور ، وذلك هو المطلوب.
/ الحكم الثالث
(1/2115)
أنه تعالى قال : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} ولم يقل : واذكر إلهك ولا سائر الأسماء ، وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا ، وأضاف نفسه إليه ، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان ، والمقصود منه ، أن يصير العبد فرحاً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم ، لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل ، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه ، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها ، كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء ، فإذا سمع بعد ذلك قوله : {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} عظم الخوف ، وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف ، وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام : "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" إلا أن هنا دقيقة ، وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف ، فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء ، علمنا أن جانب الرجاء أقوى.
القيد الثاني : من القيود المعتبرة في الذكر حصول التضرع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {تَضَرُّعًا} وهذا القيد معتبر ، ويدل عليه القرآن ، والمعقول. أما القرآن فقوله في سورة الأنعام {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَه تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (الأنعام : 63) وأما المعقول : فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين : أحدهما : عزة الربوبية ، وهذا المقصود ، إنما يتم بقوله : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الثاني : بمشاهدة ذلة العبودية وذلك إنما يكمل بقوله : {تَضَرُّعًا} فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج ، والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود ، وبهما يتم معراج الأرواح القدسية وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع ، والخوف ، والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف ، فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف ؟
وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق ، لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحداً لأن ذلك العقاب إيذاء للغير ، ولا فائدة للحق فيه. وإذا كان كذلك لا يعذب فإذا اعتقد هذا ، لم يكمل التضرع والخوف. فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين : الأول : خوف العقاب ، وهو مقام المبتدين. والثاني : خوف الجلال وهو مقام المحققين ، وهذا الخوف ممتنع الزوال وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل ، وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين : مكاشفة الجمال ، ومكاشفة / الجلال ، فإذا كشفوا بالجمال عاشوا ، وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ، ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين.
جزء : 15 رقم الصفحة : 445
القيد الثالث : قوله : {وَخِيفَةً} وفي قراءة أخرى {وَخُفْيَةً } وقال الزجاج : أصلها "خوفة" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، أقول هذا الخوف يقع على وجوه : أحدها : خوف التقصير في الأعمال. وثانيها : خوف الخاتمة. والمحققون خوفهم من السابقة ، لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة ، ولذلك كان عليه السلام يقول : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة". وثالثها : خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة ؟
وكان الشيخ أبو بكر الواسطي يقول : الشكر شرك ، فسألوني عن هذه الكلمة فقلت : لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك. لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول : منك النعمة ومني الشكر ، ولا شك أن هذا شرك ، فأما إذا أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع ، فهناك يشم فيه رائحة العبودية.
وأما القراءة الثانية : وهو قوله : {وَخُفْيَةً } فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة ، وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة ، وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة ، فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء ، وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام : "من عرف الله كل لسانه".
(1/2116)
القيد الرابع : قوله : {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطاً بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا} (الإسراء : 110) وقال عن زكريا عليه السلام : {إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} (مريم : 3) قال ابن عباس : وتفسير قوله : {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه ، فإن المراد حصول الذكر اللساني ، والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه ، فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر ، وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني ، ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة ، وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض ، وتصير هذه الانعكاسات سبباً لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.
جزء : 15 رقم الصفحة : 445
والقيد الخامس : قوله : {بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : في لفظ "الغدو" قولان :
القول الأول : أنه مصدر يقال غدوت أغدو غدواً غدوا ، ومنه قوله تعالى : {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} (سبأ : 12) / أي غدوها للسير ، ثم سمى وقت الغدو غدواً ، كما يقال : دنا الصباح أي وقته ، ودنا المساء أي وقته.
القول الثاني : أن يكون الغدو جمع غدوة ، قال الليث : الغدو جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة ، وأما فقال الفراء : واحدها أصل وواحد الأصل الأصيل. قال يقال جئناهم مؤصلين أي عند الآصال ، ويقال الأصيل مأخوذ من الأصل واليوم بليلته ، إنما يبتدأ بالشروع من أول الليل وآخر نهار كل يوم متصل بأول ليل اليوم الثاني ، فسمى آخر النهار أصيلاً ، لكونه ملاصقاً لما هو الأصل لليوم الثاني.
المسألة الثانية : خص الغدو والآصال بهذا الذكر ، والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة ، والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية. وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت ، والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة ، وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير المتناهية ، فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر. ومن الناس من قال : ذكر هذين الوقتين والمراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. عن ابن عباس أنه قال في قوله : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (الأعراف : 191) لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها والمراد منه أنه تعالى أمر بالذكر على الدوام.
والقيد السادس : قوله تعالى : {وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ} والمعنى أن قوله : {بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ } دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلاً في كل الأوقات وقوله : {وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ} يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائماً ، وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية والقوة الإنسانية ، وتحقيق القول ، أن بين الروح وبين البدن علاقة عجيبة ، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه أثر إلى البدن ، وكل حالة حصلت في البدن صعدت منها نتائج إلى الروح ، ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس سنه ، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه ، فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن ، وأيضاً إذا واظب الإنسان على عمل من الأعمال وكرر مرات وكرات حصلت ملكة قوية راسخة في جوهر النفس فهذه آثار صعدت من البدن إلى النفس.
جزء : 15 رقم الصفحة : 445
إذا عرفت هذا فنقول : إذا حضر الذكر اللساني بحيث يسمع نفسه/ حصل أثر من ذلك الذكر / اللساني في الخيال ، ثم يصعد من ذلك الأثر الخيالي مزيد أنوار وجلايا إلى جوهر الروح ، ثم تنعكس من تلك الإشراقات الروحانية آثار زائدة إلى اللسان ومنه إلى الخيال ، ثم مرة أخرى إلى العقل ، ولا يزال تنعكس هذه الأنوار من هذه المرايا بعضها إلى بعض ، ويتقوى بعضها بعض ويستكمل بعضها ببعض ، ولما كان لا نهاية لتزايد أنوار المراتب ، لا جرم لا نهاية لسفر العارفين في هذه المقامات العالية القدسية وذلك بحر لا ساحل له ، ومطلوب لا نهاية له.
واعلم أن قوله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وإن كان ظاهره خطاباً مع النبي عليه السلام ، إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة ومرتبة معينة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة كما قال في صفة الملائكة : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164).
جزء : 15 رقم الصفحة : 445
447
وفيه مسائل :
(1/2117)
المسألة الأولى : لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال : {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } والمعنى : أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب ، وحوادث الحقد والحسد ، لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع ، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة ، ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام : {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى} (مرين : 31) وقال لمحمد عليه السلام : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر : 99).
المسألة الثانية : المشبهة تمسكوا بقوله : {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} وقالوا لفظ {عِندَ} مشعر بالمكان والجهة.
وجوابه أنا ذكرنا البراهين الكثيرة العقلية والنقلية في هذه السورة عند تفسير قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (الأعراف : 54 يونس : 3) على أنه يمتنع كونه تعالى حاصلاً في المكان والجهة.
وإذا ثبت هذا فنقول : وجب المصير إلى التأويل في هذه الآية وبيانه من وجوه :
/ الوجه الأول : أنه تعالى قال : {وَهُوَ مَعَكُمْ} ولا شك أن هذه المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا ههنا ، وأيضاً جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال : "أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي" ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة ، فكذا ههنا.
والوجه الثاني : إن المراد القرب بالشرف. يقال : للوزير قربة عظيمة من الأمير ، وليس المراد منه القرب بالجهة ، لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير ، فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة.
والوجه الثالث : أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات.
جزء : 15 رقم الصفحة : 447
والوجه الرابع : إنما قال تعالى في صفة الملائكة : {الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال : إن عند الخليفة جيشاً عظيماً ، وإن كانوا متفرقين في البلد ، فكذا ههنا. والله أعلم.
المسألة الثانية : تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن الملائكة أفضل من البشر ، لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال : {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } والمعنى فأنت أولى وأحق بالعبادة ، وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه.
المسألة الرابعة : ذكر من طاعاتهم أولاً كونهم يسبحون ، وقد عرفت أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء ، وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم ، ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود ، وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح ، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ، ويتفرع عليها أعمال الجوارح. وأيضاً قوله : {وَلَه يَسْجُدُونَ } يفيد الحصر ومعناه : أنهم لا يسجدون لغير الله.
فإن قيل : فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى : {فَسَجَدَ الْمَلَا ا ِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (الحجر : 30 ص : 73) والمراد أنهم سجدوا لآدم ؟
والجواب : قال الشيخ الغزالي : الذين سجدوا لآدم ملائكة الأرض. فأما عظماء ملائكة السموات فلا. وقيل أيضاً : إن قوله : {وَلَه يَسْجُدُونَ } يفيدون أنهم ما سجدوا لغير الله ، فهذا يفيد العموم. وقوله : فسجدوا لآدم خاص ، والخاص مقدم على العام.
/ واعلم أن الآيات الدالة على كون الملائكة مستغرقين في العبودية كثيرة ، كقوله تعالى حكاية عنهم : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (الصافات : 165 ، 166) وقوله : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } (الزمر : 75) والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 447
447
(1/2118)
سورة الأنفال
مدنية إلا من آية : 30 إلى غاية 36 فمكية
وآياتها 75 نزلت بعد البقرة
جزء : 15 رقم الصفحة : 447
450
اعلم أن قوله : {يَسْاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } يقتضي البحث عن خمسة أشياء ، السائل والمسؤول وحقيقة النفل ، وكون ذلك السؤال عن أي الأحكام كان ، وإن المفسرين بأي شيء فسروا الأنفال.
أما البحث الأول : فهو أن السائلين من كانوا ؟
فنقول إن قوله : {يَسْاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } إخبار عمن لم يسبق ذكرهم وحسن ذلك ههنا ، لأن حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً معيناً فانصرف هذا اللفظ إليهم ، ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال وهم أقوام من الصحابة.
/ وأما البحث الثاني : وهو أن المسؤول من كان ؟
فلا شك أنه هو النبي صلى الله عليه وسلّم .
وأما البحث الثالث : وهو أن الأنفال ما هي فنقول : قال الزهري : النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل ، وسميت الغنائم أنفالاً ، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم ، وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة على الفرض الذي هو الأصل. وقال تعالى : {وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } (الأنبياء : 72) أي زيادة على ما سأل.
وأما البحث الرابع : وهو أن السؤال عن أي أحكام الأنفال كان ؟
فنقول : فيه وجهان : الأول : لفظ السؤال ، وإن كان مبهماً إلا أن تعيين الجواب يدل على أن السؤال كان واقعاً عن ذلك المعين ، ونظيره قوله تعالى : {وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } (البقرة : 222) {فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ } (البقرة : 220) فعلم منه أنه سؤال عن حكم من أحكام المحيض واليتامى ، وذلك الحكم غير معين ، إلا أن الجواب كان معيناً لأنه تعالى قال في المحيض : {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } (البقرة : 222) فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان سؤالاً عن مخالطة النساء في المحيض. وقال في اليتامى : {قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌا وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } (البقرة : 220) فدل هذا الجواب المعين على أن ذلك السؤال المعين كان واقعاً عن التصرف في مالهم ومخالطتهم في المواكلة. وأيضاً قال تعالى : {وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } (الإسراء : 85) وليس فيه ما يدل على أن ذلك السؤال عن أي الأحكام إلا أنه تعالى قال في الجواب : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان عن كون الروح محدثاً أو قديماً ، فكذا ههنا لما قال في جواب السؤال عن الأنفال : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } دل هذا على أنهم سألوه عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها.
جزء : 15 رقم الصفحة : 450
والقول الثاني : أن قوله : {يَسْاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } أي من الأنفال ، والمراد من هذا السؤال : الاستعطاء على ما روي في الخبر ، أنهم كانوا يقولون يا رسول الله أعطني كذا أعطني كذا ، ولا يبعد إقامة عن مقام من هذا قول عكرمة. وقرأ عبد الله {يَسْاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } .
والبحث الخامس : وهو شرح أقوال المفسرين في المراد بالأنفال. فنقول : إن الأنفال التي سألوا عنها يقتضي أن يكون قد وقع بينهم التنازع والتنافس فيها ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن قوله : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } يدل على أن المقصود من ذكر منع القوم عن المخاصمة والمنازعة. وثانيها : قوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } يدل على أنهم إنما سألوا عن ذلك بعد أن وقعت الخصومة بينهم. وثالثها : أن قوله : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يدل على ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول : يحتمل أن يكون المراد من هذه الأنفال الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ؛ ويحتمل أن يكون المراد غيرها.
/ أما الأول : ففيه وجوه : أحدها : أنه صلى الله عليه وسلّم قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضاً ، وهم ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ، فأما المهاجرون فأحدهم عثمان فإنه عليه السلام تركه على ابنته لأنها كانت مريضة ، وطلحة وسعيد بن زيد. فإنه عليه السلام كان قد بعثهما للتجسس عن خبر العير وخرجا في طريق الشام ، وأما الخمسة من الأنصار ، فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، خلفه النبي صلى الله عليه وسلّم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحرث بن حاطب : رده من الروحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه ، والحرث بن الصمة أصابته علة بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب النبي صلى الله عليه وسلّم لهم في تلك الغنائم بسهم ، فوقه من غيرهم فيه منازعة. فنزلت هذه الآية بسببها ، وثانيها : روى أن يوم بدر الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المصاف ، فقال الشبان : الغنائم لنا لأنا قتلنا وهزمنا ، وقال الأشياخ : كنا ردأ لكم ولو انهزمتهم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، فوقعت المخاصمة بهذا السبب. فنزلت الآية. وثالثها : قال الزجاج : الأنفال الغنائم. وإنما سألوا عنها لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم ، وهذا الوجه ضعيف لأن على هذا التقدير يكون المقصود من هذا السؤال طلب حكم الله تعالى فقط ، وقد بينا بالدليل أن هذا السؤال كان مسبوقاً بالمنازعة والمخاصمة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 450
(1/2119)
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد من الأنفال شيئاً سوى الغنائم ، فعلى هذا التقدير في تفسير الأنفال أيضاً وجوه : أحدها : قال ابن عباس في بعض الروايات : المراد من الأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال ، من دابة أو عبد أو متاع ، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يضعه حيث يشاء ، وثانيها : الأنفال الخمس الذي يجعله الله لأهل الخمس ، وهو قول مجاهد ، قال : فالقوم إنما سألوا عن الخمس. فنزلت الآية ، وثالثها : أن الأنفال هي السلب وهو الذي يدفع إلى الغازي زائداً على سهمه من الغنم ، ترغيباً له في القتال ، كما إذا قال الإمام : "من قتل قتيلاً فله سلبه" أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم ، أو يقول فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه ، ولا يخمس النفل ، وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاصي وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقلت إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال : "ليس هذا لي ولا لك أطرحه في الموضع الذي وضعت فيه الغنائم" فطرحته وبي ما يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد أنزلت سورة الأنفال فقال : يا سعد "إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد / صار لي فخذه" قال القاضي : وكل هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض. وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين قضى به ، وإلا فالكل محتمل ، وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها ، والأقرب أن يكون المراد بذلك ماله عليه السلام أن ينفل غيره من جملة الغنيمة قبل حصولها وبعد حصولها ، لأنه يسوغ له تحريضاً على الجهاد وتقوية للنفوس كنحو ما كان ينفل واحداً في ابتداء المحاربة. ليبالغ في الحرب. أو عند الرجعة. أو يعطيه سلب القاتل/ أو يرضخ لبعض الحاضرين ، وينفله من الخمس الذي كان عليه السلام يختص به. وعلى هذا التقدير فيكون قوله : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } المراد الأمر الزائد على ما كان مستحقاً للمجاهدين.
أما قوله تعالى : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } ففيه بحثان :
البحث الأول : المراد منه أن حكمها مختص بالله والرسول يأمره الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد.
البحث الثاني : قال مجاهد وعكرمة والسدي : إنها منسوخة بقوله فإن لله خمسه وللرسول ، وذلك لأن قوله : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول ، فنسخها الله بآيات الخمس وهو قول ابن عباس في بعض الروايات ، وأجيب عنه من وجوه : الأول : أن قوله : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } معناه أن الحكم فيها لله وللرسول. وهذا المعنى باق فلا يمكن أن يصير منسوخاً ، ثم إنه تعالى حكم بأن يكون أربعة أخماسها ملكاً للغانمين. الثاني : أن آية الخمس. تدل على كون الغنيمة ملكاً للغانمين ، والأنفال ههنا مفسرة لا بالغنائم ، بل بالسلب. وإنما ينفله الرسول عليه السلام لبعض الناس لمصلحة من المصالح.
جزء : 15 رقم الصفحة : 450
ثم قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وفيه بحثان :
البحث الأول : معناه فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله ، واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال. وارضوا بما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
البحث الثاني : في قوله : {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال ، ولما كانت الأقوال واقعة في البين ، قيل لها ذات البين ، كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور.
ثم قال : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } ثم بالغ في هذا التأكيد فقال : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة ، فاحذروا الخروج عنها ، واحتج من قال : ترك الطاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية ، وتقريره أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وههنا الإيمان معلق على الطاعة بكلمة {ءَانٍ} فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة وتمام هذه المسألة مذكور في قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} (النساء : 31) والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 450
456
(1/2120)
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزماً للطاعة ، شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل ، وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الآية. واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة : الأول : قوله : {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} قال الواحدي يقال : وجل يوجل وجلاً ، فهو وجل ، وأوجل إذا خاف. قال الشاعر :
لعمرك ما أدري وإني لأوجل
على أينا تعدو المنية أول
والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمناً إذا كان خائفاً من الله ، ونظيره قوله تعالى : {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر : 23) وقوله : {الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} (المؤمنون : 57) وقوله : {الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَـاشِعُونَ} (المؤمنون : 2) وقال أصحاب الحقائق : الخوف على قسمين : خوف العقاب ، وخوف العظمة والجلال. أما خوف العقاب فهو للعصاة. وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين ، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً ، وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات / وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه ، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه ، وليست تلك الهيبة من العقاب ، بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه ، وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة ، وذلك الخوف.
إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المراد من الوجل القسم الأول ، فذلك لا يحصل من مجرد ذكر الله ، وإنما يحصل من ذكر عقاب الله. وهذا هو اللائق بهذا الموضع ، لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة الله وطاعة الرسول في قسمة الأنفال ، وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني ، فذلك لازم من مجرد ذكر الله ، ولا حاجة في الآية إلى الإضمار.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
فإن قيل : إنه تعالى قال ههنا {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وقال في آية أخرى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّه } (الرعد : 28) فكيف الجمع بينهما ؟
وأيضاً قال في آية أخرى : {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه } (الزمر : 23) قلنا : الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة ، ولا منافاة بين هاتين الحالتين ، بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه } (الزمر : 23) والمعنى : تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله.
الصفة الثانية : قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} وهو قكلوه : {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِه إِيمَـانًا } (التوبة : 124) ثم فيه مسائل :
المسألة الأولى : زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين :
الوجه الأول : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله : أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً ، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح" يريد أن معرفته بالله أقوى.
ولقائل أن يقول : المراد من هذه الزيادة : إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل. أما قوة الدليل فباطل ، وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات ، وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوماً بها جزماً مانعاً من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلاً في كل المقدمات ، امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير ، لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت ، وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلاً ، بل أمارة ، والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علماً بل ظناً ، فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في / الدلائل بسبب القوة محال ، وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك ، لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد ، إن كان مانعاً من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة ، وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلاً ، بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
واعلم أنه يمكن أن يقال : المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام ، وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضراً للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة ، ومنهم من يكون مداوماً لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة ، ومراتب متفاوتة ، وهو المراد من الزيادة.
(1/2121)
والوجه الثاني : من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ، ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم متعاقبة ، فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقاً وإقراراً ، ومن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد. وقوله : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق ، وفي الآية وجه ثالث : وهو أن كمال قدرة الله وحكمته ، إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته ، وهذا بحر لا ساحل له ، وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر ، انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر ، فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل ، ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها ، لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا ؟
أما الذين قالوا : الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن قوله : {زَادَتْهُمْ إِيمَـانًا} يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة ، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة. والثاني : أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة. قال : في الموصوفين بها { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان. وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان" واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة. قالوا : لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة/ والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت ، فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل ، حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان ، / وهذا الاستدلال ضعيف ، لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار ، وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان ، والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
المسألة الثالثة : قوله : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان ، وليس الأمر كذلك ، لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة ، بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق والله أعلم.
الصفة الثالثة : للمؤمنين قوله تعالى : {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده ، وأن يقولوا صدق الله ورسوله ، وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُه ا إِلا غُرُورًا} (الأحزاب : 12) ثم نقول : هذا الكلام يفيد الحصر ، ومعناه : أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم ، وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي : أن الإنسان بحيث يصير لا يبقي له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله.
واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب ، فإن المرتبة الأولى هي : الوجل من عقاب الله.
والمرتبة الثانية : هي الانقياد لمقامات التكاليف لله.
والمرتبة الثالثة : هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله ، والاعتماد بالكلية على فضل الله ، بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى.
والصفة الرابعة والخامسة : قوله : {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} واعلم أن المراتب الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ، ورئيسها بذل النفس في الصلاة ، وبذل المال في مرضاة الله ، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة ، والإنفاق في الجهاد ، والإنفاق على المساجد والقناطر ، قالت المعتزلة : إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله ، وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام ، وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقاً ، وقد سبق ذكر هذا الكلام مراراً.
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أموراً ثلاثة : الأول : قوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {حَقًّا } بماذا يتصل. فيه قولان : أحدهما : بقوله : {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} أي هم المؤمنون بالحقيقة. والثاني : أنه تم الكلام عند قوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} ثم ابتدأ وقال : {حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ} .
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
(1/2122)
المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب {حَقًّا } وجوهاً : الأول : قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقاً ، أي أخباراً حقاً ، ونظيره قوله : { أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ حَقًّا } (النساء : 151) والثاني : قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن الذي فعلوه كان حقاً صدقاً. الثالث : قال الزجاج. التقدير : أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقاً.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا ؟
فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولا يقول أنا مؤمن حقاً. وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أما الذين قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله/ فلهم فيه مقامان :
المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان.
المقام الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك. أما المقام الأول ، فتقريره : أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل. ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان ، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله ، فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجاً عن مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان. فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان ، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط. وأما المقام الثاني : وهو أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، فيه وجوه : الأول : أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال أنا مؤمن ، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح. فوجب أن يقول : إن شاء الله ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب. روي أن أبا حنيفة رحمه الله ، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك. قال اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
الشعراء : 82) فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في قوله : {أَوَلَمْ تُؤْمِنا قَالَ بَلَى } (البقرة : 260) وأقول : كان لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال : {بَلَى } قال : {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله. الثاني : / أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة ، وهي الخوف من الله ، والإخلاص في دين الله ، والتوكل على الله ، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى. وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ} هم كذا وكذا. وذكر في آخر الآية قوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وهذا أيضاً يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله. روى أن الحسن سأله رجل وقال : أمؤمن أنت ؟
فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا ؟
الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً ، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا. ونقل عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية. والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن. الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
(1/2123)
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه/ وهذا المعنى محتمل. الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ، ويكون مجهولاً ، والموقوف على المجهول مجهول. فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله. السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت ، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة ؛ كان وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلاً ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى. السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا ترى أنه تعالى قال : {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّا لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ} (الفتح : 27) وهو تعالى منزه عن الشك والريب. فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده ، هذا المعنى ، فكذا / ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان. الثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك. فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني. أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل ، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال. الثاني : أنه تعالى قال : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً ، وبين وصفه بكونه متحركاً ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع ، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً ، وذلك الشرط مشكوك فيه ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. فهذا يقوي عين مذهبنا. والله أعلم.
الحكم الثاني
من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى : {لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} والمعنى : لهم مراتب بعضها أعلى من بعض.
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان : الثلاثة الأول : هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية ، وهي الخوف والإخلاص والتوكل. والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق. ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب ، وفي تنويره بالمعارف الإلهية. ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد ، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب. كانت المعارف أيضاً لها درجات ومراتب ، وذلك هو المراد من قوله : {لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} والثواب الحاصل في الجنة أيضاً مقدر بمقدار هذه الأحوال. فثبت أن مراتب السعادات / الروحانية قبل الموت وبعد الموت ، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة ، فلهذا المعنى قال : {لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} .
فإن قيل : أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها ، فإنه يتألم قلبه ، ويتنغص عيشه. وذلك مخل بكون الثواب رزقاً كريماً ؟
والجواب : أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد ، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم.
الحكم الثالث والرابع
(1/2124)
أن قوله : {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة. قال المتكلمون : أما كونه رزقاً كريماً فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم ، ومجموع ذلك هو حد الثواب. وقال العارفون : المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله ، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته. قال الواحدي : قال أهل اللغة : الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه ، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم. قال تعالى : {إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ} (النمل : 29) وقال : {مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (الشعراء : 7 لقمان : 10) وقال : {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا} (النساء : 31) وقال : {وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} (الإسراء : 23) فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن. وقال هشام بن عروة : يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش ، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية ، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
فإن قال قائل : ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب ، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين ، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات.
قلنا : إنه تعالى بدأ بقوله : {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُه زَادَتْهُمْ إِيمَـانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين ، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين ، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين ، تنبيهاً على أن أشرف الأحوال الباطنة ، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة ، الصلاة والزكاة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 456
457
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال : "من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا" ليرغبهم في القتال ، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة : يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ، ولم يتأخروا عن القتال جبناً ولا بخلاً ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِا قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } يصنع فيها ما يشاء ، فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية وأيضاً حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية ، فلما قال تعالى : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا. الثاني : أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال لله ، وإن كرهوه كما ثبت حكم الله بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه. الثالث : لما قال : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } كان التقدير : أن الحكم بكونهم مؤمنين حق ، كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك للقتال حق. الرابع : قال الكسائي : "الكاف" متعلق بما بعده ، وهو قوله : {يُجَـادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} والتقدير {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 457
(1/2125)
المسألة الثانية : قوله : {مِنا بَيْتِكَ} يريد بيته بالمدينة أو المدينة نفسها ، لأنها موضع هجرته / وسكناه بالحق ، أي إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ} في محل الحال ، أي أخرجك في حال كراهيتهم. روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان ، وعمرو بن العاص ، وأقوام آخرون ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير ، وقلة القوم ، فلما أزمعوا وخرجوا ، بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول إن أخذ محمد عيركم لن تفلحوا أبداً ، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا ، فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ، ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدث بها العباس. فقال أبو جهل : ما ترضى رجالهم بالنبوة حتى ادعى نساؤهم النبوة فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير ، وفي المثل السائر ـ لا في العير ولا في النفير ـ فقيل له : العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع إلى مكة بالناس. فقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ، وتغني القينات والمعازف ببدر فتتسامع جميع العرب بخروجنا ، وإن محمداً لم يصب العير فمضى إلى بدر بالقوم. وبدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة/ فنزل جبريل وقال : يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما النفير من قريش ، واستشار النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه فقال : "ما تقولون إن القوم خرجوا من مكة على كل صعب وذلول. فالعير أحب إليكم أم النفير ؟
قالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت. فوالله لو سرت إلى عدن لما تخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قال المقداد بن عمرو : يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله به ، فإنا معك حيثما أردت ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا إِنَّا هَـاهُنَا قَـاعِدُونَ} (المائدة : 24) ولكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال : "سيروا على بركة الله والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" ، ولما فرغ رسول الله من بدر ، قال بعضهم : عليك بالعير. فناداه العباس وهو في وثاقه ، لا يصلح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : لم ؟
قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك.
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 457
إذا عرفت هذه القصة فنقول : كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لا لكلهم ، بدليل قوله تعالى : {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ} والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلقى النفير لإيثارهم العير. وقوله : {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} المراد منه : إعلام رسول الله بأنهم ينصرون. وجدالهم قولهم : ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا ؟
لنستعد ونتأهب للقتال ، وذلك لأنهم كانوا يكرهون القتال ، ثم إنه تعالى شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت ، وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجباته ، وبالجملة فقوله : {وَهُمْ يَنظُرُونَ} كناية عن الجزم والقطع. ومنه قوله عليه السلام : "من نفى ابنه وهو ينطر إليه" أي يعلم أنه ابنه. وقوله تعالى : {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (النبأ : 40) أي يعلم.
واعلم أنه كان خوفهم لأمور : أحدها : قلة العدد. وثانيها : أنهم كانوا رجالة. روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان. وثالثها : قلة السلاح.
المسألة الثالثة : روي أنه صلى الله عليه وسلّم إنما خرج من بيته باختيار نفسه ، ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه فقال : {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} وهذا يدل على أن فعل العبد بخلق الله تعالى إما ابتداء أو بواسطة القدرة والداعية اللذين مجموعهما يوجب الفعل كما هو قولنا. قال القاضي معناه : أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه ، فأضيف إليه.
قلنا : لا شك أن ما ذكرتموه مجاز ، والأصل حمل الكلام على حقيقته.
جزء : 15 رقم الصفحة : 457
459
(1/2126)
اعلم أن قوله : {إِذِ} منصوب بإضمار اذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين. قال الفراء / والزجاج : ومثله قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} (الزخرف : 66) {وَإِنِ} في موضع نصب كما نصب الساعة ، وقوله أيضاً : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن} (الفتح : 25) {حَمِيمٍ ءَانٍ} في موضع رفع بلولاً. والطائفتان : العير والنفير : وغير ذات الشوكة. العير. لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم. والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك ، ويقال شوك القنا لسنانها ، ومنه قولهم شاكي السلاح. أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة ، ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته ، وفيه سؤالات :
السؤال الأول : أليس أن قوله : {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَـاتِه } ثم قوله بعد ذلك : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} تكرير محض ؟
والجواب : ليس ههنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سبباً لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله : {وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ} الذي هو الشرك ، ولك في مقابلة {الْحَقِّ} الذي هو الدين والإيمان.
السؤال الثاني : الحق حق لذاته ، والباطل باطل لذاته ، وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل وفعل فاعل فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل ؟
والجواب : المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل ، بإظهار كون ذلك الحق حقاً ، وإظهار كون ذلك الباطل باطلاً ، وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبينات ، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤوساء الباطل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 459
واعلم أن أصحابنا تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} قالوا وجب حمله على أنه يوجد الحق ويكونه ، والحق ليس إلا الدين والاعتقاد ، فدل هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى. قالوا : ولا يمكن حمل تحقيق الحق على إظهار آثاره لأن ذلك الظهور حصل بفعل العباد ، فامتنع أيضاً إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى ، ولا يمكن أن يقال المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها ، لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى الكافر وإلى المسلم. وقبل هذه الواقعة ، وبعدها فلا يحصل لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً.
واعلم أن المعتزلة أيضاً تمسكوا بعين هذه الآية على صحة مذهبهم. فقالوا هذه الآية تدل على أنه / لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق البتة ، بل إنه تعالى أبداً يريد تحقيق الحق وإبطال الباطل ، وذلك يبطل قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له.
وأجاب أصحابنا بأنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق فهذه الآية دلت على أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة ، فلم قلتم إن الأمر كذلك في جميع الصور ؟
بل قد بينا بالدليل أن هذه الآية تدل على صحة قولنا.
أما قوله : {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَـافِرِينَ} فالدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر ، ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال ، والمراد أنكم تريدون العير للفوز بالمال ، والله تعالى يريد أن تتوجهوا إلى النفير ، لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين.
جزء : 15 رقم الصفحة : 459
460
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل ، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يجوز أن يكون العامل في {إِذِ} هو قوله : {وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ} فتكون الآية متصلة بما قبلها ، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون.
المسألة الثانية : في قوله : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} قولان :
القول الأول : أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام. قال ابن عباس : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ، استقبل القبلة ومد يده وهو يقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال : كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فنزلت هذه الآية ولما اصطفت / القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
(1/2127)
القول الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم ، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول ، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي ، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته ، ولم ينقل دعاء القوم ، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب.
المسألة الثالثة : قوله : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى إجابهم. وقال : {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {أَنِّي مُمِدُّكُم} أصله بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه استجاب ، فنصب محله ، وعن أبي عمرو : أنه قرأ {أَنِّي مُمِدُّكُم} بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول.
جزء : 15 رقم الصفحة : 460
المسألة الثانية : قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم {مُرْدِفِينَ} بفتح الدال والباقون بكسرها. قال الفراء : {مُرْدِفِينَ} أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و{مُرْدِفِينَ} أي فعل بهم ذلك ، ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر ؟
فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة ، وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا. وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين ، وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً قال هو من الملائكة فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم ، وروى أن رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقياً وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت. ذاك من مدد السماء ، وقال آخرون : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين/ وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة ، والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء / والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى : {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى } قال الفراء : الضمير عائد إلى الأرداف والتقدير : ما جعل الله الأرداف إلا بشرى. وقال الزجاج : ما جعل الله المردفين إلا بشرى ، وهذا أولى لأن الأمداد بالملائكة حصل بالبشرى. قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر في العريش قاعداً يدعو ، وكان أبو بكر قاعداً عن يمينه ليس معه غيره ، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم من نفسه نعساً ، ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر وقال : "أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل" وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى ، وذلك ينفي إقدامهم على القتال.
ثم قال تعالى : {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّه } والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين ، إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يقهر ، والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها.
جزء : 15 رقم الصفحة : 460
464
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : {إِذِ} موضعها نصب على معنى {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى } (آل عمران : 126) / في ذلك الوقت. ويجوز أيضاً أن يكون التقدير : اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة.
المسألة الثانية : في ثلاث قراآت : الأولى : قرأ نافع بضم الياء ، وسكون الغين ، وتخفيف الشين {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} بالنصب. الثانية : بالألف وفتح الياء وسكون العين {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير. الثالثة : قرأ الباقون {يُغَشِّيكُمُ} بتشديد الشين وضم الياء من التغشية {النُّعَاسَ} بالنصب ، أي يلبسكم النوم. قال الواحدي : القراءة الأولى من أغشى ، والثانية من غشي ، والثالثة من غشي فمن قرأ فحجته قوله : {الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} يعني : فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ {يُغَشِّيكُمُ} أو {يُغَشِّيكُمُ} فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى : {فَأَغْشَيْنَـاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يس : 9) وقال : {فَغَشَّـاـاهَا مَا غَشَّى } (النجم : 54) وقال : {كَأَنَّمَآ أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله.
(1/2128)
المسألة الثالثة : أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال : {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّه } ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع : الأول : قوله : {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} أي من قبل الله ، واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا ، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن. وثانيها : أنهم خافوا من جهات كثيرة. أحدها : قلة المسلمين وكثرة الكفار. وثانيها : الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين. وثالثها : العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 464
والوجه الثالث : في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم ، أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه.
والوجه الرابع : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة. فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز.
فإن قيل : فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس ؟
قلنا : لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين.
فإن قيل : إذا قرىء {يُغَشِّيكُمُ} بالتخفيف والتشديد ونصب {النُّعَاسَ} فالمضير لله عز وجل / مفعول له. أما إذا قرىء {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} فكيف يمكن جعل قوله : {ءَامِنَةً} مفعولاً له ، مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل ؟
قلنا : قوله : وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس ، إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى ، فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى. قال صاحب "الكشاف" : وقرىء {كَانَتْ ءَامِنَةً} بسكون الميم ، ونظير أمن أمنة ، حي حياة ، ونظير أمن أمنة ، رحم رحمة. قال ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
النوع الثاني : من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى : {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِه وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ} ولا شبهة أن المراد منه المطر ، وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء ، واستولوا عليه ، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة ، وعطش المؤمنون وخافوا ، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة ، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا ، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير ، وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم ، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم ، فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر ، وعظمت النعمة به من جهات : أحدها : زوال العطش ، فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل ، فصار كالحوض الكبير ، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا. وثانيها : أنهم اغتسلوا من ذلك الماء ، وزالت الجنابة عنهم ، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً ، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه. وثالثها : أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 464
أما قوله : {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ} ففيه وجوه : الأول : أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان. الثاني : أن الكفار لما نزلوا على الماء ، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك ، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة ، روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم ، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة ، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام. الثالث : أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد.
/ فإن قيل : فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى ؟
(1/2129)
قلنا : قوله : {لِّيُطَهِّرَكُم} معناه ليزيل الجنابة عنكم ، فلو حملنا قوله : {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ} على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل ، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله : {لِّيُطَهِّرَكُم} حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله : {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ} إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث ، ثم تقول : حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان/ وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى : {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر : 5).
النوع الثالث : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم ، ومعنى الربط في اللغة الشد ، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى : {وَرَابِطُوا } (آل عمران : 200) ويقال لكل من صبر على أمر ، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال : رجل رابط أي حابس. قال الواحدي : ويشبه أن يكون {عَلَى} ههنا صلة والمعنى ـ وليربط قلوبكم بالنصر ـ وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة {عَلَى} تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
جزء : 15 رقم الصفحة : 464
والنوع الرابع : من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى : {وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقْدَامَ} وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه ، فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا ، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه ، وعلى هذا التقدير ، فالضمير في قوله : {بِه } عائد إلى المطر. وثانيها : أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم ، لأن من كان قلبه ضعيفاً فر ولم يقف ، فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم ، وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله : {بِه } عائد إلى الربط. وثالثها : روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين ، وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل ، فلما نزل المطر عظم الوحل ، فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله : {وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقْدَامَ} يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك.
النوع الخامس : من النعم المذكورة ههنا قوله : {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} وفيه بحثان : الأول : قال الزجاج : {إِذِ} في موضع نصب ، والتقدير : وليربط على قلوبكم ويثبت به / الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا ، ويجوز أيضاً أن يكون على تقدير اذكروا. الثاني : قوله : {إِنِّى مَعَكُمْ} فيه وجهان : الأول : أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأً للمسلمين. والثاني : أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم ، وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار ، وإنما الخائف هم المسلمون.
ثم قال : {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا } واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه : الأول : أنهم عرفوا الرسول صلى الله عليه وسلّم أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك ، فهذا هو التثبيت والثاني : أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان ، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب. والثالث : أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 464
والنوع السادس : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله : {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وهذا من النعم الجليلة ، وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين.
أما قوله تعالى : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} ففيه وجهان : الأول : أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى : {فَثَبِّتُوا } وقيل : بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة/ واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر ، فعند هذا أمرهم بمحاربتهم ، وفي قوله : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} قولان : الأول : أن ما فوق العنق هو الرأس ، فكان هذا أمراً بإزالة الرأس عن الجسد. والثاني : أن قوله : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} أي فاضربوا الأعناق.
(1/2130)
ثم قال : {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يعني الأطراف من اليدين والرجلين ، ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا ، لأن ما فوق العنق هو الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء ، فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء ، ومنهم من قال : بل المراد إما القتل ، وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان ، لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة ، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين. قال : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَه } والمعنى : أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله. قال الزجاج : {شَآقُّوا } جانبوا ، وصاروا في شق غير شق المؤمنين ، والشق الجانب {وَشَآقُّوا الرَّسُولَ مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ} مجاز ، والمعنى : شاقوا أولياء الله ، ودين الله.
ثم قال : {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة ، والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 464
464
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الزجاج : {ذَالِكُمْ} رفع لكونه خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : الأمر ذلكم فذوقوه ، ولا يجوز أن يكون {ذَالِكُمْ} ابتداء ، وقوله : {فَذُوقُوهُ} خبر ، لأن ما بعد الفاء لا يكون خبراً للمبتدأ ، إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة ، نحو : الذي يأتيني فله درهم ، وكل رجل في الدار فمكرم. أما أن يقال : زيد فمنطلق ، فلا يجوز إلا أن نجعل زيداً خبراً لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا زيد فمنطلق ، أي فهو منطلق.
المسألة الثانية : أنه تعالى لما بين أن من يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ، بين من بعد ذلك صفة عقابه ، وأنه قد يكون معجلاً في الدنيا ، وقد يكون مؤجلاً في الآخرة ، ونبه بقوله : {ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ} وهو المعجل من القتل والأسر على أن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل لهم في الآخرة ، فلذلك سماه ذوقاً ، لأن الذوق لا يكون إلا تعرف طعم اليسير ليعرف به حال الكثير ، فعاجل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعد لهم في الآخرة ، وقوله : {فَذُوقُوهُ} يدل على أن الذوق يحصل بطريق آخر سوى إدراك الطعوم المخصوصة ، وهي كقوله تعالى : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) وكان عليه السلام يقول : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فهذا يدل على إثبات الذوق والأكل والشرب بطريق روحاني مغاير للطريق الجسماني.
جزء : 15 رقم الصفحة : 464
466
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الأزهري : أصل الزحف للصبي ، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم ، وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال ، فيمشي كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب. قال ثعلب : الزحف المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء ، ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين. حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي متزاحفين نصب على الحال ، ويجوز أن يكون حالاً للكفار ، ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون ، والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا ، ولذلك لم يجمع ، والمعنى : إذا ذهبتم إليهم للقتال ، فلا تنهزموا ، ومعنى {فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ} أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم. ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين : إحداهما : أن يكون متحرفاً للقتال ، والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم. ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها ، يقال : تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء. والثانية : قوله : {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} قال أبو عبيدة : التحيز التنحي وفيه لغتان : التحيز والتحوز. قال الواحدي : وأصل هذا الحوز ، وهو الجمع. يقال : حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع ، ثم سمى التنحي تحيزاً ، لأن المتنحى عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره.
إذا عرفت هذا فنقول : الفئة الجماعة ، فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن تحيز إلى جمع كان راجياً للخلاص ، وطامعاً في العدو بالكثرة ، فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون ذلك جائزاً / والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين.
ثم إنه تعالى قال : {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه } إلا في هاتين الحالتين ، فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
(1/2131)
جزء : 15 رقم الصفحة : 466
المسألة الثانية : احتج القاضي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة ، وذلك لأن الآية دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ونار جهنم. قال وليس للمرجئة أن يحملوا هذه الآية على الكفار دون أهل الصلاة ، كصنعهم في سائر آيات الوعيد ، لأن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة.
واعلم أن هذه المسألة قد ذكرناها على الاستقصاء في سورة البقرة ، وذكرنا أن الاستدلال بهذه الظواهر لا يفيد إلا الظن ، وقد ذكرنا أيضاً أنها معارضة بعمومات الوعد ، وذكرنا أن الترجيح بجانب عمومات الوعد من الوجوه الكثيرة ، فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الثالثة : اختلف المفسرون في أن هذا الحكم هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق ، فنقل عن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر ، قالوا : والسبب في اختصاص يوم بدر بهذا الحكم أمور : أحدها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان حاضراً يوم بدر ومع حضوره لا يعد غيره فيه ، أما لأجل أنه لا يساوي به سائر الفئات. بل هو أشرف وأعلى من الكل ، وأما لأجل أن الله تعالى وعده بالنصر والظفر فلم يكن لهم التحيز إلى فئة أخرى. وثانيها : أنه تعالى شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه ، لزم منه الخلل العظيم ، فلهذا وجب عليهم التشدد والمبالغة ، ولهذا السبب منع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى.
والقول الثاني : أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب ، بدليل أن قوله تعالى : {النَّارِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } عام فيتناول جميع السور ، أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن جواز التحيز إلى فئة هل يحظر إذا كان العسكر عظيماً أو إنما يثبت إذا كان في العسكر خفة ؟
قال بعضهم : إذا عظم العسكر فليس لهم هذا التحيز. وقال بعضهم : بل الكل سواء ، وهذا أليق بالظاهر لأنه لم يفصل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 466
467
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال مجاهد : اختلفوا يوم بدر. فقال : هذا أنا قتلت. وقال الآخر أنا قتلت فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني أن هذه الكسرة الكبيرة لم تحصل منكم ، وإنما حصلت بمعونة الله روي أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه قريش ، قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك "اللهم إني أسألك ما وعدتني" فنزل جبريل وقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي ، فرمى بها في وجوههم ، وقال شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا. قال صاحب "الكشاف" والفاء في قوله : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.
ثم قال : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } يعني أن القبضة من الحصباء التي رميتها ، فأنت ما رميتها في الحقيقة ، لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ، ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم ، فصورة الرمية صدرت من الرسول عليه الصلاة والسلام وأثرها إنما صدر من الله ، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله عالى ، وجه الاستدلال أنه تعالى قال : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } ومن المعلوم أنهم جرحوا ، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وأيضاً قوله : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أثبت كونه عليه السلام رامياً ، ونفى عنه كونه رامياً ، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وما رماه خلقاً.
فأن قيل : أما قوله : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } فيه وجوه : الأول : أن قتل الكفار إنما تيسر بمعونة الله ونصره وتأييده ، فصحت هذه الإضافة. الثاني : أن الجرح كان إليهم ، وإخراج الروح كان إلى الله تعالى ، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم.
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 467
وأما قوله : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } قال القاضي فيه أشياء : منها أن الرمية الواحدة لا توجب وصول التراب إلى عيونهم ، وكان إيصال أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلا بإيصال الله تعالى ، ومنها أن التراب الذي رماه كان قليلاً ، فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل ، فدل هذا على أنه تعالى ضم إليها أشياء أخر من أجزاء التراب وأوصلها إلى عيونهم ، ومنها أن عند رميته ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم ، فكان المراد من قوله : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } هو أنه تعالى رمى قلوبهم بذلك الرعب.
(1/2132)
والجواب : أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، والأصل في الكلام الحقيقة.
فإن قالوا : الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى. فنقول : هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا ، فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز. والله أعلم.
المسألة الثالثة : قرىء {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُم وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } بتخفيف ولكن ورفع ما بعده.
المسألة الرابعة : في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال : الأول : وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر. والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء/ ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء ، فكانت تلك الرمية سبباً للهزيمة ، وفيه نزلت هذه الآية. والثاني : أنها نزلت يوم خيبر روي أنه عليه السلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر. فرمى سهماً. فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو على فرسه ، فنزلت {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } والثالث : أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف ، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بعظم رميم وقال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم ؟
فقال عليه السلام يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار فأسر يوم بدر ، فلما افتدى. قال لرسول الله إن عندي فرساً أعتلفها كل يوم فرقاً من ذرة ، كي أقتلك عليها. فقال صلى الله عليه وسلّم : "بل أنا أقتلك إن شاء الله" فلما كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه. فقال عليه السلام : "استأخروا" ورماه بحربة فكسر ضلعاً من أضلاعه ، فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية والأصح أن هذه الآية نزلت في يوم بدر ، وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها ، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 467
أما قوله تعالى : {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } فهذا معطوف على قوله : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } / والمراد من هذا البلاء الأنعام ، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب ، قال القاضي : ولولا أن المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء ههنا على النعمة ، وإلا لكان يحتمل المحنة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ، حتى يقال : إن الذي فعله تعالى يوم بدر ، كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات.
ثم إنه تعالى ختم هذا بقوله : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لكلامكم عليم بأحوال قلوبكم ، وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب ، لئلا يغتر العبد بظواهر الأمور ، ويعلم أن الخالق تعالى مطلع على كل ما في الضمائر والقلوب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 467
469
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {مُوهِنُ} بتشديد الهاء من التوهين {كَيْدِ} بالنصب ، وقرأ حفص عن عاصم {مُوهِنُ كَيْدِ} بالإضافة ، والباقون {مُوهِنُ} بالتخفيف {كَيْدِ} بالنصب ، ومثله قوله : {كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه } (الزمر : 38) بالتنوين وبالإضافة.
المسألة الثانية : الكلام في ذلك ومحله من الإعراب كما في قوله : {ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ} (الأنفال : 14).
المسألة الثالثة : توهين الله تعالى كيدهم. يكون بأشياء بإطلاع المؤمنين على عوراتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتفريق كلمتهم ، ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم. قال ابن عباس ينبىء رسول الله ويقول : إني قد أوهنت كيد عدومك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم.
أما قوله تعالى : {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } فيه قولان :
القول الأول : وهو قول الحسن ومجاهد والسدي أنه خطاب للكفار ، روي أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر ، وروي أنه قال : اللهم أينا كان أقطع / للرحم وأفجر ، فأهلكه الغداة ، وقال السدي : إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ، فأنزل الله هذه الآية ، والمعنى : إن تستفتحوا أي تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، فقد جاءكم النصر. وقال آخرون : أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
(1/2133)
والقول الثاني : أنه خطاب للمؤمنين ، روي أنه عليه السلام لما رأى المشركين وكثرة عددهم استغاث بالله ، وكذلك الصحابة وطلب ما وعده الله به من إحدى الطائفتين وتضرع إلى الله فقال : {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } والمراد أنه طلب النصرة التي تقدم بها الوعد ، فقد جاءكم الفتح ، أي حصل ما وعدتم به فاشكروا الله والزموا طاعته. قال القاضي : وهذا القول أولى لأن قوله : {فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } لا يليق إلا بالمؤمنين ، أما لو حملنا الفتح على البيات والحكم والقضاء ، لم يمتنع أن يراد به الكفار.
جزء : 15 رقم الصفحة : 469
أما قوله : {وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فتفسير هذه الآية ، يتفرع على ما ذكرنا من أن قوله : {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } خطاب للكفار أو للمؤمنين.
فإن قلنا : إن ذلك خطاب للكفار ، كان تأويل هذه الآية إن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم ، أما في الدين فبالخلاص من العقاب والفوز بالثواب. وأما في الدنيا فبالخلاص من القتل والأسر والنهب.
ثم قال : {وَإِن تَعُودُوا } أي إلى القتال {نَعُدْ} أي نسلطهم عليكم ، فقد شاهدتم ذلك يوم بدر وعرفتم تأثير نصرة الله للمؤمنين عليكم {وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} أي كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر. وأما إن قلنا إن ذلك خطاب للمؤمنين كان تأويل هذه الآية وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسرى فقد كان وقع منهم نزاع يوم بدر في هذه الآشياء حتى عاتبهم الله بقوله : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} (الأنفال : 68) فقال تعالى : {وَإِن تَنتَهُوا } عن مثله {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَإِن تَعُودُوا } إلى تلك المنازعات {نَعُدْ} إلى ترك نصرتكم لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة/ ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة ، فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب.
واعلم أن أكثر المفسرين حملوا قوله : {إِن تَسْتَفْتِحُوا } على أنه خطاب للكفار ، واحتجوا بقوله تعالى : {وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ} فظنوا أن ذلك لا يليق إلا بالقتال ، وقد بينا أن ذلك يحتمل الحمل على ما ذكرناه من أحوال المؤمنين ، فسقط هذا الترجيح.
/ وأما قوله : {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ} فقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم {الارْضِ وَأَنَّ اللَّهَ} بفتح الألف في أن والباقون بكسرها. أما الفتح فقيل : على تقدير ، ولأن الله مع المؤمنين ، وقيل هو معطوف على قوله : {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَـافِرِينَ} وأما الكسر فعلى الابتداء. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 469
471
اعلم أنه تعالى لما خاطب المؤمنين بقوله : {وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـاًا} (الأنفال : 19) أتبعه بتأديبهم فقال : {الْمُؤْمِنِينَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} ولم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أن الكلام من أول السورة إلى هنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد ، ثم إن الجهاد اشتمل على أمرين : أحدهما : المخاطرة بالنفس. والثاني : الفوز بالأموال ، ولما كانت المخاطرة بالنفس شاقة شديدة على كل أحد ، وكان ترك المال بعد القدرة على أخذه شاقاً شديداً ، لا جرم بالغ الله تعالى في التأديب في هذا الباب فقال : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } في الإجابة إلى الجهاد ، وفي الإجابة إلى تركه المال إذا أمره الله بتركه والمقصود تقرير ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } (الأنفال : 1).
فإن قيل : فلم قال ولا تولوا عنه فجعل الكناية واحدة مع أنه تقدم ذكر الله ورسوله.
قلنا : إنه تعالى أمر بطاعة الله وبطاعة رسوله. ثم قال : {وَلا تَوَلَّوْا } لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد.
ثم قال مؤكداً لذلك : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} والمعنى : أن الإنسان / لا يمكنه أن يقبل التكليف وأن يلتزمه إلا بعد أن يسمعه ، فجعل السماع كناية عن القبول. ومنه قولهم سمع الله لمن حمده ، والمعنى : ولا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم أنا قبلنا تكاليف الله تعالى ، ثم إنهم بقلوبهم لا يقبلونها. وهو صفة للمنافقين كما أخبر الله عنهم بقوله : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة : 14).
جزء : 15 رقم الصفحة : 471
(1/2134)
ثم قال تعالى : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} واختلفوا في الدواب. فقيل : شبههم بالدواب لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بما يقولون. ويقال لهم : ولذلك وصفهم بالصم والبكم وبأنهم لا يعقلون. وقيل : بل هم من الدواب لأنه اسم لما دب على الأرض ولم يذكره في معرض التشبيه ، بل وصفهم بصفة تليق بهم على طريقة الذم ، كما يقال لمن لا يفهم الكلام ، هو شبح وجسد وطلل على جهة الذم.
ثم قال : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} والمعنى أن كل ما كان حاصلاً فإنه يجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده ، وتقرير الكلام لو حصل فيهم خير ، لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم ، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها ، ولتولوا وهم معرضون. قيل : إن الكفار سألوا الرسول عليه السلام أن يحيي لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته/ فبين تعالى أنه لو علم فيهم خيراً ، وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ، ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت ، وأنه لم أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه ، وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى حكم عليهم بالتولي عن الدلائل وبالإعراض عن الحق وأنهم لا يقبلونه البتة ، ولا ينتفعون به البتة. فنقول : وجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالاً ، لأنه لو صدر الإيمان ، لكان إما أن يوجد ذلك الإيمان مع بقاء هذا الخبر صدقاً أو مع انقلابه كذباً والأول محال ، لأن وجود الإيمان مع الأخبار بعدم الإيمان جمع بين النقيضين وهو محال. والثاني محال ، لأن انقلاب خبر الله الصدق كذباً محال. لا سيما في الزمان الماضي المنقضي ، وهكذا القول في انقلاب علم الله جهلاً ، وتقريره سبق مراراً.
المسألة الثانية : النحويون يقولون : كلمة {لَوْ} وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لأجل انتفاء غيره ، فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك ، أفاد أنه ما حصل المجيء ، وما حصل الإكرام. ومن / الفقهاء من قال : إنه لا يفيد إلا الاستلزام ، فأما الانتفاء لأجل انتفاء الغير ، فلا يفيده هذا اللفظ والدليل عليه الآية والخبر ، أما الآية ، فهي هذه الآية ، وتقريره : أن كلمة {لَوْ} لو أفادت ما ذكروه لكان قوله : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } يقتضي أنه تعالى ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم. ثم قال : {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا } فيكون معناه : أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا لكن عدم التولي خير من الخيرات ، فأول الكلام يقتضي نفي الخير ، وآخره يقتضي حصول الخير ، وذلك متناقض. فثبت أن القول بأن كلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره يوجب هذا التناقض ، فوجب أن لا يصار إليه. وأما الخبر فقوله عليه السلام : "نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" فلو كانت لفظة "لو" تفيد ما ذكروه لصار المعنى أنه خاف الله وعصاه ، وذلك متناقض. فثبت أن كلمة {لَوْ} لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، وإنما تفيد مجرد الاستلزام.
جزء : 15 رقم الصفحة : 471
واعلم أن هذا الدليل أحسن إلا أنه على خلاف قول جمهور الأدباء.
المسألة الثالثة : أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام : أحدها : جملة الموجودات. والثاني : جملة المعدومات. والثالث : أن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله. الرابع : أن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله ، والقسمان الأولان علم بالواقع ، والقسمان الثانيان عم بالمقدر الذي هو غير واقع ، فقوله : {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } من القسم الثاني وهو العلم بالمقدرات ، وليس من أقسام العلم بالواقعات ونظيره قوله تعالى حكاية عن المنافقين : { لئن أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} وقال تعالى : { لئن أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَـاـاِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَـاـاِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادْبَـارَ} (الحشر : 11 ، 12) فعلم تعالى في المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله ، وأيضاً قوله : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام : 28) فأخبر عن المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله.
جزء : 15 رقم الصفحة : 471
473
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قال أبو عبيد والزجاج {اسْتَجِيبُوا } معناه أجيبوا وأنشد قول الشاعر :
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
المسألة الثانية : أكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وتمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين :
(1/2135)
الوجه الأول : أن كل من أمره الله بفعل فقد دعاه إلى ذلك الفعل وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه.
فإن قيل : قوله : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ} أمر. فلم قلتم : إنه يدل على الوجوب ؟
وهل النزاع إلا فيه ، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثبات أن الأمر للوجوب بناء على أن هذا الأمر يفيد الوجوب ، وهو يقتضي إثبات الشيء بنفسه وهو محال.
والجواب : أن من المعلوم بالضرورة أن كل ما أمر الله به فهو مرغب فيه مندوب إليه ، فلو حملنا قوله : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} على هذا المعنى كان هذا جارياً مجرى إيضاح الواضحات وأنه عبث ، فوجب حمله على فائدة زائدة ، وهي الوجوب صوناً لهذا النص عن التعطيل ، ويتأكد هذا بأن قوله تعالى بعد ذلك {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه وَأَنَّه ا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جار مجرى التهديد والوعيد ، وذلك لا يليق إلا بالإيجاب.
الوجه الثاني : في الاستدلال بهذه الآية على ثبوت هذا المطلوب. ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال : "ما منعك عن إجابتي" قال كنت أصلي قال : "ألم تخبر فيما أوحى إلي استجيبوا لله وللرسول" فقال : لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك ، والاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما دعاه فلم يجبه لامه على ترك الإجابة ، وتمسك في تقرير ذلك اللوم بهذه الآية فلولا دلالة هذه الآية على الوجوب ، وإلا لما صح ذلك الاستدلال وقول من يقول مسألة أن الأمر يفيد الوجوب ، مسألة قطعية ، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد ضعيف ، لأنا لا نسلم أن مسألة الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية ، بل هي عندنا مسألة ظنية ، لأن المقصود منها العمل ، والدلائل الظنية كافية في المطالب العملية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 473
فإن قالوا : إنه تعالى ما أمر بالإجابة على الإطلاق بل بشرط خاص وهو قوله : {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } فلم قلتم إن هذا الشرط حاصل في جميع الأوامر ؟
قلنا : قصة أبي بن كعب تدل على أن هذا الحكم عام وغير مخصوص بشرط معين ، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة. لأن إحياء الحي محال. فوجب حمله على شيء آخر وهو الفوز / بالثواب ، وكل ما دعا الله إليه ورغب فيه فهو مشتمل على ثواب ، فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأوامر وذلك يفيد المطلوب.
المسألة الثالثة : ذكروا في قوله : {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } وجوهاً : الأول : قال السدي : هو الإيمان والإسلام وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته ، يدل عليه قوله تعالى : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (الروم : 19) قيل المؤمن من الكافر. الثاني : قال قتادة : يعني القرآن أي أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة ، وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم. والعلم حياة ، فجاز أن يسمى سبب الحياة بالحياة. الثالث : قال الأكثرون : {لِمَا يُحْيِيكُمْ } هو الجهاد/ ثم في سبب تسمية الجهاد بالحياة وجوه : أحدها : هو أن وهن أحد العدوين حياة للعدو الثاني. فأمر المسلمين إنما يقوى ويعظم بسبب الجهاد مع الكفار. وثانيها : أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة قال تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) وثالثها : أن الجهاد قد يفضي إلى القتل ، والقتل يوصل إلى الدار الآخرة ، والدار الآخرة معدن الحياة. قال تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ } (العنكبوت : 64) أي الحياة الدائمة.
والقول الرابع : {لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لكل حق وصواب ، وعلى هذا التقدير فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد من قوله : {لِمَا يُحْيِيكُمْ } الحياة الطيبة الدائمة قال تعالى : {يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ} (النحل : 97).
جزء : 15 رقم الصفحة : 473
(1/2136)
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِه } يختلف تفسيره بحسب اختلاف الناس في الجبر والقدر. أما القائلون بالجبر ، فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك : يحول بين المرء الكافر وطاعته ، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته ، فالسعيد من أسعده الله ، والشقي من أضله الله. والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه. وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه. قلت : وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي. أما العقائد : فهي إما العلم ، وإما الجهل. أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علماً ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقاً للمعلوم ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الجهل فالإنسان البتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم ، ولا يحصل له هذا الظن / إلا بسبق جهل آخر ، وذلك أيضاً يوجب توقف الشيء على نفسه ، وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث ، وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى ، والأول باطل ، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال ، فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى ، فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله ، والدلائل العقلية دلت على ذلك ، فثبت أن الحق ما ذكرناه. أما القائلون بالقدر فقالوا : لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : قال الجبائي : إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز ، وأمر العاجز سفه ، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء ، وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائماً ، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى ؟
وقد قال تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) وقال في المظاهر : {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } (المجادلة : 4) فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه.
الوجه الثاني : أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول. وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة ، ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذراً قوياً في ترك الإجابة ، ولا يكون زجراً عن ترك الإجابة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 473
الوجه الثالث : أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار ، لا ليكون حجة للكفار على الرسول ، ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به ؟
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر ، قالوا ونحن نذكر في الآية وجوهاً : الأول : أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت ، يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لا بد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة. قال القاضي : ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله : {وَأَنَّه ا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها. الثاني : أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل ، فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم ، سال الوادي. الثالث : أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر ، فكأنه قيل لهم ، سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها / بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن ، فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة ، والجبن بالشجاعة ، لأنه تعالى مقلب القلوب. الرابع : قال مجاهد : المراد من القلب ههنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه. والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون ، فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف. وجعل القلب كناية عن العقل جائز ، كما قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ} (ق : 37) أي لمن كان له عقل. الخامس : قال الحسن معناه ، أن الله حائل بين المرء وقلبه ، والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء مما في باطن العبد ومما في ضميره ، ونظيره قوله تعالى : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق : 16) فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر.
(1/2137)
ثم قال تعالى : {وَأَنَّه ا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين ، وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 473
474
اعلم أنه تعالى كما حذر الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه ، فكذلك حذره من الفتن ، والمعنى : واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح. عن الحسن : نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زماناً وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها ، وعن السدي : نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل ، وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلّم يوماً إذ أقبل علي رضي الله عنه ، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله : "كيف حبك لعلي ، فقال يارسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد فقال : "كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله".
فإن قيل : كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر ؟
قلنا : فيه وجهان : الأول : أن جواب الأمر جاء بلفظ النهي ، ومتى كان كذلك حسن إدخال النون المؤكدة في ذلك النهي ، كقولك انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك ، وكقوله تعالى : {نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـانُ وَجُنُودُه } (النمل : 18) الثاني : أن التقدير : واتقوا فتنة / تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، إلا أنه جيء بصيغة النهي مبالغة في نفي اختصاص الفتنة بالظالمين كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص. وقيل لها لا تصيبي الذين ظلموا خاصة ، والمراد منه : المبالغة في عدم الاختصاص على سبيل الاستعارة.
ثم قال تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والمراد منه : الحث على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب الله.
فإن قيل : حاصل الكلام في الآية أنه تعالى يخوفهم من عذاب لو نزل لعم المذنب وغيره ، وكيف يليق برحمة الرحيم الحكيم أن يوصل الفتنة والعذاب إلى من لم يذنب ؟
قلنا : إنه تعالى قد ينزل الموت والفقر والعمى والزمانة بعبده ابتداء ، إما لأنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكية ، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبين ، وإذا جاز ذلك لأحد هذين الوجهين فكذا ههنا. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 474
475
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول ، ثم أمرهم باتقاء المعصية ، أكد ذلك التكليف بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى بين أنهم كانوا قبل ظهور الرسول صلى الله عليه وسلّم في غاية القلة والذلة ، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة ، وذلك يوجب عليهم الطاعة وترك المخالفة. أما بيان الأحوال التي كانوا عليها قبل ظهور محمد فمن وجوه : أولها : أنهم كانوا قليلين في العدد. وثانيها : أنهم كانوا مستضعفين ، والمراد أن غيرهم يستضعفهم ، والمراد من هذا الاستضعاف أنهم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس. والمعنى : أنهم كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطفهم العرب ، لأنهم كانوا يخافون من مشركي العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم ، ثم بين تعالى أنهم بعد أن كانوا كذلك قلبت تلك الأحوال بالسعادات والخيرات ، فأولها : أنه آواهم والمراد منه أنه تعالى نقلهم إلى المدينة ، فصاروا آمنين من شر الكفار ، وثانيها : قوله : {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِه } والمراد منه وجوه النصر في يوم بدر ، وثالثها : قوله : {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ} وهو أنه تعالى / أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة.
ثم قال : {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نقلناكم من الشدة إلى الرخاء ، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء ، حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة ، فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال ؟
جزء : 15 رقم الصفحة : 475
476
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه رزقهم من الطيبات ، فههنا منعهم من الخيانة ، وفي الآية مسائل :
(1/2138)
المسألة الأولى : اختلفوا في المراد بتلك الخيانة على أقوال : الأول : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قريظة لما حاصرهم ، وكان أهله وولد فيهم. فقالوا يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاد فينا ؟
فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، أي أنه الذبح فلا تفعلوا ، فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله. الثاني : قال السدي : كانوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلّم ، فيشقونه ويلقونه إلى المشركين ، فنهاهم الله عن ذلك. الثالث : قال ابن زيد : نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون ، يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. الرابع : عن جابر بن عبد الله : أن أبا سفيان خرج من مكة ، فعلم النبي صلى الله عليه وسلّم خروجه وعزم على الذهاب إليه ، فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم ، فأنزل الله هذه الآية. الخامس : قال الزهري والكلبي : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة لما هم النبي صلى الله عليه وسلّم بالخروج إليها ، حكاه الأصم. والسادس : قال القاضي : الأقرب أن خيانة الله غير خيانة رسوله ، وخيانة الرسول غير خيانة الأمانة ، لأن العطف يقتضي المغايرة.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم ، وجعل ذلك خيانة له ، لأنه خيانة لعطيته وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمها ، فمن خانها فقد خان الرسول ، وهذه الغنيمة قد جعلها الرسول أمانة في أيدي الغانمين وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة ، والوديعة / أمانة في يد المودع ، فمن خان منهم فيها فقد خان أمانة الناس ، إذ الخيانة ضد الأمانة ، قال : ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به ، وعلى هذا التقدير : فيدخل فيه الغنيمة وغيرها ، فكان معنى الآية : إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال. وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية ، فهي داخلة فيها ، لكن لا يجب قصر الآية عليها ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 476
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : معنى الخون النقص. كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا انتقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء. لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.
المسألة الثالثة : في قوله : {وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} وجوه : الأول : التقدير {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} والدليل عليه ما روي في حرف عبد الله {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} الثاني : التقدير : لا تخونوا الله والرسول ، فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم ، والعرب قد تذكر الجواب تارة بالفاء ، وأخرى بالواو ، ومنهم من أنكر ذلك.
وأما قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه وجوه : الأول : وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. الثاني : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح ، وحسن الحسن ، ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد. نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب. فقال : {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنها تشغل القلب بالدنيا/ وتصير حجاباً عن خدمة المولى.
ثم قال : {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ} تنبيهاً على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف ، وأعظم في الفوز ، وأعظم في المدة ، لأنها تبقى بقاء لا نهاية له ، فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم. ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله ، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ويوجب الحاجة إلى المال ، وذلك فتنة ، ومعلوم أن ما أفضى إلى الأجر العظيم عند الله ، فالاشتغال به خير مما أفضى إلى الفتنة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 476
477
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد ، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلاً بعواقب الأمور ، وذلك لا يليق بالله تعالى.
والجواب : أن قولنا إن كان كذا كان كذا ، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء ، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك ، وعليه يخرج قوله تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ} (محمد : 31).
(1/2139)
المسألة الثانية : هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى ، وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر. وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات ، والجزاء يجب أن يكون مغايراً للشرط ، فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء ، وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة : الأول : قوله : {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار. ولما كان اللفظ مطلقاً وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول : هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة. أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة ، أما في أحوال القلوب فأمور : أحدها : أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة. وثانيها : أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه } (الزمر : 22) وثالثها : أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم ، مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءاً من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة ، والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقاً بطاعة / الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور ، وهذه الأخلاق ظلمات ، وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة. وأما في الأحوال الظاهرة ، فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر ، كما قال : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقين : 8) وكما قال : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (التوبة : 33) وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك. وأما في أحوال الآخرة ، فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 477
والنوع الثاني : من الأجزية المرتبة على التقوى قوله : {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فنقول : إن حملنا قوله : {إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} على الاتقاء من الكفر ، كان المراد بقوله : {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر ، وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر ، كان المراد من هذا تكفير الصغائر.
والنوع الثالث : قوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار. ثم قال : {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به/ وإنما قلنا : إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه : الأول : أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان ، وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل. الثاني : أن كل من تفضل يستفيد به نوعاً من أنواع الكمال إما عوضاً من المال أو عوضاً من المدح والثناء ، وإما عوضاً من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئاً من الأعواض لأنه كامل لذاته ، وما كان حاصلاً للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره. الثالث : أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنوناً عليه من ذلك المتفضل ، وذلك منفر ، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته ، فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه. الرابع : أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة. حتى ينتفع بذلك الإحسان ، وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله : {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 477
478
(1/2140)
اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله : {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} (الأنفال : 26) فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه ، وهذه السورة مدنية. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين : إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ ، وذكر أنه من أهل نجد. فقال بعضهم : قيدوه نتربص به ريب المنون ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه ، لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء. وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم ، فقال إبليس : لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم. وقال أبو جهل : الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلاً فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها ، فيرضون بأخذ الدية ، فقال إبليس : هذا هو الرأي الصواب ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة ، وأمر علياً أن يبيت في مضجعه ، وقال له : تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم. وقوله : {لِيُثْبِتُوكَ} قال ابن عباس : ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت ، لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة. فقد أثبت فلان فهو مثبت ، وقيل ليسجنوك ، وقيل ليحبسوك ، وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه ، وقرأ بعضهم {لِيُثْبِتُوكَ} بالتشديد وقرأ النخعى {لِيُثْبِتُوكَ} من البيات وقوله : {أَوْ يَقْتُلُوكَ} وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله {أَوْ يُخْرِجُوكَ } أي من مكة ، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال : {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} (آل عمران : 54) تفسير المكر في حق الله تعالى ، والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه ، فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى. قال القاضي : القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس ، فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل ، لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس ، والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر ، والثاني أيضاً باطل ، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 478
واعلم أن هذا النزاع عجيب ، فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه ؟
فإن قيل : كيف قال : {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} ولا خير في مكرهم.
/ قلنا : فيه وجوه : أحدها : أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع {خَيْرُ} موضع أقوى وأشد ، لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. وثانيها : أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً وحسناً. وثالثها : أن يكون المراد من قوله : {خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} ليس هو التفضيل ، بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال : الثريد خير من الله تعالى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 478
480
اعلم أنه تعالى لما حكى مكرهم في ذات محمد. حكى مكرهم في دين محمد ، روى أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجراً ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم ، فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين ، فهذا هو المراد من قوله : {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآا إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} وههنا موضع بحث ، وذلك لأن الاعتماد في كون القرآن معجزاً عن أنه صلى الله عليه وسلّم تحدى العرب / بالمعارضة ، فلم يأتوا بها ، وهذا إشارة إلى أنهم أتوا بتلك المعارضة ، وذلك يوجب سقوط الدليل المعول عليه.
والجواب : أن كلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فقوله : {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ } يدل على أنه ما شاء ذلك القول ، وما قال. فثبت أن النضر بن الحرث أقر أنه ما أتى بالمعارضة ، وإنما أخبر أنه لو شاءها لأتى بها ، وهذا ضعيف. لأن المقصود إنما يحصل لو أتى بالمعارضة ، أما مجرد هذا القول فلا فائدة فيه.
والشبهة الثانية : لهم قولهم : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بنوع آخر من العذاب أشد من ذلك وأشق منه علينا.
جزء : 15 رقم الصفحة : 480
(1/2141)
فإن قيل : هذا الكلام يوجب الإشكال من وجهين : الأول : أن قوله {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} حكاه الله عن الكفار ، وكان هذا كلام الكفار وهو من جنس نظم القرآن فقد حصلت المعارضة في هذا القدر ، وأيضاً حكى عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل : {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا} (الإسراء : 90) وذلك أيضاً كلام الكفار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ومعارضته ، وذلك يدل على حصول المعارضة. الثاني : أن كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله وقدرته وحكمته وكانوا قد سمعوا التهديد الكثير من محمد عليه الصلاة والسلام في نزول العذاب ، فلو كان نزول القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، ولو عرفوا ذلك لكان أقل الأحوال أن يصيروا شاكين في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، ولو كانوا كذلك لما أقدموا عى قولهم : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} لأن المتوقف الشاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة ، وحيث أتوا بهذه المبالغة ، علمنا أنه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة.
والجواب عن الأول : أن الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة/ لأن هذا المقدار كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة ، وهذا الجواب لا يتمشى إلا إذا قلنا التحدي ما وقع بجميع السور ، وإنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر فيها قوة الكلام.
والجواب عن الثاني : هب أنه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجز إلا أنه لما كان معجزاً في نفسه ، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال فيه.
المسألة الثانية : قوله : {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} قال الزجاج : القراءة بنصب {الْحَقِّ} على خبر {كَانَ} ودخلت {هُوَ} للفصل ولا موضع لها ، وهي بمنزلة "ما" المؤكدة ودخلت / ليعلم أن قوله : {الْحَقِّ} ليس بصفة لهذا وأنه خبر. قال : ويجوز هو الحق رفعاً ولا أعلم أحداً قرأ بها ولا خلاف بين النحويين في إجازتها ، ولكن القراءة سنة ، وروى صاحب "الكشاف" عن الأعمش أنه قرأ بها.
جزء : 15 رقم الصفحة : 480
واعلم أنه تعالى لما حكى هاتين الشبهتين لم يذكر الجواب عن الشبهة الأولى ، وهو قوله : {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ } ولكنه ذكر الجواب عن الشبهة الثانية ، وهو قوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن تقرير وجه الجواب أن الكفار لما بالغوا وقالوا : اللهم إن كان محمد محقاً فأمطر علينا حجارة من السماء ، ذكر تعالى أن محمداً وإن كان محقاً في قوله إلا أنه مع ذلك لا يمطر الحجارة على أعدائه ، وعلى منكري نبوته ، لسببين : الأول : أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما دام يكون حاضراً معهم ، فإنه تعالى لا يفعل بهم ذلك تعظيماً له ، وهذا أيضاً عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين ، فإنه لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها ، كما كان في حق هود وصالح ولوط.
فإن قيل : لما كان حضوره فيهم مانعاً من نزول العذاب عليهم ، فكيف قال : {قَـاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة : 14).
قلنا : المراد من الأول عذاب الاستئصال ، ومن الثاني : العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 480
(1/2142)
والسبب الثاني : قوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفي تفسيره وجوه : الأول : وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون ، فاللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد بعضهم كما يقال : قتل أهل المحلة رجلاً ، وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد ، والمراد بعضهم. الثاني : وما كان الله معذب هؤلاء الكفار ، وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه ، فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم. الثالث : قال قتادة والسدي : {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي لو استغفروا لم يعذبوا ، فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم. أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله. ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار ههنا بمعنى الإسلام والمعنى : أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا. منهم أبو سفيان بن حرب. وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. والحرث بن هشام. وحكيم بن حزام. وعدد كثير ، والمعنى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } مع أن في علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان. قال أهل المعاني : دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس : كان فيهم أمانان نبي الله / والاستغفار ، أما النبي فقد مضى ، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة ، ثم قال : {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول الله فيهم ، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم : لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر ، وقيل بل يوم فتح مكة ، وقال ابن عباس : هذا العذاب هو عذاب الآخرة ، والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا ، ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم ، فقال : {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية ، ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه ، ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله : {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَه ا إِنْ أَوْلِيَآؤُه ا إِلا الْمُتَّقُونَ} الذين يتحرزون عن المنكرات ، كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية ، والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن ولياً للمسجد الحرام ، فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا ، فقتلهم الله يوم بدر ، وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 480
481
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام. وقال : {إِنْ أَوْلِيَآؤُه ا إِلا الْمُتَّقُونَ} (الأنفال : 34) بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت ، وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية. قال صاحب "الكشاف" : المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر ، والمكاء الصفير. ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف ، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه. وأما التصدية فهي التصفيق. يقال : صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه ، وفي أصلها قولان : الأول : أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل. الثاني : قال أبو عبيدة : أصلها تصددة ، فأبدلت الياء من الدال. ومنه قوله تعالى : {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (الزخرف : 57) أي يعجزون ، وأنكر بعضهم هذا الكلام ، والأزهري صحح قول أبي عبيدة. وقال : صدى أصله صدى ، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء.
إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون / وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف ويستهزؤون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته ، وقال مقاتل : كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته. فعلى قول ابن عباس : كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقاتل ، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلّم. والأول أقرب لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } .
فإن قيل : المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة ؟
قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة ، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم. الثاني : أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي. أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا. الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له ، كما تقول العرب ، ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له.
ثم قال تعالى : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 481
482
(1/2143)
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية ، أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية. قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش. وقال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد ، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب ، وأنفق عليهم / أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً ، هكذا قاله صاحب "الكشاف". ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله ، أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله ، وإن لم يكن عندهم كذلك.
ثم قال : {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} يعني : أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة ، لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود ، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21) وقوله : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} ففيه بحثان :
البحث الأول : أنه لم يقل : وإلى جهنم يحشرون ، لأنه كان فيهم من أسلم ، بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك.
البحث الثاني : أن ظاهر قوله : {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم ، لأن تقديم الخبر يفيد الحصر.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الانفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا ، والعذاب الشديد في الآخرة ، وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق ، ثم قال : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وفيه قولان :
القول الأول : ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً وهو عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا كقوله تعالى : {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (الجن : 19) يعني لفرط ازدحامهم فقوله : { أولئك } إشارة إلى الفريق الخبيث.
جزء : 15 رقم الصفحة : 482
والقول الثاني : المراد بالخبيث نفقة الكافر على عداوة محمد ، وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار ، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها كقوله تعالى : {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم } (التوبة : 35) واللام في قوله : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} على القول الأول متعلق بقوله : {يُحْشَرُونَ} والمعنى أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب ، وعلى القول الثاني متعلق بقوله : {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ثم قال : { أولئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ} وهو إشارة إلى الذين كفروا.
جزء : 15 رقم الصفحة : 482
483
/ اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية ، وعباداتهم المالية ، أرشدهم إلى طريق الصواب وقال : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } أي قل لأجلهم هذا القول ، وهو : {إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم} ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا.
المسألة الثانية : المعنى : أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول ، ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وإصروا عليه فقد مضت سنة الأولين. وفيه وجوه : الأول : المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. الثاني : فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. الثالث : أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } (المجادلة : 21) {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} (الصافات : 171) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر {أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ} (الأنبياء : 105).
المسألة الثالثة : اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا ؟
والصحيح أنها مقبولة لوجوه : الأول : هذه الآية ، فإن قوله : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} يتناول جميع أنواع الكفر.
فإن قيل : الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زنذقته أم لا ؟
(1/2144)
قلنا : أحكام الشرع مبنية على الظواهر ، كما قال عليه السلام : "نحن نحكم بالظاهر" فلما رجع وجب قبول قوله فيه. الثاني : لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. الثالث : قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ} (الشورى : 25).
جزء : 15 رقم الصفحة : 483
المسألة الرابعة : احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع ، قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها ، لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر. والأول باطل بالإجماع ، والثاني باطل ؛ لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية.
المسألة الخامسة : احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء / العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها ، ووجه الدلالة ظاهر.
المسألة السادسة : قال عليه السلام : "الإسلام يجب ما قبله" فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه. وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة ، وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة ؟
جزء : 15 رقم الصفحة : 483
484
اعلم أنه تعالى لما بين أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران ، وإن عادوا فهم متوعدون بسنة الأولين ، أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا فقال : {وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال عروة بن الزبير : كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله ، فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة ، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيعة العقبة ، توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم ، فأصاب المؤمنين جهد شديد ، فهذا هو المراد من الفتنة ، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة. وفيه وجه آخر ، وهو أن مبالغة الناس في حبهم أديانهم أشد من مبالغتهم في حبهم أرواحهم ، فالكافر أبداً يسعى بأعظم وجوه السعي في إيذاء المؤمنين وفي إلقاء الشبهات في قلوبهم وفي إلقائهم في وجوه المحنة والمشقة ، وإذا وقعت المقاتلة زال الكفر والمشقة ، وخلص الإسلام وزالت تلك الفتن بالكلية. قال القاضي : إنه تعالى أمر بقتالهم ثم بين العلة التي بها أوجب قتالهم ، فقال : {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ويخلص الدين الذي هو دين الله من سائر الأديان ، وإنما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكلية. إذا عرفت هذا فنقول : إما أن يكون المراد من الآية {وَقَـاتِلُوهُمْ} لأجل أن يحصل هذا المعنى أو يكون المراد {وَقَـاتِلُوهُمْ} لغرض أن يحصل هذا المعنى فإن كان المراد من الآية هو الأول وجب أن يحصل هذا المعنى من القتال فوجب أن يكون المراد / {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّه } في أرض مكة وما حواليها ، لأن المقصود حصل هنا ، قال عليه السلام : "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" ولا يمكن حمله على جميع البلاد ، إذ لوكان ذلك مراداً لما بقي الكفر فيها مع حصول القتال الذي أمر الله به ، وأما إذا كان المراد من الآية هو الثاني ، وهو قوله : قاتلوهم لغرض أن يكون الدين كله لله ، فعلى هذا التقدير لم يمتنع حمله على إزالة الكفر عن جميع العالم لأنه ليس كل ما كان غرضاً للإنسان ، فإنه يحصل ، فكان المراد الأمر بالقتال لحصول هذا الغرض سواء حصل في نفس الأمر أو لم يحصل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 484
ثم قال : {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} والمعنى {فَإِنِ انتَهَوْا } عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم {وَإِن تَوَلَّوْا } يعني عن التوبة والإيمان {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَـاـاكُمْ } أي وليكم الذي يحفظكم ويرفع البلاء عنكم ، ثم بين أنه تعالى {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وكل ما كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته ، كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات.
جزء : 15 رقم الصفحة : 484
486
اعلم أنه تعالى لما أمر بالمقاتلة في قوله : {وَقَـاتِلُوهُمْ} وكان من المعلوم أن عند المقاتلة قد تحصل الغنيمة ، لا جرم ذكر الله تعالى حكم الغنيمة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الغنم : الفوز بالشيء ، يقال : غنم يغنم غنماً فهو غانم ، والغنيمة في الشريعة ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر بالخيل والركاب.
(1/2145)
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : {مَّا} في قوله : {أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} موصولة وقوله : {مِّن شَىْءٍ} يعني أي شيء كان حتى الخيط والمخيط {فَأَنَّ لِلَّهِ} خبر مبتدأ محذوف تقديره : فحق أو فواجب / أن لله خمسه ، وروى النخعي عن ابن عمر {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه } بالكسر ، وتقديره : على قراءة النخعي فلله خمسه والمشهور آكد وأثبت للإيجاب ، كأنه قيل : فلا بد من إثبات الخمس فيه ، ولا سبيل إلى الإخلال به ، وذلك لأنه إذا حذف الخبر واحتمل وجوهاً كثيرة من المقدرات كقولك ثابت : واجب ، حق ، لازم ، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد ، وقرىء {خُمُسَه } بالسكون.
المسألة الثالثة : في كيفية قسمة الغنائم.
اعلم أن هذه الآية تقتضي أن يؤخذ خمسها ، وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان :
القول الأول : وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس ، فسهم لرسول الله ، وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لكونك منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا ، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه السلام : "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، فعند الشافعي رحمه الله : أنه يقسم على خمسة أسهم ، سهم لرسول الله ، يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين ، كعدة الغزاة من الكراع والسلاح ، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والباقي للفرق الثلاثة وهم : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل. وقال أبو حنيفة رحمه الله : إن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام سهمه ساقط بسبب موته ، وكذلك سهم ذوي القربى ، وإنما يعطون لفقرهم ، فهو أسوة سائر الفقراء ، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال مالك : الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام إن رأى قسمته على هؤلاء فعل ، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض ، فله ذلك.
جزء : 15 رقم الصفحة : 486
واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي رحمه الله وصريح فيه ، فلا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها ، وكيف وقد قال في آخر الآية : {وَقَالَ مُوسَى يَـاقَوْمِ إِن} يعني : إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة ، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة ، لم يحصل الإيمان بالله.
والقول الثاني : وهو قول أبي العالية : إن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام ، فواحد منها لله ، وواحد لرسول الله ، والثالث لذوي القربى ، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل قالوا : والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله/ ثم للطوائف الخمسة ، ثم القائلون بهذا القول / منهم من قال : يصرف سهم الله إلى الرسول ، ومنهم من قال : يصرف إلى عمارة الكعبة. وقال بعضهم : إنه عليه السلام كان يضرب يده في هذا الخمس ، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، وهو الذي سمى لله تعالى.
والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه : بأن قوله : {لِلَّهِ} ليس المقصود منه أثبات نصيب لله. فإن الأشياء كلها ملك لله ، وملكه وإنما المقصود منه افتتاح الكلام بذكر الله على سبيل التعظيم ، كما في قوله : {قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } واحتج القفال على صحة هذا القول بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أنه قال لهم في غنائم خيبر : "مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم" فقوله : مالي إلا الخمس يدل على أن سهم الله وسهم الرسول واحد ، وعلى الإضمام سهمه السدس لا الخمس ، وإن قلنا : إن السهمين يكونان للرسول. صار سهمه أزيد من الخمس ، وكلا القولين ينافي ظاهر قوله : "مالي إلا الخمس" هذا هو الكلام في قسمة خمس الغنيمة ، وأما الباقي وهو أربعة أخماس الغنيمة فهي للغانمين. لأنهم الذين حازوه واكتسبوه كما يكتسب الكلأ بالاحتشاش ، والطير بالاصطياد ، والفقهاء استنبطوا من هذه الآية مسائل كثيرة مذكورة في كتب الفقه.
المسألة الرابعة : دلت الآية على أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب ، كما هو قول الشافعي رحمه الله ، والدليل عليه : أن قوله : {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} يقتضي ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة ، وإذا حصل الملك لهم فيه ، وجب جواز القسمة لأنه لا معنى للقسمة على هذا التقدير إلا صرف الملك إلى المالك ، وذلك جائز بالاتفاق.
جزء : 15 رقم الصفحة : 486
(1/2146)
المسألة الخامسة : اختلفوا في ذوي القربى. قيل : هم بنو هاشم. وقال الشافعي رحمه الله : هم بنو هاشم وبنو المطلب. واحتج بالخبر الذي رويناه. وقيل : آل علي ، وجعفر ، وعقيل ، وآل عباس ، وولد الحرث بن عبد المطلب ، وهو قول أبي حنيفة.
المسألة السادسة : حكى صاحب "الكشاف" عن الكلبي : أن هذه الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي رحمه الله : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة.
ثم قال تعالى : {وَقَالَ مُوسَى يَـاقَوْمِ إِن} والمعنى اعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه } يعني : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان ، يوم بدر. والجمعان : الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد منه ما أنزل عليه من الآيات ، والملائكة ، والفتح في ذلك اليوم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} أي يقدر على نصركم وأنتم قليلون ذليلون والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 486
487
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} قولان : أحدهما : أنه متعلق بمضمر معناه واذكروا إذ أنتم كذا وكذا ، كما قال تعالى : {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} (الأنفال : 26) والثاني : أن يكون قوله : {إِذِ} بدلاً عن يوم الفرقان.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {بِالْعُدْوَةِ} بكسر العين في الحرفين. والباقون بالضم ، وهما لغتان. قال ابن السكيت : عدوة الوادي وعدوته جانبه ، والجمع عدى ، وعدي. قال الأخفش : الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك. وقال أحمد بن يحيى : الضم في العدوة أكثر اللغتين. وحكى صاحب "الكشاف" : الضم والفتح والكسر. قال : وقرىء بهن وعلى قلب الواو ياء ، لأن بينها وبين الكسر حاجزاً غير حصين ، كما في الفتية. وأما {الْحَيَواةَ الدُّنْيَآ} فتأنيث الأدنى وضده {الْقُصْوَى } وهو تأنيث الأقصى ، وكل شيء تنحى عن شيء ، فقد قصا ، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى.
فإن قيل : كلتاهما فعلى من باب الواو ، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو ؟
قلنا : القياس قلب الواو ياء ، كالعليا. وأما القصوى ، فقد جاء شاذاً ، وأكثر استعماله على أصله.
المسألة الثالثة : المراد بالعدوة الدنيا ، ما يلي جانب المدينة ، وبالقصوى ، ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون ، وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد {وَالرَّكْبُ} العير التي خرجوا لها كانت في موضع {أَسْفَلَ مِنكُمْ } إلى ساحر البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم وأهل / مكة على القتال ، لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم {وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أي أنه يثبتكم الله ، وينصركم ، ليقضي أمراً كان مفعولاً ، واجباً أن يخرج إلى الفعل وقوله : {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} بدل من قوله : {لِّيَقْضِيَ} وفيه مسائل :
جزء : 15 رقم الصفحة : 487
المسألة الأولى : لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة ، ونزلوا بعيدين عن الماء ، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضاً رملية تغوص فيها أرجلهم. وأما الكفار ، فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد ، وبسبب حصول الآلات والأدوات ، لأنهم كانوا قريبين من الماء ، ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي ، ولأن العير كانوا خلف ظهورهم ، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة ، ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله : {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ} إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البينة هذه المعجزة.
المسألة الثانية : اللام في قوله : {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} وفي قوله : {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ} لام الغرض ، وظاهره يقتضي تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح/ إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة.
المسألة الثالثة : قوله : {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ} ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح ، وذلك يقدح في قول أصحابنا : أنه تعالى أراد الكفر من الكافر ، لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة.
(1/2147)
المسألة الرابعة : قوله : {وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنا بَيِّنَةٍ } قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي {مِّنَ} بإظهار الياءين وأبو عمرو ، وابن كثير برواية القواس ، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام. فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني ، فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة. وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من "يحيى" فجرى على مشاكلته ، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في {وَلا يَحْيَى } .
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم ، فأصلح مهمكم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 487
488
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التي أنعم الله بها على أهل بدر ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ} منصوب بإضمار اذكر ، أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله : {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم.
المسألة الثانية : قال مجاهد : أرى الله النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه. فقالوا : رؤيا النبي حق ، القوم قليل ، فصار ذلك سبباً لجراءتهم وقوة قلوبهم.
فإن قيل : رؤية الكثير قليلاً غلط ، فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ؟
قلنا : مذهبنا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأيضاً لعله تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون. وعن الحسن : هذه الأراءة كانت في اليقظة. قال : والمراد من المنام العين التي هو موضع النوم.
ثم قال تعالى : {وَلَوْ أَرَاـاكَهُمْ كَثِيرًا} لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا ولتنازعوا ، ومعنى التنازع في الأمر ، الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه ، والمعنى : لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم. وقيل : سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم ، وقيل سلمهم من الهزيمة يوم بدر والأظهر أن المراد ، ولكن الله سلمكم من التنازع {إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} يعلم ما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
جزء : 15 رقم الصفحة : 488
489
/ اعلم أن هذا هو النوع الثالث من النعم التي أظهرها الله للمسلمين يوم بدر ، والمراد أن القليل الذي حصل في النوم تأكد ذلك بحصوله في اليقظة. قال صاحب "الكشاف" : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} الضميران مفعولان يعني إذ يبصركم أياهم ، و{قَلِيلا } نصب على الحال.
واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين ، وقلل أيضاً عدد المؤمنين في أعين المشركين. والحكمة في التقليل الأول ، تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وأيضاً لتقوى قلوبهم وتزداد جراءتهم عليهم ، والحكمة في التقليل. الثاني : أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر ، فصار ذلك سبباً لاستيلاء المؤمنين عليهم.
فإن قيل : كيف يجوز أن يريهم الكثير قليلاً ؟
قلنا : أما على ما قلنا فذاك جائز ، لأن الله تعالى خلق الإدراك في حق البعض دون البعض. وأما المعتزلة فقالوا : لعل العين منعت من إدراك الكل ، أو لعل الكثير منهم كانوا في غاية البعد فما حصلت رؤيتهم.
ثم قال : {لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} .
فإن قيل : ذكر هذا الكلام في الآية المتقدمة ، فكان ذكره ههنا محض التكرار.
قلنا : المقصود من ذكره في الآية المتقدمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم . والمقصود من ذكره ههنا ، ليس هو ذلك المعنى ، بل المقصود أنه تعالى ذكر ههنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين ، فبين ههنا أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر ، فيصير ذلك سبباً لانكسارهم.
ثم قال : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} والغرض منه التنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد.
جزء : 15 رقم الصفحة : 489
491
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب : الأول : الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي. والثاني : أن يذكروا الله كثيراً ، وفي تفسير هذا الذكر قولان :
القول الأول : أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله. قال ابن عباس : أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم ، تنبيهاً على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله ، ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء ، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله ، كان الذاكر لله أعظم أجراً.
(1/2148)
والقول الثاني : أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر ، لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى.
ثم قال : {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وذلك لأن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جارياً مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى ، وهذا هو أعظم مقامات العبودية ، فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة ، وإن صار مغلوباً فاز بالشهادة والدرجات العالية ، أما إن كانت المقاتلة لا لله بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح.
فإن قيل : فهذه الآية توجب الثبات على كل حال ، وهذا يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز.
قلنا : هذه الآية توجب الثبات في الجملة ، والمراد من الثبات الجد في المحاربة. وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود ، لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز.
ثم قال تعالى مؤكداً لذلك : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } في سائر ما يأمر به ، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات.
جزء : 15 رقم الصفحة : 491
ثم قال : {وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين : أحدهما : أنه يوجب حصول الفشل والضعف. والثاني : قوله : {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وفيه قولان : الأول : المراد بالريح الدولة ، شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها. يقال : هبت رياح فلان ، إذا دانت له الدولة ونفد أمره. الثاني : أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله ، وفي الحديث "نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور" والقول الأول أقوى ، لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثراً في ذهاب الريح ، ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا. قال مجاهد : {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي نصرتكم ، وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد.
المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القول بالقياس يفضي إلى المنازعة ، والمنازعة محرمة ، فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراماً ، بيان الملازمة المشاهدة ، فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات ، وبيان أن المنازعة محرمة. قوله : {وَلا تَنَـازَعُوا } وأيضاً القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية. وقالوا : قوله تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه } صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه ، ثم أتبعه بأن قال : {وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا } ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله. وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكل ذلك حرام ، ومثبتو القياس أجابوا عن الأول ؛ بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة.
ثم قال تعالى : {وَاصْبِرُوا ا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر ، فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى : {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } (آل عمران : 200) وبين أنه تعالى مع الصابرين ، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة.
ثم قال : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِم بَطَرًا وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } قال المفسرون : المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير ، فلما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني كان صديقاً لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له ، فلما أتاه قال : إن أبي ينعمك صباحاً ويقول لك إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت ، فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله والرحم خيراً ، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله من طاقة ، وإن كنا نقاتل الناس ، فوالله إن بنا على الناس لقوة ، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان ، فإن بدراً موسم من مواسم العرب ، / وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة. قال المفسرون : فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 491
(1/2149)
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء : الأول : البطر قال الزجاج : البطر الطغيان في النعمة. والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر. وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. والثاني : قوله : {وَرِئَآءَ النَّاسِ} والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحاً ، والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية. روي أنه صلى الله عليه وسلّم لما رآهم في موقف بدر قال : "اللهم أن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك"والثالث : قوله : {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن. وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن يكون قوله : {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } بمنزلة صادين. والثاني : أن يكون قوله : {بَطَرًا وَرِئَآءَ} بمنزلة يبطرون ويراؤن ، وأقول : إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل ، لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ، ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها ، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل. وأقول : إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث ، قال ومثاله في الاسم قوله تعالى : {وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } (الكهف : 18) وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (يونس : 31) وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة ، هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر.
إذا عرفت هذا فنقول : إن أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب/ وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى محمد عليه الصلاة والسلام النبوة. ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم.
وحاصل الكلام : أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله ، ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات ؛ البطر والرئاء ، بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله.
جزء : 15 رقم الصفحة : 491
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق ، وأمرهم بالعناء في طريق عبودية الحق ، والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار ، ثم / ختم هذه الآية بقوله : {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والمقصود أن الإنسان ربما أظهر من نفسه أن الحامل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر كذلك في الحقيقة ، فبين تعالى كونه عالماً بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع.
جزء : 15 رقم الصفحة : 491
493
اعلم أن هذا من جملة النعم التي خص أهل بدر بها وفيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في {إِذِ} فيه وجوه : قيل : تقديره اذكر إذ زين لهم ، وقيل : هو عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذ زين ، وقيل : هو عطف على قوله : خرجوا بطراً ورئاء الناس. وتقديره : لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم.
المسألة الثانية : في كيفية هذا التزيين وجهان : الأول : أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتحول في صورة الإنسان ، وهو قول الحسن والأصم. والثاني : أنه ظهر في صورة الإنسان. قالوا : إن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة ، لأنهم كانوا قتلوا منهم واحداً ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى إبليس نزول الملائكة نكص على عقيبه. وقيل : كانت يده في يد الحرث بن هشام ، فلما نكص قال له الحرث : أتخذ لنا في هذه الحال ؟
فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحرث وانهزموا. وفي هذه القصة سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة ؟
والجواب فيه معجزة عظيمة للرسول عليه السلام وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة / قالوا هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة بل كان شيطاناً.
فإن قيل : فإذا حضر إبليس لمحاربة المؤمنين. ومعلوم أنه في غاية القوة ، فلم لم يهزموا جيوش المسلمين ؟
قلنا : لأنه رأى في جيش المسلمين جبريل مع ألف من الملائكة ، فلهذا السبب خاف وفر.
(1/2150)
فإن قيل : فعلى هذا الطريق وجب أن ينهزم جميع جيوش المسلمين لأنه يتشبه بصورة البشر ويحضر ويعين جمع الكفار ويهزم جموع المسلمين ، والحاصل : أنه إن قدر على هذا المعنى فلم لا يفعل ذلك في سائر وقائع المسلمين ؟
وإن لم يقدر عليه فكيف أضفتم إليه هذا العمل في واقعة بدر ؟
جزء : 15 رقم الصفحة : 493
الجواب : لعله تعالى إنما غير صورته إلى صورة البشر في تلك الواقعة أما في سائر الوقائع فلا يفعل ذلك التغيير.
السؤال الثاني : أنه تعالى لما غير صورته إلى صورة البشر فما بقي شيطاناً بل صار بشراً.
الجواب أن الإنسان إنما كان إنساناً بجوهر نفسه الناطقة ، ونفوس الشياطين مخالفة لنفوس البشر فلم يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة ، وهذا الباب أحد الدلائل السمعية على أن الإنسان ليس إنساناً بحسب بنيته الظاهرة وصورته المخصوصة.
السؤال الثالث : ما معنى قول الشيطان {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} وما الفائدة في هذا الكلام مع أنهم كانوا كثيرين غالبين ؟
والجواب : أنهم وإن كانوا كثيرين في العدد إلا أنهم كانوا يشاهدون أن دولة محمد عليه الصلاة والسلام كل يوم في الترقي والتزايد ، ولأن محمداً كلما أخبر عن شيء فقد وقع فكانوا لهذا السبب خائفين جداً من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم ، فذكر إبليس هذا الكلام إزالة للخوف عن قلوبهم/ ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يؤمنهم من شر بني بكر بن كنانة خصوصاً وقد تصور بصورة زعيم منهم ، وقال : {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } والمعنى : إني إذا كنت وقومي ظهيراً لكم فلا يغلبكم أحد من الناس ومعنى الجار ههنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن جاره ، والعرب تقول : أنا جار لك من فلان أي حافظ من مضرته فلا يصل إليك مكروه منه.
ثم قال تعالى : {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نكص على عقيبه ، والنكوص الأحجام عن الشيء ، والمعنى : رجع وقال : إني أرى مالا ترون ، وفيه / وجوه : الأول : أنه روحاني ، فرأى الملائكة فخافهم. قيل : رأى جبريل يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل : رأى ألفاً من الملائكة مردفين. الثاني : أنه رأى أثر النصرة والظفر في حق النبي عليه الصلاة والسلام ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بلية.
ثم قال : {إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ} قال قتادة صدق في قوله : {إِنِّى أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} وكذب في قوله : {إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ} وقيل لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر فقال : ما قال إشفاقاً على نفسه.
أما قوله : {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيجوز أن يكون من بقية كلام إبليس ، ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله أخاف الله.
ثم قال تعالى بعده : {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 493
493
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما لم تدخل الواو في قوله : {إِذْ يَقُولُ} ودخلت في قوله : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ} (الأنفال : 48) لأن قوله : {وَإِذْ زَيَّنَ} عطف على هذا التزيين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء ، وأما هنا وهو قوله : {إِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ} فليس فيه عطف لهذا الكلام على ما قبله بل هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله ، وعامل الإعراب في {إِذِ} فيه وجهان : الأول : التقدير والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والثاني : اذكروا إذ يقول المنافقون.
المسألة الثانية : أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج ، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشاً لما خرجوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا. قال محمد بن إسحق : ثم قتل هؤلاء جميعاً مع المشركين يوم بدر. وقوله : {غَرَّ هَـا ؤُلاءِ دِينُهُمْ } قال ابن عباس : معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل ، / وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل المراد : إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم ، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسان الله ، فإن الله حافظه وناصره ، لأنه عزيز لا يغلبه شيء ، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه ، والرحمة والثواب إلى أوليائه :
جزء : 15 رقم الصفحة : 493
495
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحده {إِذِ} بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع ، والباقون بالياء على المعنى.
المسألة الثانية : جواب {عَلَيْهِمْ لَوْ} محذوف. والتقدير : لرأيت منظراً هائلاً ، وأمراً فظيعاً ، وعذاباً شديداً.
(1/2151)
المسألة الثالثة : {وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت ، لأن لو ترد المضارع إلى الماضي كما ترد إن الماضي إلى المضارع.
المسألة الرابعة : الملائكة رفعها بالفعل ، ويضربون حال منهم ، ويجوز أن يكون في قوله : {يَتَوَفَّى} ضمير لله تعالى ، والملائكة مرفوعة بالابتداء ، ويضربون خبر.
المسألة الخامسة : قال الواحدي : معنى يتوفى الذين كفروا يقبضون أرواحهم على استيفائها وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ، وأنه هو الروح فقط ؛ لأن قوله : {يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا } يدل على أنه استوفى الذات الكافرة ، وذلك يدل على أن الذات الكافرة هي التي استوفيت / من هذا الجسد ، وهذا برهان ظاهر على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ، وقوله : {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ} قال ابن عباس : كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف ، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم ، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح ، وأقول فيه معنى آخر ألطف منه ، وهو أن روح الكافر إذا خرج من جسده فهو معرض عن عالم الدنيا مقبل على الآخرة ، وهو لكفره لا يشاهد في عالم الآخرة إلا الظلمات ، وهو لشدة حبه للجسمانيات ، ومفارقته لها لا ينال من مباعدته عنها إلا الآلام والحسرات ، فسبب مفارقته لعالم الدنيا تحصل له الآلام بعد الآلام والحسرات ، وبسبب إقباله على الآخرة مع عدم النور والمعرفة ، ينتقل من ظلمات إلى ظلمات ، فهاتان الجهتان هما المراد من قوله : {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ} .
جزء : 15 رقم الصفحة : 495
ثم قال تعالى : {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وفيه إضمار ، والتقدير : ونقول ذوقوا عذاب الحريق ونظيره في القرآن كثير قال تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } (البقرة : 127) أي ويقولان ربنا ، وكذا قوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} (السجدة : 12) أي يقولون ربنا. قال ابن عباس : قول الملائكة لهم : {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} إنما صح لأنه كان مع الملائكة مقامع ، وكلما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء والأبعاض ، فذاك قوله : {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} قال الواحدي : والصحيح أن هذا تقوله الملائكة لهم في الآخرة. وأقول : أما العذاب الجسماني فحق وصدق. وأما الروحاني فحق أيضاً لدلالة العقل عليه ، وذلك لأنا بينا أن الجاهل إذا فارق الدنيا حصل له الحزن الشديد بسبب مفارقة الدنيا المحبوبة ، والخوف الشديد بسبب تراكم الظلمات عليه في عالم الخوف والحزن. والخوف والحزن كلاهما يوجبان الحرقة الروحانية ، والنار الروحانية.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} قيل هذا إخبار عن قول الملائكة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : يجوز أن يقال ذلك مبتدأ ، وخبره قوله : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ويجوز أن يكون محل ذلك نصباً ، والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم.
المسألة الثانية : المراد من قوله : {ذَالِكَ} هذا أي هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق ، حصل بسبب ما قدمت أيديكم ، وذكرنا في قوله : { الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ} أن معناه هذا الكتاب وهذا المعنى جائز.
المسألة الثالثة : ظاهر قوله : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ} يقتضي أن فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك / ممتنع من وجوه : أحدها : أن هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد. وثانيها : أن اليد ليست محلاً للمعرفة والعلم ، فلا يتوجه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصا العذاب إليها ، فوجب حمل اليد ههنا على القدرة ، وسبب هذا المجازان اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 495
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعل وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي ، وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان.
المسألة الرابعة : قوله : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه ، وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتبها الإنسان ، ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان ، فكان هذا الكلام مطابقاً للمعقول.
ثم قال تعالى : {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في محل أن وجهان : أحدهما : النصب بنزع الخافض يعني بأن الله : والثاني : أنك إن جعلت قوله : {ذَالِكَ} في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضاً ، بمعنى وذلك أن الله قال الكسائي ولو كسرت ألف أن على الابتداء كان صواباً ، وعلى هذا التقدير : يكون هذا كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله.
(1/2152)
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً ، وأيضاً قوله تعالى : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالماً بهذا العذاب ، لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان الله تعالى ظالماً في هذا العذاب ، فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً ، وأيضاً تدل هذه الآية على كونه قادراً على الظلم ، إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة.
واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران ، فلا فائدة في الإعادة. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 495
497
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما بين ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلاً وآجلاً كما شرحناه أتبعه بأن بين أن هذه طريقته وسنته في الكل. فقال : {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } والمعنى : عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم. فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال : فلان يدأب في كذا ، أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه ، ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان مداوم على عادته ومواظب عليها.
ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والغرض منه التنبيه على أن لهم عذاباً مدخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ، ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم ، فقال : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {لَمْ يَكُ} أكثر النحويين يقولون إنما حذفت النون. لأنها لم تشبه الغنة المحضة ، فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً ، فحذفت تشبيهاً بها كما تقول لم يدع ولم يرم ولم يل وقال الواحدي : وهذا ينتقض بقولهم لم يزن ولم يخن فلم يسمع حذف النون ههنا.
وأجاب علي بن عيسى عنه. فقال إن كان ويكون أم الأفعال من أجل أن كل فعل قد حصل / فيه معنى كان فقولنا ضرب معناه كان ضرب ويضرب معناه يكون ضرب ، وهكذا القول في الكل فثبت أن هذه الكلمة أم الأفعال. فاحتيج إلى استعمالها في أكثر الأوقات ، فاحتملت هذا الحذف بخلاف قولنا لم يخن ولم يزن ، فإنه لا حاجة إلى ذكرها كثيرًا فظهر الفرق. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 497
المسألة الثانية : قال القاضي : معنى الآية أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر ، فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن قال : وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرة ، والذي يفعله لا يكون الأجزاء على معاص سلفت ، ولو كان تعالى خلقهم وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنار كما يقوله القوم ، لما صح ذلك ، قال أصحابنا : ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي الإمام إلا أنا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفة الله تعالى معللة بفعل الإنسان ، وذلك لأن حكم الله بذلك التغيير وإرادته لما كان لا يحصل إلا عند إتيان الأنسان بذلك الفعل ، فلو لم يصدر عند ذلك الفعل لم يحصل لله تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة ، فحينئذ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات الله تعالى ، ويكون الإنسان مغيراً صفة الله ومؤثراً فيها ، وذلك محال في بديهة العقل ، فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، بل الحق أن صفة الله غالبة على صفات المحدثات ، فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال.
(1/2153)
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر مرة أخرى قوله تعالى : {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } ذكروا فيه وجوهاً كثيرة : الأول : أن الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول ، لأن الكلام الأول فيه ذكر أخذهم ، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل. والثاني : أنه أريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت ، وبالثاني ما ينزل بهم في القبر في الآخرة. الثالث : أن الكلام الأول هو قوله : {كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ} والكلام الثاني هو قوله : {كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ} فالأول إشارة إلى أنهم أنكروا الدلائل الإلهية ، والثاني إشارة إلى أنه سبحانه رباهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة ، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم ، فكان الأثر اللازم من الأول هو الأخذ والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق ، وذلك يدل على أن لكفران النعمة أثراً عظيماً في حصول الهلاك والبوار ، ثم ختم تعالى الكلام بقوله : {وَكُلٌّ كَانُوا ظَـالِمِينَ} والمراد منه أنهم كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء والإيحاش ، وأن الله تعالى / إنما هلكهم بسبب ظلمهم ، وأقول في هذا المقام اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم فقد عظمت فتنتهم وكثر شرهم ، ولا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت ، فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 497
497
اعلم أنه تعالى لما وصف كل الكفار بقوله : {وَكُلٌّ كَانُوا ظَـالِمِينَ} أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد. فقال : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ} أي في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :
الصفة الأولى : الكافر الذي يكون مستمراً على كفره مصراً عليه لا يتغير عنه البتة.
الصفة الثانية : أن يكون ناقضاً للعهد على الدوام فقوله : {الَّذِينَ عَـاهَدتَّ مِنْهُمْ} بدل من قوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } أي الذين عاهدت من الذين كفروا وهم شر الدواب وقوله : {مِنْهُمْ} لتبعيض فإن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم وقوله : {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} قال أهل المعاني إنما عطف المستقبل على الماضي ، لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة. قال ابن عباس : هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ، ثم قالوا : أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضاً يوم الخندق ، وقوله : {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} معناه أن عادة من رجع إلى عقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقوا بكلامه ، فبين تعالى أن من جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 497
499
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة. منها قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) ومنها قوله : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } (آل عمران : 159) وتارة يرشد إلى التغليظ / والتشديد كما في هذه الآية ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ، بين ما يجب أن يعاملوا به فقال : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ} قال الليث : ثقفنا فلاناً في موضع كذا ، أي أخذناه وظفرنا به ، والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب. يقال : شرد يشرد شروداً ، وشرده تشريداً ، فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلاً يفرق بهم من خلفهم. قال عطاء : تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم ، وقيل : نكل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد ، وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر ، وقرأ أبو حيوة من خلفهم ، والمعنى : فشرد تشريداً متلبساً بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني ، فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشردهم في ذلك الوقت.
(1/2154)
وأما قوله : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثاً بأمارات ظاهرة {فَانابِذْ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر ، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم أخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولاتبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد ، فيكون ذلك خيانة منك {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَا ـاِنِينَ} في العهود وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه. قال أهل العلم : آثار نقض العهد إذا ظهرت ، فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به ، فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية ، وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلّم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب ، أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي صلى الله عليه وسلّم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة. والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 499
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين ما يفعل الرسول في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد ، بين أيضاً حال من وفاته في يوم بدر وغيره ، لئلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغاً عظيماً فقال : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا } والمعنى : أنهم لما سبقوا فقد فاتوك ولم تقدر على إنزال ما يستحقونه بهم ، ثم ههنا قولان : الأول : أن المراد ولا تحسبن أنهم انفلتوا منك ، فإن الله يظفرك بعيرهم. والثاني : لا تحسبن أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل أنهم قد تخلصوا من عقاب الله ومن عذاب الآخرة {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} أي أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم "لا يحسبن" بالياء المنقطة من تحت ، وفي تصحيحه ثلاثة أوجه : الأول : قال الزجاج : ولا يحسبن الذين كفروا أن يسبقونا ، لأنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقونا فإذا كان الأمر كذلك فهي بمنزلة قولك حسبت أن أقوم ، وحسبت أقوم وحذف أن كثير في القرآن قال تعالى : {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ} (الزمر : 64) والمعنى : أن أعبد. الثاني : أن نضمر فاعلاً للحسبان ونجعل الذين كفروا المفعول الأول ، والتقدير : ولا يحسبن أحد الذين كفروا. والثالث : قال أبو علي : ويجوز أيضاً أن يضمر المفعول الأول ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا ، وأما أكثر القراء فقرؤا {وَلا تَحْسَبَنَّ} بالتاء المنقطة من فوق على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلّم والذين كفروا المفعول الأول وسبقوا المفعول الثاني وموضعه نصب والمعنى : ولا تحسبن الذين كفروا سابقين.
المسألة الثالثة : أكثر القراء على كسر {ءَانٍ} في قوله : {إِنَّهُمْ لا} وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } وتم الكلام ثم قال : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} فكما أن قوله : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} منقطع من الجملة التي قبلها ، كذلك قوله : {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} وقرأ ابن عامر {إِنَّهُمْ} بفتح الألف ، وجعله متعلقاً بالجملة الأولى ، وفيه وجهان : الأول : التقدير لا تحسبنهم سبقوا ، لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم. الثاني : قال أبو عبيد : يجعل {لا} صلة ، والتقدير : لا تحسبن أنهم يعجزون.
جزء : 15 رقم الصفحة : 499
في الآية مسائل :
(1/2155)
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين ما يفعل الرسول في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد ، بين أيضاً حال من وفاته في يوم بدر وغيره ، لئلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغاً عظيماً فقال : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا } والمعنى : أنهم لما سبقوا فقد فاتوك ولم تقدر على إنزال ما يستحقونه بهم ، ثم ههنا قولان : الأول : أن المراد ولا تحسبن أنهم انفلتوا منك ، فإن الله يظفرك بعيرهم. والثاني : لا تحسبن أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل أنهم قد تخلصوا من عقاب الله ومن عذاب الآخرة {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} أي أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم "لا يحسبن" بالياء المنقطة من تحت ، وفي تصحيحه ثلاثة أوجه : الأول : قال الزجاج : ولا يحسبن الذين كفروا أن يسبقونا ، لأنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقونا فإذا كان الأمر كذلك فهي بمنزلة قولك حسبت أن أقوم ، وحسبت أقوم وحذف أن كثير في القرآن قال تعالى : {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ} (الزمر : 64) والمعنى : أن أعبد. الثاني : أن نضمر فاعلاً للحسبان ونجعل الذين كفروا المفعول الأول ، والتقدير : ولا يحسبن أحد الذين كفروا. والثالث : قال أبو علي : ويجوز أيضاً أن يضمر المفعول الأول ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا ، وأما أكثر القراء فقرؤا {وَلا تَحْسَبَنَّ} بالتاء المنقطة من فوق على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلّم والذين كفروا المفعول الأول وسبقوا المفعول الثاني وموضعه نصب والمعنى : ولا تحسبن الذين كفروا سابقين.
المسألة الثالثة : أكثر القراء على كسر {ءَانٍ} في قوله : {إِنَّهُمْ لا} وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } وتم الكلام ثم قال : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} فكما أن قوله : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} منقطع من الجملة التي قبلها ، كذلك قوله : {إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} وقرأ ابن عامر {إِنَّهُمْ} بفتح الألف ، وجعله متعلقاً بالجملة الأولى ، وفيه وجهان : الأول : التقدير لا تحسبنهم سبقوا ، لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم. الثاني : قال أبو عبيد : يجعل {لا} صلة ، والتقدير : لا تحسبن أنهم يعجزون.
جزء : 15 رقم الصفحة : 499
500
اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض ، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار. قيل : إنه لما اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله وأن يعدوا للكفار ما يمكنهم من آلة وعدة وقوة ، والمراد بالقوة ههنا : ما يكون سبباً لحصول القوة وذكروا فيه وجوهاً : الأول : المراد من القوة أنواع الأسلحة. الثاني : روي أنه صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية على المنبر وقال : "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثاً. الثالث : قال بعضهم : القوة هي الحصون. الرابع : قال أصحاب المعاني الأولى أن يقال : هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو ، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة. وقوله عليه الصلاة والسلام : "القوة هي الرمي" لا ينفي كون غير الرمي معتبراً ، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام : "الحج عرفة" و"الندم توبة" لا ينفي اعتبار غيره ، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ههنا ، وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة ، إلا أنه من فروض الكفايات. وقوله : {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} الرباط المرابطة أو جمع ربيط ، كفصال وفصيل ، ولا شك أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. روي أن رجلاً قال لابن سيرين : إن فلاناً أوصى بثلث ماله للحصون. فقال ابن سيرين : يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها ، فقال الرجل إنما أوصى للحصون ، فقال هي الخيل ألم تسمع قول الشاعر :
ولقد علمت على تجنبي الردى
إن الحصون الخيل لا مدر القرى
قال عكرمة : ومن رباط الخيل الأناث وهو قول الفراء ، ووجه هذا القول أن العرب تسمي الخيل إذا ربطت في الأفنية وعلفت ربطاً واحدها ربيط ، ويجمع ربط على رباط وهو جمع الجمع ، / فمعنى الرباط ههنا ، الخيل المربوط في سبيل الله ، وفسر بالإناث لأنها أولى ما يربط لتناسلها ونمائها بأولادها ، فارتباطها أولى من ارتباط الفحول ، هذا ما ذكره الواحدي.
جزء : 15 رقم الصفحة : 500
(1/2156)
ولقائل أن يقول : بل حمل هذا اللفظ على الفحول أولى ، لأن المقصود من رباط الخيل المحاربة عليها ، ولا شك أن الفحول أقوى على الكر والفر والعدو ، فكانت المحاربة عليها أسهل ، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها ، ولما وقع التعارض بين هذين الوجهين وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي ، وهو كونه خيلاً مربوطاً ، سواء كان من الفحول أو من الإناث ، ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء. فقال : {تُرْهِبُونَ بِه عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم ، وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة : أولها : أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. وثانيها : أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية. وثالثها : أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان. ورابعها : أنهم لا يعينون سائر الكفار. وخامسها : أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلام.
ثم قال تعالى : {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن} والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء/ كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ، ثم فيه وجوه : الأول : وهو الأصح أنهم هم المنافقون ، والمعنى : أن تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار فكذلك يوجب رهبة المنافقين.
فإن قيل : المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكرتموه الإرهاب ؟
قلنا : هذا الإرهاب من وجهين : الأول : أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع عنهم طمعهم من أن يصيروا مغلوبين ، وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان ، والثاني : أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك هذه الأفعال المذمومة.
والقول الثاني : في هذا الباب ما رواه ابن جريج عن سليمان بن موسى قال : المراد كفار الجن. روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ : {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن} فقال إنهم الجن. ثم قال : "إن الشيطان لا يخبل أحداً في دار فيها فرس عتيق" وقال الحسن : صهيل الفرس يرهب الجن ، وهذا القول مشكل ، لأن تكثير آلات الجهاد لا يعقل تأثيره في إرهاب الجن.
جزء : 15 رقم الصفحة : 500
والقول الثالث : أن المسلم كما يعاديه الكافر ، فكذلك قد يعاديه المسلم أيضاً ، فإذا كان قوي / الحال كثير السلاح ، فكما يخافه أعداؤه من الكفار ، فكذلك يخافه كل من يعاديه مسلماً كان أو كافراً.
ثم إنه تعالى قال : {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} وهو عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} قال ابن عباس : يوف لكم أجره ، أي لا يضيع في الآخرة أجره ، ويعجل الله عوضه في الدنيا {وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من الثواب ، ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوله تعالى : {أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـاًا وَفَجَّرْنَا} (الكهف : 33).
جزء : 15 رقم الصفحة : 500
501
واعلم أنه لما بين ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار ، بين بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح ، فالحكم قبول الصلح. قال النضر : جنح الرجل إلى فلان ، وأجنح له إذا تابعه وخضع له ، والمعنى : إن مالوا إلى الصلح فمل إليه وأنث الهاء في لها ، لأنه قصد بها قصد الفعلة والجنحة كقوله : {إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أراد من بعد فعلتهم. قال صاحب "الكشاف" : السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب. قال الشاعر :
السلم تأخذ منها ما رضيت به
والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين ، والباقون بالفتح وهما لغتان. قال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة : 5) وقوله : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (التوبة : 29) وقال بعضهم الآية غير منسوخة لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه ، فإذا رأى مصالحتهم فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة ، وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين ، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة.
أما قوله تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه } فالمعنى فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عوناً لك على السلامة ، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء ، ولذلك قال : {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تنبيهاً بذلك على الزجر عن نقض الصلح ، لأنه عالم بما يضمره العباد ، وسامع لما / يقولون. قال مجاهد الآية نزلت في قريظة والنضير. وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها. والله أعلم.
(1/2157)
جزء : 15 رقم الصفحة : 501
503
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح ، ذكر في هذه الآية حكماً من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة ، وجب قبول ذلك الصلح ، لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالاً من الإيمان ، فلما بنينا أمر الإيمان عن الظاهر لا على الباطن ، فههنا أولى ولذلك قال : {وَإِن يُرِيدُوا } المراد من تقدم ذكره في قوله : {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} .
فإن قيل : أليس قال : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانابِذْ إِلَيْهِمْ} أي أظهر نقض ذلك العهد ، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية ؟
قلنا : قوله : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها ، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير ، إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة ، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة ، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك. قال : {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّه } أي فالله يكفيك ، وهو حسبك وسواء قولك هذا يكفيني ، وهذا حسبي. هو الذي أيدك بنصره. قال المفسرون : يرد قواك وأعانك بنصره يوم بدر ، وأقول هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته ، ساعة فساعة. كان أمراً إلهياً وتدبيراً علوياً ، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل ، ثم قال : {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس : يعني الأنصار.
فإن قيل : لما قال : {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِه } فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين ، حتى قال : {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} .
/ قلنا : التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين : أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. والثاني : ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة. فالأول : هو المراد من قوله أيدك بنصره ، والثاني : هو المراد من قوله : {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ثم إنه تعالى بين أنه كيف أيده بالمؤمنين. فقال : {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِم لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } وفيه مسائل :
جزء : 15 رقم الصفحة : 503
المسألة الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه ، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً ، وعادوا أعواناً. وقيل هم الأوس والخزرج ، فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة ، ثم زالت الضغائن ، وحصلت الألفة والمحبة ، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى ، وذلك لأن تلك الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام. فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى ، لكانت المحبة المرتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى/ وذلك على خلاف صريح الآية. قال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل ، ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته ، فكذا ههنا.
والجواب : كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز ، وأيضاً كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار ، مثل حصولها في حق المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضاً فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية ، وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرغبة بدلاً عن النفرة وبالعكس ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر لا بد له من مرجح ، فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم ، وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود ، فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن القوم كانوا قبل شروعهم في الإسلام ومتابعة الرسول / في الخصومة الدائمة والمحاربة الشديدة يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على البعض ، فلما آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر. زالت الخصومات ، وارتفعت الخشونات ، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة.
(1/2158)
واعلم أن التحقيق في هذا الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير وكمال ، فالمحبة حالة معللة بهذا التصور المخصوص ، فمتى كان هذا التصور حاصلاً كانت المحبة حاصلة ، ومتى حصل تصوير الشر والبغضاء : كانت النفرة حاصلة ، ثم إن الخيرات والكمالات على قسمين : أحدهما : الخيرات والكمالات الباقية الدائمة ، المبرأة عن جهات التغيير والتبديل ، وذلك هو الكمالات الروحانية والسعادات الإلهية. والثاني : وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة ، وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية ، فإنها سريعة التغيير والتبدل ، كالزئبق ينتقل من حال إلى حال ، فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالاً عظيماً فيحبه ، ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه ، ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مراراً لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله ، والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية ، وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال ، فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي لزوال والانتقال.
جزء : 15 رقم الصفحة : 503
إذا عرفت هذا فنقول : الموجب للمحبة والمودة ، إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال ، لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال ، وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال ، فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال ، كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال ، وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال ، كانت تلك المحبة أيضاً باقية آمنة من التغير ، لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67).
إذا عرفت هذا فنقول : العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة ، وكانت محبتهم معللة بهذه العلة ، فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال ، وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن ، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، زالت الخصومة والخشونة عنهم. وعادوا إخواناً متوافقين ، ثم بعد وفاته عليه السلام لما انفتحت عليهم أبواب الدنيا وتوجهوا إلى طلبها عادوا إلى محاربة بعضهم بعضاً/ ومقاتلة بعضهم مع بعض ، فهذا هو السبب الحقيقي في هذا الباب ثم إنه تعالى ختم هذه الآية / بقوله : {إِنَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب. ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ، ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم بفعل ما يفعله على وجه الإحكام والإتقان. أو مطابقاً للمصلحة والصواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 503
505
اعلم أنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء. وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار ، لأن المعنى في الآية الأولى ، إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم. والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال والمراد بقوله : {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الأنصار وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، نزلت في إسلام عمر ، قال سعيد بن جبير أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفي الآية قولان : الأول : التقدير ، الله كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين. قال الفراء : الكاف في حسبك خفض و{مِّنَ} في موضع نصب والمعنى : يكفيك الله ويكفي من اتبعك ، قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
فحسبك والضحاك سيف مهند
(1/2159)
قال وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك ، بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك. والثاني : أن يكون المعنى كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين. قال الفراء وهذا أحسن الوجهين ، أي ويمكن أن ينصر القول الأول بأن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أن الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم. وتعالى الله عنه ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله ، إلا أن / من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة. فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين ، ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين ، فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة. فقال : {الْمُؤْمِنِينَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء ، وذكر الزجاج في اشتقاقه وجهاً آخر بعيداً ، فقال : التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثاً يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضاً ، والحارض الذي قارب الهلاك ، أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي صلى الله عليه وسلّم ، كانوا حارضين ، أي هالكين. فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض.
جزء : 15 رقم الصفحة : 505
ثم قال : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ} فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى {يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه : الأول : لو كان المراد منه الخبر ، لزم أن يقال : إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ، ومعلوم أنه باطل. الثاني : أنه قال {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} (الأنفال : 66) والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر. الثالث : قوله من بعد : {وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ} (الأنفال : 66) وذلك ترغيباً في الثبات على الجهاد ، فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان وارداً بلفظ الخبر ، وهو كقوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (البقرة : 233) {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} (البقرة : 228) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ} يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قاهراً على ذلك ، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء ؛ منها : أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً ، ومنها : أن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان ، ومنها : أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزاً إلى فئة ، فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى : {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه.
المسألة الثانية : قوله : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِا وَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّا ئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة ، فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة ؟
جزء : 15 رقم الصفحة : 505
وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة ، وكان رسول الله يبعث السرايا ، والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة ، فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين.
المسألة الثالثة : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر {إِن يَكُن} بالتاء ، وكذلك الذي بعده {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ} وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما.
المسألة الرابعة : أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة ، وهو قوله : {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} وتقرير هذا الكلام من وجوه :
الوجه الأول : أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد ، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية. ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال ، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول.
(1/2160)
الوجه الثاني : أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى.
الوجه الثالث : وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات ، وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيباً عند الخلق ، ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء ، فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه ، بل نقول : إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه ، وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيباً ، وأيضاً الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى ، فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه ، وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت.
إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله. فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه ، فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر / فإن لم يحصل فذاك لأن ظهور هذا التجلي لا يحصل إلا نادراً وللفرد بعد الفرد. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 505
507
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أنه صلى الله عليه وسلّم كان يبعث العشرة إلى وجه المائة ، بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم ، فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة ، فابتدر عبد الله وقال : يا رسول الله صفه لي ، فقال : "إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله" قال : فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل ؟
قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك ؟
ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم وذكرت أني قتلته. فأعطاني عصا وقال : "أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة" ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس : لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون ، وقالوا : يا رب نحن جياع وعدونا شباع ، ونحن في غربة وعدونا في أهليهم ، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك ، وقال الأنصار : شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا ، فنزل التخفيف ، وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة ، والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين ، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم ، ولهذا قال ابن عباس : أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فر ، والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله : {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ ، وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر / كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين ، وقوله : {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء ، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 507
فإن قالوا : قوله : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم.
قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين ، فليشتغلوا بجهادهم ؟
والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر ، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
فإن قالوا : قوله : {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} مشعر بأن هذا لتكليف كان متوجهاً عليهم قبل هذا التكليف.
(1/2161)
قلنا : لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله ، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام ، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } (النساء : 28) وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر/ فكذا ههنا. وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم ، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم ، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف ، فصح أن يقال خفف الله عنكم ، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى ، وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ لا يجوز.
فإن قالوا : العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر ، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ.
قلنا : لما كان كون الناسخ مقارناً للمنسوخ غير جائز في الوجود ، وجب أن لا يكون جائزاً في الذكر ، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك ، وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول : إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه ؟
فهذا تقرير قول أبي مسلم. وأقول : إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه ، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول : قول أبي مسلم صحيح حسن.
المسألة الثانية : احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله : / {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } قال : فإن معنى الآية : الآن علم الله أن فيكم ضعفاً وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت. والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية : أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلاً واقعاً ، بل يعلم منه أنه سيحدث ، أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثاً واقعاً ، فقوله : {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } معنا : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله ، وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث.
جزء : 15 رقم الصفحة : 507
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } بفتح الضاد وفي الروم مثله ، والباقون فيهما بالضم ، وهما لغتان صحيحتان ، الضعف والضعف كالمكث والمكث. وخالف حفص عاصماً في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال : ما خالفت عاصماً في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف.
المسألة الرابعة : الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين ، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به ، فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم ، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن. روى الواحدي في "البسيط" أنه وقف جيش موتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين ، مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام.
المسألة الخامسة : قوله : {بِإِذْنِ اللَّه } فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله. والإذن ههنا هو الإرادة. وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات.
واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله : {وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ} والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } (الأنفال : 65) فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم ، وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخاً بل هو ثابت كما كان ، فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم ، وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور ههنا زائل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 507
513
واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلّم وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمر {وَتَكُونُ} بالتاء والباقون بالياء ، أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى ، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ ، وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم ، والأسرى مذكرون في المعنى ، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة. فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى. وقال صاحب "الكشاف" : قرىء للنبي صلى الله عليه وسلّم على التعريف و{أَسْرَى } و{يُثْخِنَ} بالتشديد.
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
(1/2162)
المسألة الثانية : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك ، فقام عمر وقال : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم. فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء. فمكن علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم. فقال عليه الصلاة والسلام : "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم : 36) ومثل عيسى في قوله : {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَا وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة : 118) ومثلك يا عمر مثل نوح {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) ومثل موسى حيث قال : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى ا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (يونس : 88) ومال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قول أبي بكر. روي أنه قال لعمر يا أبا حفص وذلك أول ما كناه ، تأمرني أن أقتل العباس ، فجعل عمر يقول : ويل لعمر ثكلته أمه ، وروي أن عبد الله بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس قطعت رحمك. وروي / أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "لا تخرجوا أحداً منهم إلا بفداء أو بضرب العنق" فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم واشتد خوفي. ثم قال من بعد : "إلا سهيل بن بيضاء" وعن عبيدة السلماني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للقوم : "إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم" فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد. وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية ، وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهماً أو ستة دنانير. وروي أنهم أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت/ فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ـ لشجرة قريبة منه ـ ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ. هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
المسألة الثالثة : تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :
الوجه الأول : أن قوله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَه ا أَسْرَى } صريح في أن هذا المعنى منهي عنه ، وممنوع من قبل الله تعالى. ثم إن هذا المعنى قد حصل ، ويدل عليه وجهان : الأول : قوله تعالى بعد هذه الآية : {رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مِّنَ الاسْرَى } (الأنفال : 70) الثاني : أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار ، بل أسرهم ، فكان الذنب لازماً من هذا الوجه.
الوجه الثاني : أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم بدر بقتل الكفار وهو قوله : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال : 12) وظاهر الأمر للوجوب ، فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية.
الوجه الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلّم حكم بأخذ الفداء ، وكان أخذ الفداء معصية ، ويدل عليه وجهان : الأول : قوله تعالى : {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاخِرَةَ } وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا ههنا هو أخذ الفداء. والثاني : قوله تعالى : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وأجمعوا على أن المراد بقوله : {أَخَذْتُمْ} ذلك الفداء.
الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلّم وأبا بكر بكيا ، وصرح الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء ، وذلك يدل على أنه ذنب.
الوجه الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر" وذلك يدل على الذنب ، فهذه جملة وجوه تمسك القوم بهذه الآية.
(1/2163)
/ والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولاً : أن قوله : {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَه ا أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ } يدل على أنه كان الأسر مشروعاً ، ولكن بشرط سبق الأثخان في الأرض ، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد ، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً ، وليس من شرط الأثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة ، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزاً بحكم هذه الآية ، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنباً ومعصية ؟
ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} (محمد : 4).
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
فإن قالوا : فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزاً والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب لعقاب عليه ، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب ؟
فنقول : الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطاً بضابط معلوم معين ، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين ، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين ، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضاً إلى الاجتهاد ، فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود ، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعاً في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب ، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنباً ولا معصية.
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانياً أن نقول : إن ظاهر قوله تعالى : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأموراً أن يباشر قتل الكفار بنفسه ، وإذا كان هذا الخطاب مختصاً بالصحابة ، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر ، كان الذنب صادراً منهم لا من الرسول صلى الله عليه وسلّم . ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعاً عظيماً والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام ، ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته ، وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر ، فزال هذا السؤال.
فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك ، لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالاً لقوله تعالى : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} .
قلنا : إن قوله : {فَاضْرِبُوا } تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب ، فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولاً له. والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار / الصحابة في أنه بماذا يعاملهم ؟
ولو كان ذلك النص متناولاً لتلك الحالة ، لكان مع قيام النص القاطع تاركاً لحكمه وطالباً ذلك الحكم من مشاورة الصحابة ، وذلك محال ، وأيضاً فقوله : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ} أمر ، والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة ، وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجباً حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة ، وهذا الجواب شاف.
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
والجواب عما ذكروه ثالثاً ، وهو قولهم : إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء ، وأخذ الفداء محرم. فنقول : لا نسلم أن أخذ الفداء محرم.
وأما قوله : {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاخِرَةَ } فنقول هذا لا يدل على قولكم ، وبيانه من وجهين : الأول : أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء ، وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقاً. الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه قال الأولى : أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد ، وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوى به على الدين ، وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني. وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
والجواب عما ذكروه رابعاً : أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل ، واشتغل بالأسر استوجب العذاب ، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفاً من نزول العذاب عليهم ، ويحتمل أيضاً ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله : {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ } ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى.
(1/2164)
والجواب عما ذكروه خامساً : أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل ، وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل ، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة. والله أعلم.
المسألة الرابعة : في شرح الألفاظ المشكلة في هذه الآية.
أما قوله : {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَه ا أَسْرَى } فلقائل أن يقول : كيف حسن إدخال لفظة كان على لفظة تكون في هذه الآية.
والجواب : قوله {مَا كَانَ} معناه النفي والتنزيه ، أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ونظيره ما كان لله أن يتخذ من ولد قال أبو عبيدة. يقول : لم يكن لنبي ذلك ، فلا يكون لك ، وأما / من قرأ {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ} فمعناه : أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام. قال الزجاج : {أَسْرَى } جمع ، و{أَسْرَى } جمع الجمع. قال ولا أعلم أحداً قرأ {أَسْرَى } وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب "الكشاف" : أنه نقل أن بعضهم قرأ به وقوله : {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ } فيه بحثان :
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
البحث الأول : قال الواحدي : الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته ، يقال : قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه ، وكذلك أثخنه الجراح ، والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ ، فهو ثخين. فقوله : {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ } معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر ، ثم إن كثيراً من المفسرين. قالوا المراد منه : أن يبالغ في قتل أعدائه. قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل. قال الشاعر :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجراءة ، ومن الإقدام على ما لا ينبغي ، فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك.
البحث الثاني : أن كلمة {حَتَّى } لانتهاء الغاية. فقوله : {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَه ا أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ } يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر.
أما قوله : {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فالمراد الفداء ، وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضاً ، لأنه لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضاً ، لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها مع كون الأجسام باقية ، ثم قال : {وَاللَّهُ يُرِيدُ الاخِرَةَ } يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال. واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : لا كائن من العبد إلا والله يريده لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ، ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان.
وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا : إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة ، وعملاً جائزاً مأذوناً. ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة ، نفي كونه مراد الوجود ، وأما الحكماء فإنهم يقولون الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر / ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم. قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى {حَتَّى ا إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } (محمد : 4) وأقول إن هذا الكلام يوهم أن قوله : {فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان ، فإن كلتاهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء.
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
ثم قال تعالى : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
واعلم أنه كثر أقاويل الناس في تفسير هذا الكتاب السابق. ونحن نذكرها ونذكر ما فيها من المباحث :
فالقول الأول : وهو قول سعيد بن جبير وقتادة لولا كتاب من الله سبق يا محمد بحل الغنائم لك ولأمتك ، لمسكم العذاب. وهو مشكل لأن تحليل الغنائم والفداء هل كان حاصلاً في ذلك الوقت ، أو ما كان حاصلاً في ذلك الوقت ؟
فإن كان التحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم ، لأن ما كان مأذوناً فيه من قبل لم يحصل العقاب على فعله ، وإن قلنا : إن الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت أقصى ما في الباب أنه كان في علم الله أنه سيحكم بحله بعد ذلك إلا أن هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت.
(1/2165)
فإن قالوا : إن كونه بحيث سيصير حلالاً بعد ذلك يوجب تخفيف العقاب.
قلنا : فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه ، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب.
القول الثاني : قال محمد بن إسحاق : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} إني لا أعذب إلا بعد النهي لعذبتكم فيما صنعتم ، وأنه تعالى ما نهاهم عن أخذ الفداء ، وهذا أيضاً ضعيف لأنا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء ، فهل حصل دليل عقلي يقتضي حرمته أم لا ؟
فإن قلنا حصل ، فيكون الله تعالى قد بين تحريمه بواسطة ذلك الدليل العقلي ، ولا يمكن أن يقال إنه تعالى لم يبين تلك الحرمة ، وإن قلنا : إنه ليس في العقل ولا في الشرع ما يقتضي المنع ، فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً ، وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وإذا لم يكن المنع حاصلاً كان الإذن حاصلاً ، وإذا كان الإذن حاصلاً ، فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله ؟
القول الثالث : قال قوم قد سبق حكم الله بأنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهذا أيضاً مشكل لأنه يقتضي أن يقال : إنهم ما منعوا عن الكفر والمعاصي والزنا / والخمر وما هددوا بترتيب العقاب على هذه القبائح ، وذلك يوجب سقوط التكاليف عنهم ولا يقوله عاقل. وأيضاً فلو صار كذلك ، فكيف آخذهم الله تعالى في ذلك الموضع بعينه في تلك الواقعة بعينها ، وكيف وجه عليهم هذا العقاب القوي ؟
والقول الرابع : لولا كتاب من الله سبق في أن من أتى ذنباً بجهالة ، فإنه لا يؤاخذه به لمسهم العذاب ، وهذا من جنس ما سبق.
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
واعلم أن الناس قد أكثروا فيه ، والمعتمد في هذا الباب أن نقول : أما على قولنا : فنقول : يجوز أن يعفو الله عن الكبائر. فقوله : {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} معناه لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم ، وهذا هو المراد من قوله : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } (الأنعام : 54) ومن قوله : "سبقت رحمتى غضبي" وأما على قول المعتزلة فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر ، فكان معناه {لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} في أن من احترز عن الكبائر صارت صغائره مغفورة وإلا لمسهم عذاب عظيم ، وهذا الحكم وإن كان ثابتاً في حق جميع المسلمين ، إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة وهو قبولهم الإسلام ، وانقيادهم لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال : إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب ، فلا جرم صار هذا الذنب مغفوراً ، ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفوراً ، فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص.
ثم قال تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـالا طَيِّبًا } روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها/ فنزلت هذه الآية. وقيل هو إباحة الفداء.
فإن قيل : ما معنى الفاء في قوله : {فَكُلُوا } .
قلنا التقدير : قد أبحت لكم الغنائم {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـالا} نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر ، أي أكلاً حلالاً {وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والمعنى : واتقوا الله فلا تقدموا على المعاصي بعد ذلك ، واعلموا أن الله غفور ما أقدمتم عليه في الماضي من الزلة ، رحيم ما أتيتم من الجرم والمعصية ، فقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ } إشارة إلى لمستقبل. وقوله : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إشارة إلى الحالة الماضية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 513
515
(1/2166)
اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم ، ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال : {رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مِّنَ الاسْرَى } قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في العباس ، وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحرث ، كان العباس أسيراً يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر ، فقال العباس : كنت مسلماً إلا أنهم أكرهوني ، فقال عليه السلام : "إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك" فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي ، فقال : "أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا" قال : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحرث ، فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني ، فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل" فقال العباس : وما يدريك ؟
قال : "أخبرني به ربي" قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتاباً في أمرك ، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس : فأبدلني الله خيراً من ذلك ، لي الآن عشرون عبداً ، وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، فأخذ ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني ، وأنا أرجو المغفرة. واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة ، أو في جملة الأسارى. قال قوم : إنها في العباس خاصة ، وقال آخرون : إنها نزلت في الكل ، وهذا أولى ، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه : أحدها : قوله : {قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم} وثانيها : قوله : {مِّنَ الاسْرَى } وثالثها : قوله : {فِي قُلُوبِكُمْ} / ورابعها : قوله : {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} وخامسها : قوله : {مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} وسادسها : قوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم ، فما الموجب للتخصيص ؟
أقصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول الآية هو العباس ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
جزء : 15 رقم الصفحة : 515
أما قوله : {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يجب أن يكون المراد من هذا الخير : الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف ، والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ، ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول ، والتوبة عن محاربته.
المسألة الثانية : احتج هشام بن الحكم على قوله : إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية ، لأن قوله : {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} فعل كذا وكذا شرط وجزاء ، والشرط هو حصول هذا العلم ، والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل/ وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى.
والجواب : أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام ، إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثاً وجب أن يقال : ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم.
أما قوله : {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن {مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} على البناء للفاعل.
المسألة الثانية : للمفسرين في هذا الخير أقوال :
القول الأول : المراد : الخلف مما أخذ منهم في الدنيا. قال القاضي : لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا.
ولقائل أن يقول : إن قوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} المراد منه إزالة العقاب ، وعلى هذا التقدير : لم يبعد أن يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضاً الثواب والتفضل في الآخرة.
والقول الثاني : المراد من هذا الخير ثواب الآخرة ، فإن قوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} المراد منه في الآخرة ، فالخير الذي تقدمه يجب أيضاً أن يكون في الدنيا.
والقول الثالث : أنه محمول على الكل.
فإن قيل : إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا ، فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيراً مما أخذ منه ؟
/ قلنا : هكذا يجب أن يكون بحكم الآية ، إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه. حتى يتوجه علينا فيه السؤال ، ولا نعلم أيضاً من الذي آتاه الله علماً ، وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 515
(1/2167)
ثم قال : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} والمعنى : كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم ؟
أما قوله : {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الخيانة وجوه : الأول : أن المراد منه الخيانة في الدين وهو الكفر ، يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل. الثاني : أن المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. الثالث : روي أنه عليه السلام لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاهدة المشركين ، وهذا هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر ، فقال تعالى : {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} أي نكث هذا العهد فقد خانوا الله من قبل ، والمراد أنهم كانوا يقولون { لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} (يونس : 22) { لئن ءَاتَيْتَنَا صَـالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ} (الأعراف : 189) ثم إذا وصلوا إلى النعمة وتخلصوا من البلية نكثوا العهد ونقضوا الميثاق ، ولا يمنع دخول الكل فيه ، وإن كان الأظهر هو هذا الأخير.
ثم قال تعالى : {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } قال الأزهري : يقال أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول الإمكان محذوف ، والمعنى : فأمكن المؤمنين منهم ، والمعنى أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فأمكن الله منهم قتلاً وأسراً ، وذلك نهاية الإمكان والطفر. فنبه الله بذلك على أنهم قد ذاقوا وبال ما فعلوه ثم ، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتاً حاصلاً ، وفيه بشارة للرسول صلى الله عليه وسلّم بأنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي ببواطنهم وضمائرهم {حَكِيمٌ} يجازيهم بأعمالهم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 515
521
اعلم أنه تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى أربعة أقسام ، وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنه عليه السلام ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ، ثم انتقل من مكة إلى المدينة ، فحين هاجر من مكة إلى المدينة صار المؤمنون على قسمين منهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي هناك.
أما القسم الأول : فهم المهاجرون الأولون ، وقد وصفهم بقول : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} وإنما قلنا إن المراد منهم المهاجرون الأولون لأنه تعالى قال في آخر الآية : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنا بَعْدُ وَهَاجَرُوا } وإذا ثبت هذا ظهر أن هؤلاء موصوفون بهذه الصفات الأربعة : أولها : أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر / وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد صلى الله عليه وسلّم ولم يتمردوا ، فقوله : {إِنَّ الَّذِينَ} يفيد هذا المعنى.
والصفة الثانية : قوله : {وَهَاجَرُوا } يعني : فارقوا الأوطان ، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله ، ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة ، قال تعالى : {أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـارِكُم} (النساء : 66) جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس ، فهؤلاء في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى ، وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
والصفة الثالثة : قوله : {وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أما المجاهدة بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم ، وبقيت في أيدي الأعداء ، وأيضاً فقد احتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة ، وأيضاً كانوا ينفقون أموالهم على تلك الغزوات ، وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا على محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة ، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله.
(1/2168)
وأما الصفة الرابعة : فهي أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال ، ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين. قال تعالى : {لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَا أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا ا وَكُلا} (الحديد : 10) وقال : {وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة : 100) وإنما كان السبق موجباً للفضيلة ، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم ، فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال ، ولهذا المعنى قال تعالى : {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } (المائدة : 32) وقال عليه السلام : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا ، كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها ، فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة ، وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم.
وأما القسم الثاني : من المؤمنين الموجودين في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم فهم الأنصار ، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة ، / ويجب أن يكون حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه : أولها : أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب : وثانيها : أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً ، وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه ، وهذه الحال ما حصلت للأنصار. وثالثها : أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران ، ولم يحصل ذلك للأنصار. ورابعها : أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين ، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم ، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" فوجب أن يكون المقتدى أقل مرتبة من المقتدى به ، فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة ، فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال : { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } واختلفوا في المراد بهذه الولاية ، فنقل الواحدي عن ابن عباس والمفسرين كلهم ، أن المراد هو الولاية في الميراث. وقالوا جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة. وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر ، واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ، لأن هذا اللفظ مشع بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب. ويقال : "السلطان ولي من لا ولي له" ولا يفيد الإرث وقال تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) ولا يفيد الإرث بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث ، وهو كون بعضهم معظماً للبعض مهتماً بشأنه مخصوصاً بمعاونته ومناصرته ، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء ، وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبسه لنفسه ، وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيداً عن دلالة اللفظ ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ، ثم الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه ، هذا في غاية البعد ، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك/ فحينئذ يجب المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد.
القسم الثالث : من أقسام مؤمني زمان الرسول عليه السلام وهم المؤمنون الذين ما وافقوا الرسول في الهجرة وبقوا في مكة وهم المعنيون بقول : {وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أولئك } فبين تعالى حكمهم / من وجهين : الأول : قوله : {مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } وفيه مسائل :
(1/2169)
المسألة الأولى : اعلم أن الولاية المنفية في هذه الصورة ، هي الولاية المثبتة في القسم الذي تقدم ، فمن حمل تلك الولاية على الإرث ، زعم أن الولاية المنفية ههنا هي الإرث ، ومن حمل تلك الولاية على سائر الاعتبارات المذكورة ، فكذا ههنا. واحتج الذاهبون ، إلى أن المراد من هذه الولاية الإرث ، بأن قالوا : لا يجوز أن يكون المراد منها الولاية بمعنى النصرة والدليل عليه أنه تعالى عطف عليه قوله : {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} ولا شك أن ذلك عبارة عن الموالاة في الدين والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة وهذا الاستدلال ضعيف ، لأنا حملنا تلك الولاية على التعظيم والإكرام وهو أمر مغاير للنصرة ، ألا ترى أن الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم والإجلال فسقط هذا الدليل.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
المسألة الثانية : قوله تعالى : {حَتَّى يُهَاجِرُوا } .
واعلم أن قوله تعالى : {مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ} يوهم أنهم لما لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم سقطت ولايتهم مطلقاً ، فأزال الله تعالى هذا الوهم بقوله : {مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } يعني أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية وحصلت ، والمقصود منه الحمل على المهاجرة والترغيب فيها ، لأن المسلم متى سمع أن الله تعالى يقول : إن قطع المهاجرة انقطعت الولاية بينه وبين المسلمين ولو هاجر حصلت تلك الولاية وعادت على أكمل الوجوه ، فلا شك أن هذا يصير مرغباً له في الهجرة ، والمقصود من المهاجرة كثرة المسلمين واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض ، وحصول الألفة الشوكة وعدم التفرقة.
المسألة الثالثة : قرأ حمزة {مِّن وَلَـايَتِهِم} بكسر الواو ، والباقون بالفتح. قال الزجاج : من فتح جعلها من النصرة والنسب. وقال : والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة للفصل بين المعنيين وقد يجوز كسر الولاية لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقصارة والخياطة فهي مكسورة. وقال أبو علي الفارسي : الفتح أجود ، لأن الولاية ههنا من الدين والكسر في السلطان.
والحكم الثاني : من أحكام هذا القسم الثالث ، قوله تعالى : {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} .
واعلم أنه تعالى لما بين الحكم في قطع الولاية بين تلك الطائفة من المؤمنين ، بين أنه ليس المراد منه المقاطعة التامة كما في حق الكفار بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا لم استنصروكم فانصروهم / ولا تخذلوهم. روي أنه لما نزل قوله تعالى : {مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } قام الزبير وقال : فهل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا ؟
فنزل {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} ثم قال تعالى : {إِلا عَلَى قَوْما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } والمعنى أنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك.
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } وفيه مسائل :
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الترتيب الذي اعتبره الله في هذه الآية في غاية الحسن لأنه ذكر ههنا أقساماً ثلاثة : فالأول : المؤمنون من المهاجرين والأنصار وهم أفضل الناس وبين أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً.
والقسم الثاني : المؤمنون الذين لم يهاجروا فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة فوجب أن يكون حكمهم حكماً متوسطاً بين الإجلال والإذلال وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول ، تكون منفية عن هذا القسم ، إلا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم. فهذا الحكم متوسط بين الإجلال والإذلال. وأما الكفار فليس لهم البتة ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة. فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه ، فظهر أن هذا التريب في غاية الحسن.
المسألة الثانية : قال بعض العلماء : قوله : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } يدل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة ، فالمجوسي يرث الوثني ، والنصراني يرث المجوسي ، لأن الله تعالى قال : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
(1/2170)
واعلم أن هذا الكلام إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإرث وقد سبق القول فيه ، بل الحق أن يقال : إن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته ، فكان المراد من الآية ذلك. وتمام التحقيق فيه أن الجنسية علة الضم وشبيه الشيء منجذب إليه ، والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلّم صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وذلك يدل على أنهم ما أقدموا على تلك العداوة لأجل الدين ، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه ، بل كان ذلك من أدل الدلائل على أن تلك العداوة لمحض الحسد والبغي والعناد.
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحكام قال : {إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى الارْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} والمعنى : إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التفاصيل المذكورة المتقدمة تحصل فتنة في الأرض / ومفسدة عظيمة ، وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه : الأول : أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم ، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم ، فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكفار. الثاني : أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم ، فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم. الثالث : أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدة والعدة ، صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ورغبة المخالف في الالتحاق بهم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا القسم الثالث ، عاد إلى ذكر القسم الأول والثاني مرة أخرى فقال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
واعلم أن هذا ليس بتكرار وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولاً ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضاً ، ثم إنه تعالى ذكرهم ههنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم. والثاني : وهو أنه تعالى أثنى عليهم ههنا من ثلاثة أوجه : أولها : قوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فقوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} يفيد الحصر وقوله : {حَقًّا } يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين ، والأمر في الحقيقة كذلك ، لأن من لم يكن محقاً في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة/ ولم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين. وثانيها : قوله : {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال كما أن التنكير في قوله : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ} (البقرة : 96) يدل على كمال تلك الحياة ، والمعنى : لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات. وثالثها : قوله : {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} والمراد منه الثواب الرفيع الشريف. والحاصل : أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب ، أما دفع العقاب فهو المراد بقوله : {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله : {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهذه السعادات العالية إنما حصلت لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية ، فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال ، وذلك تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات.
القسم الرابع : من مؤمني زمان محمد صلى الله عليه وسلّم هم الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة إلا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه ، وهو المراد من قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنا بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا مَعَكُمْ فَ أولئك مِنكُمْ } وفيه مسائل :
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
المسألة الأولى : اختلفوا في المراد من قوله تعالى : {مِنا بَعْدُ} نقل الواحدي عن ابن عباس : بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية ، وقيل بعد نزول هذه الآية ، وقيل : بعد يوم بدر ، والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ، وهؤلاء هم التابعون بإحسان كما قال : {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة : 100).
(1/2171)
المسألة الثانية : الأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأن عنده صارت مكة بلد الإسلام وقال الحسن : الهجرة غير منقطعة أبداً ، وأما قوله عليه السلام : "لا هجرة بعد الفتح" فالمراد الهجرة المخصوصة ، فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام. أما لو اتفق في بعض الأزمان كون المؤمنين في بلد وفى عددهم قلة ، ويحصل للكفار بسبب كونهم معهم شوكة وإن هاجر المسلمون من تلك البلدة وانتقلوا إلى بلدة أخرى ضعفت شوكة الكفار ، فههنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن ، لأنه قد حصل فيهم مثل العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة.
المسألة الثالثة : قوله : {فَ أولئك مِنكُمْ } يدل على أن مرتبة هؤلاء دون مرتبة المهاجرين السابقين لأنه ألحق هؤلاء بهم وجعلهم منهم في معرض التشريف ، ولولا كون القسم الأول أشرف وإلا لما صح هذا المعنى. فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية.
ثم قال تعالى : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين قالوا المراد من قوله تعالى : { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ولاية الميراث قالوا هذه الآية ناسخة له ، فإنه تعالى بين أن الإرث كان بسبب النصرة والهجرة ، والآن قد صار ذلك منسوخاً فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة وقوله : {فِى كِتَابِ اللَّهِ} المراد منه السهام المذكورة في سورة النساء ، وأما الذين فسروا تلك الآية بالنصرة والمحبة والتعظيم قالوا : إن تلك الولاية لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم ، وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز.
المسألة الثانية : تمسك محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو علي بن أبي طالب فقال : قوله تعالى : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} يدل على ثبوت الولاية وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية ، فوجب حمله على الكل إلا ما خصه الدليل ، وحينئذ يندرج فيه الإمامة ، ولا يجوز أن يقال : إن أبا بكر كان من أولي الأرحام لما نقل أنه عليه / السلام أعطاه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ، ثم بعث علياً خلفه وأمر بأن يكون المبلغ هو علي ، وقال : "لا يؤديها إلا رجل مني" وذلك يدل على أن أبا بكر ما كان منه ، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
والجواب : إن صحت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي. وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه.
المسألة الثالثة : تمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية ، في توريث ذوي الأرحام ، وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية ، فلما قال : {فِى كِتَابِ اللَّهِ} كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه ، فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها الله في كتابه ، وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات. فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط فلا يتعدى إلى توريث ذوي الأرحام.
ثم قال في ختم السورة : {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ } والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح ، وليس فيها شيء من العبث والباطل ، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب. ونظيره أن الملائكة لما قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} قال مجيباً لهم : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30) يعني لما علمتم كوني عالماً بكل المعلومات ، فاعلموا أن حكمي يكون منزهاً عن الغلط كذا ههنا. والله أعلم.
تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر ، كما هو أهله ومستحقه. يوم الأحد في رمضان سنة إحدى وستمائة في قرية يقال لها بغدان. ونسأل الله الخلاص من الأهوال وشدة الزمان ، وكيد أهل البغي والخذلان ، إنه الملك الديان. وصلاته وسلامه على حبيب الرحمن ، محمد المصطفى صاحب المعجزات والبرهان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
والجواب : إن صحت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي. وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه.
المسألة الثالثة : تمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية ، في توريث ذوي الأرحام ، وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية ، فلما قال : {فِى كِتَابِ اللَّهِ} كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه ، فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها الله في كتابه ، وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات. فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط فلا يتعدى إلى توريث ذوي الأرحام.
ثم قال في ختم السورة : {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ } والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح ، وليس فيها شيء من العبث والباطل ، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب. ونظيره أن الملائكة لما قالوا : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ} قال مجيباً لهم : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30) يعني لما علمتم كوني عالماً بكل المعلومات ، فاعلموا أن حكمي يكون منزهاً عن الغلط كذا ههنا. والله أعلم.
تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر ، كما هو أهله ومستحقه. يوم الأحد في رمضان سنة إحدى وستمائة في قرية يقال لها بغدان. ونسأل الله الخلاص من الأهوال وشدة الزمان ، وكيد أهل البغي والخذلان ، إنه الملك الديان. وصلاته وسلامه على حبيب الرحمن ، محمد المصطفى صاحب المعجزات والبرهان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 521
522
(1/2172)
سورة التوبة
مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان
وآياتها 129 نزلت بعد المائدة
سورة التوبة
مائة وثلاثة وثلاثون وقيل عشرون وتسع آيات مدنية
/ قال صاحب "الكشاف" : لها عدة أسماء : براءة ، والتوبة ؛ والمقشقشة ، والمبعثرة ، والمشردة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمثيرة ، والحافرة ، والمنكلة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب. قال لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين ، وتبحث عنها ، وتثيرها. وتحفر عنها ، وتفضحهم ، وتنكل بهم ، وتشردهم وتخزيهم ، وتدمدم عليهم. وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة ، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال : إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى خشينا أن لا تدع أحداً ، وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
فإن قيل : ما السبب في إسقاط التسمية من أولها ؟
قلنا : ذكروا فيه وجوها :
الوجه الأول : روي عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان ، ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة براءة وهي من المئين ، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني ، فقرنتم بينهما وما فصلتم ببسم الله الرحمن الرحيم ؟
فقال : كان النبي صلى الله عليه وسلّم كلما نزلت عليه سورة يقول : "ضعوها في موضع / كذا" وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً. فتوفي صلى الله عليه وسلّم ولم يبين موضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما. قال القاضي يبعد أن يقال : إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال ، لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل ، ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي ، لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السور الواحدة ، وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن. وذلك يخرجه من كونه حجة ، بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة ، بعد سورة الأنفال وحياً ، وأنه عليه السلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحياً.
الوجه الثاني : في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال : إنما توهموا ذلك ، لأن في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود. فوضعت إحداهما بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد ههنا ، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 522
والوجه الثالث : أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان ؟
فقال بعضهم : هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع ، وما بعدها المئون. وهذا قول ظاهر لأنهما معاً ومائتان وست آيات ، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال هما سورتان ، فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول هما سورتان ، وما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على قول من يقول هما سورة واحدة ، وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية ، وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين ، وعملوا عملاً يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلاً ، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير ، وذلك يبطل قول الإمامية.
(1/2173)
الوجه الرابع : في هذا الباب : أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله : {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } (التوبة : 1) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيداً له وتقريراً له ، لزم وقوع الفاصل بينهما ، فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيهاً على كونهما سورتين متغايرتين ، وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس : قال ابن عباس : سألت علياً رضي الله عنه : لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما ؟
قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود / وليس فيها أمان. ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى ، وأكده بقوله تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء : 94) فقيل له : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل الحرب بسم الله الرحمن الرحيم. فإجاب عنه : بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله ، ولم ينبذ إليهم عهدهم. ألا تراه قال في آخر الكتاب : "والسلام على من اتبع الهدى" وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق.
والوجه السادس : قال أصحابنا : لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن ، أمر بأن لا تكتب ههنا ، تنبيهاً على كونها آية من أول كل سورة ، وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة ، لا جرم لم تكتب ، وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 522
525
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : معنى البراءة انقطاع العصمة. يقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة ، ومن هنا يقال برئت من الدين ، وفي رفع قوله : {بَرَآءَةٌ} قولان : الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة. قال الفراء : ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل ، جميل والله ، أي هذا جميل والله ، وقوله : {مَنْ} لابتداء الغاية ، والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم ، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان. الثاني : أن يكون قوله : {بَرَآءَةٌ} مبتدأ وقوله : {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } صفتها وقوله : {إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم} هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار.
فإن قالوا : ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المعاهدة إلى المشركين ؟
قلنا قد أذن الله في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك ، وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين.
المسألة الثالثة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف ، جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم العهد إليهم.
/ فإن قيل : كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلّم العهد ؟
قلنا : لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم ، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانابِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ } (الأنفال : 58) وقال أيضاً : {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} (الأنفال : 56) والثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه. فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط. والثالث : أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة ، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله منه بريئان ، ولهذا المعنى قال الله تعالى : {إِلا الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْـاًا وَلَمْ يُظَـاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } (التوبة : 4) وقيل : إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 525
(1/2174)
المسألة الثالثة : روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، ونزول هذه السورة سنة تسع ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع أن يكون على الموسم ، فلما نزلت هذه السورة أمر علياً أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم. فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء ، فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم / فلما لحقه قال : أمير أو مأمور ؟
قال : مأمور ، ثم ساروا ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم ، وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم ، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، وعن مجاهد ثلاث عشرة آية ، ثم قال : أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ، واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر علياً بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم ، فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا ، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه ، وقيل لما خص أبا بكر رضي الله عنه بتوليته أمير الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب ، / وقيل قرر أبا بكر علي الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة ، حتى يصلي على خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر ، والله أعلم.
وقرر الجاحظ هذا المعنى فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر أميراً على الحاج وولاه الموسم وبعث علياً يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم ، ولم يكن ذلك لعلي رضي الله عنه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام : "لا يبلغ عني إلا رجل مني" فهذا لا يدل على تفضيل علي على أبي بكر ، ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم ، وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم. فلهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك القول.
جزء : 15 رقم الصفحة : 525
وأما قوله : {فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ففيه أبحاث : الأول : أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب. يقال للصائم سائح لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب. قال المفسرون : {فَسِيحُوا فِى الارْضِ} يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر ، بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف ، يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة.
البحث الثاني : قال المفسرون : هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر ، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة ، ومن كانت مدته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة والمقصود من هذا الإعلام أمور : الأول : أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر ، ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة : إما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف ، فيصير ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً. والثاني : لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد ، والثالث : أراد الله أن يعم جميع المشركين بالجهاد ، فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر ، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار ، ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود. والرابع : أراد النبي صلى الله عليه وسلّم أن يحج في السنة الآتية ، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة.
البحث الثالث : قال ابن الأنباري : قوله : {فَسِيحُوا } القول فيه مضمر والتقدير : فقل لهم سيحوا أو يكون هذا رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله : {عَـالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌا وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَـاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} (الإنسان : 21/ 22).
(1/2175)
البحث الرابع : اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة ، وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال ، / وهي أربعة أشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وقيل هي عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من ربيع الآخر ، وإنما سميت حرماً لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال ، فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرماً ، وقيل إنما سميت حرماً لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم. وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
جزء : 15 رقم الصفحة : 525
وأما قوله : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه } فقيل : اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب. وقيل تقديره : فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون الله في حال. والمقصود : أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات ، فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم. وقيل : اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت ، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك الله وسلطانه ، وقوله : {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَـافِرِينَ} قال ابن عباس : بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال الزجاج : هذا ضمان من الله عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار ، والخزي النكال الفاضح.
جزء : 15 رقم الصفحة : 525
527
اعلم أن قوله : {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 1) جملة تامة ، مخصوصة بالمشركين ، وقوله : {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ} جملة أخرى تامة معطوفة / على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس ، لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً ، فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه ، فأمر الله تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر ، وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الأذان الأعلام. قال الأزهري : يقال آذنته أوذنه إيذاناً ، فالأذان اسم يقوم مقام الإيذان ، وهو المصدر الحقيقي ، ومنه أذان الصلاة. وقوله : {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ} أي أذان صادر من الله ورسوله ، واصل إلى الناس ، كقولك : إعلام صادر من فلان إلى فلان.
المسألة الثانية : اختلفوا في يوم الحج الأكبر. فقال ابن عباس في رواية عكرمة إنه يوم عرفة ، وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد ، وإحدى الروايتين عن علي : ورواية عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهو أنه ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية عرفة. فقال : أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر. وقال ابن عباس : في رواية عطاء : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وأحد الروايتين عن علي ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. والقول الثالث ما رواه ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، وهو مذهب سفيان الثوري ، وكان يقول يوم الحج الأكبر أيامه كلها ، ويقول يوم صفين ، ويوم الجمل يراد به الحين والزمان ، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً كثيرة. حجة من قال يوم عرفة قوله عليه الصلاة والسلام : "الحج عرفة" ولأن أعظم أعمال الحج هو الوقوف بعرفة ، لأن من أدركه ، فقد أدرك الحج ، ومن فاته فقد فاته الحج. وذلك إنما يحصل في هذا اليوم. وحجة من قال إنه يوم النحر ، هي أن أعمال الحج إنما تتم في هذا اليوم ، وهي الطواف والنحر والحلق والرمي ، وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر. قال : يومك هذا ، خل عن دابتي ، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع. فقال هذا يوم الحج الأكبر ، وأما قول من قال المراد مجموع تلك الأيام ، فبعيد لأنه يقتضي تفسي اليوم بالأيام الكثيرة ، وهو خلاف الظاهر.
جزء : 15 رقم الصفحة : 527
فإن قيل : لم سمي ذلك بالحج الأكبر ؟
(1/2176)
قلنا فيه وجوه : الأول : أن هذا هو الحج الأكبر ، لأن العمر تسمى الحج الأصغر. الثاني : / أنه جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته ، لأنه إذا فات الحج ، وكذلك إن أريد به يوم النحر ، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج الأكبر. الثالث : قال الحسن : سمي ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه ، وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر. طعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيد الكفار فيه سخط ، وهذا الطعن ضعيف ، لأن المراد أن ذلك اليوم يو استعظمه جميع الطوائف ، وكان من وصفه بالأكبر أولئك. والرابع : سمي بذلك لأن المسلمين والمشركين حجوا في تلك السنة. والخامس : الأكبر الوقوف بعرفة ، والأصغر النحر ، وهو قول عطاء ومجاهد. السادس : الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد ، وهو منقول عن مجاهد. ثم إنه تعالى بين أن ذلك الأذان بأي شيء كان ؟
فقال : {أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه } وفيه مباحث :
البحث اللأول : لقائل أن يقول : لا فرق بين قوله : {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} وبين قوله {أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه } فما الفائدة في هذا التكرير ؟
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن المقصود من الكلام الأول الإخبار بثبوت البراءة ، والمقصود من هذا الكلام إعلام جميع الناس بما حصل وثبت.
والوجه الثاني : أن المراد من الكلام الأول البراءة من العهد ، ومن الكلام الثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد ، والذي يدل على حصول هذا الفرق أن في البراءة الأولى برىء إليهم ، وفي الثانية : برىء منهم ، والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم بعضاً ، ونبه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرؤا منهم ، فههنا بين أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ عن المشركين ويذمهم ويلعنهم ، وكذلك الرسول ، ولذلك أتبعه بذكر التوبة المزيلة للبراءة.
والوجه الثالث : في الفرق أنه تعالى في الكلام الأول ، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد. وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين ، تنبيهاً على أن الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 527
البحث الثاني : قوله : {أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } فيه حذف والتقدير : {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } بأن الله بريء من المشركين إلا أنه حذف الباء لدلالة الكلام عليه.
/ واعلم أن في رفع قوله : {وَرَسُولُه } وجوهاً : الأول : أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر ، والتقدير ورسوله أيضاً بريء والخبر عن الله دل على الخبر عن الرسول. والثاني : أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين. الثالث : أن قوله : {إِنَّ اللَّهَ} رفع بالابتداء وقوله : {بَرِى ءٌ} خبره وقوله : {وَرَسُولُه } عطف على المبتدأ الأول. قال صاحب "الكشاف" : وقد قرىء بالنصب عطفاً على اسم أن لأن الواو بمعنى مع ، أي برىء مع رسوله منهم ، وقرىء بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن الله بريء من المشركين وحق رسوله.
ثم قال تعالى : {فَإِن تُبْتُمْ} أي عن الشرك {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } وذلك ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لكون الله ورسوله موصوفين بالبراءة منه {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن التوبة عن الشرك {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّه } وذلك وعيد عظيم ، لأن هذا الكلام يدل على كونه تعالى قادراً على إنزال أشد العذاب بهم.
ثم قال : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال ، فقد تخلص عن العذاب ، بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 527
528
هذا الاستثناء إلى أي شيء عاد ؟
فيه وجهان : الأول : قال الزجاج : إنه عائد إلى قوله : {بَرَآءَةٌ} والتقدير {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } إلى المشركين المعاهدين إلا من الذين لم ينقضوا العهد. والثاني : قال صاحب "الكشاف" ، وجهه أن يكون مستثنى من قوله : {فَسِيحُوا فِى الارْضِ} لأن الكلام خطاب للمسلمين ، والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم.
(1/2177)
واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين : أحدهما : قوله : {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} والثاني : قوله : {وَلَمْ يُظَـاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم ، ومن الثاني : / أن يهيجوا أقواماً آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب. ثم قال : {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} والمعنى أن الذين ما غادروا من هذين الوجهين ، فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين. وقوله : {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي أدوه إليهم تاماً كاملاً. قال ابن عباس : بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما أنفوا النكث ونقض العهد ، استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث. روى أنه عدت بنو بكر على بن خزاعة في حال غيبة رسول الله وظاهرتهم قريش بالسلاح ، حتى وقد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله فأنشده :
لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام : "لا نصرت إن لم أنصركم" وقرىء {لِمَ} بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 528
529
قوله تعالى : {الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍا فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا } .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الليث : يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه ، وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال : يقال أهللنا هلال شهر كذا ، أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً فجزءاً ، حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد :
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
كفى قائلاً سلخي الشهور وإهلالي
/ وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له ، كماأن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح ، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به ، ودخل في شهر آخر ، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين ، فجعل أيضاً اسماً لانفصاله عن زمانه المعين ، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة. وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله : {فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (التوبة : 2) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر ، والمراد من كونها حرماً ، أن الله حرم القتل والقتال فيها. ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء : أولها : قوله : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } (النساء : 89) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق ، في أي وقت ، وأي مكان. وثانيها : قوله : {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر ، والأخيذ الأسير. وثالثها : قوله : {وَاحْصُرُوهُمْ} معنى الحصر المنع من الخروج من محيط. قال ابن عباس : يريد إن تحصنوا فاحصروهم. وقال الفراء : حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام. ورابعها : قوله تعالى : {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم : رصدت فلاناً أرصده إذا ترقبته ، قال المفسرون : المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة ، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير : اقعدوا لهم على كل مرصد.
جزء : 15 رقم الصفحة : 529
ثم قال تعالى : {فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل ، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقاً بجميع الطرق ، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة ، وهي التوبة عن الكفر ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فعندما لم يوجد هذا المجموع ، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما ؟
والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل.
أجابوا عنه : بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر ، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص.
فإن قالوا : لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة ؟
قلنا : لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص ، فالتخصيص أولى بالحمل.
(1/2178)
/ المسألة الثانية : نقل عن أب بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول : في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله ، ولعل مراده كان هذه الآية ، لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة ، فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام. وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة.
المسألة الثالثة : قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله : {فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ فَتَابَ عَلَيْه } (البقرة : 37) روى الحسن أن أسيراً نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثاً ، فقال عليه السلام : عرف الحق لأهله فأرسلوه.
المسألة الرابعة : قوله : {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } قيل إلى البيت الحرام ، وقيل إلى التصرف في مهماتهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب وآمن. وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات ، ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا ، فنرجو من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضاً فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل ، والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى.
جزء : 15 رقم الصفحة : 529
531
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال : إن رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل ، فقال علي : "لا" إن الله تعالى قال : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} أي فأمنه حتى يسمع كلام الله ، وتقرير هذا الكلام : أن نقول : إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر / الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم ، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إما بالإسلام وإما بالقتل ، فلما كان هذا الكلام واقعاً في القلب لا جرم ذكر الله هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالباً للحجة والدليل أو جاء طالباً لاستماع القرآن ، فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه ، وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد ، ويدل أيضاً على أن النظر في دين الله أعلى المقامات وأعلى الدرجات ، فإن الكافر الذي صار دمه مهدراً لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ، ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه.
المسألة الثانية : أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وتقديره : وإن استجارك أحد ، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره.
فإن قيل : لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي ؟
قلنا : الحكمة فيه ما ذكره سيبويه ، وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه ، أعني وقد بينا ههنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين ، فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار ، قال الزجاج : المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات ، فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات ، ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأن تكلم الله بهذه الحروف إما أن يكون معاً أو على الترتيب ، فإن تكلم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم ، لأن الكلام لا يحصل منتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب ، فلو حصلت معاً لا متعاقبة لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام. وأما إن حصلت متعاقبة ، لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدل هذا عن أن كلام الله محدث. قالوا : فإن قلتم إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات ؛ فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام الله إلا هذه الحروف والأصوات ، وأما الحشوية والحمقى من الناس ، فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات ، وثبت أن كلام الله قديم ، فوجب القول بقدم الحروف والأصوات.
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
(1/2179)
واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول ، وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات/ وإما أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها. والأول : هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء.
وأما الثاني : فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات ، لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمراً آخر مغايراً لها فسقط هذا الكلام.
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول : هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم ، لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولاً ، بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان ، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهباً عجيباً فقال : كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارىء ، وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم.
المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك ، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف ، بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال.
إذا ثبت هذا فنقول : ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف ، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم.
المسألة الخامسة : المذكور في هذه الآية كونه طالباً لسماع القرآن فنقول : ويلتحق به كونه طالباً لسماع الدلائل ، وكونه طالباً للجواب عن الشبهات ، والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره ، لكونه طالباً للعلم مسترشداً للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته.
/
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
المسألة السادسة : في قوله : {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اللَّهِ} وجوه : قيل : أراد سماع جميع القرآن ، لأن تمام الدليل والبينات فيه ، وقيل : أراد سماع سورة براءة ، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين ، وقيل : أراد سماع كل الدلائل. وإنما خص القرآن بالذكر ، لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل. وقوله : {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه } معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم.
المسألة السابعة : قال الفقهاء : والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوماً مع ماله ، إلا أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجا الإسلام ، أو دخل لتجارة. فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان ، فيجب تبليغه مأمنه. وهو أن يبلغ محروساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة أمان ، ومن دخل ليأخذ مالاً في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
0
قوله : {كَيْفَ} استفهام بمعنى الإنكار كما تقول : كيف يسبقني مثلك ، أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره : كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل : إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يعني من اتقى الله يوفي بعهده لمن عاهد والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
0
(1/2180)
اعلم أن قوله : {كَيْفَ} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل كونه معلوماً أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ} هذا هو المعنى ، ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال : ظهرت على فلان إذا علوته ، وظهرت على السطح إذا صرت فوقه. قال الليث : الظهور الظفر بالشيء. وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى : {فَأَصْبَحُوا ظَـاهِرِينَ} (الصف : 14) وقوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (التوبة : 33) أي ليعليه ، وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال ، ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوباً صار كالناقص ، والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله : {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} يريد أن يقدروا عليكم وقوله : {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ} قال الليث : رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوباً وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله : {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} (طه : 94) أي لم تحفظه ، أما الأول ففيه أقوال : الأول : أنه العهد قال الشاعر :
وجدناهم كاذباً الهم
وذو الال والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني. قال الفراء : الال القرابة. قال حسان :
لعمرك أن الك من قريش
كال السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الأل الحلف. قال أوس بن حجر :
لولا بنو مالك والأل مرقبه
ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف. والرابع : الأل هو الله عز وجل ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال : إن هذا الكلام لم يخرج من إل ، وطعن الزجاج في هذا القول وقال : أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول : يا إل. الخامس : قال الزجاج : حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشديد ، فمن ذلك الألة الحربة. وأذن مؤللة ، فالإل يخرج في جميع / ما فسر من العهد والقرابة. السادس : قال الأزهري : أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية ، فجائز أن يكون عرب. فقيل إل. السابع : قال بعضهم : الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا ، إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه ، وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته ، ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت ، فالعهد سمى إلا ، لظهوره وصفائه من شوائب الغدر ، أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
أما قوله : {وَلا ذِمَّةً } فالذمة العهد ، وجمعها ذمم وذمام ، كل أمر لزمك ، وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة ، وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه ، يعني ما يجتنب فيه الذم يقال : تذمم فلان ، أي ألقى على نفسه الذم ، ونظيره تحوب ، وتأثم وتحرج.
أما قوله : {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً طيباً/ والذي في قلوبهم بخلاف ذلك ، فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه {وَأَكْثَرُهُمْ فَـاسِقُونَ} وفيه سؤالان :
السؤال الأول : الموصوفين بهذه الصفة كفار. والكفر أقبح وأخبث من الفسق ، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم.
السؤال الثاني : أن الكفار كلهم فاسقون ، فلا يبقى لقوله : {وَأَكْثَرُهُمْ فَـاسِقُونَ} فائدة.
والجواب عن الأول : أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه ، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه ، فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود {وَأَكْثَرُهُمْ فَـاسِقُونَ} في دينهم وعند أقوامهم ، وذلك يوجب المبالغة في الذم.
والجواب عن الثاني : عين ما تقدم ، لأن الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ، ونقض العهد والمكر والخديعة ، وقد يكون موصوفاً بذلك ، ومثل هذا الشخص يكون مذموماً عند جميع الناس وفي جميع الأديان ، فالمراد بقوله : {وَأَكْثَرُهُمْ فَـاسِقُونَ} أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة ، وأيضاً قال ابن عباس : لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب ، فلهذا السبب قال : {وَأَكْثَرُهُمْ فَـاسِقُونَ} حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.
أما قوله : {اشْتَرَوْا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِه } ففيه قولان : الأول : المراد منه المشركون. قال مجاهد : أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه ، وترك حلفاء النبي صلى الله عليه وسلّم فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة. الثاني : لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا / المشركين على نقض تلك العهود ، فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود ، وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن الله تعالى أعاد قوله : {لا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } (التوبة : 10) ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكراراً محضاً ، ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكراراً ، فكان ذلك أولى.
(1/2181)
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
ثم قال : {وَ أولئك هُمُ الْمُعْتَدُونَ} (التوبة : 10) يعني يعتدون ما حده الله في دينه وما يوجبه العقد والعهد ، وفي ذلك نهاية الذم. والله أعلم.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
0
اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة ، وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له ، بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم ، فجمع ذلك الشيء بقوله : {فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ} وهو يفيد جملة أحكام الإيمان ، ولو شرح لطال.
فإن قيل : المعلق على الشيء بكلمة {ءَانٍ} عدم عند عدم ذلك الشيء ، فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين ، وهو مشكل لأنه ربما كان فقيراً ، أو إن كان غنياً ، لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة.
قلنا : قد بينا في تفسير قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} (النساء : 31) أن المعلق على الشيء بكلمة {ءَانٍ} لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء ، فزال هذا السؤال ، ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة {ءَانٍ} عدم عند عدم ذلك الشيء ، فههنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً ، فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة ، ومن لم يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه ، وجب عليه أن يقر بحكمها ، فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة ، وكان / ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين ، أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة ، وهو قوله والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما بقي في قوله : {فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ} بحثان : الأول : قوله : {فَإِخْوَانُكُمْ} قال الفراء معناه ، فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ} (الأحزاب : 5) أي فهم إخوانكم. الثاني : قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة ، وهذا غلط يقال للأصدقاء ، وغير الأصدقاء أخوة وأخوان. قال الله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) ولم يعن النسب. وقال تعالى : {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} (النور : 61) وهذا في النسب. قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
ثم قال : {وَنُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال صاحب "الكشاف" : وهذا اعتراض وقع بين الكلامين ، والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها.
ثم قال : {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـا نَهُم مِّنا بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ} يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه ، ومنه قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا} (النحل : 92) والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم. وقيل : للحلف يمين ، وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا. وقيل : سمي القسم يميناً ليمين البر فيه. فقوله : {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـا نَهُم} أي نقضوا عهودهم. وفيه قولان : الأول : هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والثاني : أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان ، فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان ، ولذلك قرأ بعضهم {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـا نَهُم مِّنا بَعْدِ عَهْدِهِمْ} والأول أولى للقراءة المشهورة ، ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين ، فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد. وقوله : {وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ} يقال طعنه بالرمح يطعنه/ وطعن بالقول السيء يطعن. قال الليث : وبعضهم يقول : يطعن بالرمح ، ويطعن بالقول : فيفرق بينهما ، والمعنى أنهم عابوا دينكم ، وقدحوا فيه.
ثم قال : {فَقَـاتِلُوا أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق. قال الزجاج : الأصل في الأئمة أأمة ، لأنها جمع إمام ، مثل مثال وأمثلة ، لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية ، وألقيت حركتها على الهمزة ، فصارت أأمة ، فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة. هذا هو / الاختيار عند جميع النحويين.
إذا عرفت هذا فنقول : قال صاحب "الكشاف" : لفظة "أئمة" همزة بعدها همزة بين بين ، والمراد بين مخرج الهمزة والياء. أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة. وإن لم تكن مقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن يكون قراءة ، ومن صرح بها فهو لاحن محرف.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
(1/2182)
المسألة الثانية : قوله : {فَقَـاتِلُوا أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } معناه قاتلوا الكفار بأسرهم ، إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر ، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام ، لأن عهده مشروط بأن لا يطعن ، فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم.
ثم قال تعالى : {إِنَّهُمْ لا أَيْمَـانَ لَهُمْ} قرأ ابن عامر {لا أَيْمَـانَ لَهُمْ} بكسر الألف ولها وجهان : أحدها : لا أمان لهم ، أي لا تؤمنوهم. فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الإخافة ، والثاني : أنهم كفرة لا إيمان لهم ، أي لا تصديق ولا دين لهم ، والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين ، ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة. وأيمانهم ليست بأيمان ، وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يميناً ، وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين ، ومعنى هذه الآية عنده : أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان ، أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله : {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـا نَهُم} ولو لم يكن منعقداً لما صح وصفها بالنكث.
ثم قال تعالى : {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} وهو متعلق بقوله : {فَقَـاتِلُوا أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه من الكفر ، وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان.
جزء : 15 رقم الصفحة : 531
5
اعلم أنه تعالى لما قال : {فَقَـاتِلُوا أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } (التوبة : 12) أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال : {أَلا تُقَـاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا } .
/ واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد ، فكيف بها حال الاجتماع : أحدها : نكثهم العهد ، وكل المفسرين حمله على نقض العهد. قال ابن عباس والسدي والكلبي : نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم ، وثانيها : قوله : {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. واختلفوا فيه فقال بعضهم : المراد إخراجه من مكة حين هاجر. وقال بعضهم : بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل. وقال آخرون : بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد ، وإعانة أعدائه ، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه. وقوله : {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} إما بالفعل وإما بالعزم عليه ، وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه ، وثالثها : قوله : {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني بالقتال يوم بدر ، لأنهم حين سلم العير قالوا : لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه.
والقول الثاني : أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد ، وهذا قول الأكثرين ، وإنما قال : تنبيهاً على أن البادىء أظلم ، ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها ، فقال : {مَرَّةٍا أَتَخْشَوْنَهُم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه : الأول : أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية ، والثاني : أنك إذا قلت للرجل : أتخشى خصمك كان ذلك تحريكاً منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه ، والثالث : أن قوله : {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} يفيد ذلك كأنه قيل : إن كنت تخشى أحداً فالله أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة ، والضرر المتوقع منهم غايته القتل. أما المتوقع من الله فالعقاب الشديد في القيامة ، والذم اللازم في الدنيا ، والرابع : أن قوله : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} معناه : أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ، ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 5
بقي في الآية أبحاث :
البحث الأول : حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا : إذا قلت لا تفعل كذا ، فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده ، وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده ، والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل ، فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل ، وليس إنما تستعمل لنفي الحال. فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال.
(1/2183)
/ البحث الثاني : نقل عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : {أَلا تُقَـاتِلُونَ قَوْمًا} ترغيب في فتح مكة وقوله : {قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَـانَهُمْ} أي عهدهم ، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام/ فأمر الله رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك ، وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم ، فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلّم يستجير بها فأبت ، وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا ، فخاطب أبا بكر فأبى ، ثم خاطب عمر فتشدد ، ثم خاطب علياً فلم يجبه ، فاستجار بالعباس وكان مصافياً له فأجاره ، وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله. فقال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئاً ، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً وحصل الفتح عند ذلك ، فهذا ما قاله ابن عباس. وقال الحسن : لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك ، لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة ، وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار.
البحث الثالث : قال أبو بكر الأصم : دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } (البقرة : 216) فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات. قال القاضي : إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ولا مقصراً فيه ، فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا وهناك كره للقتال لم يصح أيضاً ، لأنه يجوز أن يحث الله تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع.
البحث الرابع : دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه ، وأن لا يخشى أحداً سواه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 5
7
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : {أَلا تُقَـاتِلُونَ قَوْمًا} ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال. ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد ، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت ؟
فأولها : قوله : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وفيه مباحث :
البحث الأول : أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة.
البحث الثاني : أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً ، فيدخل فيه كل ما ذكرناه.
فإن قالوا : أليس أنه تعالى قال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال : 33) فكيف قال ههنا : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} .
قلنا : المراد من قوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } عذاب الاستئصال ، والمراد من قوله : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب ، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 7
(1/2184)
البحث الثالث : احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد ، وهو صريح قولنا ومذهبنا. أجاب الجبائي عنه فقال : لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه / يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ، ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ، لأنه تعالى خالق لذلك ، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة ، علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير ، وأجاب أصحابنا عنه فقالوا : أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان ، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام. ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس والديدان ، فكذا ههنا. وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ، ثم لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها ، فكذا هنا ، أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر ، والدليل القاهر من جانبنا ههنا ، فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة ، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى. وثانيها : قوله تعالى : {وَيُخْزِهِمْ} معناه : ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين. قال الواحدي : قوله : {وَيُخْزِهِمْ} أي بعد قتلكم إياهم ، وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة ، وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا. وثالثها : قوله تعالى : {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم/ بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين.
فإن قالوا : لما كان حصول ذلك الخزي مستلزماً لحصول هذا النصر ، كان إفراده بالذكر عبثاً. فنقول : ليس الأمل كذلك ، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال : {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر. ورابعها : قوله : {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا ، فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر ، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ، ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به ، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس ، وثبات العزيمة. وخامسها : قوله : {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } .
جزء : 16 رقم الصفحة : 7
ولقائل أن يقول : قوله : {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} معناه أنه يشفي من ألم الغيظ. وهذا هو عين إذهاب الغيظ ، فكان قوله : {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } تكرار.
والجواب : أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار ، كما قيل الانتظار الموت الأحمر ، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار ، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله : {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وبين قوله : {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال ، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية ، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب. وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبهم في هذه المعاني لكنها لائقة بطباعهم ، بقي ههنا مباحث :
البحث الأول : أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة ، لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ، ولهذا المعنى جاز أن يقال : الآية واردة فيه.
البحث الثاني : الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخباراً عن الغيب ، والأخبار عن الغيب معجز.
البحث الثالث : هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيماناً حقيقياً. لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ، ومن الحمية لأجل الدين ، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين.
واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة ، فإنه تعالى قال في صفتهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (المائدة : 54) وقال أيضاً : {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 290).
جزء : 16 رقم الصفحة : 7
(1/2185)
ثم قال : {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ } قال الفراء والزجاج : هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله : {قَـاتِلُوهُمْ} لأن قوله : {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ } لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار. قالوا ونظيره : {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } (الشورى : 24) وتم الكلام ههنا ، ثم استأنف فقال : {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ} (الشورى : 24) ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة ، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية. الثاني : أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم ، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب ، الثالث : أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام/ فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال ، فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه. الرابع : قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها ، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خير عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة ، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه ، فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا ، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام : {وَهَبْ لِى مُلْكًا لا يَنابَغِى لاحَدٍ مِّنا بَعْدِى } يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها ، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً ، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة ، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة ، وإنما قال : {عَلَى مَن يَشَآءُ } لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير ، وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله ، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال : {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ } .
جزء : 16 رقم الصفحة : 7
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمُ } أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته {حَكِيمٌ} مصيب في أحكامه وأفعاله.
جزء : 16 رقم الصفحة : 7
8
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد ، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء : قوله : {أَمْ} من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها.
المسألة الثانية : قال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة ، فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل. قال الواحدي : يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع.
المسألة الثالثة : المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين : الأول : أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه المعلوم ، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده ، واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده.
/ واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه. والثاني : قوله : {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِه وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصاً بل يكون منافقاً ، باطنه خلاف ظاهره ، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط ، بل الغرض أن يؤتى به انقياداً لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع ، وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلاً.
(1/2186)
ثم قال : {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء ، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر ، وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } (فصلت : 30 الأحقاف : 130) قال : ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 8
12
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة ، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها / في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة ، فأولها ما ذكره في هذه الآية ، وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية. وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم ، ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسر العباس يوم بدر ، أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم ، وأغلظ له علي. وقال : ألكم محاسن. فقال : نعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة. ونسقي الحاج. ونفك العاني ، فأنزل الله تعالى رداً على العباس {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ} .
المسألة الثانية : عمارة المساجد قسمان : إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال : فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه ، وإما بالعمارة المعروفة في البناء ، فإن كان المراد هو الثاني ، كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد. وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظماً والكافر يهينه ولا يعظمه ، وأيضاً الكافر نجس في الحكم ، لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة : 28) وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى : {أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ} (البقرة : 125) وأيضاً الكافر لا يحترز من النجاسات ، فدخوله في المسجد تلويث للمسجد ، وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين. وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الأنعام على المسلمين ، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين.
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ} على الواحد ، والباقون {مَسَـاجِدَ اللَّهِ} على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو. وقوله : عمارة المسجد الحرام. وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه : الأول : أن يراد المسجد الحرام. وإنما قيل : مساجد. لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فعامره كعامر جميع المساجد. والثاني : أن يقال : {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ} معناه : ما كان للمشركين أن يعمروا شيئاً من مساجد الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها. الثالث : قال الفراء : العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد. أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم. وأما وضع الجمع مكان الواحد. ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد. الرابع : أن المسجد موضع السجود ، فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 12
المسألة الرابعة : قال الواحدي : ذلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين ، ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد ، وإن دخل بغير إذن / مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد ثقيف في المسجد/ وهم كفار. وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر.
(1/2187)
أما قوله تعالى : {شَـاهِدِينَ عَلَى ا أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } قال الزجاج : قوله : {شَـاهِدِينَ} حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر ، وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها : الأول : وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وكل ذلك كفر ، فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر ، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني : قال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، هو أن النصراني إذا قيل له من أنت. فيقول : نصراني. واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول : أنا عابد الوثن ، وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول. الثالث : أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك. الرابع : أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها ، وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام ، فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك. الخامس : أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. السادس : نقل عن ابن عباس : أنه قال : المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر. قال : وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} قال القاضي : هذا الوجه عدول عن الحقيقة ، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته. أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز. وأقول : لو قرأ أحد من السلف {شَـاهِدِينَ عَلَى ا أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } من قولك : زيد نفيس وعمرو أنفس منه ، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر.
ثم قال : {أُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} والمراد منه : ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب ، وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر ، مثل إكرام الوالدين ، وبناء الرباطات ، وإطعام الجائع ، وإكرام الضيف فكل ذلك باطل ، لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر. وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مراراً فلا نعيده.
جزء : 16 رقم الصفحة : 12
ثم قال : {وَفِى النَّارِ هُمْ خَـالِدُونَ} وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار. واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار من وجهين : الأول : أن قوله : {وَفِى النَّارِ هُمْ خَـالِدُونَ} يفيد الحصر ، أي هم فيها خالدون لا غيرهم ، ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار ، ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني : أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم ، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الله لما صح تهديد الكافر به ، ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد ، بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربعة :
الصفة الأولى : قوله : {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه ، فما لم يكن مؤمناً بالله ، امتنع أن يبني موضعاً يعبد الله فيه ، وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة ، فمن أنكر القيامة لم يعبد الله ، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى.
فإن قيل : لم لم يذكر الإيمان برسول الله ؟
قلنا فيه وجوه : الأول : أن المشركين كانوا يقولون : إن محمداً إنما ادعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك/ فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر. الثاني : أنه لما ذكر الصلاة ، والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافياً. الثالث : أنه ذكر الصلاة ، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكان ذكر الصلاة دليلاً على النبوة من هذا الوجه.
الصفة الثانية : قوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ} والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات ، فالإنسان ما لم يكن مقراً بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 12
الصفة الثالثة : قوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ} .
(1/2188)
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه ، وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيماً للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به ، وإذا كان مؤتياً للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به. وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا / الباب أيضاً لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة ، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤدياً للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد.
والصفة الرابعة : قوله : {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } وفيه وجوه : الأول : أن أبا بكر رضي الله عنه بني في أول الإسلام على باب داره مسجداً وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه ، فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة ، يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى. الثاني : يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلاناً يبني مسجداً ، ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ولمجرد تقوية دين الله.
فإن قيل : كيف قال : {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين ؟
قلنا : المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره.
اعلم أنه تعالى قال : {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} أي من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة وكلما {إِنَّمَا} تفيد الحصر وفيه تنبيه على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث وإصلاح مهمات الدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم ، فليس لله بهم حاجة" وفي الحديث "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" قال عليه الصلاة والسلام : قال الله تعالى : "إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره" وعنه عليه الصلاة والسلام : "من ألف المسجد ألفه الله تعالى" وعنه عليه الصلاة والسلام : "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان" وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه" وهذه الأحاديث نقلها صاحب "الكشاف".
جزء : 16 رقم الصفحة : 12
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال : {فَعَسَى ا أولئك أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} وفيه وجوه : الأول : قال المفسرون : {عَسَى} من الله واجب لكونه متعالياً عن الشك والتردد. الثاني : قال أبو مسلم : {عَسَى} ههنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء لقوله تعالى : {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب ، لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد / من القيود المعتبرة في حصول القبول. والثالث : وهو أحسن الوجوه ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها ، فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من الله ، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين ـ لعل وعسى ـ فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء.
جزء : 16 رقم الصفحة : 12
13
في الآية مسائل :
(1/2189)
المسألة الأولى : ذكر المفسرون أقوالاً في نزول الآية. قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن علياً لما أغلظ الكلام للعباس ، قال العباس : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية ، وقيل إن المشركين قالوا لليهود ، نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟
فقالت اليهود لهم أنتم أفضل. وقيل : إن علياً عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه : يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟
فقال : ألست في أفضل من الهجرة ؟
أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام. فلما نزلت هذه الآية قال : ما أراني إلا تارك سقايتنا. فقال عليه الصلاة والسلام : "أقيموا على سقياتكم فإن لكم فيها خيراً" وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ، ولو أردت بت فيه. قال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها. قال علي : أنا صاحب الجهاد. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال المصنف رضي الله عنه : حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال : هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين. أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين : { أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا ا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً / درجة عند الله ، وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله ، وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه. وإما الذين قالوا : إنها جرت بين المسلمين والكافرين ، فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : {كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} وبين من آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي. وتقرير الكلام أن نقول : إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى : {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} أن العباس احتج على فضائل نفسه ، بأنه عمر المسجد الحرام وسقي الحاج. فأجاب الله عنه بوجهين :
جزء : 16 رقم الصفحة : 13
الوجه الأول : ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد ، إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة.
والوجه الثاني : من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية ، وهو أن يقال : هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج ، يوجب نوعاً من أنواع الفضيلة ، إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله ، والجهاد قليل جداً. فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ ، لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جداً بالشيء الحقير التافه جداً ، وأنه باطل ، فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية ، وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية.
واعلم أن السقاية والعمارة فعل ، قوله : {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالذات وأنه محال ، فلا بد من التأويل وهو من وجهين : الأول : أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله ؟
ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير {بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والثاني : أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله ؟
ونظيره قوله تعالى : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (البقرة : 177) إلى قوله : {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} .
المسألة الثالثة : قال الحسن رحمه الله تعالى : كانت السقاية بنبيذ الزبيب ، وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً فكسر منه بالماء ثلاثاً ، وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه ، ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال : {لا يَسْتَوُونَ} ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو ؟
نبه على الراجح بقوله : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم / رضوا بالكفر وكانوا ظالمين ، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه. وأيضاً ظلموا المسجد الحرام ، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعاً لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان ، فكان هذا ظلماً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 13
16
(1/2190)
اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام ، على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية ، فقال : إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة. وتلك الصفات الأربعة هي هذه : فأولها الإيمان ، وثانيها الهجرة ، وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال. ورابعها الجهاد بالنفس ، وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة : الروح ، والبدن ، والمال. أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان ، فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها. وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان ، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان. ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان ، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول ، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال ، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى. فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات / الملائكة ، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الأقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة ؟
فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّه وَ أولئك هُمُ الْفَآاـاِزُونَ} (التوبة : 20).
واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم ، ولما ترك ذكر المرجوح ، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق ، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للأنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات.
جزء : 16 رقم الصفحة : 16
واعلم أن قوله : {عِندَ اللَّهِ} يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته ، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان ، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأنبياء : 19) فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية ، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية ، ولذلك قال : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} .
فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين ، فكيف قال في وصفهم أولئك أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله : {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل : 59) وقوله : {أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} (الصافات : 62) الثاني : أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات ، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى. الثالث : أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر.
(1/2191)
واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر ، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى : {عِندَ رَبِّهِمْ} وهي درجة العندية ، وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا ، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح ، وإزالة / حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا ، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا ، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة. ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها ، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار ، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك ، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض ، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام ، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال ، فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد ، وهو المراد من قوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} وهنا يحق الوقوف في الوصول.
جزء : 16 رقم الصفحة : 16
ثم قال تعالى : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف ، نازلاً إلى الأدون فالأدون ، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين.
أما الأول فنقول : فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان ، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله. وقوله : {وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ} إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله : {فِيهَا نَعِيمٌ} إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة ، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله : {مُّقِيمٌ} عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة. ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات : أولها : {مُّقِيمٌ} وثانيها : قوله : {خَـالِدِينَ فِيهَآ} وثالثها : قوله : {أَبَدًا } فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، وذلك هو حد الثواب. وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة. ومن المتكلمين من قال قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} المراد منه خيرات الدنيا وقوله : {وَرِضْوَانٍ} المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله : {وَجَنَّـاتٍ} المراد منه المنافع وقوله : {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} المراد منه كون تلك النعم خالصة عن المكدرات ، لأن النعيم مبالغة في النعمة / وقوله : {مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب.
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول : المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} .
جزء : 16 رقم الصفحة : 16
(1/2192)
واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين : أحدهما : أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة. والثاني : أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه. وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفاً في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته ، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة ، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الأكرام ، فكذلك ههنا. قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة ، وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضاً درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم ، ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد ، وذلك لأن العبد ما دام مشغولاً بالحق من حيث أنه راحم فهو غير مستغرق في الحق ، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق ، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة ، والنقمة والنعمة ، والبلاء والآلاء ، والمحققون وقفوا عند قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم ، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشراً بالرحمة ، والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وههذ المرتبة هي النازلة عند المحققين. واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة. أولها : أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان. والثاني : أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله ، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين ، وجب أن تكون البشرة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها. والثالث : أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال : الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة. والرابع : أنه تعالى قال : {رَبُّهُم} فأضاف نفسه إليهم ، وما أضافهم إلى نفسه. والخامس : أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} والسادس : أن البشارة هي الأخبار عن حدوث / شيء ما كان معلوم الوقوع ، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ، ألا ترى أن الفقهاء قالوا : لو أن رجلاً قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر ، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق ، والذين يخبرون بعده لا يعتقون. وإذا كان الأمر كذلك فقوله : {يُبَشِّرُهُمْ} لا بد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك ، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن ، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها البتة. رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 16
واعلم أنه تعالى لما قال : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور : أولها : قوله : {بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} وثانيها : قوله : {وَرِضْوَانٍ} وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 28) والرحمة كون العبد راضياً بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله ، لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير.
(1/2193)
فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير ، أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن ، ومن السرور إلى الغم ، ومن الصحة إلى الجراحة ، ومن اللذة إلى الألم ، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله : {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ، ويجعله راضياً بقضائه. ثم إنه تعالى يصير راضياً. وهو قوله : {وَرِضْوَانٍ} وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله : {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية ، وهي قوله : {وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } وقد سبق شرح هذه المراتب ، ولما ذكر هذه الأحوال قال : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ} والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال ، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية ، وهي قوله تعالى : {خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } ولو كان الخلود يفيد التأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز.
جزء : 16 رقم الصفحة : 16
17
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جواباً عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافراً والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلماً ، وحصول المقاصعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع ، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها ، كالشاق الممتنع المتعذر ، فذكر الله تعالى هذه الآية ليزل هذه الشبهة. ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفاراً ، قال المصنف رضي الله عنه : هذا مشكل ، لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة ، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه ؟
والأقرب عندي أن يكون محمولاً على ما ذكرته ، وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه ، قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه ، فذكر الله تعالى : أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله : {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الايمَـانِ } والاستحباب طلب المحبة يقال : استحب له ، بمعنى أحبه ، كأنه طلب محبته. ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم ، وكان لفظ النهي ، يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم ، ذكر ما يزيل الشبهة فقال : {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} قال ابن عباس : يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم ، والرضا بالكفر كفر ، كما أن الرضا بالفسق فسق. قال القاضي : هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا ، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله.
جزء : 16 رقم الصفحة : 17
18
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى ، وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله ، كيف يمكن البراءة منهم بالكلية ؟
وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا ، وهلاك أموالنا وخراب ديارنا ، وإبقاءنا ضائعين. فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً ، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله ، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره ، أي بعقوبة عاجلة أو آجلة ، والمقصود منه الوعيد.
ثم قال : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضاً تهديد ، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا ، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. قال الواحدي : قوله : {وَعَشِيرَتُكُمْ} عشيرة الرجل أهله الأدنون ، وهم الذين يعاشرونه ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالجمع والباقون على الواحد. أما من قرأ بالجمع ، فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة ، فإذا جمعت قلت : عشيراتكم. ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها ، ويقوي ذلك أن الأخفش قال : لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر ، وقوله : {وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} الاقتراف الاكتساب.
(1/2194)
واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار ، وهى أمور أربعة : أولها : مخالطة الأقارب ، وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج ، ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل ، وهي لفظ العشيرة. وثانيها : الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة. وثالثها : الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة. ورابعها : الرغبة في المساكن ، ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن ، فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة. ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة. ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة ، وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى ، فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب ، وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.
جزء : 16 رقم الصفحة : 18
20
وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والأخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن ، رعاية لمصالح الدين ، ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جداً على النفوس والقلوب ، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضاً ، وضرب تعالى لهذا مثلاً ، وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة ، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار ، وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه ، فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن ، لأجل مصلحة الدين وتصبيراً لهم عليها ، ووعداً لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه ، هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن.
المسألة الثانية : قال الواحدي : النصر : المعونة على العدو خاصة ، والمواطن جمع موطن ، وهو / كل موضع أقام به الإنسان لأمر ، فعلى هذا : مواطن الحرب مقاماتها مواقفها. وامتناعها من الصرف لأنه جمع على صيغة لم يأت عليها واحد ، والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله. ويقال : إنها ثمانون موطناً ، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين ، ومن نصره الله فلا غالب له.
ثم قال : {وَيَوْمَ حُنَيْنٍا إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم.
المسألة الثالثة : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكة ، وقد بقيت أيام من شهر رمضان ، خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عطاء عن ابن عباس : كانوا ستة عشر ألفاً ، وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفاً عشرة آلاف الذين حضروا مكة ، وألفان من الطلقاء. وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف. وبالجملة فكانوا عدداً كثيرين ، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، فلما التلقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي المراد من قوله : {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وقيل إنه قالها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعيد ، لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها.
جزء : 16 رقم الصفحة : 20
(1/2195)
ثم قال تعالى : {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـاًا} ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله : {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـاًا} أي لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم/ وإنما يغلبون بنصر الله ، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ، وقوله : {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ} يقال رحب يرحب رحباً ورحابة ، فقوله : {بِمَا رَحُبَتْ} أي برحبها ، ومعناه مع رحبها "فما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر ، والمعنى : أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لفراركم عن عدوكم. قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث. قال البراء : والذي إله إلا هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم دبره قط ، قال : ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب ، والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول : "أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب" وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي ، وكانت بغلته شهباء ، ثم قال للعباس : ناد المهاجرين والأنصار ، وكان العباس رجلاً صيتاً ، فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فجاء / المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده كفاً من الحصى فرماهم بها وقال : "شاهت الوجوه" فما زال أمرهم مدبراً ، وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله تعالى ، ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ، فذلك قوله : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع ، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أموراً ثلاثة : أحدها : إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس ، ويوجب الأمنة والطمأنينة ، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك ، وإذا أمن سكن وثبت ، فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.
واعلم أن قوله تعالى : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي ، ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى.
جزء : 16 رقم الصفحة : 20
أما بيان الأول : فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم ، فلا جرم لم يحصل السكون والثبات ، بل فر القوم وانهزموا. ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية.
وأما بيان الثاني : وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح.
قوله تعالى : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه } والعقل أيضاً دل عليه ، وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد ، لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل ، وهو محال.
ثم قال تعالى : {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم ، ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة ، وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر ، وقال سعيد بن جبير : أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة. ولعله إنما ذكر هذا العدد قياساً على يوم بدر ، وقال سعيد بن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه حسان ، فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، وأيضاً اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم ؟
والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر. وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
/ ثم قال تعالى : {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا } وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم ، والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم. واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله ، لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر. وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله : {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه } يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلاً بيناً ثابتاً ، وفي هذه المسألة قالت المعتزلة : إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره ، وقد سبق جوابه غير مرة.
(1/2196)
ثم قال : {وَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ} والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين ، واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا } قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه. فنقول : في الجواب عنه الجزاء ليس اسماً للكافي ، وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء ، مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 20
ثم قال الله تعالى : {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنا بَعْدِ ذَالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ } يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن الله تعالى قد يتوب عليهم. قال أصحابنا : إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام. قال القاضي : معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى ، إذا أسلموا وتابوا فإن الله تعالى يقبل توبتهم ، وهذا ضعيف لأن قوله تعالى : {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ} ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت لهم من قبل الله تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله : {فَتَابَ عَلَيْه } ثم قال : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لمن تاب ، رحيم لمن آمن وعمل صالحاً. والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 20
23
/ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة ، أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برىء من المشركين ورسوله ، قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} (التوبة : 28) أي فقراً وحاجة {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } فهذا وجه النظم وهو حسن موافق.
المسألة الثانية : قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان. وقال قوم : بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة ، وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة ، والذي يفيد ههنا التمسك بقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 116) ومعلوم أنه باطل.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً ، ومعناه ذو نجس. وقال الليث : النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء ، ورجل نجس ، وقوم أنجاس ، ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس. واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب "الكشاف" عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ ، وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية ، وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 23
واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل. واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام. والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه : بأن القرآن أقوى من خبر الواحد ، وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين : الأول : أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى ، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله ، فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى. الثاني : أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا : إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان. أما إذا قلنا : إنه كان حلالاً بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة ، فوجب أن يكون هذا أولى. أما قول القاضي : لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام. فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح ، وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب / يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر ، فهذا تقرير هذا القول ، وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه ، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه : الأول : قال ابن عباس وقتادة : معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث. الثاني : المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه ، الثالث : أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء.
واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل.
(1/2197)
المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم : أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس. ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسن بن زياد : أنه نجس نجاسة غليظة ، وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 23
واعلم أن قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} يدل على فساد هذا القول ، لأن كلمة "إنما" للحصر ، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك ، فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس ، ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس ، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة : والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، وهذا من العجائب ، ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام : "المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً" فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن ، ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن ، والأخبار في هذا الباب ، لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كانت يده رطبة. فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده. ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب ، فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته ، وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة ، وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام ، قال الله تعالى في صفة أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار. وقال في صفة مريم : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاكِ وَطَهَّرَكِ} والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة.
وإذا ثبت هذا فنقول : جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام / والأوزار ، فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى ، فما الذي حملنا على مخالفته ، والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية.
المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة ، وعند مالك : يمنعون من كل المساجد ، وعند أبي حنيفة رحمه الله : لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد ، والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله ، وبمفهومها تبطل قول مالك ، أو نقول الأصل عدم المنع ، وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع ، فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 23
المسألة السادسة : اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم ؟
والأقرب هو هذا الثاني. والدليل عليه قوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة ، وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم ، وهذا استدلال حسن من الآية ، ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا} (الإسراء : 1) مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب".
واعلم أن أصحابنا قالوا : الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة ، فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة ، وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً ، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن.
المسألة السابعة : لا شبهة في أن المراد بقوله : {بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا } السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين ، وهي السنة التاسعة من الهجرة.
ثم قال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} والعيلة الفقر. يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً : الأول : قال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار. والثاني : قال الحسن : جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك. وقيل : أغناهم بالفيء. الثالث : قال عكرمة : أنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم.
(1/2198)
/ المسألة الثانية : قوله : {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة ، وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة.
ثم قال تعالى : {إِن شَآءَ } ولسائل أن يسأل فيقول : الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة ، وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود ، وجوابه من وجوه الأول : أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب ، فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات. الثاني : أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب ، كما في قوله : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ} الثالث : أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور ، لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه : {وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ} (البقرة : 126) وكلمة "من" تفيد التبعيض. فقوله تعالى في هذه الآية : {إِن شَآءَ } المراد منه ذلك التبعيض.
جزء : 16 رقم الصفحة : 23
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالكم ، وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب ، والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 23
27
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، وأورد الإشكالات التي ذكروها ، وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية ، فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة ، وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا ، أو إلى أن يعطوا الجزية.
/ فالصفة الأولى : أنهم لا يؤمنون بالله. واعلم أن القوم يقولون : نحن نؤمن بالله ، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة ، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه. فأما الموجود الذي لا يكون جسماً ولا حالاً فيه فهو منكر له ، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالاً في جسم ، فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله. فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله.
فإن قيل : فاليهود قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود ؟
قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال : لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وأما النصارى : فهم يقولون : بالأب والابن وروح القدس ؛ والحلول والاتحاد ، وكل ذلك ينافي الإلهية.
فإن قيل : حاصل الكلام : أن كل من نازع في صفة من صفات الله ، كان منكراً لوجود الله تعالى ، وحينئذ يلزم أن تقولوا : إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى ، لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى. ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً شديداً في هذا الباب ، فالأشعري أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت إدراك الطعوم ، وإدراك الروائح ، وإدراك الحرارة والبرودة ، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس ، والأستاذ أبو إسحق أنكره ، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالاً سبعة معللة بتلك الصفات ، ونفاة الأحوال أنكروه ، وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ، ثم صار ذلك في الإنزال ، والباقون أنكروه ، وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات ، في الأمر ، والنهي ، والخبر ، والاستخبار ، والنداء ، والمشهور أن كلام الله تعالى واحد ، واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا ؟
فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة ، وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى ، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 27
(1/2199)
إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجباً إنكار الذات أو لا يوجب ذلك ؟
فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال : إنهم أنكروا الإله ، وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله ، وأيضاً فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى ، وحشوية المسلمين يقولون : إن من قرأ / كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى/ وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارىء وفي لسان جميع القراء ، وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى. وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن ، وفي كل جسم كتب فيه القرآن ، فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب ، وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله ، فهذا تقرير هذا السؤال.
والجواب : أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى ، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم ، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى ، فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة ، بل في الذات ، فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة ، فظهر الفرق. وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية ، فنحن نكفرهم قطعاً ، فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة {اللَّهِ} في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة {اللَّهِ} في ألسنة جميع من قرأ القرآن ، وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن ، فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير ، فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجباً للقول بالتكفير كان أولى.
والصفة الثانية : من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر.
واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى : إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني.
واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية ، ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها ، إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية ، ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة ، بحيث يأكلون ويشربون ، وبالجواري يتمتعون ، ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني ، فقد أنكر صريح القرآن ، ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى ، ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 27
الصفة الثالثة : من صفاتهم قوله تعالى : {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُه } وفيه وجهان : الأول : أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول. والثاني : قال أبو روق : لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.
الصفة الرابعة : قوله : {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} يقال : فلان يدين بكذا ، إذا اتخذه ديناً فهو معتقده ، فقوله : {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي لا يعتقدون في صحة دين / الإسلام الذي هو الدين الحق ، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال : {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب ، والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم ، لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية.
ثم قال تعالى : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـاغِرُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده ، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه ، واختلفوا في قوله : {عَن يَدٍ} قال صاحب "الكشاف" قوله : {عَن يَدٍ} إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ، ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون المراد {عَن يَدٍ} مؤاتية غير ممتنعة ، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك يقال : أعطى يده إذا انقاد وأطاع ، ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة من عنقه. وثانيهما : أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد ، بل على يد المعطي إلى يد الآخذ. وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضاً وجهان : الأول : أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول : اليد في هذا لفلان. وثانيهما : أن يكون المراد عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة.
(1/2200)
وأما قوله : {وَهُمْ صَـاغِرُونَ} فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس. ويؤخذ بلحيته ، فيقال له : أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه ، فهذا معنى الصغار. وقيل : معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية ، وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 27
الحكم الأول
استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله : {قَـاتِلُوهُمْ} يقتضي إيجاب مقاتلتهم ، وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم ، فلما قال : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـاغِرُونَ} علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية ، ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه ، فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه ، فقد ارتفع ذلك المجموع ، ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع.
/ إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم ، لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم ، فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان.
الحكم الثاني
الكفار فريقان ، فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ، ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ، وفريق هم أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون ، وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا ، والمجوس أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه السلام : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وروى أنه صلى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر ، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية ، وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة ، وهي قوله تعالى : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُه وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ} قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله : {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز.
الحكم الثالث
في قدر الجزية. قال أنس : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. قال أصحابنا : وأقل الجزية دينار ، ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي ، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين ، وعلى الغني أربعة دنانير ، والدليل على ما ذكرنا : أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} يدل على أخذ شيء ، فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل ، فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة ، فوجب أن يبقى عليها.
جزء : 16 رقم الصفحة : 27
الحكم الرابع
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها.
/ الحكم الخامس
تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "ليس على المسلم جزية" وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط.
الحكم السادس
قال أصحابنا : هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضاً مكناهم من أيديهم ، فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى. والله أعلم. وبقي ههنا سؤالان :
السؤال الأول : كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى. قوله : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا * وَمَا يَنابَغِى لِلرَّحْمَـانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} (مريم : 90 ـ 92) فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد ، ثم إنه لما أخذ منهم ديناراً واحداً قررهم عليه وما منعهم منه.
والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر ، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله ، فينتقل من الكفر إلى الإيمان.
السؤال الثاني : هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا ؟
(1/2201)
والجواب : أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار ، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته ، ويشاهد الذل والصغار في الكفر ، فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام ، فهذا هو المقصود من شرع الجزية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 27
30
/ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ، شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ، ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله ، وأيضاً بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك ، وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً ، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك ، بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى ، لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله. أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جداً ، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين ، وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم ، لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى ، وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل ، فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق ، حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم ، وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين.
المسألة الثانية : في قوله : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} أقوال : الأول : قال عبيد بن عمير : إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. الثاني : قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة : أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهم : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، ومالك بن الصيف ، وقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أن عزيراً ابن الله ، فنزلت هذه الآية. وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ، يقال فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحداً منها ، وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحداً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 30
(1/2202)
والقول الثالث : لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك ، فإن حكاية الله عنهم أصدق. والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به ، فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه ، فقالوا ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله ، وقال الكلبي : قتل بختنصر علماءهم فلم يبق / فيهم أحد يعرف التوراة. وقال السدي : العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة ، فهذا ما قيل في هذا الباب. وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون : المسيح ابن الله ، فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي ، وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة ، فإن هذا أفحش أنواع الكفر ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام ؟
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد ، وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام ؟
فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال : أن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعاً من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، وإني أحتال فأضلهم ، فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور ، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت ، وقال : ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله ، وعلم رجلاً آخر يقال له يعقوب ذلك ، ثم دعا رجلاً يقال له ملكاً فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني ، وإني غداً أذبح نفس لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ، ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه ، فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى ، هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى ، والأقرب عندي أن يقال لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف ، كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف ، ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني ، فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية. والجهال ، قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام ، والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 16 رقم الصفحة : 30
المسألة الثالثة : قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو {عُزَيْرٌ} بالتنوين والباقون بغير التنوين. قال الزجاج : الوجه إثبات التنوين. فقوله : {عُزَيْرٌ} مبتدأ وقوله : {ابْنُ اللَّهِ} خبره ، وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة لأن عزيراً ينصرف سواء كان أعجمياً أو عربياً ، وسبب كونه منصرفاً أمران : أحدهما : أنه اسم خفيف فينصرف ، وإن كان أعجمياً كهود ولوط / والثاني : أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر ، وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أنه أعجمي ومعرفة ، فوجب أن لا ينصرف.
الوجه الثاني : أن قوله : {ابْنُ} صفة والخبر محذوف. والتقدير : عزير ابن الله معبودنا ، وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب "دلائل الإعجاز" ، وقال الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر ، وصار ذلك الوصف مسلماً. فلما كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن الله معبودنا ، لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم ، وحصل كونه ابناً لله ، ومعلوم أن ذلك كفر ، وهذا الطعن عندي ضعيف. أما قوله إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر ، توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم. وأما قوله : ويكون ذلك تسليماً لذلك الوصف فهذا ممنوع ، لأنه لا يلزم من كونه مكذباً لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه ، وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام.
الوجه الثالث : قال الفراء : نون التنوين ساكنة من عزير ، والباء في قوله : {ابْنُ اللَّهِ} ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين ، فحذف نون التنوين للتخفيف ، وأنشد الفراء :
فألفيته غير مستعتب
ولا ذاكر الله إلا قليلاً
واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال : {ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } .
(1/2203)
ولقائل أن يقول : إن كل قول إنما يقال بالفم. فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة.
والجواب من وجوه : الأول : أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه ، والحاصل أنهم قالوا باللسان قولاً ، ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر ، لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ، ليس عند العقل منه أثر. ونظيره قوله تعالى : {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } (آل عمران : 167) والثاني : أن الإنسان قد يختار مذهباً إما على سبيل الكناية وإما على سبيل الرمز والتعريض ، فإذا صرح به وذكره بلسانه ، فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب ، والنهاية في كونه ذاهباً إليه قائلاً به. والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة. والثالث : أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواة والألسنة ، والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 30
ثم قال تعالى : {يُضَـاه ُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية وجوه : الأول : أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات الله. الثاني : أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم. الثالث : أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم ، فهو غير مستحدث.
المسألة الثانية : المضاهاة : المشابهة. قال الفراء يقال ضاهيته ضهياً ومضاهاة ، هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة. وقال شمر : المضاهاة : المتابعة ، يقال : فلان يضاهي فلاناً أي يتابعه.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم بالهمزة وبكسر الهاء ، والباقون بغير همزة وضم الهاء ، يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت. وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصماً أحد على الهمزة.
ثم قال تعالى : {قَبْلُا قَـاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعاً ، قاتلهم الله ما أعجب فعلهم أنى يؤفكون الأفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير ، أي قلب وصرف ، ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير. فقوله تعالى : {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل ، حتى يجعلوا لله ولداً! وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق ، والله تعالى لا يتعجب من شيء ، ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم ، والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 30
31
واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا } وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قال أبو عبيدة : الأحبار : الفقهاء ، واختلفوا في واحده ، فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر. وقال الأصمعي : لا أدري أهو الحبر أو الحبر ؟
وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير ، وينكر الكسر ، وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذمياً كان أو مسلماً ، بعد أن يكون من أهل الكتاب. وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني ، ويحسن البيان عنها. والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال ، صار الأحبار مختصاً بعلماء اليهود من ولد هرون ، والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع.
المسألة الثانية : الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهو يقرأ سورة براءة ، فوصل إلى هذه الآية ، قال : فقلت : لسنا نعبدهم فقال : "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه" فقلت : بلى قال : "فتلك عبادتهم" وقال الربيع : قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟
فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى. قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا.
(1/2204)
جزء : 16 رقم الصفحة : 31
فإن قيل : إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره ، كما هو قول الخوارج.
والجواب : أن الفاسق ، وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه ، ويستخف به. أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم ، فظهر الفرق.
والقول الثاني : في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم ، فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد ، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين ، فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون ، وشاهدت بعض المزورين ممن كان / بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له ، وكان يقول لهم أنتم عبيدي ، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه ، فربما ادعى الإلهية ، فإذا كان مشاهداً في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة ؟
وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله ، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر/ فكفروا بالله ، فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله ، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد. وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة.
ثم قال تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا } ومعناه ظاهر ، وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك.
ثم قال : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا سُبْحَـانَه عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف ، وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً ومعبوداً ، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال.
جزء : 16 رقم الصفحة : 31
32
اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى ، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلّم ، وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه ، والمراد من النور : الدلائل الدالة على صحة نبوته ، وهي أمور كثيرة جداً. أحدها : المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده ، فإن المعجز إما أن يكون دليلاً على الصدق أو لا يكون ، فإن كان دليلاً على الصدق ، فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق ، فوجب كون محمد صلى الله عليه وسلّم صادقاً ، وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام. وثانيها : القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب ، وذلك من أعظم المعجزات. وثالثها : أن / حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه ، والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا ، والترغيب في سعادات الآخرة. والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه. ورابعها : أن شرعه كان خالياً عن جميع العيوب ، فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله ، وليس فيه دعوة إلى غير الله ، وقد ملك البلاد العظيمة ، وما غير طريقته في استحقار الدنيا ، وعدم الالتفات إليها ، ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك ، فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله ، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة ، وأنواع كيدهم ومكرهم ، أرادوا إبطال هذه الدلائل ، فكان هذا جارياً مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها ، وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع ، فكذا ههنا ، فهذا هو المراد من قوله : {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} ثم إنه تعالى وعد محمداً صلى الله عليه وسلّم مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال : {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَه وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} .
فإن قيل : كيف جاز أبى الله إلا كذا ، ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً ؟
قلنا : أجرى {أَبَى } مجرى لم يرد ، والتقدير : ما أراد الله إلا ذلك ، إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم : "وإن أرادوا ظلمنا أبينا" فامتدح بذلك ، ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم ، لأن ذلك يصح من القوي والضعيف ، ويقال : فلان أبى الضيم ، والمعنى ما ذكرناه ، وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب. فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان.
جزء : 16 رقم الصفحة : 32
33
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلّم وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره ، بين كيفية ذلك الإتمام فقال : {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} .
(1/2205)
/ واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور : أولها : كثرة الدلائل والمعجزات ، وهو المراد من قوله : {أَرْسَلَ رَسُولَه بِالْهُدَى } وثانيها : كون دينه مشتملاً على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة ، وهو المراد من قوله : {وَدِينِ الْحَقِّ} وثالثها : صيرورة دينه مستعلياً على سائر الأديان غالباً عليها غالباً لأضدادها قاهراً لمنكريها ، وهو المراد من قوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } .
واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة ، وقد يكون بالكثرة والوفور ، وقد يكون بالغلبة والاستيلاء ، ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك ، ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل ، وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم ، فالواجب حمله على الظهور بالغلبة.
فإن قيل : ظاهر قوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } يقتضي كونه غالباً لكل الأديان ، وليس الأمر كذلك ، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين والروم ، وسائر أراضي الكفرة.
قلنا أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : أنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع ، وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم ، فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند ، وكذلك سائر الأديان. فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد وقع وحصل وكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
الوجه الثاني : في الجواب أن نقول : روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان. وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى ، وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الخراج.
جزء : 16 رقم الصفحة : 33
الوجه الثالث : المراد : ليظهر الإسلام على الدين كله في جزيرة العرب ، وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار.
الوجه الرابع : أن المراد من قوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء.
الوجه الخامس : أن المراد من قوله : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } بالحجة والبيان إلا أن هذا ضعيف ؛ لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله. والتقوية بالحجة والبيان كانت حاصلة من أول الأمر ، ويمكن أن يجاب عنه بأن في مبدأ الأمر كثرت الشبهات بسبب ضعف المؤمنين / واستيلاء الكفار ، ومنع الكفار سائر الناس من التأمل في تلك الدلائل. أما بعد قوة دولة الإسلام عجزت الكفار فضعفت الشبهات ، فقوي ظهور دلائل الإسلام ، فكان المراد من تلك البشارة هذه الزيادة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 33
40
اعلم أنه تعالى لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق ، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس ، تنبيهاً على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر ، أخذ أموال الناس بالباطل ، ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد عرفت أن الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى بحسب العرف ، فالله تعالى حكى عن كثير منهم أنهم ليأكلون أموال الناس بالباطل ، وفيه أبحاث :
البحث الأول : أنه تعالى قيد ذلك بقوله : {كَثِيرًا} ليدل بذلك على أن هذه الطريقة طريقة / بعضهم لا طريقة الكل ، فإن العالم لا يخلو عن الحق وإطباق الكل على الباطل كالممتنع هذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل ، فكذلك سائر الأمم.
البحث الثاني : أنه تعالى عبر عن أخذ الأموال بالأكل وهو قوله : {لَيَأْكُلُونَ} والسبب في هذه الاستعارة ، أن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده ، أو يقال من أكل شيئاً فقد ضمنه إلى نفسه ومنعه من الوصول إلى غيره ، ومن جمع المال فقد ضم تلك الأموال إلى نفسه ، ومنعها من الوصول إلى غيره ، فلما حصلت المشابهة بين الأكل وبين الأخذ من هذا الوجه ، سمى الأخذ بالأكل. أو يقال : إن من أخذ أموال الناس ، فإذا طولب بردها ، قال أكلتها وما بقيت ، فلا أقدر على ردها ، فلهذا السبب سمى الأخذ بالأكل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
(1/2206)
البحث الثالث : أنه قال : {لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ} وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه : الأول : أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع. والثاني : أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم ، أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم ، وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. الثالث : التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم ، فأولئك الأحبار والرهبان ، كانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ، ويحملونها على محامل باطلة ، وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب ، ويأخذون الرشوة. والرابع : أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه. فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجب. ثم قالوا : ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواماً عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم ، فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم ، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس ، وهي بأسرها حاضرة في زماننا/ وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق.
ثم قال : {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان ، وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع.
قال المصنف رضي الله عنه : غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه ، فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين ، فالمال هو المراد بقوله : {لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ} وأما الجاه فهو المراد بقوله : {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } فإنهم لو أقروا بأن محمداً على الحق لزمهم / متابعته ، وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة ، وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح.
ثم قال : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {وَالَّذِينَ} احتمالات ثلاثة : لأنه يحتمل أن يكون المراد بقوله : {الَّذِينَ} أولئك الأحبار والرهبان ، ويحتمل أن يكون المراد كلاماً مبتدأ على ما قال بعضهم المراد منه مانعو الزكاة من المسلمين ، ويحتمل أن يكون المراد منه كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين ، فلا شك أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة ، وروي عن زيد بن وهب قال : مررت بأبي ذر فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد ؟
فقال : كنت بالشام فقرأت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فقال معاوية : هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فقلت : إنها فيهم وفينا ، فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبينه ، فكتب إلى عثمان أن أقبل إلي ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني ، كأنهم لم يروني من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنح قريباً إني والله لن أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف ، قال : لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول : بشر الكافرين برضف يحمى عليه في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى تخرج من نغض كتفه حتى يرفض بدنه ، وتوضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه ، فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم : فقال ما عسى أن يصنع في قريش.
قال مولانا رضي الله عنه : إن كان المراد تخصيص هذا الوعيد بمن سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب ، كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله : {لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ} ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع عن إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} وإن كان المراد مانعي الزكاة من المؤمنين ، كان التقدير أنه تعالى وصف قبح طريقتهم في الحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ، ثم ندب المسلمين إلى إخراج الحقوق الواجبة من أموالهم ، وبين ما في تركه من الوعيد الشديد ، وإن كان المراد الكل ، كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ، ثم أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله. تنبيهاً على أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك / فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والتزوير والمكر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
(1/2207)
المسألة الثانية : أصل الكنز في كلام العرب هو الجمع ، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز/ يقال : هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء ، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤد زكاته ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض ، وقال جابر : إذا أخرجت الصدقة من تلك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وقال ابن عباس : في قوله : {وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم. قال القاضي : تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه ، بل الواجب أن يقال : الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات ، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة ، وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلاً في الوعيد.
والقول الثاني : أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم ، سواء أديت زكاته أو لم تؤد. واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور : الأول : عموم قوله تعالى : {لَهَا مَا كَسَبَتْ} فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه. وكذا قوله تعالى : {وَلا يَسْـاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (محمد : 36) وقوله عليه الصلاة والسلام : "نعم المال الصالح للرجل الصالح" وقوله عليه السلام : "كل امرىء أحق بكسبه" وقوله عليه السلام : "ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز" وإن كان ظاهراً. الثاني : أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين. الثالث : أنه عليه السلام ندب إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ، ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله ، بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك. واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه : الأول : عموم هذه الآية ، ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال ، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية ، فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل. والثاني : ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "تباً للذهب تباً للفضة ، قالها ثلاثاً ، فقالوا له أي مال نتخذ ؟
قال : لساناً ذاكراً ، وقلباً خاشعاً ، وزوجة تعين أحدكم على دينه. وقال عليه السلام : "من برك صفراء أو بيضاء كوى بها ، وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار. فقال / عليه السلام : "كية" وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام : "كيتان" والثالث : ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي : كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد ، وعن أبي هريرة كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز. وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن العسير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ويقول جاءت القطار تحمل النار وبشر الكنازين بكى في الجباه والجنوب والظهور والبطون. والرابع : أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات ، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها ، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعاً من ظهور حكمته ومانعاً من وصول إحسان الله إلى عبيده.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع ، فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى/ أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه :
الوجه الأول : أن الإنسان إذا أحب شيئاً فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر ، كان حبه له أشد وميله أقوى. فالإنسان إذا كان فقيراً فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة ، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة ، فصار ميله أشد ، فكلما صارت أمواله أزيد ، كان التذاذه به أكثر وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد ، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب ، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد ، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس. وأيضاً قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد ، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص ، لقد كان الأنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد. أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشىء من الحرص أكبر ، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب ، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال :
(1/2208)
رأى الأمر يفضي إلى آخر
فيصير آخره أولاً
والوجه الثاني : أن كسب المال شاق شديد ، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب ، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل ، وأخرى في تعب الحفظ ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات ، وذلك هو الخسران المبين.
والوجه الثالث : أن كثرة المال والجاه ثورت الطغيان ، كما قال تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ، ويوقعه في الخسران والخذلان.
الوجه الرابع : أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه.
فإن قيل : لم قال عليه السلام : "اليد العليا خير من اليد السفلى".
قلنا : اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية ، لأنه أعطى ذلك القليل ، فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية ، وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليل حصلت المرجوحية.
المسألة الثالثة : جاءت الأخبار الكثيرة في وعيد مانعي الزكاة ، أما منع زكاة النقود فقوله في هذه الآية : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} وأما منع زكاة المواشي فما روي في الحديث أنه تعالى يعذب أصحاب المواشي إذا لم يؤدوا زكاتها بأن يسوق إليه تلك المواشي كأعظم ما تكون في أجسامها فتمر على أربابها فتطؤهم بأظلافها وتنطحهم بقرونها كلما نفدت أخراها عادت إليهم أولاها فلا يزال كذلك حتى يفرغ الناس من الحساب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
المسألة الرابعة : الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
فإن قيل : هذا الوعيد إنما يتناول الرجال لا النساء.
قلنا : نتكلم في الرجل الذي اتخذ الحلي لنسائه ، وأيضاً ترتيب هذا الوعيد على جمع الذهب والفضة حكم مرتب على وصف يناسبه ، وهو أن جمع ذلك المال يمنعه من صرفه إلى المحتاجين مع أنه لا حاجة إليه ، إذ لو احتاج إلى إنفاقه لما قدر على جمعه ، وإقدام غير المحتاج على منع المال من المحتاج يناسب أن يمنع منه ، فثبت أن هذا الوعيد مرتب على وصف يناسبه ، والحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يجب كونه معللاً به ، فثبت أن هذا الوعيد لذلك الجمع ، فأينما حصل ذلك الوصف وجب أن يحصل معه ذلك الوعيد ، وأيضاً أن العمومات الواردة في إيجاب الزكاة موجودة في الحلي المباح قال عليه السلام : "هاتوا ربع عشر أموالكم" وقال : "في الرقة ربع العشر" وقال : "يا علي عليك زكاة ، فإذا ملكت عشرين مثقالاً ، فأخرج نصف مثقال" وقال : "ليس في المال حق سوى الزكاة وقال لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح ، ثم نقول ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب ، وهو ظاهر لأنه ليس في القرآن ما يدل على أنه زكاة في الحلي المباح ، ولم يوجد في الأخبار أيضاً معارض إلا أن / أصحابنا نقلوا فيه خبراً ، وهو قوله عليه السلام : "لا زكاة في الحلي المباح" إلا أن أبا عيسى الترمذي قال : لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحلي خبر صحيح ، وأيضاً بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلىء لأنه قال : لا زكاة في الحلي ، ولفظ الحلي مفرد محلى بالألف واللام ، وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق ، وجب انصرافه إليه والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلىء. قال تعالى : {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (النحل : 14) وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلىء ، فسقطت دلالته ، وأيضاً الاحتياط في القول بوجوب الزكاة ، وأيضاً لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس ، لأن النص خير من القياس. فثبت أن الحق ما ذكرناه.
المسألة الخامسة : أنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة.
ثم قال : {وَلا يُنفِقُونَهَا} وفيه وجهان : الأول : أن الضمير عائد إلى المعنى من وجوه : أحدها : أن كل واحد منهما جملة وآنية دنانير ودراهم ، فهو كقوله تعالى : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (الحجرات : 9) وثانيها : أن يكون التقدير ، ولا ينفقون الكنوز. وثالثها : قال الزجاج : التقدير : ولا ينفقون تلك الأموال.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
(1/2209)
الوجه الثاني : أن يكون الضمير عائداً إلى اللفظ وفيه وجوه : أحدها : أن يكون التقدير ولا ينفقون الفضة ، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء ، وفي كونهما جوهرين شريفين ، وفي كونهما مقصودين بالكنز ، فلما كانا متشاركين في أكثر الصفات كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر. وثانيها : أن ذكر أحدهما قد يغني عن الآخر كقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَـارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} (الجمعة : 11) جعل الضمير للتجارة. وقال : {وَمَن يَكْسِبْ خَطِى ـاَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِه بَرِى ـاًا} (النساء : 112) فجعل الضمير للإثم. وثالثها : أن يكون التقدير : ولا ينفقونها والذهب كذلك كما أن معنى قوله :
وإني وقيار بها لغريب
أي وقيا كذلك.
فإن قيل : ما السبب في أن خصا بالذكر من بين سائر الأموال ؟
قلنا : لأنهما الأصل المعتبر في الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الذين يكنزون الذهب والفضة. قال : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوسلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة. فقيل هذا هو الفرج كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس / إلا الشتم ، وأيضاً فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب ، فيتغير بسببه لون بشرة الوجه ، وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم.
ثم قال تعالى : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم } هذا ما كنزتم لأنفسكم ، وفي قراءة أبي وفيه سؤالات :
السؤال الأول : لا يقال أحميت على الحديد ، بل يقال : أحميت الحديد فما الفائدة في قوله : {أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} .
والجواب : ليس المراد أن تلك الأموال تحمى على النار ، بل المراد أن النار تحمى على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة ، أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد ، وهو مأخوذ من قوله : {نَارٌ حَامِيَةُ } ولو قيل يوم تحمى لم يفد هذه الفائدة.
فإن قالوا : لما كان المراد يوم تحمى النار عليها ، فلم ذكر الفعل ؟
فلنا : لأن النار تأنيثها لفظي ، والفعل غير مسند في الظاهر إليه ، بل إلى قوله : {عَلَيْهَا} فلا جرم حسن التذكير والتأنيث وعن ابن عامر أنه قرأ بالتاء.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
السؤال الثاني : ما الناصب لقوله : {لايِّ يَوْمٍ} .
الجواب : التقدير فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها.
السؤال الثالث : لم خصت هذه الأعضاء ؟
والجواب لوجوه : أحدها : أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه ، وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان ، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم ، فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة ، لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور. وثانيها : أن هذه الأعضاء الثلاثة مجوفة ، قد حصل في داخلها آلات ضعيفة يعظم تألمها بسبب وصول أدنى أثر إليها بخلاف سائر الأعضاء. وثالثها : قال أبو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير بجنبه تباعد عنه وولى ظهره. ورابعها : أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع ، إما من مقدمه فعلى الجبهة ، وإما من خلفه فعلى الظهور ، وإما من يمينه ويساره فعلى الجنبين. وخامسها : أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه ، والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره ، فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي ، والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء. وسادسها : أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته. أما الجمال فمحله الوجه ، وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة ، فإذا وقع الكي / في الجبهة ، فقد زال الجمال بالكلية ، وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان ، فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن ، فالحاصل : أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة ، والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة.
السؤال الرابع : الذي يجعل كياً على بدن الإنسان هو كل ذلك المال أو القدر الواجب من الزكاة.
والجواب : مقتضى الآية : الكل لأنه لما يخرج منه لم يكن الحق منه جزءاً معيناً ، بل لا جزء إلا والحق متعلق به ، فوجب أن يعذبه الله بكل الأجزاء.
(1/2210)
ثم إنه تعالى قال : {هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ} والتقدير : فيقال لهم : هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا والغرض منه تعظيم الوعيد ، لأنهم إذا عاينوا ما يعذبون به من درهم أو من دينار أو من صفيحة معمولة منهما أو من أحدهما جوزوا فيه أن يكون عن الحق الذي منعه وجوزوا خلاف ذلك ، فعظم الله تبكيتهم بأن يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم لم تأثروا به رضا ربكم ولا قصدتم بالإنفاق منه نفع أنفسكم والخلاص به من عقاب ربكم فصرتم كأنكم ادخرتموه ليجعل عقاباً لكم على ما تشاهدونه ، ثم يقول تعالى : {فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} ومعناه لم تصرفوه لمنافع دينكم ودنياكم على ما أمركم الله به {فَذُوقُوا } وبال ذلك به لا بغيره.
جزء : 16 رقم الصفحة : 40
44
اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله ، وذلك لأنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غيروا تلك الأحكام بسبب النسىء فحينئذ كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم ، وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أن السنة عند العرب ؛ عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمرية ، والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَه مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } (يونس : 5) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب ، وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر ، وأيضاً قال تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (البقرة : 189) وعند سائر الطوائف : عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة ، والسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار معلوم ، وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة ، وفي الصيف أخرى ، وكان يشق الأمر عليهم بهذا السبب ، وأيضاً إذا حضروا الحج حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف ، وكان يخل أسباب تجاراتهم بهذا السبب ، فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة على ما هو معلوم في علم الزيجات ، واعتبروا السنة الشمسية ، وعند ذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النسىء وإن كان سبباً لحصول المصالح الدنيوية ، إلا أنه لزم منه تغير حكم الله تعالى ، لأنه تعالى لما خص الحج بأشهر معلومة على التعيين ، وكان بسبب ذلك النسىء ، يقع في سائر الشهور تغير حكم الله وتكليفه. فالحاصل : أنهم لرعاية مصالحهم في الدنيا سعوا في تغيير أحكام الله وإبطال تكليفه ، فلهذا المعنى استوجبوا الذم العظيم في هذه الآية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
واعلم أن السنة الشمسية لما كانت زائدة على السنة القمرية جمعوا تلك الزيادة ، فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهراً ، فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وقال : إن حكم الله أن تكون السنة اثني عشر شهراً لا أقل ولا أزيد ، وتحكمهم على بعض السنين ، أنه صار ثلاثة عشر شهراً حكم واقع على خلاف حكم الله تعالى ، ويوجب تغيير تكاليف الله تعالى ، وكل ذلك على خلاف الدين.
واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية ، وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام. فأما عند اليهود والنصارى ، فليس كذلك. ثم إن بعض العرب تعلم صفة الكبيسة من اليهود والنصارى ، فأظهر ذلك في بلاد العرب.
(1/2211)
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بقوله : {عِدَّةَ} لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو قوله : {اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} وأنه لا يجوز. وأقول في إعراب هذه الآية وجوه : الأول : أن نقول قوله : {عِدَّةَ الشُّهُورِ} مبتدأ وقوله : / {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} خبر. وقوله : {عِندَ اللَّهِ} في كتاب الله {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ظروف أبدل البعض من البعض ، والتقدير : إن عدة الشهور اثنا عشر شهراً عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. والفائدة في ذكر هذه الإبدالات المتوالية تقرير أن ذلك العدد واجب متقرر في علم الله ، وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم. الثاني : أن يكون قوله تعالى : {فِى كِتَـابِ اللَّهِ} متعلقاً بمحذوف يكون صفة للخبر. تقديره : اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله ، ثم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنه متعلق بقوله : {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وأسماء الأعيان لا تتعلق بالظروف ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر. والتقدير : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، أي في حكمه الواقع يوم خلق السموات. والثالث : أن يكون الكتاب اسماً. وقوله : {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} متعلق بفعل محذوف. والتقدير : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله كتبه يوم خلق السموات والأرض.
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
المسألة الثالثة : في تفسير أحكام الآية : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ} أي في علمه {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـابِ اللَّهِ} وفي تفسير كتاب الله وجوه : الأول : قال ابن عباس : إن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل ، وهو الأصل للكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء عليهم السلام. الثاني : قال بعضهم : المراد من الكتاب القرآن ، وقد ذكرنا آيات تدل على أن السنة المعتبرة في دين محمد صلى الله عليه وسلّم هي السنة القمرية وإذا كان كذلك كان هذا الحكم مكتوباً في القرآن. الثالث : قال أبو مسلم : {فِى كِتَـابِ اللَّهِ} أي فيما أوجبه وحكم به ، والكتاب في هذا الموضع هو الحكم والإيجاب ، كقوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (البقرة : 216) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } (الأنعام : 54) قال القاضي : هذا الوجه بعيد ، لأنه تعالى جعل الكتاب في هذه الآية كالظرف ، وإذا حمل الكتاب على الحساب لم يستقم ذلك إلا على طريق المجاز ، ويمكن أن يجاب عنه : بأنه وإن كان مجازاً ، إلا أنه مجاز متعارف. يقال : إن الأمر كذا وكذا في حساب فلان وفي حكمه.
وأما قوله : {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} فقد ذكرنا في المسألة الثانية وجوهاً فيما يتعلق به والأقرب ما ذكرناه في الوجه الثالث ، وهو أن يكون المراد أنه كتب هذا الحكم وحكم به يوم خلق السموات والأرض ، والمقصود بيان أن هذا الحكم حكم محكوم به من أول خلق العالم ، وذلك يدل على المبالغة والتأكيد.
/ وأما قوله : {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وواحد فرد ، وهو رجب ، ومعنى الحرم : أن المعصية فيها أشد عقاباً ، والطاعة فيها أكثر ثواباً ، والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له.
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السبب في هذا التمييز ؟
.
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
(1/2212)
قلنا : إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع ، فإن أمثلته كثيرة. ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة ، وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة ، وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم. وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها. وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر/ وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة. وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة ، فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة ، ثم نقول : لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارة النفس ، ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خبث النفس ، وهذا غير مستبعد عند الحكماء ، ألا ترى أن فيهم من صنف كتباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات ، وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك. وسئل النبي عليه الصلاة والسلام : أي الصيام أفضل ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم" وقال عليه الصلاة والسلام : "من صام يوماً من أشهر الله الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوماً" وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الاْشهر ، وفيه فائدة أخرى : وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم ، فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ، وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام ، حتى أن الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات ، وذلك يوجب أنواعاً من الفضائل والفوائد : أحدها : أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ، لأنه يقل القبائح. وثانيها : أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سبباً لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقاً. وثالثها : أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات ، والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض / البقاع بمزيد التعظيم والاحترام.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } وفيه بحثان :
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
البحث الأول : أن قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى قوله : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله : {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وعندي أن الأول أولى ، لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم ، إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهراً ، وكانوا يغيرون مواقع الشهور ، والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء ، فوجب حمل اللفظ عليه.
البحث الثاني : في تفسير لفظ الدين وجوه : الأول : أن الدين قد يراد به الحساب. يقال : الكيس من دان نفسه أي حاسبها ، والقيم معناه المستقيم. فتفسير الآية على هذا التقدير ، ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى. الثاني : قال الحسن : ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير ، فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير ، الدائم الذي لا يزول ، وهو الدين الذي فطر الناس عليه. الثالث : قال بعضهم : المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام. وقال القاضي : حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب ، لأنه مجاز فيه ، ويمكن أن يقال : الأصل في لفظ الدين الانقياد. يقال : يا من دانت له الرقاب ، أي انقادت ، فالحساب يسمى ديناً ، لأنه يوجب الانقياد ، والعدة تسمى ديناً ، فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب. قال أهل العلم : الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة ، ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية.
ثم قال تعالى : {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } وفيه بحثان :
(1/2213)
البحث الأول : الضمير في قوله : {فِيهِنَّ} فيه قولان : الأول : وهو قول ابن عباس : أن المراد : فلا تظلموا في الشهور الإثني عشر أنفسكم ، والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر. والثاني : وهو قول الأكثرين : أن الضمير في قوله : {فِيهِنَّ} عائد إلى الأربعة الحرم. قالوا : والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات ، والدليل على أن هذا القول أولى وجوه : الأول : أن الضمير في قوله : {فِيهِنَّ} عائد إلى المذكور السابق. فوجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وما ذاك إلا قوله : {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } الثاني : أن الله تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌا فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً ، إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف. / الثالث : قال الفراء : الأولى رجوعها إلى الأربعة ، لأن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة {فِيهِنَّ} فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها : والأصل فيه أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ، ويكنى عن جمع الكثرة ، كما يكنى عن واحدة مؤنثة ، كما قال حسان بن ثابت :
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال : يلمعن ويقطرن ، لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ، ولو جمع جمع الكثرة لقال : تلمع وتقطر ، هذا هو الاختيار ، ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
فقال بهن والسيوف جمع كثرة.
البحث الثاني : في تفسير هذا الظلم أقوال : الأول : المراد منه النسىء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر ، ويغيرون تكاليف الله تعالى. والثاني : أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر. والثالث : أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب ، والأقرب عندي حمله على المنع من النسىء ، لأن الله تعالى ذكره عقيب الآية.
ثم قال : {وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } وفيه مباحث :
البحث الأول : قال الفراء : {كَآفَّةً } أي جميعاً ، والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول : كافين ، أو كافات للنساء ولكنها {كَآفَّةً } بالهاء والتوحيد ، لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة ، ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام ، لأنها في مذهب قولك قاموا معاً ، وقاموا جميعاً. وقال الزجاج : كافة منصوب على الحال ، ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع ، كما أنك إذا قلت : قاتلوهم عامة ، لم تثن ولم تجمع ، وكذلك خاصة.
البحث الثاني : في قوله : {كَآفَّةً } قولان : الأول : أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعهم مجتمعين على قتالهم ، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة ، يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء. والثاني : قال ابن عباس : قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنهم يستحلون قتال جميعكم ، والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر.
البحث الثالث : ظاهر قوله : {وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} إباحة قتالهم في جميع الأشهر/ ومن الناس من يقول : المقاتلة مع الكفار محرمة ، بدليل قوله : {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌا ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُا فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } أي فلا / تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن ، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه } (البقرة : 217).
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
ثم قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات. قال الزجاج : تأويله أنه ضامن لهم النصر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 44
46
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في {النَّسِى ءُ} قولان :
(1/2214)
القول الأول : أنه التأخير. قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ إذا أخرتها وأنسأته إنساء إذا أخرته عنه ، والاسم النسيئة والنسء ، ومنه : أنسأ الله فلاناً أجله ، ونسأ في أجله قال أبو علي الفارسي : النسىء مصدر كالنذير والنكير ، ويحتمل أيضاً أن يكون نسىء بمعنى منسوء كقتيل : بمعنى مقتول ، إلا أنه لا يمكن أن يكون المراد منه ههنا المفعول ، لأنه إن حمل على ذلك كان معناه : إنما المؤخر زيادة في الكفر ، والمؤخر الشهر ، فيلزم كون الشهر كفراً ، وذلك باطل ، بل المراد من النسيء ههنا المصدر بمعنى الإنساء ، وهو التأخير. وكان النسىء في الشهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ، ليست له تلك الحرمة. وروي عن ابن كثير من طريق شبل : النسء بوزن النفع وهو المصدر الحقيقي ، كقولهم : نسأت ، أي أخرت وروي عنه أيضاً : النسىء مخففة الياء ، ولعله لغة في النسء بالهمزة مثل : أرجيت وأرجأت. وروي عنه : النسي مشدد الياء بغير همزة وهذا على التخفيف القياسي.
والقول الثاني : قال قطرب : النسىء أصله من الزيادة يقال : نسأل في الأجل وأنسأ إذا زاد فيه ، وكذلك قيل للبن النسء لزيادة الماء فيه ، ونسأت المرأة حبلت ، جعل زيادة الولد فيها كزيادة / الماء في اللبن ، وقيل للناقة : نسأتها ، أي زجرتها ليزداد سيرها وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسىء قال الواحدي : الصحيح القول الأول ، وهو أن أصل النسىء التأخير ، ونسأت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ، ونسأت الناقة أي أخرتها عن غيرها ، لئلا يصير اختلاط بعضها ببعض مانعاً من حسن المسير ، ونسأت اللبن إذا أخرته حتى كثر الماء فيه.
إذا عرفت هذين القولين فنقول : إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية ، فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات ، لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة ، فعلموا أن بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا ، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية ، ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين ، احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران : أحدهما : أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات. والثاني : أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره ، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر ، وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة ، فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران : أحدهما : الزيادة في عدة الشهور. والثاني : تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وقد بينا أن لفظ النسىء يفيد التأخير عند الأكثرين ، ويفيد الزيادة عند الباقين ، وعلى التقديرين فإنه منطبق على هذين الأمرين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 46
والحاصل من هذا الكلام : أن بناء العبادات على السنة القمرية يخل مصالح الدنيا ، وبناؤها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية ، فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمرية/ واعتبروا السنة الشمسية رعاية لمصالح الدنيا ، وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم ، فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم ، وإنما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر ، لأن الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم ، ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر ، وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب ، وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب ، فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به وتمرداً عن طاعته ، وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين. فثبت أن عملهم في ذلك النسىء يوجب زيادة في الكفر ، وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادة الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات ، وأما المفسرون فإنهم ذكروا في سبب / هذا التأخير وجهاً آخر فقالوا : إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة ، وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا : إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن ، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم. قال الواحدي : وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد ، بل كان ذلك حاصلاً في كل الشهور ، وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه. واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر ، فقال عليه السلام : "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شراً" وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها.
(1/2215)
المسألة الثانية : قوله تعالى : {زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ } معناه : أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر ، فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر. كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفاً من الكفر زيادة في الكفر. احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول : الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار ، قال : لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماماً ، فكان ترك هذا التأخير إيماناً ، وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار. فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيماناً قال المصنف رضي الله عنه : هذا الاستدلال ضعيف ، لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلاً من الأشهر القمرية ، فإذا اعتبرنا السنة الشمسية ، فربما وقع الحج في المحرم مرة وفي صفر أخرى. فقولهم : بأن هذا الحج صحيح يجزى ، وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ، فكان هذا كفراً بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار.
جزء : 16 رقم الصفحة : 46
أما قوله تعالى : {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم ، وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضاً ، لأن المضل لغيره ضال في نفسه لامحال. وقراءة أهل الكوفة {يُضَلُّ} بضم الياء وفتح الضاد ، ومعناه : أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور ، فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية : {زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَـالِهِمْ } أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه : / أحدها : يضل الله به الذين كفروا. والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا. والثالث : وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم ، وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان.
واعلم أن الكناية في قوله : {يُضَلُّ بِهِ} يعود إلى النسىء. وقوله : {يُحِلُّونَه عَامًا وَيُحَرِّمُونَه عَامًا} فالضمير عائد إلى النسىء. والمعنى : يحلون ذلك الإنساء عاماً ويحرمونه عاماً. قال الواحدي : يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم ، ويحرمون التأخير عاماً آخر وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه. قال رضي الله عنه هذا التأويل إنما يصح إذا فسرنا النسىء بأنهم كانوا يؤخرون المحرم في بعض السنين ، وذلك يوجب أن ينقلب الشهر المحرم إلى الحل وبالعكس ، إلا أن هذا إنما يصلح لو حملنا النسىء على المفعول وهو المنسوء المؤخر ، وقد ذكرنا أنه مشكل لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً وأنه غير جائز إلا إذا قلنا إن المراد من النسىء المنسوء وهو المفعول ، وحملنا قوله : {إِنَّمَا النَّسِى ءُ} زيادة في الكفر على أن المراد العمل الذي به يصير النسىء سبباً في زيادة الكفر ، وبسبب هذا الإضمار يقوى هذا التأويل.
أما قوله : {لِّيُوَاطِـاُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} قال أهل اللغة يقال : واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه. قال المبرد : يقال : تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد يطأ حيث يطأ صاحبه والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ، ومعنى واحد. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم ما أحلوا شهراً من الحرام إلا حرموا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام ، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة ، مطابقة لما ذكره الله تعالى ، هذا هو المراد من المواطأة. ولما بين تعالى كون هذا العمل كفراً ومنكراً قال : {زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَـالِهِم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ} قال ابن عباس والحسن : يريد زين لهم الشيطان هذا العمل والله لا يرشد كل كفار أثيم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 46
48
في الآية مسائل :
(1/2216)
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفاء وفضائحهم ، عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ } وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباباً كثيرة موجبة لقتالهم ، وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} (التوبة : 14) وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا ، وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة. فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه.
المسألة الثانية : المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك ، وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم ، وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر وطابت ثمار المدينة وأينعت ، واستعظموا غزو الروم وهابوه ، فنزلت هذه الآية. قال المحققون : وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه : أحدها : شدة الزمان في الصيف والقحط. وثانيها : بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات. وثالثها : إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت. ورابعها : شدة الحر في ذلك الوقت. وخامسها : مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو. والله أعلم.
المسألة الثالثة : يقال : استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفراً ونفوراً ، إذا حثهم ودعاهم إليه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم : "إذا استنفرتم فانفروا" وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب ، واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير ، ومنه قولهم : فلان لا في العير ولا في النفير. وقوله : {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ } أصله تثاقلتم ، وبه قرأ الأعمش ومعناه : تباطأتم ونظيره قوله : وقوله : {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ} قال صاحب "الكشاف" : وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بالى ، والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، ونظيره {أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاه } (الأعراف : 176) وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها ، وقوله : {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ} (التوبة : 38) وإن كان في الظاهر استفهاماً إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار.
جزء : 16 رقم الصفحة : 48
ثم قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال ، وقد شرحنا المنافع العظيمة التي / تحصل عند القتال ، وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم ، فتركتم جميع هذه الأمور ، أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة ؟
فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة ، لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا ؟
والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل ، إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة/ ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات ، ودائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس.
المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجباً لما كان هذا التثاقل منكراً ، وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه ، لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم ، ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران ، وأيضاً هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول إن قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } خطاب مع كل المؤمنين.
ثم قال : {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ } وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف ، وذلك التثاقل معصية ، وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة.
الجواب : أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن ، وفي سائر أنواع الكلام كقوله :
إياك أعني واسمعي يا جاره
جزء : 16 رقم الصفحة : 48
49
وفي الآية مسائل :
(1/2217)
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في / ثواب الآخرة ، رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي ، وهي ثلاثة أنواع : الأول : قوله تعالى : {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .
ع واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا ، وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلّم القوم فتثاقلوا ، فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن : الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به. وقيل إنه تهديد بكل الأقسام ، وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة. الثاني : قوله : {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه ، فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم ، وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم ، وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم ، وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم ، ونظيره قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } (المائدة : 54) ثم اختلف المفسرون. فقال ابن عباس : هم التابعون وقال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس. وقال أبو روق : هم أهل اليمن ، وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية ، لأن الآية ليس فيها إشعار بها ، بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها. قال الأصم : معناه أن يخرجه من بين أظهركم ، وهي المدينة. قال القاضي : هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها ، فلا يمتنع أن يظهر الله في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك ، والثالث : قوله : {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْـاًا } والكناية في قول الحسن : راجعة إلى الله تعالى ، أي لا تضروا الله لأنه غني عن العالمين ، وفي قول الباقين يعود إلى الرسول ، أي لا تضروا الرسول لأن الله عصمه من الناس ، ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 49
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز ، فإذا توعد بالعقاب فعل.
المسألة الثانية : قال الحسن وعكرمة : هذه الآية منسوخة بقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً } قال المحققون : إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم ينفروا ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ. قال الجبائي : هذه الآية تدل على وعيد أهل الصلاة حيث بين أن المؤمنين إن لم ينفروا يعذبهم عذاباً إليماً وهو عذاب النار ، فإن ترك الجهاد لا يكون إلا من المؤمنين ، فبطل بذل قول المرجئة إن أهل الصلاة لا وعيد لهم ، وإذا ثبت الوعيد لهم في ترك الجهاد / فكذا في غيره ، لأنه لا قائل بالفرق ، واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة.
المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآية دالة على وجوب الجهاد ، سواء كان مع الرسول أو لا معه ، لأنه تعالى قال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا } ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول.
فإن قالوا : يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى : {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (التوبة : 39) ولقوله : {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْـاًا } (التوبة : 39) إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول.
قلنا : خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 49
55
اعلم أن هذا ذكر طريق آخر في ترغيبهم في الجهاد ، وذلك لأنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم إن لم ينفروا باستنفاره ، ولم يشتغلوا بنصرته فإن الله ينصره بدليل أن الله نصره وقواه ، حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ، فههنا أولى ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : كيف يكون قوله : {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} جواباً للشرط ؟
وجوابه أن التقدير إلا تنصروه ، فسينصره من نصره حين ما لم يكن معه إلا رجل واحد ، ولا أقل من الواحد. والمعنى أنه ينصره الآن كما نصره في ذلك الوقت.
(1/2218)
المسألة الثانية : قوله : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني قد نصره الله في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا من مكة وقوله : {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} نصب على الحال ، أي في الحال التي كان فيها {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وتفسير قوله : {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} سبق في قوله : {ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ } وتحقيق القول أنه إذا حضر اثنان فكل / واحد منهما يكون ثانياً في ذينك الاثنين للآخر. فلهدا السبب قالوا : يقال فلان ثاني اثنين ، أي هو أحدهما. قال صاحب "الكشاف" : وقرىء {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} بالسكون و{إِذْ هُمَا} بدل من قوله : {إِذْ أَخْرَجَهُ} والغار ثقب عظيم في الجبل ، وكان ذلك الجبل يقال له ثور ، في يمين مكة على مسيرة ساعة ، مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه مع أبي بكر ثلاثاً. وقوله : إذ يقول : بدل ثان.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
المسألة الثالثة : ذكروا أن قريشاً ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الأنفال : 30) فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، والمراد من قوله : {أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } هو أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر علياً أن يضطجع على فراشه ليمنعهم السواد من طلبه ، حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر الله به ، فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر الغار أولاً ، يلتمس ما في الغار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم ، مالك ؟
فقال : بأبي أنت وأمي ، الغيران مأوى السباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بي لا بك ، وكان في الغار جحر ، فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عليه السلام : "لا تحزن إن الله معنا" فقال أبو بكر : إن الله لمعنا ، فقال الرسول : "نعم" فجعل يمسح الدموع عن خده. ويروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاء أبي بكر بكى ، وإذا ذكر مسحه الدموع مسح هو الدموع عن خده. وقيل : لما طلع المشركون فوق الغار أشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله. فقال رسول الله : "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وقيل لما دخل الغار وضع أبو بكر ثمامة على باب الغار ، وبعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "اللهم أعم أبصارهم" فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
(1/2219)
المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه : الأول : أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله ، فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر ، بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع ، لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره ، لخافه من أن يدل أعداءه عليه ، وأيضاً لخافه من أن يقدم على قتله. فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة ، دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره. الثاني : وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى ، وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب / من أبي بكر ، فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة ، وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة ، وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين. الثالث : أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أما هو فما سبق رسول الله كغيره ، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم. الرابع : أنه تعالى سماه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية ، فإنه صلى الله عليه وسلّم لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ، ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والكل آمنوا على يديه ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أيام قلائل ، فكان هو رضي الله عنه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة ، كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه ، فكان ثاني اثنين في مجلسه ، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ، ولما توفي دفن بجنبه ، فكان ثاني اثنين هناك أيضاً ، وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله : {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة : 7) ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن ، فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
والجواب : أن هذا تعسف بارد ، لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد ، أما ههنا فالمراد بقوله تعالى : {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه صلى الله عليه وسلّم كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره ، فأين أحد الجانبين من الآخر ؟
والوجه الخامس : من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟
ولا شك أن هذا منصب علي ، ودرجة رفيعة.
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم جبريل ، وأرادوا به أن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وعلياً ، وفاطمة ، والحسن والحسين ، كانوا قد احتجبوا تحت / عباءة يوم المباهلة ، فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم/ فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون ، فقال رحمه الله : لكم ما هو خير منه بقوله : "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل.
والوجه السادس : أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل. قال الحسين بن فضيل البجلي : من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان كافراً ، لأن الأمة مجمعة على أن المراد من {إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِه } هو أبو بكر ، وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له ، اعترضوا وقالوا : إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن ، وهو قوله : {قَالَ لَه صَاحِبُه وَهُوَ يُحَاوِرُه ا أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} (الكهف : 37).
والجواب : أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال ، وهو قوله : {أَكَفَرْتَ} أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ، ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة ؟
(1/2220)
والوجه السابع : في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر. قوله : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ولا شك أن المراد من هذه المعية ، المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة ، وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية ، فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد ، لزمهم إدخال الرسول فيه ، وإن حملوها على محمل رفيع شريف ، لزمهم إدخال أبي بكر فيه ، ونقول بعبارة أخرى ، دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه ، وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين ، لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل : 128) والمراد منه الحصر ، والمعنى : إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم ، وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
والوجه الثامن : في تقرير هذا المطلوب أن قوله : {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية ، كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وذلك منصب في غاية الشرف.
والوجه التاسع : أن قوله : {لا تَحْزَنْ} نهى عن الحزن مطلقاً ، والنهي يوجب الدوام والتكرار ، وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة ، قبل الموت وعند الموت وبعد الموت.
والوجه العاشر : قوله : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَيْهِ} ومن قال الضمير في قوله : {عَلَيْهِ} عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه :
الوجه الأول : أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر ، لأنه تعالى قال : {إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِه } والتقدير : إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر / لا تحزن ، وعلى هذا التقدير : فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر ، فوجب عود الضمير إليه.
والوجه الثاني : أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام ، فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش. فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً ، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه ، أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم ، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس.
والوجه الثالث : أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال : إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر : {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ؟
ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه ، فقال لصاحبه لا تحزن ، ولما لم يكن كذلك ، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة ، وهو قوله : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَيْهِ} علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر.
فإن قيل : وجب أن يكون قوله : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَيْهِ} (التوبة : 40) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول ، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله : {وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وهذا لا يليق إلا بالرسول ، والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه ، فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
قلنا : هذا ضعيف ، لأن قوله : {وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله : {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر ، وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال.
(1/2221)
الوجه الحادي عشر : من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر" وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك وأخبر به أبا بكر. ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر ، فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري / جملين ورحلين وكسوتين ، ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام. فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين ، فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه ، ليعرفوا أن الرسول هو هو ، فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم : "اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم" ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم.
الوجه الثاني عشر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر ، والأنصار ما رأوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحداً إلا أبا بكر ، وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر ، وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا : لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر ، فلو قدرنا أنه توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر ، وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر ، وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر.
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين : فالأول : قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر : "لا تحزن" فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه ؟
وإن كان خطأ ، لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن ، والثاني : قالوا يحتمل أن يقال : إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه ، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه ، فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر. والثالث : وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء ، فهذا العمل من علي ، أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول ، فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
والجواب عن الأول : أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة ، قال : فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام : {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى } (طه : 68) أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه ، وذلك طعن في الأنبياء ، ويجب في قوله تعالى في إبراهيم ، حيث قالت الملائكة له : {لا تَخَفْ} في قصة العجل المشوي مثل ذلك ، وفي قولهم للوط : {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} (العنكبوت : 33) مثل ذلك.
/ فإذا قالوا : إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله : {لا تَخَفْ} ليفيد الأمن ، وفراغ القلب.
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك.
فإن قالوا : أليس إنه تعالى قال : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة : 67) فكيف خاف مع سماع هذه الآية ؟
فنقول : هذه الآية إنما نزلت في المدينة ، وهذه الواقعة سابقة على نزولها ، وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ، ولكنه ما كان آمناً من الضرب ، والجرح والإيلام الشديد. والعجب منهم ، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً ، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ، ولما خاف وبكى قالوا : هذا السؤال الركيك ، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق ، وإنما مقصودهم محض الطعن
والجواب عن الثاني : أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية ، فإن أبا بكر لو كان قاصداً له ، لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار ، وقال لهم نحن ههنا ، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه ، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك.
(1/2222)
والجواب عن الثالث من وجوه : الأول : أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع ، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وعلي كان غائباً ، والحاضر أعلى حالاً من الغائب. الثاني : أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة ، أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ، ولم يتعرضوا له. أما أبو بكر ، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة ، فكان بلاؤه أشد. الثالث : أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه ، وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين ، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته ، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان ، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلّم بالنفس والمال. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن ، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ، ولا جهاد بالسيف والسنان ، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة ، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال ، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ، ولهذا السبب ، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي / لم يتعرضوا له ألبتة ، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم ، فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد صلى الله عليه وسلّم أشد من خوف علي كرم الله وجهه/ فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل. هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
أما قوله تعالى : {وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فاعلم أن تقدير الآية أن يقال : {إِلا تَنصُرُوهُ} فلا بد له ذلك بدليل صورتين.
الصورة الأولى : أنه قد نصره في واقعة الهجرة {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ} .
والصورة الثانية : واقعة بدر ، وهي المراد من قوله : {وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر ، وأيد رسوله صلى الله عليه وسلّم بهم ، فقوله : {وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} معطوف على قوله : {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
ثم قال تعالى : {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا } والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة ، وكلمة الله هي العليا ، وهي قوله لا إله إلا الله. قال الواحدي : والاختيار في قوله : {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} الرفع ، وهي قراءة العامة على الاستئناف ، قال الفراء ، ويجوز {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا } بالنصب ، ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال : وكلمة الله العليا ، ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك ، ولا تقول أعتق غلامه أبوك.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 55
56
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول ، وضرب له من الأمثال ما وصفنا ، أتبعه بهذا الأمر الجزم. فقال : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل ، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة. والمفسرون ذكروها. فالأول : {خِفَافًا} في النفور لنشاطكم له {وَثِقَالا} عنه لمشتقه عليكم. الثاني : {خِفَافًا} لقلة عيالكم {وَثِقَالا} / لكثرتها. الثالث : {خِفَافًا} من السلاح {وَثِقَالا} منه. الرابع : ركباناً ومشاة. الخامس : شباناً وشيوخاً. السادس : مهازيل وسمانا. السابع : صحاحاً ومراضاً والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي ، يدخل فيه كل هذه الجزئيات.
فإن قيل : أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ؟
(1/2223)
قلنا : ظاهره يقتضي ذلك عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : أعلي أن أنفر ، قال : "ما أنت إلا خفيف أو ثقيل" فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه ، فنزل قوله تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ} (الفتح : 17 النور : 61) وقال مجاهد : إن أبا أيوب شهد بدراً مع الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ، ويقول : قال الله : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، قلت يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، ألا إن من أحبه ابتلاه. وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو : أنت معذور ، فقال : أنزل الله علينا في سورة براءة {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} .
جزء : 16 رقم الصفحة : 56
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون : هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ} (الفتح : 17 النور : 61) وقال عطاء الخراساني : منسوخة بقوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً } (التوبة : 122).
ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً ، وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ، لكنه من فروض الكفايات ، فمن أمره الرسول بأن يخرج ، لزمه ذلك خفافاً وثقالاً ، ومن أمره بأن يبقى هناك ، لزمه أن يبقى ويترك النفر. وعلى هذا التقدير : فلا حاجة إلى التزام النسخ.
ثم قال تعالى : {وَجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّه } وفيه قولان :
القول الأول : أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس ، فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد ، ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد.
والقول الثاني : أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه ، وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه ، فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفراً بنفقة من عنده فيكون مجاهداً / بماله لما تعذر عليه بنفسه ، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء.
ثم قال تعالى : {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهاد خير من القعود عنه ، ولا خير في القعود عنه.
قلنا : الجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن لفظ {خَيْرٌ} يستعمل في معنيين : أحدهما : بمعنى هذا خير من ذاك. والثاني : بمعنى أنه في نفسه خير كقوله : {إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص : 24) وقوله : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات : 8) ويقال : الثريد خير من الله ، أي هو خير في نفسه ، وقد حصل من الله تعالى ، فقوله : {ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} المراد هذا الثاني ، وعلى هذا الوجه يسقط السؤال.
الوجه الثاني : سلمنا أن المراد كونه خيراً من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما ، ولذلك قال تعالى : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ، ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق ، وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق.
جزء : 16 رقم الصفحة : 56
57
اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله ، وكان قد ذكر قوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ } عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، وبين أن أقواماً ، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد ، تخلفوا في غزوة تبوك ، وبين أنه {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا اتَّبَعُوكَ} وفي الآية مسائل :
(1/2224)
المسألة الأولى : العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر. قال الزجاج : فيه محذوف والتقدير : لو كان المدعو إليه سفراً قاصداً ، فحذف / اسم {كَانَ} لدلالة ما تقدم عليه. وقوله : {وَسَفَرًا قَاصِدًا} قال الزجاج : أي سهلاً قريباً. وإنما قيل لمثل هذا قاصداً ، لأن المتوسط ، بين الإفراط ، والتفريط ، يقال له : مقتصد. قال تعالى : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} (فاطر : 32) وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد ، فسمي قاصداً ، وتفسير القاصد : ذو قصد ، كقولهم لابن وتامر ورابح. قوله : {وَلَـاكِنا بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } قال الليث : الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة. يقال : شقة شاقة ، والمعنى : بعدت عليهم الشاقة البعيدة ، والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها. ونقل صاحب "الكشاف" عن عيسى بن عمر : أنه قرأ {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } بكسر العين والشين.
المسألة الثانية : هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوز بتلك المنافع ، ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم ، فلهذا السبب تخلفوا. ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق. وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "اليمين الغموس تدع الديار بلاقع".
جزء : 16 رقم الصفحة : 57
ثم قال : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج ، فإنهم كانوا مستطيعين الخروج.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن قوله : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} إنما يتناول من كان قادراً متمكناً ، إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف.
المسألة الرابعة : استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل ، فقال : لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً إلى القتال ، ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم : ما كنا نستطيع ذلك ، ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول ، علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل. واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضاً له ، وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به : ما كان لهم زاد ولا راحلة ، وما أرادوا به نفس القدرة.
وأجاب : إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج ، فمن لا استطاعة له أولى بالعذر. وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال/ وإذا أريد به المال ، فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن ، فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة.
وأجاب أصحابنا : بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل ، إلا بوقت / واحد ، فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع ، فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادراً في هذا الزمان أن يفعل فعلاً في مكان بعيد عنه ، بل إنما يقدر على أن يفعل فعلاً في المكان الملاصق لمكانه. فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد ، فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة ، فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا ، وعند هذا يجب علينا وعليهم ، أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة. وحينئذ يسقط الاستدلال.
المسألة الخامسة : قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لما وقع كما أخبر ، كان هذا إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً. والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 57
59
اعلم أنه تعالى بين بقوله : {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا اتَّبَعُوكَ} أنه تخلف قوم من ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أن ذلك التخلف ، كان بإذن الرسول أم لا ؟
فلما قال بعده : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} دل هذا ، على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} والعفو يستدعي سابقة الذنب. والثاني : أنه تعالى قال : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنباً. قال قتادة وعمرو بن ميمون : اثنان فعلهما الرسول ، لم يؤمر بشيء فيهما ، إذنه للمنافقين ، وأخذه الفداء من الأسارى ، فعاتبه الله كما تسمعون.
(1/2225)
والجواب عن الأول : لا نسلم أن قوله : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} يوجب الذنب ، ولم لا يجوز أن يقال : إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره ، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده ، عفا الله عنك. ما صنعت في أمري ورضي الله عنك ، ما جوابك عن كلامي ؟
وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام ، إلا مزيد التبجيل والتعظيم. وقال علي بن الجهم : فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه :
/ عفا الله عنك ألا حرمة
تعود بعفوك إن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره
ومولى عفا ورشيداً هدى
أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى
والجواب عن الثاني أن نقول : لا يجوز أن يقال : المراد بقوله {عَرَّفَهَا لَهُمْ} الإنكار. لأنا نقول : إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب ، فإن قلنا : إنه ما صدر عنه ذنب ، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} إنكار عليه ، وإن قلنا : إنه كان قد صدر عنه ذنب ، فقوله : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} يدل على حصول العفو عنه ، وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه ، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال : إن قوله : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدل على كون الرسول مذنباً ، وهذا جواب شاف قاطع. وعند هذا ، يحمل قوله : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} على ترك الأولى والأكمل ، لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا.
جزء : 16 رقم الصفحة : 59
المسألة الثانية : من الناس من قال : إن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع. واحتج عليه بأن قوله : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد ، والرسول كان سيداً لهم ، فكان داخلاً تحت هذا الأمر ، ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه ، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل ، وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم. والثاني باطل أيضاً ، لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} (المائدة : 44) { أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ} (المائدة : 45) { أولئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ} (المائدة : 47) وذلك باطل بصريح القول. فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإما أن يكون ذلك مبنياً على الاجتهاد أو ما كان كذلك ، والثاني باطل ، لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } (مريم : 59) فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة ، بناء على الاجتهاد ، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد.
فإن قيل : فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى ، لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} .
قلنا : إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقاً لأنه قال : {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَـاذِبِينَ} والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية ، فهذا يدل على صحة قولنا.
/ فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي ؟
قلنا : ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم البتة ، وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص ، فلما ترك ذلك ، كان ذلك كبيرة ، وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعاً في الاجتهاد ، فدخل تحت قوله : "ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" ، فكان حمل الكلام عليه أولى.
جزء : 16 رقم الصفحة : 59
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني وترك الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد.
المسألة الرابعة : قال قتادة : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثم رخص له في سورة النور فقال : {فَإِذَا اسْتَـاْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} (النور : 62).
(1/2226)
المسألة الخامسة : قال أبو مسلم الأصفهاني : قوله : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا ؟
فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له ، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له ، مع أنه ما كان خروجهم معه صواباً ، لأجل أنهم كانوا عيوناً للمنافقين على المسلمين ، فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل. فلهذا السبب ، ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة. قال القاضي : هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين ، وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 59
63
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : قوله : {لا يَسْتَئْذِنُكَ} أي بعد غزوة تبوك ، وقال الباقون : هذا لا يجوز ، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك ، والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين ، فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا ، والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار. وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي ، والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان ، والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {لا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ أَن يُجَـاهِدُوا } فيه محذوف ، والتقدير : في أن يجاهدوا. إلا أنه حسن الحذف لظهوره ، ثم ههنا قولان :
القول الأول : إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر ، وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلّم في الجهاد ، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى ، فأي فائدة في الاستئذان ؟
وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول : "أنت مني بمنزلة هرون من موسى".
القول الثاني : أنه لا بد ههنا من إضمار آخر ، قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز ، وهؤلاء ذمهم الله في ترك هذا الاستئذان ، فثبت أنه لا بد من الإضمار ، والتقدير : لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا ، إلا أنه حذف حرف النفي ، ونظير قوله : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } (النساء : 176) والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 63
ثم قال تعالى : {إِنَّمَا يَسْتَـاْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر / ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه ، وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه ، بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب ، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله. وههنا سؤالان :
السؤال الأول : أن العلم إذا كان استدلالياً كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول ، ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل ، فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكاً في المدلول ، وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة ، بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد. فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه.
والجواب : أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن ، فلهذا السبب بقي إيمانه دائماً مستمراً.
السؤال الثاني : أليس أن أصحابكم يقولون : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، وذلك يقتضي حصول الشك ؟
والجواب : أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال ، في تفسير قوله : { أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (الأنفال : 74).
المسألة الثانية : قالت الكرامية : الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين.
المسألة الثالثة : قوله : {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} يدل على أن محل الريب هو القلب فقط ، ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة ، والإيمان أيضاً هو القلب ، لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلاً للضد الآخر ، ولهذا السبب قال تعالى : { أولئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادلة : 22) وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب ، كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعاً له.
(1/2227)
المسألة الرابعة : قوله : {فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي والإثبات ، غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين. وتقريره : أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون ، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً ، فإن كان غير يقين فهو العلم ، وإلا فهو اعتقاد المقلد. وإن كان غير جازم ، فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك ، وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 63
ثم قال تعالى : {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاعَدُّوا لَه عُدَّةً} قرىء وقرىء أيضاً {إِنَّ عِدَّةَ} بكسر العين بغير إضافة وبإضافة ، قال ابن عباس : يريد من الزاد والماء والراحلة ، لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد ، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف. وقال آخرون : هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الانبعاث : الانطلاق في الأمر ، يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث ، وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه ، والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به ، والمعنى : أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلّم فصرفهم عنه.
فإن قيل : إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة.
فإن قلنا : إنه كان مفسدة ، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود ؟
وإن قلنا : إنه كان مصلحة ، فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم ؟
والجواب الصحيح : أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة ، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} (التوبة : 47) بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا ، فلم عاتب الرسول في الإذن ؟
فنقول : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود ، بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم ، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال ، قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة ، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه ، وتأكد ذلك بسائر الآيات/ منها قوله تعالى : {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} (التوبة : 83) ومنها قوله تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ} (الفتح : 15) إلى قوله : {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 63
والوجه الثاني : من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقول : ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر ، ولهذا السبب قال تعالى : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَـاذِبِينَ} والثاني : أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ؛ فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم ، وكان يصير ذلك القعود / علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم يغتروا بقولهم ، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح. والثالث : أنهم لما استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم غضب عليهم وقال : {اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ} على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله : {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ} ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا فقال تعالى : {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم ؟
الرابع : أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا : إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد ، وذلك غير جائز ، لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص ، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك.
(1/2228)
المسألة الثانية : قالت المعتزلة البصرية : الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية ، بدليل قوله تعالى : {وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ} قال أصحابنا : معنى {كَرِهَ اللَّهُ} أراد عدم ذلك الشيء. قال البصرية : العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً ، وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، والعدم نفي محض ، وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به ، لأن تحصيل الحاصل محال ، وجعل العدم عدماً محال ، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال ، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 63
أجاب أصحابنا : بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء ، فهو تعالى أراد منهم السكون ، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى : {فَثَبَّطَهُمْ} أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث ، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق ، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه ، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة ، إن كانت من العبد لزم التسلسل ، وإن كانت من الله ؛ فحينئذ لزم المقصود. لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل ، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت/ وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله : {رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} .
/ المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا القول ممن كان ؟
فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ، لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلّم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد ، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص.
جزء : 16 رقم الصفحة : 63
65
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة : الأول : قوله : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الخبال والشر والفساد في كل شيء ، ومنه يسمى العته بالخبل ، والمعتوه بالمخبول ، وللمفسرين عبارات قال الكلبي : إلا شراً ، وقال يمان : إلا مكراً ، وقيل : إلا غياً ، وقال الضحاك : إلا غدراً ، وقيل : الخبال الاضطراب في الرأي ، وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم أخرين ، ليختلفوا وتفترق كلمتهم.
المسألة الثانية : قال بعض النحويين قوله : {إِلا خَبَالا} من الاستثناء المنقطع وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيراً إلا خبالاً ، وههنا المستثنى منه غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم. والعام هو الشيء ، فكان الاستثناء متصلاً ، والتقدير : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم ، وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث لكونه مشتملاً على هذا الخبال والشر والفتنة ، وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق ، ولا يرضى إلا بالخير ، ولا يريد إلا الطاعة.
النوع الثاني : من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى : {وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} وفي الإيضاح قولان نقلهما الواحدي.
/ القول الأول : وهو قول أكثر أهل اللغة ، أن الأيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوز أن يقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً. يقال : وضع البعير إذا عدا وأوضعه الراكب إذا حمله عليه. قال الفراء : العرب تقول : وضعت الناقة ، وأوضع الراكب ، وربما قالوا للراكب وضع.
والقول الثاني : وهو قول الأخفش وأبي عبيد أنه يجوز أن يقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد أنه وضع ناقته ، روى أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلّم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر وقال لبيد :
أرانا موضعين لحكم غيب
ونسخو بالطعام وبالشراب
أراد مسرعين ، ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل لأنه لم يرد السير في الطريق ، وقال عمر بن أبي ربيعة :
جزء : 16 رقم الصفحة : 65
تبالهن بالعدوان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
قال الواحدي : والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد.
(1/2229)
واعلم أن على القولين : فالمراد من الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم ، فإن اعتبرنا القول الأول كان المعنى : ولأوضعوا ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم ، لأن الراكب أسرع من الماشي ، وإن اعتبرنا القول الثاني كان المراد أنهم يسرعون في هذا التضريب.
المسألة الرابعة : نقل صاحب "الكشاف" عن ابن الزبير أنه قرأ من وقصت الناقة وقصا إذا أسرعت وأوقصتها ، وقرىء ولأرفضوا.
فإن قيل : كيف كتب في المصحف {وَلا} بزيادة الألف ؟
أجاب صاحب "الكشاف" بأن الفتحة كانت ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي في ذلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحتها ألفاً أخرى ونحوه {أَوَلا} .
المسألة الخامسة : قوله : {وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ} أي فيما بينكم ، ومنه قوله : {وَفَجَّرْنَا خِلَـالَهُمَا نَهَرًا} (الكهف : 33) وقوله : {فَجَاسُوا خِلَـالَ الدِّيَارِ } (الإسراء : 5) وأصله من الخلل ، وهو الفرجة بين الشيئين وجمعه خلال ، ومنه قوله : {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـالِه } (النور : 43) وقرىء من وهي مخارج مصب القطر ، وقال الأصمعي : تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم. ويقال : جلسنا خلال بيوت الحي وخلال دورهم أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور.
/ إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {خَبَالا وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ} أي بالنميمة والإفساد وقوله : {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي يبغون لكم ، وقال الأصمعي : ابغني كذا أي اطلبه لي ، ومعنى ابغني وابغ لي ، سواء ، وإذا قال ابغني ، فمعناه : أعني على ما بغيته ، ومعنى {الْفِتْنَةِ} ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش.
واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً ، والخبال هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه. ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك بل يمشون بين الأكابر بالنميمة فيكون الإفساد أكثر ، وهو المراد بقوله : {وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ} .
جزء : 16 رقم الصفحة : 65
فأما قوله : {وَفِيكُمْ سَمَّـاعُونَ لَهُمْ } ففيه قولان : الأول : المراد : فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم ، وهذا قول مجاهد وابن زيد. والثاني : قال قتادة : فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم ، فإذا ألقوا إليهم أنواعاً من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي.
فإن قيل : كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد ؟
قلنا : لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب ، فيؤثر قولهم فيهم ، ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم ، فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم ، ولا يمتنع أيضاً أن يقال : المنافقون على قسمين : منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد ، ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات. والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 65
66
اعلم أن المذكور في هذه الآية نوع آخر من مكر المنافقين وخبث باطنه فقال : {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ} أي من قبل واقعة تبوك. قال ابن جريج : هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم ، وقيل المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه ، وقيل : طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك ، ومعنى الفتنة هو الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة ، وهو الذي طلبه المنافقون للمسلمين وسلمهم الله منه ، وقوله : {وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ} تقليب الأمر تصريفه وترديده لأجل التدبر والتأمل فيه ، يعني اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك. يقال : في الرجل المتصرف في وجوه الحيل فلان حول قلب ، أي يتقلب في وجوه الحيل.
(1/2230)
ثم قال تعالى : {حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَـارِهُونَ} والمعنى : أن هؤلاء المنافقين كانوا مواظبين على وجه الكيد والمكر وإثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء الحق الذي كان في حكم المذاهب ، والمراد منه القرآن ودعوة محمد ، وظهر أمر الله الذي كان كالمستور والمراد بأمر الله الأسباب التي أظهرها الله تعالى وجعلها مؤثرة في قوة شرع محمد عليه الصلاة والسلام ، وهم لها كارهون أي وهم لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله كارهون ، وفيه تنبيه على أنه لا أثر لمكرهم وكيدهم ومبالغتهم في إثارة الشر ، فإنهم منذ كانوا في طلب هذا المكر والكيد ، والله تعالى رده في نحرهم وقلب مرادهم وأتى بضد مقصودهم ، فلما كان الأمر كذلك في الماضي ، فهذا يكون في المستقبل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 66
ثم قال تعالى : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّى } يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج ، وذكروا فيه وجوها : الأول : لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي ، فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم ، وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية ، وإن يكونوا أيضاً ذكروه على سبيل الجد ، وإن كان ذلك المنافق منافقاً كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقاً ، وإن كان غير قاطع بذلك. والثاني : لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها. والثالث : لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي. والرابع : قال الجد بن قيس : قد علمت الأنصار أني مغرم / بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ، يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بمال فاتركني ، وقرىء {وَلا تَفْتِنِّى } من أفتنة {أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة ، وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة ، فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله ، والتمرد عن قبول التكليف. وأيضاً فهم يبقون خالفين عن المسلمين ، خائفين من أن يفضحهم الله ، وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي {سُقِطَ} لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى. قال أهل المعاني : وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما ، فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.
ثم قال تعالى : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ} قيل : إنها تحيط بهم يوم القيامة. وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال ، فكأنهم في وسطها. وقال الحكماء الإسلامية : إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالاً وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه ، ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين. وقصد الرسول بكل سوء ، وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبداً في الترقي والاستعلاء والتزايد ، وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم ، وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية ، فكانوا في أشد الخوف ، بسبب الأحوال العاجلة ، والخوف الشديد مع الجهل الشديد ، أعظم أنواع العقوبات الروحانية ، فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ} .
جزء : 16 رقم الصفحة : 66
67
اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن حبث بواطنهم ، والمعنى : إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفراً ، أو كان غنيمة ، أو كان انقياداً لبعض ملوك الأطراف ، يسؤهم ذلك ، وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به ، ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به ، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم ، من قبل أي قبل ما وقع وتولوا عن / مقام التحدث بذلك ، والاجتماع له إلى أهاليهم ، وهم فرحون مسرورون ، ونقل عن ابن عباس أن الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة في يوم أحد ، فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه ، وإلا فالواجب حمله على كل حسنة ، وعلى كل مصيبة ، إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره الله ههنا.
ثم قال تعالى : {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وفيه أقوال :
القول الأول : أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر ، ولا خوف ولا رجاء ، ولا شدة ولا رخاء ، إلا وهو مقدرعلينا مكتوب عند الله ، وكونه مكتوباً عند الله يدل على كونه معلوماً عند الله مقضياً به عند الله ، فإن ما سواه ممكن ، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب ، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره.
(1/2231)
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن قضاء الله شامل لكل المحدثات وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال ، وتقرير هذا الكلام من وجوه : أحدها : أن الموجود إما واجب وإما ممكن ، والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه ، فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته ، وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه. ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام : "جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" وثانيها : أن الله تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها ، فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلاً والحكم الصدق كذباً ، وكل ذلك محال ، وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6).
جزء : 16 رقم الصفحة : 67
فإن قيل : إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه فأي تعلق لهذا المذهب بذلك ؟
قلنا : السبب فيه قوله صلى الله عليه وسلّم : "من علم سر الله في القدر هانت عليه المصائب" فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع ، زالت المنازعة عن النفس وحصل الرضا به.
القول الثاني : في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى {لَّن يُصِيبَنَآ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم ، والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم ، إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم ، فيكون ذلك اغتياظاً للمنافقين ورداً عليهم في ذلك الفرح.
والقول الثالث : قال الزجاج : المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم ، / والثواب الكثير ، وإن صرنا غالبين ، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة ، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا ، وإذا كان الأمر كذلك ، صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة/ وهذه الأقوال وإن كانت حسنة ، إلا أن الحق الصحيح هو الأول.
ثم قال تعالى : {هُوَ مَوْلَـانَا } والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء ، وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم ، ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله ، فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم ، ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعاً من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده ، فحسن منه تعالى تلك التصرفات ، بمجرد كونه مولى لهم ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله.
ثم قال تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان ، فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه ، وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته ، لأن قوله : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يفيد الحصر ، وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأساب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 67
68
(1/2232)
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين ، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو ، فإن صار مغلوباً مقتولاً فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة ، وإن صار غالباً فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل ، وهي الرجولية والشوكة والقوة ، وفي الآخرة بالثواب العظيم. وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموماً منسوباً إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان والعاجزون من النساء ، ثم يكونون أبداً خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة ، وإن أذن الله في قتلهم / وقعوا في القتل والأسر والنهب ، وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار ، فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين ، وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف ، والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين ، أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان ، ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل ، وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة ، ثم قال تعالى للمنافقين : {فَتَرَبَّصُوا } بنا إحدى الحالتين الشريفتين {إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين. قال الواحدي : يقال فلان يتربص بفلان الدوائر ، وإذا كان ينتظر وقوع مكروه به ، وهذا قد سبق الكلام فيه. وقال أهل المعاني : التربص ، التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ، ولذلك قيل : فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره ، والحسنى تأنيث الأحسن. واختلفوا في تفسير قوله : {بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِه أَوْ بِأَيْدِينَا } قيل : من عند الله. أي بعذاب ينزله الله عليهم في الدنيا ، أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم. وقيل : بعذاب من عند الله ، يتناول عذاب الدنيا والآخرة ، أو بأيدينا القتل.
فإن قيل : إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان ، فكيف يقول تعالى ذلك ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 68
قلنا قال الحسن : المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم ، لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حرباً للمؤمنين ، وقوله : {فَتَرَبَّصُوا } وإن كان بصيغة الأمر ، إلا أن المراد منه التهديد ، كما في قوله : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 68
69
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة ، بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة ، والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم ، وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {كَرْهًا} بضم الكاف ههنا ، وفي النساء والأحقاف ، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة ، وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك. فقيل : هما لغتان. وقيل : بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه.
/ المسألة الثانية : قال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلّم ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به.
واعلم أن السبب وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام ، فقوله : {أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وإن كان لفظه لفظ أمر ، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى : سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم.
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان ، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر. أما إقامة الأمر مقام الخبر ، فكما ههنا ، وكما في قوله : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (التوبة : 80) وفي قوله : {قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَـالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـانُ مَدًّا } (مريم : 75) وأما إقامة الخبر مقام الأمر ، فكقوله : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ} (البقرة : 233)}المطلقات يتربصن بأنفسهن} (البقرة : 288) وقال كثير :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله : المطلقات يتربصن بأنفسهن} (البقرة : 288) وقال كثير :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله : (البقرة : 288) وقال كثير :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
(1/2233)
وقوله : {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} يريد طائعين أو كارهين. وفيه وجهان : الأول : طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله ، وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون ، فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه ، والثاني : أن يكون التقدير : طائعين من غير إكراه من رؤسائكم ، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 69
ثم قال تعالى : {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } يحتمل أن يكون المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لا يتقبل تلك الأموال منهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله.
ثم قال تعالى : {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَـاسِقِينَ} وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين. قال الجبائي : دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات ، لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة ، وعلل ذلك بكونهم فاسقين ، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح ، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح ، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى/ ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً.
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه ، وهو قوله : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه } فبين تعالى / بصريح هذا اللفظ أنه لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر ، وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات ، لأنه تعالى لما قال : {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَـاسِقِينَ} فكأنه سأل سائل وقال : هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقاً ، أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق ؟
فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة ، وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقاً ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً. فثبت أن هذا الاستدلال باطل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 69
71
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دل صريح هذه الآية على أنه لا تأثير للفسق من حيث إنه فسق في هذا المنع ، وذلك صريح في بطلان قول المعتزلة على ما لخصناه وبيناه.
المسألة الثانية : ظاهر اللفظ يدل على أن منع القبول بمجموع الأمور الثلاثة ، وهي الكفر بالله ورسوله ، وعدم الإتيان بالصلاة إلا على وجه الكسل ، والإنفاق على سبيل الكراهية.
ولقائل أن يقول : الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبول ، وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر ، فكيف يمكن إسناد هذا الحكم إلى السببين الباقيين ؟
وجوابه : أن هذا الإشكال إنما يتوجه على قول المعتزلة ، حيث قالوا : إن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم ، أما عندنا فإن شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً البتة ، وإنما هي معرفات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد محال ، بل نقول : إن هذا من أقوى الدلائل اليقينية على أن هذه الأفعال غير مؤثرة في هذه الأحكام لوجوه عائدة إليها ، والدليل عليه أنه تعالى بين أنه حصلت هذه الأمور الثلاثة في حقهم ، فلو كان كل واحد منها موجباً تاماً لهذا الحكم ، لزم أن يجتمع على الأثر الواحد أسباب مستقلة ، وذلك محال ، لأن المعلول يستغنى بكل واحد منها عن كل واحد منها ، فيلزم افتقاره إليها بأسرها حال استغنائه عنها بأسرها ، وذلك / محال ، فثبت أن القول بكون هذه الأفعال مؤثرة في هذه الأحكام يفضي إلى هذا المحال ، فكان القول به باطلاً.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر بالله.
فإن قيل : فكيف الجمع بينه وبين قوله : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } .
قلنا : وجب أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب ، ودلت الآية على أن الصلاة لازمة للكافر ، ولولا ذلك لما ذمهم الله تعالى على فعلهاعلى وجه الكسل.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال الموجب للذم ليس هو ترك الصلاة ؟
بل الموجب للذم هو الإتيان بها على وجه الكسل جارياً مجرى سائر تصرفاتها من قيام وقعود ، وكما لا يكون قعودهم على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعتهم ، فكذلك كان يجب في صلاتهم لو لم تجب عليهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 71
(1/2234)
المسألة الرابعة : مضى تفسير الكسالى في سورة النساء. قال صاحب "الكشاف" : {كُسَالَى } بالضم والفتح جمع الكسلان : نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران. قال المفسرون : هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى ، وإن كان وحده لم يصل. قال المصنف : إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات ، لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفاً من مذمة الناس ، وهذا القدر لا يدل على الكفر. أما لما ذكره الله تعالى بعد أن وصفهم بالكفر ، دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب ، وذلك يوجب الكفر.
أما قوله : {وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَـارِهُونَ} فالمعنى : أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة ، بل رعاية للمصلحة الظاهرة ، وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرماً وضيعة بينهم ، وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله ، لأن الله تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق ، وهذا معنى قوله عليه السلام : "أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم" فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق. قال المصنف رضي الله عنه : حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة ، فإن لم يؤت بها لهذا الغرض ، فلا فائدة فيه ، بل ربما صارت وبالاً على صاحبها.
المسألة الخامسة : {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ} قرأ حمزة والكسائي {أَن تُقْبَلَ} بالياء والباقون بالتاء على التأنيث. وجه الأولين : أن النفقات في معنى الإنفاق ، كقوله : {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ} ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث. قال صاحب "الكشاف" : قرىء {نَفَقَـاتُهُمْ} و{نَفَقَـاتُهُمْ} على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمي {أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ} على إسناد الفعل إلى الله عز وجل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 71
74
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا ، فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا ، وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم ، ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه ، فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم ، بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة. ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم ، وعند هذا يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا ، وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا. ومن الله التوفيق. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الخطاب ، وإن كان في الظاهر مختصاً بالرسول عليه السلام ، إلا أن المراد منه كل المؤمنين ، أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين ، ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (طه : 131) الآية.
المسألة الثانية : الإعجاب : السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله ، فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره ، والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء ، ولذلك قال عليه السلام : "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وكان عليه السلام يقول : "هلك المكثرون" وقال عليه السلام : "مالك من مالك / إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" وذكر عبيد بن عمير ، ورفعه إلى الرسول عليه السلام : "من كثر ماله اشتد حسابه ، ومن كثر بيعه كثرت شياطينه ، ومن ازداد من السلطان قرباً ، ازداد من الله بعداً" والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة ، والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا ، والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها. قال بعض المحققين : الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : الأول : الذي يكون أزلياً أبدياً ، وهو الله جل جلاله والثاني : الذي لا يكون أزلياً ولا أبدياً وهو الدنيا. والثالث : الذي يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا محال الوجود ، لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. والرابع : الذي يكون أبدياً ولا يكون أزلياً وهو الآخرة وجميع المكلفين ، فإن الآخرة لها أول ، لكن لا آخر لها ، وكذلك المكلف سواء كان مطيعاً أو كان عاصياً فلحياته أول ، ولا آخر لها.
جزء : 16 رقم الصفحة : 74
(1/2235)
وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبني الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا ، ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا ، وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا.
أما قوله : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال النحويون : في الآية محذوف ، كأنه قيل : إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ، ويجوز أيضاً أن يكون هذا اللام بمعنى "أن" كقوله : {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء : 26) أي أن يبين لكم.
المسألة الثانية : قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير. والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال القاضي : وههنا سؤالان : الأول : وهو أن يقال : المال والولد لا يكونان عذاباً ، بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده ، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير ، إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال. لأنه يقال : بعد هذا التقديم والتأخير ، فكيف يكون المال والولد عذاباً ؟
فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب ، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير ، لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سبباً للعذاب ، وأيضاً فلو أنه قال : {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـافِرُونَ} لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة ، لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا ، وليس كذلك حال العذاب ، فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة ، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 74
المسألة الثالثة : الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الدنيا ، ويحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الآخرة. أما كونها سبباً للعذاب في الدنيا فمن وجوه : الأول : أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى ، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب ، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب ، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها ، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها. فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها. والثاني : أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها ، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه ، فالمشغوف بالمال والولد أبداً يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال ، فالتعب كثير والنفع قليل. والثالث : أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد ، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره ، أولا تبقى ، بل تهلك وتبطل. فإن كان الأول ، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته ، لأن مفارقة المحبوب شديدة ، وترك المحبوب أشد وأشق ، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها ، واشتد تألم قلبه بسببها ، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا. الرابع : أن الدنيا حلوة خضرة والحواس مائلة إليها ، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها ، فيصير ذلك سبباً لحرمانه عن ذكر الله ، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر ، وكلما كان المال والجاه أكثر. كانت تلك القسوة أقوى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب ، فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة ، فيعظم تألمه وتقوى حسرته ، ثم عند الحشر حلالها حساب ، وحرامها عقاب. فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل/ فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 74
(1/2236)
قلنا : المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب : أحدها : أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا ، وأما المنافق لما عتقد أنه لا سعادة / إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها ، واشتد حبه لها ، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه ، وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته ، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد. وثانيها : أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو ، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل ، والقوم كانوا يعتقدون أن محمداً ليس بصادق في كونه رسولاً من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة ، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ، ولا شك أن هذا أشق على القلب جداً ، فهذه الزيادة من التعذيب ، كانت حاصلة للمنافقين. وثالثها : أنهم كانوا يبغضون محمداً عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة. ورابعها : أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهوراً تاماً ، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار ، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل ، وسبي الأولاد ونهب الأموال ، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة ، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب. وخامسها : أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء ، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ، شهد بدراً وكان من الله بمكان ، وهم خلق كثير مبرؤن عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ، ويقدحون فيهم ، ويعترضون عليهم ، والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه ، فصار حصول تلك الأولاد سبباً لعذابهم. وسادسها : أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم. وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء ، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق ، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سبباً لحصول هذه الأحوال ، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سبباً لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 74
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله : {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـافِرُونَ} قالوا : لأن معنى الآية أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر.
/ أجاب الجبائي فقال : معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين ، وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريداً للكفر ، ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب : أريد أن تدخل علي في وقت مرضي ، فهذه الإرادة لا توجب كونه مريداً لمرض نفسه ، وقد يقول للطبيب : أريد أن تطيب جراحتي ، وهذا لا يقتضي أن يكون مريداً لحصول تلك الجراحة ، وقد يقول السلطان لعسكره : اقتلوا البغاة ، حال إقدامهم على الحرب ، وهذا لا يدل على كونه مريداً لذلك الحرب ، فكذا ههنا.
والجواب : أن الذي قاله تمويه عجيب ، وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد ، وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء ، فإذا قال المريض للطبيب : أريد أن تدخل علي في وقت مرضي ، كان معناه : أريد أن تسعى في إزالة مرضي ، وإذا قال له : أريد أن تطيب جراحتي كان معناه : أريد أن تزيل عني هذه الجراحة ، وإذا قال السلطان : اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب ، كان معناه : طلب إزالة تلك المحاربة وإبطالها وإعدامها ، فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مراداً بخلاف هذه الآية ، وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره ، وليس أيضاً مستلزماً لتلك الإزالة ، بل هما أمران متناسبان ، ولا منافاة بينهما البتة ، فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين ، وجب أن يكون مريداً لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق ، كما أنه لو قال : أريد ألقى (أن) فلاناً حال كونه في الدار ، فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار ، وتمام التحقيق في هذا التقدير : أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ، ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته ، فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر ، وثبت أن من أراد شيئاً فقد أراد جميع ما هو من ضروراته ، لزم كونه تعالى مريداً لذلك الكفر ، فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه.
(1/2237)
جزء : 16 رقم الصفحة : 74
75
/ اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا ، خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا ، عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم ، وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال : {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي على دينكم.
ثم قال تعالى : {وَمَا هُم مِّنكُمْ} أي ليسوا على دينكم {وَلَـاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} القتل ، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق ، وهو كقوله تعالى : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ} (البقرة : 14) والفرق الخوف ، ومنه يقال : رجل فروق. وهو الشديد الخوف ، ومنها : أنهم لو وجدوا مفراً يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم ، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب ، فقوله : {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَـاًا} الملجأ : المكان الذي يتحصن فيه ، ومثله اللجأ مقصوراً مهموزاً ، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم ، ومثله التجأ والجأته إلى كذا ، أي جعلته مضطراً إليه ، وقوله : {أَوْ مَغَـارَاتٍ} هي جمع مغارة ، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه ، أي يستتر. قال أبو عبيد : كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين. وقوله : {مُدَّخَلا} قال الزجاج : أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً ، لأن التاء مهموسة ، والدال مهجورة ، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول ، كالمتلج من الولوج. ومعناه : المسلك الذي يستتر بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد : نفقا كنفق اليربوع. والمعنى : أنهم لو جدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة ، مع أنها شر الأمكنة {لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ} أي رجعوا إليه. يقال : ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله : {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوههم شيء ، ومن هذا يقال : جمح الفرس وهو فرس جموح ، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام ، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين صاروا بهذه الحالة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 75
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي : الملجأ ، والمغارات ، والمدخل ، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه ، فالملجأ يحتمل الحصون ، والمغارات الكهوف في الجبال ، والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار. قال صاحب "الكشاف" : قرىء {مُدَّخَلا} من دخل و{مُدَّخَلا} من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم ، وقرأ أبي بن كعب وقرأ {ءَاوَى ا إِلَيْهِ} أي لالتجاؤا ، وقرأ أنس فسئل عنه فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.
جزء : 16 رقم الصفحة : 75
77
اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم ، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون : إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : بينا النبي صلى الله عليه وسلّم يقسم مالاً إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي ، وهو حرقوص بن زهير ، أصل الخوارج فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" فنزلت هذه الآية. قال الكلبي : قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً" فلما ذهب ، قال عليه الصلاة والسلام : "احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون" وروى أبو بكر الأصم رضي الله عنه في "تفسيره" : أنه صلى الله عليه وسلّم قال لرجل من أصحابه : "ما علمك بفلان" فقال : مالي به علم إلا إنك ندنيه في المجلس وتجزل له العطاء ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره" فقال : لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إنه مؤمن أكله إلى إيمانه ، وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده".
المسألة الثانية : قوله : {مَّن يَلْمِزُكَ} قال الليث : اللمز كالهمز في الوجه. يقال : رجل لمزة يعيبك في وجهك ، ورجل همزة يعيبك بالغيب. وقال الزجاج : يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر ، وألمزه بضم الميم إذا عيبته ، وكذلك همزته أهمزه همزاً. إذا عيبته ، والهمزة اللمزة : الذي يغتاب الناس ويعيبهم ، وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز. قال الأزهري : وأصل الهمز / واللمز الدفع. يقال : همزته ولمزته إذا دفعته ، وفرق أبو بكر الأصم بينهما ، فقال : اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه ، والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 77
(1/2238)
إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : يلمزك يغتابك. وقال قتادة : يطعن عليك. وقال الكلبي : يعيبك في أمر ما ، ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ. قال أبو علي الفارسي : ههنا محذوف والتقدير : يعيبك في تفريق الصدقات. قال مولانا العلامة الداعي إلى الله : لفظ القرآن وهو قوله : {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَـاتِ} لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب ، إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك ، ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوهاً أخر سواها. فأحدها : أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقاً غير جائز ، لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز. أقصى ما في الباب أن يقال : يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن الله تعالى أغنى الأغنياء ، فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء : فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول. فهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن بعض اليهود ، وهو أنهم قالوا : {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } وثانيها : أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير ، فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. وثالثها : أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه. وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه. قال أهل المعاني : هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم ، وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة ، مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا. قال الضحاك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره ، وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه. وأما المنافقون : فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا ، وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين. وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم ، فسخط المنافقون. وقوله : {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} كلمة {إِذَا} للمفاجأة ، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط.
ثم قال : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا } الآية والمعنى : ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل ، وقالوا : كفانا ذلك وسيرزقنا الله غنيمة أخرى ، فيعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر مما أعطانا اليوم ، إنا إلى طاعة الله وإفضاله وإحسانه لراغبون.
جزء : 16 رقم الصفحة : 77
واعلم أن جواب "لو" محذوف ، والتقدير : لكان خيراً لهم وأعود عليهم ، وذلك لأنه غلب / عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم ، فيتوكلوا على الله حق توكله ، وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل ، وهو كقولك للرجل : لو جئتنا ، ثم لا تذكر الجواب ، أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً.
المسألة الثانية : الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق. وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه ، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق ، والأصل في هذا الباب أن يكون راضياً بقضاء الله ، ألا ترى أنه قال : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِه وَرَسُولُه ا إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فذكر فيه مراتب أربعة :
المرتبة الأولى : الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ ، وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور ، وكل ما كان حكماً له وقضاء كان حقاً وصواباً ولا عتراض عليه.
والمرتبة الثانية : أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم ، وهو قوله : {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية ، فحسبنا الله.
والمرتبة الثالثة : وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول : {حَسْبُنَا اللَّهُ} نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول : {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِه وَرَسُولُه } إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير ، وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل.
(1/2239)
والمرتبة الرابعة : أن يقول : {إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا ، وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة. وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال : {إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل : إنا إلى ثواب الله راغبون. ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال : ما الذي يحملكم عليه ؟
قالوا : الخوف من عقاب الله ، فقال : أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون الله ، فقال : ما الذي يحملكم عليه ، فقالوا : الرغبة في الثواب/ فقال : أصبتم ، ثم مر على قوم قالق مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا : لا نذكره للخوف من العقاب ، ولا للرغبة في الثواب ، بل لإظهار ذلة العبودية ، وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته ، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته. فقال : أنتم المحقون المحققون.
جزء : 16 رقم الصفحة : 77
89
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في الصدقات ، بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها ، فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات. وههنا مقامات :
المقام الأول : بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء ، وصرفها إلى المحتاجين من الناس.
والمقام الثاني : بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية.
أما المقام الأول : فنقول : الحكمة في إيجاب الزكاة أمور ، بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة. وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة.
أما القسم الأول : فهو أمور : الأول : أن المال محبوب بالطبع ، والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ، ولعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال : إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإلا لزم ، إما التسلسل وإما الدور ، وهما محالان ، فوجب الانتهاء في الآشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوباً لذاته. والكمال محبوب لذاته ، والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال ، وصفة الكمال محبوبة لذاتها ، كانت القدرة محبوبة لذاتها. والمال سبب لحصول تلك القدرة ، ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال ، والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب ، فكان المال محبوباً ، فهذا هو السبب في كونه محبوباً إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ، ليصير ذلك الإخراج كسراً من شدة الميل إلى المال ، ومنعاً من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيهاً لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال وإنما تحصل / بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب ، فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة. وهو المراد من قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة : 103) أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا.
والوجه الثاني : وهو أن كثرة المال ، توجب شدة القوة وكمال القدرة ، وتزايد المال يوجب تزايد القدرة ، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة ، وتزايد تلك اللذات ، يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سبباً لحصول هذه اللذات المتزايدة ، وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور ، لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة ، وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال ، ولما صارت المسألة مسألة الدور ، لم يظهر لها مقطع ولا آخر ، فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
والوجه الثالث : أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب ، وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة ، والقدرة محبوبة لذاتها ، والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه ، فالإنسان يصير غرقاً في طلب المال ، فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع ، وهذا هو المراد بالطغيان ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ، 7) فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن.
والوجه الرابع : أن النفس الناطقة لها قوتان ، نظرية وعملية ، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله ، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله ، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم ، ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام : "تخلقوا بأخلاق الله".
(1/2240)
والوجه الخامس : أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعياً في إيصال الخيرات إليهم ، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة ، على ما قاله عليه الصلاة والسلام : "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها" فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله ، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر ، أمدوه بالدعاء والهمة ، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة فصارت تلك الدعوات سبباً لبقاء ذلك / الإنسان في الخير والخصب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الارْضِ } (الرعد : 17) وبقوله عليه الصلاة والسلام : {حصنوا أموالكم بالزكاة".
والوجه السادس : أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء ، فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه ، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره ، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام ، ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق ، والاستغناء بالشيء صفة الخلق ، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالاً كثيرة فقد رزقه نصيباً وافراً من باب الاستغناء بالشيء. فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء ، إلى المقام الذي هو أعلى منه ، وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء.
والوجه السابع : أن المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه ، فهو غاد ورائح ، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق ، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق. فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله ، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، وسمعت واحداً يقول : الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر ، فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
والوجه الثامن : وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء ، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين ، فكان البذل أولى.
والوجه التاسع : أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى ، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله ، وذلك منتهى كمالات الإنسانية.
والوجه العاشر : أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء : الروح والبدن والمال. فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقاً في هذا التكليف. ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقاً بالذكر والقراءة ، والبدن مستغرقاً في تلك الأعمال ، بقي المال ؛ فلو لم يصر المال مصروفاً إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه ، وذلك جهل ، لأن مراتب السعادات ثلاثة : أولها : السعادات الروحانية. وثانيها : السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى. وثالثها : السعادات الخارجية وهي المال والجاه. فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية ، فإذا صار الروح مبذولاً في مقام العبودية ، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي ، وذلك جهل. فثبت أنه يجب على العاقل أيضاً بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى.
/ والوجه الحادي عشر : أن العلماء قالوا : شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة ، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب.
(1/2241)
والوجه الثاني عشر : أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين ، وزوال الحقد والحسد عنهم ، وكل ذلك من المهمات ، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة ، فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة ، الأول : أن الله تعالى خلق الأموال ، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها. فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل ، بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد ، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة ، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعياً في تحصيل ذلك المال ، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره ، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة ، وحضر إنسان آخر محتاج ، فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال. أما في حق المالك ، فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله ، وأيضاً شدة تعلق قلبه به ، فإن ذلك التعلق أيضاً نوع من أنواع الحاجة. وأما في حق الفقير ، فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به ، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان. فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به ، وحصل للفقير حق الاحتياج ، فرجحنا جانب المالك ، وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيراً منه توفيقاً بين الدلائل بقدر الإمكان. الثاني : أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية. الثالث : أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) والأغنياء خزان الله لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله ، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ، ولا يملك ملء بطنه طعاماً ، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفواً صفواً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه : اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي.
الوجه الرابع : أن يقال : المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير / العاجز عن الكسب بالكلية ؛ لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.
الوجه الخامس : أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قليلاً ، تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان. أما الفقير ليس له شيء أصلاً ، فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلاً وليس له ما يجبره ، فكان ذلك أولى.
الوجه السادس : أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها.
الوجه السابع : قال عليه الصلاة والسلام : "الإيمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر" والمال محبوب بالطبع ، فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر ، وكأنه قيل : أيها الغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين/ فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين ، وأيها الفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ، ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني ، فصرت من الشاكرين ، فكان إيجاب الزكاة سبباً في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معاً.
الوجه الثامن : كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة ، ولكني جعلت نفسي مديوناً من قبلك ، وإن كنت قد أعطيت الغني أموالاً كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك ، وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه ، فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار.
فإن قال الغني : قد أنعمت عليك بهذا الدينار ، فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار ، وفي الآخرة من عذاب النار ، فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة بعضها يقينية ، وبعضها إقناعية ، والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله. والله أعلم.
المقام الثاني : في تفسير هذه الآية وفيه مسائل :
(1/2242)
المسألة الأولى : قوله : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ} الآية تدل على أنه لا حق في الصدقات / لأحد إلا لهذه الأصناف الثمانية ، وذلك مجمع عليه ، وأيضاً فلفظة {إِنَّمَا} تفيد الحصر ويدل عليه وجوه : الأول : أن كلمة {إِنَّمَا} مركبة من "إن" و"ما" وكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي ، فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم ، فوجب أن يفيد الثبوت المذكور ، وعدم ما يغايره. الثاني : أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام : "إنما الربا في النسيئة" ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، وأيضاً تمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام : "إنما الماء من الماء" ولولا أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإلا لما كان كذلك. وقال تعالى : {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (النساء : 171) والمقصود بيان نفي الإلهية للغير والثالث : الشعر. قال الأعشى :
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقال الفرزدق :
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فثبت بهذه الوجوه أن كلمة {إِنَّمَا} للحصر ، ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل : "إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس ، وداء في البطن" وقال : "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى".
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السلام في أخذ الصدقات ، بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤلاء الأصناف الثمانية ، ولا يأخذها لنفسه ولا لأقاربه ومتصليه ، وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة ، والمصلحة اللازمة ، وإذا كان الأمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة. فكان عليه الصلاة والسلام يقول : "ما أوتيكم شيئاً ولا أمنعكم ، إنما أنا خازن أضع حيث أمرت".
المسألة الثالثة : مذهب أبي حنيفة رحمه الله : أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط ، وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي ، وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي ، وقال الشافعي رحمه الله : لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية ، وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز : واحتج بأنه تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب. ثم أكدها بقوله : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } قال : / ولا بد في كل صنف من ثلاثة ، لأن أقل الجمع ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم الفقراء. قال : ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية ، مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف ولزمك أن تتصدق بعشرة دراهم ، جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان ، ولا يجوز التفاضل. ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثلاثة ، ولا يلزمك التسوية بينهم ، فلك أن تعطي فقيراً درهماً وفقيراً خمسة أسداس درهم وفقيراً سدس درهم ، هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب الشافعي رحمه الله. قال المصنف الداعي إلى الله رضي الله عنه : الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رحمه الله ، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية ، وذلك لا يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة هؤلاء الثمانية. والدليل عليه العقل والنقل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
أما النقل : فقوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال : 41) الآية ، فأثبت خمس الغنيمة لهؤلاء الطوائف الخمس ، ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب تفرقته على هذه الطوائف ، بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤلاء الأصناف ، فإما أن يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة موزعاً على كل هؤلاء فلا ، فكذا ههنا مجموع الصدقات تكون لمجموع هذه الأصناف الثمانية. فإما أن يقال : إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه الأصناف الثمانية ، فاللفظ لا يدل عليه البتة.
(1/2243)
وأما العقل : فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع ، ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء. فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره ، والذي يدل على صحة قولنا وجوه : الأول : أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً لما وجب عليه إخراج نصف دينار ، فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسماً لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر. الثاني : أن هذا التوقيف لو كان معتبراً لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة ، ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر ، ولو كان كذلك لما خالفوا فيه ، وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر. الثالث : وهو أن الشافعي رحمه الله له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات ، فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة ، ولا يمر به أحد من الغرباء ، واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديوناً فكيف تكليفه ؟
فإن قلنا : وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه / من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه ، فذاك قول لم يقل به أحد وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب. والله أعلم.
المسألة الرابعة : في تعريف الأصناف الثمانية ، فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين ، ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم. ثم اختلفوا فقال بعضهم : الذي يكون أشد حاجة هو الفقير ؛ وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه. وقال آخرون : الذي أشد حاجة هو المسكين ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ، ومن الناس من قال : لا فرق بين الفقراء والمساكين ، والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ، واختيار أبي علي الجبائي ، وفائدته تظهر في هذه المسألة ، وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين/ فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف. وقال الجبائي : إنه تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية. وأيضاً الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا ، وهو أن رجلاً لو قال : أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين ، وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله من كان أشد حاجة ، وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة ، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم ، وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة ، لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ألا ترى أنه يقال : أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي ، ومن فضل علياً على عثمان يقول علي وعثمان ، وأنشد عمر قول الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال هلا قدم الإسلام على الشيب ؟
فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين.
الوجه الثاني : قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالاً من المسكين ، لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره ، فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل : مطبوخ وطبيخ ، ومجروح وجريح ، فثبت أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من / التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد :
لما رأى لبد النسور تطايرت
رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار ، يضرب مثلاً لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور ، ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى : {وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذا بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (القيامة : 24 ، 25) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي.
الوجه الثالث : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يتعوذ من الفقر ، وقال : "كاد الفقر أن يكون كفراً" ثم قال : "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان ، لأنه تعوذ من الفقر ، ثم سأل حالاً أسوأ منه ، أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة.
الوجه الرابع : أن كونه مسكيناً ، لا ينافي كونه مالكاً للمال بدليل قوله تعالى : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـاكِينَ} (الكهف : 79) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير ، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيراً مع أنه يملك شيئاً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
(1/2244)
فإن قالوا : الدليل عليه قوله تعالى : {وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } (محمد : 38) فوصف الكل ، بالفقر مع أنهم يملكون أشياء.
قلنا : هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى ، فإن أحداً سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئاً بالنسبة إلى الله فصح قولنا.
الوجه الخامس : قوله تعالى : {أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد : 14 ـ 16) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي يذ ألصق بالتراب من شدة الفقر ، فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه {ذَا مَتْرَبَةٍ} وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئاً/ فهذا يدل على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء.
الوجه السادس : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئاً ، قال : وهم أهل الصفة ، صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم ، فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا ، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس.
وجه الاستدلال : أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر ، فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين ، ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحداً شيئاً أشد من أحوال من يحتاج ، ثم يسأل الناس ويطوف عليهم ، ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالاً من المسكين.
/ الوجه السابع : أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون ، فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئاً فقد سكن قلبه ، وزال عنه الخوف والقلق ، ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم ؛ لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال ، فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير ، ويقال : تمسكن الرجل إذا لان وتواضع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي : "تأن وتمسكن" يريد تواضع وتخشع ، فدل هذا على أن المسكين هو السائل.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قال في آية أخرى : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات : 19) فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل ، وجب أن يكون المحروم هو الفقير ، ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان ، فثبت أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
الوجه الثامن : أنه عليه الصلاة والسلام قال : "أحيني مسكيناً" الحديث ، والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكيناً ، وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء ، أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام : "كاد الفقر أن يكون كفراً" فثبت بهذا أن الفقر أشد حالاً من المسكنة.
الوجه التاسع : أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان ، كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا : الترفع والتمسكن ضدان ؛ فمن كان منقاداً لكل أحد خائفاً منهم متحملاً لشرهم ساكتاً عن جوابهم متضرعاً إليهم. قالوا : إن فلاناً يظهر الذل والمسكنة ، وقالوا : إنه مسكين عاجز ، وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى ، وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكيناً ، إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة ، وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعاً عن التواضع والمسكنة ، فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع ، والأول ينافي حصول المال ، والثاني لا ينافي حصوله.
الوجه العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة : "خذها من أغنيائهم ، وردها على فقرائهم" ولو كانت الحاجة في المساكين أشد ، لوجب أن يقول : وردها على مساكينهم ، لأن ذكر الأهم أولى ، فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين ، واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالاً من الفقير بوجوه : الأول : احتجوا بقوله تعالى : {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد : 16) وصف المسكين بكونه ذا متربة ، وذلك يدل على نهاية الضر والشدة ، وأيضاً أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له ، ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع. الثاني : احتجوا بقول الراعي :
أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سيد
/ سماه فقيراً وله حلوبة. الثالث : قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس. الرابع : نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا : الفقير الذي له ما يأكل. والمسكين الذي لا شيء له ، وقال يونس : الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له ، وقلت لأعرابي أفقير أنت ؟
قال : لا والله بل مسكين.
(1/2245)
والجواب : عن تمسكهم بالآية أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا ، فإنه لما قيد المسكين المذكور ههنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة قوله : أنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه ، قلنا : نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة ، وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيراً فقد كانت له حلوبه ثم السيد لم يترك له شيئاً ، فلم لا يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيراً ؟
والجواب عن قولهم : المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت.
قلنا : بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال ، وسمي مسكيناً إما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه ، وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم ، وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن الأنباري رحمهما الله ، وأيضاً نقل القفال في "تفسيره" عن جابر بن عبد الله أنه قال : الفقراء فقراء المهاجرين ، والمساكين الذين لم يهاجروا ، وعن الحسن الفقير الجالس في بيته ، والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل ، وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون ، والمساكين الذين يسألون ، قال مولانا الداعي إلى الله : هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل ، والمسكين يسأل ، ومن سأل وجد ، فكان المسكين أسهل وأقل حاجة.
الصنف الثالث : قوله تعالى : {وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة لجباية الصدقة ، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم ، وهو قول الشافعي رحمه الله ، وقول عبد الله بن عمر وابن زيد ، وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات ، وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه الله يقول هذا أجرة العمل فيتقدر بقدر العمل ، والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات ليناله منها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على / الصدقات ، وقال : أما علمت أن مولى القوم منهم. وإنما قال : {وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا} لأن كلمة على تفيد الولاية كما يقال فلان على بلد كذا إذا كان والياً عليه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
(1/2246)
الصنف الرابع : قوله تعالى : {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} قال ابن عباس : هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً ، أبو سفيان ، والأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وحويطب بن عبد العزى ، وسهل بن عمرو من بني عامر ، والحرث بن هشام ، وسهيل بن عمرو الجهني ، وأبو السنابل ، وحكيم بن حزام. ومالك بن عوف ، وصفوان بن أمية ، وعبد الرحمن بن يربوع ، والجد بن قيس ، وعمرو بن مرداس. والعلاء بن الحرث أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام ، إلا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أحداً من الناس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، ثم سأله فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيم : يا رسول الله أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "بل التي رغبت عنها" فقال : والله لا آخذ غيرها : فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً وشق على رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلك العطايا لكن ألفهم بذلك. قال المصنف رحمه الله : هذه العطايا إنما كانت يوم حنين ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة في تفسير هذه الآية ، ولعل المراد بيان أنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة ، فأما أن يجعل ذلك تفسيراً لصرف الزكاة إليهم فلا يليق بابن عباس ، ونقل القفال أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة ، وقال المقصود أن يستعين الإمام بهم على استخراج الصدقات من الملاك. قال الواحدي : إن الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين ، فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات وأقول إن قول الواحدي إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسماً من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل البتة ، وأيضاً فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال : {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهذا عام في المسلم وغيره ، والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه (لا) دليل على نسخه البتة.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
الصنف الخامس : قوله : {وَفِى الرِّقَابِ} قال الزجاج : وفيه محذوف ، والتقدير : وفي فك الرقاب وقد مضى الاستقصاء في "تفسيره" في سورة البقرة في قوله : {وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة : 177) ثم في تفسير الرقاب أقوال :
القول الأول : إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به ، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله ، والليث بن سعد ، واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قوله : {وَفِى الرِّقَابِ} يريد المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى } (النور : 33).
والقول الثاني : وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون.
والقول الثالث : قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي ، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويما بها مكاتب لأن قوله : {وَفِى الرِّقَابِ} يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه.
والقول الرابع : قول الزهري : قال سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين من المسلمين ، ونصف يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا ، وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة ، قال أصحابنا : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب ، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك وهو قوله : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ} ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال : {وَفِى الرِّقَابِ} فلا بد لهذا الفرق من فائدة ، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما {وَفِى الرِّقَابِ} فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق ، ولا يدفع إليهم ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا ، بل يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم ، وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم ، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك. والحاصل : أن في الأصناف الأربعة الأول ، يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم ، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
(1/2247)
الصنف السادس : قوله تعالى : {وَالْغَـارِمِينَ} قال الزجاج : أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام العذاب اللازم ، وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً ، ومنه : فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن ، وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له ، فالمراد بالغارمين المديونون ، ونقول : الدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية ، لأن المقصود من صرف / المال المذكور في الآية الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية ، وروى الأصم في "تفسيره" أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قضى بالغرة في الجنين ، قال العاقلة : لا نملك الغرة يا رسول الله قال لحمد بن مالك بن النابغة : "أعنهم بغرة من صدقاتهم" وكان حمد على الصدقة يومئذ.
الصنف السابع : قوله تعالى : {وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} قال المفسرون : يعني الغزاة. قال الشافعي رحمه الله : يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وإسحق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم الله : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً.
واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله : {وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} لا يوجب القصر على كل الغزاة ، فلهذا المعنى نقل القفال في "تفسيره" عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد ، لأن قوله : {وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} عام في الكل.
والصنف الثامن : ابن السبيل قال الشافعي رحمه الله : ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة. قال الأصحاب : ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة ، جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل ، فهذا هو الكلام في شرح هذه الأصناف الثمانية.
المسألة الخامسة : في أحكام هذه الأقسام.
الحكم الأول
اتفقوا على أن قوله : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ} دخل فيه الزكاة الواجبة ، لأن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة ، قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة : 103) وقال عليه الصلاة والسلام : "ليس فيما دون خمسة ذود وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من قال : تدخل فيها لأن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضاً الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء ، والأقرب أن المراد من لفظ الصدقات ههنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية ، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة ، الثاني : أن ظاهر هذه الآية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إلا لهؤلاء الثمانية ، وهذا الحصر إنما يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة ، أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر ، لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد ، والرباطات ، والمدارس ، وتكفين / الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه. الثالث : أن قوله تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ} إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات وأقسامها حتى ينصرف هذا الكلام إليه ، والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة فوجب انصراف هذا الكلام إليها.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
الحكم الثاني
دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخدها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قبله/ والدليل عليه أن الله تعالى جعل للعاملين سهماً فيها ، وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ، فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات ، وتأكد هذا النص بقوله تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر ، ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالى : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ} فإذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه ابتداء.
الحكم الثالث
نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق ، واختلفوا في أن الإمام هل له فيه حق ؟
فمنهم من أثبته قال : لأن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته ، فالعامل في الحقيقة هو الإمام ، ومنهم من منعه وقال : الآية دلت على حصر مال الزكاة في هؤلاء الثمانية ، والإمام خارج عنهم فلا يصرف هذا المال إليه.
الحكم الرابع
(1/2248)
اختلفوا في هذا العامل إذا كان غنياً هل يأخذ النصيب ؟
قال الحسن : لا يأخذ إلا مع الحاجة وقال الباقون : يأخذ وإن كان غنياً لأنه يأخذه أجرة على العمل ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : للعامل في مال الزكاة الثمن ، لأن الله تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن ، كما أن من أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه ، وقال الأكثرون : بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية والجمع.
الحكم الخامس
اتفقوا على أن مال الزكاة لا يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط ؟
وقد سبق ذكر دلائل هاتين المسألتين ، إلا أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض / الأصناف فقط فهذا إنما يجوز في غير العامل ، وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز بالاتفاق.
الحكم السادس
أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان ، ففيه الأصناف الستة والأولى صرف الزكاة إلى هذه الأصناف الستة على ما يقوله الشافعي ، لأنه الغاية في الاحتياط ، أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما بيناه.
الحكم السابع
عموم قوله : {لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ} يتناول الكافر والمسلم إلا أن الأخبار دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إلا إذا كانوا مسلمين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأصناف الثمانية وشرح أحوالهم. قال : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } قال الزجاج : {فَرِيضَةً} منصوب على التوكيد ، لأن قوله : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ} لهؤلاء جار مجرى قوله : فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة ، وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه" والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمُ } أي أعلم بمقادير المصالح {حَكِيمٌ} لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح والله أعلم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 89
91
اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله أنه أذن على وجه الطعن والذم ، وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية الأعمش وعبد الرحمن عن أبي عكرمة عنه {أُذُنُ خَيْرٍ} مرفوعين منونين ، على تقدير : إن كان كما تقولون إنه أذن. فأذن خير لكم يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ، والباقون {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} بالإضافة ، أي هو أذن خير ، لا أذن شر ، وقرأ نافع {أُذُنٌ } ساكنته الذال في كل القرآن ، والباقون بالضم وهما لغتان مثل عنق وظفر.
المسألة الثانية : قال ابن عباس رضي الله عنه : أن جماعة من المنافقين ، ذكروا النبي صلى الله عليه وسلّم بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول ، فقال الجلاس بن سويد : بل نقول ما شئنا ، ثم نذهب إليه ونحلف أنا ما قلنا ، فيقبل قولنا ، وإنما محمد أذن سامعة ، فنزلت هذه الآية. وقال الحسن : كان المنافقون يقولون ما هذا الرجل إلا أذن ، من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له. وروى الأصم أن رجلاً منهم قال لقومه إن كان ما يقول محمد حقاً ، فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته ، فقال : والله إنه لحق وإنك أشر من حمارك ، ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك فقال بعضهم : إنما محمد أذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك ، فنزلت هذه الآية على وفق قوله. فقال القائل : يا رسول الله لم أسلم قط قبل اليوم ، وإن هذا الغلام لعظيم الثمن علي والله لأشكرنه ثم قال الأصم : أظهر الله تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا. فقال : {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَـاتِ} .
ثم قال : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ} ثم قال : {وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ} إلى غير ذلك من الأخبار عن الغيوب ، وفي كل ذلك دلائل على كونه نبياً حقاً من عند الله.
جزء : 16 رقم الصفحة : 91
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي ، ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن ، وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور ، بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع ، فلهذا السبب سموه بأنه أذن ، كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال : جعل فلان علينا عيناً ، أي جاسوساً متفحصاً عن الأمور ، فكذا ههنا.
ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} والتقدير : هب أنه أذن لكنه خير لكم وقوله : {أُذُنُ خَيْرٍ} مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل ، ثم بين كونه {أُذُنُ خَيْرٍ} بقوله : {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ } جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام {أُذُنُ خَيْرٍ} فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية.
(1/2249)
أما الأول : وهو قوله : {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فلأن كل من آمن بالله خائفاً من الله ، والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل.
/ وأما الثاني : وهو قوله : {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد ، سلم لهم ذلك القول ، وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار.
فإن قيل : لم عدى الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين باللام ؟
قلنا : لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر ، فعدى بالباء ، والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فيتعدى باللام ، كما في قوله : {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} (يوسف : 17) وقوله : {فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَى ا إِلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِه } (يونس : 83) وقوله : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ} (الشعراء : 111) وقوله : {قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ} (الشعراء : 49).
وأما الثالث : وهو قوله : {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ } فهذا أيضاً يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر ، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم ، ولا يسعى في هتك أستاركم ، فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه {أُذُنُ خَيْرٍ} ولما بين كونه سبباً للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم ، لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ، ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور ، فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى.
جزء : 16 رقم الصفحة : 91
المسألة الرابعة : أما قراءة من قرأ {أُذُنُ خَيْرٍ} بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه :
الوجه الأول : التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون ، ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن ، وهو قوله : {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ } والمعنى أن من كان موصوفاً بهذه الصفات ، فكيف يجوز الطعن فيه ، وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار ؟
الوجه الثاني : أن يضمر مبتدأ ، والتقدير : هو أذن خير لكم ، أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم ، لأنه يقبل معاذيركم ، ويتغافل عن جهالاتكم ، فكيف جعلتم هذه الصفة طعناً في حقه ؟
الوجه الثالث : وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم. فقال : {أُذُنٌ } وإن كان رفعاً بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذناً خير إذا كان أذناًفهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم ، ونظيره ، وهو حافظاً خير لكم ، أي هو حال كونه حافظاً لكم إلا أنه لما كان محذوفاً وضع الحال مكان المبتدأ تقديره ، وهو حافظ خير لكم وإضمار "هو" في القرآن كثير. / قال تعالى : {سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ} أي هم ثلاثة ، وهذا الوجه شديد التكلف ، وإن كان قد استحسنه الواحدي جداً.
المسألة الخامسة : قرأ حمزة {وَرَحْمَةٌ} بالجر عطفاً على {خَيْرٌ} كأنه قيل : أذن خير ورحمة ، أي مستمع كلام يكون سبباً للخير والرحمة.
فإن قيل : وكل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ؟
قلنا : لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ، كما في قوله تعالى : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) قال أبو عبيد : هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه. قال أبو علي الفارسي : البعد لا يمنع من صحة العطف ، ألا ترى أن من قرأ {وَقِيلِه يَـارَبِّ} (الزخرف : 88) إنما يحمله على قوله : {وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) تقديره : وعنده علم الساعة وعلم قيله.
فإن قيل : ما وجه قراءة ابن عامر {وَرَحْمَةٌ} بالنصب ؟
قلنا : هي علة معللها محذوف ، والتقدير : ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف ، لأن قوله : {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} يدل عليه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 91
المسألة الرابعة : أما قراءة من قرأ {أُذُنُ خَيْرٍ} بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه :
الوجه الأول : التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون ، ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن ، وهو قوله : {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ } والمعنى أن من كان موصوفاً بهذه الصفات ، فكيف يجوز الطعن فيه ، وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار ؟
الوجه الثاني : أن يضمر مبتدأ ، والتقدير : هو أذن خير لكم ، أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم ، لأنه يقبل معاذيركم ، ويتغافل عن جهالاتكم ، فكيف جعلتم هذه الصفة طعناً في حقه ؟
(1/2250)
الوجه الثالث : وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم. فقال : {أُذُنٌ } وإن كان رفعاً بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذناً خير إذا كان أذناًفهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم ، ونظيره ، وهو حافظاً خير لكم ، أي هو حال كونه حافظاً لكم إلا أنه لما كان محذوفاً وضع الحال مكان المبتدأ تقديره ، وهو حافظ خير لكم وإضمار "هو" في القرآن كثير. / قال تعالى : {سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ} أي هم ثلاثة ، وهذا الوجه شديد التكلف ، وإن كان قد استحسنه الواحدي جداً.
المسألة الخامسة : قرأ حمزة {وَرَحْمَةٌ} بالجر عطفاً على {خَيْرٌ} كأنه قيل : أذن خير ورحمة ، أي مستمع كلام يكون سبباً للخير والرحمة.
فإن قيل : وكل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ؟
قلنا : لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ، كما في قوله تعالى : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) قال أبو عبيد : هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه. قال أبو علي الفارسي : البعد لا يمنع من صحة العطف ، ألا ترى أن من قرأ {وَقِيلِه يَـارَبِّ} (الزخرف : 88) إنما يحمله على قوله : {وَعِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان : 34) تقديره : وعنده علم الساعة وعلم قيله.
فإن قيل : ما وجه قراءة ابن عامر {وَرَحْمَةٌ} بالنصب ؟
قلنا : هي علة معللها محذوف ، والتقدير : ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف ، لأن قوله : {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} يدل عليه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 91
92
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة. قيل : هذا بناء على ما تقدم ، يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم. وقيل : نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا ، ففيهم نزلت الآية ، والمعنى : أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكى عنهم ، ليرضوا المؤمنين بيمينهم ، وكان من الواجب أن يرضوا الله بالإخلاص والتوبة ، لا بإظهار ما يستسرون خلافه ، ونظيره قوله : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا} (البقرة : 4 البقرة : 76).
وأما قوله : {يُرْضُوهُ} بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول ففيه وجوه : الأول : أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل ، بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيماً له. والثاني : أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله ، فاقتصر على ذكره. ويروى أن واحداً من الكفار رفع صوته. وقال : / إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ، فسمع الرسول عليه السلام ذلك وقال : "وضع الحق في أهله" الثالث : يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله :
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
والرابع : أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى ، وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله ، فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر. الخامس : لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقاً لرضا الله تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما كما يقال : إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني. السادس : التقدير : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك وقوله : {إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} فيه قولان : الأول : إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا. والثاني : أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسداً وعناداً ، فلهذا المعنى قال تعالى : {إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وفي الآية دلالة على رضا الله لا يحصل بإظهار الإيمان ، ما لم يقترن به التصديق بالقلب ، ويبطل قول الكرامية الذين يزعمون أن الإيمان ليس إلا القول باللسان.
جزء : 16 رقم الصفحة : 92
93
اعلم أن المقصود من هذه الآية أيضاً ، شرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وفي الآية مسائل :
(1/2251)
المسألة الأولى : قال أهل المعاني : قوله : {أَلَمْ تَعْلَمْ} خطاب لمن حاول الإنسان تعليمه مدة وبالغ في ذلك التعليم ثم إنه لم يعلم فيقال له : ألم تعلم بعد هذه الساعات الطويلة والمدة المديدة ، وإنما حسن ذلك لأنه طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم معهم ، وكثرت نهاياته للتحذير عن معصية الله والترغيب في طاعته ، فالضمير في قوله : {أَنَّه مَن يُحَادِدِ اللَّهَ} ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : أن الأمر والشأن كذا وكذا. والفائدة في هذا الضمير هو أنه لو ذكر بعد كلمة {ءَانٍ} ذلك المبتدأ والخبر لم يكن له كثير وقع. فأما إذا قلت الأمر والشأن كذا وكذا أوجب مزيد تعظيم وتهويل لذلك الكلام. وقوله : {مَن يُحَادِدِ اللَّهَ} قال الليث : حاددته أي خالفته ، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة ، واشتقاقه من الحد ، ومعنى حاد فلان فلاناً ، أي صار في حد غيره حده كقوله : شاقه أي صار / في شق غير شقه ، ومعنى {يُحَادِدِ اللَّهَ} أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة. وقال أبو مسلم : المحادة مأخوذة من الحديد حديد السلاح ، ثم للمفسرين ههنا عبارات : يحالف الله ، وقيل يحارب الله ، وقيل يعاند الله. وقيل يعاد الله.
ثم قال : {فَأَنَّ لَه نَارَ جَهَنَّمَ} وفيه وجوه : الأول : التقدير : فحق أن له نار جهنم. الثاني : معناه فله نار جهنم ، وإن تكرر للتوكيد. الثالث : أن نقول جواب {مَنْ} محذوف ، والتقدير : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. قال الزجاج : ويجوز كسر {ءَانٍ} على الاستئناف من بعد الفاء والقراءة بالفتح. ونقل الكعبي في "تفسيره" أن القراءة بالكسر موجودة. قال أبو مسلم جهنم من أسماء النار ، وأهل اللغة يكون عن العرب أن البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام عندهم ، فجاز في جهنم أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ، ومعنى بعد قعرها أنه لا آخر لعذابها ، والخالد : الدائم ، والخزي قد يكون بمعنى الندم وبمعنى الاستحياء ، والندم هنا أولى. لقوله تعالى : {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } .
جزء : 16 رقم الصفحة : 93
94
واعلم أنهم كانوا يسمون سورة براءة ، الحافرة حفرت عما في قلوب المنافقين قال الحسن : اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على أمر من النفاق ، فأخبر جبريل الرسول عليه الصلاة والسلام بأسمائهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إن أناساً اجتمعوا على كيت وكيت ، فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربهم حتى أشفع لهم" فلم يقوموا ، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك : "قم يا فلان ويا فلان" حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال : "الآن أنا كنت في أول الأمر أطيب نفساً بالشفاعة ، والله كان أسرع في الأجابة ، اخرجوا عني اخرجوا عني" فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكلية ، وقال الأصم : إن عند رجوع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به فأخبره جبريل ، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ، ثم قال : "من عرفت من القوم" فقال : / لم أعرف منهم أحداً ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلّم أسماءهم وعدهم له ، وقال : "إن جبريل أخبرني بذلك" فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم ليقتلوا ، فقال : "أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا الله ذلك".
فإن قيل : المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول.
(1/2252)
قلنا : فيه وجوه : الأول : قال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي ، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره ، وفي قوله : دلالة على ما قلناه. الثاني : أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم. الثالث : قال الأصم : أنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى ، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً. قال القاضي : يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما. قال الداعي إلى الله : هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات ، الرابع : معنى الحذر الأمر بالحذر ، أي ليحذر المنافقون ذلك. الخامس : أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها. والشاك خائف ، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم ، ثم قال صاحب "الكشاف" : المضير في قوله : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ} و{تُنَبِّئُهُم} للمؤمنين ، وفي قوله : {فِى قُلُوبِهِمْ} للمنافقين ويجوز أيضاً أن تكون الضمائر كلها للمنافقين ، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، ومعنى {تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت ، يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 94
ثم قال : {قُلْ} وهو أمر تهديد كقوله : {الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا } (التوبة : 105) {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} (التوبة : 64) أي ذلك الذي تحذرونه ، فإن الله يخرجه إلى الوجود ، فإن الشيء إذا حصل بعد عدمه ، فكان فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود.
جزء : 16 رقم الصفحة : 94
97
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول الآية أموراً : الأول : روى ابن عمر أن رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوباً ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين ، فقال واحد من الصحابة : كذبت ولأنت منافق ، ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته ، فقال يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق ، وكان يقول إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه. الثاني : قال الحسن وقتادة : لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم أتراه يظهر على الشأن ويأخذ حصونها وقصورها هيهات ، هيهات ، فعند رجوعه دعاهم وقال : أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا : ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نخوض ونلعب. الثالث : روى أن المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلّم سألوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم ، فقالوا هذا القول. الرابع : حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله : {يَحْذَرُ الْمُنَـافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } (التوبة : 64) أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ، فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك ؟
قالوا : لم نقل ذلك على سبيل الطعن ، بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب. الخامس : اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاماً فاسداً على سبيل الطعن والاستهزاء ، فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب ، وهذا يدل على أن كلمة "إنما" تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر.
جزء : 16 رقم الصفحة : 97
والجواب : قال الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى ، والمعنى : أنا كنا نخوض ونعلب في الباطل من الكلام / كما يخوض الركب لقطع الطريق ، فأجابهم الرسول بقوله : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فرق بين قولك أتستهزىء بالله ، وبين قولك أبالله تستهزىء ، فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء ، والثاني : يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله ، كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ونظيره قوله تعالى : {لا فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات : 47) والمقصود : ليس نفي الغول ، بل نفي أن يكون خمر الجنة محلاً للغول.
(1/2253)
المسألة الثانية : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله ، ومعلوم أن الاستهزاء بالله محال. فلا بد له من تأويل وفيه وجوه : الأول : المراد بالاستهزاء بالله هو الاستهزاء بتكاليف الله تعالى. الثاني : يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر الله ، فإن أسماء الله قد يستهزىء الكافر بها كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها. قال تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) فأمر المؤمن بتعظيم اسم الله. وقال : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـا اـاِه } (الأعراف : 180) فلا يمتنع أن يقال : {أَبِاللَّهِ} ويراد : أبذكر الله. الثالث : لعل المنافقين لما قالوا : كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشأم وقصورها. قال بعض المسلمين : الله يعينه على ذلك وينصره عليهم ، ثم إن بعض الجهال من المنافقين ذكر كلاماً مشعراً بالقدح في قدرة الله كما هو عادات الجهال والملحدة ، فكان المراد ذلك.
وأما قوله : {وَءَايَـاتِه } فالمراد بها القرآن ، وسائر ما يدل على الدين. وقوله : {وَرَسُولُه } معلوم ، وذلك يدل على أن القوم إنما ذكروا ما ذكروه على سبيل الاستهزاء.
ثم قال تعالى : {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : نقل الواحدي عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين :
القول الأول : أنه عبارة عن محو الذنب من قولهم : اعتذرت المنازل إذا درست. يقال : مررت بمنزل معتذر ، والاعتذار هو الدرس وأخذ الاعتذار منه. لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 97
والقول الثاني : حكى ابن الأعرابي أن الاعتذار هو القطع ، ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تقطع ، وعذرة الجارية سميت عذرة لأنها تعذر أي تقطع ، ويقال اعتذرت المياه إذا انقطعت ، فالعذر لما كان سبباً لقطع اللوم سمي عذراً ، قال الواحدي : والقولان متقاربان ، لأن محو أثر الذنب وقطع اللوم يتقاربان.
المسألة الثانية : أنه تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفراً ، والعقل يقتضي أن الإقدام على / الكفر لأجل اللعب غير جائز ، فثبت أن قولهم {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } ما كان عذراً حقيقياً في الإقدام على ذلك الاستهزاء ، فلما لم يكن ذلك عذراً في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به لأن المنع عن الكلام الباطل واجب. فقال : {لا تَعْتَذِرُوا } أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم.
المسألة الثالثة : قوله : {قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ } يدل على أحكام.
الحكم الأول
أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفراً بالله. وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان والجمع بينهما محال.
الحكم الثاني
أنه يدل على بطلان قول من يقول ، الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب.
الحكم الثالث
يدل على أن قولهم الذي صدر منهم كفر في الحقيقة ، وإن كانوا منافقين من قبل وأن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحالاً.
الحكم الرابع
يدل على أن الكفر إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين.
ولقائل أن يقول : القوم لما كانوا منافقين فكيف يصح وصفهم بذلك ؟
قلنا : قال الحسن : المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه ، وقال آخرون : ظهر كفركم للمؤمنين بعد أن كنتم عندهم مسلمين ، والقولان متقاربان.
ثم قال تعالى : {إِن نَّعْفُ عَن طَآاـاِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآاـاِفَةَ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم {إِن نَّعْفُ} بالنون وكسر الذال ، وطائفة بالنصب والمعنى أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول إن يعف عن طائفة يعذب طائفة والباقون بالياء وضمها ، وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله ، إن يعف عن طائفة بالتذكير ، وتعذب طائفة بالتأنيث ، وحكى صاحب "الكشاف" عن مجاهد ، إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ، ثم قال : والوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول سير بالدابة ، ولا تقول سيرت بالدابة ، وأما تأويل قراءته فهو أن مجاهداً لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة فأنت كذلك ، وهو غريب والجيد القراءة العامة إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث.
/
جزء : 16 رقم الصفحة : 97
(1/2254)
المسألة الثانية : ذكر المفسرون ، أن الطائفتين كانوا ثلاثة ، استهزأ اثنان وضحك واحد ، فالطائفة الأولى الضاحك ، والثانية الهازيان ، وقال المفسرون : لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه ، وذنب الهازيين أغلظ ، فلا جرم ما عفا الله عنهما ، قال القاضي : هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر ، وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام ، وأيضاً لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر ، أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه ، فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى ، كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام ، وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام ، ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره ، ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر ، وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل ، فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل.
المسألة الثالثة : قالوا : ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة ، فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنساناً واحداً. قال الزجاج : والطائفة في اللغة أصلها الجماعة ، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى : {الاخِرِا وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآاـاِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور : 2) وأقله الواحد ، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه ، وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه : الأول : أن من اختار مذهباً ونصره فإنه لا يزال يكون ذاباً عنه ناصراً له ، فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب ، فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب. الثاني : قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة على الجمال ، والله تعالى يقول : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} (آل عمران : 173) يعني نعيم بن مسعود. الثالث : لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفاً ، ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة ، ثم إنه تعالى علل كونه معذباً للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين.
واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر ، فقد اشتركتا في الجرم ، والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين ، وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز ، وأيضاً التعذيب حكم حاصل في الحال وقوله : {كَانُوا مُجْرِمِينَ} يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي ، وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز ، بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون.
جزء : 16 رقم الصفحة : 97
واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم / الطائفة الأولى ، فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ ، وأيضاً ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل ، فأوجب التعذيب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 97
98
اعلم أن هذا شرح نوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم ، والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة ، فقال : {الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ } أي في صفة النفاق ، كما يقول الإنسان : أنت مني وأنا منك ، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ولما ذكر هذا الكلام ذكر تفصيله فقال : {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح ، إلا أن الأعظم ههنا تكذيب الرسول {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن إلا أن الأعظم ههنا الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلّم ويقبضون أيديهم ، قيل من كل خير ، وقيل عن كل خير واجب من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله وهذا أقرب لأنه تعالى لا يذمهم إلا بترك الواجب ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد ، ونبه بذلك على تخلفهم عن الجهاد ، والأصل في هذا أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء. فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده.
ثم قال : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } واعلم أن هدا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً ، لأن النسيان ليس في وسع البشر ، وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل ، وهو من وجهين : الأول : معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي ، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته ، وجاء هذا على أوجه الكلام كقوله : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) الثاني : النسيان ضد الذكر ، فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ، ترك الله ذكرهم بالرحمة والإحسان ، وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره ، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم.
ثم قال : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ} أي هم الكاملون في الفسق. والله أعلم.
(1/2255)
جزء : 16 رقم الصفحة : 98
99
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل في المنافقين والمنافقات أنه نسبهم ، أي جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه ، فقال : {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا } ولا شك أن النار المخلدة من أعظم العقوبات.
ثم قال : {هِىَ حَسْبُهُمْ } والمعنى : أن تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ، ولا يمكن الزيادة عليها.
ثم قال : {وَلَعَنَهُمُ اللَّه } أي ألحق بتلك العقوبة الشديدة الإهانة والذم واللعن.
ثم قال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ولقائل أن يقول : معنى كون العذاب مقيماً وكونه خالداً واحد ، فكان هذا تكراراً ؟
والجواب : ليس ذلك تكريراً ، وبيان الفرق من وجوه : الأول : أن لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنار والخلود المذكور أولاً ، ولا يدل على أن العذاب بالنار دائم. وقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} يدل على أن لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذاب.
ولقائل أن يقول : هذا التأويل مشكل لأنه قال في النار المخلدة : {هِىَ حَسْبُهُمْ } وكونها حسباً بمنع من ضم شيء آخر إليه.
/ وجوابه : أنها حسبهم في الإيلام والإيجاع ، ومع ذلك فيضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم. والثاني : أن المراد بقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} العذاب العاجل الذي لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم ، وما يحذرونه أبداً من أنواع الفضائح.
جزء : 16 رقم الصفحة : 99
ثم قال : {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} واعلم أن هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب ، وهذا الكاف للتشبيه ، وهو يحتمل وجوهاً : الأول : قال الفراء : فعلتم كأفعال الذين من قبلكم ، والمعنى : أنه تعالى شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، وقبض الأيدي عن الخيرات ، ثم إنه تعالى وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً ، ثم استمتعوا مدة بالدنيا ثم هلكوا وبادوا وانقلبوا إلى العقاب الدائم ، فأنتم مع ضعفكم وقلة خيرات الدنيا عندكم أولى أن تكونوا كذلك.
والوجه الثاني : أنه تعالى شبه المنافقين في عدولهم عن طاعة الله تعالى ، لأجل طلب لذات الدنيا بمن قبلهم من الكفار ، ثم وصفهم تعالى بكثرة الأموال والأولاد وبأنهم استمتعوا بخلاقهم ، والخلاق النصيب ، وهو ما خلق للإنسان ، أي قدر له من خير ، كما قيل له : قسم لأنها قسم ونصيب ، لأنه نصب أي ثبت ، فذكر تعالى أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعم بخلاقكم كما استمتع أولئك بخلاقهم.
فإن قيل : ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم ذكره في حق الأولين ثالثاً.
قلنا : الفائدة فيه أنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة/ فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال هؤلاء المنافقين بحالهم ، فيكون ذلك نهاية في المبالغة ، ومثاله : أن من أراد أن ينبه بعض الظلمة على قبح ظلمه يقول له : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب ، وأنت تفعل مثل ما فعله ، وبالجملة فالتكرير ههنا للتأكيد ، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدمين في طلب الدنيا ، وفي الإعراض عن طلب الآخرة ، بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة والغدر بهم. فقال : {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } قال الفراء : يريد كخوضهم الذي خاضوا ، فـ {الَّذِى} صفة مصدر محذوف دل عليه الفعل.
ثم قال تعالى : {أُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالاخِرَةِ } أي بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف ، وفي الآخرة بسبب أنهم / لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب {وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ} حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل ، فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة ، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة ، والمقصود أنه تعالى لما شبه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار ، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً منهم ، فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال القبيحة أولى أن يكونوا واقعين في عذاب الدنيا والآخرة ، محرومين من خيرات الدنيا والآخرة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 99
100
(1/2256)
اعلم أنه تعالى لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم بين أن أولئك الكفار المتقدمين منهم ، فذكر هؤلاء الطوائف الستة ، فأولهم قوم نوح والله أهلكهم بالإغراق ، وثانيهم : عاد والله تعالى أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم. وثالثهم : ثمود والله أهلكهم بإرسال الصيحة والصاعقة. ورابعهم : قوم إبراهيم أهلكهم الله بسبب سلب النعمة عنهم ، وبما روي في الأخبار أنه تعالى سلط البعوضة على دماغ نمروذ. وخامسهم : قوم شعيب وهم أصحاب مدين ، ويقال : إنهم من ولد مدين بن إبراهيم ، والله تعالى أهلكهم بعذاب يوم الظلة ، والمؤتفكات قوم لوط أهلكهم الله بأن جعل عالي أرضهم سافلها ، وأمطر عليهم الحجارة ، وقال الواحدي : جمع مؤتفكة ، ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب ، وتلك القرى ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها ، يقال أفكه فائتفك أي قلبه فانقلب ، وعلى هذا التفسير فالمؤتفكات صفة القرى ، وقيل ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر.
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى : {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة ، بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق ، وتارة لأجل أن / بلاد هذه الطوائف ، وهي بلاد الشام ، قريبة من بلاد العرب ، وقد بقيت آثارهم مشاهدة ، وقوله : {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير ، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام.
ثم قال : {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم} وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف.
ثم قال : {بِالْبَيِّنَـاتِ } أي بالمعجزات ولا بدَّ من إضمار في الكلام ، والتقدير : فكذبوا فعجل الله هلاكهم.
ثم قال : {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} والمعنى : أن العذاب الذي أوصله الله إليهم ما كان ظلماً من الله لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم ، بل كانوا ظلموا أنفسهم ، قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى لا يصح منه فعل الظلم وإلا لما حسن التمدح به ، وذلك دل على أنه لا يظلم ألبتة ، وذلك يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ، ودل على أن فاعل الظلم هو العبد ، وهو قوله : {وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وهذا الكلام قد مر ذكره في هذا الكتاب مراراً خارجة عن الإحصاء.
جزء : 16 رقم الصفحة : 100
101
اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ، ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ، ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر ، على ضد صفات المنافقين ، ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد الله لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم ، فأما صفات المؤمنين فهي قوله : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
فإن قيل : ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و{الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍا يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ} فلم ذكر في المنافقين لفظ {مَنْ} وفي المؤمنين لفظ {أَوْلِيَآءَ} .
قلنا : قوله في صفة المنافقين {بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ } يدل على أن نفاق الأتباع ، كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف ، والأمر في نفسه كذلك ، لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر ، وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة ، أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة ، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية ، فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين : {بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ } وقال في المؤمنين : {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
واعلم أن الولاية ضد العداوة ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب ، ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة ، ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 101
(1/2257)
واعلم أنه تعالى لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ، ذكر بعده ما يجري مجرى التفسير والشرح له فقال : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق ، فالمنافق على ما وصفه الله تعالى في الآية المتقدمة يأمر بالمنكر ، وينهى عن المعروف ، والمؤمن بالضد منه. والمنافق لا يقوم إلى الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه. والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات كما قال : {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } والمؤمنون يؤتون الزكاة ، والمنافق إذا أمره الله ورسوله بالمسارعة إلى الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويثبط غيره كما وصفه الله بذلك ، والمؤمنون بالضد منهم. وهو المراد في هذه الآية بقوله : {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه ا } ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة ، فلذلك قال : {أُوالَـا ئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّه } وذكر حرف السين في قوله : {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّه } للتوكيد والمبالغة كما تؤكد الوعيد في قولك سأنتقم منك يوماً ، يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونظيره {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} (مريم : 96) {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى : 5) {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } (النساء : 152).
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو من لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة/ والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب.
جزء : 16 رقم الصفحة : 101
103
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل ، وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة ، ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء. فأولها قوله : {جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} والأقرب أن يقال إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر لأنه تعالى قال بعده : {وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ } والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه ، فتكون مساكنهم في جنات عدن ، ومناظرهم الجنات التي هي البساتين ، فتكون فائدة وصفها بأنها عدن ، أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان. وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب. وثانيها : قوله : {وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ } قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن. قال الحسن : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله : {وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً} فقالا : على الخبير سقطت ، سألنا الرسول صلى الله عليه وسلّم عن ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "هو قصر في الجنة من اللؤلؤ ، فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً ، على كل سرير سبعون فراشاً ، على كل فراش زوجة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام ، وفي كل بيت سبعون وصيفة ، يعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع" وعن ابن عباس أنها دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وأقول لعل ابن عباس قال : إنها دار المقربين عند الله فإنه كان أعلم بالله من أن يثبت له داراً ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله حدثني عن الجنة ما بناؤها فقال : "لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وترابها الزعفران وحصاؤها الدر والياقوت. فيها النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" وقال ابن مسعود : / جنات عدن بطنان الجنة ، قال الأزهري : بطنانها وسطها ، وبطنان الأودية المواضع التي يستنفع فيها ماء السيل واحدها بطن ، وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، وسائر الجنات حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر. وقال عبد الله بن عمرو : إن في الجنة قصراً يقال له عدن ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب كل على كل باب خمسة آلاف حرة ، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد ، وأقول حاصل الكلام إن في جنات عدن قولان : أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة ، وهذه الأخبار والآثار التي نقلناها تقوي هذا القول. قال صاحب "الكشاف" : وعدن علم بدليل قوله : {جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَـانُ} (مريم : 61).
جزء : 16 رقم الصفحة : 103
(1/2258)
والقول الثاني : أنه صفة للجنة قال الأزهري : العدن مأخوذ من قولك عدن فلان بالمكان إذا أقام به ، يعدن عدونا. والعرب تقول : تركت إبل بني فلان عودان بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه ، ومنه المعدن وهو المكان الذي تخلق الجواهر فيه ومنبعها منه ، والقائلون بهذا الاشتقاق قالوا : الجنات كلها جنات عدن.
والنوع الثالث : من المواعيد التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } والمعنى أن رضوان الله أكبر من كل ما سلف ذكره ، واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية ، وذلك لأنه إما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضياً عنه ، وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك ، بل علمه بكونه راضياً عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر ، والأول باطل ، لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالاً من ذلك المقصود ، فلو كان المقصود من رضوان الله أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها الله في الجنة من الأكل والشرب لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجاً بحصول الوسيلة. ولكان الابتهاج بتلك اللذات ابتهاجاً بالمقصود ، وقد ذكرنا أن الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالاً من الابتهاج بالمقصود. فوجب أن يكون رضوان الله أقل حالاً وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة ، لكن الأمر ليس كذلك ، لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر ، وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية.
واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معاً كما جمع الله بينهما في هذه الآية. / ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال : {ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفيه وجهان : الأول : أن الإنسان مخلوق من جوهرين ، لطيف علوي روحاني ، وكثيف سفلي جسماني وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة ، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها ، والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به ، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم. الثاني : أنه تعالى بين في وصفه المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها. ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين ، ثم قال : {ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والمعنى : أن هذا هو الفوز العظيم ، لاما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا. وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة : "هل رضيتم ؟
فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول أما أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا وأي شيء أفضل من ذلك. قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً"/
جزء : 16 رقم الصفحة : 103
واعلم أن دلالة هذا الحديث على أن السعادات الروحانية أفضل من الجسمانية كدلالة الآية وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل.
جزء : 16 رقم الصفحة : 103
103
واعلم أنا ذكرنا أنه تعالى لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب ، وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد ، لا جرم ذكر عقيبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ، ووعدم بالثواب الرفيع والدرجات العالية ، ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية فقال : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَـاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـافِقِينَ} وفي الآية سؤال ، وهو أن الآية تدل على وجوب مجاهدة المنافقين وذلك غير جائز ، فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته.
واعلم أن الناس ذكروا أقوالاً بسبب هذا الإشكال.
فالقول الأول : أنه الجهاد مع الكفار وتغليظ القول مع المنافقين وهو قول الضحاك. وهذا بعيد لأن ظاهر قوله : {جَـاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـافِقِينَ} يقتضي الأمر بجهادهما معاً ، وكذا ظاهر قوله : / {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } راجع إلى الفريقين.
القول الثاني : أنه تعالى لما بين للرسول صلى الله عليه وسلّم بأن يحكم بالظاهر ، قال عليه السلام : "نحن نحكم بالظاهر" والقوم كانوا يظهرون الإسلام وينكرون الكفر ، فكانت المحاربة معهم غير جائزة".
والقول الثالث : وهو الصحيح أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد ، وليس في اللفظ ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر فنقول : إن الآية تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين ، فأما كيفية تلك المجاهد فلفظ الآية لا يدل عليها ، بل إنما يعرف من دليل آخر.
(1/2259)
وإذا ثبت هذا فنقول : دلت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ، ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة ، وبترك الرفق ثانياً ، وبالانتهار ثالثاً. قال عبد الله في قوله : {جَـاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـافِقِينَ} قال تارة باليد ، وتارة باللسان ، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه ، فمن لم يستطع فبالقلب ، وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. قال القاضي : وهذا ليس بشيء ، لأن إقامة الحد واجبة على من ليس بمنافق ، فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق ، ثم قال : وإنما قال الحسن ذلك ، لأحد أمرين ، إما لأن كل فاسق منافق ، وإما لأجل أن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن الرسول عليه السلام كانوا منافقين.
جزء : 16 رقم الصفحة : 103
105
اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقواماً من المنافقين ، قالوا كلمات فاسدة ، ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا ، وحلفوا أنهم ما قالوا ، والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوهاً : / الأول : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ، ويعيب المنافقين المتخلفين. فقال الجلاس بن سويد : والله لئن كان ما يقوله محمد في إخواننا الذين خلفناهم في المدينة حقاً مع أنهم أشرافنا ، فنحن شر من الحمير ، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل والله إن محمداً صادق ، وأنت شر من الحمار. وبلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فاستحضر الجلاس ، فحلف بالله أنه ما قال ، فرفع عامر يده وقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب ، فنزلت هذه الآية. فقال الجلاس : لقد ذكر الله التوبة في هذه الآية ، ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ، فتاب الجلاس ، وحسنت توبته. الثاني : روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وأراد به الرسول صلى الله عليه وسلّم . فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول ، فهم عمر بقتل عبد الله بن أبي ، فجاء عبد الله وحلف أنه لم يقل ، فنزلت هذه الآية. الثالث : روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار ، فظهر الغفاري على الجهيني ، فنادى عبد الله بن أبي : يا بني الأوس انصروا أخاكم ، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك. فذكروه للرسول عليه السلام ، فأنكر عبد الله ، وجعل يحلف. قال القاضي : يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع وذلك لأن قوله : {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى آخر الآية كلها صيغ الجموع ، وحمل صيغة الجمع على الواحد ، خلاف الأصل.
فإن قيل : لعل ذلك الواحد. قال في محفل ورضي به الباقون.
جزء : 16 رقم الصفحة : 105
قلنا : هذا أيضاً خلاف الظاهر لأن إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل ، ثم قال : بل الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي : أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، وكان عمار بن ياسر آخذاً بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فالتفت ، فإذا قوم متلثمون. فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا. والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة ، وذلك هو قول كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج.
فأما قوله : {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـامِهِمْ} فلقائل أن يقول : إنهم أسلموا ، فكيف يليق بهم هذا الكلام ؟
والجواب من وجهين : الأول : المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب ، لأنهم لما / نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وجنحوا إليه ، فإذا جاهروا بالحرب ، وجب حربهم. والثاني : أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.
وأما قوله : {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } المراد إطباقهم على الفتك بالرسول/ والله تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم ، ولم يصلوا إلى مقصودهم.
وأما قوله : {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه مِن فَضْلِه } ففيه بحثان :
البحث الأول : أن في هذا الفضل وجهين : الأول : أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة في ضنك من العيش ، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة ، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله. والثاني : روي أنه قتل للجلاس مولى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى.
البحث الثاني : أن قوله : {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه } تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه ، وهذا كقول الشاعر :
ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وكقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
(1/2260)
بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب ، ثم قال تعالى : {فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ } والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم ، وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير ، فأما أنهم تابوا فليس في الآية ، وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس.
جزء : 16 رقم الصفحة : 105
ثم قال : {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } أما عذاب الآخرة ، فمعلوم. وأما العذاب في الدنيا ، فقيل : المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب ، فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم. وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل : المراد عذاب القبر {وَمَا لَهُمْ فِى الارْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير.
جزء : 16 رقم الصفحة : 105
110
اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف ، فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول : {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌا قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم ، فلحقه شدة ، فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار ، لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق الله ، إلى آخر الآية ، والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال : يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال عليه السلام : "يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له ، فاتخذ غنماً ، فنمت كما ينمو الدود ، حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً بها ، فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما ، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة. وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه ، فأخبر بخبره فقال : "يا ويح ثعلبة" فنزل قوله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فبعث إليه رجلين وقال : "مرا بثعلبة فخذا صدقاته" فعند ذلك قال لهما : ما هذه إلا جزية أو أحت الجزية ، فلم يدفع الصدقة فأنزل الله تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ} فقيل له : قد أنزل فيك كذا وكذا ، فأتي الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته ، فقال : إن الله منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه ، فقال عليه الصلاة والسلام : "قد قلت لك فما أطعتني" فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم . ثم أتى أبا بكر بصدقته ، فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام / ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ، ثم لم يقبلها عثمان ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان.
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
فإن قيل : إن الله تعالى أمره بإخراج الصدقة ، فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه ؟
قلنا : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له ليعتبر غيره به ، فلا يمتنع عن أداء الصدقات ، ولا يبعد أيضاً أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء ، لا على وجه الإخلاص ؛ وأعلم الله الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة ، لهذا السبب ، ويحتمل أيضاً أنه تعالى لما قال : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه ، فلهذا السبب امتنع رسول الله عليه السلام من أخذ تلك الصدقة. والله أعلم.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله في أنه لو آتاه مالاً لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات ، ثم إنه تعالى آتاه المال ، وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : المنافق كافر ، والكافر كيف يمكنه أن يعاهد الله تعالى ؟
والجواب : المنافق قد يكون عارفاً بالله ، إلا أنه كان منكراً لنبوة محمد عليه السلام ، فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ، ولكونه منكراً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، كان كافراً. وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر ؟
ويقل في أصناف الكفار من ينكره ، والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات ، ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق ، فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين ، وأيضاً فلعله حين عاهد الله تعالى بهذا العهد كان مسلماً ، ثم لما بخل بالمال ، ولم يف بالعهد صار منافقاً ، ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} .
(1/2261)
السؤال الثاني : هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان ، أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة ؟
الجواب : منهم من قال : كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره ، ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد. يروى عن المعتمر بن سليمان قال : أصابتنا ريح شديدة في البحر ، فنذر قوم منا أنواعاً من النذور ، ونويت أنا شيئاً وما تكلمت به ، فلما قدمت البصرة سألت أبي ، فقال : يا بني ف به. وقال أصحاب هذا القول إن قوله : {وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ} كان شيئاً نووه في أنفسهم ، ألا ترى أنه / تعالى قال : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُمْ} وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان ، والدليل عليه قوله عليه السلام : "إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به" أو لفظ هذا معناه وأيضاً فقوله تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه لَنَصَّدَّقَنَّ} إخبار عن تكلمه بهذا القول ، وظاهره مشعر بالقول باللسان.
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
السؤال الثالث : قوله : {لَنَصَّدَّقَنَّ} المراد منه إخراج مال ، ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجباً ، وقد يكون غير واجب. والواجب قسمان : قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء ، كإخراج الزكاة الواجبة ، وإخراج النفقات الواجبة ، وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور.
إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة ، فقوله : {لَنَصَّدَّقَنَّ} هل يتناول الأقسام الثلاثة ، أو ليس الأمر كذلك ؟
والجواب : قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة ، فغير داخلة تحت هذه الآية ، والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله : {بَخِلُوا بِه } والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب ، وأيضاً أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم. وأما القسمان الباقيان ، فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية لا محالة ، وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو ، والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة.
بقي أن يقال : هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل ، كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر ؟
والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه ، لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله : { لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه لَنَصَّدَّقَنَّ} وهذا لا يشعر بالنذر ، لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع الله عليه ، فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام ، والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام ، وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول.
قلنا : قوله : {لَنَصَّدَّقَنَّ} لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور ، لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل فس المستقبل ، وهذا القدر لا يوجب الفور ، فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقت كما قالوا {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ} أي في أوقات لزوم الصلاة/ فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد ، إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء ، ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة ، فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين ، فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه ، ولا يقومون بما يقولون / والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق ، وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي.
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
السؤال الرابع : ما المراد من الفضل في قوله : { لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه } .
والجواب : المراد إيتاء المال بأي طريق كان ، سواء كان بطريق التجارة ، أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما.
السؤال الخامس : كيف اشتقاق {لَنَصَّدَّقَنَّ} .
الجواب : قال الزجاج : الأصل لنتصدقن. ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها. قال الليث : المصدق المعطي والمتصدق السائل. قال الأصمعي والفراء : هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى : {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ} .
السؤال السادس : ما المراد من قوله : {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ} .
الجواب : الصالح ضد المفسد ، والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ثعلبة قد عاهد الله تعالى لئن فتح الله عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن ، وأقول التقييد لا دليل عليه. بل قوله : {لَنَصَّدَّقَنَّ} إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله : {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ} إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق.
ثم قال تعالى : {فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُم مِّن فَضْلِه بَخِلُوا بِه وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة :
الصفة الأولى : البخل وهو عبارة عن منع الحق.
(1/2262)
والصفة الثانية : التولي عن العهد.
والصفة الثالثة : الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.
ثم قال تعالى : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه } وفيه مسائل :
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
المسألة الأولى : قوله : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره. والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح ، لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق ، ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض ، لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركاً لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق في القلب ، لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثراً في حصول الجهل في القلب. أما أولاً : فلأن ترك الواجب عدم ، والجهل وجود العدم / لا يكون مؤثراً في الوجود. وأما ثانياً : فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق ، مع أنه لا يحصل معه النفاق. وأما ثالثاً : فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو كان محرماً شرعاً ، لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً. وأما رابعاً : فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية {بِمَآ أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز ، لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه ، فوجب إسناده إليه ، فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه : أنهم لما ضلوا في الماضي ، فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل ، والذي يؤكد القول بأن قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا} مسند إلى الله جل ذكره أنه قال : {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه } والضمير في قوله تعالى : {يَلْقَوْنَه } عائد إلى الله تعالى ، فكان الأولى أن يكون قوله : {فَأَعْقَبَهُمْ} مسنداً إلى الله تعالى. قال القاضي : المراد من قوله : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ} أي فأعقبهم العقوبة على النفاق ، وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم ، ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة. قلنا : هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة ، فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر ، قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية ، لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت.
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
المسألة الثانية : قال الليث : يقال : أعقبت فلاناً ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك. قال الهذلي :
أودى بني وأعقبوني حسرة
بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
ويقاتل : أكل فلان أكلة أعقبته سقماً ، وأعقبه الله خيراً. وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال أعقبه الله.
المسألة الثالثة : ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به ، ومذهب الحسن البصري رحمة الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام : "ثلاث من / كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن ، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان" وعن النبي عليه السلام : "تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم. أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا" قال عطاء بن أبي رباح : حدثني جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلّم إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلّم فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه ، ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال : إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد الله وإذا ائتمن على دين الله خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجل فقال له : إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم : {وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ} فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين ؟
فتوقف الحسن رحمه الله.
(1/2263)
المسألة الرابعة : {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه } يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقاً ، وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له ، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بصدقته فقال : إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك ، وبقي على تلك الحالة ، وما قبل صدقته أحد حتى مات ، فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقاً ، فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
المسألة الخامسة : قال الجبائي : إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله : {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ } قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية/ بدليل أنه قال في صفة المنافقين : {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه } وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه ، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. قال : والذي يقويه قوله عليه السلام : "من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا. والقاضي استحسن هذا الكلام. وأقول : أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ؟
وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية ، وفي هذا الخبر لدليل منفصل ، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور. ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل ، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل ، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية ، وذلك ممنوع. فنقول : لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئاً فقد وصل إليه فكانت / الرؤية لقاء ، كما أن الإدراك هو البلوغ. قال تعالى : {قَالَ أَصْحَـابُ مُوسَى ا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (الشعراء : 61) أي لملحقون ، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ، ثم نقول : لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية ، بل المقصود أنه تعالى {فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه } أي حكمه وقضاءه ، وهو كقول الرجل ستلقى عملك غداً ، أي تجازى عليه ، قال تعالى : {بِمَآ أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} والمعنى : أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب.
ثم قال تعالى : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُمْ} والسر ما ينطوي عليه صدورهم ، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما ، ونظيره قوله تعالى : {وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا} (مريم : 52) وقوله : {فَلَمَّا اسْتَيْـاَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } (يوسف : 80) وقوله : {فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (المجادلة : 9) وقوله : {إِذَا نَـاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاـاكُمْ صَدَقَةً } (المجادلة : 12).
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى ، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر ؟
ثم قال : {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} والعلام مبالغة في العالم ، والغيب ما كان غائباً عن الخلق. والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء. فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات ، فيجب كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر ، فكيف يمكن الأخفاء منه ؟
ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام : {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ} (المائدة : 116) فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال.
جزء : 16 رقم الصفحة : 110
111
(1/2264)
اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعاً وطبعاً. قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطبهم ذات يوم وحث على أن / يجمعوا الصدقات ، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وقال : كان لي ثمانية آلاف درهم ، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة وهذه الأربعة أقرضتها ربي ، فقال : بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. قيل : قبل الله دعاء الرسول فيه حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وجاء عمر بنحو ذلك ، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقاً من تمر الصدقة ، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة ، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر ، وقال : آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله ، فأخذت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر ربي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة. وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر ، والله غني عن صاعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والكلام في تفسير اللمز مضى عند قوله : {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَـاتِ} والمطوعون المتطوعون ، والتطوع التنفل ، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب ، وسبب إدغام التاء في الطاء قرب المخرج. قال الليث : الجهد شيء قليل يعيش به المقل ، قال الزجاج : {إِلا جُهْدَهُمْ} وجهدهم بالضم والفتح. قال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم ، وحكى ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال الجهد الطاقة. تقول هذا جهدي أي طاقتي.
إذا عرفت هذا فالمراد بالمطوعين في الصدقات ، أولئك الأغنياء الذين أتوا بالصدقات الكثيرة وبقوله : {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} أبو عقيل حيث جاء بالصاع من التمر. ثم حكى عن المنافقين أنهم يسخرون منهم ، ثم بين أن الله تعالى سخر منهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 111
واعلم أن إخراج المال لطلب مرضاة الله ، قد يكون واجباً كما في الزكوات وسائر الإنفاقات الواجبة وقد يكون نافلة ، وهو المراد من هذه الآية ، ثم الآتي بالصدقة النافلة قد يكون غنياً فيأتي بالكثير ، كعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان. وقد يكون فقيراً فيأتي بالقليل وهو جهد المقل ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب ، لأن المقصود من الأعمال الظاهرة كيفية النية واعتبار حال الدواعي والصوارف. فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به الغني. ثم إن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة ، وذلك التعيير يحتمل وجوهاً : الأول : أن يقولوا إنه لفقره محتاج إليه ، فكيف يتصدق به ؟
إلا أن هذا من موجبات الفضيلة ، كما قال تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر : 9) وثانيها : أن يقولوا أي أثر لهذا القليل ؟
وهذا / أيضاً جهل ، لأن هذا الرجل لما لم يقدر إلا عليه فإذا جاء به فقد بذل كل ما يقدر عليه فهو أعظم موقعاً عند الله من عمل غيره ، لأنه قطع تعلق قلبه عما كان في يده من الدنيا ، واكتفى بالتوكل على المولى. وثالثها : أن يقولوا إن هذا الفقير إنما جاء بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس في هذا المنصب ، وهذا أيضاً جهل/ لأن سعى الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين ، خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة.
وأما قوله : {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} فقد عرفت القانون في هذا الباب. وقال الأصم : المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها ، فكان ذلك كالسخرية.
جزء : 16 رقم الصفحة : 111
113
في الآية مسائل :
(1/2265)
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين ، قالوا : يا رسول الله استغفر لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأستغفر لكم ، وأشتغل بالاستغفار لهم ، فنزلت هذه الآية ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلّم الاستغفار. وقال الحسن : كانوا يأتون رسول الله ، فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً ، فنزلت هذه الآية. وروى الأصم : أنه كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا خطب الرسول. قام وقال هذا رسول الله أكرمه الله وأعزه ونصره ، فلما قام ذلك ذلك المقام بعد أحد قال له عمر : اجلس يا عدو الله ، فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة ، فخرج من المسجد ، ولم يصل فلقيه رجل من قومه. فقال له : ما صرفك ؟
فحكى القصة. فقال : ارجع إلى رسول الله يستغفر لك. فقال : ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} (المنافقون : 5) وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر هم.
المسألة الثانية : {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وروى الشعبي قال : دعا عبد الله / بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام : "من أنت ؟
" فقال : أنا الحباب بن عبد الله قال : بل أنت عبد الله بن عبد الله ، إن الحباب هو الشيطان ، ثم قرأ هذه الآية. قال القاضي : ظاهر قوله : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار ، وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار ، والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار ، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثالثة : من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين ، يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه ، وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب. قالوا : والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى : {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } قال عليه السلام : "والله لأزيدن على السبعين" ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى : {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (المنافقون : 6) الآية فكف عنهم.
جزء : 16 رقم الصفحة : 113
ولقائل أن يقول : هذا الاستدلال بالعكس أولى ، لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة. ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور ، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه.
المسألة الرابعة : من الناس من قال : إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه الله منه ، ومنهم من قال : إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فالله تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدماً على ذلك الفعل ، وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه : الأول : أن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز. ولهذا السبب أمر الله رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه {لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} (الممتحنة : 4) وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه ؟
الثاني : أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبح والمعصية. الثالث : أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب. الرابع : أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردوداً عند الله ، وذلك يوجب نقصان منصبه. الخامس : أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة. فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه ، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع ، بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة : لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك ، ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا ، والذي يؤكد ذلك / قوله تعالى في الآية : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة ، كفرهم وفسقهم ، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين ، فصار هذا التعليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر ، ويؤكده أيضاً قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية. فثبت أن الحق ما ذكرناه.
(1/2266)
المسألة الخامسة : قال المتأخرون من أهل التفسير ، السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات ، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء ، هو هذا العدد. وقال بعضهم : هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة ، فكأنه قيل : {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه ا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ} (البقرة : 261) وقال عليه السلام : "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلاً فيه.
جزء : 16 رقم الصفحة : 113
114
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين ، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك ، والمخلف المتروك ممن مضى.
فإن قيل : إنهم احتالوا حتى تخلفوا ، فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون.
/ والجواب من وجوه : الأول : أن الرسول عليه السلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون ، فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين. والثاني : أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، وهي قوله : {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا } (التوبة : 83) فلما منعهم الله تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين. الثالث : أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام. وقوله : {بِمَقْعَدِهِمْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المدينة ، فعلى هذا المقعد اسم للمكان. وقال مقاتل : {بِمَقْعَدِهِمْ} بقعودهم وعلى هذا ، هو اسم للمصدر. وقوله : {خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ} فيه قولان : الأول : وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج ، يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا. قالوا : وهو منصوب لأنه مفعول له ، والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم .والثاني : قال الأخفش : إن {خِلَـافَ} بمعنى خلف ، وأن يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه بعد رسول الله ، ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ {خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ} وعلى هذا القول ، الخلاف اسم للجهة المعينة كالخلف ، والسبب فيه أن الإنسان متوجه إلى قدامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدامه في كونها جهة متوجهاً إليها ، وخلاف بمعنى خلف مستعمل أنشد أبو عبيدة للأحوص :
جزء : 16 رقم الصفحة : 114
عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقوله : {وَكَرِهُوا أَن يُجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو.
واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد ، وأيضاً لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل والإهدار ، وأيضاً مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهو المراد من قوله : {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِى الْحَرِّ } .
فأجاب الله تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله : {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي إن بعد هذه الدار داراً أخرى ، وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى ، وأيضاً هذه مشقة منقضية ، وتلك مشقة باقية ، وروى صاحب "الكشاف" لبعضهم :
مسرة أحقاب تلقيت بعدها
مساءة يوم أنها شبه أنصاب
/ فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
ثم قال تعالى : {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة ، والدليل عليه قوله بعد ذلك : {جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ومعنى الآية أنهم ، وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم ، فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة ، وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير ، لأنه عقاب دائم لا ينقطع ، والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل ، فلهذا المعنى قال : {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} قال الزجاج : قوله : {جَزَآءُ} مفعول له ، والمعنى وليبكوا لهذا الغرض. وقوله : {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجداً لأفعاله ، وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالماً ، مشهور ، وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مراراً تغني عن الإعادة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 114
115
(1/2267)
واعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته ، لأن خروجهم معه يوجب أنواعاً من الفساد. فقال : {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} أي من المنافقين {فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} قوله : {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} يريد إن ردك الله إلى المدينة ، ومعنى الرجع مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه ، يقال رجعته رجعاً كقولك رددته رداً. وقوله : {إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان بعضهم مخلصين معذورين. وقوله : {فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي للغزو معك {فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} إلى غزوة ، وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم ، ومجري إظهار نفاقهم وفضائحهم ، وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام ، ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان ، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام / موصوفين بالمكر والخداع ، لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذراً من مكرهم وكيدهم وخداعهم ، فصار هذا المعنى من هذا الوجه جارياً مجرى اللعن والطرد ، ونظيره قوله تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} (الفتح : 15) إلى قوله : {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله : {إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والمراد منه القعود عن غزوة تبوك ، يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة ، فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم ، فعند ذلك لا نقبلكم ، ولا نلتفت إليكم ، وفي اللفظ بحث ذكره صاحب "الكشاف" ، وهو أن قوله : {مَرَّةٍ } في {أَوَّلَ مَرَّةٍ } وضعت موضع المرات ، ثم أضيف لفظ الأول إليها ، وهو دال على واحدة من المرات ، فكان الأولى أن يقال أولى مرة.
جزء : 16 رقم الصفحة : 115
وأجاب : عنه بأن أكثر اللغتين أن يقال : هند أكبر النساء ، ولا يقال هند كبرى النساء.
ثم قال تعالى : {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَـالِفِينَ} ذكروا في تفسير الخالف أقوالاً : الأول : قال الأخفش وأبو عبيدة : الخالفون جمع. واحدهم خالف ، وهو من يخلف الرجل في قومه ، ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت ، فلا يبرحون ، والثاني : أن الخالفين مفسر بالمخالفين. قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفاً. وقال الأخفش : فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم. وقال الليث هذا الرجل خالفة ، أي مخالف كثير الخلاف ، وقوم خالفون ، فإذا جمعت قلت الخالفون.
والقول الثالث : الخالف هو الفاسد. قال الأصمعي : يقال : خلف عن كل خير يخلف خلوفاً إذا فسد ، وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد.
وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة : فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها ، لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشدداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته ، فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه ، وأن يحترز عن مصاحبته.
جزء : 16 رقم الصفحة : 115
117
(1/2268)
/ اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم ، فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوى من أسباب إذلالهم وإهانتهم ، وهذا الذي ذكره في هذه الآية ، وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم ، سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما اشتكى عبد الله بن أبي بن سلول عاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ، ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه ، فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه ، فقال عمر رضي الله عنه : لم تعطي قميصك الرجس النجس ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً فلعل الله أن يدخل به ألفاً في الإسلام" وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله ، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألف. فلما مات جاء ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه : "صل عليه وادفنه" فقال : إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم ، فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه ، فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه ، فنزلت هذه الآية. وأخذ جبريل عليه السلام بثوبه وقال : {وَلا تُصَلِّ عَلَى ا أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه ، وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر وقد سبق شرحه. وثانيها : آية تحريم الخمر. وثالثها : آية تحويل القبلة. ورابعها : آية أمر النسوان بالحجاب. وخامسها : هذه الآية. فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر رضي الله عنه منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدين. فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه : "لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً".
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال إن الرسول رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم كونه كافراً وقد مات على كفره ، وأن صلاة الرسول عليه تجري مجرى الإجلال والتعظيم له ، وأيضاً إذا صلى عليه فقد دعا له ، وذلك محظور ، لأنه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكفار البتة ، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه ؟
جزء : 16 رقم الصفحة : 117
والجواب : لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه ، غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه انتقل إلى الإيمان ، لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ويؤمن فيه الكافر ، فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على دخوله في الإسلام ، غلب على ظنه أنه صار مسلماً ، فبنى على هذا الظن ورغب في أن يصلي عليه ، فلما نزل جبريل عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه ، امتنع من الصلاة / عليه. وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أخذ أسيراً ببدر ، لم يجدوا له قميصاً ، وكان رجلاً طويلاً ، فكساه عبد الله قميصه. الثاني : أن المشركين قالوا له يوم الحديبية ، إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك ، فقال لا ، إن لي في رسول الله أسوة حسنة ، فشكر رسول الله له ذلك. والثالث : أن الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً بقوله : {وَأَمَّا السَّآاـاِلَ فَلا تَنْهَرْ} (الضحى : 10) فلما طلب القميص منه دفعه إليه لهذا المعنى. الرابع : أن منع القميص لا يليق بأهل الكرم. الخامس : أن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي ، كان من الصالحين ، وأن الرسول أكرمه لمكان ابنه. السادس : لعل الله تعالى أوحى إليه أنك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك حاملاً لألف نفر من المنافقين في الدخول في الإسلام ففعل ذلك لهذا الغرض ، وروى أنهم لما شاهدوا ذلك أسلم ألف من المنافقين. السابع : أن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه كما قال : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) وقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } (آل عمران : 159) فامتنع من الصلاة عليه رعاية لأمر الله تعالى ، ودفع إليه القميص لإظهار الرحمة والرأفة.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَلا تُصَلِّ عَلَى ا أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} قال الواحدي : {مَّاتَ} في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل على أحد منهم ميت وقوله : {أَبَدًا } متعلق بقوله : {أَحَدٍ} والتقدير ولا تصل أبداً على أحد منهم. واعلم أن قوله : ولا تصل أبداً يحتمل تأييد النفي ويحتمل تأييد المنفي ، والمقصود هو الأول ، لأن قرائن هذه الآيات دالة على أن المقصود منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً.
جزء : 16 رقم الصفحة : 117
(1/2269)