الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
اعلم أن الله تعالى بيّن في أول هذه السورة وجوهاً من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى /بالزوجة والولد ، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام ، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم ، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابناً لله ، تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضاً انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام ، ومن أنصف وطلب الحق ، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى ، فعند ذلك قال تعالى : {فَمَنْ حَآجَّكَ} بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند ، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال : {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ} إلى آخر الآية ، ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : اتفق أني حين كنت بخوارزم ، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم ، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي : ما الدليل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام ، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإن رددنا التواتر ، أو قبلناه لكن قلنا : إن المعجزة لا تدل على الصدق ، فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام ، وإن اعترفنا بصحة التواتر ، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول ، فقال النصراني : أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه كان إلهاً ، فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته ، يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً ، ثم صار مترعرعاً ، ثم صار شاباً ، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
والوجه الثاني : في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة ، وقد مزقوا ضلعه ، وأنه كان يحتال في الهرب منهم ، وفي الاختفاء عنهم ، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد ، فإن كان إلهاً أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزءاً من الإله حاك فيه ، فلم لم يدفعهم عن نفسه ؟
ولم لم يهلكهم بالكلية ؟
وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهم وبالله أنني لأتعجب جداً! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته ، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.
/والوجه الثالث : وهو أنه : إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد ، أو يقال حل الإله بكليته فيه ، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول : فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم ، فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إله العالم ، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إله ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود ، فالإله الذي تقتله اليهود إله في غاية العجز وأما الثاني : وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم ، فهو أيضاً فاسد ، لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم ، وإن كان جسماً ، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم ، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله ، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل ، وكان الإله محتاجاً إلى غيره ، وكل ذلك سخف ، وأما الثالث : وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله ، وجزء من أجزائه ، فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية ، فعند انفصاله عن الإله ، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً ، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلهية ، لم يكن جزأ من الإله ، فثبت فساد هذه الأقسام ، فكان قول النصارى باطلاً.
(1/1163)
الوجه الرابع : في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ، ولو كان إلهاً لاستحال ذلك ، لأن الإله لا يعبد نفسه ، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور ، دالة على فساد قولهم ، ثم قلت للنصراني : وما الذي دلك على كونه إلهاً ؟
فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى ، فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا ؟
فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع ، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، فأقول : لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام ، فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد ؟
فقال : الفرق ظاهر ، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول ، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه ، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك ، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا ، فقلت له : تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول ، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى : فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل ، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك ، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت : إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
الوجه الخامس : أن قلب العصا حية ، أبعد في العقل من إعادة الميت حياً ، لأن المشاكلة /بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان ، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلهاً ولا ابناً للإله ، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلهية كان ذلك أولى ، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم.
المسألة الثانية : روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران ، ثم إنهم أصروا على جهلهم ، فقال عليه السلام : "إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم" فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب : وكان ذا رأيهم ، يا عبد المسيح ما ترى ، فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج وعليه مرط من شعر أسود/ وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي رضي الله عنه خلفها ، وهو يقول ، إذا دعوت فأمنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، ثم قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا ، فقال : فإني أناجزكم القتال ، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا ، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة : ألفا في صفر ، وألفا في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، وقال : والذي نفسي بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله ، حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا ، وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود ، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله ، ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة ، ثم علي رضي الله عنهما ثم قال : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
(1/1164)
المسألة الثالثة : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ} أي في عيسى عليه السلام ، وقيل : الهاء تعود إلى الحق ، في قوله {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} (هود : 17) {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } (البقرة : 145) بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك ، بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية ، والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل ، فقل تعالوا : أصله تعاليوا ، لأنه تفاعلوا من العلو ، فاستثقلت الضمة على الياء ، فسكنت ، ثم حذفت لاجتماع الساكنين ، وأصله العلو والارتفاع ، / فمعنى تعالى ارتفع ، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء ، وصار بمنزلة هلم.
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وعد أن يدعو أبناءه ، فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن يكونا ابنيه ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام {وَمِن ذُرِّيَّتِه دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ} (الأنعام : 84) إلى قوله {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى } (الأنعام : 85) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب ، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
المسألةالخامسة : كان في الري رجل يقال له : محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلم الاثنى عشرية ، وكان يزعم أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام ، قال : والذي يدل عليه قوله تعالى : {وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} وليس المراد بقوله {وَأَنفُسَنَا} نفس محمد صلى الله عليه وسلّم لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ، ولا يمكن أن يكون المراد منه ، أن هذه النفس هي عين تلك النفس ، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة ، وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمداً عليه السلام كان نبياً وما كان علي كذلك ، ولانعقاد الإجماع على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من علي رضي الله عنه/ فيبقى فيما وراءه معمولاً به ، ثم الإجماع دل على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء ، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ، ثم قال : ويؤيد الاستدلال بهذه الآية ، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف ، وهو قوله عليه السلام : "من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في خلته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم ، وذلك يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلّم ، وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل ، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم ، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة ، هذا تقدير كلام الشيعة ، والجواب : أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً عليه السلام أفضل من علي ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان ، على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه ما كان نبياً ، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
(1/1165)
المسألة السادسة : قوله {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتباهل ، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا ، والابتهال فيه وجهان أحدهما : أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء ، وإن لم يكن باللعن ، ولا يقال : ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد والثاني : أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله ، أي لعنته وأصله مأخوذ مما يرجع إلى معنى اللعن ، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله ، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها ، بل هي مرسلة مخلاة ، كالرجل الطريد المنفي ، وتحقيق معنى الكلمة : أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنساناً ، فقال : علي بهلة الله إن كان كذا ، يقول : وكلني الله إلى نفسي ، وفرضني إلى حولي وقوتي ، أي من كلاءته وحفظه ، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها ، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها ، ويقال أيضاً : رجل باهل ، إذا لم يكن معه عصاً ، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه ، والقول الأول أولى ، لأنه يكون قوله {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي ثم نجتهد في الدعاء ، ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير : ثم نبتهل ، أي ثم نلتعن {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَـاذِبِينَ} وهي تكرار ، بقي في الآية سؤالات أربع.
السؤال الأول : الأولاد إذا كانوا صغاراً لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه ؟
.
والجواب : إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء ، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً ، وفي حق الصبيان لا يكون عقاباً ، بل يكون جارياً مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جداً فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم ، وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم ، وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه.
السؤال الثاني : هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ؟
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
الجواب : أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين أحدهما : وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم ، ولو لم يكن واثقاً بذلك ، لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير : أن يرغبوا في مباهلته ، ثم لا ينزل العذاب ، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان من أعقل الناس ، فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم وثانيهما : إن القوم لما تركوا مباهلته ، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته ، وإلا لما /أحجموا عن مباهلته.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنهم كانوا شاكين ، فتركوا مباهلته خوفاً من أن يكون صادقاً فينزل بهم ما ذكر من العذاب ؟
.
قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول : أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك الثاني : أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا : إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل ، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحاً منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
السؤال الثالث : أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلى الله عليه وسلّم ؟
حيث قالوا {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} (الأنفال : 32) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة ، فكذا ههنا ، وأيضاً فبتقدير نزول العذاب ، كان ذلك مناقضاً لقوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال : 33).
والجواب : الخاص مقدم على العام ، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك.
السؤال الرابع : قوله {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } هل هو متصل بما قبله أم لا ؟
.
والجواب : قال أبو مسلم : إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله {الْكَـاذِبِينَ} وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق {ءَانٍ} أن تكون مفتوحة ، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله {لَهُوَ} كما في قوله {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّخَبِيرُ } (العاديات : 11) وقال الباقون : الكلام تم عند قوله {عَلَى الْكَـاذِبِينَ} وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها والله أعلم.
(1/1166)
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله {إِنَّ هَاذَآ} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل ، ومن الدعاء إلى المباهلة {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ، ويرشد /إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره ، والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل.
المسألة الثانية : {هُوَ} في قوله {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } فيه قولان أحدهما : أن يكون فصلاً وعماداً ، ويكون خبر {ءَانٍ} هو قوله {الْقَصَصُ الْحَقُّ } .
فإن قيل : فكيف جاز دخول اللام على الفصل ؟
.
قلنا : إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود ، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ.
والقول الثاني : إنه مبتدأ ، والقصص خبره ، والجملة خبر {ءَانٍ} .
المسألة الثالثة : قرىء {لَهُوَ} بتحريك الهاء على الأصل ، وبالسكون لأن اللام ينزل من {هُوَ} منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد.
المسألة الرابعة : يقال : قص فلان الحديث يقصه قصاً وقصصاً ، وأصله اتباع الأثر ، يقال : خرج فلان قصصاً ، وفي أثر فلان ، وقصاً ، وذلك إذا اقتص أثره ، ومنه قوله تعالى : {وَقَالَتْ لاخْتِه قُصِّيه } (القصص : 11) وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبراً بعد خبر ، وسوقه الكلام سوقاً ، فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة.
ثم قال : {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلا اللَّه } وهذا يفيد تأكيد النفي ، لأنك لو قلت عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس ، فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد ، أفاد أنه ليس عندك بعضهم ، وإذا لم يكن عندك بعضهم ، فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلا اللَّه } مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
ثم قال : {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى ، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما : أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فكأنه تعالى قال : هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون عزيزاً غالباً لا يدفع ولا يمنع ، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك ، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه ؟
والثاني : أنهم قالوا : إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها ، فيكون إلهاً ، فكأنه تعالى قال : هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون حكيماً ، أي عالماً بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور ، فذكر {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُا لا إِلَاهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران : 6).
ثم قال : {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِالْمُفْسِدِينَ} والمعنى : فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو /الواحد ، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً قادراً على جميع المقدورات ، حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزاً غالباً ، وما كان حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات. فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله ، فإن الله عليم بفساد المفسدين/ مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادر على مجازاتهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
0
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا ، ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية ، وقد كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم ، فكأنه تعالى قال : يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال ، و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه ، وهي {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِه شَيْاًا} هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ.
(1/1167)
أما قوله تعالى : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} ففيه ثلاثة أقوال أحدها : المراد نصارى نجران والثاني : المراد يهود المدينة والثالث : أنها نزلت في الفريقين ، ويدل عليه وجهان الأول : أن ظاهر اللفظ يتناولهما والثاني : روي في سبب النزول ، أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام ، ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وعندي أن الأقرب حمله على النصارى ، لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولاً ، ثم باهلهم ثانياً ، فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف ، وترك المجادلة ، وطلب الإفحام والإلزام ، ومما يدل عليه ، أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلاً /لكتاب الله ، ونظيره ، ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله ، وللمفسر يا مفسر كلام الله ، فإن هذا اللقب يدل على أن قاتله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه ، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
أما قوله تعالى : {تَعَالَوْا } فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال ، ثم كثر استعماله حتى صار دالاً على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه.
أما قوله تعالى : {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا} فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه ، والسواء هو العدل والإنصاف ، وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف ، فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير ، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف ، فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال ، وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل.
ثم قال الزجاج {سَوَآءٌ } نعت للكملة يريد : ذات سواء ، فعلى هذا قوله {كَلِمَةٍ سَوَآء } أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية ، فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة ، ثم قال : {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : محل {ءَانٍ} في قوله أن لا نعبد/ فيه وجهان الأول : إنه رفع بإضمار ، هي : كأن قائلاً قال : ما تلك الكلمة ؟
فقيل هي أن لا نعبد إلا الله والثاني : خفض على البدل من : كلمة.
المسألة الثانية : إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها : {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} وثانيها : أن {وَلا نُشْرِكَ بِه شَيْـاًا} وثالثها : أن {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه } وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح ، ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة : أب وابن وروح القدس ، فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء ، وإنما قلنا : إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة ، لأنهم قالوا : إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح ، وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم ، ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا ، وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فيدل عليه وجوه :
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
أحدها : إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم والثاني : إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم والثالث : قال أبو مسلم : من مذهبهم أن من صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت ، فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب /إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية والرابع : هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي ، ولا معنى للربوبية إلا ذلك ، ونظيره قوله تعالى : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الجاثية : 23) فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة ، وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك ، لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله ، فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه ، وأيضاً القول بالشركة باطل باتفاق الكل ، وأيضاً إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله ، وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه ، دون الأحبار والرهبان ، فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة.
ثم قال تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} والمعنى إن أبوا إلا الإصرار ، فقولوا إنا مسلمون ، يعني أظهروا أنكم على هذا الدين ، لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه.
(1/1168)
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
0
اعلم أن اليهود كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا ، والنصارى كانوا يقولون : كان إبراهيم على ديننا ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً ؟
.
فإن قيل : فهذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تقولون : إن إبراهيم كان على دين الإسلام ، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل ، فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن ، فنقول : فلم لا يجوز أيضاً أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهودياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود ، وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى ، فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً بهذا التفسير ، كما إن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً.
والجواب : إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ، فظهر الفرق ، ثم نقول : أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم ، فالأمر فيه ظاهر ، لأن المسيح ما كان موجوداً في زمن إبراهيم ، فما كانت عبادته مشروعة في زمن /إبراهيم لا محالة ، فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة ، وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام ، ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر ، ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيداً بالمعجزات ، وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء ، وكانت لهم شرائع معينة ، فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع ، أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة ، بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله ، واليهود لا يرضون بذلك ، وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك ، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم ، فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً ، فهذا هو المراد من الآية والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وَإِذْ أَنتُمْ} بالمد والهمزة وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد ، إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز ، فمن حقق فعلى الأصل ، لأنهما حرفان و{وَإِذْ أَنتُمْ} ومن لم /يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال.
المسألة الثانية : اختلفوا في أصل {وَإِذْ أَنتُمْ} فقيل تنبيه والأصل {وَإِذْ أَنتُمْ} وقيل أصله {ءَأَنتُمْ} فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و{هَا ؤُلاءِ} مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه ، وفيه لغتان : القصر والمد ، فإن قيل : أين خبر أنتم في قوله ها أنتم ؟
قلنا في ثلاثة أوجه الأول : قال صاحب "الكشاف" للتنبيه و{وَإِذْ أَنتُمْ} مبتدأ و{هَؤُلاءِ} خبره و{حَاجَجْتُمْ} جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ؟
والثاني : أن يكون {أَنتُمْ} مبتدأ ، وخبر {هَا ؤُلاءِ} بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له الثالث : أن يكون {أَنتُمْ} مبتدأ {وَهَا ؤُلاءِ} عطف بيان خبره وتقديره : أنتم يا هؤلاء حاججتم.
المسألة الثالثة : المراد من قوله {هَا ؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِه عِلْمٌ} هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام ؟
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
ثم يحتمل في قوله {هَا أَنتُمْ هَا ؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِه عِلْمٌ} أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه ، فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة ؟
.
ثم حقق ذلك بقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة {وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} كيفية تلك الأحوال.
ثم بيّن تعالى ذلك مفصلاً فقال : {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما.
ثم قال : {وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة.
ثم قال : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه.
(1/1169)
فإن قيل : قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع ؟
فإن كان الأول لم يكن مختصاً بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضاً على دين اليهود ، أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى ، فكان أيضاً على دين النصارى ، أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع ، فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع البتة ، بل كان كالمقرر لدين غيره/ وأيضاً من المعلوم كالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم. قلنا : جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض /منه بيان إنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا ، وجاز أيضاً أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلّم نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقاً لشرع إبراهيم عليه السلام ، فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة.
ثم ذكر تعالى : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} فريقان أحدهما : من اتبعه ممن تقدم والآخر : النبي وسائر المؤمنين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
ثم قال : {وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
ثم قال : {وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
0
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق ، والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر ، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم : إن محمداً عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة ، وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول ، وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء ، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود ، ونظير قوله تعالى في سورة البقرة : {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنا بَعْدِ إِيمَـانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم} (البقرة : 109) وقوله {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَآءً } (النساء : 89).
واعلم أن {مِنْ} ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } (المائدة : 66) {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} (آل عمران : 113) وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم ، وإنما قال : {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ولم يقل أن يضلوكم ، لأن {لَوْ} للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى : {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (البقرة : 96).
ثم قال تعالى : {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} وهو يحتمل وجوهاً منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة : 57) وقوله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت : 13) {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍا أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل : 25) ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين ، حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
ثم قال تعالى : {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 245
255
اعلم أنه تعالى لما بيّن حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، بيّن أيضاً حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم.
فقال : {يَشْعُرُونَ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ} وفيه مسائل :
(1/1170)
المسألة الأولى : {لَمْ} أصلها لما ، لأنها : ما ، التي للاستفهام ، دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة ، ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفاً ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (النبأ : 1) و{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} (الحجر : 54) والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو : فبمه ، ولمه.
المسألة الثانية : في قوله {لَّه مَقَالِيدُ} وجوه الأول : أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل ، وعلى هذا القول فيه وجوه أحدها : ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام ، ومنها ما في هذين الكتابين ، أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً ، ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام.
واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول : إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني : أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم.
فأما قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين ، وعند حضور عوامهم ، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها ، ومثله قوله تعالى : {تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ } (آل عمران : 99).
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول ، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم ، ويظهرون غيره ، ولا شك أن الإخبار عن /الغيب معجز.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
القول الثاني : في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً.
القول الثالث : أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا القول فقوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم ، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه ، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلى الله عليه وسلّم كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما : أنهم كانوا يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلّم مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما : إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات ، وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية ، فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {تَلْبِسُونَ} بالتشديد ، وقرأ يحيى بن وثاب {تَلْبِسُونَ} بفتح الباء ، أي تلبسون الحق مع الباطل ، كقوله عليه السلام : "كلابس ثوبي زور" وقوله.
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
المسألة الثانية : اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين : إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل ، وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق ، فقوله {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إشارة إلى المقام الأول وقوله {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوهاً أحدها : تحريف التوراة ، فيخلطون المنزل بالمحرف ، عن الحسن وابن زيد وثانيها : إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ، ثم الرجوع عنه في آخر النهار ، /تشكيكاً للناس ، عن ابن عباس وقتادة وثالثها : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلّم من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك ، فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة ، وهذا قول القاضي ورابعها : أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق ، ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات.
(1/1171)
أما قوله تعالى : {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التفكر والتأمل ، والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
أما قوله {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ففيه وجوه أحدها : إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً وثانيها : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة وثالثها : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم.
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : {لِمَ تَكْفُرُونَ} و{لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} دال على أن ذلك فعلهم ، لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ، ثم يقول : لم فعلتم ؟
وجوابه : أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم ، وهو المذكور في هذه الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قول بعضهم لبعض {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُوا بِالَّذِى أُنزِلَ} ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل.
أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه الأول : أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في /تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام ، وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه ، فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب ، قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد ، وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام ، والبحث الوافي أنه كذاب ، فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته ، وقيل : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق.
وقوله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه.
الوجه الثاني : يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب ، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم ، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول : أنه تعالى لما قال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } (النساء : 137) أتبعه بقوله {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} وهو بمنزلة قوله {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ} (البقرة : 14) الثاني : أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله {يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم {وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا } أمر بالنفاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
الوجه الثالث : قال الأصم : قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم ، لأن كثيراً مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم.
(1/1172)
الاحتمال الثاني : أن يكون قوله {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُوا بِالَّذِى أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ} بعض ما أنزل الله والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول : قال ابن عباس : وجه النهار أوله ، وهو صلاة الصبح واكفروا آخره : يعني صلاة الظهر وتقريره أنه صلى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم ، فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُوا بِالَّذِى أُنزِلَ} يعني آمنوا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الصبح فهي الحق/ واكفروا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الظهر ، وهي آخر النهار ، وهي الكفر الثاني : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم ، فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار ، ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلّهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب /العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة.
المسألة الثانية : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول : أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم ، وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب ، فيكون معجزاً الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.
المسألة الثالثة : وجه النهار هو أوله ، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء ، لأنه أول ما يواجه منه ، كما يقال لأول الثوب وجه الثوب ، روى ثعلب عن ابن الأعرابي : أتيته بوجه نهار وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي أول النهار ، وأنشد الربيع بن زياد فقال :
من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود ، وفيه وجهان الأول : المعنى : ولا تصدقوا إلا نبياً يقرر شرائع التوراة ، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه ، وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم ، وعلى هذا التفسير تكون في قوله {تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ} صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلاناً. ولا يقال صدقت لفلان ، وكون هذه اللام صلة زائدة جائز ، كقوله تعالى : {رَدِفَ لَكُم} (النمل : 72) والمراد ردفكم والثاني : أنه ذكر قبل هذه الآية قوله {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} .
/ثم قال في هذه الآية : {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم ، كأنهم قالوا : ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم ، فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم ، فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته.
ثم قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما. معناه : الدين دين الله ومثله في سورة البقرة {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } (البقرة : 120).
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جواباً عما حكاه عنهم ؟
فنقول : أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه ، فهذا الكلام إنما صلح جواباً عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت ديناً من جهة الله ، لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك ، فمتى أمر بعد ذلك بغيره ، وأرشد إلى غيره ، وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبياً يجب أن يتبع ، وإن كان مخالفاً لما تقدم ، لأن الدين إنما صار ديناً بحكمه وهدايته ، فحيثما كان حكمه وجبت متابعته ، ونظيره قوله تعالى جواباً لهم عن قولهم {مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } (البقرة : 142) يعني الجهات كلها لله ، فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء ، وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله ، وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
ثم قال تعالى : {أَن يُؤْتَى ا أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } .
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة ، فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين.
(1/1173)
أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه الأول : قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام ، فإن أخذنا بقراءة ابن كثير ، فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى : {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ} (القلم : 14 ، 15) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ؟
ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه ، وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك ؟
والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ؟
ونظيره قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآا ِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه } (الزمر : 9) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر. أما قراءة من قرأ بقصر الألف من {ءَانٍ} فقد يمكن أيضاً حملها على معنى الاستفهام كما قرىء {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} (البقرة : 6) بالمد والقصر ، وكذا قوله {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قرىء بالمد والقصر ، وقال امرؤ القيس :
/تروح من الحي أم تبتكر ؟
وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أروح من الحي ؟
فحذف ألف الاستفهام ، وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى.
الوجه الثاني : أن أولئك لما قالوا لأتباعهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يقول لهم {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} فلا تنكروا {أَن يُؤْتَى ا أَحَدٌ} سواكم من الهدى {مِّثْلُ مَآ} {أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} يعني هؤلاء المسلمين بذلك {عِندَ رَبِّكُمْ } إن لم تقبلوا ذلك منهم ، أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلاً وهو قوله {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
الوجه الثالث : إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } (فصلت : 17) فقوله {إِنَّ الْهُدَى } مبتدأ وقوله {هُدَى اللَّهِ} بدل منه وقوله {أَن يُؤْتَى ا أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} خبر بإضمار حرف لا ، والتقدير : قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون ، وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف {لا} وهو جائز كما في قوله تعالى : {أَن تَضِلُّوا } (النساء : 44) أي أن لا تضلوا.
الوجه الرابع : {الْهُدَى } اسم و{هُدَى اللَّهِ} بدل منه و{أَن يُؤْتَى ا أَحَدٌ} خبره والتقدير : إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ، وعلى هذا التأويل فقوله {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } لا بد فيه من إضمار ، والتقدير : أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم ، والمعنى : أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه ، وفي قوله {عِندَ رَبِّكُمْ } ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه رباً لهم يدل على كونه راضياً عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم.
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله {أَن يُؤْتَى ا أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} من تتمة كلام اليهود ، وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الهدى هدى الله ، وأن الفضل بيد الله ، قالوا ، والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم ، وأسروا تصديقكم ، بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
(1/1174)
أما قوله {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } فهو عطف على أن يؤتى ، والضمير في يحاجوكم لأحد ، لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم/ إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة ، وعندي أن هذا التفسير ضعيف ، وبيانه من وجوه الأول : إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلّم عند أتباعهم وأشياعهم ، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟
هذا في غاية البعد الثاني : أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث : إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير : قبل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله ، ولا بد من حذف {قُلْ} في قوله {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} الرابع : إنه كيف وقع قوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} فيما بين جزأى كلام واحد ؟
فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم ، قال القفال : يحتمل أن يكون قوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر ، فيقول : عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله ، أو يقول لا إله إلا الله ، أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} من هذا الباب ، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم ، فقيل له {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} إلى آخر الآية.
الإشكال الخامس : في هذه الوجوه : أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال : صدقت زيداً ، فكان ينبغي أن يقال : ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله {أَن يُؤْتَى } لأن التقدير : ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى ، قال أبو علي الفارسي : لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى : ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة ، لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال ، فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
ثم قال تعالى : {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما : أن يؤمنوا وجه النهار ، ويكفروا آخره ، /ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام.
فأجاب عنه بقوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} والمعنى : أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني : أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة.
فأجاب عنه بقوله {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } والمراد بالفضل الرسالة ، وهو في اللغة عبارة عن الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان ، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ، ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله {بِيَدِ اللَّهِ} أي إنه مالك له قادر عليه/ وقوله {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي هو تفضل موقوف على مشيئته ، وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق ، لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ، ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} مؤكد لهذا المعنى ، لأن كونه واسعاً ، يدل على كمال القدرة ، وكونه عليماً على كمال العلم ، فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ، ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب.
(1/1175)
ثم قال : {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَن يَشَآءُا وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وهذا كالتأكيد لما تقدم ، والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة ، ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه ، فبيّن بقوله {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، ثم قال : {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَن يَشَآءُ } والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل ، فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم ، بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم ، ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده ، وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة ، وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول : أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ، ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ، ثم إنه تعالى بيّن أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان ، وهم مصرون عليها ، فدل هذا على كذبهم والثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران : 73) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس ، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير وههنا مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين : بعضهم أهل الأمانة ، وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال الأول : أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا ، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى : {لَيْسُوا سَوَآءًا مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران : 113) مع قوله {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَـاسِقُونَ} (آل عمران : 110) الثاني : أن أهل الأمانة هم النصارى ، وأهل الخيانة هم اليهود ، والدليل عليه ما ذكرنا ، أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان الثالث : قال ابن عباس : أودع رجل عبد الله بن سلاّم ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه ، وأودع آخر فنحاص بن عازوراء ديناراً فخانه فنزلت الآية.
المسألة الثانية : يقال أمنته بكذا وعلى كذا ، كما يقال مررت به وعليه ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة ، ومعنى : على استعلاء الأمانة ، فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه ، واتصاله بحفظه وحياطته ، وأيضاً صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها ، فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين ، وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه ، وقولك أمنتك عليه ، أي جعلتك أميناً عليه وحافظاً له.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل ، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل ، فإنه يجوز فيه الخيانة ، ونظيره قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا } (النساء : 20) وعلى هذا الوجه ، /فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوهاً الأول : إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا : لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلاّم حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه ، فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار الثاني : روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال الثالث : قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم/ وقد تقدم القول في تفسير القنطار.
المسألةالرابعة : قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {يُؤَدِّه } بسكون الهاء ، وروي ذلك عن أبي عمرو ، وقال الزجاج : هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في {بَارِئِكُمْ} بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة ، واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال : الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل ، وقال الفراء : من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها. فيقول : ضربته ضرباً شديداً كما يسكنون (ميم) أنتم وقمتم وأصلها الرفع ، وأنشد :
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
وقرىء أيضاً باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء ، وقرىء بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل.
(1/1176)
ثم قال تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّه إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في لفظ (القائم) وجهان : منهم من حمله على حقيقته ، قال السدي : يعني إلا ما دمت قائماً على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له ، والمعنى : أنه إنما يكون معترفاً بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه ، فإن أنظرت وأخرت أنكر ، ومنهم من حمل لفظ (القائم) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول : قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة ، قال ابن قتيبة : أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه ، دليل قوله تعالى : {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} (آل عمران : 113) أي عامله بأمر الله غير تاركه ، ثم قيل : لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني : قال أبو علي الفارسي : القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات ، وذكرنا ذلك في قوله تعالى : {يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} (البقرة : 3) ومنه قوله {دِينًا قِيَمًا} (الأنعام : 161) أي دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى قوله {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } أي دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثانية : يدخل تحت قوله {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} و{بِدِينَارٍ} العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة ، فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضاً أن الآية نزلت في أن رجلاً أودع مالاً كثيراً /عند عبد الله بن سلام ، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء ، فخان هذا اليهودي في القليل ، وعبد الله بن سلام أدى الأمانة ، فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّانَ سَبِيلٌ} والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً الأول : أنهم مبالغون في التعصب لدينهم ، فلا جرم يقولون : يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" الثاني : أن اليهود قالوا {نَحْنُ أَبْنَا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّا ؤُه } (المائدة : 18) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث : أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقاً لكل من خالفهم/ بل للعرب الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلّم ، روي أن اليهود بايعوا رجالاً في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا : ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم ، وأقول : من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد ، فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة.
المسألة الثانية : نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام. قال تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } (التوبة : 91) وقال : {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء : 141)وقال : {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِه فَ أولئك مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (الشورى : 41/ 42).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : {الامِّىِّ} منسوب إلى الأم ، وسمي النبي صلى الله عليه وسلّم أُمياً قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب ، وقيل : نسب إلى مكة وهي أم القرى.
ثم قال تعالى : {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وفيه وجوه الأول : أنهم قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش الثاني : أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة الثالث : أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.
ثم قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
(1/1177)
اعلم أن في {بَلَى } وجهين أحدهما : أنه لمجرد نفي ما قبله ، وهو قوله {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّـانَ سَبِيلٌ} فقال الله تعالى راداً عليهم {بَلَى } عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج ، قال : وعندي وقف التمام على {بَلَى } وبعده استئناف والثاني : أن كلمة {بَلَى } كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر /يذكر بعده ، وذلك لأن قولهم : ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم : نحن أحباء الله تعالى ، فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم ، وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على {بَلَى } وقوله {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِه } مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في {بِعَهْدِه } يجوز أن يعود على اسم {اللَّهِ} في قوله {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} ويجوز أن يعود على {مِنْ} لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان :
السؤال الأول : بتقدير {ءَانٍ} يكون الضمير عائداً إلى الفاعل وهو {مِنْ} فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة ، فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى.
الجواب : الأمر كذلك ، فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم ، وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة ، لاتقوه في ترك الكذب على الله ، وفي ترك تحريف التوراة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
السؤال الثاني : أين الضمير الراجع من الجزاء إلى {مِنْ} ؟
.
الجواب : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد ، وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً ، لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق ، فهو شفقة على خلق الله ، ولما أمر الله به ، كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله ، فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد/ كما يمكن في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات ، لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول : أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في /أموال الناس ، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران : 75) ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه ، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذباً ، ومن الناس من قال : هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة ، وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة ، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاماً في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفت الروايات في سبب النزول ، فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ، ومنهم من خصها بغيرهم.
أما الأول ففيه وجهان الأول : قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلّم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) الثاني : أنها نزلت في ادعائهم أنه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّـانَ سَبِيلٌ} (آل عمران : 75) كتبوا بأيديهم كتاباً في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن.
وأما الاحتمال الثاني : ففيه وجوه الأول : أنها نزلت في الأشعث بن قيس ، وخصم له في أرض ، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال للرجل : "أقم بيِّنَتَك" فقال الرجل : ليس لي بينة فقال للأشعث "فعليك اليمين" فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق ، وهو قول ابن جريج الثاني : قال مجاهد : نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته الثالث : نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم في أرض ، فتوجه اليمين على امرىء القيس ، فقال : أنظرني إلى الغد ، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض ، والأقرب الحمل على الكل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
(1/1178)
فقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه ، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به.
قال تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه لَنَصَّدَّقَنَّ} (التوبة : 75) الآية وقال : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِا إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـاُولا} (الإسراء : 34) وقال : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (الإنسان : 7)وقال : {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه } (الأحزاب : 23) وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء ، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر ، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد ، أو وعيد ، أو إنكار ، أو إثبات.
ثم قال تعالى : { أولئك لا خَلَـاقَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمناً قليلاً ، خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس : في بيان وقوعهم في أشد العذاب ، أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم.
فالأول : وهو قوله { أولئك لا خَلَـاقَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ} إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة.
وأما الثلاثة الباقية : وهي قوله {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز.
وأما الخامس : وهو قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهو إشارة إلى العقاب ، ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة :
أما الأول : وهو قوله {لا خَلَـاقَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ} فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة ، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضاً بعدم العفو فإنه تعالى قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
وأما الثاني : وهو قوله {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى قال : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر : 92 ، 93) وقال : {فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف : 6) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين ، وبين تلك الآية ؟
قال القفال في الجواب : المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم ، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا ، فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر ، قال له لا أكلمك ، وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان ، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه. وهذا هو الجواب الصحيح ، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون إسماع الله جلّ جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه ، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق ، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول.
وأما الثالث : وهو قوله تعالى : {وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان ، يقال فلان لا ينظر إلى فلان ، والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه ، والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى ، فهلذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثم نظر ، ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية ، لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام ، وتعالى إلهنا عن أن يكون جسماً ، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائياً لهم وذلك باطل.
وأما الرابع : وهو قوله {وَلا يُزَكِّيهِمْ} ففيه وجوه الأول : أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني : لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له.
(1/1179)
واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال : {جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِم وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 23 ، 24) وقال : {وَتَتَلَقَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (الأنبياء : 103) {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ } (فصلت : 21) وقد تكون بغير واسطة ، أما في الدنيا فكقوله {التَّـا ئِبُونَ الْعَـابِدُونَ} (التوبة : 112) وأما في الآخرة فكقوله {سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس : 58).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
وأما الخامس : وهو قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضاً /واعلم أن عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج ، يقال : لويت يده ، والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان على إذا غير أخلافه عن الاستواء إلى ضده ، ولوى لسانه عن كذا إذا غيره ، ولوى فلاناً عن رأيه إذا أماله عنه ، وفي الحديث : "لي الواجد ظلم" وقال تعالى : {مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِى الدِّينِ } (النساء : 46).
إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول : قال القفال رحمه الله قوله {يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم} معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى ، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية ، فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى : {يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم} وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلّم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلّم ثم قالوا {هَـاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ} .
إذا عرفت هذا فنقول : إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبّر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذماً لهم وعيباً ولم يعبر عنها بالقراءة ، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد ، فيقولون في المدح : خطيب مصقع ، وفي الذم : مكثار ثرثار.
فقوله {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَـابِ} المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل ، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ} (البقرة : 79) ثم قال : {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} أي وما هو الكتاب الحق المنزّل من عند الله ، بقي ههنا سؤالان :
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
السؤال الأول : إلى ما يرجع الضمير في قوله {لِتَحْسَبُوهُ} ؟
.
الجواب : إلى ما دل عليه قوله {يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم} وهو المحرّف.
السؤال الثاني : كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس ؟
.
الجواب : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل ، يجوز عليهم التواطؤ على التحريف ، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً ، والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب ، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين ، واليهود كانوا يقولون : مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم ، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى ، فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول : ليس /مراد الله ما ذكرت ، فكذا في هذه الصورة.
(1/1180)
ثم قال تعالى : {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} واعلم أن من الناس من قال : إنه لا فرق بين قوله {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} وبين قوله {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران : 78) وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد ، أما المحققون فقالوا : المغايرة حاصلة ، وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله ، فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب ، وتارة بالسنة ، وتارة بالإجماع ، وتارة بالقياس والكل من عند الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
فقوله {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} هذا نفي خاص ، ثم عطف عليه النفي العام فقال : {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ، ويكون المراد من قولهم : هو من عند الله ، أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء ، وأرمياء ، وحيقوق ، وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين ، فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة ، وإن وجدوا قوماً عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام ، واحتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا : لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم : إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى : إنه ليس من عند الله ، وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده ، والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده ، ثم قال : وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال : ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} وبين قوله {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فرق ، وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف ، وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضاً من وجهين آخرين الأول : أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به ، وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني : أن قوله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه ، فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم.
والجواب : أما قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى : {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} على أنه كلام الله لزم التكرار ، فجوابه ما ذكرنا أن قوله {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ} معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من كونه حكماً لله تعالى ثابتاً بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال : {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} ثبت نفي كونه حكماً لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
وأما الوجه الأول : من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه ، أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقاً على السؤال ، والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى ، بل كانوا /يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه.
فوجب أن يكون قوله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} عائداً إلى هذا المعنى لا إلى غيره ، وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم.
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة ، وإعراب ألفاظها ، فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب/ وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرّفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلهية ، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية ، وههنا مسائل :
(1/1181)
المسألة الأولى : في سبب نزول هذه الآية وجوه الأول : قال ابن عباس : لما قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله نزلت هذه الآية الثاني : قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ، فقال عليه الصلاة والسلام "معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله /فما بذلك بعثني ؛ ولا بذلك أمرني" فنزلت هذه الآية الثالث : قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله" الرابع : أن اليهود لما ادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه ، فالله تعالى قال لهم : إن كان الأمر كما قلتم ، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك ، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ} مثل قوله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة : 31).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ} على وجوه الأول : قال الأصم : معناه ، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (الحاقه : 44) قال : {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا * إِذًا لاذَقْنَـاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} (الاسراء : 74 ، 75) الثاني : أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة ، كما قال الله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} (الأنعام : 124) وقال : {الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} (الدخان : 32) وقال الله تعالى : {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } (الحج : 75) والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى ، ومنها أن إيتاء النبوّة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى ، وبالجملة فللإنسان قوتان : نظرية وعملية ، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوّة ، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد ، الثالث : أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوّة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام الرابع : أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى ، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً ، وذلك غير جائز ، واعلم أنه ليس المراد من قوله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق ، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوّة ، وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم : اتخذوني إلهاً /من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه ، ونظيره قوله تعالى : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35) على سبيل النفي لذلك عن نفسه ، لا على وجه التحريم والحظر ، وكذا قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ } (آل عمران : 161) والمراد النفي لا النهي والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : قوله {أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولاً ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم ، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم ، قال تعالى : {وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم : 12) يعني العلم والفهم ، ثم إذا حصل فهم الكتاب ، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوّة فما أحسن هذا الترتيب.
(1/1182)
ثم قال تعالى : {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : القراءة الظاهرة ، ثم يقول بنصب اللام ، وروي عن أبي عمرو برفعها ، أما النصب فعلى تقدير : لا تجتمع النبوّة وهذا القول ، والعامل فيه (أن) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف.
المسألة الثانية : حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى : {كُونُوا عِبَادًا لِّى} إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عباداً.
ثم قال : {وَلَـاكِن كُونُوا رَبَّـانِيِّـانَ} وفيه مسألتان ؛
المسألة الأولى : في هذه الآية إضمار ، والتقدير : ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} (آل عمران : 106) أي فيقال لهم ذلك.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير (الرباني) أقوالاً الأول : قال سيبويه : الرباني المنسوب إلى الرب ، بمعنى كونه عالماً به ، ومواظباً على طاعته ، كما يقال : رجل إلهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة ، كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة ، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا : شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي والثاني : قال المبرّد {الرَّبَّـانِيُّونَ} أرباب العلم وأحدهم رباني ، وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي : يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم ، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا : ربان وعطشان وشبعان وعريان ، ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل : لحياني ورقباني قال الواحدي : فعلى قول سيبويه الرباني : منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته ، وعلى قول المبرد مأخوذ من التربية الثالث : قال ابن زيد : الرباني. هو الذي يرب الناس ، فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء ، وذكر هذا أيضاً في قوله تعالى : {لَوْلا يَنْهَـاـاهُمُ الرَّبَّـانِيُّونَ وَالاحْبَارُ} (المائدة : 63) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير : لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته ، قال القفال رحمه الله : ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانياً ، لأنه يطاع كالرب تعالى ، فنسب إليه الرابع : قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وسواء كانت عربية أو عبرانية ، فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ، واشتغل بتعليم طرق الخير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
ثم قال تعالى : {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ} قراءتان إحداهما : {تَعْلَمُونَ} من العلم ، وهي قراءة عبد الله بن كثير ، وأبي عمرو ، ونافع والثانية : {تَعْلَمُونَ} من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب ، لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم ، واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين الأول : أنه قال : {تَدْرُسُونَ} ولم يقل {تَدْرُسُونَ} بالتشديد الثاني : أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول ههنا واحد ، وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره : بما كنتم تعلمون الناس الكتاب ، أو غيركم الكتاب وحذف ، لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيراً ، ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين الأول : أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى الثاني : أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بذلك فقال : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل : 125) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل : كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن.
المسألة الثانية : نقل ابن جني في "المحتسب" ، عن أبي حيوة أنه قرأ {تَدْرُسُونَ} بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء ، قال ابن جني : ينبغي أن يكون هذا منقولاً من درس هو ، أو درس غيره ، وكذلك قرأ وأقرأ غيره ، وأكثر العرب على درس ودرس ، وعليه جاء المصدر على التدريس.
(1/1183)
المسألة الثالثة : (ما) في القراءتين ، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل ، والتقدير : كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب ، ومثل هذا من كون (ما) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى : {فَالْيَوْمَ نَنسَـاـاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا} (الأعراف : 5) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانياً والسبب لا محالة مغاير للمسبب ، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً ، أمراً مغايراً لكونه عالماً ، ومعلماً ، ومواظباً على الدراسة ، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله ، وتعليمه ودراسته لله ، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع /الأفعال طلب مرضاة الله ، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله ، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته/ وحاصل الحرف شيء واحد ، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق ، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه. وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الرابعة : دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً ، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع".
ثم قال تعالى : {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الملائكة وَالنَّبِيِّـانَ أَرْبَابًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة وابن عامر {وَلا يَأْمُرَكُمْ} بنصب الراء ، والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على {ثُمَّ يَقُولُ} وفيه وجهان أحدهما : أن تجعل {لا} مزيدة والمعنى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً ، كما تقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني : أن تجعل {لا} غير مزيدة ، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا : أتريد أن نتخذك رباً ؟
قيل لهم : ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء ، وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام ، ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ {وَلا يَأْمُرَكُمْ} .
المسألة الثانية : قال الزجاج : ولا يأمركم الله ، وقال ابن جريج : لا يأمركم محمد ، وقيل : لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أرباباً كما فعلته قريش.
المسألة الثالثة : إنما خص الملائكة والنبيّين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير ، فلهذا المعنى خصهما بالذكر.
ثم قال تعالى : {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} وفيه ومسائل :
المسألة الأولى : الهمزة في {أَيَأْمُرُكُم} استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا يفعل ذلك.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" قوله {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في أن يسجدوا له.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : قال الجبائي : الآية دالة على فساد قول من يقول : الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به ، وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء ، وهو قوله تعالى : {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ} ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ} وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به.
والجواب : أن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجوداً بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أن لا شريك له في المعبودية ، فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
(1/1184)
اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه ، وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين ، فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقاً لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ما لم يضم إليها مقدمة أخرى ، وهي أن محمداً رسول الله جاء مصدقاً لما معهم ، وعند هذا لقائل أن يقول : هذا إثبات للشيء بنفسه ، لأنه إثبات لكونه رسولاً بكونه رسولاً.
/والجواب : أن المراد من كونه رسولاً ظهور المعجز عليه ، وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم ، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ :
أما قوله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ} فقال ابن جرير الطبري : معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيّين ، وقال الزجاج : واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيّين.
أما قوله {مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول ، فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذاً منهم ، ويحتمل أن يكون مأخوذاً لهم من غيرهم ، فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
أما الاحتمال الأول : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضاً ، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله ، وقيل : إن الميثاق هذا مختص بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم ، واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه الأول : أن قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى ، والمأخوذ منهم هم النبيون ، فليس في الآية ذكر الأمة ، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ، ويمكن أن يجاب عنه من وجوه الأول : أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافاً إلى الموثق عليه ، وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل ، وهو الموثق له ، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول ، فإن لم يكن فلا أقل من المساواة ، وهو كما يقال ميثاق الله وعهده ، فيكون التقدير : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم الثاني : أن يراد ميثاق أولاد النبيّين ، وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال : فعل بكر بن وائل كذا ، وفعل معد بن عدنان كذا ، والمراد أولادهم وقومهم ، فكذا ههنا الثالث : أن يكون المراد من لفظ {النَّبِيِّانَ} أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكماً بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوّة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون الرابع : أنه كثيراً ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} (الطلاق : 1).
الحجة الثانية : لأصحاب هذا القول : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي".
الحجة الثالثة : ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
(1/1185)
الاحتمال الثاني : إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون /الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلّم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه ، وهذا قول كثير من العلماء ، وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه الأول : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفاً فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين بل هم أمم النبيّين قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم ، أجاب القفال رحمه الله فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ونظيره قوله تعالى : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا ، وقال : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (الحاقه : 44 ، 45 ، 46) وقال في صفة الملائكة {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه فَذاَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَا كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ} (الأنبياء : 29) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا ، ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) فكذا ههنا.
الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء عليهم السلام ، وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام ، أعلى وأشرف من درجات الأمم ، فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء ، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم واجباً على أممهم لو كان ذلك أولى ، فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
الحجة الثالثة : ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} ونحن نقرأ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} فقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما أخذ الله ميثاق النبيّين على قومهم.
الحجة الرابعة : أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى : {خَـالِدُونَ * يَـابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وبقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه } (آل عمران : 187) فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع والله أعلم بمراده.
وأما قوله تعالى : {لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـابٍ وَحِكْمَةٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور {لَّمًّا} بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير {لَّمًّا} مشددة ، أما القراءة بالفتح فلها وجهان الأول : أن {مَآ} اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِه } والتقدير : للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، وعلى هذا التقدير {مَآ} رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة {مَآ} وموصولتها محذوف والتقدير : لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله {أَهَـاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} (الفرقان : 41) وعليه سؤالان :
السؤال الأول : إذا كانت {مَآ} موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ، ألا ترى أنك لو قلت : الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز.
(1/1186)
وقوله {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} ليس فيه راجع إلى الموصول ، قلنا : يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى : {إِنَّه مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف : 90) ولم يقل : فإن الله لا يضيع أجره ، وقال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} (الكهف : 30) ولم يقل : إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
السؤال الثاني : ما فائدة اللام في قوله {لَّمًّا} قلنا : هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك : لزيد أفضل من عمرو ، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّانَ} بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم ، وهذه اللام المتلقية للقسم ، فهذا تقرير هذا الكلام.
الوجه الثاني : وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن {مَآ} ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، فاللام في قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِه } هي المتلقية للقسم ، أما اللام في {لَّمًّا} هي لام تحذف تارة ، وتذكر أخرى ، ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك : والله لو أن فعلت ، فعلت فلفظة (أن) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا ، وعلى هذا التقدير كانت (ما) في موضع نصب بأتيتكم {وَجَآءَكُمُ} جزم بالعطف على {ءَاتَيْتُكُم} و{لَتُؤْمِنُنَّ بِه } هو الجزاء ، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر ، وأما الوجه في قراءة {لَّمًّا} بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل : أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل {وَمَآ} على هذه القراءة تكون موصولة ، وتمام /البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول ، وأما قراءة {لَّمًّا} بالتشديد فذكر صاحب "الكشاف" فيه وجهين الأول : أن المعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق له ، وجب عليكم الإيمان به ونصرته والثاني : أن أصل {لَّمًّا} لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات/ وهي الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت {لَّمًّا} ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى.
المسألة الثانية : قرأ نافع {ءَاتَيْنَاكُم} بالنون على التفخيم ، والباقون بالتاء على التوحيد ، حجة نافع قوله {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} (النساء : 163) {وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم : 12) {وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} (الصافات : 117) ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع ، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى ، وحجة الجمهور قوله {هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِه ءَايَاتا بَيِّنَاتٍ} (الحديد : 9) و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (الكهف : 1) وأيضاً هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ} وقال بعدها {إِصْرِى } وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى : {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل أَلا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى} (الإسراء : 2) ولم يقل من دوننا كما قال : {وَجَعَلْنَاهُ} والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر النبيّين على سبيل المغايبة ثم قال : {ءَاتَيْتُكُم} وهو مخاطبة إضمار والتقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، والإضمار باب واسع في القرآن ، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضماراً آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية : وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصاراً ثم قال تعالى بعده {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} وهو محمد صلى الله عليه وسلّم {لَتُؤْمِنُنَّ بِه وَلَتَنصُرُنَّه } وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى من تلك التكلفات.
(1/1187)
المسألة الرابعة : في قوله {لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـابٍ} إشكال ، وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم ، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم ، فالإشكال أظهر ، والجواب عنه من وجهين الأول : أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب ، بمعنى كونه مهتدياً به داعياً إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه والثاني : أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع.
/المسألة الخامسة : الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها.
المسألة السادسة : كلمة {مِنْ} في قوله {مِن كِتَـابِ} دخلت تبييناً لما كقولك : ما عندي من الورق دانقان.
أما قوله تعالى : {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : ما وجه قوله {ثُمَّ جَآءَكُمْ} والرسول لا يجيء إلى النبيّين وإنما يجيء إلى الأمم ؟
.
والجواب : إن حملنا قوله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قوله {ثُمَّ جَآءَكُمْ} أي جاء في زمانكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
السؤال الثاني : كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلّم مصدقاً لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم ، قلنا : المراد به حصول الموافقة في التوحيد ، والنبوات ، وأصول الشرائع ، فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها ؛ فذلك في الحقيقة ليس بخلاف ، لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم ليس إلا شرعه ، فهذا وإن كان يوهم الخلاف ، إلا أنه في الحقيقة وفاق ، وأيضاً فالمراد من قوله {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} هو محمد صلى الله عليه وسلّم ، والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل ، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكوراً في تلك الكتب ، كان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم ، فهذا هو المراد بكونه مصدقاً لما معهم.
السؤال الثالث : حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلك الميثاق.
والجواب : يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه ، فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق ، ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين ، فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية المتقدمة وجب الانقياد له ، فقوله تعالى : {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} يدل على هذين الوجهين ، أما على الوجه الأول ، فقوله {رَّسُولٍ} وأما على الوجه الثاني ، فقوله {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} .
أما قوله {لَتُؤْمِنُنَّ بِه وَلَتَنصُرُنَّه } فالمعنى ظاهر ، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولاً ، ثم /الاشتغال بنصرته ثانياً ، واللام في {لَتُؤْمِنُنَّ بِه } لام القسم ، كأنه قيل : والله لتؤمنن به.
ثم قال تعالى : {قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى } وفيه مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الأولى : إن فسرنا قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى معناه : قال الله تعالى للنبيّين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله {قَالَ} أي قال كل نبي لأمته أأقرتم ، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه ، وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم ، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده ، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول ، وأكدوا ذلك بالإشهاد.
المسألة الثانية : الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر ، إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته.
(1/1188)
أما قوله تعالى : {ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى } أي قبلتم عهدي ، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى : {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} (البقرة : 48) أي يقبل منها فدية وقال : {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (التوبة : 104) أي يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى : {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} (البقرة : 286) فسمى العهد إصراً لهذا المعنى ، قال صاحب "الكشاف" : سمى العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ، ومنه الإصار الذي يعقد به وقرىء {إِصْرِى } ويجوز أن يكون لغة في إصر.
ثم قال تعالى : {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} وفي تفسير قوله {فَأَشْهِدُوا } وجوه الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضاً {مِّنَ الشَّاهِدِينَ} وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض الثاني : أن قوله {فَأَشْهِدُوا } خطاب للملائكة الثالث : أن قوله {فَأَشْهِدُوا } أي ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه ونظيره قوله {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى ا شَهِدْنَآ } (الأعراف : 172) على أنفسنا وهذا من باب المبالغة الرابع : {فَأَشْهِدُوا } أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام ، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى الخامس : {فَأَشْهِدُوا } أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس : إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله {فَأَشْهِدُوا } خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
وأما قوله تعالى : {وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} فهو للتأكيد وتقوية الإلزام ، وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره ، فليس محتاجاً إلى ذلك الإشهاد ، لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن /لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ، ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيداً آخر فقال : {فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَالِكَ فَ أولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ} يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم ، وقوله {فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَالِكَ} هذا شرط ، والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط والجزاء ، والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله ، فلهذا قال بعده {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم {يَبْغُونَ} و{يَرْجِعُونَ} بالياء المنقطة من تحتها ، لوجهين أحدهما : رداً لهذا إلى قوله {وَ أولئك هُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران : 82) والثاني : أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} وقرأ أبو عمرو بالتاء خطاباً لليهود وغيرهم من الكافر و{لا يَرْجِعُونَ} بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله {وَلَه ا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ} وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب ، لأن ما قبله خطاب كقوله {ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ} (آل عمران : 81) وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السموات والأرض ، وأن مرجعكم إليه وهو كقوله {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه } (آل عمران : 101).
المسألة الثانية : الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه ، وموضع الهمزة هو لفظة {يَبْغُونَ} تقديره : أيبغون غير دين الله ؟
لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ} على فعله ، لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما : التقدير : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
واعلم أنه لو قيل أو غير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل : أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون ؟
.
(1/1189)
المسألة الثالثة : روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام ، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به ، فقال عليه الصلاة والسلام : كلا الفريقين برىء من دين إبراهيم عليه السلام ، فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ، ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى الله عليه وسلّم في النبوّة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر ، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين ديناً غير دين الله ، ومعبوداً سوى الله سبحانه ، ثم بيّن أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال : {وَلَه ا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الإسلام ، هو الاستسلام والانقياد والخضوع.
إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السموات والأرض لله وجوه الأول : وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه ، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع ، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله {وَلَه ا أَسْلَمَ} يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السموات والأرض لا لغيره ، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلاً أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً ، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الرعد : 15) وقوله {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه } (الإسراء : 44).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
الوجه الثاني : في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده ، وإما أن ينزلوا عليه طوعاً أو كرهاً ، فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين ، وينقادون له كرهاً فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك ، وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرهاً لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين ، وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرهاً ، لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره الثالث : أسلم المسلمون طوعاً ، والكافرون عند موتهم كرهاً لقوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) الرابع : أن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعاً بدليل قوله تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (لقمان : 25) ومنقادون /لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً الخامس : أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنا بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) السادس : قال الحسن : الطوع لأهل السموات خاصة ، وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره ، وأقول : إنه سبحانه ذكر في تخليق السموات والأرض هذا وهو قوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآاـاِعِينَ} (فصلت : 11) وفيه أسرار عجيبة.
أما قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه ، والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق.
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : الطوع الانقياد ، يقال : طاعه يطوعه طوعاً إذا انقاد له وخضع ، وإذا مضى لأمره فقد أطاعه ، وإذا وافقه فقد طاوعه ، قال ابن السكيت : يقال طاع له وأطاع ، فانتصب طوعاً وكرهاً على أنه مصدر وقع موقع الحال ، وتقديره طائعاً وكارهاً ، كقولك أتاني راكضاً ، ولا يجوز أن يقال : أتاني كلاماً أي متكلماً ، لأن الكلام ليس يضرب للإتيان والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بيّن في هذه الآية أن من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم كونه مصدقاً لما معهم فقال : {قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية وههنا مسائل :
(1/1190)
المسألة الأولى : وحد الضمير في {قُلْ} وجمع في {مِنْ} وفيه وجوه الأول : إنه تعالى حين خاطبه ، إنما خاطبه بلفظ الوحدان ، وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم والتفخيم ، مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني : أنه خاطبه أولاً بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ، ثم قال : {مِنْ} تنبيهاً على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث : إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله /{قُلْ} ليظهر به كونه مصدقاً لما معهم ثم قال {مِنْ} تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } (البقرة : 285).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثانية : قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء ، لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة ، وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه ، لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه ، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ، ويختلفون في نبوتهم {وَالاسْبَاطَ} هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثنى عشر في سورة الأعراف ، وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوّة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها : إثبات كونه عليه السلام مصدقاً لجميع الأنبياء ، لأن هذا الشرط كان معتبراً في أخذ الميثاق وثانيها : التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة ، وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه ، وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبياً ، وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضاً ، بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوّة الكل وثالثها : إنه قال قبل هذه الآية {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَه ا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (آل عمران : 83) وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله ، فههنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء ، ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف ورابعها : أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيّين ، أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل ، وههنا أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلّم بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ، ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل ، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة ، فإن قيل : لم عدَّى {أَنزَلَ} في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء ؟
قلنا : لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر ، وقيل أيضاً إنما قيل {عَلَيْنَآ} في حق الرسول ، لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ، ألا ترى إلى قوله {بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } (البقرة : 4) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُوا } (آل عمران : 72).
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثانية : اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون ؟
وحقيقة الخلاف ، أن شرعه لما صار منسوخاً ، فهل تصير نبوته /منسوخة ؟
فمن قال إنها تصير منسوخة قال : نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلاً ، ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل ، ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة قال : نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع.
المسألة الرابعة : قوله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} فيه وجوه الأول : قال الأصم : التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض ، وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد من هذا الوجه يعني : نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني : قال بعضهم المراد {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث : قال أبو مسلم {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} أي لا نفرق ما أجمعوا عليه ، وهو كقوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } (آل عمران : 103) وذم قوماً وصفهم بالتفرق فقال : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام : 94).
(1/1191)
أما قوله {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} ففيه وجوه الأول : إن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره ، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَه ا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} والثاني : قال أبو مسلم {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال : {إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه } (المائدة : 33) الثالث : أن قوله {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} يفيد الحصر والتقدير : له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال ، وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} (آل عمران : 84) أتبعه بأن بيّن في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام ، وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله ، لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل ، ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه ، ولذلك قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة : 27) ثم بيّن تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولاً عند الله ، فكذلك يكون من الخاسرين ، والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب ، وحصول العقاب ، /ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} إلا أن ظاهر قوله تعالى : {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات : 14) يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي ، والآية الثانية على الوضع اللغوي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ} (آل عمران : 85) أكد ذلك التعظيم بأن بيّن وعيد من ترك الإسلام ، فقال : {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في سبب النزول أقوال الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله {إِلا الَّذِينَ تَابُوا } الثاني : نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال : نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا /بالنبي صلى الله عليه وسلّم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوّة ، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغياً وحسداً والثالث : نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة ؟
فأرسل إليه أخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول صلى الله عليه وسلّم وقبل الرسول صلى الله عليه وسلّم توبته ، قال القفال رحمه الله : للناس في هذه الآية قولان : منهم من قال إن قوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا} وما بعده من قوله {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ} إلى قوله {وَ أولئك هُمُ الضَّآلُّونَ} نزل جميع ذلك في قصة واحدة ، ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} ثم على التقديرين ففيها أيضاً قولان أحدهما : أنها في أهل الكتاب والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
(1/1192)
المسألة الثانية : اختلف العقلاء في تفسير قوله {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ} أما المعتزلة فقالوا : إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ، ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذوراً ، ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار ، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول : المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (العنكبوت : 69) وقال تعالى : {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} (مريم : 76) وقال تعالى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) وقال : {يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلَـامِ} (المائدة : 16)
فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدىً الثاني : أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} (النساء : 168 ، 169) وقال : {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِم تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ} (يونس : 9) والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضاً من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمناً مهتدياً ، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضالاً ، ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم ، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال : {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ} فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية ، وأما أهل السنة فقالوا : المراد من الهداية خلق المعرفة ، قالوا : وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد ، فكأنه تعالى قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : قوله {وَأَشْهِدُوا } فيه قولان :
/الأول : أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق ، لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني : أن الواو للحال بإضمار (قد) والتقدير : كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق.
المسألة الرابعة : تقدير الآية : كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ، وبعد الشهادة بأن الرسول حق ، وقد جاءتهم البينات ، فعطف الشهادة بأن الرسول حق ، على الإيمان ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه : إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والشهادة هو الإقرار باللسان ، وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب.
المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها : بعد الإيمان وثانيها : بعد شهادة كون الرسول حقاً وثالثها : بعد مجيء البينات ، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة ، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود ، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} ففيه سؤالان :
السؤال الأول : قال في أول الآية {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا} وقال في آخرها {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} وهذا تكرار.
والجواب : أن قوله {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ} مختص بالمرتدين ، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} .
السؤال الثاني : لم سمي الكافر ظالماً ؟
.
الجواب : قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالماً لنفسه.
ثم قال تعالى : {أُوالَـا ئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَـا ئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَـالِدِينَ فِيهَا} والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته ، ثم بيّن أن الأمر غير مقصور عليه ، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة/ على سبيل التأبيد والخلود.
(1/1193)
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
واعلم أن لعنة الله ، مخالفة للعنة الملائكة ، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول ، وكذلك من الناس ، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم /فصح أن يكون جزاء لذلك وههنا سؤالان :
السؤال الأول : لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه ؟
.
قلنا : فيه وجوه الأول : قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه الثاني : أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضاً قال تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } (الأعراف : 38) وقال : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} (العنكبوت : 25) وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار والثالث : كأن الناس هم المؤمنون ، والكفار ليسوا من الناس ، ثم لما ذكر لعن الثلاث قال : {أَجْمَعِينَ} الرابع : وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر ، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافراً ، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك.
السؤال الثاني : قوله {خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي خالدين في اللعنة ، فما خلود اللعنة ؟
.
قلنا : فيه وجهان الأول : أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم ، من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء الثاني : أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن ، لأن اللعن يوجب العقاب ، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ، ونظيره قوله تعالى : {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّه يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وِزْرًا * خَـالِدِينَ فِيه } (طه : 100 ، 101) الثالث : قال ابن عباس قوله {خَـالِدِينَ فِيهَآ} أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور ، واعلم أن قوله {خَـالِدِينَ فِيهَآ} نصب على الحال مما قبله ، وهو قوله تعالى : {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ} .
ثم قال : {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} معنى الانظار التأخير قال تعالى : {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (البقرة : 280) فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين : إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة ، نعوذ منه بالله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
ثم قال : {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} والمعنى إلا الذين تابوا منه ، ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال : {وَأَصْلَحُوا } أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات ، وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها.
ثم قال : {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفيه وجهان الأول : غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر ، رحيم في الآخرة بالعفو الثاني : غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب ، ونظيره قوله تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38) ودخلت الفاء في قوله {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأنه الجزاء ، وتقدير الكلام : إن تابوا فإن الله يغفر لهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
/المسألة الأولى : اختلفوا فيما به يزداد الكفر ، والضابط أن المرتد يكون فاعلاً للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة ، وقد يكون فاعلاً للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفراً آخر ، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوهاً الأول : أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ، ثم كفروا به عند المبعث ، ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه في كل وقت ، ونقضهم ميثاقه ، وفتنتهم للمؤمنين ، وإنكارهم لكل معجزة تظهر الثاني : أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام ، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً ، بسبب إنكارهم محمداً عليه الصلاة والسلام والقرآن والثالث : أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة ، وازديادهم الكفر أنهم قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد صلى الله عليه وسلّم ريب المنون الرابع : المراد فرقة ارتدوا ، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق ، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفراً.
المسألة الثانية : أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين ، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض ، وأيضاً ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة ، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى : {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} على وجوه ؛
(1/1194)
الأول : قال الحسن وقتادة وعطاء : السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول : {أُوالَـا ئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَـا ئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَـالِدِينَ فِيهَا} (النساء : 18) الثاني : أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص الثالث : قال القاضي والقفال وابن الأنباري : أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان ، وبيّن أنه أهل اللعنة ، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير نير مقبولة وتصير كأنها لم تكن ، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير : إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم ، الرابع : قال صاحب "الكشاف" : قوله {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} جعل كناية عن الموت على الكفر ، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين /الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس : لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل ، وأقول : جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
أما قوله {وَ أولئك هُمُ الضَّآلُّونَ} ففيه سؤالان الأول : {وَ أولئك هُمُ الضَّآلُّونَ} ينفي كون غيرهم ضالاً ، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً في الأصل والجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.
السؤال الثاني : وصفهم أولاً بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالاً منه لا بما هو أضعف حالاً منه والجواب : قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال ، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام أحدها : الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنا بَعْدِ ذَالِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران : 89) وثانيهما : الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال : إنه لن تقبل توبته وثالثهما : الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية ، ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع.
النوع الأول : قوله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الارْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِه } قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب {ذَهَبًا} على التفسير ، ومعنى التفسير : أن يكون الكلام تاماً إلا أن يكون مبهماً كقوله : عندي عشرون ، فالعدد معلوم ، والمعدود مبهم ، فإذا قلت : درهماً فسرت /العدد ، وكذلك إذا قلت : هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه ، ولم تبين في ماذا ، فإذا قلت وجهاً أو فعلاً فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب "الكشاف" وقرأ الأعمش {ذَهَبَ} بالرفع رداً على ملء كما يقال : عندي عشرون نفساً رجال.
وههنا ثلاثة أسئلة :
السؤال الأول : لم قيل في الآية المتقدمة {لَّن تُقْبَلَ} بغير فاء وفي هذه الآية {فَلَن يُقْبَلَ} بالفاء ؟
.
الجواب : أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء ، تقول : الذي جاءني له درهم ، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء ، وإذا قلت : الذي جاءني فله درهم ، فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر.
السؤال الثاني : ما فائدة الواو في قوله {وَلَوِ افْتَدَى بِه } ؟
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
(1/1195)
الجواب : ذكروا فيه وجوهاً الأول : قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك مع كفره ، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم قبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري قال : وهذا أوكد في التغليظ ، لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه الثاني : دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله {كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الارْضِ ذَهَبًا} يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث : وهو وجه خطر ببالي ، وهو أن من غضب على بعض عبيده ، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية ، فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضاً كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية ، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهباً ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيهاً على أنه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق ، فبأن لا يكون مقبولاً منه بسائر الطرق أولى.
السؤال الثالث : أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة ، فما فائدة قوله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الارْضِ ذَهَبًا} .
الجواب : فيه وجهان أحدهما : أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لن يقبل الله تعالى ذلك منهم/ لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة والثاني : أن الكلام وقع على سبيل الفرض ، والتقدير : فالذهب كناية عن أعز الأشياء ، والتقدير : لو أن /الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله ، وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب.
النوع الثاني : من الوعيد المذكور في هذه الآية قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب ، أردفه بصفة ذلك العذاب ، فقال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم.
النوع الثالث : من الوعيد قوله {وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية ، بيّن أيضاً أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة ، ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر ، والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
0
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة ، فقال : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وبيّن في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ، ثم قال في آية أخرى {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} (المطففين : 22) وقال أيضاً : {إِنَّ الابْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (الإنسان : 5) وقال أيضاً : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الارَآاـاِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَـامُه مِسْكٌا وَفِى ذَالِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ} (المطففين : 22 ، 26) وقال : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (البقرة : 177) فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر ، وفيه لطيفة أخرى.
(1/1196)
وهي أنه تعالى قال : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ والملائكة } إلى آخر الآية ، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير ، وسماه البر ثم قال في هذه الآية {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات ، وههنا بحث وهو : أن لقائل أن يقول كلمة {حَتَّى } لانتهاء الغاية فقوله {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار ، فهذا يقتضي أن من /أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات ، وهو باطل ، وجواب هذا الإشكال : أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول ، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر ، وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميع الخصال المحمودة في الدنيا ، ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
المسألة الأولى : كان السلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله ، روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة : يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إليّ أفأتصدق به ؟
فقال عليه السلام : "بخ بخ ذاك مال رابح ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها في أقاربه ، ويروى أنه جعلها بين حسّان بن ثابت وأُبي بن كعب رضي الله عنهما ، وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسامة ، فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام : "إن الله قد قبلها" واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له : لم أعتقتها ولم تصب منها ؟
فقال : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } .
المسألة الثانية : للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما : ما به يصيرون أبراراً حتى يدخلوا في قوله {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني : الثواب والجنة فكأنه قال : لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه.
أما القائلون بالقول الأول ، فمنهم من قال : {الْبَرِّ} هو التقوى واحتج بقوله {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله { أولئك الَّذِينَ صَدَقُوا ا وَ أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة : 177) وقال أبو ذر : إن البر هو الخير ، وهو قريب مما تقدم.
وأما الذين قالوا : البر هو الجنة فمنهم من قال : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ} أي لن تنالوا ثواب البر ، ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم ، وهو من قول الناس : برني فلان بكذا ، وبر فلان لا ينقطع عني ، وقال تعالى : {لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ} إلى قول : {أَن تَبَرُّوهُمْ} (الممتحنة : 8).
المسألة الثالثة : اختلف المفسرون في قوله {مِمَّا تُحِبُّونَ } منهم من قال : إنه نفس المال ، قال تعالى : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات : 8) ومنهم من قال : أن تكون الهبة رفيعة جيدة ، قال تعالى : {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} (البقرة : 267) ومنهم من قال : ما يكون محتاجاً إليه قال تعالى : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينًا} (الإنسان : 8) أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه ، وقال : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر : 9) وقال عليه السلام : "أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر" والأولى أن يقال : كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
(1/1197)
المسألة الرابعة : اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق ، هل هو الزكاة أو غيرها ؟
قال ابن عباس : أراد به الزكاة ، يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم ، وقال الحسن : كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } حتى التمرة ، والقاضي اختار القول الأول ، واحتج عليه بأن هذا الانفاق ، وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار ، والفوز بالجنة ، بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق ، لم يصر العبد بهذه المنزلة ، وما ذاك إلا الانفاق الواجب ، وأقول : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب ، والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب ، فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب.
المسألة الخامسة : نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي : أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ، وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى.
المسألة السادسة : قال بعضهم كلمة {مِنْ} في قوله {مِمَّا تُحِبُّونَ } للتبعيض ، وقرأ عبد الله {حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الفرقان : 67) وقال آخرون : إنها للتبيين.
ففيه سؤال :
وهو أن يقال : قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال.
والجواب : من وجهين الأول : أن فيه معنى الجزاء تقديره : وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر ، لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه ، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني : أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود ، أم الأخس الأرذل.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه } وقوله {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُه } (البقرة : 270) قال صاحب "الكشاف" {مِنْ} في قوله {مِن شَىْءٍ} لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره.
جزء : 8 رقم الصفحة : 255
290
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب.
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان يدعي أن كل الطعام كان حلاً ثم صار البعض حراماً بعد أن كان حلاً والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراماً أبداً.
وإذا عرفت هذا فنقول : الآية تحتمل وجوهاً الأول : أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلّم على إنكار النسخ ، فأبطل الله عليهم ذلك بأن {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِّبَنِى إسرائيل إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَا ءِيلُ عَلَى نَفْسِه } فذاك الذي حرمه على نفسه ، كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ ، فبطل قولكم : النسخ غير جائز ، ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم أحدها : أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ ، وهو لازم لا محيص عنه وثانيها : أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة ، ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى /وثالثها : أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان رجلاً أُمياً لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
(1/1198)
الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلّم عن هذه الشبهة بأن قال : ذلك كان حلاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك ، فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام.
الوجه الثالث : أنه تعالى لما أنزل قوله {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍا وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ} (الأنعام : 146) وقال أيضاً : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء : 160) فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراماً غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه ، فشق ذلك على اليهود من وجهين أحدهما : أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة ، وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة ، بل زعموا أنها كانت محرمة أبداً ، فطالبهم النبي صلى الله عليه وسلّم بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا ، فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم ، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ.
أما قوله {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِّبَنِى إسرائيل } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" {كُلُّ الطَّعَامِ} أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول : اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا ؟
.
ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى أدخل لفظ {كُلٌّ} على لفظ الطعام في هذه الآية ، ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك وثانيها : أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام /ما لولاه لدخل ، فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } (العصر : 2 ، 3) وثالثها : أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع ، فقال : {وَالنَّخْلَ بَاسِقَـاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ } (ق : 10 ، 11) فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب "الكشاف" ، أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم ، وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب "الكشاف".
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
المسألة الثانية : الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل ، وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه إنه اسم للبر خاصة ، وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه ، لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه ، والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئاً سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّى } (البقرة : 249) وقال تعالى : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } (المائدة : 5) وأراد الذبائح ، وقالت عائشة رضي الله عنها : ما لنا طعام إلا الأسودان ، والمراد التمر والماء.
إذا عرفت هذا فنقول : ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلاً لبني إسرائيل ثم قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول صلى الله عليه وسلّم أنها كان محرمة على إبراهيم ، وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق ، بل للعهد السابق ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى : {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه ا إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ} (الأنعام : 145) فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية.
(1/1199)
المسألة الثالثة : الحل مصدر يقال : حل الشيء حلاً كقولك : ذلت الدابة ذلاً وعز الرجل عزاً ، ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى : {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} (الممتحنة : 10) والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في زمزم هي حل وبل رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان : ما حل ؟
فقال محلل.
أما قوله تعالى : {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَا ءِيلُ عَلَى نَفْسِه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه الأول : روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها" وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل والثاني : قيل إنه كان به عرق النسا ، فنذر إن شفاه /الله أن لا يأكل شيئاً من العروق الثالث : جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر ، ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة ، أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث برداً إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير ، فانصرف الرسول إليه ، وقال : إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل ، فذعر يعقوب وحزن جداً وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل ، فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا ، فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه ، وفيه سؤال : وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سبباً لحصوله الحرمة.
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول : أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئاً على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعتق ، فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئاً على نفسك فأنا أيضاً أحرمه عليك الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم ، فقال بحرمته وإنما قلنا : إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه الأول : قوله تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار والثاني : قال : {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنابِطُونَهُ مِنْهُمْ } (النساء : 83) مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح والثالث : قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة : 43) فلو كان ذلك الإذن بالنص ، لم يقل : لم أذنت ، فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع : أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة ، فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر ، ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال : الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا.
الثالث : يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا/ فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم.
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصاً بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى : {عِلْمَا * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } (التحريم : 1) الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله تعالى ، كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس : قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب ، وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
المسألة الثالثة : ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل ، وذلك لأنه تعالى قال : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِّبَنِى إسرائيل } فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني إسرائيل ، ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه ، فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل والله أعلم.
(1/1200)
أما قوله تعالى : {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاـاةُ } فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلاً لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه ، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعاً كثيرة ، روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام ، أو سلّط عليهم شيئاً لهلاك أو مضرة ، دليله قوله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء : 160).
ثم قال تعالى : {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاـاةِ فَاتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجوداً من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك ، وإما لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم ، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه ، فنازعوه في ذلك ، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول ، وعلى كلا الوجهين ، فالتفسير ظاهر ، ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية ، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا : لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه ، لأنا نثبته بالقياس ، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي ، وإنما وقع في أن هذا الحكم ، هل كان موجوداً في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ؟
ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص ، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، بنص التوراة.
ثم قال تعالى : {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} الافتراء اختلاق الكذب ، والفرية الكذب والقذف ، وأصله من فرى الأديم ، وهو قطعه ، فقيل للكذب افتراء ، لأن الكاذب يقطع به في /القول من غير تحقيق في الوجود.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
ثم قال : {مِنا بَعْدِ ذَالِكَ} أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ، ولم يكن محرماً قبله {فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين.
ثم قال تعالى : {قُلْ صَدَقَ اللَّه } ويحتمل وجوهاً أحدها : {قُلْ صَدَقَ} في أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالاً لهم/ فصح القول بالنسخ ، وبطلت شبهة اليهود وثانيها : {صَدَقَ اللَّهُ} في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه ، فثبت أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها ، فقد أفتى بملة إبراهيم وثالثها : {صَدَقَ اللَّهُ} في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم.
ثم قال تعالى : {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم ، وسواء قال : ملة إبراهيم حنيفاً ، أو قال : ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى.
ثم قال : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لم يدع مع الله إلهاً آخر ، ولا عبد سواه ، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر ، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله ، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله ، والغرض منه بيان أن محمداً صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام ، في الفروع والأصول.
أما في الفروع ، فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضاً ، وأما في الأصول فلأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد ، والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
0
(1/1201)
قوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَـالَمِينَ * فِيهِ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَا وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا } في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول : أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته ، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق /بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلاً ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف ، فكان جعلها قبلة أولى والثاني : أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا ؟
فإن النبي صلى الله عليه وسلّم استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل ، ثم إن الله تعالى حرم بعضها ، والقوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة ، لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة ، وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث : أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران : 95) وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج ، ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ، ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع : أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم ، وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة ، فإن الله تعالى بيّن كذبهم ، من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون ، فيدل هذا على كذبهم في ذلك ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال المحققون الأول : هو الفرد السابق ، فإذا قال : أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق ، لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس ، وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس ، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس ، وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق ، فدل قوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات ، وموضعاً للحج ، ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه.
فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان ، وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه/ ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب : من وجهين الأول : أن لفظ الأول : في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء ، سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصبته /ولو قال : أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر ، فكذا هنا ، والثاني : أن المراد من قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا" فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس ، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج ، فهذا غير لازم والله أعلم.
(1/1202)
المسألة الثانية : اعلم أن قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركاً وهدىً فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول : أنه أول في البناء والوضع ، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها : ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في "البسيط" بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرضين ، وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، وهذا كان قبل خلق آدم".
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ، ومجاهد والسدي : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته ، قال القفال في "تفسيره" : روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال : وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام "أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين ، وحققتها بسبعة أملاك حنفاء" وثانيها : أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة ، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها ، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام ، فلما أرسل الله تعالى الطوفان ، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة ، يتعبد عنده الملائكة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة ، وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت ، وأمره بعمارته ، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام.
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام ، وهذا /هو الأصوب ويدل عليه وجوه الأول : أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام ، بدليل قوله تعالى في سورة مريم { أولئك الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّـانَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إسرائيل وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُ الرَّحْمَـن ِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } (مريم : 58) فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة/ فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ} فوجب أن يقال : إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة ، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة الثاني : أن الله تعالى سمى مكة أم القرى ، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة "ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر" وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع : أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت مودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
(1/1203)
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه الأول : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة" وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام الثاني : تمسكوا بقوله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـاعِيلُ} (البقرة : 127) ولقائل أن يقول : لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم ، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار الثالث : قال القاضي : إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد ، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ، ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول : لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء ، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة ، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها ، فهذا جملة ما في هذا القول :
القول الثاني : أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولاً في كونه مباركاً وهدىً للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس ، فقال عليه الصلاة والسلام : "المسجد الحرام ثم بيت المقدس" فقيل كم بينهما ؟
قال : "أربعون سنة" وعن علي رضي الله عنه /أن رجلاً قال له : أهو أول بيت ؟
قال : لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبناه العمالقة ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش.
واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه ، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة ، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود ، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء ، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
المسألة الثالثة : إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت :
الفضيلة الأولى : اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام ، وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام ، ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس.
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت ، فقال : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِى شَيْـاًا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآاـاِفِينَ وَالْقَآاـاِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج : 26) والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام ، فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة ، فالأمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل ، والباني هو الخليل ، والتلميذ إسماعيل عليهم السلام.
الفضيلة الثانية : {مَّقَامِ إِبْرَاه مَ} وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء ، ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى ، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر.
الفضيلة الثالثة : قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار ، فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء.
الفضيلة الرابعة : إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها.
(1/1204)
الفضيلة الخامسة : أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء ، ولا /يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال : {رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا ءَامِنًا} (البقرة : 126) وقال تعالى في صفة أمنه {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } (العنكبوت : 67) وقال : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْف } (قريش : 3 ، 4) ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية ؛ وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
الفضيلة السادسة : أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صغاراً تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر ، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام.
فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور.
قلنا : لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة ، ومثل هذا يكون من المعجزات ، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء.
الفضيلة السابعة : إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع ، والحكمة من وجوه أحدها : إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع ، وفالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا وثالثها : أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط ورابعها : أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن وخامسها : كأنه قال : لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا ، فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة ، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب ، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود : إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم.
ثم قال تعالى : {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شك أن المراد من هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال : بكة ومكة /اسمان لمسمى واحد ، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال : هذه ضربة لازم ، وضربة لازب ، ويقال : هذا دائم ودائب ، ويقال : راتب وراتم ، ويقال : سمد رأسه ، وسبده ، وفي اشتقاق بكة وجهان الأول : أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً ، يقال : بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه ، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير : سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف ، وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
الوجه الثاني : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب : تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته.
(1/1205)
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه الأول : أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها ، من قولك : أمتك الفصيل ضرع أمه ، إذا امتص ما فيه الثاني : سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض ، يقال أمتك الفصيل ، إذا استقصى ما في الضرع ، ويقال تمككت العظم ، إذا استقصيت ما فيه الثالث : سميت مكة ، لقلة مائها ، كأن أرضها امتكت ماءها الرابع : قيل : إن مكة وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، ومن الناس من فرق بين مكة وبكة ، فقال بعضهم : إن بكة اسم للمسجد خاصة ، وأما مكة ، فهو اسم لكل البلد ، قالوا : والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف ، لا في سائر المواضع ، وقال الأكثرون : مكة اسم للمسجد والمطاف. وبكة اسم البلد ، والدليل عليه أن قوله تعالى : {لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ} يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت ، أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد ، استقام هذا الكلام.
المسألة الثانية : لمكة أسماء كثيرة ، قال القفال رحمه الله في "تفسيره" : مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها ، وأم القرى قال تعالى : {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام : 92) وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض.
المسألة الثالثة : للكعبة أسماء أحدها : الكعبة قال تعالى : {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (المائدة : 97) والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً/ لارتفاع ثديها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت /الأرض وأقدمها زماناً ، وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها : البيت العتيق : قال تعالى : {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج : 33) وقال : {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج : 29) وفي اشتقاقه وجوه الأول : العتيق هو القديم ، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء والثاني : أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث : من عتق الطائر إذا قوي في وكره ، فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تربية أهلكه الله سمي عتيقاً الرابع : أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين الخامس : أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار وسادسها : المسجد الحرام قال سبحانه : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا} (الإسراء : 1) والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
فإن قال قائل : كيف الجمع بين قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وبين قوله {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآاـاِفِينَ} (الحج : 26) فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس.
والجواب : كأنه قيل : البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم.
ثم قال تعالى : {مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَـالَمِينَ} .
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها : أنه أول بيت وضع للناس ، وقد ذكرنا معنى كونه أولاً في الفضل ونزيد ههنا وجوهاً أُخر الأول : قال علي رضي الله عنه ، هو أول بيت خص بالبركة ، وبأن من دخله كان آمناً ، وقال الحسن : هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف. أول بيت جعل قبلة وثانيها : أنه تعالى وصفه بكونه مباركاً ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : انتصب {مُبَارَكًا} على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركاً.
(1/1206)
المسألة الثانية : البركة لها معنيان أحدهما : النمو والتزايد والثاني : البقاء والدوام ، يقال تبارك الله ، لثبوته لم يزل ، والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر ، فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها : أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها. قال صلى الله عليه وسلّم : "فضل المسجد الحرام على مسجدي ، كفضل مسجدي على سائر المساجد" ثم قال صلى الله عليه وسلّم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه" فهذا في الصلاة ، وأما الحج ، فقال عليه الصلاة والسلام : "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وفي حديث آخر "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وثانيها : قال القفال رحمه الله تعالى : ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى : {يُجْبَى ا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ} فيكون كقوله {إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا الَّذِى بَـارَكْنَا حَوْلَه } (الإسراء : 1) /وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه/ فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود ، وأيضاً الأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لثان وعصر لثالث ، ومغرب لرابع وعشاء لخامس ، ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة ، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين.
الصفة الثالثة : من صفات هذا البيت كونه {وَهُدًى لِّلْعَـالَمِينَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قيل : المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم ، وقيل : هدىً للعالمين أي دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلّم في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولاً على وجود الصانع ، وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء ، وقيل : هدىً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة.
المسألة الثانية : قال الزجاج : المعنى وذا هدىً للعالمين ، قال : ويجوز أن يكون {وَهَدَى } في موضع رفع على معنى وهو هدى.
أما قوله تعالى : {فِيهِ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ} ففيه قولان الأول : أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي : أمن الخائف ، وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي ، وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة ، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور.
وقوله {مَّقَامِ إِبْرَاه مَ} لا تعلق له بقوله {فِيهِ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ} فكأنه تعالى قال : {فِيهِ ءَايَـاتُا بَيِّنَـاتٌ} ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه ، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم.
/القول الثاني : أن تفسير الآيات مذكور ، وهو قوله {مَّقَامِ إِبْرَاه مَ} أي : هي مقام إبراهيم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
(1/1207)
فإن قيل : الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد ، أجابوا عنه من وجوه الأول : أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة ، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فهو دليل على وجود الصانع ، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} (النحل : 120) الثاني : أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث : قال الزجاج إن قوله {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا } من بقية تفسير الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين ، قال تعالى : {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم : 4) وقال عليه السلام : "الاثنان فما فوقهما جماعة" ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم/ وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حجه ، ثم حذف (أن) اختصاراً ، كما في قوله {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } (الأعراف : 29) أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع : يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما الخامس : قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة {بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ} على التوحيد السادس : قال المبرّد {مَّقَامِ} مصدر فلم يجمع كما قال : {وَعَلَى سَمْعِهِمْ } والمراد مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال : {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـا اـاِرَ اللَّهِ} (الحج : 32).
ثم قال تعالى : {مَّقَامِ إِبْرَاه مَ} وفيه أقوال أحدها : أنه لما ارتفع بنيان الكعبة ، وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني : أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة ، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع ، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل : إنزل حتى نغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانب الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه والثالث : أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج ، قال القفال رحمه الله : ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
ثم قال تعالى : {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا } ولهذه الآية نظائر : منها قوله تعالى : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} (البقرة : 125) وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا} (العنكبوت : 67) وقال إبراهيم {رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا ءَامِنًا} (إبراهيم : 35) وقال تعالى : {الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ} (قريش : 4) قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} موجودة في الحرم ثم قال : {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا } وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم ؟
قال الشافعي : يستوفي ، وقال أبو حنيفة : لا يستوفي ، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفي منه القصاص ، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية ، فقال : ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمناً ، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر ، فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس ، لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل ، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم ، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
(1/1208)
والجواب : أن قوله {كَانَ ءَامِنًا } إثبات لمسمى الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به وبيانه من وجوه الأول : أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة ، قال النبي عليه السلام : "من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً" وقال أيضاً : "من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام" وقال : "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" والثاني : يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً وهذا أولى مما قالوه لوجهين الأول : أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر والثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
الوجه الثالث : في تأويل الآية : أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلّم كان آمناً لأنه تعالى قال : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ} (الفتح : 27) الرابع : قال الضحاك : من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد ، وهو أن قوله {كَانَ ءَامِنًا } حكم /بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه ، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم.
قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } .
اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {حَجَّ الْبَيْتَ} بكسر الحاء والباقون بفتحها ، قيل الفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى ، وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة ، مثل رطل ورطل ، وبزر وبزر ، وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر ، وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً ، كالذكر والعلم.
المسألة الثانية : في قوله {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } وجوه الأول : قال الزجاج : موضع {مِنْ} خفض على البدل من {النَّاسِ} والمعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت الثاني : قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلاً فلله عليه حج البيت الثالث : قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون {مِنْ} في موضع رفع على معنى الترجمة للناس ، كأنه قيل : من الناس الذين عليهم لله حج البيت ؟
فقيل هم من استطاع إليه سبيلاً.
المسألة الثالثة : اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة ، روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة ، وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟
فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟
قال : لا بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت ، عن عكرمة أيضاً أنه قال : الاستطاعة هي صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل ، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار/ وطعن فيها /من وجه آخر ، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة ، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق ، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً ، فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185).
(1/1209)
المسألة الرابعة : احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم ، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل ، فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط ، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الخامسة : احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل ، فقالوا : لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج ، ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق.
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضاً لازم لهم ، وذلك لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال ، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق ، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدة ، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
المسألة السادسة : روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام ، ذكروا ذلك ثلاثاً ، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ثم قال في الرابعة : "لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم" ، ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول : أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني : أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا ؟
ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة.
/المسألة السابعة : استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول ، قال تعالى : {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} (غافر : 11) وقال : {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} (الشورى : 44) وقال : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } (التوبة : 91) فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو ، وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع الودائع ، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان :
القول الأول : أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله.
القول الثاني : أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج ، أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله {وَمَن كَفَرَ} فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً" وعن أبي أمامة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً" وعن سعيد بن جبير : لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه ، فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج ؟
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
(1/1210)
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه : يجوز أن يكون المراد منه التغليظ ، أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج ، ونظيره قوله تعالى : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب : 10) أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام : "من ترك صلاة متعمداً فقد كفر" وقوله عليه الصلاة والسلام : "من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر" وأما الأكثرون : فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج ، قال الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع الرسول صلى الله عليه وسلّم أهل الأديان الستة المسلمين ، والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال : "إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا" فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن /به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى قوله {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} وهذا القول هو الأقوى.
المسألة الثانية : اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان ، منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة ، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة ، والصوم أصله معقول ، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة ، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة ، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول ، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه ، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية ، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها : قوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} والمعنى أنه سبحانه لكونه إلهاً ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا وثانيها : أنه ذكر {النَّاسِ} ثم أبدل منه {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } وفيه ضربان من التأكيد ، أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير ، وذلك يدل على شدة العناية ، وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام وثالثها : أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما : لام الملك في قوله {وَلِلَّهِ} وثانيتهما : كلمة {عَلَى } وهي للوجوب في قوله {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} ورابعها : أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه ، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام وخامسها : أنه قال {وَمَن كَفَرَ} مكان ، ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج وسادسها : ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان وسابعها : قوله {عَنِ الْعَـالَمِينَ} ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته ، فكان ذلك أدل على السخط وثامنها : أن في أول الآية قال : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلهية وكبرياء الربوبية ، لا لجر نفع ولا لدفع ضر ، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ} ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج ، قوله عليه الصلاة والسلام : "حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث" وروي "حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه" قيل : معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره ، وعن ابن مسعود "حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت".
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
0
/ اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول : وهو الأوفق : أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ، ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم.
فالشبهة الأولى : ما يتعلق بإنكار النسخ.
وأجاب عنها بقوله {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِّبَنِى إسرائيل إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَا ءِيلُ عَلَى نَفْسِه } (آل عمران : 93).
والشبهة الثانية : ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها.
وأجاب عنها بقوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 96) إلى آخرها ، فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال ، فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال : {لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ} بعد ظهور البينات وزوال الشبهات ، وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه.
(1/1211)
الوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج ، والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم : {لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَاتِ اللَّهِ} بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة.
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالاً فقط ، وإما أن يكون مع كونه ضالاً يكون مضلاً ، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله {يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَاتِ اللَّهِ} واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب ، فقال الحسن : هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته ، واستدل عليه بقوله {وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ } وقال بعضهم : بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
فإن قيل : ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار ؟
.
قلنا لوجهين : الأول : أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم أجاب عن شبههم في ذلك ، ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} فهذا الترتيب الصحيح الثاني : أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة في قوله تعالى : {لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَاتِ اللَّهِ} دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم.
والجواب عنه : المعارضة بالعلم والداعي.
المسألة الثالثة : المراد {مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ} الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال : {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} الواو للحال والمعنى : لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته.
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ} قال الفرّاء : يقال صددته أصده صداً وأصددته إصداداً ، وقرأ الحسن {تَصُدُّونَ} بضم التاء من أصده ، قال المفسرون : وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلى الله عليه وسلّم في كتابهم.
ثم قال : {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى ، وهو الدين والقول ، فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه : عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة ، قال ابن الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك : بغيت المال والأجر والثواب وأُريد ههنا : تبغون لها عوجاً ، ثم أسقطت اللام كما قالوا : وهبتك درهماً أي وهبت لك درهماً ، ومثله صدت لك ظبياً وأنشد :
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
فتولى غلامهم ثم نادى
أظليما أصيدكم أم حماراً
أراد أصيد لكم والهاء في {تَبْغُونَهَا} عائدة إلى {السَّبِيلِ} لأن السبيل يؤنث ويذكر ويعني به الزيغ والتحريف ، أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم : النسخ يدل على البداء وقولهم : إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد ، وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون {لَّه عِوَجَا } في موضع الحال والمعنى : تبغونها ضالين /وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى : إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها.
ثم قال : {وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ } وفيه وجوه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام الثاني : وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته صلى الله عليه وسلّم الثالث : وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله الرابع : وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى : أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال.
(1/1212)
ثم قال : {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} والمراد التهديد ، وهو كقول الرجل لعبده ، وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلاً عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} وهذه الآية بقوله {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين ، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} وفيما أضمروه {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وإنما كرر في الآيتين قوله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَـابِ} لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه ، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق.
جزء : 8 رقم الصفحة : 290
308
واعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم ، روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد ، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون ، وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام ، فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح ، فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار ، وقال : أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم ، وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ، ومن كيد ذلك اليهودي ، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله {إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة ، ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال ، فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالاً بعد حال إلى أن يعودوا كفاراً ، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين ، أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء ، وأما في الدين فظاهر.
ثم قال تعالى : {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَـاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه } وكلمة {كَيْفَ} تعجب ، والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب ، وذلك على الله محال ، والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالاً بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة ، كالمانع من وقوعهم في الكفر ، فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه ، فقوله {إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ كَـافِرِينَ} تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم ، بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم ، حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال : {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} والمقصود : إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا الوعد ، والمعنى : ومن يتمسك بدين الله ، ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة ، والعصمة المنع في كلام العرب ، والعاصم المانع ، واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة ، /ومنه قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَاوَدتُّه عَن نَّفْسِه فَاسْتَعْصَمَ } (يوسف : 32) قال قتادة : ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما : تلاوة كتاب الله والثاني : كون الرسول فيهم ، أما الرسول صلى الله عليه وسلّم فقد مضى إلى رحمة الله ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
(1/1213)
وأما قوله {فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، قالوا : لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله ، فلما جعل ذلك الاعتصام فعلاً لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه ، أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول : أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى : {يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلَـامِ} (المائدة : 16) وهذا اختاره القفال رحمه الله والثاني : أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك الثالث : أن من يعتصم بالله فقد هدى إلى طريق الجنة والرابع : قال صاحب "الكشاف" {فَقَدْ هُدِىَ} أي فقد حصل له الهدى لا محالة ، كما تقول : إذا جئت فلانا فقد أفلحت ، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات ، ومعاقد الخيرات ، فأمرهم أولاً : بتقوى الله وهو قوله {اتَّقُوا اللَّهَ} /وثانياً : بالاعتصام بحبل الله ، وهو قوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} وثالثاً : بذكر نعم الله وهو قوله {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللاً ، إما بالرهبة وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع ، فقوله {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى ، ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ، ثم أردفه بالرغبة ، وهي قوله {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فكأنه قال : خوف عقاب الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله ، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه ، ولنرجع إلى التفسير :
أما قوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } ففيه مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الأولى : قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ، والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فأنزل الله تعالى بعد هذه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول : ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له : "هل تدري ما حق الله على العباد ؟
قال الله ورسوله أعلم ، قال : هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني : أن معنى قوله {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه } أي كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن : 16) واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله {حَقَّ تُقَاتِه } ما لا يستطاع من التقوى ، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله {وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه } (الحج : 78).
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } (الأنعام : 91).
قلنا : سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين ؛ أما الذين قالوا : إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات/ وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر ، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا ينسى ، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق ، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ.
(1/1214)
/قال المصنف رضي الله تعالى عنه ، أقول : للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول : أن كنه الإلهية غير معلوم للخلق ، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً للخلق ، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني : أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معاً فنسخ المغلظ وبقي المخفف ، وقيل : إن هذا باطل ، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي ، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجوراً عنه وإنه غير جائز.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : قوله تعالى : {حَقَّ تُقَاتِه } أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى : {حَقُّ الْيَقِينِ} (الواقعة : 95) ويقال : هو الرجل حقاً ، ومنه قوله عليه السلام : "أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب" وعن علي رضي الله عنه أنه قال : أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت ، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت.
أما قوله تعالى : {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} فلفظ النهي واقع على الموت ، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام ، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام ، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ، ومضى الكلام في هذا عند قوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة : 132).
ثم قال تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} .
واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات ، وهو الاعتصام بحبل الله.
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله ، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف ، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه ، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف ، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة ، فذكر كل واحد من المفسرين واحداً من تلك الأشياء ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) وقال : {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران : 112) أي بعهد ، وإنما سمي العهد حبلاً لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء ، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف ، وقيل : إنه القرآن ، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أما إنها ستكون فتنة" قيل : فما المخرج منها ؟
قال : "كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين" وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "هذا القرآن حبل الله" وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم /أنه قال : "إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي" وقيل : إنه دين الله ، وقيل : هو طاعة الله ، وقيل : هو إخلاص التوبة ، وقيل : الجماعة ، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله {وَلا تَفَرَّقُوا } وهذه الأقوال كلها متقاربة ، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزاً من السقوط فيها/ وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزاً لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلاً لله ، وأمروا بالاعتصام به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {وَلا تَفَرَّقُوا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في التأويل وجوه الأول : أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما عداه يكون جهلاً وضلالاً ، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُ } (يونس : 32) والثاني : أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة ، فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها الثالث : أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة.
واعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل : ومن هم يا رسول الله ؟
قال الجماعة" وروي "السواد الأعظم" وروي "ما أنا عليه وأصحابي" والوجه المعقول فيه : أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً ، وإذا كان كذلك كان الناجي واحداً.
(1/1215)
المسألة الثانية : استدلت نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية ، فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن ، لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني ، وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع ، فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهياً عنه ، لكنه منهي عنه لقوله تعالى : {وَلا تَفَرَّقُوا } وقوله {وَلا تَنَـازَعُوا } ولقائل أن يقول : الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله {وَلا تَفَرَّقُوا } ولعموم قوله {وَلا تَنَـازَعُوا } والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أُخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية ، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى : {إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه ، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلّم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان /الأوس والخزرج أخوين لأب وأم ، فوقعت بينهما العداوة ، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم ، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً ، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخواناً متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله : ونظير هذه الآية قوله {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (الأنفال : 63).
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معادياً لأكثر الخلق ، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معادياً لأحد ، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيراً في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحداً ، ولهذا قيل : إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحاً لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر.
المسألة الثانية : قال الزجاج : أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ، ولا يخفي عنه شيئاً وقال أبو حاتم قال أهل البصرة : الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة ، قال وهذا غلط ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات : 10) ولم يعن النسب ، وقال : {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} (النور : 61) وهذا في النسب.
المسألة الثالثة : قوله {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا} يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله ، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل ، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال ، قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف.
قلنا : كل هذا كان حاصلاً في زمان حصول المحاربات والمقاتلات ، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم.
ثم قال تعالى : {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } .
واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية ، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم ، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حفرتها ، فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة ، وقد قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا : جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، /فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : شفا الشيء حرفه مقصور ، مثل شفا البئر والجمع الإشفاء ، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه ، أي حده وحرفه وقوله {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } قال الأزهري : يقال نقذته وأنقذته واستنقذته ، أي خلصته ونجيته.
وفي قوله {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } سؤال وهو : أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة ، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها ؟
.
(1/1216)
وأجابوا عنه من وجوه الأول : الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني : أنها راجعة إلى النار ، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة ، وهذا قول الزجاج الثالث : أن شفا الحفرة ، وشفتها طرفها ، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث.
المسألة الثالثة : أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالعقود على حرفها ، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء ، وبين ذلك الشيء ، ثم قال : {كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ} الكاف في موضع نصب ، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها ، قال الجبائي : الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء ، أجاب الواحدي عنه في "البسيط" فقال : بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية.
وأقول : وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء ، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة (لعلّ) للترجي ، والمعنى أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما : أنه عابهم على الكفر ، فقال : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ} (آل عمران : 70) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر ، فقال : {قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (آل عمران : 99) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولاً بالتقوى والإيمان ، فقال : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران : 102 ، 103) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل ، وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله {مِّنكُمْ} قولان أحدهما : أن {مِنْ} ههنا ليست للتبعيض لدليلين الأول : أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران : 110) والثاني : هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده ، أو بلسانه ، أو بقلبه ، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول : معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما كلمة {مِنْ} فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30) ويقال أيضاً : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك /جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم ، كذا ههنا ، ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين ، ونظيره قوله تعالى : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} (التوبة : 41) وقوله {إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (التوبة : 39) فالأمر عام ، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والقول الثاني : أن {مِنْ} ههنا للتبعيض ، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضاً على قولين أحدهما : أن فائدة كلمة {مِنْ} هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين والثاني : أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان الأول : أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء : الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر/ فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً ، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ، ولا شك أنهم بعض الأمة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ} (التوبة : 122) والثاني : أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين ، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم ، فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل ، والله أعلم.
(1/1217)
وفيه قول رابع : وهو قول الضحاك : إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس ، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى الله عليه وسلّم وتعلم الدين.
المسألة الثانية : هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء ، أولها : الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ، ثم النهي عن المنكر ، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة ، فنقول : أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (النحل : 125) وقوله تعالى : {قُلْ هَـاذِه سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى } (يوسف : 108).
إذا عرفت هذا فنقول : الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما : الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف والثاني : الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولاً ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان ، وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمذكورة في كتب الكلام.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقد سبق تفسيره وفيه مسائل :
المسألة الأولى : منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين ، والفاسق ليس من المفلحين ، فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق ، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه ، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير ، ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} (التوبة : 44) قوله { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف : 2 ، 3) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ؟
ومعلوم أن ذلك في غاية القبح ، والعلماء قالوا : الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر ، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر ، وعن السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا ، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل ، فقال : وأينا يفعل ما يقول ؟
ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر.
المسألة الثانية : عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه" وعن علي رضي الله عنه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال أيضاً : من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس وجعل أعلاه أسفله ، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير ، وعن الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن.
المسألة الثالثة : قال الله سبحانه وتعالى : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى ا أَمْرِ} (الحجرات : 9) قدم الإصلاح على القتال ، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ ، وكذا قوله تعالى : {وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } (النساء : 34) يدل على ما ذكرناه ، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد ، فإن عجز فباللسان ، فإن عجز فبالقلب ، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } .
وفي الآية مسائل :
(1/1218)
المسألة الأولى : في النظم وجهان الأول : أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بيّن في /التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلّم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب ، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال : {وَلا تَكُونُوا } أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } من أهل الكتاب {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ} في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة ، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني : وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين ، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط.
المسألة الثانية : قوله {تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } فيه وجوه الأول : تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد ، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم الثاني : تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض ، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث : صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة ، مثل المشبهة والقدرية والحشوية.
المسألة الثالثة : قال بعضهم {تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا } معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل : بل معناهما مختلف ، ثم اختلفوا فقيل : تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين ، وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث : تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد ، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل ، وأقول : إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الرابعة : إنما قال : {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } ولم يقل {جَآءَتْهُمْ} لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدماً.
ثم قال تعالى : {وَأُوالَـا ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم ، فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق.
ثم قال تعالى : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض ، ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة ، تأكيداً للأمر ، وفي الآية مسائل :
/المسألة الأولى : في نصب {يَوْمٍ} وجهان الأول : أنه نصب على الظرف ، والتقدير : ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم ، وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما : أن ذلك العذاب في هذا اليوم ، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه والثاني : أنه منصوب بإضمار (اذكر).
المسألة الثانية : هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } (الزمر : 60) ومنها قوله {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } (يونس : 26) ومنها قوله {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبسى : 38 ـ 41) ومنها قوله {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذا بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (القيامة : 22 ـ 25) ومنها قوله {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (المطففين : 24) ومنها قوله {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ} (الرحمن : 41).
إذا عرفت هذا فنقول : في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان أحدهما : أن البياض مجاز عن الفرح والسرور ، والسواد عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل ، قال تعالى : {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالانثَى ظَلَّ وَجْهُه مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (النحل : 58) ويقال : لفلان عندي يد بيضاء ، أي جلية سارة ، ولما سلم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم : يا مسود وجوه المؤمنين ، ولبعضهم في الشيب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
يا بياض القرون سودت وجهي
عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي
عن عياني وعن عيان العيون
(1/1219)
بسواد فيه بياض لوجهي
وسواد لوجهك الملعون
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون : الحمد لله الذي بيض وجهك ، ويقال لمن وصل إليه مكروه : إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته ، فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني.
والقول الثاني : إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين ، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة ، فوجب المصير إليه ، قلت : ولأبي مسلم أن يقول : الدليل دل على ما قلناه ، وذلك لأنه تعالى قال : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار/ فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً ، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل ، ثم قال القائلون بهذا القول : الحكمة في ذلك أن أهل /الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما : أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة ، قال تعالى مخبراً عنهم {قَالَ يَـالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (يس : 26 ، 27) الثاني : أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سبباً لمزيد غمهم في الآخرة ، فهذا وجه الحكمة في الآخرة ، وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغباً له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه ، فهذا تقرير هذين القولين.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر ، وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة ، فقالوا : إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون ، ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث ، فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضاً متأكد بقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (عبسى : 38 ـ 42).
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه ، يبين ذلك أنه تعالى إنما قال : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } فذكرهما على سبيل التنكير ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضاً المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين ، فكذا القول في الفساق.
واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول : الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوّة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيباً لمن آمن بالتوحيد والنبوّة ، واسوداد الوجه يكون نصيباً لمن أنكر ذلك ، ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة ، وصاحب السواد من أهل النار ، فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين ، وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه من وجهين الأول : أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم ؟
وإذا كان كذلك كان الكل داخلاً فيه والثاني : وهو أنه تعالى قال في آخر الآية {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان ، وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان ، أو كان كافراً أصلياً والله أعلم.
ثم قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} وفي الآية سؤالات :
/السؤال الأول : أنه تعالى ذكر القسمين أولاً فقال : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } فقدم البياض على السواد في اللفظ ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد ، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض.
(1/1220)
والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها : أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكياً عن رب العزة سبحانه : "خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم" وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض ، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن ، ثم ختم بذكرهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : "سبقت رحمتي غضبي" وثالثها : أن الفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
السؤال الثاني : أين جواب (أما) ؟
.
والجواب : هو محذوف ، والتقدير فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ، وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 23 ، 24)وقال : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } (البقرة : 127) وقال : {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ} (السجدة : 12).
السؤال الثالث : من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ؟
.
والجواب : للمفسرين فيه أقوال أحدها : قال أُبي بن كعب : الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام ، فكل من كفر في الدنيا ، فقد كفر بعد الإيمان ، ورواه الواحدي في "البسيط" بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلّم وثانيها : أن المراد : أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة ، والدليل على صحة هذا التأويل ، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية {يَشْعُرُونَ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} (آل عمران : 70) فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات ، وقال للمؤمنين {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } (آل عمران : 105).
ثم قال ههنا {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} فكان ذلك محمولاً على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها ، وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار ، وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه الأول : قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا مؤمنين به ، فلما بعث صلى الله عليه وسلّم كفروا به الثاني : قال قتادة : المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد الثالث : قال الحسن : /الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق الرابع : قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة الخامس : قيل هم الخوارج ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم : "إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية ، ولأنه تخصيص لغير دليل ، ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
السؤال الرابع : ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله {أَكْفَرْتُم} ؟
.
الجواب : هذا استفهام بمعنى الإنكار ، وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (آل عمران : 98/ 99).
ثم قال تعالى : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} .
وفيه فوائد الأولى : أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه ، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً الثانية : قال القاضي قوله {أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ} يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الثالثة : قالت المرجئة : الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللاً بالكفر ، وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر.
ثم قال تعالى : {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} وفيه سؤالات :
السؤال الأول : ما المراد برحمة الله ؟
.
(1/1221)
الجواب : قال ابن عباس : المراد الجنة ، وقال المحققون من أصحابنا : هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ، وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل ؟
فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى ، فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً ، فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا.
السؤال الثاني : كيف موقع قوله {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} بعد قوله {فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ} .
الجواب : كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟
فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
السؤال الثالث : الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة ، ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة ؟
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والجواب : كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب ، وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة ، ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه ، بل قال : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} مع أنه ذكر /الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال : {فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ} ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال : {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال : {فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ} ثم قال في آخر الآية {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَـالَمِينَ} وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب ، يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك.
ثم قال تعالى : {تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } فقوله {تِلْكَ} فيه وجهان الأول : المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله ، وإنما جاز إقامة {تِلْكَ} مقام {هَـاذِه } لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر ، فصار كأنها بعدت فقيل فيها {تِلْكَ} والثاني : إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتاباً مشتملاً على كل ما لابد منه في الدين ، فلما أنزل هذه الآيات قال : تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق ، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله {ذَالِكَ الْكِتَـابُ} (البقرة : 2) وقوله {بِالْحَقِّ} فيه وجهان الأول : أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه الثاني : بالحق ، أي بالمعنى الحق ، لأن معنى التلو حق.
ثم قال تعالى : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَـالَمِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين ، فكأنه تعال يعتذر عن ذلك وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة/ فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين ، وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب ، فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل ، على أن جانب الرحمة غالب ، ونظيره قوله تعالى في سورة (عم) بعد أن ذكر وعيد الكفار {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا} (النبأ : 27 ، 28) أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
(1/1222)
المسألة الثانية : قال الجبائي : هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده ، ولا يفعل شيئاً من ذلك ، وبيانه : وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى ، أو من العبد ، وبتقدير صدوره من العبد ، فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره ، فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة ، وقوله تعالى : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَـالَمِينَ} نكرة في سياق النفي ، فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً ، سواء كان ذلك صادراً عنه أو صادراً عن غيره ، فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسام الثلاثة ، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلاً لشيء من هذه الأقسام ، ويلزم منه أن لا يكون فاعلاً للظلم أصلاً ويلزم أن لا يكون فاعلاً لأعمال العباد ، لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضاً ، وإنما قلنا : إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها ، /ولو كان فاعلاً لشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها ، وقد بطل ذلك ، قالوا : فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم ، وغير فاعل لأعمال العباد ، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ، ثم قالوا : إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك ، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له ، فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادراً على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا : هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل ، ثم قالوا : ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل ، أو العجز ، أو الحاجة ، وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض ، وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة ، وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلاً للقبيح والثاني : أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول : إنا نشاهد وجود الظلم في العالم ، فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته ، فيلزم كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً وذلك محال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
فأجاب الله تعالى عنه بقوله {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر ، ولما كان قادراً على ذلك خرج عن كونه عاجزاً ضعيفاً لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختياراً وطوعاً ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة ، فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية ، وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر ، فقالوا : المراد من قوله {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَـالَمِينَ} إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضاً فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم ، لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلماً/ بل كان عادلاً ، لأن الظلم تصرف في ملك الغير ، وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالماً وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً ، فهذا أيضاً لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم ، فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من عباده ؟
قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا : الكلام عليه من وجهين الأول : أنه تعالى تمدح بقوله {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } (البقرة : 255) وبقوله {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } (الأنعام : 14) ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا الثاني : أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقاً للعذاب فهو وإن لم يكن ظلماً في نفسه لكنه في صور الظلم ، وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام /الكلام في هذه المناظرة.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بقوله {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } على كونه خالقاً لأعمال العباد ، فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ، فوجب كونها له بقوله {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } وإنما يصح قولنا : إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
(1/1223)
أجاب الجبائي عنه بأن قوله {لِّلَّهِ} إضافة ملك لا إضافة فعل ، ألا ترى أنه يقال : هذا البناء لفلان فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله ، وأيضاً المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلهية نفسه ، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح ، وأيضاً فقوله {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض.
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن ، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعاً للتسلسل ، وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية ، وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً بواسطة فعل السبب ، فهذا تمام القول في هذه المناظرة.
المسألة الرابعة : قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السموات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية ، فقدم السبب على المسبب ، وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية ، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاً من هذا الوجه.
المسألة الخامسة : قال تعالى : {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم ، والمقصود أن تمنه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم ، فقوله {وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} إشارة إلى أنه هو الآخر ، وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم ، وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده.
المسألة السادسة : كلمة {إِلَى } في قوله {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة/ بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
/في النظم وجهان الأول : أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان ، وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين ، كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية ، ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم ، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة ، وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة ، وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني : أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (آل عمران : 106) وكمال حال السعداء وهو قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} (آل عمران : 107) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَـالَمِينَ} (آل عمران : 108) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة ، ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لفظة {كَانَ} قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله {كُنتُمْ} على وجوه الأول : أن (كان) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر ، والمعنى : حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة ، ويكون قوله {خَيْرَ أُمَّةٍ} بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني : أن (كان) ههنا ناقصة وفيه سؤال : /وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
(1/1224)
والجواب عنه : أن قوله (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا} (نوح : 10) قوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الفتح : 14) إذا ثبت هذا فنقول : للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها : كنتم في علم الله خير أمة وثانيها : كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 29) إلى قوله {ذَالِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ } (الفتح : 29) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها : كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها : كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها : قال أبو مسلم قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} تابع لقوله {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} (آل عمران : 107) والتقدير : أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه ، ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها : قال بعضهم : لو شاء الله تعالى لقال (أنتم) وكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ولكن قوله {كُنتُمْ} مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم وهم السابقون الأولون ، ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها : كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا.
الاحتمال الثالث : أن يقال (كان) ههنا زائدة ، وقال بعضهم قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} هو كقوله {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } (الأعراف : 86) وقال في موضع آخر {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ} (الأنفال : 26) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة : قال ابن الأنباري : هذا القول ظاهر الاختلال ، لأن (كان) تلغى متوسطة ومؤخرة ، ولا تلغى متقدمة ، تقول العرب : عبد الله كان قائم ، وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة ، ولا يقولون : كان عبد الله قائم على إلغائها ، لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه ، والمعنى لا يكون في محل العناية ، وأيضاً لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره ، وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
الاحتمال الرابع : أن تكون (كان) بمعنى صار ، فقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله.
ثم قال : {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَـابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم } يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال ، فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفة الخيرية والله أعلم.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة ، وتقريره من وجهين الأول : قوله تعالى : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى ا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} (الأعراف : 159) ثم قال في هذه الآية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} فوجب /بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى ، وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق ، لأن المبطل يمتنع أن يكون خيراً من المحق ، فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق ، وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة.
الوجه الثاني : وهو (أن الألف واللام) في لفظ {الْمَعْرُوفِ} ولفظ {الْمُنكَرَ } يفيدان الاستغراق ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف ، وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقاً وصدقاً لا محالة فكان حجة ، والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولكنه عام في كل الأمة ، ونظيره قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا.
(1/1225)
المسألة الرابعة : قال القفال رحمه الله : أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا صلى الله عليه وسلّم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته ، وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول ، ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام : "أمتي لا تجتمع على ضلالة" وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة "أمتي أمتي" فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته/ فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم : إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
أما قوله {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ففيه قولان الأول : أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار ، فقوله {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني : أن قوله {لِلنَّاسِ} من تمام قوله {كُنتُمْ} والتقدير : كنتم للناس خير أمة ، ومنهم من قال : {أُخْرِجَتْ} صلة ، والتقدير : كنتم خير أمة للناس.
ثم قال : {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه } .
واعلم أن هذا كلام مستأنف ، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات ، أعني الأمر /بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات.
وههنا سؤالات :
السؤال الأول : من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم ؟
.
والجواب : قال القفال : تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد ، وأقواها ما يكون بالقتال ، لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات : الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم المضار ، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ، ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع ، لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه و"لا إله إلا الله" أعظم المعروف ، والتكذيب هو أنكر المنكر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال القفال : فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف ، وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ، ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم.
السؤال الثاني : لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات ؟
.
والجواب : أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ، ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة ، فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل ، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم ، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر/ وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير ، والمؤثر ألصق /بالأثر من شرط التأثير ، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان.
السؤال الثالث : لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه.
(1/1226)
والجواب : الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة ، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً ، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقاً لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول ، فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلّم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة.
ثم قال تعالى : {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم } وفيه وجهان الأول : ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضاً لهم ، فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني : إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة ، فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما : قوله {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران : 110) وثانيتهما : قوله {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} قال صاحب "الكشاف" : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء {مِنْ} غير عاطف.
أما قوله {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} ففيه سؤالان :
السؤال الأول : الألف واللام في قوله {الْمُؤْمِنُونَ} للاستغراق أو للمعهود السابق ؟
.
والجواب : بل للمعهود السابق ، والمراد : عبد الله بن سلاّم ورهطه من اليهود ، والنجاشي ورهطه من النصارى.
السؤال الثاني : الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق.
والجواب : الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون مردوداً عند الطوائف كلهم ، لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره ، والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقاً فيما بينهم ، فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان : منهم من آمن ، والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم ، فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء.
أما قوله تعالى : {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم /وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} رغبهم فيه من وجه آخر ، وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين ، وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم ، وكل ذلك تقرير لما تقدم من قوله {إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (آل عمران : 100) فهذا وجه النظم ، فأما قوله {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } فمعناه : أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان ، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، وإما بإظهار كلمة الكفر ، كقولهم {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة : 30) و{الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه } (التوبة : 30) و{اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } (المائدة : 73) وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع ، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ، ومن الناس من قال : إن قوله {إِلَّا أَذًى } استثناء منقطع وهو بعيد ، لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر ، فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً ، والأذى وقع موقع الضرر ، والأذى مصدر أذيت الشيء أذى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة ، ومثله قوله تعالى : {وَلَا ِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَا ِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} (الحشر : 12) قوله {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ } (آل عمران : 12) وقوله {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر : 44 ، 45) وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر.
(1/1227)
واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة ، منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم ، ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا ، ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً وههنا سؤالات :
السؤال الأول : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا : هذه الآيات مخصوصة باليهود ، وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال.
السؤال الثاني : هلا جزم قوله {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} .
قلنا : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون ، والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبداً دائماً.
/السؤال الثالث : ما الذي عطف عليه قوله {ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} ؟
.
الجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ {ثُمَّ} لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة ، والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به ، ومنه قولهم : ما هذا علي بضربة لازب ، ومنه تسمية الخراج ضريبة.
المسألة الثانية : الذلة هي الذل ، وفي المراد بهذا الذل أقوال الأول : وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة : 191).
ثم قال تعالى : {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ} والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام ، فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي الثاني : أن هذه الذلة هي الجزية ، وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار والثالث : أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً ، بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون.
واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ} يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل ، فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط ، وبعض من نصر هذا القول ، أجاب عن هذا السؤال بأن قال : إن هذا الاستثناء منقطع ، وهو قول محمد بن جرير الطبري ، فقال : اليهود قد ضربت عليهم الذلة ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ} تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس. واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ {إِلا} على (لكن) خلاف الظاهر ، وأيضاً إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل ، فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز ، بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني : القتل ، والأسر ، وسبي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية ، وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم ، فهذا هو القول في هذا الموضع ، وقوله {أَيْنَمَا ثُقِفُوا } أي وجدوا وصودفوا ، يقال : ثقفت فلاناً في الحرب أي أدركته ، وقد مضى الكلام فيه عند قوله {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة : 191).
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثالثة : قوله {إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ} فيه وجوه الأول : قال الفرّاء : التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، وأنشد على ذلك :
رأتني بحبلها فصدت مخافة
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
(1/1228)
واعترضوا عليه/ فقالوا : لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته ، لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه ، أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز الثاني : أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى ، لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم ، فكأنه قيل : لا تنفك عنهم الذلة ، ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس الثالث : أن تكون الباء بمعنى (مع) كقولهم : اخرج بنا نفعل كذا ، أي معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله.
المسألة الرابعة : المراد من حبل الله عهده ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفاً ، صار ذلك الخوف مانعاً له من الوصول إلى مطلوبه ، فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه ، فصار ذلك شبيهاً بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر.
/فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة ؟
قلنا : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال : أو حبل من الناس ، وقال آخرون : المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضاً ضعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما : الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية والثاني : الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول : هو المسمى بحبل الله والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم.
ثم قال : {وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّه } وقد ذكرنا أن معناه : أنهم مكثوا ، ولبثوا وداموا في غضب الله ، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان ، ومنه : تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه ، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه ، وسواء قولك : حل بهم الغضب وحلوا به.
ثم قال : {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية ، وقال آخرون : المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً ، وقال بعضهم : هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } والمعنى : أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات أولها : جعل الذلة لازمة لهم وثانياً : جعل غضب الله لازماً لهم وثالثها : جعل المسكنة لازمة لهم ، ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي : أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، وهنا سؤالات :
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
السؤال الأول : هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام ، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلّم بأدوار وأعصار ، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة ، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة ، فكان الإشكال لازماً.
والجواب عنه : أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك ، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم ، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلاً لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال.
السؤال الثاني : لم كرر قوله {ذَالِكَ بِمَا عَصَوا } وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير /للتأكيد ، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد ، والعصيان أقل حالاً من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان ؟
.
(1/1229)
والجواب من وجهين الأول : أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء ، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية ، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالاً فحالاً ، ونور الإيمان يضعف حالاً فحالاً ، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر ، وإليه الإشارة بقوله {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين : 14) فقوله {ذَالِكَ بِمَا عَصَوا } إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات ، من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر الثاني : يحتمل أن يريد بقوله {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} من تقدم منهم ، ويريد بقوله {ذَالِكَ بِمَا عَصَوا } من حضر منهم في زمان الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وعلى هذا لا يلزم التكرار ، فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم ، ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجباً لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله {لَيْسُوا سَوَآءً } قولين أحدهما : أن قوله {لَيْسُوا سَوَآءً } كلام تام ، وقوله {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} كلام مستأنف لبيان قوله {لَيْسُوا سَوَآءً } كما وقع قوله {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} (آل عمران : 110) بياناً لقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران : 110) والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم /ليسوا سواء ، وهو تقرير لما تقدم من قوله {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَـاسِقُونَ} ، ثم ابتدأ فقال : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} وعلى هذا القول احتمالان أحدهما : أنه لما قال : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} كان تمام الكلام أن يقال : ومنهم أمة مذمومة ، إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معاً ، فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما ، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر.
قال أبو ذؤيب :
دعاني إليها القلب إني لامرؤ
مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد (أم غي) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي ، وهذا قول الفراء وابن الأنباري ، وقال الزجاج : لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة ، لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى ، لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معاً كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر ، وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي ، فيغني هذا عن أن يقال : وعبد الله ليس كذلك ، فكذا ههنا لما تقدم قوله {لَيْسُوا سَوَآءً } أغنى ذلك عن الإضمار.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والقول الثاني : أن قوله {لَيْسُوا سَوَآءً } كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده ، بل هو متعلق بما بعده ، والتقدير : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة ، فأمة رفع بليس وإنما قيل {لَّيْسُوا } على مذهب من يقول : أكلوني البراغيث ، وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة والله أعلم.
المسألة الثانية : يقال فلان وفلان سواء ، أي متساويان وقوم سواء ، لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في {سَوَآءٌ } في أول سورة البقرة.
المسألة الثالثة : في المراد بأهل الكتاب قولان الأول : وعليه الجمهور : أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام ، روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلاّم وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود : لقد كفرتم وخسرتم ، فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية ، وقيل : إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم من يكون موصوفاً بالصفات الحميدة والخصال المرضية ، قال الثوري : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء/ وعن عطاء : أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام.
(1/1230)
/والقول الثاني : أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان ، وعلى هذا القول يكون المسلمين من جملتهم ، قال تعالى : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } (فاطر : 32) ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلّم أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : "أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم" وقرأ هذه الآية ، قال القفال رحمه الله : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب ، فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ، ولم يبعد أيضاً أن يقال : المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم فسماهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، يستويان ؟
فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران : 110) وهو كقوله {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُانَ} (السجدة : 18).
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية.
الصفة الأولى : أنها قائمة وفيها أقوال الأول : أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـامًا} (الفرقان : 64) وقوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ} (المزمل : 20) وقوله {قُمِ الَّيْلَ} (المزمل : 2) وقوله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} (البقرة : 238) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة.
والقول الثاني : في تفسير كونها قائمة : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } (آل عمران : 75) أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها ، ومنه قوله تعالى : {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } (آل عمران : 18).
وأقول : إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) وهذا قول الحسن البصري ، واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله : إن أناساً من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه ، فغضب صلى الله عليه وسلّم وقال : أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود ، قال الحسن : متحيرون مترددون "أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية" وفي رواية أخرى قال عند ذلك : "إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى ، وكلفتم /أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوةً وعشياً والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني" فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب/ فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال : {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
القول الثالث : {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} أي مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام بمعنى استقام ، وهذا كالتقرير لقوله {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} .
الصفة الثانية : قوله تعالى : {يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {وَيُؤْمِنُونَ بِه وَيَسْتَغْفِرُونَ} في محل الرفع صفتان لقوله {أُمَّةٍ} أي أمة قائمة تالون مؤمنون.
المسألة الثانية : التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ.
المسألة الثالثة : آيات الله قد يراد بها آيات القرآن ، وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى.
المسألة الرابعة : {أَمَّنْ هُوَ} أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا ، مثل : معى وأمعاء وإنى مثل نحى وإنحاء ، مكسور الأول ساكن الثاني ، قال القفال رحمه الله ، كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة "آذيت وآنيت" أي دافعت الأوقات.
(1/1231)
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وفيه وجوه الأول : يحتمل أن يكون حالاً من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في "تفسيره" حديثاً : أن ذلك غير جائز ، وهو قوله عليه السلام : "ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً" الثاني : يحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـامًا} (الفرقان : 64) وقوله {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه } (الزمر : 9) قال الحسن : يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه ، وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث : يحتمل أن يكون المراد بقوله {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجوداً وسجدة وركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة ، قال تعالى : {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة : 43) أي صلوا وقال : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم : 17) والمراد الصلاة الرابع : يحتمل أن يكون المراد بقوله {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً كقوله {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} (النمل : 49) وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
الصفة الرابعة : قوله {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} واعلم أن اليهود كانوا أيضاً يقومون /في الليالي للتهجد وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد.
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله ، وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، فقوله {يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ} إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية/ وذلك أكمل أحوال الإنسان ، وهي المرتبة التي يقال لها : إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية.
الصفة الخامسة : قوله {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} .
الصفة السادسة : قوله {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاماً وفوق التمام فكون الإنسان تاماً ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره ، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين ، وذلك بطريقين ، إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف ، أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي بتوحيد الله وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } أي ينهون عن الشرك بالله ، وعن إنكار نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل ، فهو يتناول كل معروف وكل منكر.
الصفة السابعة : قوله {وَيُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} وفيه وجهان أحدهما : أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت ، والآخر : يعملونها غير متثاقلين. فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام : "العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن" فما الفرق بين السرعة وبين العجلة ؟
قلنا : السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه ، فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الأمر ، آثر الفور على التراخي ، قال تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران : 133) وأيضاً العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (طه : 84).
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
(1/1232)
الصفة الثامنة : قوله {وَ أولئك مِنَ الصَّـالِحِينَ} والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم ، واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن ، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم /الصلاة والسلام فقال : بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم {وَأَدْخَلْنَـاهُمْ فِى رَحْمَتِنَآا إِنَّهُم مِّنَ الصَّـالِحِينَ} (الأنبياء : 86) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} (النمل : 19) وقال : {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـاـاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } (التحريم : 4) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد ، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال ، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون ، فقد حصل الصلاح ، فكان الصلاح دالاً على أكمل الدرجات.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال : {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوه وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوه } بالياء على المغايبة ، لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب ، يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون ، ولن يضيع لهم ما يعلمون ، والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلاّم إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان ، قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى ، فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب ، فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلة.
وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت/ ثم قال : وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء ، فلن تكفروه ، والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاماً بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين ، ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه } (البقرة : 197) وما تفعلوا من خير يوف إليكم} {وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّه } وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : {فَلَنْ} أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين الأول : أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكراً قال الله تعالى : {خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة : 158) وقال : {فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (الإسراء : 19) فلما سمى إيصال الجزاء شكراً سمى منعه كفراً والثاني : أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفراً ، لأنه بمنزلة الجحد والستر.
فإن قيل : لم قال : {فَلَنْ} فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها.
قلنا : لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان ، فكان كأنه قال : فلن تحرموه ، ولن /تمنعوا جزاءه.
المسألة الثالثة : احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال : صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه ، فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّه } (الزلزلة : 7/ 8).
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ} والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات ، وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إله جميع المحدثات ، فاسم الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة ، وقوله {عَلِيمٌ} يدل على عدم الجهل ، وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء ، لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور والله أعلم ، إنما قال : {عَلِيمُا بِالْمُتَّقِينَ} مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
(1/1233)
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب ، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعاً بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد ، فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } قولان الأول : المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها : قال ابن عباس : يريد قريظة والنضير ، وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة {وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى ثَمَنًا قَلِيلا} (البقرة : 41) وثانيها : أنها نزلت في مشركي قريش ، فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَـاثًا} (مريم : 74) /وقوله {نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (العلق : 17 ، 18) وثالثها : أنها نزلت في أبي سفيان ، فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم.
والقول الثاني : أن الآية عامة في حق جميع الكفار ، وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ، وكانوا يعيرون الرسول صلى الله عليه وسلّم وأتباعه بالفقر ، وكان من جملة شبههم أن قالوا : لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام ، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه ، وللأولين أن يقولوا : إنه تعالى قال بعد هذه الآية {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ} فالضمير في قوله {يُنفِقُونَ} عائد إلى هذا الموضع ، وهو قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } ثم إن قوله {يُنفِقُونَ} مخصوص ببعض الكفار ، فوجب أن يكون هذا أيضاً مخصوصاً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد ، ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة ، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى ، ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 88 ، 89) وقوله {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 48) الآية وقوله {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الارْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِه } (آل عمران : 91) وقوله {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } (سبأ : 37) ولما بيّن تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم ، قال : {وَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} .
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبداً فقالوا قوله {وَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ } كلمة تفيد الحصر فإنه يقال : أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ، ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم /في وجوه الخيرات ، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك ، فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة ، وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات ، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم ، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع.
فإن قيل : فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك ، فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة.
(1/1234)
قلنا : المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين ، وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب ، ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين ، وبين أجزاء كل واحدة منهما ، فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال ، وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول : أن يكون التقدير : مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون ، كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني : مثل ما ينفقون ، كمثل مهلك ريح ، وهو الحرث الثالث : لعلّ الإشارة في قوله {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ} إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جمع العساكر عليه ، وكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير ، والتقدير : مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث ، وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع ، فإن انفاقهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيراً في إبطال آثار أعمال البر.
المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين الأول : أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} (التوبة : 111) إلى قوله {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِه } (التوبة : 111) ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى : {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} (البقرة : 188) والمراد جميع أنواع الانتفاعات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والقول الثاني : وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال ، والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم} (آل عمران : 10).
المسألة الثالثة : قوله {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ} المراد منه جميع الكفار أو بعضهم ، فيه قولان : الأول : المراد بالإخبار عن جميع الكفار ، وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وإن كان /لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به ، فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة/ ولعلّهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والاحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل ، وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلاً لآثار الخيرات ، فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف ، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم ، فالذي قلناه فيه أسد وأشد ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23) وقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّه فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} (الأنفال : 36) وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَابا بِقِيعَةٍ} (النور : 39) فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب ، وكل ذلك مجموع في قوله تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة : 27) وهذا القول هو الأقوى والأصح.
واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدنيا ، فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم ، وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والقول الثاني : المراد منه الإخبار عن بعض الكفار ، وعلى هذا القول ففي الآية وجوه الأول : أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم الثاني : نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على الرسول عليه السلام الثالث : نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع : المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك.
(1/1235)
المسألة الرابعة : اختلفوا في على وجوه الأول : قال أكثر المفسرين وأهل اللغة : الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد والثاني : أن الصر : هو السموم الحارة والنار التي تغلي ، وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري ، قال ابن الأنباري : وإنما وصفت النار بأنها {فِيهَا صِرٌّ} لتصويتها عند الالتهاب ، ومنه صرير الباب ، والصرصر مشهور ، والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى : {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُه فِى صَرَّةٍ} (الذاريات : 29) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في {فِيهَا صِرٌّ} قال فيها نار ، وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل ، لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث والزرع فيصح التشبيه به.
المسألة الخامسة : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط ، وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق ، وهذا إنما يصح إذا قلنا : إنه لولا الكفر /لكان ذلك الإنفاق موجباً لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط ، وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد ، والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان ، فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته ، ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة.
ثم قال تعالى : {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} وفيه سؤال : وهو أن يقال : لم لم يقتصر على قوله {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} وما الفائدة في قوله {ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} .
قلنا : في تفسير قوله {ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} وجهان الأول : أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم ، والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء ، وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى ، لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه والثاني : أن يكون المراد من قوله {ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته ، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه ، فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع ، ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعاً ، فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعاً والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَـاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى قال صاحب "الكشاف" : قرىء {وَلَـاكِنِ} بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها ، ولا يجوز أن يراد ، ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن ، لأنه لا يجوز إلا في الشعر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
/اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية وههنا مسائل :
(1/1236)
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم ؟
على أقوال : الأول : أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه ، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك الثاني : أنهم هم المنافقون ، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية ، فالله تعالى منعهم عن ذلك ، وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله {هَـا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّه وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا } (آل عمران : 119) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ} (البقرة : 14) الثالث : المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى : {تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} (الممتحنة : 1) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطأ منه ، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً ، فامتنع عمر من ذلك وقال : إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين ، فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي عن اتخاذ بطانة ، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية ، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم أولها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : قال أبو حاتم عن الأصمعي : بطن فلان بفلان يبطن به بطوناً وبطانة ، إذا كان خاصاً به داخلاً في أمره ، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع ، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر ، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته ، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} نكرة في سياق النفي فيفيد العموم.
أما قوله {مِّن دُونِكُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ {مِّن دُونِكُمْ} يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل : قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا ، وهو يريد أحسنتم إلى /إخواننا ، وقال تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران : 21) أي آباؤهم فعلوا ذلك.
المسألة الثانية : في قوله {مِّن دُونِكُمْ} احتمالان أحدهما : أن يكون متعلقاً بقوله {لا تَتَّخِذُوا } أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني : أن يجعل وصفاً للبطانة والتقدير : بطانة كائنات من دونكم.
فإن قيل : ما الفرق بين قوله : لا تتخدوا من دونكم بطانة ، وبين قوله {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} ؟
.
قلنا : قال سيبويه : إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله : لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود.
المسألة الثالثة : قيل {مِنْ} زائدة ، وقيل للنبيّين : لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم. فإن قيل : هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق ، وقال تعالى : {لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة : 8 ، 9) فكيف الجمع بينهما ؟
قلنا : لا شك أن الخاص يقدم على العام.
واعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علة هذا النهي وهي أمور أحدها : قوله تعالى : {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} وفيه مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : يقال (ألا) في الأمر يألوا إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً على التضمين ، والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصك جهداً.
المسألة الثانية : الخبال الفساد والنقصان ، وأنشدوا :
لستم بيد إلا يداً أبدا مخبولة العضد
(1/1237)
أي فاسدة العضد منقوضتها ، ومنه قيل : رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل ، وقال تعالى : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} (التوبة : 47) أي فساداً وضرراً.
المسألة الثالثة : قوله {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم ، يقال : ما ألوته نصحاً ، أي ما قصرت في نصيحته ، وما ألوته شراً مثله.
المسألة الرابعة : انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر ، لأن معنى قوله {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} لا يخبلونكم خبالا وثانيها : قوله تعالى : {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال وددت كذا ، أي أحببته و(العنت) شدة الضرر والمشقة قال تعالى : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } (البقرة : 220).
المسألة الثانية : ما مصدرية كقوله {ذَالِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} (غافر : 75) أي بفرحكم ومرحكم وكقوله {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَا هَا * وَالارْضِ وَمَا طَحَا هَا} (الشمس : 5 ، 6) أي بنائه إياها وطحيه إياها.
المسألة الثالثة : تقدير الآية : أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر.
المسألة الرابعة : قال الواحدي رحمه الله : لا محل لقوله {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} لأنه استئناف بالجملة وقيل : إنه صفة لبطانة ، ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} فلو كان هذا صفة أيضاً لوجب إدخال حرف العطف بينهما.
المسألة الخامسة : الفرق بين قوله {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} وبين قوله {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} في المعنى من وجوه الأول : لا يقصرون في إفساد دينكم ، فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني : لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا ، فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث : لا يقصرون في إفساد أموركم ، فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج ، فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم وثالثها : قوله تعالى : {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وفيه مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الأولى : البغضاء أشد البغض ، فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء.
المسألة الثانية : الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه ، يقال : فوه وأفواه كسوط وأسواط ، وطوق وأطواق ، ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول ، وأفوه إذا كان واسع الفهم ، فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط ، ثم حذفت الهاء تخفيفاً ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان.
المسألة الثالثة : قوله {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول : أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة ، ونظيره قوله تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ } (محمد : 30) الثاني : قال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك ، أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيّكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق ، ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه ، بل لا بد وأن يبغضه ، فهذا هو المراد بقوله {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} .
ثم قال تعالى : {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة ، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد ، ثم بيّن تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم ، فقال : {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايَاتِا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي من أهل العقل والفهم والدراية ، وقيل : {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} الفصل بين ما يستحقه العدو والولي ، والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات ، والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
/واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال السيد السرخسي سلمه الله للتنبيه و{وَإِذْ أَنتُمْ} مبتدأ و{أُوْلاءِ} خبره و{تُحِبُّونَهُمْ} في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون {أُوْلاءِ} بمعنى الذين و{تُحِبُّونَهُمْ} صلة له ، والموصول مع الصلة خبر {أَنتُمْ} وقال الفرّاء {أُوْلاءِ} خبر و{تُحِبُّونَهُمْ} خبر بعد خبر.
(1/1238)
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أموراً ثلاثة ، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول : قوله {تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} وفيه وجوه : أحدها : قال المفضل {تُحِبُّونَهُمْ} تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني : {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} بسبب كونكم مسلمين الثالث : {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع : قال أبو بكر الأصم {تُحِبُّونَهُمْ} بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس : {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس : {تُحِبُّونَهُمْ} أي تخالطونهم ، وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} أي لا يفعلون مثل ذلك بكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين ، فالكل داخل تحت الآية ، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع ، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين.
/والسبب الثاني لذلك : قوله تعالى : {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية إضمار ، والتقدير : وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به ، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معاً فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر.
المسألة الثانية : ذكر (الكتاب) بلفظ الواحد لوجوه أحدها : أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم : كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها : أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل ، فلهذا لم يقل الكتب بدلاً من الكتاب ، وإن كان لو قاله لجاز توسعاً.
المسألة الثالثة : تقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ، ونظيره قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَا وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } (النساء : 104).
السبب الثالث لقبح هذه المخالطة : قوله تعالى : {هَـا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّه وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا } والمعنى : أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل ، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان ، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان : إنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض ، قال المفسرون : وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم.
ثم قال تعالى : {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي.
فإن قيل : قوله {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } أمر لهم بالإقامة على الغيظ ، وذلك الغيظ كفر ، فكان هذا أمراً بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
قلنا : قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال :
وأيضاً فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : (ذات) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن (ذو) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور ، والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف.
(1/1239)
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول /وأن لا تكون أما الأول : فالتقدير : أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم ، وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أما الثاني : وهو أن لا يكون داخلاً في المقول فمعناه : قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك ، وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون ، ثم قول وأن يكون قوله {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك والله تعالى أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين ، فبيّن تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء (ماساً) على سبيل التشبيه فيقال : فلان مسّه التعب والنصب ، قال تعالى : {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} (ق : 38) وقال : {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ} (الإسراء : 67) قال صاحب "الكشاف" : المس ههنا بمعنى الإصابة ، قال تعالى : {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُم وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} (التوبة : 50) وقوله {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } (النساء : 79) وقال : {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج : 20/ 21).
المسألة الثانية : المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها ، فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والالفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها ، وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب ، والقتل والنهب والغارة ، فبيّن تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم.
المسألة الثالثة : يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء ، والأنثى سيئة أي قبح ، ومنه قوله تعالى : {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة : 66) والسوأى ضد الحسنى.
/ثم قال : {وَأَن تَصْبِرُوا } يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم {وَتَتَّقُوا } كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {لا يَضُرُّكُمْ} بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء ، وهو من ضاره يضيره ، ويضوره ضوراً إذا ضرَّه ، والباقون {لا يَضُرُّكُمْ} بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر ، وأصله يضرركم جزماً ، فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة ، اتباعاً لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد ، وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير تقديره : ولا يضركم كيدهم شيئاً إن تصبروا وتتقوا ، قال صاحب "الكشاف" : وروى المفضل عن عاصم {لا يَضُرُّكُمْ} بفتح الراء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه ، وابن عباس فسّر الكيد ههنا بالعداوة.
المسألة الثالثة : {شَيْـاًا} نصب على المصدر أي شيئاً من الضر.
المسألة الرابعة : معنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين.
وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات ، وإليه الإشارة بقوله {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق : 2/ 3) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره ، وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه ، ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة ، فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله.
(1/1240)
المسألة الثانية : إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز ، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، وذلك من صفات الأجسام ، لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء قادراً على كل الممكنات ، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ، ومنه قوله {وَاللَّهُ مِن وَرَآاـاِهِم مُّحِيطُ } (البروج : 20) وقال : {وَاللَّهُ مُحِيطُا بِالْكَـافِرِينَ} (البقرة : 19) وقال : {وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْمًا} (طه : 11) وقال : {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدَا } (الجن : 28).
المسألة الثالثة : إنما قال : {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه ، أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالماً ، بينا أن /جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا } (آل عمران : 120) أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا ، وخلاف ذلك فيهم إذا لم يصبروا فقال : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم ، وذلك يؤكد قولنا ، وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أُبي بن سلول المنافق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} فيه ثلاثة أوجه الأول : تقديره واذكر إذ غدوت والثاني : قال أبو مسلم : هذا كلام معطوف بالواو على قوله {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} (آل عمران : 13) يقول : قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين ، وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول صلى الله عليه وسلّم يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والثالث : العامل فيه محيط : تقديره والله بما يعملون محيط إذ غدوت.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو ؟
فالأكثرون : أنه يوم أحد : وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم ، وقيل : إنه يوم بدر ، وهو قول الحسن ، وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل ، حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه الأول : أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} (آل عمران : 123) والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ، /ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، وأما يوم الأحزاب ، فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد لا يوم الأحزاب ، فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا } فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد الثالث : أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعاً كثيراً من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
(1/1241)
السمألة الثالثة : روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟
فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون : أخرج بنا إلى الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إني قد رأيت في منامي بقراً تذبح حولي فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم" فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم (بدر) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته ، فلما لبس ندم القوم ، وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه ، فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت ، فقال : "لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل" فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال له تأخر ، وكان نزوله في جانب الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة ، وقال : ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا ، وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : اثبتوا في هذا المقام ، فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام ، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد الله بن أبي شق عليه ذلك ، وقال : أطاع الولدان وعصاني ، ثم قال لأصحابه : إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم ، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم ، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام ، فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين ، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً ، فانهزم عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة ، فبقيت سبعمائة ، ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين ، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم ، وكان الله تعالى بشرهم بذلك ، طمعوا أن /تكون هذه الواقعة كواقعة بدر ، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع ، وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بعد أن أراهم ما يحبون ، فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين ، فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، كما قال تعالى : {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُانَ عَلَى ا أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاـاكُمْ} (آل عمران : 153) وشج وجه الرسول صلى الله عليه وسلّم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه ، ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد ، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل ، وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال : هذا رسول الله ، فرجع إليه المهاجرون والأنصار ، وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "رحم الله رجلاً ذب عن إخوانه" وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفاً وأقل ، ثم رجع عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة من أصحابه فبقي الرسول صلى الله عليه وسلّم مع سبعمائة ، فأعانهم الله حتى هزموا الكفار ، ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع ، وكل ذلك يؤكد قوله تعالى : {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا } (آل عمران : 120) وأن المقبل من أعانه الله ، والمدبر من خذله الله.
(1/1242)
المسألة الرابعة : يقال : بوأته منزلاً وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه ، والمباءة والباءة المنزل وقوله {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي مواطن ومواضع ، وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان/ ومنه قوله تعالى : {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} (القمر : 55) وقال : {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } (النمل : 39) أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين الأول : وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها ، والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد ، تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها ألبتة والثاني : أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه.
المسألة الخامسة : قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّى ُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } يروى أنه عليه السلام غدا من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد ، وهذا قول مجاهد والواقدي ، فدل هذا النص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلاً للنبي صلى الله عليه وسلّم وقال تعالى : {وَالطَّيِّبَـاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـاتِ } (النور : 26) فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة عن كل قبيح ، /ألا ترى أن ولد نوح لما كان كافراً قال : {إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } (هود : 46) وكذلك امرأة لوط.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم ، فإنا ذكرنا أنه عليه السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب ، فمنهم من قال له : أقم بالمدينة ، ومنهم من قال : اخرج إليهم ، وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول ، فمن موافق ، ومن مخالف فقال تعالى : أنا سميع لما يقولون عليم بما يضمرون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في قوله {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ} فيه وجوه الأول : قال الزجاج : العامل فيه التبوئة ، والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت الثاني : العامل فيه قوله {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الثالث : يجوز أن يكون بدلاً من {وَإِذْ غَدَوْتَ} .
المسألة الثانية : الطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أُبي همت الطائفتان باتباعه ، فعصمهم الله ، فثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ومن العلماء من قال : إن الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما ، فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر.
المسألة الثالثة : الفشل الجبن والخور ، فإن قيل : الهم بالشيء هو العزم ، فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما ؟
.
والجواب : الهم قد يراد به العزم ، وقد يراد به الفكر ، وقد يراد به حديث النفس ، وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده ، لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب ، فكان قوله {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا} لا يدل على أن معصية وقعت منهما ، وأيضاً فبتقدير أن يقال : إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر ، بدليل قوله تعالى : {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عبد الله {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } كقوله {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (الحجرات : 9).
المسألة الثانية : في المعنى وجوه الأول : أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى الثاني : كأنه قيل : الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى ؟
الثالث : فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة ، والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي ، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
فإن قيل : ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال : والله ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به ، وقد أخبرنا الله تعالى نأنه وليهما ؟
.
قلنا : معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى.
(1/1243)
ثم قال : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} التوكل : تفعل ، من وكل أمره إلى فلان إذا عتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه ، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله ، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
في كيفية النظم وجهان الأول : أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر ، وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز ، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ، ثم إنه تعالى سلّط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـاًا } (آل عمران : 120) وتأكيد قوله {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران : 122) الثاني : أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل.
ثم قال : {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف ؟
ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصراً لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا ، فهذا تقرير وجه النظم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بدر أقوال الأول : بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي الثاني : أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه ، وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة.
المسألة الثانية : {أَذِلَّةٍ} جمع ذليل قال الواحدي : الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا : قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل : الأفعلة ، كجريب وأجربة ، وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة ، قال صاحب /"الكشاف" : الأذلة جمع قلة ، وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين.
المسألة الثالثة : قوله {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } في موضع الحال ، وإنما كانوا أذلة لوجوه الأول : أنه تعالى قال : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية ، وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة ، روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، وما كان فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم كانوا رجالة ، وربما كان الجمع منهم يركب جملاً واحداً ، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة الثاني : لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم ، وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا {لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ } (المنافقون : 8) الثالث : أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقرراً في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في الثبات مع رسوله {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام ، لأنه سبب له.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في الثبات مع رسوله {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام ، لأنه سبب له.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر ، أو يوم أُحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في {إِذْ} فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في {إِذْ} قوله {نَصَرَكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 123) والتقدير : إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين ، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلاً ثانياً من قوله {وَإِذْ غَدَوْتَ} .
إذا عرفت هذا فنقول :
القول الأول : أنه يوم أحد ، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل /ومحمد بن إسحاق ، والحجة عليه من وجوه :
(1/1244)
الحجة الأولى : أن يوم بدر إنما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة } (الأنفال : 9) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر ؟
.
الحجة الثانية : أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة ، فصار عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفاً ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، كما في يوم بدر ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد.
الحجة الثالثة : أنه تعالى قال في هذه الآية {بَلَى ا إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ} (آل عمران : 125) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
فإن قيل : لو جرى قوله تعالى : {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَـاثَةِ} في يوم أحد ، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب.
والجواب عنه من وجهين الأول : أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطاً بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم ، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد ، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد ، فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط.
الوجه الثاني : في الجواب : لا نسلم أن الملائكة ما نزلت ، روى الواقدي عن مجاهد أنه قال : حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه ملك أمد /به/ وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه ، فظننت أنه ملك ، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه.
إذا عرفت هذا فنقول : نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ، ثم قال : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال : {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَـاثَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة } .
القول الثاني : أن هذا الوعد كان يوم بدر ، وهو قول أكثر المفسرين ، واحتجوا على صحته بوجوه.
الحجة الأولى : أن الله تعالى قال : {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌا فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ} كذا وكذا ، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام ، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
الحجة الثانية : أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر ، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى.
الحجة الثالثة : أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بشرط ، فوجب أن يحصل ، وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أُحد ، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا :
(1/1245)
أما الحجة الأولى : وهي قولكم : الرسول صلى الله عليه وسلّم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة.
فالجواب عنها : من وجهين الأول : أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى ، ثم قال : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى ، ثم قال لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف ، وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه : "أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة".
الوجه الثاني في الجواب : أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة /الأنفال ، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد ، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش ، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف.
وأما الحجة الثانية : وهي قولكم : إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف.
فالجواب : إنه تقريب حسن ، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك ، بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد.
وأما الحجة الثالثة : وهي التمسك بقوله {وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ} (آل عمران : 125).
فالجواب عنه : أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلّم/ ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى : أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين ، والله أعلم بمراده.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة الثانية : اختلفوا في عدد الملائكة ، وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد ، فقالوا : لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه ، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم ، فلا بد من التغاير وهو ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد ، أما على تقدير الأول : فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف ، وذكر ثلاثة آلاف ، وذكر خمسة آلاف ، والمجموع تسعة آلاف ، وإن حملناها على قصة أحد ، فليس فيها ذكر الألف ، بل فيها ذكر ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف ، والمجموع : ثمانية آلاف ، وأما على التقدير الثاني : وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا : عدد الملائكة خمسة آلاف ، ثم ضم إليها ألفان آخران ، فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف ، ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة آلاف ، وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل : إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لهم : ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضاً بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ، ثم إن المشركين ما جاءهم المدد ، فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة والله أعلم بمراده.
/المسألة الثالثة : أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون ، وهذا قول الأكثرين ، وأما أبو بكر الأصم ، فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، واحتج عليه بوجوه :
الحجة الأولى : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض ، ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ، ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها ، فإذا حضر هو يوم بدر ، فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ؟
ثم بتقدير حضوره ، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟
.
الحجة الثانية : أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة.
(1/1246)
الحجة الثالثة : الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس ، فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف ، أو أكثر ، ولم يقل أحد بذلك ، ولأن هذا على خلاف قوله تعالى : {وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} (الأنفال : 44) وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
وأما القسم الثاني : وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير : إذا حاربوا وحزوا الرؤوس ، ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس ، فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحداً من الفاعلين ، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات ، وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافراً متمرداً ، ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضاً.
الحجة الرابعة : أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا ، إما أن يقال : إنهم كانوا أجساماً كثيفة أو لطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم ، ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك ، وإن كانوا أجساماً لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة ، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه.
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات ، فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر ، روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد /جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ، ويقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادراً على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزّهاً عن الحاجات.
المسألة الرابعة : اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم : بالقتال مع المؤمنين ، وقال بعضهم : بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار ، والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوية القلب ، وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر ، يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته ، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال قال المفضل : ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده ، وما كان على جهة الزيادة قيل فيه : مده يمده ومنه قوله {وَالْبَحْرُ يَمُدُّه } (لقمان : 27).
المسألة السادسة : قرأ ابن عامر {مُنزَلِينَ} مشدد الزاي مفتوحة على التكثير ، والباقون بفتح الزاي مخففة وهما لغتان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
المسألة السابعة : قال صاحب "الكشاف" : إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : بلى : إيجاب لما بعد (لن) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية ، ثم قال : {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا} يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف ، فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة ثلاثة أشياء ، الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور ، فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم /لم يوجد المشروط.
المسألة الثانية : الفور مصدر من : فارت القدر إذا غلت ، قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّور } (هود : 40) قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال جاء فلان ورجع من فوره ، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي ، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته.
(1/1247)
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {مُسَوِّمِينَ} بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة ، وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها ، والباقون بفتح الواو ، أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم ، فكان في المراد من التسويم في قوله {مُسَوِّمِينَ} قولان الأول : السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره ، ومضى شرح ذلك في قوله {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} (آل عمران : 14) وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها ، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال يوم بدر : "سوموا فإن الملائكة قد سومت" قال ابن عباس : كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر ، وخيولهم وكانوا على خيل بلق ، بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها ، وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة ، وأن علياً كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء.
القول الثاني : في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذاً من الإبل السائمة المرسلة في الرعي ، تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها ، ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت ، فمن قرأ {مُسَوِّمِينَ} بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم ، ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
/الكناية في قوله {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} عائدة على المصدر ، كأنه قال : وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل {يُمْدِدْكُمْ} على الإمداد فكنى عنه ، كما قال : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ } (الأنعام : 121) معناه : وإن أكله لفسق فدل {تَأْكُلُوا } على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي ذكر المدد {إِلا بُشْرَى } والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البقرة : 25).
ثم قال : {وَلِتَطْمَـاـاِنَّ قُلُوبُكُم بِه } وفيه سؤال :
وهو أن قوله {وَلِتَطْمَـاـاِنَّ} فعل وقوله {إِلا بُشْرَى } اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر ، فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئناناً ، أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم.
والجواب عنه من وجهين الأول : في ذكر الإمداد مطلوبان ، وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر ، فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله {إِلا بُشْرَى } والثاني : حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة ، وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة ، فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة ، فقال : {وَلِتَطْمَـاـاِنَّ} ونظيره قوله {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } (النحل : 8) ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها ، فكذا ههنا الثاني ؛ قال بعضهم في الجواب : الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال : {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ} والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته ، والحكيم إشارة إلى كمال علمه ، فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات ، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه.
(1/1248)
ثم قال : {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } واللام في {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} متعلق بقوله {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم ، قيل : إنه راجع إلى قوله {وَلِتَطْمَـاـاِنَّ قُلُوبُكُم بِه ا وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا} ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، وهو كما يقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف ، لأن البعض يقرب من البعض ، فكذا ههنا ، وقوله {طَرَفًا} أي طائفة /وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم} (التوبة : 123) وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } (الرعد : 41).
ثم قال : {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه ، يقال : كبته فانكبت هذا تفسيره ، ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال ، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت ، وقوله {خَآئِبِينَ} الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ، وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة الظفر ، والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
ثم قال : {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ} والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته ، والحكيم إشارة إلى كمال علمه ، فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات ، وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه.
ثم قال : {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } واللام في {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} متعلق بقوله {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا ، أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم ، قيل : إنه راجع إلى قوله {وَلِتَطْمَـاـاِنَّ قُلُوبُكُم بِه ا وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا} ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف ، وهو كما يقول السيد لعبده : أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف ، لأن البعض يقرب من البعض ، فكذا ههنا ، وقوله {طَرَفًا} أي طائفة /وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف ، وهذا يوافق قوله تعالى : {قَـاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم} (التوبة : 123) وقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } (الرعد : 41).
ثم قال : {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه ، يقال : كبته فانكبت هذا تفسيره ، ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال ، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت ، وقوله {خَآئِبِينَ} الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ، وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله ، فنقيض اليأس الرجاء ، ونقيض الخيبة الظفر ، والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
في الآية مسائل :
(1/1249)
المسألة الأولى : في سبب نزول هذه الآية قولان الأول : وهو المشهور : أنها نزلت في قصة أحد ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها : أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات أحدها : روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول : "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم" ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية وثانيها : ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم لعن أقواماً فقال : "اللّهم العن أبا سفيان ، اللّهم العن الحرث بن هشام ، اللّهم العن صفوان بن أُمية" فنزلت هذه الآية {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم وثالثها : أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال : "لأمثلن منهم بثلاثين" ، فنزلت هذه الآية ، قال القفال رحمه الله ، وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد ، فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات الثاني : في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه صلى الله عليه وسلّم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
/الوجه الثالث : أنه صلى الله عليه وسلّم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية ، فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد.
القول الثاني : أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث جمعاً من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول صلى الله عليه وسلّم جزعاً شديداً ودعا على الكفار أربعين يوماً ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد ، وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق.
المسألة الثانية : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلّم يفعل فيه فعلاً ، وكانت هذه الآية كالمنع منه ، وعند هذا يتوجه الإشكال ، وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى ، فكيف منعه الله منه ؟
وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه ، فكيف يصح هذا مع قوله {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } (النجم : 3) وأيضاً دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسناً فلم منعه الله ؟
وإن كان قبيحاً ، فكيف يكون فاعله معصوماً ؟
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والجواب من وجوه الأول : أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلاً به فإنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلّم { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب : 1) فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ} وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد ، والغضب العظيم ، وهو مثلة عمه حمزة ، وقتل المسلمين/ والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيداً لطهارته والثاني : لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى ، فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى ، ونظيره قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّه } (النحل : 126 ، 127) كأنه تعالى قال : إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ، ثم قال ثانياً : وإن تركته كان ذلك أولى ، ثم أمره أمراً جازماً بتركه ، فقال : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّه } .
الوجه الثالث : في الجواب : لعلّه صلى الله عليه وسلّم لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه ، فنص الله تعالى على المنع منه ، وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة.
/المسألة الثالثة : قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} فيه قولان الأول : أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات أحدهما : ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وثانيها : ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء ، لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم وثالثها : ليس لك في أن يتوب الله عليهم ، ولا في أن يعذبهم شيء.
(1/1250)
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
والقول الثاني : أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي ، والمعنى : ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري ، وهو كقوله {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} (الأنعام : 62) وقوله {لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِنا بَعْدُ } (الروم : 4) وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه صلى الله عليه وسلّم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية ، ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان ؟
منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب ، أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلماً براً تقياً ، وكل من كان كذلك ، فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك ، فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود ، وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صلى الله عليه وسلّم ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى ، ومنهم من قال : المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته ، هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية.
المسألة الرابعة : ذكر الفرّاء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين أحدهما : أن قوله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } عطف على ما قبله ، والتقدير : ليقطع طرفاً من الذين كفروا ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم ، أو يعذبهم ، ويكون قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه ، كما تقول : ضربت زيداً ، فاعلم ذلك عمراً ، فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها.
والقول الثاني : أن معنى {أَوْ} ههنا معنى حتى ، أو إلا أن كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى : إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني ، ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى/ وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا : وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي /متعلقة بترك فعل من الأفعال في المستقبل ، وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد ، لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة ، فلو كانت الإرادات فعلاً للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال ، فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه إبتداء ، ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم ، وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات ، علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى ، فصار هذا البرهان مطابقاً لما دل عليه ظاهر القرآن ، هو قوله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
أما قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين ، لأن الشرك ظلم قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضاً ، لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه.
المسألة الثانية : يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا ، وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة ، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {فَإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ} جملة مستقلة ، إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب ، والمعنى : أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
0
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولاً من قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ} والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك ، وملك السموات والأرض ليس إلا لله تعالى فالأمر في السموات والأرض ليس إلا لله ، وهذا برهان قاطع.
المسألة الثانية : إنما قال : {مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } ولم يقل (من) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات ، فدخل فيه الكل.
(1/1251)
/أما قوله {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } فاعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلهيته جميع الكفار والمردة ، وله أن يدخل النار بحكم إلهيته جميع المقربين والصدّيقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي يؤكد ذلك أيضاً ، وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى ، فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع ، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى ، فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضاً من الله ، وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً ألبتة ، فلا الطاعة توجب الثواب ، ولا المعصية توجب العقاب ، بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وقدرته ، فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه ، ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك ، وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى : {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } .
فإن قيل : أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء.
قلنا : مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه ، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل ، وهذا الكلام في غاية الظهور.
ثم ختم الكلام بقوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 308
363
اعلم أن من الناس من قال : انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد ، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال : {رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا } وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها ، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا ، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم ، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك وفي قوله : {أَضْعَـافًا مُّضَـاعَفَةً } مسألتان :
المسألة الأولى : كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، فاذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك ، ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله : {أَضْعَـافًا مُّضَـاعَفَةً } .
المسألة الثانية : انتصب {أَضْعَافًا} على الحال.
ثم قال تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب ، وأن الفلاح يتوقف عليه ، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح / وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله : {لَعَلَّكُم} تقدم في سورة البقرة في قوله : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة.
ثم قال : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} وفيه سؤالات : الأول : أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه ، فكيق قال : {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 363
والجواب : تقدير الآية : اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين.
السؤال الثاني : ظاهر قوله : {أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين ، وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات.
والجواب من وجوه : الأول : أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله : {النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} اشارة الى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين ، وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين. الثاني : أن كون النار معدة للكافرين ، لا يمنع دخول المؤمنين ، فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال : انها معدة لهم ، كما أن الرجل يقول : لدابة ركبها الحاجة من الحوائح ، إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين ، فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا.
(1/1252)
الوجه الثالث : في الجواب : أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف ، ومثاله قوله تعالى : {كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (الملك : 8) وليس لجميع الكفار يقال ذلك ، وأيضا قال تعالى : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُانَ} (الشعرا : 94) الى قوله : {إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الشعرا : 98) وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور ، كانت كالمذكورة ههنا ، فكذا فيما ذكرناه والله أعلم.
الوجه الرابع : ان قوله : {أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله : في الجنة {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران : 133) لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين.
الوجه الخامس : أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر ، وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي اذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين ، وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار ، كان انزجارهم عن المعاصي أتم ، / وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع ، ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 363
السؤال الثالث : هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا ؟
الجواب : نعم لأن قوله : {أُعِدَّتْ} إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود.
ثم قال تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن ، وقال : محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلى الله عليه وسلّم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ، وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 363
السؤال الثالث : هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا ؟
الجواب : نعم لأن قوله : {أُعِدَّتْ} إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود.
ثم قال تعالى : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن ، وقال : محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول صلى الله عليه وسلّم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ، وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 363
364
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر بغير واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام ، والباقون بالواو ، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان ، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ، ومن ترك الواو فلانه جعل قوله : وقوله : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ} (آل عمران : 32) كالشيء الواحد ، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف.
المسألة الثانية : روي عن الكسائي الامالة في {رَاجِعُونَ * أولئك يُسَـارِعُونَ} (المؤمنون : 61) (المؤمنون : 65) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة ، ويمنع كما المفتوحة الامالة ، كذلك المسكورة يميلها.
(1/1253)
المسألة الثالثة : قالوا : في الكلام حذف والمعنى : وسارعوا الى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس الا فعل المأمورات وترك المنهيات ، فكان هذا أمرا بالمسارعة الى فعل المأمورات وترك المنهيات ، وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر ، وللمفسرين فيه كلمات : إحداها : قال ابن عباس : هو الاسلام/ أقول وجهه ظاهر ، لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الاسلام. الثاني : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : هو أداء الفرائض ، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل. والثالث : انه الاخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه : ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الاخلاص ، كما قال : {الْبَيِّنَةُ * وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينه : 5) الرابع : قال أبو العالية : هو الهجرة. والخامس : أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن اسحاق ، قال : لأن من قوله : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} (آل عمران : 121) الى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد. السادس : قال سعيد بن جبير : انها التكبيرة الأولى. والسابع : قال عثمان : انها الصلوات الخمس. والثامن : قال عكرمة : إنها جميع الطاعات. لأن اللفظ عام فيتناول الكل. والتاسع : قال الأصم : سارعوا ، أي بادروا الى التوبة من الربا والذنوب ، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ، ثم قال : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه ، والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ، ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها إيصال الثواب ، فجمع بينهما للأشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين ، فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات : فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة ، فالمراد كعرض السموات والأرض وههنا سؤالات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 364
السؤال الأول : ما معنى أن عرضها مثل عرض السموات والأرض وفيه وجوه : الأول : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله. والثاني : أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا ، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا. الثالث : قال أبو مسلم : وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة ، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر : عرضته عليه وعارضته به ، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما / مثلا للآخر. الرابع : المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله : {خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (هود : 107) فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا ههنا.
السؤال الثاني : لم خص العرض بالذكر.
والجواب فيه وجهان : الأول : أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله : {بَطَآاـاِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } (الرحمن : 54) وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة ، فاذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة ؟
فكذا ههنا اذا كان العرض هكذا فكيف الطول والثاني : قال القفال : ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال هذه دعوى عريضة ، أي واسعة عظيمة ، والأصل فيه ان ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة.
السؤال الثالث : أنتم تقولون : الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء ؟
(1/1254)
والجواب من وجهين : الأول : أن المراد من قولنا انها فوق السموات وتحت العرش ، قال عليه السلام : في صفة الفردوس "سقفها عرش الرحمن" وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : انك تدعو الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار. والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل ، وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء ؟
فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة ، قيل فأين هي ؟
قال : فوق السموات السبع تحت العرش.
جزء : 9 رقم الصفحة : 364
والوجه الثاني : أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن ، بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة ، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السموات والنار في مكان الأرض والله أعلم.
أما قوله : {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك قوله تعالى :
جزء : 9 رقم الصفحة : 364
366
/ اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الانسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات.
فالصفة الأولى : قوله : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} وفيه وجوه : الأول : أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الانفاق ، وبالجملة فالسراء هو الغنى ، والضراء هو الفقر. يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب ، والثاني : أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فانهم لا يدعون الاحسان إلى الناس ، الثالث : المعنى أن ذلك الاحسان والانفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم ، أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فانهم لا يتركونه ، وإنما افتتح الله بذكر الانفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
الصفة الثانية : قوله تعالى : {وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ} وفيه مسئلتان.
المسألة الأولى : يقال : كظم غيظة إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال : المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه ، يقال : كظمت السقاء إذا ملأنه وسددت عليه ، ويقال : فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا ، وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم ، والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة ، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة ، لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة ، ويقال : أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه ، لأنه موضع الامتلاء بالنفس ، وكظم البعير كظوماً إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر ، ومعنى قوله : {وَالْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ} الذين يكفون غيظهم عن الامضاء يردون غيظهم في أجوافهم ، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله : {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى : 37).
المسألة الثانية : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا" وقال عليه السلام : لأصحابه "تصدقوا" فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام ، وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به ، وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به ، ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه ، فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قوم ذلك الرجل وفد ، فقال عليه السلام : "لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه" وقال عليه السلام : "من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء" وقال عليه السلام : "ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن / عزاء ومن جرعة غيظ كظمها" وقال عليه السلام "ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب".
جزء : 9 رقم الصفحة : 366
(1/1255)
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا الى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا الى العفو عن المعسرين. قال تعالى : عقيب قصة الربا والتداين {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍا وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } (البقرة : 280) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} (البقرة : 178) الى قوله : {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } (البقرة : 280) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين مثلوا بحمزة وقال : "لامثلن بهم" فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا ، قال تعالى : في هذه القصة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ} (النحل : 126) قال صلى الله عليه وسلّم : "لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه" وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه : ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن الى من أساء اليك.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، وأن تكون للعهد فيكون إشارة الى هؤلاء.
واعلم أن الاحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه. أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} ويدخل فيه انفاق العلم ، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى ، وهو المراد بكظم الغيظ ، وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة ، وهو المراد بقوله تعالى : {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير ، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 366
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون هذا راجعا الى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا الى العفو عن المعسرين. قال تعالى : عقيب قصة الربا والتداين {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍا وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } (البقرة : 280) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} (البقرة : 178) الى قوله : {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } (البقرة : 280) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين مثلوا بحمزة وقال : "لامثلن بهم" فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة ، فكان تركه فعل ذلك عفوا ، قال تعالى : في هذه القصة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ} (النحل : 126) قال صلى الله عليه وسلّم : "لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه" وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه : ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن الى من أساء اليك.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، وأن تكون للعهد فيكون إشارة الى هؤلاء.
واعلم أن الاحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه. أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ} ويدخل فيه انفاق العلم ، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى ، وهو المراد بكظم الغيظ ، وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة ، وهو المراد بقوله تعالى : {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير ، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب.
(1/1256)
جزء : 9 رقم الصفحة : 366
267
/ واعلم أن وجه النظم من وجهين : الأول : أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان : أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات ، وهم الذين وصفهم الله بالانفاق في السراء والضراء ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس. وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية ، وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله.
والوجه الثاني : أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير ، وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس ، فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحساناً منه إلى نفسه ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : روى ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في رجلين ، أنصاري وثقفي ، والرسول صلى الله عليه وسلّم كان قد آخى بينهما ، وكانا لا يفترقان في أحوالهما ، فخرج الثقفي مع الرسول صلى الله عليه وسلّم بالقرعة في السفر ، وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم ، فكان يفعل ذلك. ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها ، فندم الرجل ، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلى الله عليه وسلّم لم ير الأنصاري ، وكان قد هام في الجبال للتوبة ، فلما عرف الرسول صلى الله عليه وسلّم سكت حتى نزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود : قال المؤمنون للنبي صلى الله عليه وسلّم : كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، فكان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره : اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار.
المسألة الثانية : الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها : الأول : قال صاحب "الكشاف" : الفاحشة ما يكون فعله / كاملا في القبح ، وظلم النفس : هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به. والثاني : أن الفاحشة هي الكبيرة ، وظلم النفس. هي الصغيرة ، والصغيرة يجب الاستغفار منها ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مأموراً بالاستغفار وهو قوله : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} (محمد : 19) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل. الثالث : الفاحشة : هي الزنا ، وظلم النفس : هي القبلة واللمسة والنظرة ، وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه ، ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة ، فقال تعالى : {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ا إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً} (الإسراء : 32).
جزء : 9 رقم الصفحة : 267
أما قوله : {ذَكَرُوا اللَّهَ} ففيه وجهان : أحدهما : أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابة أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه ، فيكون من باب حذف المضاف ، والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك ، ومقاتل ، والواقدي ، فان الضحاك قال : ذكروا العرض الأكبر على الله ، ومقاتل ، والواقدي. قال : تفكروا أن الله سائلهم ، وذلك لأنه قال : بعد هذه الآية {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر/ والنتيجة لذلك : الذكر ، ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله ، ونهيه ووعيده ، ونظير هذه الآية قوله : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201)
والقول الثاني : أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والاجلال ، وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله ، فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى ، ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب.
ثم قال : {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح ، وهو الندم على فعل ما مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل ، فهذا هو حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فذاك لا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة ، ولاظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى ، وقوله : {لِذُنُوبِهِمْ} أي لأجل ذنوبهم.
ثم قال : {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه ، وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه ، فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه.
ثم قال : {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } واعلم أن قوله : {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والتقدير : فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا.
(1/1257)
وقوله : {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان : الأول : أنه حال من فعل الاصرار ، والتقدير : ولم يصروا / على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بحرمته فانه لا يعذر في فعله البتة. الثاني : أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلّم : "رفع القلم عن ثلاث".
جزء : 9 رقم الصفحة : 267
ثم قال : {أُوالَـا ئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} والمعنى أن المطلوب أمران : الأول : الأمن من العقاب واليه الاشارة بقوله : {مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} والثاني : إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله : {جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَـالِدِينَ فِيهَا} ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم وجزاء عليه بقوله : {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} قال القاضي : وهذا يبطل قول من قال ان الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 267
369
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية ، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع ، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه : الأول : أنها فعلة من سن الماء يسنه اذا والى صبه ، والسن الصب للماء ، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فانه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد ، والسنة فعلة بمعنى مفعول ، وثانيها : أن تكون من : سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن ، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم سمي سنة على معنى أنه مسنون ، وثالثها : أن يكون من قولهم : سن الابل اذا أحسن الرعي ، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلّم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وادامته.
المسألة الثانية : المراد من الآية : قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة ، واختلفوا / في ذلك ، فالاكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى : {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلّم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه ، وقال مجاهد : بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ؛ فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال : {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر ، وأيضاً يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ} (الصافات : 171 ـ 173) وقوله : {وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف : 128 ، القصص : 83) وقوله : {أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ} (الأنبياء : 105).
جزء : 9 رقم الصفحة : 369
المسألة الثالثة : ليس المراد بقوله {فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا } (النحل : 36) الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
(1/1258)
ثم قال تعالى : {هَـاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} ويعني بقوله : {هَـاذَآ } ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات ، ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة ، لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان : الأول : أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة ، فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان ، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي. وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين ، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان : أحدهما : الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى. الثاني : الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة.
الوجه الثاني : أن البيان هو الدلالة ، وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء ، وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} في سورة البقرة.
المسألة الرابعة : في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان. أحدهما : أنهم / هم المنتفعون به ، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} (يس : 11) {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) وقد تقدم تقريره في تفسير قوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} الثاني : أن قوله : {هَـاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} كلام عام ثم قوله : {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} للمتقين مخصوص بالمتقين ، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية ، ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين والله أعلم بالصواب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 369
371
اعلم أن الذي قدمه من قوله : {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} (آل عمران : 137) وقوله : هذا بيان للناس كالمقدمة لقوله : {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا } (آل عمران : 139) كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة ، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور ، وصارت دولة أهل الحق عالية ، وصولة أهل الباطل مندرسة ، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم ، بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة اليكم.
ثم نقول قوله : {وَلا تَهِنُوا } أي لا تضعفوا عن الجهاد ، والوهن الضعف قال تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام {إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى} وقوله : {وَلا تَحْزَنُوا } أي على من قتل منكم أو جرح وقوله : {وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} فيه وجوه : الأول : أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، وهو كقوله تعالى : {أَوَ لَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـاذَا } (آل عمران : 165) أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان ، أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق ، وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم. الثاني : أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة. الثالث : أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث أنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله ، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين الى ما يفيدهم قوة في القلب ، وفرحا في النفس ، فبشرهم الله تعالى بذلك ، فأما قوله : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ففيه وجوه : الأول : وأنتم الأعلون ان بقيتم على إيمانكم ، والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الاسلام. الثاني : وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة ان كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة. والثالث : / التقدير : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين ، فان الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين ، فان كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها ، وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 371
371
واعلم أن هذا من تمام قوله : {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ} (آل عمران : 139) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فاذا كانوا مع باطلهم ، وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب ، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى ، وفي الآية مسائل :
(1/1259)
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {قَرْحٌ} بضم القاف وكذلك قوله : {مِنا بَعْدِ مَآ أَصَـابَهُمُ الْقَرْحُ } (آل عمران : 172) والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه : فالأول : معناهما واحد ، وهما لغتان : كالجهد والجهد ، والوجد والوجد ، والضعف والضعف. والثاني : أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد. والثالث : أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم. والرابع : وهو قول الفرار انه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة. والخامس : قال ابن مقسم : هما لغتان الا أن المفتوحة توهم انها جمع قرحة.
المسألة الثانية : في الآية قولان : أحدهما : إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر ، وهو كقوله تعالى : {أَوَ لَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـاذَا } (آل عمران : 165) والثاني : أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل ، لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا ، وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل ، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار.
فان قيل كيف قال : {قَرْحٌ مِّثْلُه } وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين ؟
/ قلنا : يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى.
ثم قال تعالى : {وَتِلْكَ الايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وفيه مسائل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 371
المسألة الأولى : {تِلْكَ} مبتدأ صفة خبره ويجوز أن يقال : تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول : هي الأيام تبلي كل جديد ، فقوله : {وَتِلْكَ الايَّامُ} إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة ، فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال.
المسألة الثانية : قال القفال : المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال : تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى : {كَىْ لا يَكُونَ دُولَةَا بَيْنَ الاغْنِيَآءِ مِنكُمْ } (الحشر : 7) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ، ويقال : الدنيا دول ، أي تنتقل من قوم الى آخرين ، ثم عنهم إلى غيرهم ، ويقال : دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه ، والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها ، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه ، ويوم آخر بالعكس من ذلك ، ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها.
واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم ، فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه : الأول : أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل/ ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان ، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الاسلام فيعظم ثوابه عند الله. والثاني : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي ، فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له وأما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من الله عليه. والثالث : وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة ، وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة ، ولذلك فانه تعالى يميت بعد الاحياء ، ويسقم بعد الصحة ، فاذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء ، والقدرة بالعجز ، وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال : أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب ، فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي الله عنه لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال : ان كان كما تزعمون ، فقد خبنا اذن وخسرنا.
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 371
أما قوله تعالى : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } ففيه مسائل.
(1/1260)
المسألة الأولى : اللام في قوله : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} متعلق بفعل مضمر ، اما بعده أو قبله ، أما الاضمار بعده فعلى تقدير {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } فعلنا هذه المداولة ، وأما الاضمار قبله فعلى تقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور ، منها ليعلم الله الذين آمنوا ، ومنها ليتخذ منكم شهداء ، ومنها ليمحص الله الذين آمنوا ، ومنها ليمحق الكافرين ، فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة. المسألة الثانية : الواو في قوله : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } نظائره كثيرة في القرآن ، قال تعالى : {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام : 75) وقال تعالى : {وَلِتَصْغَى ا إِلَيْهِ أَفْـاِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام : 113) والتقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله ، وإنما حذف المعطوف عليه للايذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى ، وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها ، فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم.
المسألة الثالثة : ظاهر قوله تعالى : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظير هذه الآية في الاشكال قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} (آل عمران : 142) وقوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ} (العنكبوت : 30) وقوله : {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكهف : 12) وقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ} وقوله : {إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } (هود : 7 ، الملك : 2) وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها ، فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 371
أجاب المتكلمون عنه : بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها ، فثبت أن التغيير في العلم محالا الا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور/ يقال : هذا علم فلان والمراد معلومه ، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره ، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم ، فالمراد تجدد المعلوم.
إذا عرفت هذا ، فنقول : في هذه الآية وجوه : أحدها : ليظهر الاخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر. والثاني : ليعلم أولياء الله ، فأضاف الى نفسه تفخيما. وثالثها : ليحكم بالامتياز ، فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز ، لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم. ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع ، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد.
/ المسألة الرابعة : العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد ، كما يقال : علمت زيداً ، أي علمت ذاته وعرفته ، وقد يفتقر إلى مفعولين ، كما يقال : علمت زيداً كريما ، والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني ، إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير : وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم ، أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الاسلام ، ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول ، بمعنى معرفة الذات ، والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم ، أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم ، وهو ظهور الصبر حذف ههنا.
أما قوله : {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة ، وفيه مسائل :
(1/1261)
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : الأول : يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي ، فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية. والثاني : المراد منه وليكرم قوماً بالشهادة ، وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر ، وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة ، وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) وقال : {وَجِا ى ءَ بِالنَّبِيِّـانَ وَالشُّهَدَآءِ} (الزمر : 69) وقال : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـالِحِينَ } (النساء : 69) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة ، وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 371
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بارادة الله تعالى فقالوا : منصب الشهادة على ما ذكرتم ، فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه ، وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة ، فاذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوباً لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوباً لله تعالى ، وأيضاً فقوله : {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى ، وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى.
المسألة الثالثة : الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء ، والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيداً ، وفي تعليل هذا الاسم وجوه : الأول : قال النضر بن شميل : الشهداء أحياء لقوله : {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران : 169) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها ، الثاني : قال ابن الانباري : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة ، فالشهيد فعيل بمعنى مفعول ، الثالث : سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين ، كما قال تعالى : {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة : 143) الرابع : سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة ، بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) فكذا ههنا يجب أن يقال : هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ، كما ماتوا دخلوا الجنة.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي المشركين ، لقوله تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض ، وفيه وجوه : الأول : والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الايمان صابراً على الجهاد. الثاني : فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد ، لا لأنه يحبهم.
ثم قال : {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم ، والمحص : في اللغة التنقية ، والمحق في اللغة النقصان ، وقال المفضل : هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء ، ومنه قوله تعالى : {يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا } (البقرة : 276) أي يستأصله. قال الزجاج : معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين ، فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين ، وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم ، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين ، لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم ، وهذه مقابلة لطيفة في المعنى. والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد ، وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار ، بل كثير منهم بقي على كفره والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 371
375
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك ، فقال {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} بدون تحمل المشاق وفي الآية مسائل :
(1/1262)
المسألة الأولى : أم : منقطعة ، وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة. قال أبو مسلم : في {أَمْ حَسِبْتُمْ} إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : { الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (العنكبوت : 1 ـ 2) وافتتح الكلام بذكر "أم" التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه ، يقولون : أزيداً ضربت أم عمرواً ، مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما ، قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً ، فلما قال : {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا } (آل عمران : 139) كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ، وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا ، فلما كان كذلك ، فمن البعيد أن يصل الانسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة.
المسألة الثانية : قال الزجاج : إذا قيل فعل فلان ، فجوابه أنه لم يفعل ، وإذا قيل قد فعل فلان ، فجوابه لما يفعل. لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد ، لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة "لما".
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم ، والمراد وقوعه على نفي المعلوم ، والتقدير : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم ، وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم ، كما هو عليه ، فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم. حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر ، وتمام الكلام فيه قد تقدم.
أما قوله : {وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} فاعلم أنه قرأ الحسن {وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} بالجزم عطفاً على {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} وأما النصب فباضمار أن ، وهذه الواو تسمى واو الصرف ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي لا تجمع بينهما ، وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان ، وقرأ أبو عمرو {وَيَعْلَمَ} بالرفع على تقدير أن الواو للحال. كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 375
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة ، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر ، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا ، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله ، وهذان الأمران مما لا يجتمعان ، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما ، وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى ، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ، ولكن الفصل فيه تسليط / المكروهات والمحبوبات ، فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء ، فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً ، فلهذه الحكمة قال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 375
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة ، فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر ، وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا ، والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله ، وهذان الأمران مما لا يجتمعان ، فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما ، وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى ، فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ، ولكن الفصل فيه تسليط / المكروهات والمحبوبات ، فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء ، فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً ، فلهذه الحكمة قال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 375
0
وفيه مسائل :
(1/1263)
المسألة الأولى : قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلّم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ، وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم ، فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه فهزموا أبا سفيان ، ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسملين ، ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، وأقبل يريد قتله ، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال قد قتلت محمدا ، وصرخ صارح ألا ان محمدا قد قتل ، وكان الصارخ الشيطان ، ففشا في الناس خبر قتله ، فهنالك قال بعض المسلمين : ليت عبدالله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال قوم من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا الى إخوانكم والى دينكم ، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم ان كان قد قتل محمد فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟
قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم اني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء ، ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ، فقال : ان / كان قد قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم ، ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول صلى الله عليه وسلّم وكسر رباعيته ، احتمله طلحة بن عبيدالله ، ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ، ثم ان الرسول صلى الله عليه وسلّم جعل ينادي ويقول : الى عباد الله حتى انحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم ، فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ، ومعنى الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة ، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 375
المسألة الثانية : قال أبو علي : الرسول جاء على ضربين : أحدهما : يراد به المرسل ، والآخر الرسالة ، وههنا المراد به المرسل بدليل قوله : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة : 252) وقوله : {يَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} (المائدة : 67) وفعول قد يراد به المفعول ، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة ، قال : ومن هذا قوله تعالى : {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ونذكره في موضعه ان شاء الله تعالى ثم قال : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء ، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم ان مات محمد أو قتل/ ونظيره قوله : هل زيد قائم ، فأنت أنما تستخبر عن قيامه ، الا انك أدخلت هل على الاسم والله أعلم.
المسألة الثانية : أنه تعالى بين في آيات كثيرة انه عليه السلام لا يقتل قال : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر : 30) وقال : {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة : 67) وقال : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (الصف : 9) فليس لقائل أن يقول : لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل ؟
فان الجواب عنه من وجوه : الأول : أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها ، فانك تقول : ان كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد ، فكذا ههنا. والثاني : ان هذا ورد على سبيل الالزام ، فان موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه ، فكذا ههنا ، والثالث : ان الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه ، لانه فارق بين الأمرين ، فلما رجع الى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد.
(1/1264)
/ المسألة الثالثة : قوله : {انقَلَبْتُمْ عَلَى ا أَعْقَـابِكُمْ } أي صرتم كفارا بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد الى ما كان عليه : رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين : ان كان محمد قتل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الانصار : ان كان محمد قتل فان رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد. وحاصل الكلام انه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين : الأول : بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم ، والثاني : أن الحاجة الى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه ، فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 375
المسألة الرابعة : ليس لقائل أن يقول : ان قوله : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ} شك وهو على الله تعالى لا يجوز ، فانا نقول : المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْـاًا } والغرض منه تأكيد الوعيد ، لأن كل عاقل يعلم ان الله تعالى لا يضره كفر الكافرين ، بل المراد أنه لا يضر الا نفسه ، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب : ان هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا ، ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال : {وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ} فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الاقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الايمان وشدة تمسكهم به ، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله : {وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ} وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال : المراد بقوله : {وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ} أبو بكر وأصحابه ، وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 375
377
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه : الأول : أن المنافقين أرجفوا أن محمد صلى الله عليه وسلّم قد قتل ، فالله تعالى يقول : انه لا تموت نفس الا باذن الله وقضائه وقدره ، /فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل الا في الوقت المقدر المعين ، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه ، فكذا اذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه ، والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين انه لما قتل محمد فارجعوا الى ما كنتم عليه من الأديان. الثاني : أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد باعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر ، وان أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء ، فلا فائدة في الجبن والخوف. والثالث : أن يكون المراد حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلّم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة ، فان تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها ، ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه. والرابع : وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله ، فليس في ارجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلّم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر ، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله. الخامس : أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون ، فان الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فاخبر الله تعالى ان الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا باذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 377
(1/1265)
المسألة الثانية : اخلفوا في تفسير الاذن على أقوال : الأول : أن يكون الاذن هو الامر وهو قول أبي مسلم ، والمعنى ان الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الارواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر. الثاني : ان المراد من هذا الاذن ما هو المراد بقوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد ، لانه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا الله تعالى ، فاذن المراد : أن نفسا لن تموت الا بما أماتها الله تعالى. الثالث : أن يكون الاذن هو التخلية والاطلاق وترك المنع بالقهر والاجبار ، وبه فسر قوله تعالى : {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } (البقرة : 102) أي بتخليته فانه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر ، فيكون المعنى : ما كان لنفس أن تموت الا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول ، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به ، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي الى الاجل الذي كتبه الله له ، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل. الرابع : أن يكون الاذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه ، واذا جاء ذلك الوقت لزم الموت ، كما قال {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةًا وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (النحل : 61) الخامس : قال ابن عباس : الاذن هو قضاء الله وقدره ، فانه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل ، كانه فعل لا ينبغي لاحد أن يقدم عليه إلا باذن الله.
/ المسألة الثالثة : قال الاخفش والزجاج : اللام في {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} معناها النفي ، والتقدير وما كانت نفس لتموت الا باذن الله.
المسألة الرابعة : دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله ، وأن تغيير الآجال ممتنع.
وقوله تعالى : {كِتَـابًا مُّؤَجَّلا } فيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {كِتَـابًا مُّؤَجَّلا } منصوب بفعل دل عليه ما قبله فان قوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} قام مقام أن يقال : كتب الله ، فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله : {كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } لأن في قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} (النساء : 23) دلالة على انه كتب هذا التحريم عليكم ومثله : صنع الله ، ووعد الله ، وفطرة الله ، وصبغة الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 377
المسألة الثانية : المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال ، ويقال : انه هو اللوح المحفوظ ، كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم "اكتب فكتب ما هو كائن الى يوم القيامة".
واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى ، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا ، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا ، وكل ذلك محال ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت ان الكل بقاء الله وقدره. وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق ، وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام "فحج آدم موسى" قال القاضي : أما الأجل والرزق فهما مضافان الى الله ، وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف الى العبد ، فاذا كتب تعالى ذلك فانما يكتب بعلمه من اختيار العبد ، وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح.
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الاشكال ، وذلك لانا نقول : إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر ، فلو أتى بالايمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين ، لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا كان موضع الالزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك الى الكلمات الأجنبية عن هذا الالزام.
وأما قوله تعالى : {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِه مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ} .
فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين ، منهم من يريد الدنيا ، ومنهم من يريد الآخرة / كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة ، فالذين حضروا القتال للدنيا ، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء ، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا ، والذين حضروا للدين ، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل الى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك ، وتقريره قوله عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات" الى آخر الحديث.
(1/1266)
واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة ، لكنها عامة في جميع الأعمال ، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب ، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال ، فان من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه ، فان قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الاسلام ، وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر. وروى أبو هريرة عنه عليه السلام ان الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله "في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك" ثم ان الله تعالى يأمر به الى النار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 377
379
واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه قال للمنهزمين يوم أحد : إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة ، فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار ، فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير "وكائن" على وزن كاعن ممدوداً مهموزاً مخففا ، وقرأ الباقون "كأين" مشدوداً بوزن كعين وهي لغة قريش ، ومن اللغة الأولى قول جرير :
وكائن بالأباطح من صديق
يراني لو أصيب هو المصاب
وأنشد المفضل :
وكائن ترى في الحي من ذي قرابة.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (قتل معه) والباقون (قاتل معه) فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم ، بل استمروا / على جهاد عدوهم ونصرة دينهم ، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا. قال القفال رحمه الله : والوقف على هذا التأويل على قوله : (قتل) وقوله : (معه ربيون) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون ، أو يكون على معنى التقديم والتأخير ، أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوهم ، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك ، وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم ، وقد قال تعالى : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن} (آل عمران : 144) فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم ، ومن قرأ (قاتل معه) فالمعنى : وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا ، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله ، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد. وحجة هذه القراءة ان المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في القتال ، فوجب أن يكون المذكور هو القتال. وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال : ما سمعنا بنبي قتل في القتال.
جزء : 9 رقم الصفحة : 379
المسألة الثالثة : قال الواحدي رحمه الله : أجمعوا على أن معنى "كأين" كم ، وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم ، ونظيره قوله : {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا} (الحج : 45) {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} (الحج : 48) والكافي في "كأين" كاف التشبيه دخلت على "أي" التي هي للاستفهام كما دخلت على "ذا" من "كذا" و"أن" من كأن ، ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا ، تقول : لي عليه كذا وكذا : معناه لي عليه عدد ما ، فلا معنى للتشبيه ، الا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها ، واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ، وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير.
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" : الربيون الربانيون ، وقرىء بالحركات الثلاث والفتح على القياس ، والضم والكسر من تغييرات النسب. وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال : الربيون : الأولون ، وقال الزجاج : هم الجماعات الكثيرة ، الواحد ربي ، قال ابن قتيبة : أصله من الربة وهي الجماعة/ يقال : ربي كأنه نسب الى الربة. وقال الأخفش : الربيون الذين يعبدون الرب ، وطعن فيه ثعلب ، وقال : كان يجب أن يقال : ربي ليكون منسوبا الى الرب ، وأجاب من نصر الأخفش وقال : العرب إذا نسبت شيئاً الى شيء غيرت حركته ، كما يقال : بصري في النسب الى البصرة ، / ودهري في النسبة الى الدهر ، وقال ابن زيد : الربانيون الأئمة والولاة ، والربيون الرعية ، وهم المنتسبون الى الرب.
(1/1267)
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين : أولا بصفات النفي ، وثانيا بصفات الاثبات ، أما المدح بصفات النبي فهو قوله تعالى : {فَمَا وَهَنُوا لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا } ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة ، قال صاحب "الكشاف" : ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو ، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار ، عند الارجاف بقتل رسولهم ، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين ، واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أبي ، وطلب الأمان من أبي سفيان ، ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم ، ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم ، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم ، والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم ، وفيه وجه ثالث وهو ان الوهن ضعف يلحق القلب. والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم ، والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف ، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة ، قال الواحدي : الاستكانة الخضوع ، وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 379
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ} والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فان الله يحبه ، ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه ، والحكم له بالثواب والجنة ، وذلك نهاية المطلوب.
ثم انه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال :
جزء : 9 رقم الصفحة : 379
381
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى ، والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف.
المسألة الثانية : بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب / الامداد والاعانة من الله ، والغرض منه أن يقتدى بهم في هذه الطريقة أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فان من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل ، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب ، قال القاضي : إنما قدموا قولهم : {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين ، فاذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو ، دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ؛ فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ، فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله : {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} فدخل فيه كل الذنوب ، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر ، ثم انهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله : {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} لان الاسراف في كل شيء هو الافراط فيه ، قال تعالى : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ} (الزمر : 53) وقال : {فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } (الإسراء : 33) وقال : {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف : 31) ويقال : فلان مسرف اذا كان مكثرا في النفقة وغيرها ، ثم انهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم ، وذلك بازالة الخوف عن قلوبهم ، وازالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم ، ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين ، لان هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم ، وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم ، واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم ، مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم ، ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم ، ثم قال القاضي : وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالادعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 381
382
واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر ، وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال : {فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } وفيه مسائل :
(1/1268)
المسألة الأولى : قوله : {فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ} يقتضي أنه تعالى أعطاهم الامرين ، أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الايمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات ، وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم ، وذلك غير حاصل في الحال ، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة ، فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول ، كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال ، أو يحمل قوله : {فَأَتَـاـاهُمُ} على أنه سيؤتيهم على قياس قوله : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ} أي سيأتي أمر الله. قال/ القاضي : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء ، وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك ، فانه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء.
المسألة الثانية : خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم ، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن ، فما خصه الله بانه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه ، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها ، منقطعة زائلة ، قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة : 83) أي حسنا ، والغرض منه المبالغة كأن تلك الاشياء الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن ، كما يقال : فلان جود وكرم ، إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال فيما تقدم : {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِه مِنْهَا } (آل عمران : 145) فذكر لفظة "من" الدالة على التبعيض فقال في الآية : {فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } ولم يذكر كلمة "من" والفرق : أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة ، وأما المذكورون في هذه الآية فانهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور ، وهو المراد من قوله : {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} (آل عمران : 147) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم ، وهو المراد بقوله : {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} (آل عمران : 147) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال ، فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب ، وهؤلاء فازوا بالكل ، وأيضا أولئك أرادوا الثواب ، وهؤلاء ما أرادوا الثواب. وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا ، ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 382
ثم قال : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا : {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين ، كأن الله تعالى يقول لهم :
إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي ، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز. وأيضا : انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى ، فعند ذلك سماهم بالمحسنين ، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن ، الا اذا أعطاه الله ذلك الفعل / الحسن وأعانه عليه ، ثم إنه تعالى قال : {هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ} (الرحمن : 60) وقال : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس : 26) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد ، ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد ان الكل من الله وباعانة الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 382
383
واعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول ، وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي صلى الله عليه وسلّم قد قتل ، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين الى الكفر ، منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات الى كلام أولئك المنافقين. فقال : {الْمُحْسِنِينَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا } وفي الآية مسائل :
(1/1269)
المسألة الأولى : قيل : {إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا } المراد أبو سفيان ، فانه كان كبير القوم في ذلك اليوم ، قال السدي : المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن ، وقال آخرون : المراد عبدالله بن أبي وأتباعه من المنافقين ، وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة ، وإنما هو رجل كسائر الناس ، يوما له ويوما عليه ، فارجعوا الى دينكم الذي كنتم فيه ، وقال آخرون : المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود ، وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ، ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة ، والأقرب أنه يتناول كل الكفار ، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ.
المسألة الثانية : قوله : {إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا } لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل : ان تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الاسلام ، وقيل : ان تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال ، وقيل في المشورة ، وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم : (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).
ثم قال : {يَرُدُّوكُمْ عَلَى ا أَعْقَـابِكُمْ} يعني يردوكم الى الكفر بعد الإيمان ، لأن قبول قولهم في الدعوة الى الكفر كفر.
/ ثم قال : {فَتَنقَلِبُوا خَـاسِرِينَ} .
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة ، أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه ، وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 383
ثم قال تعالى : {بَلِ اللَّهُ مَوْلَـاـاـكُم وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ} والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل ، لأنهم عاجزون متحيرون ، والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى ، لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده ، ثم بين أنه خير الناصرين ، ولو لم يكن المراد بقوله : {مَوْلَـاـاـكُم وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ} النصرة ، لم يصح أن يتبعه بهذا القول ، وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه : الأول : أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد ، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك ، والكريم الذي لا يبخل في جوده ، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه ، والثاني : أنه ينصرك في الدنيا والآخرة ، وغيره ليس كذلك ، والثالث : أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة ، كما قال : {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (الأنبياء : 42) وغيره ليس كذلك.
واعلم أن قوله : {وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ} ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك ، لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27).
جزء : 9 رقم الصفحة : 383
384
اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره ، فانه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار ، ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار ، ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد ، أو هو عام في جميع الأوقات ؟
قال كثير من المفسرين : إنه مختص بهذا اليوم ، وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما / وردت في هذه الواقعة ، ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين : الأول : أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم ، فتركوهم وفروا منهم من غير سبب ، حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل ، وقال : أين ابن أبي كبشة ، وأين ابن أبي قحافة ، وأين ابن الخطاب ، فأجابه عمر ، ودارت بينهما كلمات ، وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم ، والثاني : أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا في بعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا الأكثرين منهم ، ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم.
والقول الثاني : أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد ، بل هو عام. قال القفال رحمه الله : كأنه قيل انه وان وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار ، ويظهر دينكم على سائر الأديان. وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الاسلام قاهراً لجميع الأديان والملل ، ونظير هذه الآية قوله عليه السلام "نصرت بالرعب مسيرة شهر".
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر والكسائي {الرُّعْبَ} بضم العين ، والباقون بتخفيفها في كل القرآن ، قال الواحدي : هما لغتان ، يقال : رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب ، ويجوز أن يكون الرعب مصدرا ، والرعب اسم منه.
(1/1270)
المسألة الثالثة : الرعب : الخوف الذي يحصل في القلب ، وأصل الرعب الملء ، يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار ، وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا.
المسألة الرابعة : ظاهر قوله : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار ، فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره ، لأنه لا أحد يخالف دين الاسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين ، إما في الحرب ، وإما عند المحاجة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
وقوله تعالى : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار ، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه ، وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار.
أما قوله : {بِمَآ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} فاعلم أن "ما" مصدرية ، والمعنى : بسبب إشراكهم بالله.
واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الاجابة عند الاضطرار كما قال : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النحل : 62) ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار ، لأنه يقول : / إن كان هذا المعبود لا ينصرني ، فذاك الآخر ينصرني ، وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة ، وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه ، فثبت أن الاشراك بالله يوجب الرعب.
أما قوله : {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه سُلْطَـانًا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : السلطان ههنا هو الحجة والبرهان ، وفي اشتقاقه وجوه : الأول : قال الزجاج : إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج ، وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق. الثاني : أن السلطان في اللغة هو الحجة ، وإنما قيل للأمير سلطان ، لأن معناه أنه ذو الحجة. الثالث : قال الليث : السلطان القدرة ، لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك : قوته وقدرته ، ويسمى البرهان سلطاناً لقوته على دفع الباطل. الرابع : قابل ابن دريد : سلطان كل شيء حدته ، وهو مأخوذ من اللسان السليط ، والسلاطة بمعنى الحدة.
المسألة الثانية : قوله : {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِه سُلْطَـانًا } يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره ، إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا ، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه ، وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون : أن هذا مما لا دليل علي فلم يجز إثباته ، ومنهم من يبالغ فيقول : لا دليل عليه فيجب نفيه ، ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع ، فقال : لا سبيل إلى اثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه ، ويكفي في دفع هذه الحاجة اثبات الصانع الواحد ، فما زاد عليه لا سبيل إلى اثباته فلم يجز اثباته.
المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على فساد التقليد ، وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه ، فوجب أن يكون القول به باطلا ، وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا ، فيلزم فساد القول بالتقليد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
ثم قال تعالى : {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } .
واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم ، وبين أحوالهم في الآخرة ، وهي أن مأواهم ومسكنهم النار.
ثم قال : {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ} المثوى : المكان الذي يكون مقر الانسان ومأواه ، من قولهم : ثوى يثوي ثويا ، وجمع المثوى مثاوي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
0
(1/1271)
/ اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه : الأول : أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى هذه الآية. الثاني : قال بعضهم كان النبي صلى الله عليه وسلّم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد ، وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَه } يريد تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلّم. الثالث : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى : {بَلَى ا إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم} (آل عمران : 125) إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط الصبر والتقوى. والرابع : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُه ا } إلا أن هذا أيضاً مشروط بشرط. والخامس : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله : {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (آل عمران : 151) والسادس : قيل : الوعد هو ان النبي صلى الله عليه وسلّم قال للرماة : "لا تبرحوا من هذا المكان ، فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان" السابع : قال أبو مسلم : لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد ، فانه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم ، وفى الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة ، فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط.
إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الصدق يتعدى إلى مفعولين ، تقول : صدقته الوعد والوعيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
المسألة الثانية : قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي صلى الله عليه وسلّم جعل أحدا خلف ظهره / واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل ، وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا ، سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم ، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يحسونهم ، قال الليث : الحس : القتل الذريع ، تحسونهم : أي تقتلونهم قتلا كثيرا ، قال أبو عبيد ، والزجاج ، وابن قتيبة : الحس : الاستئصال بالقتل ، يقال : جراد محسوس. إذا قتله البرد. وسنة حسوس : إذا أتت على كل شيء ، ومعنى "تحسونهم" أي تستأصلونهم قتلا ، قال أصحاب الاشتقاق : "حسه" إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل ، كما يقال : بطنه إذا أصاب بطنه ، ورأسه ، إذا أصاب رأسه ، وقوله : {بِإِذْنِه } أي بعلمه ، ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم ، فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة.
أما قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـازَعْتُمْ فِى الامْرِ وَعَصَيْتُم مِّنا بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول ظاهر قوله : {حَتَّى ا إِذَا فَشِلْتُمْ} بمنزلة الشرط ، ولا بد له من الجواب فأين جوابه ؟
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين : الأول : أن هذا ليس بشرط ، بل المعنى ، ولقد صدقكم الله وعده حتى إذا فشلتم ، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع ، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة ، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر ، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله : {حَتَّى ا إِذَآ} إلى أن ، أو إلى حين.
الطريق الثاني : أن يساعد على أن قوله : {حَتَّى ا إِذَا فَشِلْتُمْ} شرط ، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه : الأول : وهو قول البصريين أن جوابه محذوف ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره ، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَه } عليه ، ونظائره في القرآن كثيرة ، قال تعالى : {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى الارْضِ أَوْ} (الأنعام : 35) والتقدير : فافعل ، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه ، وقال : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ} (الزمر : 9) والتقدير : أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك ؟
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
(1/1272)
الوجه الثاني : وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء : أن جوابه هو قوله : {وَعَصَيْتُم} والواو زائدة كما قال : {فَلَمَّآ أَسْلَمَا وَتَلَّه لِلْجَبِينِ * وَنَـادَيْنَـاهُ} (الصافات : 103 ـ 104) والمعنى ناديناه ، كذا ههنا ، الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان ، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم ، فالواو زائدة ، وبعض / من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب "حتى إذا" بدليل قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} (الزمر : 71) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها.
فان قيل : إن فشلتم وتنازعتم معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد.
قلنا : المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان ، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان ، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه.
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة.
الوجه الثالث في الجواب : أن يقال تقدير الآية : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون ، صرتم فريقين ، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة.
فالجواب : هو قوله : صرتم فريقين ، إلا أنه أسقط لأن قوله : {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخِرَةَ } يفيد فائدته ويؤدي معناه ، لأن كلمة "من" للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام ، وهذا احتمال خطر ببالي.
الوجه الرابع : قال أبو مسلم : جواب قوله : {حَتَّى ا إِذَا فَشِلْتُمْ} هو قوله : {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة "ثم" ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد. والله أعلم.
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة : أولها : الفشل وهو الضعف ، وقيل الفشل هو الجبن ، وهذا باطل بدليل قوله تعالى : {وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا } (الأنفال : 46) أي فتضعفوا ، لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا. ثانيها : التنازع في الأمر وفيه بحثان.
البحث الأول : المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة ، وجعل أميرهم عبدالله بن جبير ؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون/ ثم ان الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن ، فقالوا الغنيمة الغنيمة ، فقال عبدالله : عهد الرسول الينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا الى طلب الغنيمة ، وبقي عبدالله مع طائفة قليلة دون العشرة الى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
البحث الثاني : قوله : {فِى الامْرِ } فيه وجهان : الأول : أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة ، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن. والثاني : أنه الأمر الذي يضاده النهي. والمعنى : وتنازعتم فيما أمركم / الرسول به من ملازمة ذلك المكان. وثالثها : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. بقي في هذه الآية سؤالات : الأول : لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية ؟
والجواب : ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا : هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ؟
ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة.
السؤال الثاني : لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام ؟
والجواب : هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده ، وهو قوله : {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخِرَةَ } .
السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله : {مِّنا بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } .
والجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم.
(1/1273)
ثم قال تعالى : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية ، وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه الى نفسه ؟
أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم ، لأن مذهبهم أن الخير والشر بارادة الله وتخليقه ، فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار ، وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم ، وهذا قول جمهور المفسرين. قالت المعتزلة : هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل ، أما القرآن فهو قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } (آل عمران : 155) فأضاف ما كان منهم الى فعل الشيطان ، فكيف يضيفه بعد هذا الى نفسه ؟
وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ، ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل : الأول : قال الجبائي : ان الرماة كانوا فريقين ، بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك ، ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو ، فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع الى موضع يتحرزون فيه عن العدو ، ألا ترى أن النبي/ صلى الله عليه وسلّم ذهب الى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به ولم يكونوا عصاة بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الى نفسه بمعنى أنه كان بامره وإذنه ، ثم قال : {لِيَبْتَلِيَكُمْ } والمراد أنه تعالى لما صرفهم الى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين ، ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام ، وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
فان قيل : فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين/ فلم قال : {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } .
قلنا : الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن ، وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} راجع الى المعذورين ، لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم الى القسم الذي يليق به ، ونظيره قوله تعالى : {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَيْهِ} (التوبة : 40) والمراد الذي قال له : {لا تَحْزَنْ} وهو أبو بكر ، لأنه كان خائفا قبل هذا القول ، فلما سمع هذا سكن ، ثم قال : {وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} (التوبة : 40) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر ، لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا ، فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام.
والوجه الثاني : ما ذكره أبو مسلم الاصفهاني ، وهو ان المراد من قوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ، ثم قال : {لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى الله وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة ، ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم.
والوجه الثالث : قال الكعبي : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {لِيَبْتَلِيَكُمْ } بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم ، فهذا ما قيل في هذا الموضع والله أعلم.
ثم قال : {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم. قال القاضي : إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر ، فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة.
واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة ، لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين ، وقتل جمع عظيم من أكابرهم ، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا : ظاهر قوله تعالى : {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه } (الأنفال : 16) يدل على كونه كبيرة ، وقول من قال : إنه خاص / في بدر ضعيف ، لأن اللفظ عام ، ولا تفاوت في المقصود ، فكان التخصيص ممتنعا ، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة ، لأن التوبة غير مذكورة ، فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر ، وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك ، فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
(1/1274)
ثم قال : {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا ، ثم بالعفو عن المذنبين ثانياً. وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن ، لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان من الكبائر ، ثم انه تعالى سماهم المؤمنين ، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة ، والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
0
فيه قولان :
أحدهما : أنه متعلق بما قبله ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : أحدها : كأنه قال وعفا عنكم اذ تصعدون ، لأن عفوه عنهم لا بد وان يتعلق بأمر اقترفوه ، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله : {إِذْ تُصْعِدُونَ} والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها : التقدير : ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون. وثالثها : التقدير : ليبتليكم اذ تصعدون.
والقول الثاني : أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله ، والتقدير : اذكر اذ تصعدون وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُانَ عَلَى } ، وقرأ أبي {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُانَ عَلَى ا أَحَدٍ} وقرأ أبو حيوة {إِذْ تُصْعِدُونَ} بفتح التاء وتشديد العين ، من تصعد في السلم.
المسألة الثانية : الاصعاد : الذهاب في الأرض والابعاد فيه ، يقال صعد في الجبل ، وأصعد في/ الأرض ، ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة ، قال أبو معاذ النحوي : كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والإزقة ، فانك تقول : صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله الى أعلاه ، وأما ما ارتفع كالسلم فانه يقال صعدت.
المسألة الثالثة : ولا تلوون على أحد : أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب ، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته ، فاذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه ، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات الى الشيء ، يقال : فلان لا يلوي على شيء ، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به.
ثم قال تعالى : {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} كان يقول : "الى عباد الله أنا رسول الله من كر فله الجنة" فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ، ولا يتفرقوا ، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو.
ثم قال : {فِى أُخْرَاـاكُمْ} أي آخركم ، يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما يقال : في أولهم وأولاهم ، ويقال : جاء فلان في أخريات الناس ، أي آخرهم ، والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم ، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
ثم قال : {فَأَثَـابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير ، ويجوز أيضا استعماله في الشر ، لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب اليه عقله ، أي رجع اليه ، قال تعالى : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} (البقرة : 125) والمرأة تسمى ثيباً لأن الواطىء عائد اليها ، وأصل الثواب كل ما يعود الى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا ، الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير ، فان حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم ، كما يقال : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف ، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة : 34 ، الإنشقاق : 24).
(1/1275)
المسألة الثانية : الباء في قوله : {غَمَّا بِغَمٍّ} يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة ، كما يقال : هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى "مع" والتقدير : أثابهم غما مع غم ، أما على التقدير الأول ففيه وجوه : الأول : وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره ، فالله تعالى أذاقكم هذا الغم ، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب ، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. الثاني : قال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم / بدر للمشركين ، والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا ، فلا تفرحوا باقبالها ولا تحزنوا بادبارها ، وهو المعنى بقوله : {لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} في واقعة أحد {وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } (الحديد : 23) في واقعة بدر ، طعن القاضي في هذا الوجه وقال : إن غمهم يوم أحد انما كان من جهة استيلاء الكفار ، وذلك كفر ومعصية ، فكيف يضيفه الله إلى نفسه ؟
ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة ، وهو أن لا يفرحوا باقبال الدنيا ولا يحزنوا بادبارها ، فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله. الثالث : يجوز أن يكون الضمير في قوله {فَأَثَـابَكُمْ} يعود للرسول ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلّم شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه ، اغتموا لأجله ، والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة ، وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم ، فكان المراد من قوله {فَأَثَـابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ} هو هذا ، أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله : {غَمَّا بِغَمٍّ} بمعنى "مع" أي غما مع غم ، أو غما على غم ، فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض ، تقول : ما زلت به حتى فعل ، وما زلت معه حتى فعل ، وتقول : نزلت ببني فلان ، وعلى بني فلان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة : فأحدها : غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال. وثانيها : غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك ، وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية ، ورابعها : ما أرجف به من قتل الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وخامسها : بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها ، وسادسها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام ، وذلك من أشق الأشياء ، لأن الانسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جباناً ، فاذا أمر بالمعاودة ، فان فعل خاف القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر أو عقاب الآخرة ، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان ، وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها :
الوجه الأول : أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة.
الوجه الثاني : ان الغم الأول ما حصل بسب فوت الغنائم ، والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيما.
الوجه الثالث : أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا / الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول.
والوجه الرابع : أن الغم الأول ما وصل اليهم بسبب أنفسهم وأموالهم ، والغم الثاني ما وصل اليهم بسبب الارجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلّم ، وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه الله تعالى قال : وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله : {غَمَّا بِغَمٍّ} اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي ان الله عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل اخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم/ ومثل إقدامكم على المعصية ، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى.
(1/1276)
المسألة الثالثة : معنى أن الله أثابهم غم بغم : أنه خلق الغم فيهم ، وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم ، فذكروا في علة هذه الاضافة وجوها : الأول : قال الكعبي : ان المنافقين لما أرجفوا أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل ، صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم ، وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب ، فاذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فانه يقول له : لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئاً من ذلك ، بل سكت وكف عن اعلامه ، فكذا ههنا. الثاني : أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى ، لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. الثالث : أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
ثم قال تعالى : {لِّكَيْلا تَحْزَنُوا } وفيه وجهان : الاول : انها متصلة بقوله : {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } (آل عمران : 152) كأنه قال : ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا ، لان في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن ، والثاني : أن اللام متصلة بقوله : {فَأَثَـابَكُمْ} ثم على هذا القول ذكروا وجوها : الأول : قال الزجاج : المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي صلى الله عليه وسلّم بسبب مخالفته ، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط ، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة ، وذلك لان الغم الحاصل بسبب الاقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا. الثاني : قال الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر ، لاجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها ، وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله : {غَمَّا بِغَمٍّ} للمجازاة ، أما اذا قلنا انها بمعنى "مع" فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة ، فاعلموا أنكم / لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة ، والعاقل اذا تعارض عنده الضرران ، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع ، فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة ، وزاجراً لكم عن ذلك ، ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا ، زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال : {وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ} أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادر على مجازاتها ، ان خيرا فخير وان شرا فشر ، وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
0
في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين ، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين ، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم / ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين. الثاني : أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا ، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم ، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه.
واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد فريقان : أحدهما : الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان ، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال ، فلا جرم كانوا آمنين ، وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس ، فان النوم لا يجيء مع الخوف ، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية ، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنا بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} وقال في قصة بدر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} (الأنفال : 11) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس ، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة ، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام ، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة ، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم ، ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين ، فقال في صفة المؤمنين : {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنا بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} وفيه مسائل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
المسألة الأولى : قال الواحدي : "الأمنة" مصدر كالامن ، ومثله من المصادر : العظمة والغلبة ، وقال الجبائي : يقال : أمن فلان يأمن أمناً وأماناً.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : قرىء (أمنة) بسكون الميم ، لأنها المرة من الأمن.
(1/1277)
المسألة الثالثة : في قوله تعالى : {نُّعَاسًا} وجهان : أحدهما : أن يكون بدلا من أمنة ، والثاني : إن يكون مفعولا ، وعلى هذا التقدير ففي قوله : {ءَامِنَةً} وجوه : أحدها : أن تكون حالا منه مقدمة عليه ، كقولك : رأيت راكباً رجلا ، وثانيها : أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة ، وثالثها : أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة.
ثم قال تعالى : {يَغْشَى طَآاـاِفَةً مِّنكُمْ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة ، غشينا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه. ثم يسقط فيأخذه ، وعن الزبير قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم حين اشتد الخوف/ فأرسل الله علينا النوم ، وإني لأسمع قول معتب بن قشير : والنعاس يغشاني يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا / ههنا. وقال عبد الرحمن بن عوف : ألقى النوم علينا يوم أحد ، وعن ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان ، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد : أحدها : أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد ، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلّم ، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده ، وثانيها : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة ، وثالثها : أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم ، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم ، ورابعها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم ، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى ، ومن الناس من قال : ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن ، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض ، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي بالتاء رداً إلى الأمنة ، والباقون بالياء رداً ، إلى النعاس ، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد.
واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر ، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت ، كقوله تعالى : {الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ} (الدخان : 43 ـ 45) وتغلي ، إذا عرفت جوازهما فنقول : مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة ، والنعاس بدل ، ورد الكناية إلى الأصل أحسن ، وأيضاً الأمنة هي المقصود ، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه ، فان الخائف لا يكاد ينعس ، وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي ، فان العرب يقولون غشينا النعاس ، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة ، وأيضاً فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله : {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} (الأنفال : 11) وأيضاً : النعاس يلي الفعل ، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى.
ثم قال تعالى : {وَطَآاـاِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} وفيه مسألتان.
المسألة الأولى : هؤلاء هم المنافقون عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما ، كان همهم / خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء أي كان من همي وقصدي ، قال أبو مسلم : من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف ، قد أهمته نفسه ، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم ، وقيل المؤمنون ، كان همهم النبي صلى الله عليه وسلّم وإخوانهم من المؤمنين ، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه : أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه ، صار غافلا عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه ، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها ، فهذا هو المراد من قوله : {أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم ، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم ، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم.
المسألة الثانية : "طائفة" رفع بالابتداء وخبره "يظنون" وقيل خبره "أهمتهم أنفسهم" ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات.
الصفة الأولى : من صفاتهم قوله تعالى : {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَـاهِلِيَّةِ } وفيه مسائل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
(1/1278)
المسألة الأولى : في هذا الظن احتمالان : أحدهما : وهو الأظهر : هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد ، أما على قول أهل السنة والجماعة ، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه ، فان النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها ، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى ، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية ، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه ، فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم ، بحيث يقهر الكافر المسلم ، حكم خفية وألطاف مرعية ، فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء ، ووجوه المصالح مستورة عن العقول ، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن ، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين. قال القفال : لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر ، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب ، بل الانسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات ، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ، ومن المحق للمبطل ، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق. الثاني : أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة والبعث ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلّم في أن الله يقويهم وينصرهم.
/ المسألة الثانية : {غَيْرِ} في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به (وظن الجاهلية) بدل منه ، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق : أديان كثيرة ، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية ، فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا ، وهو ظن أهل الجاهلية ، كما يقال : فلان دينه ليس بحق ، دينه دين الملاحدة.
المسألة الثالثة : في قوله : {الْحَقِّ ظَنَّ الْجَـاهِلِيَّةِ } قولان : أحدهما : أنه كقولك : حاتم الجود ، وعمر العدل ، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية ، والثاني : المراد ظن أهل الجاهلية.
الصفة الثانية : من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى : {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍا قُلْ إِنَّ الامْرَ كُلَّه لِلَّه } .
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
واعلم أن قوله) {هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍ } حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها ، وهو يحتمل وجوها : الأول : أن عبدالله بن أبي لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم ان الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلّم في أن يخرج اليهم ، فغضب عبدالله بن أبي من ذلك ، فقال عصاني وأطاع الولدان ، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبدالله بن أبي قيل له : قتل بنو الخزرج ، فقال : هل لنا من الأمر من شيء ، يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ، ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } (آل عمران : 168) والمعنى : هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار.
الوجه الثاني في التأويل : أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا : عليه الأمر ، فقوله : {هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍ } أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد ، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار ، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته ، وهذا استفهام على سبيل الانكار. الثالث : أن يكون التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ، ثم ان الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله : {قُلْ إِنَّ الامْرَ كُلَّه لِلَّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو (كله) برفع اللام ، والباقون بالنصب ، أما وجه الرفع فهو أن قوله : (كله) مبتدأ وقوله : (لله) خبره ، ثم صارت هذه الجملة خبراً لان ، وأما النصب فلان لفظة "كل" للتأكيد ، فكانت كلفظة أجمع ، ولو قيل : ان الأمر أجمع ، لم يكن إلا النصب ، فكذا إذا قال "كله".
/ المسألة الثانية : الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا : انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الاماتة والاحياء ، والفقر والاغناء والسراء والضراء ، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح ، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة ، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام ، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه.
(1/1279)
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المنافقين قالوا : ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا ، لما وقع في هذه المحنة ، فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله ، وهذا الجواب : إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين ، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا. وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي ، وذلك لأن الموجود ، إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء الى الواجب لذاته ، فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه ، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث ، أو ممكن دون ممكن ، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم ، وذلك هو المراد بقوله : {قُلْ إِنَّ الامْرَ كُلَّه لِلَّه } وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للانصاف.
ثم انه تعالى قال : {يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ } .
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : هل لنا من الأمر من شيء ، وهذا الكلام محتمل ، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين ، وكان غرضه منه إظهار الشفقة ، وانه متى يكون الفرج ؟
ومن أين تحصل النصرة ؟
ولعله كان من المنافقين ، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وفي الاسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني ، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم متحرزا عن مكرهم وكيدهم.
النوع الثالث : من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين ، قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. وفيه إشكال ، وهو أن لقائل أن يقول : ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله : {هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍ } ويمكن أن يجاب عنه من وجهين : الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم : {هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍ } فأجاب عنه بقوله : {الامْرَ كُلَّه لِلَّه } واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا ، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله ، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال / فان السني يقول : الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد الله ، فيقول المعتزلي : ليس الأمر كذلك ، فان الانسان مختار مستقل بالفعل ، ان شاء آمن ، وإن شاء كفر ، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : {هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍ } هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ، ويكون المراد من قوله : {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـاهُنَا } هو ما كان يقوله عبدالله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول من الجواب : قوله : {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير ، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات ، لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل ، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا ؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه الى إيجاد الله تعالى ، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا ، وكل ذلك محال ، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله : {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} وهذه الكلمة تفيد الوجوب ، فان هذه الكلمة في قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) تفيد وجوب الفعل ، وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل ، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق. ثم نقول للمفسرين : فيه قولان : الأول : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد ، والثاني : كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم ، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم.
(1/1280)
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة : قوله : {وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ} وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ، ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها ، فقال تعالى : بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة : أن يتميز الموافق من المنافق ، وفي المثل المشهور : لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
فان قيل : لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } (آل عمران : 152).
قلنا : لما طال الكلام أعاد ذكره ، وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والثاني سائر الأحوال.
والوجه الثالث في الجواب : قوله : {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } وفيه وجهان : أحدهما : أن هذه / الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات ، والثاني : أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت ، وذكر في الابتلاء الصدور ، وفي التمحيص القلوب ، وفيه بحث ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور ، وهي الأسرار والضمائر ، وهي ذات الصدور/ لأنها حالة فيها مصاحبة لها ، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته ، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور ، أو غير ذلك ، لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم اما لمحض الالهية ، أو للاستصلاح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 384
397
واعلم أن المراد : أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى ، فذكر محمد بن اسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا ، واختلفوا في المنهزمين ، فقيل : ان بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قتل ، وهو سعد بن عثمان ، ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم ، وجعل النساء يقلن : عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تفرون وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل اغزل به ، ومنهم قال : ان المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال : والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا ، فمنهم من دخل المدينة ، ومنهم من ذهب الى سائر الجوانب ، وأما الاكثرون فانهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك. ومن المنهزمين عمر ، الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد ، بل ثبت على الجبل الى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلّم ، ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلّم "لقد ذهبتم فيها عريضة" وقالت فاطمة لعلي : ما فعل عثمان ؟
فنقصه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "يا علي أعياني أزواج الأخوات / أن يتحابوا" وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم فكانوا أربعة عشر رجلا ، سبعة من المهاجرين ، وسبعة من الانصار ، فمن المهاجرين أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ، ومن الانصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد ابن معاذ ، وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الانصار : أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد. وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السلام غير مودع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة الثانية : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـانُ} أي حملهم على الزلة. وأزل واستزل بمعنى واحد ، قال تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَـانُ عَنْهَا} وقال ابن قتيبة : استزلهم طلب زلتهم ، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله.
المسألة الثالثة : قال الكعبي : الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله ، فانه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى : {هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } (القصص : 15) وكقول يوسف. (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي) وكقول صاحب موسى : (وما أنسانيه إلا الشيطان) (الكهف : 63).
(1/1281)
المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم ، وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية ، لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع/ بأن يكون رغبتهم في الغنيمة ، وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الاخلاص ، وأي ذلك كان ، فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم. وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد ، فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه ، وقرأ هذه الآية.
أما قوله تعالى : {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } ففيه وجهان : أحدهما : أن الباء للالصاق كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين ، والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه ، الأول : قال الزجاج : انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، وإلا بعد الاخلاص في التوبة ، فهذا / خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه. الثاني : انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة ، لأن الذنب يجر الى الذنب ، كما أن الطاعة تجر الى الطاعة. ويكون لطفا فيها. الثالث : لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب.
والوجه الثاني : أن يكون المعنى : استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا ، لا في كل ما كسبوا ، والمراد منه بيان انهم ما كفروا وما تركوا دينهم ، بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
ثم قال تعالى : {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } .
واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر ، فان العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) ثم قالت المعتزلة : ذلك الذنب ان كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة ، وان كان من الكبائر لم يجز الا مع التوبة ، فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم ، وان كان ذلك غير مذكور في الآية ، قال القاضي : والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان : الأول : أنه لا يكاد في الكبائر يقال انها زلة ، إنما يقال ذلك في الصغائر. الثاني : أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق الى ثباتهم في ذلك المكان حاجة ، فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا ، وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز ، فلا حاجة الى هذه التكلفات.
ثم قال تعالى : {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي غفور لمن تاب وأناب ، حليم لا يعجل بالعقوبة. وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به ، لأن من يظلم إنسانا فانه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له ، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
0
/ اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، ثم انه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم ، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج الى الجهاد : لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فان الله هو المحيي والمميت ، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ، ومن قدر له الموت لم يبق وان لم يجاهد ، وهو المراد من قوله : {وَاللَّهُ يُحْىِا وَيُمِيتُ } وأيضا الذي قتل في الجهاد ، لو أنه ما خرج الى الجهاد لكان يموت لا محالة ، فاذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم ، كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة ، وهو المراد من قوله : {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} فهذا هو المقصود من الكلام ، وفي الآية مسائل :
(1/1282)
المسألة الأولى : اختلفوا في المراد بقوله : {كَالَّذِينَ كَفَرُوا } فقال بعضهم : هو على إطلاقه ، فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن ، وقال آخرون : انه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم ، وقال آخرون : هذا مختص بعبدالله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، وسائر أصحابه ، وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الاقرار باللسان ، كما تقول الكرامية : إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمناً ، ولو كان مؤمناً لما سماه الله كافراً.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قوله : {وَقَالُوا لاخْوَانِهِمْ} أي لأجل إخراجهم كقوله : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه } (الأحقاف : 11) وأقول : تقرير هذا الوجه أنهم / لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فهذا يدل على أن أولئك الاخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول ، فوجب أن يكون المراد من قوله : {وَقَالُوا لاخْوَانِهِمْ} هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم ، ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع اخوانهم.
المسألة الثالثة : قوله : {إِخْوَانَهُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه الاخوة في النسب وان كانوا مسلمين ، كقوله تعالى : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } (الأعراف : 65) {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـالِحًا } (الأعراف : 73) فان الاخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا اخوة الدين ، فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فالمنافقون ذكروا هذا الكلام ، ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين ، واتفق الى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك.
المسألة الرابعة : المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد/ وهو المراد بقوله : {إِذَا ضَرَبُوا فِى الارْضِ} والخارج إلى الغزو ، وهو المراد بقوله : {أَوْ كَانُوا غُزًّى} إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو ، وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد ، وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل ، فاذا قيل للمرء : ان تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش ، وان تقحمت أحدهما وصلت الى الموت أو القتل ، فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت ، وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد.
فان قيل : فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه ؟
قلنا : لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر ، لا ما يقرب منه ، وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه ، اذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وان كان غازيا ، فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة الخامسة : في الآية إشكال وهو أن قوله : {وَقَالُوا لاخْوَانِهِمْ} يدل على الماضي ، وقوله : {إِذَا ضَرَبُوا } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما ؟
بل لو قال : وقالوا لاخوانهم إذ ضربوا في الأرض ، أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال.
والجواب عنه من وجوه : الأول : أن قوله : {قَالُوا } تقديره : يقولون فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لاخوانهم كذا وكذا ، وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين : أحدهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ} وقال : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} (الزمر : 30) فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ / الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع.
الفائدة الثانية : انه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الاخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الاخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة ، فهذا هو الجواب المعتمد عندي والله أعلم.
الوجه الثاني في الجواب : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية ، والمعنى أن اخوانهم اذا ضربوا في الارض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وان يقول : قالوا ، فهذا هو المراد بقولنا : خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية.
(1/1283)
الوجه الثالث : قال قطرب : كلمة "اذ" واذا ، يجوز اقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى ، وأقول : هذا الذي قاله قطرب كلام حسن ، وذلك لانا اذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول ، فلأن يجوز اثباتها بالقرآن العظيم ، كان ذلك أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال "اذ" حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة "اذ" من المشابهة الشديدة ؟
وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الالفاظ الواردة في القرآن ، فاذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به ، وأنا شديد التعجب منهم ، فانهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة السادسة : {غُزًّى} جمع غاز ، كالقول والركع والسجد ، جمع قائل وراكع وساجد ، ومثله من الناقص "عفا" ويجوز أيضا : غزاة ، مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي ، ومعنى الغزو في كلام العرب قصد العدو ، والمغزى المقصد.
المسألة السابعة : قال الواحدي : في الآية محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا/ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فقوله : {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } يدل على موتهم وقتلهم/
ثم قال تعالى : {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } وفيه وجهان : الأول : أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم ، مثل ما يقال : ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى : {فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها : الأول : أن أقارب ذلك المقتول اذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ، لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي ، فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في / منعه ، فيعتقد السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه ، أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه ، لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ، فثبت ان تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة.
الوجه الثاني : ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى اخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه ، فاذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء. والفوز بالأماني ، بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة.
الوجه الثالث : ان هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب.
الوجه الرابع : ان المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها ، فرحوا بذلك ، من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة ، فالله تعالى يقول : إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
الوجه الخامس : ان جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر ، وهو المراد بالحسرة ، كقوله : {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا} (الأنعام : 125).
الوجه السادس : انهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا اليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم.
والقول الثاني في تفسير الآية : أن اللام في قوله : {لِيَجْعَلَ اللَّهُ} متعلقة بما دل عليه النهي ، والتقدير : لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ يُحْىِا وَيُمِيتُ } وفيه وجهان : الأول : أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة ، وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، وان علم الله لا يتغير ، وان حكمه لا ينقلب ، وان قضاءه لا يتبدل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت ؟
فان قيل : إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنة من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في / الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليف ، والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته الى نفيه فيكون باطلا.
(1/1284)
الجواب : ان حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة/ بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والوجه الثاني : في تأويل الآية : أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين ، قال : {وَاللَّهُ يُحْىِا وَيُمِيتُ } يريد : يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويميت قلوب أعدائه من المنافقين.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {يَعْمَلُونَ} كناية عن الغائبين ، والتقدير {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِم وَاللَّهُ يُحْىِا وَيُمِيتُا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله : {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا } ولما بعده في قوله : {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
ثم قال تعالى : {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا} .
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين ، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت ، فاذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه ، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت ألبتة ، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة ، وذلك لأن الانسان إذا توجه الى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة ، فاذا مات فكانه تخلص عن العدو ووصل الى المحبوب ، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا ، فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ، ولا شك في كمال سعادة الأول ، وكمال شقاوة الثاني.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة والكسائي (متم) بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، والأولون أخذوه من : مات يمات مت ، مثل هاب يهاب هبت ، وخاف يخاف خفت ، وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة ، وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من ، مات يموت مت : مثل قال يقول قلت.
/ المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : اللام في قوله : {بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ} لام القسم ، بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله ، واللام في قوله : {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} جواب القسم ، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء ، والاصوب عندي أن يقال : هذه اللام للتأكيد ، فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم ، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا ، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل : ان الموت والقتل غير لازم الحصول ، ثم بتقدير أن يكون لازما فانه يستعقب لزوم المغفرة ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه ؟
المسألة الثالثة : قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة ، والباقون بالتاء على وجه الخطاب ، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني ، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
(1/1285)
المسألة الرابعة : إنما قلنا : ان رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه : أحدها : ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فانه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده ، وقد قال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7) وثانيها : هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد ، فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا ، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله : {وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ} (الكهف : 46) ولقوله : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } (النحل : 96) وثالثها : بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد ، لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما ، ومنافع الآخرة ليست كذلك. ورابعها : بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار ، وذلك مما لا يخفي ، وأما منافع الآخرة فليست كذلك. وخامسها : هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر ، بل تنقطع وتفنى ، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل ، كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم ، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال. وسادسها : أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية ، والحسية خسيسة ، والعقلية شريفة ، أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الالهية ، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى : {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} .
فان قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ، ولا خير فيما تجمعون أصلا.
/ قلنا : ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا ، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات ، فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
ثم قال : {وَلَـاـاِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لالَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر الى مغفرة الله ، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر الى الله ، يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم آثار العبادة ، فقال ماذا تطلبون ؟
فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ، ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم ، فقالوا : نطلب الجنة والرحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ، ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون ، فانظر في ترتيب هذه الآيات فانه قال في الآية الأولى : {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ} وهو إشارة الى من يعبده خوفا من عقابه ، ثم قال {وَرَحْمَةً } وهو إشارة الى من يعبده لطلب ثوابه ، ثم قال في خاتمة الآية : {لالَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} وهو إشارة الى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية ، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأنبياء : 19) وقال للمقربين من أهل الثواب : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55) فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه ، واستئناسهم بكرمه ، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته ، وهذا مقام فيه إطناب ، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه.
ولنرجع إلى التفسير : كأنه قيل ان تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة ، ثم تتركونها لا محالة ، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها/ وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله ، ووقوفكم على عتبة رحمة الله ، وتلذذكم بذكر الله ، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
(1/1286)
واعلم أن في قوله : {لالَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} دقائق : أحدها : أنه لم يقل : تحشرون إلى الله بل قال : لالى الله تحشرون ، وهذا يفيد الحصر ، معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره ، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو ، قال تعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر : 16) وقال تعالى : {وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ} (الأنفطار : 19) وثانيها : أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم ، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال / على كمال الرحمة وكمال القهر ، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. وثالثها : إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال : {لالَى اللَّهِ} وهذا ينبهك على أن الالهية تقتضي هذا الحشر والنشر ، كما قال : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } (طه : 15) ورابعها : أن قوله : {تُحْشَرُونَ} فعل ما لم يسم فاعله ، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله ، وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي ، شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدىء ويعيد ، ومنه الانشاء والاعادة ، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة ، ونظيره قوله تعالى : {وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ} (هود : 44) وخامسها : أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم ، وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة ، فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الالهية. وسادسها : أن قوله : {تُحْشَرُونَ} خطاب مع الكل ، فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل ، فيجتمع المظلوم مع الظالم ، والمقتول مع القاتل ، والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور ، كما قال : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} (الأنبياء : 47) فمن تأمل في قوله تعالى : {لالَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية ، وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت ، قال : لأن قوله : {وَلَـاـاِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} يقتضي عطف المقتول على الميت ، وعطف الشيء على نفسه ممتنع.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
0
واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلّم بالتغليط والتشديد ، وإنما خاطبهم بالكلام اللين ، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم ، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد / في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلّم على عفوه عنهم ، وتركه التغليظ عليهم فقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل :
(1/1287)
المسألة الأولى : اعلم أن لينه صلى الله عليه وسلّم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء : 215) وقال : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} ، وقال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم : 4) وقال : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 128) وقال عليه الصلاة والسلام : "لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض الى الله من جهل إمام وخرقه" فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين ، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً. وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه صلى الله عليه وسلّم ، وكان النبي وعلي يغسلان السلاح ، فقالت : ما فعل ابن عفان ؟
أما والله لا تجدونه امام القوم ، فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم ، فقال عليه الصلاة والسلام "مه" وروي أنه قال حيئنذ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ، ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : "لقد ذهبتم فيها عريضة" وروي عن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الاحسان ، كنا مشركين ، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة ، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا ، فما كنا ندخل في الاسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان ، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "إنما أنا لكم مثل الوالد فاذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها" واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران : اعتبار حال القائل ، واعتبار حال الفاعل ، أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية ، كما قال عليه الصلاة والسلام : "الأرواح جنود مجندة" وقال : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة ، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات ، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة ، أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
{نُّورٌ عَلَى نُورٍ } (النور : 35) وقوله : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) وأما في القوة العملية ، فكما وصفه الله بقوله : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كأنها من جنس أرواح الملائكة ، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب/ ولا تتأثر من حب المال والجاه ، فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر ، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات / كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات ، وإذا لم تمل اليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات ، وهذه الخواص نظرية ، وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال. وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام : "من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب" فانه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الالهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب ، وإذا حصل له محبوب لم يأنس به ، لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحداً من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها ، ومتى كان الانسان كذلك كان حسن الخلق ، طيب العشرة مع الخلق ، ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق ، لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق.
(1/1288)
المسألة الثانية : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق ، إنما كان بسبب رحمة الله تعالى ، فنقول : رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين ، فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد ، فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ، فاذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء ، وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله ، فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا ، ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره ، والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد ، لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف ، فقد فعله في حق المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف ، فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله ، لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف ، ووجب إيصاله اليه ، ومتى لم يفعل امتنع ايصاله ، فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة الثالثة : ذهب الأكثرون الى أن (ما) في قوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} صلة زائدة ومثله في القرآن كثير ، كقوله : {عَمَّا قَلِيلٍ} و{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} (ص : 11) {فَبِمَا نَقْضِهِم} (النساء : 155 ، المائدة : 13) {مِنْ خَطَـايَـاهُم} (العنكبوت : 12) قالوا : والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه ، قال تعالى : {فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ} (يوسف : 96) أراد فلما جاء ، فأكد بأن ، وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر ، وههنا يجوز أن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة / ثم انه ما أظهر ألبتة ، تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي ، فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد ، فقيل : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وهذا هو الأصوب عندي.
المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه الصلاة والسلام رحيما بالأمة ، فاذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة الا لله سبحانه ، والذي يقرر ذلك وجوه : أحدها : أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئاً من ذلك/ واذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الافعال لا محالة ، وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله : ان كل رحيم سوى الله تعالى فانه يستفيد برحمته عوضا ، اما هربا من العقاب ، أو طلبا للثواب ، أو طلبا للذكر الجميل ، فاذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية ، فان من رأى حيوانا في الألم رق قلبه ، وتألم بسبب مشاهدته إياه في الالم ، فيخلصه عن ذلك الالم دفعا لتلك الرقة عن قلبه ، فلو لم يوجد شيء من هذه الاعراض لم يرحم ألبتة ، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض ، فلا رحمة إلا لله ، وثالثها : ان كل من رحم غيره فانه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا ، أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء ، إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الاعضاء ، وهي ليست إلا من الله تعالى ، فلا رحمة في الحقيقة إلا لله ، وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما ، قال عليه السلام : "الراحمون يرحمهم الرحمن" وقال في صفة محمد عليه السلام : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (التوبة : 128) ثم قال تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } .
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد صلى الله عليه وسلّم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل.
المسألة الأولى : قال الواحدي : رحمه الله تعالى : الفظ ، الغليظ الجانب السيء الخلق ، يقال : فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ ، وأصله فظظ ، كقوله : حذر من حذرت ، وفرق من فرقت ، الا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب ، وأصله صبب ، وأما "الفض" بالضاد فهو تفريق الشيء ، وانفض القوم تفرقوا ، قال تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَـارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} (الجمعة : 11) ومنه : فضضت الكتاب ، ومنه يقال : لا يفضض الله فاك.
فان قيل : ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب ؟
قلنا : الفظ الذي يكون سيء الخلق ، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء ، فقد/ لا يكون الانسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم ، فظهر الفرق من هذا الوجه.
(1/1289)
المسألة الثانية : ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله الى الخلق ، وهذا المقصود لا يتم إلا اذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه ، وهذا المقصود لا يتم إلا اذا كان رحيما كريما ، يتجاوز عن ذنبهم ، ويعفو عن إساءتهم ، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق ، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب ، بل يكون كثير الميل الى إعانة الضعفاء ، كثير القيام باعانة الفقراء ، كثير التجاوز عن سيآتهم ، كثير الصفح عن زلاتهم ، فلهذا المعنى قال : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة. وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } يوم أحد حين عادوا اليك بعد الانهزام {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك ، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم.
المسألة الثالثة : اللين والرفق انما يجوز اذا لم يفض الى إهمال حق من حقوق الله ، فأما اذا أدى الى ذلك لم يجز ، قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَـاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } (التوبة : 73) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا : {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} (النور : 2).
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
وههنا دقيقة أخرى : وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية ، وأمره بالغلظة في قوله : {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين ، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين ، فهو كقوله : {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (المائدة : 54) وقوله : {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح : 29) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان ، والفضيلة في الوسط ، فورود الامر بالتغليظ تارة ، وأخرى بالنهي عنه ، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط ، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم ، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143).
ثم قال تعالى : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء : أولها : بالعفو عنهم وفيه مسائل.
المسألة الأولى : ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى ، قال عليه السلام : "تخلقوا بأخلاق الله" ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : (فاعف عنهم) فيما يتعلق بحقك (واستغفر لهم) فيما يتعلق بحق الله تعالى.
المسألة الثالثة : ظاهر الأمر للوجوب ، والفاء في قوله تعالى : {فَاعْفُ عَنْهُمْ} يدل على التعقيب ، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال ، وهذا يدل على كمال الرحمة الالهية حيث عفا هو عنهم ، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم.
واعلم أن قوله : {فَاعْفُ عَنْهُمْ} إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم اليه فقال تعالى : {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين. وثانيها : قوله تعالى : {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر ، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى : {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه } إلى قوله : {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} (الأنفال : 16) فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ، ثم انه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية بالعفو عنهم ، ثم أمره بالاستغفار لهم ، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ} أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر ، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه اليه ، لأن ذلك لا يليق بالكريم ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمداً صلى الله عليه وسلّم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر ، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى.
(1/1290)
المسألة الثالثة : أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله : {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } (آل عمران : 155) ثم أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم ، كأنه قيل له : يا محمد استغفر لهم فاني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، واعف عنهم فاني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة ، وثالثها : قوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال : شاورهم مشاورة وشواراً ومشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله : {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } (الإسراء : 47) قيل : المشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته/ وقيل مأخوذة من قولهم : شرت الدابة شورا إذا عرضتها ، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشواراً ، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره ، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
المسألة الثانية : الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه : الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلّم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك اهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة. الثاني : أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله ، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فانه عليه السلام قال : "أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم" ولهذا السبب قال عليه السلام : "ما تشاور قوم قط الا هدوا لأرشد أمرهم" الثالث : قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته. الرابع : أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى أن يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر. فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة. الخامس : وشاورهم في الأمر ، لا لتستفيد منهم رأياً وعلما ، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم. السادس : وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج اليهم ، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله ، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات. وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. السابع : لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة ، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق. الثامن : الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده ، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم ، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وان عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة ، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة ، بل أنا أزيد فيها ، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم ، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم ، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك ، والسبب فيه انكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم ، والآن تعولون على فضلي وعفوي ، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك ، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم. والوجوه الثلاثة الأول مذكورة ، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
(1/1291)
المسألة الثالثة : اتفقوا على ان كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس ، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا ؟
قال الكلبي وكثير من العلماء : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته ان الألف واللام في لفظ "الأمر" ليسا للاستغراق ، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق ، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : {وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } مختصا بذلك/ ثم قال القائلون بهذا القول : قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلّم بالنزول على الماء فقبل منه ، فأشار عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما وخرق الصحيفة ، ومنهم من قال : اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي ، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ، ومدح المستنبطين فقال : {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنابِطُونَهُ مِنْهُمْ } (النساء : 83) وكان أكثر الناس عقلا وذكاء ، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاذ إذا لم ينزل عليه الوحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة. وقد شاورهم يوم بدر في الاساري وكان من أمور الدين ، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ، ثم ان ابليس خص نفسه بالقياس وهو قوله : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} (الأعراف : 12) فصار ملعونا ، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب.
المسألة الرابعة : ظاهر الأمر للوجوب فقوله : {وَشَاوِرْهُمْ} يقتضي الوجوب ، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام : "البكر تستأمر في نفسها" ولو أكرهها الأب على النكاح جاز ، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا.
المسألة الخامسة : روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وعندي فيه اشكال ، لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون ، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
ثم قال : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه / بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته ، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور.
المسألة الثانية : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الانسان نفسه ، كما يقوله بعض الجهال ، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الانسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها ، بل يعول على عصمة الحق.
المسألة الثالثة : حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ {فَإِذَا عَزَمْتَ} بضم التاء ، كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل ، وهذا ضعيف من وجهين : الأول : وصف الله بالعزم غير جائز ، ويمكن أن يقال : هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام ، والمعنى وشاورهم في الأمر ، فاذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه. فتوكل علي ، ولا تشاور بعد ذلك أحدا. والثاني : أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن والله أعلم.
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع الى الله تعالى والاعراض عن كل ما سوى الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 397
402
قال ابن عباس : ان ينصركم الله كما نصركم يوم بدر. فلا يغلبكم أحد ، وان يخذلكم كما خذلكم يوم أحد لم ينصركم أحد. وفيه مسائل :
(1/1292)
المسألة الأولى : قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة ، والتحذير عن المعصية ، وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله ، وهو قوله : {بَلَى ا إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة } (آل عمران : 125) ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له ، فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين ، ان من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فانه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه ، ويصير غالبا لا يغلبه أحد ، وأما من أتى بالمعصية فان الله يخذله ، ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها ، وذل لا عز معه.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الايمان لا يحصل الا باعانة الله ، والكفر لا يحصل الا بخذلانه ، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله.
المسألة الثالثة : قرأ عبيد بن عمير {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} من أخذله اذا جعله مخذولا.
المسألة الرابعة : قوله : {مِنا بَعْدِه } فيه وجهان : الأول : يعني من بعد خذلانه ، والثاني : أنه مثل قولك : ليس لك من يحسن اليك من بعد فلان.
ثم قال : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه ، وجب أن لا يتوكل المؤمن الا عليه ، وقوله : {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يفيد الحصر ، أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 402
0
اعلم أنه تعالى لما بلغ في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد. ومن جملتها المنع من الغلول ، فذكر هذه الآية في هذا المعنى وفيها مسائل :
المسألة الأولى : الغلول هو الخيانة ، وأصله أخذ الشيء في الخفية ، يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة ، والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب ، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى ، وقال عليه الصلاة والسلام : "من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه" وقال : "هدايا الولاة غلول" وقال : "ليس على المستعير غير المغل ضمان" وقال : "لا إغلال ولا إسلال" وأيضا يقال : أغله اذا وجده غالا ، كقولك : أبخلته وأفحمته. أي وجدته كذلك.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو (يغل) بفتح الياء وضم الغين ، أي ما كان للنبي أن يخون ، وقرأ الباقون من السبعة "يغل" بضم الياء وفتح الغين ، أي ما كان للنبي أن يخان.
واختلفوا في أسباب النزول ، فبعضها يوافق القراءة الأولى. وبعضها يوافق القراءة الثانية.
/ أما النوع الأول : ففيه روايات : الأولى : أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم ، وتأخرت القسمة لبعض الموانع ، فجاء قوم وقالوا : ألا تقسم غنائمنا ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم" فأنزل الله هذه الآية. الثاني : أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي ، كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم ، فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية. الثالث : روى عكرمة وسعيد بن جبير : أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الجهال لعل النبي صلى الله عليه وسلّم أخذها فنزلت هذه الآية. الرابع : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية. الخامس : روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية. السادس : قال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلّم : من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال عليه الصلاة والسلام : "ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم" فنزلت هذه الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 402
واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه ، وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول ، بأن يعطى للبعض دون البعض.
(1/1293)
وأما ما يوافق القراءة الثانية : فروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين ، غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية. واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر ، عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين" وعن عبدالله بن عمرو : أن رجلا كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلّم ، يقال له : كركرة فمات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : هو في النار ، فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما/ وقال عليه الصلاة والسلام : "أدوا الخيط والمخيط فانه عار ونار وشنار يوم القيامة" وروي رويفع بن ثابت الانصاري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى اذا أعجفها ردها ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى اذا أخلقه رده" وروي أنه صلى الله عليه وسلّم جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان / كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به ، فهل علي جناح ؟
فقال سلمان : كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع ، وروي أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلّم بشراك أو شراكين من المغنم ، فقال أصبت هذا يوم خيبر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "شراك أو شراكان من نار" ورمى رجل بسهم في خيبر ، فقال القوم لما مات : هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام : "كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا" واعلم أنه يستثنى عن هذ النهي حالتان.
الحالة الأولى : أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة ، قال عبدالله بن أبي أوفى : أصبنا طعاما يوم حنين ، فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف ، وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا ، فجعل يقطع من الجبن ويقول : كلوا على اسم الله.
الحالة الثانية : اذا احتاج اليه ، روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به.
المسألة الثالثة : أما القراءة بفتح الياء وضم الغين ، بمعنى : ما كان لنبي أن يخون ، فله تأويلان : الأول : أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان ، وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة ، فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة ، والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف ، والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع ، فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان ، فنظير هذه الآية قوله : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35) يعني : الالهية واتخاذ الولد لا يجتمعان ، وقيل : اللام منقولة ، والتقدير : وما كان النبي ليغل ، كقوله : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } أي ما كان الله ليتخذ ولدا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 402
الوجه الثاني : في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال : ان القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم ، ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك ، ونظيره قوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وقوله : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (الحاقة : 44) فقوله : {وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ } أي ما كان يحل له ذلك ، واذا لم يحل له لم يفعله ، ونظيره قوله : {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا} (النور : 16) أي ما يحل لنا.
(1/1294)
وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول : حجة هذه القراءة وجوه : أحدها : أن أكثر الروايات في سبب نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى الغلول ، فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به. وثانيها : أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه / إلى الفاعل كقوله : {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ} و{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} (يوسف : 76) {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران : 145) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَاـاهُمْ} (يوسف : 38) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (آل عمران : 179) وقل أن يقال : ما كان زيد ليضرب ، وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالاعم الأغلب ، ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة ، وقال : ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب ، بضم التاء. وثالثها : أن هذه القراءة اختيار ابن عباس : فقيل له ان ابن مسعود يقرأ (يغل) فقال ابن عباس : كان النبي يقصدون قتله ، فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة ؟
وأما القراءة الثانية وهي (يغل) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان : الأول : أن يكون المعنى : ما كان للنبي أن يخان.
واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة ، وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد : أحدها : أن المجنى عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش ، والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش. وثانيها : أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا ، فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا. وثالثها : ان المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش.
جزء : 9 رقم الصفحة : 402
الوجه الثاني : في التأويل : أن يكون من الاغل : أن يخون ، أي ينسب الى الخيانة ، قال المبرد تقول العرب : أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته الى الكفر ، قال العتبي : لو كان هذا هو المراد لقيل : يعلل ، كما قيل : يفسق ويفجر ويكفر ، والأولى : أن يقال : إنه من أغللته ، أي وجدته غالا ، كما يقال أبخلته وأفحمته ، أي وجدته كذلك. قال صاحب "الكشاف" : وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى ، لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا ، لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا.
المسألة الرابعة : قد ذكرنا ان الغلول هو الخيانة ، إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة ، وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة ، قال صلى الله عليه وسلّم : "ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع" وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات الله وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات ، وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناس
ثم قال تعالى : {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } وفيه وجهان : الأول : وهو قول أكثر / المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهي نظير قوله في مانع الزكاة {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُما هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُوا } (التوبة : 35) ويدل عليه قوله : "لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ، ثم يقال له : انزل اليه فخذه فينزل اليه ، فاذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. قال المحققون : والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته.
(1/1295)
الوجه الثاني : أن يقال : ليس المقصود منه ظاهره ، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَـاوَاتِ أَوْ فِى الارْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّه } (لقمان : 16) فانه ليس المقصود نفس هذا الظاهر : بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد ، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين : الأول : قال أبو مسلم : المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه ، لأنه لا يخفى عليه خافية. الثاني : قال أبو القاسم الكعبي : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء ، واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة ، إلا إذا قام دليل يمنع منه ، وههنا لا مانع من هذا الظاهر ، فوجب اثباته.
جزء : 9 رقم الصفحة : 402
ثم قال تعالى : {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} وفيه سؤالان :
السؤال الأول : هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله ؟
والجواب : الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيراً أو شرا ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب.
السؤال الثاني : المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا ، وفي إثبات وعيد الفساق.
أما الأول : فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه ، فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه.
وأما الثاني : فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد : {فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ} (النساء : 93) وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساف.
والجواب : أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم ، وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص / في صورة التوبة ، فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو.
ثم قال تعالى : {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} قال القاضي : هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب ، قال : ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة : ان أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك.
الجواب : نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه ، كما أن قوله : {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } (البقرة : 255) لا يدل على صحتهما عليه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 402
406
اعلم أنه تعالى لما قال : {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} (البقرة : 281 ، آل عمران : 161) أتبعه بتفصيل هذه الجملة ، وبين ان جزاء المطيعين ما هو ، وجزاء المسيئين ما هو ، فقال : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : للمفسرين فيه وجوه : الأول : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} في ترك الغلول {كَمَنا بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} في فعل الغلول ، وهو قول الكلبي والضحاك. الثاني : أفمن اتبع رضوان الله بالايمان به والعمل بطاعته ، كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته ، الثالث : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} وهم المهاجرون ، {كَمَنا بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} وهم المنافقون ، الرابع : قال الزجاج : لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه الى أن يحملوا على المشركين ، ففعله بعضهم وتركه آخرون. فقال : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} وهم الذين امتثلوا أمره {كَمَنا بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} وهم الذين لم يقبلوا قوله ، وقال القاضي : كل واحد من هذه الوجوه صحيح ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} وكل من أخلد الى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله : {كَمَنا بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة ، لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب.
المسألة الثانية : قوله : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ} الهمزة فيه للانكار ، والفاء للعطف على محذوف تقديره : أمن اتقى فاتبع رضوان الله.
/ المسألة الثالثة : قوله : {بَآءَ بِسَخَطٍ} أي احتمله ورجع به ، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
المسألة الرابعة : قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه : {رِضْوَانِ اللَّهِ} بضم الراء ، والباقون بالكسر وهما مصدران ، فالضم كالكفران ، والكسر كالحسبان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 406
المسألة الخامسة : قوله : {وَمَأْوَاـاهُ جَهَنَّمُ } من صلة ما قبله والتقدير : كمن باء بسخط من الله وكان مأواه جهنم ، فأما قوله : {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ ، كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها.
(1/1296)
المسألة السادسة : نظير هذه الآية قوله تعالى : {مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا} (الجاثية : 21) وقوله : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُانَ} (السجدة : 18) وقوله : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28) واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار ، وأن يدخل المذنبين الجنة ، وقالوا : انه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد ، ولولا أنه ممتنع في العقول ، والا لما حسن هذا الاستبعاد ، وأكد القفال ذلك فقال : لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن ، فان فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 406
415
وفيه مسائل.
المسألة الأولى : تقدير الكلام : لهم درجات عند الله ، الا أنه حسن هذا الحذف ، لان اختلاف أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون : ان النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة ، فبعضها ذكية وبعضها بليدة ، وبعضها مشرقة نورانية ، وبعضها كدرة ظلمانية ، وبعضها خيرة وبعضها نذلة ، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الامزجة البدنية ، بل لاختلاف ماهيات النفوس ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" وقال : "الارواح جنود مجندة" واذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات ، لا أن لهم درجات.
المسألة الثانية : هم : عائد الى لفظ "من" في قوله : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} (آل عمران : 162) ولفظ "من" يفيد الجمع في المعنى ، فلهذا صح أن يكون قوله : {هُمْ} عائدا اليه ، ونظيره قوله : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُانَ} فان قوله : {يَسْتَوُانَ} صيغة الجمع وهو عائد الى "من".
المسألة الثالثة : هم : ضمير عائد الى شيء قد تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله ، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا الى الاول ، أو الى الثاني ، أو اليهما معا ، والاحتمالات ليست الا هذه الثلاثة.
الوجه الأول : أن يكون عائدا الى {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَه سُبُلَ السَّلَـامِ} وتقديره : أفمن اتبع رضوان الله سواء ، لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم ، والذي يدل على ان هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى ، وجوه : الأول : ان الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب. الثاني : أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله ، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير ، فوجب أن يكون قوله : {هُمْ دَرَجَـاتٌ} وصفا لمن اتبع رضوان الله. الثالث : أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان الله يضيفه إلى نفسه ، وما كان من العقاب لا يضيفه الى نفسه ، قال تعالى : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وقال : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) فما أضاف هذه الدرجات الى نفسه حيث قال : {هُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ اللَّه } علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب. ورابعها : أنه متأكد بقوله تعالى : {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍا وَلَلاخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} (الإسراء : 21).
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
والوجه الثاني : أن يكون قوله : {هُمْ دَرَجَـاتٌ} عائدا على {كَمَنا بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} والحجة أن الضمير عائد الى الأقرب وهو قول الحسن ، قال : والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب ، وهو كقوله : {وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } (الأحقاف : 19) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ان فيها أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يعلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي".
الوجه الثالث : أن يكون قوله : {هُمْ} عائدا الى الكل ، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق ، لأنه تعالى قال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة : 7 ـ 8) فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب.
المسألة الرابعة : قوله : {عِندَ اللَّهِ} أي في حكم الله وعلمه ، فهو كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا ، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ} (الأنبياء : 19) وقوله : {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } (القمر : 55).
(1/1297)
/ ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ} والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء ، وهذا لا يتم إلا اذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان ، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى ، وهو قوله : {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِمَا يَعْمَلُونَ} وذكر محمد بن إسحق صاحب المغازي في تأويل قوله : {وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ } (آل عمران : 161) وجها آخر فقال : ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به اليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق ، وسخط الله على سخط الخلق ، {كَمَنا بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ} فرجح سخط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخلق على رضوان الله ، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } (آل عمران : 159) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا اذا كان على وفق الدين ، فأما اذا كان على خلاف الدين فانه غير جائز ، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته ، وبين من اتبع رضوان الخلق ، وهذا الذي ذكره محتمل ، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية ، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
0
اعلم أن في وجه النظم وجوها : الأول : أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية ، وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ، ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والامانة والدعوة الى الله والاعراض عن الدنيا ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة.
الوجه الثاني : أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال : لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ، ولكني أقول : ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة ، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم ، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة.
الوجه الثالث : كأنه تعالى يقول : انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم ، وأنتم أرباب الخمول / والدناءة ، فاذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين ، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم ، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل.
الوجه الرابع : انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان ، والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : للمن في كلام العرب معان : أحدها : الذي يسقط من السماء وهو قوله : {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } (البقرة : 57) وثانيها : أن تمن بما أعطيت وهو قوله : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى } (البقرة : 264) وثالثها : القطع وهو قوله : {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ} (فصلت : 8) {بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} ورابعها : الانعام والاحسان الى من لا تطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : {هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} (ص : 39) وقوله : {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} والمنان في صفة الله تعالى : المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
المسألة الثانية : أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين ، وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم الى ثواب الله ، وهذا عام في حق العالمين ، لأنه مبعوث الى كل العالمين ، كما قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ : 28) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الاسلام ، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) مع أنه هدى للكل ، كما قال : {هُدًى لِّلنَّاسِ} (البقرة : 185) وقوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45).
المسألة الثالثة : اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلّم كانت مشتملة على الأمرين : أحدهما : المنافع الحاصلة من أصل البعثة ، والثاني : المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.
(1/1298)
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء : 165) قال أبو عبدالله الحليمي : وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه : الأول : أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية ، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها ، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها. والثاني : ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم ، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة ، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من / الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي. والثالث : أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى انه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها. الرابع : أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر ، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس ، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس ، فيقوي العقول بنور عقله ، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره ، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلّم من الصفات ، فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله : {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} .
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه : الأول : أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله ، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف ، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب ، والملازمة على الصدق ، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة ، وبعده عن الخيانة والكذب ، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب ، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى. الثاني : أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا ، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة ، ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين ، ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم ، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الالهي. الثالث : أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك ، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة ، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله ، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا ، فاذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها ، فلما لم يفعل شيئاً من ذلك علم أنه كان صادقا. الرابع : أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات ، ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله. الخامس : أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان ، / وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة. ثم لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها. ولا شك أن فيه أعظم المنة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول : ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال ، مطلعين على هذه الدلائل ، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال. فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال : {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم ، كما قال : {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) وذلك لأن الافتخار بابراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم ان اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والانجيل ، فما كان للعرب ما يقابل ذلك ، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم ، فهذا هو وجه الفائدة في قوله : {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} .
ثم قال بعد ذلك : {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِه وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .
(1/1299)
واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين : في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وبعبارة أخرى : للنفس الانسانية قوتان ، نظرية وعملية ، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين ، فقوله : {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِه } إشارة الى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق ، وقوله : {وَيُزَكِّيهِمْ } اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الالهية {وَالْكِتَابِ} إشارة إلى معرفة التأويل ، وبعبارة أخرى {الْكِتَابِ} إشارة الى ظواهر الشرعية {وَالْحِكْمَةِ } إشارة الى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها ، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة. وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين ، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم ، فاذا كان وجه النعمة العلم والاعلام ، ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين ، كان أعظم ونظيره قوله : {وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى } (الضحى : 7).
جزء : 9 رقم الصفحة : 415
416
اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد : وهو المراد من قولهم : أنى هذا ، وأجاب الله عنه بقوله : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : تقرير الآية : {أَوَ لَمَّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} المراد منها واقعة أحد ، وفي قوله : {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} قولان : الأول : وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر ، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين ، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. والثاني : أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر ، وهزموهم أيضاً في الأول يوم أحد ، ثم لما عصوا هزمهم المشركون ، فانهزام المشركين حصل مرتين ، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة ، وهذا اختيار الزجاج : وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال : كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر ، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ، ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة ، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر.
المسألة الثانية : الفائدة في قوله : {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد ، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة ، أما قوله : {قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الاسلام الذي هو دين الحق ، ومعنا الرسول ، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر ، فكيف صاروا منصورين علينا
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين : الأول : ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد ، فاذا أصبتم منهم مثل هذه / الواقعة.. فكيف تستبعدون هذه الواقعة ؟
والثاني : قوله قل : {هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } وفيه مسائل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
المسألة الأولى : تقرير هذا الجواب من وجهين : الأول : أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور : أولها : أن الرسول عليه السلام قال : المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا ، وهم أبوا إلا الخروج ، فلما خالفوه توجه إلى أحد. وثانيها : ما حكى الله عنهم من فشلهم. وثالثها : ما وقع بينهم من المنازعة. ورابعها : أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع. وخامسها : اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو ، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي ، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية ، كما قال : {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم} (آل عمران : 125) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط.
الوجه الثاني : في التأويل : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر ، فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم/ فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك لقومه ، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم ، فنتقوى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم ، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر ، فهو معنى قوله : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } أي بأخذ الفداء واختياركم القتل.
(1/1300)
المسألة الثانية : استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله : {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } من وجوه : أحدها : أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه ، كان قوله : {مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } كذباً ، وثانيها : أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن ، فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم ، فلو كان فعلهم خلقاً لله لم يصح هذا الجواب. وثالثها : أن القوم قالوا : {أَنَّى هَـاذَا } ، أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.
والجواب : أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بايجاد الله تعالى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} (فاطر : 1) أي انه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم ، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم ، واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا : إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه ، وإذا كان الله قادرا على إيجاده ، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده ، لأن إيجاد الموجود محال / فلما كان كون العبد موجواً له يفضي إلى هذا المحال ، وجب أن لا يكون العبد موجدا له والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
0
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله : {أَوَ لَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} (آل عمران : 165) فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم ، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر ، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الفرقان : 41) المراد يوم أحد ، والجمعان : أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم ، والثاني : جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان.
المسألة الثانية : في قوله : {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} وجوه : الأول : أن اذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة ، استعار الاذن لتخلية الكفار فانه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده ، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني : فباذن الله : أي بعلمه كقوله : {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ} (التوبرة : 3) أي إعلام ، وكقوله : {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلَّ} (فصلت : 47) وقوله : {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ} (البقرة : 279) وكل ذلك بمعنى العلم. طعن الواحدي فيه فقال : الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه ، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى : {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِه } (فاطر : 11).
الوجه الثالث : أن المراد من الاذن الأمر ، بدليل قوله : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } (آل عمران : 152) والمعنى أنه / تعالى لما أمر بالمحاربة ، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام ، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
الوجه الرابع : وهو المنقول عن ابن عباس : أن المراد من الاذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، والتسلية إنما تحصل إذا قيل ان ذلك وقع بقضاء الله وقدره ، فحينئذ يرضون بما قضى الله.
ثم قال : {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : يقال : نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها ، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه : الأول : قال أبو عبيدة : هو من نافقاء اليربوع ، وذلك لأن حجر اليربوع له بابان : القاصعاء والنافقاء ، فاذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق ، لأنه وضع لنفسه طريقين ، إظهار الاسلام وإضمار الكفر ، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر : الثاني : قال ابن الانباري : المنافق من النفق وهو السرب ، ومعناه أنه يتستر بالاسلام كما يتستر الرجل في السرب. الثالث : أنه مأخوذ من النافقاء ، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة ، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض ، ثم انه يرقق بما فوق الجحر ، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه/ فاذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالاسلام.
(1/1301)
المسألة الثانية : قوله : {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة ، وهذا يشعر بتجدد علم الله ، وهذا محال في حق علم الله تعالى ، فالمراد ههنا من العلم المعلوم ، والتقدير : ليتبين المؤمن من المنافق ، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة ، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم.
المسألة الثالثة : في الآية حذف ، تقديره : وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين.
فان قيل : لم قال : {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } ولم يقل : وليعلم المنافقين.
قلنا : الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى ، والفعل يدل على تجدده ، وقوله : {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه ، وأما {نَافَقُوا } فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت.
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
ثم قال تعالى : {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَـاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا } وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : في أن هذا القائل من هو ؟
وجهان : الأول : قال الأصم : انه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال. الثاني : روي أن عبدالله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا : لم نلقي أنفسنا في القتل ، فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال لهم عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبدالله الأنصاري : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : {وَقِيلَ لَهُمْ} يعني قول عبدالله هذا.
المسألة الثانية : قوله : {قَـاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا } يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، يعني كونوا إما من رجال الدين ، أو من رجال الدنيا. قال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ، قالوا : لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة ، والأول هو الوجه.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {قَـاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا } تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا ، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات.
ثم قال تعالى : {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا اتَّبَعْنَـاكُم هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَـاـاِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلايمَـانِ } وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان : الأول : أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة ، فلهذا رجعنا. الثاني : أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال ، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبدالله كان في الاقامة بالمدينة ، وما كان يستصوب الخروج.
واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد ، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم ، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم ، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب : فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا ، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا ، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة ، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد ، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق ، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس/ واما الاستهزاء. وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضاً باطل ، لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والاعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة.
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
ثم انه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال : {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَـاـاِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلايمَـانِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في التأويل وجهان : الأول : أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم ، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين.
واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين ، وأيضاً قولهم : {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا اتَّبَعْنَـاكُمْ } يدل على أنهم ليسوا من المسلمين ، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين ، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وسلّم وكل واحد منهما كفر.
الوجه الثاني : في التأويل أن يكون المراد أنهم لاهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الايمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين.
(1/1302)
المسألة الثانية : قال أكثر العلماء : ان هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار ، قال الحسن اذا قال الله تعالى : {أَقْرَبُ} فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : {مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر ، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر. وقال الواحدي في "البسيط" : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره ، لانه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين ، لاظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم قال تعالى : {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم ، فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.
ثم قال : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} .
فان قيل : إن المعلوم اذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر ، فما معنى قوله : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} .
قلنا : المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الاحوال ما لا يعلمه غيره.
جزء : 9 رقم الصفحة : 416
424
اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا اتَّبَعْنَـاكُمْ } (آل عمران : 167) وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم ، فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك ، فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لاخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا ، فخوفوا من مراده موافقة الرسول صلى الله عليه وسلّم في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل ، لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في محل {الَّذِينَ} وجوه : أحدها : النصب على البدل من {الَّذِينَ نَافَقُوا } وثانيها : الرفع على البدل من الضمير في {يَكْتُمُونَ} وثالثها : الرفع على خبر الابتداء بتقدير : هم الذين ، ورابعها : أن يكون نصبا على الذم.
المسألة الثانية : قال المفسرون : المراد {الَّذِينَ قَالُوا } عبدالله بن أبي وأصحابه ، وقال الأصم : هذا لا يجوز لأن عبدالله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلّم في الجهاد يوم أحد ، وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال : {الَّذِينَ قَالُوا لاخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا} أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد ، قاله لمن خرج الى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد.
المسألة الثالثة : قالوا لاخوانهم : أي قالوا لأجل إخوانهم ، وقد سبق بيان المراد من هذه الاخوة ، الاخوة في النسب ، أو الاخوة بسبب المشاركة في الدار ، أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلّم أو في عبادة الاوثان ؟
والله أعلم.
المسألة الرابعة : قال الواحدي : الواو في قوله : {وَقَعَدُوا } للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا ، ثم أجاب الله عن ذلك بقوله : {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} .
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
فان قيل : ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فان التحرز عن القتل ممكن ، أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة ؟
والجواب : هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر ، وذلك لأنا إذا قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره ، اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله ، وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق ، فيصح الاستدلال. أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين الموت والقتل ظاهراً من الوجه الذي ذكرتم ، فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى ، ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا ، فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله. وقوله : {إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} يعني : إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
0
(1/1303)
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا : الجهاد يفضي إلى القتل ، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد ، والقتل شيء مكروه ، فوجب الحذر عن الجهاد ، ثم ان الله تعالى بين أن قولهم : الجهاد يقضي إلى القتل باطل ، بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره ، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه ، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه ، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة ، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور ؟
فأي عاقل يقول ان مثل هذا القتل يكون مكروها ، فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد ، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين ، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين ، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل ، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل ، وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل ، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم ، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم ، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه.
المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا ، فان كان المراد منه هو الحقيقة ، فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو المراد أنهم أحياء في الحال ، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد ، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية ، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
الاحتمال الأول : أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة ، منهم أبو القاسم الكعبي قال : وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى ، كانوا يقولون : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم : يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير ، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد ، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة.
واعلم أن هذا القول عندنا باطل ، ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : ان قوله : {بَلْ أَحْيَآءٌ} ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية ، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر.
الحجة الثانية : انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة ، ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (25 : نوح) والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة ، وأيضا قال تعالى : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } (غافر : 46) واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب ، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى.
الحجة الثالثة : أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه / الصلاة والسلام : {وَلا تَحْسَبَنَّ} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك ، أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله : {وَلا تَحْسَبَنَّ} لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف ، وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم.
فان قيل : إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة ، فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور.
قلنا : قوله : {وَلا تَحْسَبَنَّ} إنما يتناول الموت لأنه قال : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا } فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة ، وقوله : {يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ} فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
(1/1304)
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا ، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة ، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة ، فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة ، وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره.
الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في صفة الشهداء : "ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية" وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، وفي رواية في روضة خضراء ، وعن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب باحد أحياه الله ثم قال : ما تريد يا عبدالله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى" والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر ، فكيف يمكن انكارها ؟
طعن الكعبي في هذه الروايات وقال : إنها غير جائزة لان الارواح لا تتنعم ، وانما يتنعم الجسم اذا كان فيه روح لا الروح ، ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة ، وأيضا : الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح / في حواصل الطير ، وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح ، وهذا يناقض كونها في حواصل الطير.
والجواب : أما الطعن الأول : فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم ، وسنبين أن الأمر ليس كذلك ، وأما الطعن الثاني : فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات ، فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
وأما الوجه الثاني : من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال ، والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ، ومنهم من أثبتها للبدن ، وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة/ وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، ويدل عليه أمران : أحدهما : أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال ، والتبدل ، والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره ، والباقي مغاير للمتبدل ، والذي يؤكد ما قلناه : أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا ، وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة ، ثم انه يكبر وينمو ، ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه. الثاني : أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ، ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم. والدهن في السمسم ، وماء الورد في الورد. ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم ، وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا ، وان قلنا أنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه ، وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر ، كما في هذه الآية ، وعن عذاب القبر كما في قوله : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك ، فظاهر الآية دال عليه ، فوجب المصير اليه ، والذي يأكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل. أما القرآن فآيات : إحداها : {أَحَدٌ * يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى} (الفجر : 27 ـ 30) ولا شك أن المراد من قوله : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} الموت. ثم قال : {فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى} وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت ، وهذا يدل على ما ذكرناه ، وثانيها : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام : 61) وهذا عبارة عن موت البدن.
(1/1305)
ثم قال : {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } (الأنعام : 62) فقوله : {رُدُّوا } ضمير عنه. وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة ، فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن ، وثالثها : قوله : {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة : 88 ـ 89) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : "من مات فقد قامت قيامته" والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته ، وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله ، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام : "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول : "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" فقيل له : يا رسول الله إنهم أموات ، فكيف تناديهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إنهم أسمع منكم" أو لفظاً هذا معناه ، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام : "أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار" وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
وأما المعقول فمن وجوه : الأول : وهو أن وقت النوم يضعف البدن ، وضعفه لا يقتضي ضعف النفس ، بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات ، فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس ، فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس. الثاني : وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ ، وجفافه يؤدي الى الموت ، وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية ، وهو غاية كمال النفس ، فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن/ وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن. الثالث : أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن ، وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية ، والدليل عليه قوله تعالى : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وقال عليه الصلاة والسلام : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا ، فانا نرى أن الانسان اذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان ، أو بالفوز بمنصب ، أو بالوصول الى معشوقه ، قد ينسى الطعام والشراب ، بل يصير بحيث لو دعي الى الاكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه ، والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم اذا لاح لهم شيء من تلك الانوار ، وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار ، لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية ، وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن ، واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ، ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام.
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه ، واذا عرفت هذه القاعدة فنقول : قال بعض المفسرين : أرواح الشهداء أحياء / وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة ، والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "اذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي.
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله : {أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} ولفظ "عند" فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه } (الأنبياء : 19) فاذا فهمت السعادة الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله ، فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله ، وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
الوجه الثالث : في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للاجساد ، والقائلون بهذا القول اختلفوا ، فقال بعضهم : انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها ، ومنهم من قال : يتركها في الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها ، ومن الناس من طعن فيه وقال : انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع ، فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها ، أو يقال : إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ، ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها ، وكل ذلك مستبعد ، ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد ، فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة.
(1/1306)
الوجه الرابع : في تفسير هذه الآية أن نقول : ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم ، بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه : الأول : قال الأصم البلخي : إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين ، وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة ، صح أن يقال : إنه حي وليس بميت ، كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد : إنه ميت وليس بحي ، وكما يقال للبليد : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له : ما مات من خلف مثلك ، وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا ، فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي. الثاني : قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم/ وانها لا تبلى تحت الأرض البتة. واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء ، أمر بأن ينادي : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع ، قال جابر : فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان ، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما. والثالث : أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات ، فهذا/ مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : {وَلا تَحْسَبَنَّ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وقرىء بالياء ، وفيه وجوه : أحدها : ولا يحسبن رسول الله. والثاني : ولا يحسبن حاسب ، والثالث : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال : وقرىء {تَحْسَبَنَّ} بفتح السين ، وقرأ ابن عامر {قَـاتِلُوا } بالتشديد والباقون بالتخفيف.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
المسألة الرابعة : قوله : {بَلْ أَحْيَآءٌ} قال الواحدي : التقدير : بل هم أحياء ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء {أَحْيَآءٌ} بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء. وأقول : إن الزجاج قال : ولو قرىء {أَحْيَآءٌ} بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء ، وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال : لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله ، ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة ، وللزجاج أن يجيب فيقول : الحسبان ظن لا شك ، فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر الله بالظن ، أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن.
وأقول : هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء {أَحْيَآءٌ} بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة ، والفارسي نازعه فيه ، وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به.
أما قوله تعالى : {عِندَ رَبِّهِمْ} ففيه وجوه : أحدها : بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى. والثاني : هم أحياء عند ربهم ، أي هم أحياء في علمه وحكمه ، كما يقال : هذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة بخلافه. والثالث : ان {عِندَ} معناه القرب والاكرام ، كقوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ} (الأنبياء : 19) وقوله : {الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} (الأعراف : 206).
أما قوله : {يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ} فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : {يُرْزَقُونَ} إشارة إلى المنفعة ، وقوله : {فَرِحِينَ} إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم ، وأما الحكماء فانهم قالوا : إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الالهية كانت مبتهجة من وجهين : أحدهما : ان تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية. والثاني : بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة ، قالوا : وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول ، فقوله : {يُرْزَقُونَ} إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله : {فَرِحِينَ} إشارة إلى الدرجة الثانية ، ولهذا قال : {فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه } يعني ان فرحهم ليس بالرزق ، بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه ، والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ، ومن/ طلب الحق لغيره فهو محجوب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
ثم قال تعالى : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
واعلم أن قوله : {أَلا خَوْفٌ} في محل الخفض بدل من {الَّذِينَ} والتقدير : ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الاستشار السرور الحاصل بالبشارة ، وأصل الاستفعال طلب الفعل/ فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة.
المسألة الثانية : اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر.
(1/1307)
أما الأول : فهو أن يقال : ان الشهداء يقول بعضهم لبعض : تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا ، فهو قوله : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم} .
وأما الثاني : فهو أن يقال : ان الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ، والمراد بقوله : {لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء ، لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم ، دليله قوله تعالى : {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ عَلَى الْقَـاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَـاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } (النساء : 95 ـ 96) فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم ، وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم ، هذا اختيار أبي مسلم الاصفهاني والزجاج.
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني ، وذلك لأن حاصل الثاني يرجع الى استبشار بعض المؤمنين ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة ، وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين ، فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك ، وأيضا : فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول ، لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء ، قال تعالى : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـالِحِينَ } (النساء : 69) وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص. أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
المسألة الثالثة : الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل ، والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي ، فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم / من أحوال القيامة ، ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 424
430
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم ، وانما أعاد لفظ {يَسْتَبْشِرُونَ} لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة.
فان قيل : أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار ؟
قلنا : الجواب من وجهين : الأول : ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار. والثاني : لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال ، وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة.
المسألة الثانية : قوله : {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
المسألة الثالثة : الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم ، لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان ، وهذا ، تنبيه من الله تعالى على ان فرح الانسان بصلاح أحوال اخوانه ومتعلقيه ، يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه.
ثم قال : {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الكسائي {وَأَنَّ اللَّهَ} بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ الباقون بفتحها على معنى : وبأن الله ، والتقدير : يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل الله وبرحمته فقط ، وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر ، ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب الله أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله.
المسألة الثانية : المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من ايصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء ليس حكما مخصوصاً بهم ، بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب ، فان الله سبحانه يوصل اليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة.
المسألة الثالثة : الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بايمانه استحق الجنة / فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبداً مخلداً لما وصل اليه أجر إيمانه ، فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 430
431
اعلم أن الله تعالى مدح المؤمنين على غزوتين ، تعرف احداهما بغزوة حمراء الاسد ، والثانية بغزوة بدر الصغرى ، وكلاهما متصلة بغزوة أحد ، أما غزوة حمراء الاسد فهي المراد من هذه الآية على ما سنذكره ان شاء الله تعالى ، وفي الآية مسائل :
(1/1308)
المسألة الأولى : في محل {الَّذِينَ} وجوه : الأول : وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} الى آخر هذه الآية : أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين الثالث : أن يكون نصبا على المدح.
المسألة الثانية : في سبب نزول هذه الآية قولان : الأول : وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا ، وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم ؟
بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة ، فندب أصحابه الى الخروج في طلب أبي سفيان وقال : لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال ، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلّم مع قوم من أصحابه ، قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد. وهو من المدينة على ثلاثة أميال ، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا ، وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى ، وكان كل ذلك لاثخان الجراحات فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. والثاني : قال أبو بكر الأصم : نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس اليه صلى الله عليه وسلّم بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم ، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا ، وصلى عليهم/ صلى الله عليه وسلّم ودفنهم بدمائهم ، وذكروا/ أن صفية جاءت لتنظر الى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير : ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها ، فقالت : قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى ، فقال للزبير : فدعها تنظر اليه ، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلّم وهو حي قالت : إن كل مصيبة بعدك هدر ، فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية ، وأكثر الروايات على الوجه الأول.
جزء : 9 رقم الصفحة : 431
المسألة الثالثة : استجاب : بمعنى أجاب ، ومنه قوله : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى} (البقرة : 186) وقيل : أجاب ، فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الاجابة ، لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل ، والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية.
أما قوله تعالى : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ففيه مسألتان.
المسألة الأولى : في قوله : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} وجوه : الأول : {أَحْسَنُوا } دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات ، وقوله : {وَاتَّقَوْا } دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات ، والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم. الثاني : أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت ، واتقوا الله في التخلف عن الرسول ، وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض. الثالث : أحسنوا : فيما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم/ واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف "من" في قوله : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 431
432
/ وفي الآية مسائل.
(1/1309)
المسألة الأولى : هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى ، روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت ، فقال عليه الصلاة والسلام لعمر : قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى ، فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه ، فبدا له أن يرجع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا ، فقال : يا نعيم إني وعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع ، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الابل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأي ، أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد ، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم ، فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال : "والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي" ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلّم ، ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى ، وهي ماء لبني كنانة ، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين ، ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقات وتجارات ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق ، فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية.
المسألة الثانية : في محل {الَّذِينَ} وجوه : أحدها : أنه جر ، صفة للمؤمنين بتقدير : والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس. الثاني : أنه بدل من قوله : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } الثالث : أنه رفع بالابتداء وخبره {فَزَادَهُمْ إِيمَـانًا} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 432
المسألة الثالثة : المراد بقوله : {الَّذِينَ} من تقدم ذكرهم ، وهم الذين استجابوا لله والرسول ، وفي المراد بقوله : {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وجوه : الأول : أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية ، وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الانسان الواحد ، لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله ، حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال الله تعالى : {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءاْتُمْ فِيهَا } (البقرة : 72) {وَإِذْ قُلْتُمْ يَـامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم ، إلا أنه أضيف اليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال / فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد. الثاني : وهو قول ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق : أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان ، فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا. الثالث : قال السدي : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان : القوم قد أتوكم في دياركم/ فقتلوا الأكثرين منكم ، فان ذهبتهم إليهم لم يبق منكم أحد.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره ، وقوله : {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي جمعوا لكم الجموع ، فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا ، وقوله : {فَاخْشَوْهُمْ} أي فكونوا خائفين منهم ، ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا اليه ولم يقيموا له وزنا ، فقال تعالى : {فَزَادَهُمْ إِيمَـانًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الضمير في قوله : {فَزَادَهُمُ} إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : الأول : عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات. والثاني : أنه عائد إلى نفس قولهم ، والتقدير : فزادهم ذلك القول إيمانا ، وإنما حسنت هذه الاضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل ، ونظيره قوله تعالى : {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 6) وقوله تعالى : {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} (فاطر : 42)
جزء : 9 رقم الصفحة : 432
المسألة الثانية : المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا اليه ، بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار ، وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل ذلك أو خف ، لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة ، وكانوا محتاجين إلى المداوة ، وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : {فَزَادَهُمْ إِيمَـانًا} .
(1/1310)
المسألة الثالثة : الذين يقولون ان الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات ، وإنه يقبل الزيادة والنقصان ، احتجوا بهذه الآية ، فانه تعالى نص على وقوع الزيادة ، والذين لا يقولون بهذا القول قالوا : الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره ، فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا.
المسألة الرابعة : هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن / الآخر فانه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء ، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ، ثم انه سبحانه قلب القضية ههنا ، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب ، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى ، وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها.
ثم قال تعالى : {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل. قال ابن الانباري : {حَسْبُنَا اللَّهُ} أي كافينا الله ، ومثله قول امرىء القيس :
وحسبك من غنى شبع وري
أي يكفيك الشبع والري ، وأما (الوكيل) ففيه أقوال : أحدها : أنه الكفيل. قال الشاعر :
ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
اراد كأنني برد الأمور كفيل. الثاني : قال الفراء : الوكيل : الكافي ، والذي يدل على صحة هذا القول أن "نعم" سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً للذي قبلها ، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق ، وخالقنا الله ونعم الخالق ، وهذا أحسن من قول من يقول : خالقنا الله ونعم الرازق ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي. الثالث : الوكيل ، فعيل بمعنى مفعول ، وهو الموكول اليه ، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا ، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه ، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 432
ثم قال تعالى : {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج والمعنى : وخرجوا فانقلبوا ، فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه ، كقوله : {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَا فَانفَلَقَ} (الشعراء : 63) أي فضرب فانفلق ، وقوله : {بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} قال مجاهد والسدي : النعمة ههنا العافية ، والفضل التجارة ، وقيل : النعمة منافع الدنيا ، والفضل ثواب الآخرة ، وقوله : {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ} لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّه } في طاعة رسوله {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا ، وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء ، وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا ، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم.
واعلم أن أهل المغازي اختلفوا ، فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد ، والآية الثانية ببدر الصغرى ، ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى ، والأول أولى لأن قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ مَآ أَصَـابَهُمُ الْقَرْحُ } كأنه يدل على قرب عهد بالقرح ، فالمدح فيه أكثر من المدح / على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه ، والقول الآخر أيضا محتمل. والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة ، فكأنه قيل : إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم ، ثم استجابوا لله وللرسسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو ، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا ، وتوكلوا على الله ورضوا به كافياً ومعيناً فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 432
0
اعلم أن قوله : {الشَّيْطَـانِ} خبر {ذالِكُمْ} بمعنى : انما ذلكم المثبط هو الشيطان {كَانُوا أَوْلِيَآءَه ا } جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو {الشَّيْطَـانِ} صفة لاسم الاشارة و{يُخَوِّفُ} الخبر ، والمراد بالشيطان الركب ، وقيل : نعيم بن مسعود ، وسمي شبطاناً لعتوه وتمرده في الكفر ، كقوله : {شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} (الأنعام : 112) وقيل : هو الشيطان يخوف بالوسوسة.
(1/1311)
أما قوله تعالى : {يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَه } ففيه سؤال : وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين ، فما معنى قوله : {الشَّيْطَـانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَه } والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : تقدير الكلام : ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه ، فحذف المفعول الثاني وحذف الجار ، ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى : {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ} (القصص : 7) أي فاذا خفت عليه فرعون ، ومثال حذف الجار قوله تعالى : {لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} (الكهف : 2) معناه : لينذركم ببأس وقوله : {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} (غافر : 15) أي لينذركم بيوم التلاق ، وهذا قول الفراء ، والزجاج ، وأبي علي. قالوا : ويدل عليه قراءة أبي بن كعب .
القول الثاني : أن هذا على قول القائل : خوفت زيدا عمرا ، وتقدير الآية : يخوفكم أولياءه ، فحذف المفعول الأول ، كما تقول : أعطيت الأموال ، أي أعطيت القوم الأموال ، قال ابن الانباري : وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله : {عِوَجَا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا} أي لينذركم بأساً وقوله : {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول : خاف زيد القتال ، وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود {كَانُوا أَوْلِيَآءَه ا } .
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 432
القول الثالث : أن معنى الآية : يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين ، والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره ، فأما أولياء الله ، فانهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم ، وهذا قول الحسن والسدي ، فالقول الأول فيه محذوفان ، والثاني فيه محذوف واحد ، والثالث لا حذف فيه. وأما الأولياء فهم المشركون والكفار ، وقوله : {فَلا تَخَافُوهُمْ} الكناية في القولين الأولين عائدة إلى الأولياء. وفي القول الثالث عائدة إلى {النَّاسِ} في قوله : {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران : 173) {فَلا تَخَافُوهُمْ} فتقعدوا عن القتال وتجنبوا {وَخَافُونِ} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس.
جزء : 9 رقم الصفحة : 432
436
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع {يَحْزُنكَ} بضم الياء وكسر الزاي ، وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103) في سورة الأنبياء ، فانه فتح الياء وضم الزاي ، والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي. قال الازهري : اللغة الجيدة : حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء ، وحجة نافع أنهما لغتان يقال : حزن يحزن كنصر ينصر ، وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان.
المسألة الثانية : اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه : الأول : أنها نزلت في كفار قريش ، والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم ، والمعنى : لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك ، فانهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله ، ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا ، واذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص ، لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام ، والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة ، وهذا المقصود لا يحصل لهم ، بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ، ويعظم أمرك ويعلو شأنك. الثاني : أنها نزلت في المنافقين ، ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين / بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر ، أو بسبب أنهم كانوا يقولون ان محمداً طالب ملك ، فتارة يكون الأمر له ، وتارة عليه ، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب ، وهذا كان ينفر المسلمين عن الاسلام ، فكان الرسول يحزن بسببه. قال بعضهم : ان قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم بذلك السبب ، فانه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة. فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي : ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور : الأول : أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر ، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان. الثاني : أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن ، فاستوجب ذلك ، ثم أحبط. الثالث : أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود ، فلما قدر النبي صلى الله عليه وسلّم الانتفاع بايمانهم ، ثم كفروا حزن صلى الله عليه وسلّم عند ذلك لفوات التكثير بهم ، فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير.
جزء : 9 رقم الصفحة : 436
(1/1312)
القول الرابع : أن المراد رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلّم لمتاع الدنيا. قال القفال رحمه الله : ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى : {قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} إلى قوله : {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } (المائدة : 41) فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار.
المسألة الثالثة : في الآية سؤال : وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة ، فكيف نهى الله عن الطاعة ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به ، فنهاه الله تعالى عن الاسراف فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى : {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } (فاطر : 8) الثاني : أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك/ ألا ترى إلى قوله : {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا } يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.
ثم قال : {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا } والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئاً ، وقال عطاء : يريد : لن يضروا أولياء الله شيئاً.
ثم قال تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الآخِرَةِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه رد على المعتزلة ، وتنصيص على أن الخير والشر بارادة الله تعالى ، قال القاضي : المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به.
/ واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين : الأول : أنه عدول عن الظاهر ، والثاني : بتقدير أن يكون الأمر كما قال ، لكن الاتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الاشكال.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : الارادة لا تتعلق بالعدم ، وقال أصحابنا ذلك جائز ، والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال : {يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الآخِرَةِ } فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم. قالت المعتزلة : المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال : {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) قلنا : هذا عدول عن الظاهر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 436
المسألة الثالثة : الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم ، إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال : {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 436
437
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود ، وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين ، وحمل هذه الآية على اليهود ، ومعنى اشتراء الكفر بالايمان منهم ، أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلّم ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم ، فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه ، فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه ، ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين ، وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان ، فاذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان ، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان.
واعلم أنه تعالى. قال في الآية الأولى : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالايمَـانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا} (آل عمران : 176) وقال في هذه الآية : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالايمَـانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـاًا} والفائدة في هذا التكرار أمور : أحدها : أن الذين اشتروا الكفر بالايمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا ، ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات ، ومثل هذا الانسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على الحاق الضرر بالغير. وثانيها : أن أمر الدين أهم / الأمور وأعظمها ، ومثل هذا مما لا يقدم الانسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر ، وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات ، وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم ، فامثال هؤلاء لا يلتفت العاقل اليهم. وثالثها : ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين ، لا بناء على الشبهات ، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا ، ومن كان عقله هذا القدر ، وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة ، ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير ، فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية والله أعلم بمراده.
جزء : 9 رقم الصفحة : 437
0
(1/1313)
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد ، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها ، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد ، لأن هذا البقاء صار وسيلة الى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة ، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل. فهذا بيان وجه النظم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (آل عمران : 18) {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ} (آل عمران : 188) في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله : {تَحْسَبَنَّهُم} وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله : {فَلا تَحْسَبَنَّهُم} فانه بالتاء ، وقرأ حمزة كلها بالتاء ، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة ، أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت : فقوله : {يَحْسَبَنَّ} فعل ، وقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت ، وقوله : حسبت أن زيدا منطلق ، وحسبت أن يقوم عمرو ، فقوله في الآية : {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ } يسد مسد المفعولين ، ونظيره قوله تعالى : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} (الفرقان : 44) وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج ، وهو أن {الَّذِينَ كَفَرُوا } نصب بأنه المفعول الاول ، و{أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} بدل عنه. و{خَيْرٌ لانفُسِهِمْ } هو المفعول الثاني والتقدير : ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم. ومثله مما جعل "أن" مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآاـاِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} (الأنفال : 7) فقوله : {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل من إحدى الطائفتين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 437
المسألة الثانية : "ما" في قوله : {إِنَّمَآ} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم ، وحذف الهاء من "نملي" لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك : الذي رأيت زيد ، والآخر : أن يقال : "ما" مع ما بعدها في تقدير المصدر ، والتقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : "ما" مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة ، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب ، وأما في قوله : {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} فههنا يجب أن تكون متصلة لانها كافة بخلاف الأولى.
المسألة الرابعة : معنى "نملي" نطيل ونؤخر ، والاملاء الامهال والتأخير ، قال الواحدي رحمه الله : واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان ، يقال : ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد ، قال الاصمعي : يقال : أملى عليه الزمان أي طال ، وأملى له أي طول له وأمهله/ قال أبو عبيدة : ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار.
المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه : الأول : أن هذا الاملاء عبارة عن اطالة المدة ، وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى ، والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير ، وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. الثاني : أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان ، وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بارادة الله ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين. الثالث : أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الاملاء ، أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان ، والاتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال ، وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم. قالت المعتزلة :
(1/1314)
/ أما الوجه الأول : فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير ، إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد ، لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة ، فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ، ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل ، أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 437
وأما الوجه الثاني : فقد قالوا : ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) وقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه } (النساء : 64) بل الآية تحتمل وجوها من التأويل : أحدها : أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى : {فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) وقوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (الأعراف : 179) وقوله : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِه } (إبراهيم : 30) وهم ما فعلوا ذلك لطلب الاضلال ، بل لطلب الاهتداء ، ويقال : ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق اذا كانت عاقبة الموعظة ذلك ، وثانيها : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها : أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان ، أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز. ورابعها : وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله : {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } غير محمول على الغرض باجماع الأمة ، أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض ، وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والايلام ، بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الاحسان ، واذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض ، وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ، ثم بعد هذا : قول القائل : ما المراد من هذه اللام غير ملتفت اليه ، لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل ، فاذا بطل ذلك سقط استدلاله.
وأما الوجه الثالث : وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ، ويلزم أن يكون الله موجباً لا مختارا/ وهو بالاجماع باطل.
والجواب عن الأول : أن قوله : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ} معناه نفي الخيرية في نفس الأمر ، وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر ، لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح ، فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية / لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 437
وأما السؤال الثاني : وهو تمسكهم بقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وبقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ} (النساء : 64).
فجوابه : أن الآية التي تمسكنا بها خاص ، والآية التي ذكرتموها عام ، والخاص مقدم على العام.
وأما السؤال الثالث : وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر ، وأيضاً فان البرهان العقلي يبطله ؛ لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان ، كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب ، وعدم حصوله محال ، وإرادة المحال محال ، فيمتنع أن يريد منهم الايمان ، ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان ، وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة.
وأما السؤال الرابع : وهو التقديم والتأخير.
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن التقديم والتأخير ترك للظاهر. وثانيها : قال الواحدي رحمه الله : هذا إنما يحسن لو جازت قراءة {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ } بكسر "إنما" وقراءة {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } بالفتح. ولم توجد هذه القراءة ألبتة. وثالثها : أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الاملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان ، فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع.
وأما السؤال الخامس : وهو قوله : هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل.
(1/1315)
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد ، فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع ، وأيضاً قوله : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان اليهم ، والقوم لا يقولون بذلك ، فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه.
وأما السؤال السادس : وهو المعارضة بفعل الله تعالى.
فالجواب : أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه ، فلم يمكن أن يكون العلم مانعاً عن القدرة. أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه ، فصلح أن يكون هذا العلم مانعاً للعبد عن الفعل ، فهذا تمام المناظرة في هذه الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 437
المسألة السادسة : اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية ، وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية ، اختلف فيه قول أصحابنا ، فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من/ النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا هذه الآية دالة على أن أطالة العمر وإيصاله الى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة ، لانه تعالى نص على أن شيئاً من ذلك ليس بخير ، والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فانه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما ، فاذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة ، وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر ، وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول : تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 437
441
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد ، فأخبر تعالى ان الاحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة ، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم اياهم مع ما كان بهم من الجراحات الى الخروج لطلب العدو ، ثم دعائه اياهم مرة أخرى الى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان ، فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق ، لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم ، ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود الى الجهاد ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز ، فهذا وجه النظم. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي : {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ} بالتشديد ، وكذلك في الافعال والباقون {يَمِيزَ} بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة ، قال الواحدي رحمه الله : وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا او أميزه تمييزاً ، ومنه الحديث "من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة" وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف / في اللفظ فكان أولى ، وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول : التشديد للكثرة ، فاما واحد من واحد فيميز بالتخفيف ، والله تعالى قال : {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } فذكر شيئين ، وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق ، وأيضا قال تعالى : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ} (يس : 59) وهو مطاوع الميز ، وحجة من قرأ بالتشديد : أن التشديد للتكثير والمبالغة ، وفي المؤمنين والمنافقين كثرة ، فلفظ التمييز ههنا أولى ، ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس ، فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 441
المسألة الثانية : قد ذكرنا أن معنى الآية : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق واشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب ، أي المنافق من المؤمن. واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها : أحدها : بالقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة ، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلّم ، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره. وثانيها : أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين ، فلما قوي الاسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله ، وعند ذلك حصل هذا الامتياز. وثالثها : القرائن الدالة على ذلك ، مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الاسلام وقوته ، والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك.
المسألة الثالثة : ههنا سأل ، وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين ، وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين ، وان لم يظهر لم يحصل موعود الله.
وجوابه : أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني ، لا الامتياز القطعي.
(1/1316)
ثم قال تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز ، ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول : إن فلانا منافق وفلانا مؤمن/ وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار ، فان سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه ، بل لا سبيل لكم الى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات ، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق ، فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء ، فلهذا قال : {وَلاـَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِه مَن يَشَآءُ } أي ولكن الله يصطفى من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق. ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان ، ويحتمل أيضا أن يكون المعنى : وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول ، بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة ، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل.
ثم قال : {مَّا كَانَ اللَّهُ} والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بوقوع / الحوادث المكروهة في قصة أحد ، فبين الله تعالى انه كان فيها مصالح. منها تمييز الخبيث من الطيب ، فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال : {مَّا كَانَ اللَّهُ} يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها ، فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله ، وإنما قال : {وَرُسُلِه } ولم يقل : ورسوله لدقيقة ، وهي أن الطريق الذي به يتوصل الى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد صلى الله عليه وسلّم ، فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء ، فلهذه الدقيقة قال : {وَرُسُلِه } والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد ، فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل ، ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال : {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهو ظاهر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 441
0
اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة {وَلا تَحْسَبَنَّ} بالتاء والباقون بالياء ، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج : معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم ، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه ، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان : الأول : أن يكون فاعل {يَحْسَبَنَّ} ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أو ضمير أحد ، والتقدير : ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم. الثاني : أن يكون فاعل {يَحْسَبَنَّ} هم الذين يبخلون ، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا ، وتقديره : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم ، وانما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه ، كقوله : من كذب كان شراً له ، أي الكذب ، ومثله :
/ إذا نهى السفيه جرى إليه
أي السفه وأنشد الفراء
هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول
فقوله به : يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك.
المسألة الثانية : هو في قوله : {هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ } تسميه البصريون فصلا ، والكوفيون عماداً ، وذلك لأنه لما ذكر "يبخلون" فهو بمنزلة ما اذا ذكر البخل ، فكأنه قيل : ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم ، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة ، وللخبر حقيقة ، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر ، فاذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة "هو".
المسألة الثالثة : اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع ، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا ، وأن يكون علما.
فالقول الأول : ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال ، والمعنى : لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم ، بل هو شر لهم ، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم ، وهو المراد من قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله : {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } .
جزء : 9 رقم الصفحة : 441
(1/1317)
والقول الثاني : أن المراد من هذا البخل : البخل بالعلم ، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلّم وصفته ، فكان ذلك الكتمان بخلا ، يقال فلان يبخل بعلمه ، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل ، فاذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلّم كان ذلك بخلا.
واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه تعالى قال : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه } ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا الى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ، ولو فسرناها بالمال لم نحتج الى المجاز فكان هذا أولى. الثاني : أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن/ ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم ، إلا على سبيل التكلف ، فكان الأول أولى.
المسألة الرابعة : أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب ، وان منع التطوع / لا يكون بخلا ، واحتجوا عليه بوجوه : أحدها : ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل ، والوعيد لا يليق إلا الواجب. وثانيها : أنه تعالى ذم البخل وعابه ، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به. وثالثها : وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل ، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه ، فيكون لا محالة تاركا التفضل ، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة ، تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا. ورابعها : قال عليه الصلاة والسلام : "وأي داء أدوأ من البخل" ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف. وخامسها : أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل. وسادسها : أنه تعالى قال : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة : 3) وكلمة "من" للتبعيض ، فكان المراد من هذه الآية : الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ، ثم إنه تعالى قال في صفتهم : { أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِم وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة : 5) فوصفهم بالهدى والفلاح ، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك. فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب ، إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة ، منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم ، فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم ، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فانه يجب عليه أن يدفع اليه مقدار ما يستبقي به رمقه ، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 441
ثم قال تعالى : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذا الوعيد وجوه : الأول : أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم. قيل : انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالاطواق تلتوي في أعناقهم ، ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم ، فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها ، وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى وجهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم ، فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم. ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ، ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم } (التوبة : 35) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول : أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي.
/ القول الثاني : في تفسير قوله : {سَيُطَوَّقُونَ} قال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ} (البقرة : 184) قال المفسرون : يكلفونه ولا يطيقونه ، فكذا قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } (آل عمران : 180) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به ، فيكون ذلك توبيخا على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا.
(1/1318)
والقول الثالث : أن قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه } أي سيلزمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا ، يقال منه : فلان كالطوق في رقبة فلان ، والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق ، ومنه يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى : {وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـا اـاِرَه فِى عُنُقِه } (الإسراء : 13).
القول الرابع : إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى {سَيُطَوَّقُونَ} أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار ، قال عليه الصلاة والسلام : "من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة" والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 441
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم غير بعيد ، وذلك لأن اليهود والنصارى موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به. قال تعالى في صفتهم : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (النساء : 53) وقال أيضا فيهم : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} (النساء : 37) وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله : {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } (آل عمران : 181) وذلك من أقوال اليهود ، ولا يبعد أيضاً أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم ، وفي البخل بالمال ، ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق ، وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة ، أما قوله : {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار ، وأما قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } فهو صريح بالوعيد.
واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة.
ثم قال تعالى : {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وفيه وجهان : الأول : وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه } (الحديد : 7) والثاني : وهو قول الأكثرين : المراد أنه يفنى أهل / السموات والأرض وتبقى الاملاك ولا مالك لها إلا الله ، فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الاملاك ، فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها ، والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى ، فيصير كالميراث. قال ابن الانباري : يقال : ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه ، وقال تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ } (النمل : 16) وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {بِمَا يَعْمَلُونَ} بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون ، والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه ، والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب ، وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله : {وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران : 179) والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه ، والغيبة أقرب اليه من الخطاب قال صاحب الكشاف : الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 441
445
اعلم أن في كيفية النظم وجهين : الأول : أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك ، شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته.
فالشبهة الأولى : أنه تعالى لما أمر بانفاق الأموال في سبيله قالت الكفار : انه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا ، لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا ، ولما كان الفقر على الله تعالى محالا ، كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا ، وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى.
/ الوجه الثاني : في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى ، فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها ، فالنبي صلى الله عليه وسلّم لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبياً لما طلبت الأموال لهذا الغرض ، فانه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في اصلاح دينه إلى أموالنا ، بل لو كنت نبياً لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي ، فهذا هو وجه النظم ، وفي الآية مسائل :
(1/1319)
المسألة الأولى : اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول ان الله فقير ونحن أغنياء ، بل الانسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الالزام ، وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود ، روي أنه صلى الله عليه وسلّم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الاسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسنا ، فقال فنحاص اليهودي : إن الله فقير حتى سألنا القرض ، فلطمه أبو بكر في وجهه وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجحد ما قاله ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لأبي بكر رضي الله عنه. وقال آخرون : لما أنزل الله تعالى {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَـاعِفَه لَه ا أَضْعَافًا كَثِيرَةً } (البقرة : 245) قالت اليهود : نرى إله محمد يستقرض منا ، فنحن إذن أغنياء وهو فقير ، وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا ، وأرادوا قوله : {فَيُضَـاعِفَه لَه ا أَضْعَافًا كَثِيرَةً } .
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل ، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة : يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية. وثانيها : ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر. وثالثها : أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير.
والوجه الرابع : أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا : لما كان الاله قادرا فأي حاجة به الى جهادنا ، وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا : لما كان الاله غنيا فأي حاجة به الى أموالنا. فكان إسنادهم هذه الشبهة الى اليهود لائقا من هذا الوجه ، وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك. والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، يعني لو صدق محمد في/ أن الاله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا ، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الاخبار ، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية ، فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال ، ونظيره قوله تعالى : {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَـادِلُكَ} (المجادلة : 1).
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة ، لأنه تعالى قال : {الَّذِينَ قَالُوا } وظاهر هذا القول يفيد الجميع. وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي ، فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك ، فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك.
ثم قال تعالى : {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله {اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ} برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم ، والباقون بالنون وفتح اللام إضافة اليه تعالى. قال صاحب "الكشاف" : وقرأ الحسن والأعرج بالياء وتسمية الفاعل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
المسألة الثانية : هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها : أحدها : أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغي ولا يطرح ، وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه ، والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم. الثاني : سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة ، والثالث : عندي فيه احتمال آخر ، وهو أن المراد : سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق الى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بكل ما قدروا عليه.
ثم قال : {اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر ، هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم منذ كانوا ، مصرون على الجهالات والحماقات.
(1/1320)
المسألة الثانية : في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان : أحدهما : سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله ، كقوله تعالى : {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي قتلها أسلافكم {وَإِذْ نَجَّيْنَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} (البقرة : 49) {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} (البقرة : 50) والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم ، والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معاً أقوالهم وأفعالهم.
والوجه الثاني : سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ، ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم / الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنه عثمان رضي الله عنه وحسن قتله ، فقال الشعبي : صرت شريكا في دمه ، ثم قرأ الشعبي {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} (آل عمران : 183) فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة.
ثم قال تعالى : {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة على لفظ ما لم يسم فاعله {اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ} برفع اللام {وَيَقُولُ ذُوقُوا } بالياء المنقطة من تحت/ والباقون {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } بالنون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
المسألة الثانية : المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق ، كما أذقت المسلمين الغصص ، والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم.
المسألة الثالثة : يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد ، وإن لم يكن هناك قول :
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا ، فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال ، فوجب أن يقال : إنه لم يطلب المال من عبيده ، وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها ؟
وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها ؟
فنقول : إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الاغنياء.
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد : منها : أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، فانه اذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة ، ومنها : أن يتوسل بذلك الانفاق الى الثواب المخلد المؤبد ، ومنها : أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله ، وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فانه يقوى في حب الله ، وذلك رأس السعادات ، وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مراراً وأطوارا ، كما قال : {وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} (الكهف : 46) وقال : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (الأعلى : 17) وقال : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } (التوبة : 72) وقال : {فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس : 58) فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت ، فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد.
/ ثم قال تعالى : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} وفي الآية مسائل :
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء ، فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا.
المسألة الثانية : قال الجبائي : الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب ، وفيه بطلان قول المجبرة : ان الله يعذب الأطفال بغير جرم ، ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب ، ويدل على كون العبد فاعلا ، وإلا لكان الظلم حاصلا.
والجواب : ان ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مراراً وأطوارا.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت : 46) يفيد نفي كونه ظلاما ، ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل ، فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم.
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا ، وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب اليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين.
(1/1321)
المسألة الرابعة : اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز ، لأن الفاعل هو الانسان لا اليد ، إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجاز/ ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (الحج : 10) والكل حسن متعارف في اللغة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
0
قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُا قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} .
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلى الله عليه وسلّم ، وتقريرها أنهم قالوا : ان الله عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك / فوجب أن لا تكون من الأنبياء ، فهذا بيان وجه النظم ، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن التابوب ، وفنحاص بن عازوراء وغيرهم ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً ، وقد عهد الينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويكون لها دوي خفيف ، تنزل من السماء ، فان جئتنا بهذا صدقناك ، فنزلت هذه الآية. قال عطاء : كانت بنو اسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت ، والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه ، وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان.
واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين : الأول وهو قول السدى : أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط ، وذلك أنه تعالى قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام. فانهما اذا أتيا فآمنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان تأكله النار. قال : وكانت هذه العادة باقية الى مبعث المسيح عليه السلام ، فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت.
القول الثاني : ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أنه لو كان ذلك حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك ، فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان. وثانيها : أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء ، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة ، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر. وثالثها : أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة ، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار ، أو شيء آخر ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق ، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
وأما الثاني : فانه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة ، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة ، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا ، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية والله أعلم.
/ المسألة الثانية : في محل {الَّذِينَ} وجوه : أحدها : قال الزجاج : الجر ، وهذا نعت العبيد ، والتقدير : وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا. وثانيها : أن التقدير : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ، وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا. وثالثها : أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير : هم الذين قالوا ذلك.
المسألة الثالثة : قال الواحدي رحمه الله : القربان البر الذي يتقرب به إلى الله ، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا ، كالكفران والرجحان والخسران ، ثم سمى به نفس المتقرب به ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة "يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان" أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه.
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال : {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} وفيه مسائل :
(1/1322)
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد ، بل على سبيل التعنت ، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام ، وهم أظهروا هذا المعجز ، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى ، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً ، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت ، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم ، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه ، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين ، واذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد ، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك ، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة.
المسألة الثانية : إنما قال : {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى} ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه.
المسألة الثالثة : المراد بقوله : {وَبِالَّذِى قُلْتُمْ} هو ما طلبوه منه ، وهو القربان الذي تأكله النار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
واعلم أنه تعالى لم يقل : قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم ، بل قال : {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ} والفائدة : أن القوم قالوا : ان الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار ، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم : ان الأنبياء المتقدمين أتوا / بهذا القربان ، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم ، لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط ، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا ، أما لما قال : {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ} كان الالزام واردا ، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق ، ولما أتوا بهذا القربان فقد اتوا بالشرط ، وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا ، فثبت أنه لولا قوله : {جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـاتِ} (غافر : 28) لم يكن الالزام واردا على القوم والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 445
450
في قوله : {فَإِن كَذَّبُوكَ} وجوه : أحدها : فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم ، فقد كذب رسل من قبلك : نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم. والثاني : ان المراد : فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ، ولعل هذا الوجه أوجه ، لأنه تعالى لم يخصص ، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج. والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء ، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم ، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ، ومع هذا فانهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة ، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى ، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت ، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات ، وأما الزبر فهي الكتب ، وهي جمع زبور ، والزبور الكتاب ، بمعنى المزبور أي المكتوب ، يقال : زبرت الكتاب / أي كتبته ، وكل كتاب زبور. قال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة ، وعلى هذا : الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر ، يقال : زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل ، وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق ، وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ. وقرأ ابن عباس {وَبِالزُّبُرِ} أعاد الباء للتأكيد وأما "المنير" فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته ، وفي الآية مسألتان.
المسألة الأولى : المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب ، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم ، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم ، فالتوراة والانجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة ، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة ، وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام.
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
(1/1323)
المسألة الثانية : عطف "الكتاب المنير" على "الزبر" مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر ، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر ، فحسن العطف كما في قوله : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} (الأحزاب : 7) وقال : {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة ، أو كونه باقياً على وجه الدهر ، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر : الصحف ، وبالكتاب المنير التوراة والانجيل والزبور.
قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } .
اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين : أحدهما : أن عاقبة الكل الموت ، وهذه الغموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها ، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه. والثاني : ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ، ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء/ وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } سؤال : وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس ، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات ، وأيضا قال تعالى : {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه } (الزمر : 68) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا / الاستثناء ، وهذا العموم يقتضي موت الكل ، وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس.
وجوابه : أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم ، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة.
المسألة الثانية : {ذَآاـاِقَةُ} فاعلة من الذوق ، واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر ، كقولك : زيد ضارب عمرو أمس ، فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب تقول : هو ضارب زيد غدا ، وضارب زيدا غدا ، قال تعالى : {هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّه } (الزمر : 38) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال. وروي عن الحسن أنه قرأ {ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } بالتنوين ونصب "الموت" وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش {ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } بطرح التنوين مع النصب كقوله :
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
ولا ذاكر الله إلا قليلا
وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله : {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } (النساء : 97 ، النحل : 28) ان شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة : زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية ، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ، ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية ، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة. قالوا وقوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن ، لأنه جعل النفس ذائقة الموت ، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق ، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن ، وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن ، وأيضا : لفظ النفس مختص بالأجسام ، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية ، فأما الأرواح المجردة فلا ، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك ، فانه روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن : 26) قالت الملائكة مات أهل الأرض ، ولما نزل قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } قالت الملائكة متنا.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف.
(1/1324)
/ ثم قال تعالى : {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم. والسعادة بلا خوف الانقطاع ، وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة/ بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه.
ثم قال تعالى : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } الزحزحة التنحية والابعاد ، وهو تكرير الزح ، والزح هو الجذب بعجلة ، وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار ، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "الدنيا سجن المؤمن".
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين ، الخلاص عن العذاب ، والوصول الى الثواب ، فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" وقرأ قوله تعالى : {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ} وقال عليه الصلاة والسلام : "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه".
ثم قال : {فَازَا وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ} الغرور مصدر من قولك : غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور ، وعن سعيد بن جبير : أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع والله أعلم.
واعلم أن فساد الدنيا من وجوه : أولها : أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره ، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا ، وثانيها : أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد ، فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك ، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته ، وثالثها : أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة /علمت أن الدنيا متاع الغرور ، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال : لين مسها قاتل سمها. وقال بعضهم : الدنيا ظاهرها مطية السرور ، وباطنها مطية الشرور.
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
0
اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى الله عليه وسلّم بقوله : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ } (آل عمران : 185) زاد في تسليته بهذه الآية ، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد ، فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم ، من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال ، والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع ، وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فاذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه ، أما اذا كان عالما بأنه سينزل ، فاذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
أما قوله : {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : اللام لام القسم ، والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون ، ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم ، ومثله {اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ} (البقرة : 16).
المسألة الثانية : {لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن ، ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء ، ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر.
المسألة الثالثة : اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم : المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار ، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد. وقال الحسن : المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال ، وهي الصلاة والزكاة والجهاد. قال القاضي : والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما.
(1/1325)
/ وأما قوله : {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين ، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ، ولقد هجاه كعب بن الأشرف ، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم. وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلّم ويثبطون المسلمين عن نصرته ، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
ثم قال عطفا على الأمرين : {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَالِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : بعث الرسول صلى الله عليه وسلّم أبا بكر الى فنحاص اليهودي يستمده ، فقال فنحاص قد احتاج ربك الى أن نمده ، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له حين بعثه : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي ، فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : للآية تأويلان : الأول : أن المراد منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال ، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة ، وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب الى دخول المخالف في الدين/ كما قال : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) وقال : {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (الجاثية : 14) والمراد بهذا الغفران الصبر. وترك الانتقام وقال تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) وقال : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف : 35) وقال : {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت : 34) قال الواحدي رحمه الله : كان هذا قبل نزول آية السيف. قال القفال رحمه الله : الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد ، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلّم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال. والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه ، واعلم أن قول الواحدي ضعيف ، والقول ما قاله القفال.
الوجه الثاني في التأويل : أن يكون المراد من الصبر والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والانكار عليهم ، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد ، والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار ، والسكوت عن إظهار الانكار.
المسألة الثالثة : الصبر عبارة عن احتمال المكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي / فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى ، لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي ، وفيه وجه آخر : وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الاساءة ، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا ، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة ، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
المسألة الرابعة : قوله : {مِنْ عَزْمِ الامُورِ} أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه ، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه ، فتأخذ نفسه لا محالة به ، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل : عزمت عليك أن تفعل كذا ، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه ، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه ، ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : فان ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 450
455
(1/1326)
اعلم أن في كيفية النظم وجهين : الأول : أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والانجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام ، أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته ، والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل : كيف يليق بكم ايراد الطعن في نبوته ودينه مع ان كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه. الثاني : أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلى الله عليه وسلّم احتمال الأذى من أهل الكتاب ، وكان من جملة ايذائهم للرسول صلى الله عليه وسلّم أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والانجيل من الدلائل الدالة على نبوته ، فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة ، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو بالياء فيهما / كناية عن أهل الكتاب ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق ، أي فقال لهم : لتبيننه ، ونظير هذه الآية قوله : {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى إسرائيل لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} (البقرة : 83) بالتاء والياء وأيضا قوله : {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الارْضِ} (الأسراء : 4).
المسألة الثانية : الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة ، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أورودا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها ، فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق. وعن سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : ان أصحاب عبدالله يقرؤن {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ} (آل عمران : 81) فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. واعلم أن الزام هذا الاظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 455
المسألة الثالثة : الضمير في قوله : {لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه } إلى ماذا يعود ؟
فيه قولان : قال سعيد بن جبير والسدي : هو عائد إلى محمد عليه السلام ، وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور ، وقال الحسن وقتادة : يعود إلى الكتاب في قوله : {أُوتُوا الْكِتَـابَ} أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والانجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم.
المسألة الرابعة : اللام لام التأكيد يدخل على اليمين ، تقديره : استحلفهم ليبيننه.
المسألة الخامسة : إنما قال : ولا تكتمونه ولم يقل : ولا تكتمنه ، لأن الواو واو الحال دون واو العطف ، والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين.
فان قيل : البيان يضاد الكتمان ، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان ، فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان ؟
قلنا : المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم من التوراة والانجيل ، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة.
المسألة السادسة : اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فانه لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه ، لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب. حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال : ما الذي بلغني عنك ؟
فقال : ما كل الذي بلغنك عني قلته : ولا كل ما قلته بلغك ، قال : أنت الذي قلت : إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً ، فقال : نعم ، فقال : وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه ، قال : لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه. وقال قتادة : مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ، ومثل حكمة لا تخرج كمثل / صنم قائم لا يأكل ولا يشرب ، وكان يقول : طوبى لعالم ناطق ، ولمستمع واع ، هذا علم علما فبذله ، وهذا سمع خيرا فوعاه ، قال عليه الصلاة والسلام : "من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار" وعن علي رضي الله عنه : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
ثم قال تعالى : {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِه ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه ، والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد ، ونقيضه : جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله : {وَاشْتَرَوْا بِه ثَمَنًا قَلِيلا } معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا ، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد ، من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم ، أو لجر منفعة ، أو لتقية وخوف ، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد.
(1/1327)
جزء : 9 رقم الصفحة : 455
456
اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله : {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } (آل عمران : 186) فبين تعالى ان من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة ، ولا شك أن الانسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال ، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها ، وبين ما لهم من الوعيد الشديد وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت ، وكذا في قوله : {فَلا تَحْسَبَنَّهُم} أما القراءة الأولى ففيها وجهان : أحدهما : أن يقرأ كلاهما بفتح الباء. والثاني : أن يقرأ كلاهما بضم الباء ، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير : لا تحسبن يا محمد ، أو أيها السامع ، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين : وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون ، والثاني : بمفازة وقوله : {فَلا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ} تأكيد / للأول وحسنت اعادته لطول الكلام ، كقولك : لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا ، وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله : {لا تَحْسَبَنَّ} ففيها أيضا وجهان : الأول : بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول صلى الله عليه وسلّم والباقي كما علمت.
والوجه الثاني : بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه ، ثم أعاد قوله : {فَلا تَحْسَبَنَّ} بضم الباء وقوله : {هُمْ} رفع باسناد الفعل اليه ، والمفعول الأول محذوف والتقدير : ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، والمفسرون ذكروا فيه وجوها : الأول : أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس ، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب ، وهو قول ابن عباس ، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك ، فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم ، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين والثاني : روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس ، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك ، فأطلع رسول الله على هذا السر. والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء. والثالث : يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم ، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه. الرابع : أنه نزل في المنافقين فانهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا/ ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم. الخامس : قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغزو ، ويفرحون بقعودهم عنه فاذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين. السادس : المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، / وبالاقرار بنبوته ودينه ، ثم أنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى ، ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل ، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد ، وهو أن الانسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به ، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله.
المسألة الثالثة : في قوله : {بِمَآ أَتَوا } بحثان : الأول : قال الفراء : قوله : {بِمَآ أَتَوا } يريد فعلوه كقوله : {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} (النساء : 16) وقوله : {لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا فَرِيًّا} (مريم : 27) أي فعلت. قال صاحب "الكشاف" : أتى وجاء ، يستعملان بمعنى فعل ، قال تعالى : {إِنَّه كَانَ وَعْدُه مَأْتِيًّا} (مريم : 61) {لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا فَرِيًّا} ويدل عليه قراءة أبي {يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } .
(1/1328)
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
البحث الثاني : قرىء آتوا بمعنى أعطوا ، وعن علي رضي الله عنه {بِمَآ أُوتُوا } .
المسألة الرابعة : قوله : {بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ } أي بمنجاة منه ، من قولهم : فاز فلان اذا نجا ، وقال الفراء : أي ببعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه ، وذكر ذلك في قوله : {فَقَدْ فَازَ} ثم حقق ذلك بقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولا شبهة أن الآية ، واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم بالصبر على أذاهم.
ثم قال : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض ، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
0
اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد الى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والالهية والكبرياء والجلال ، فذكر هذه الآية. قال ابن عمر : قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ، / ثم قال لي : يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي ، فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك. فقام الى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلي ، فقرأ من القرآن وجعل يبكي ، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الارض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي ، فقال له : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ، ثم قال : ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروي : ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها. وعن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان اذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر الى السماء ويقول : إن في خلق السموات والارض. وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان اذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة. فعبدها فتى من فتيانهم فما اظلته السحابة ، فقالت له أمه : لعل فرطة صدرت منك في مدتك ، قال : ما أذكر ، قالت : لعلك نظرة مرة الى السماء ولم تعتبر قال نعم ، قالت : فما أتيت إلا من ذلك.
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرها هنا أيضا ، وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله : {لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة : 164) وختمها ههنا بقوله : {لايَـاتٍ لاوْلِى الالْبَـابِ} وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى ، حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة : وهي السموات والأرض ، والليل والنهار ، فهذه أسئلة ثلاثة :
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
السؤال الأول : ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين ؟
والسؤال الثاني : لم اكتفي ههنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية ؟
والسؤال الثالث : لم قال هناك : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة : 164) وقال ههنا : {لاوْلِى الالْبَـابِ} .
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه : إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين ، بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر ، فكذلك ههنا إذا حدق الانسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر ، فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر ، كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر ، فعلى هذا : السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل ، فاذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله ، فالسالك في أول أمره كان طالباً لتكثير الدلائل ، فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالباً لتقليل الدلائل ، حتى إذا زالت / الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله/ واليه الاشارة بقوله : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَا إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} (طه : 12) والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما ، وقيل له : إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل.
(1/1329)
إذا عرفت هذه القاعدة ، فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل ، ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها ، تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات الى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول ، فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية ، التنبيه على ما ذكرناه ، ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية ، التي هي الدلائل الارضية ، وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر ، والعجائب فيها أكثر ، وانتقال القلب منها الى عظمة الله وكبريائه أشد ، ثم ختم تلك الآية بقوله : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وختم هذه الآية بقوله : {لاوْلِى الالْبَـابِ} لأن العقل له ظاهر وله لب ، ففي أول الأمر يكون عقلا ، وفي كمال الحال يكون لبا ، وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه ، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
0
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الالهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية ، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام : التصديق بالقلب ، والاقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، فقوله تعالى : {يَذْكُرُونَ اللَّهَ} إشارة إلى عبودية اللسان ، وقوله : {قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} إشارة الى عبودية الجوارح والاعضاء ، وقوله : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} إشارة الى عبودية القلب والفكر والروح ، والانسان ليس إلى هذا المجموع ، فاذا كان اللسان مستغرقا في الذكر ، والأركان في الشكر ، والجنان في الفكر ، كان هذا العبد مستغرفا بجميع أجزائه في العبودية ، فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية ، وهذه الآية دالة على كمال العبودية ، فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق ، وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور الى جناب الملك الغفور ، ونقول في الآية مسائل :
المسألة الأولى : للمفسرين في هذه الآية قولان : الأول : أن يكون المراد منه كون الانسان دائم الذكر لربه ، فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة ، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة.
والقول الثاني : أن المراد من الذكر الصلاة ، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام ، فان عجزوا ففي حال القعود ، فان عجزوا ففي حال الاضطجاع ، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال ، والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر ، وقال عليه الصلاة والسلام : "من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله".
المسألة الثانية : يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان ، وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب ، والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين.
المسألة الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : إذا صلى المريض مضطجعاً وجب أن يصلي على جنبه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : بل يصلى مستلقياً حتى إذا وجد خفة قعد ، وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية ، وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب ، فكان هذا الوضع أولى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الانسان مستلقياً على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر ، وأما كونه مضطجعاً على الجنب فانه غير مانع منه ، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر ، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق ، فكان هذا الوضع أولى ، لكونه أقرب إلى اليقظة ، وإلى الاشتغال بالذكر.
المسألة الرابعة : محل {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} نصب على الحال عطفاً على ما قبله ، كأنه قيل : قياماً وقعوداً ومضطجعين.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر ، لا جرم قال بعده : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وفيه مسائل :
(1/1330)
/ المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله ، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله ، بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض ، وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام : "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق" والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة/ إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة ، فاذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها ، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "من عرف نفسه عرف ربه" معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب ، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء ، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه ، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة ، فاذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول : إنه ليس بجوهر ولا عرض ، ولا مركب ولا مؤلف ، ولا في الجهة ، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب ، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن التفكر في الله ، وأمر بالتفكر في المخلوقات ، فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره ، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه ، بل أمر بالفكر في مخلوقاته.
المسألة الثانية : اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله ، فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل ، ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجمالياً ، أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة ، ودقائق لطيفة ، فانه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
إذا عرفت هذا فنقول : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر : 57) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ولو أن الانسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقا واحداً ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة. ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه / الخلقة حكما بالغة وأسراراً عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم أن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الانسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه ، فاذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ، عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم ، فاذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض ، واذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الاحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين ، بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها ، فعند هذا يقول : سبحانك والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم ، ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول : فقنا عذاب النار. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال : أشهد أن لك ربا وخالقا ، اللهم اغفر لي فنظر الله اليه فغفر له" وقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "لا عبادة كالتفكر" وقيل : الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "لا تفضلوني على يونس بن متى فانه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض" قالوا : وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله ، لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات اليه.
(1/1331)
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء.
النوع الأول : قوله : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية إضمار وفيه وجهان ، قال الواحدي رحمه الله : التقدير : يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا ، وقال صاحب "الكشاف" : انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين.
المسألة الثانية : هذا : في قوله : {مَا خَلَقْتَ هَـاذَا} كناية عن المخلوق ، يعني ما خلقت هذا المخلوق/ العجيب باطلا ، وفي كلمة {هَـاذَآ } ضرب من التعظيم كقوله : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} (الإسراء : 9).
المسألة الثالثة : في نصب قوله {بَـاطِلا } وجوه : الأول : أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا. الثاني : أنه بنزع الخافض تقديره : بالباطل أو للباطل. الثالث : قال صاحب "الكشاف" : يجوز أن يكون "باطلا" حالا من "هذا".
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الاحسان إلى البعيد البعيد ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السموات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا ، وذلك ضد هذه الآية قالوا : وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة : ان الله تعالى أراد بخلق السموات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها ، وذلك رد لهذه الآية ، قالوا : وقوله : {سُبْحَـاـنَكَ} تنزيه له عن خلقه لهما باطلا ، وعن كل قبيح ، وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال : الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء ، وخلق السموات والأرض خلق متقن محكم ، ألا ترى إلى قوله : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍا فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك : 3) وقال : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} (النبأ : 12) فكان المراد من قوله : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
فان قيل : هذا الوجه مدفوع بوجوه : الأول : لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله : {سُبْحَـاـنَكَ} تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق ، ومعلوم أن ذلك باطل. الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير : ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة ، وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك ، فقنا عذاب النار ، لأنه جزاء من عصي ولم يطع ، فثبت أنا إذا فسرنا قوله : {مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} بما ذكرنا حسن هذا النظم ، أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم. الثالث : أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقال في آية أخرى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ} (الدخان : 38 ـ 39) وقال في آية أخرى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون : 115) قوله : {فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } (المؤمنون : 116) أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عباث ، وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى.
(1/1332)
والجواب : اعلم ان بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته ، وشاهده/ أن كل ممكن لذاته فانه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وليس في هذه القضية تخصيص بكون ذلك الممكن مغايرا لافعال العباد ، بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله. واذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح ، إذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي : قوله : ولو كان كذلك لكان قوله : {سُبْحَـاـنَكَ} تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل. قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد : ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما ، وقوله : {سُبْحَـاـنَكَ} معناه انك وان خلقت السموات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج اليه والانتفاع به فيكون قوله : {سُبْحَـاـنَكَ} معناه هذا. قوله ثانيا : إنما حسن وصل قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا فسرناه بقولنا ، قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال : {سُبْحَـاـنَكَ} اعترف بكونه غنياً عن كل ما سواه ، فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة اليه في الدنيا والآخرة فقال : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه ، وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا ، ونحن نقول بموجبه ، وان أفعال الله كلها حكمة وصواب ، لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه ، فكان حكمه صوابا على الاطلاق فهذا ما في هذه المناظرة والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
المسألة الخامسة : احتج حكماء الاسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الافلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة ، وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية ، قالوا : لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ، وذلك رد للآية. قالوا : وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار ، وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الافلاك والكواكب في هذا المعنى ، فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة ، فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص.
أجاب المتكلمون عنه : بأن قالوا : لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسباباً على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة.
أما قوله تعالى : {سُبْحَـاـنَكَ} فقيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا إقرار بعجز العقول عن الاحاطة بآثار حكمة الله في خلق السموات / والأرض ، يعني : أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر ، وهو أن خالقها ما خلقها باطلا ، بل خلقها لحكم عجيبة ، وأسرار عظيمة ، وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها.
المسألة الثانية : المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء ، وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية.
أما قوله تعالى : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى/ وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثاً ، فان كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم ، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في أنه لا يقبح من الله شيء أصلا ، ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء : 82).
النوع الثاني من دعواتهم : قوله تعالى حكاية عنهم : {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه ا وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله ، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالاجابة إلا إذا كان مقروناً بالاخص ، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
(1/1333)
المسألة الثانية : قال الواحدي : الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض. قال الزجاج : أخزى الله العدو ، أي أبعده وقال غيره : أخزاه الله. أي أهانه ، وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله ، وفي القرآن {وَلا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } (هود : 78) وقال المفضل : أخزاه الله. أي أهلكه وقال ابن الانباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة. ثم قال صاحب "الكشاف" : {فَقَدْ أَخْزَيْتَه } أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال : من سبق فلاناً فقد سبق ، ومن تعلم من فلان فقد تعلم.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن ، وذلك لأن صاحب الكبيرة اذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية ، والمؤمن/ لا يخزى لقوله تعالى : {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا.
والجواب : أن قوله {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} (التحريم : 8) لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا ، وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي ، وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الاثبات في وقت آخر ، هذا هو الذي صح عندي في الجواب ، وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه : أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } مخصوص بمن يدخل النار للخلود ، وهذا الجواب عندي ضعيف ، لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فانما دخلها للخلود ، فهذا لا يكون سؤالا عنهم. ثانيها : قال : المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ، وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله : {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} (التحريم : 8) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الاطلاق ، وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار ، فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة ، وثالثها : قال : الاخزاء يحتمل وجهين : أحدهما : الاهانة والاهلاك ، والثاني : التخجيل ، يقال : خزي خزاية اذا استحيا ، وأخزاه غيره اذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
واعلم أن حاصل هذا الجواب : أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الاهلاك/ واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والاثبات على معنييه جميعا ، واذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله : {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} غير المثبت في قوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } وعلى هذا يسقط الاستدلال ، إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى اذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين ، أما اذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد ، وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد ، سقط هذا الجواب لأن قوله : {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} لنفي الجنس وقوله : {فَقَدْ أَخْزَيْتَه } لاثبات النوع ، وحينئذ يحصل بينهما منافاة.
(1/1334)
المسألة الرابعة : احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي. وكل من دخل النار فانه يخزي ، فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار ، إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى. لأن صاحب الكبيرة مؤمن ، والمؤمن لا يخزى. إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى : {وَإِن طَآاـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنا بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى ا أَمْرِ اللَّه } (الحجرات : 9) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً ، والبغي من الكبائر بالاجماع ، وأيضا / قال تعالى : {الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 178) سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمناً ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله : {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} (التحريم : 8) ولقوله : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } (آل عمران : 194).
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
ثم قال تعالى : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (آل عمران : 195) وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين ، فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار ، وإنما قلنا إن كل من دخل النار فانه يخزى لقوله تعالى : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار.
والجواب عنه ما تقدم : أن قوله : {إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يَوْمَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ} (التحريم : 8) لا يدل على نفي الاخزاء مطلقاً ، بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي ، وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر.
المسألة الخامسة : قوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } عام دخله الخصوص في مواضع منها : أن قوله تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا } (مريم : 71 ـ 72) يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار ، وأهل الثواب يصانون عن الخزي. وثانيها : أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار ، وهم أيضا يصانون عن الخزي. قال تعالى : {عَلَيْهَا مَلَـا اـاِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} (التحريم : 6).
المسألة السادسة : احتج حكماء الاسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني ، قالوا : لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي ، والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني ، فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة.
المسألة السابعة : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين ، وقالوا : الخزي هو الهلاك/ فقوله : {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه } معناه فقد أهلكته ، ولو كانوا يخرجون من النار الى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك. والجواب : أنا لا نفسر الخزي بالاهلاك بل نفسره بالاهانة والتخجيل ، وعند هذا يزول كلامكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
أما قوله تعالى : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق ، وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع.
(1/1335)
/ والجواب من وجوه : الأول : أن القرآن دل على أن الظالم بالاطلاق هو الكافر ، قال تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} (البقرة : 254) ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا : {فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وثانيها : إن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا باذن الله ، قال تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } (البقرة : 255) واذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الاذن ، واذا حصل الاذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة ، وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى ، وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر ، وليس الحكم إلا لله ، فقوله : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال : {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} وقال : {وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ} (الأنفطار : 19) لا يقال : فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة ، لأنا نقول : بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب ، فلهم يوم القيامة هذه الحجة. اما الفساق فليس لهم ذلك ، فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الاطلاق. الثالث : أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم.
المسألة الثانية : المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار ، قالوا : لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له ، والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة.
والجواب : المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة.
النوع الثالث : من دعواتهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 456
466
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في المنادى قولان : أحدهما : أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين ، والدليل عليه قوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل : 125) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه } (الأحزاب : 46) {أَدْعُوا إِلَى اللَّه } (يوسف : 108) والثاني : أنه هو القرآن ، قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله : {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَـاَامَنَّا بِه } (الجن : 1 ـ 2) قالوا : والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي صلى الله عليه وسلّم ، أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه ، قالوا : وهذا / وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف ، لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد ، وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك ، فصار كأنه يدعو الى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل ، كما قيل في جهنم : {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } (المعارج : 17) إذ كان مصيرهم اليها ، والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ، ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان ، قال الشاعر :
يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية : في قوله : {يُنَادِى لِلايمَـانِ} وجوه : الأول : ان اللام بمعنى "إلى" كقوله : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (المجادلة : 3) {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } (المجادلة : 8) {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة : 5) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاـانَا لِهَـاذَا} (الأعراف : 43) ويقال : دعاه لكذا والى كذا ، وندبه له واليه ، وناداه له وإليه ، وهداه للطريق واليه ، والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى : أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا. الثاني : قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا ، كما يقال : جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا. والثالث : أن هذه اللام لام الأجل والمعنى : سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس ، أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ، ألا تراه قال : {رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا} أي لتؤمن الناس ، وهو كقوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه } (النساء : 64).
جزء : 9 رقم الصفحة : 466
المسألة الثالثة : قوله : {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى} نظيره قولك : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ، فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع ، لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فاغناك عن ذكره ، ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه ، وانه يقال : سمعت كلام فلان أو قوله.
المسألة الرابعة : ههنا سؤال وهو أن يقال : ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي ؟
(1/1336)
وجوابه : ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي ، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان ، ونظيره قولك : مررت بهاد يهدي للاسلام ، وذلك لأن المنادي اذا أطلق ذهب الوهم الى مناد للحرب ، أو لاطفاء النائرة ، أو لاغاثة المكروب ، أو الكفاية لبعض النوازل ، وكذلك الهادي ، وقد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، فاذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته.
المسألة الخامسة : قوله : {وَإِذَآ أُنزِلَتْ} فيه حذف أو إضمار/ والتقدير : آمنوا أو بأن آمنوا ، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك : {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الابْرَارِ} وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : أعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء : أولها : غفران الذنوب ، وثانيها : تكفير السيئات ، وثالثها : أن تكون وفاتهم مع الأبرار. أما الغفران فهو الستر والتغطية ، والتكفير أيضا هو التغطية ، يقال : رجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى به ، والكفر منه أيضا ، وقال لبيد :
في ليلة كفر النجوم ظلامها
اذا عرفت هذا : فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد.
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها : أحدها : أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب ، وثانيها : المراد بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنف ، وثالثها : أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة ، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة ، ورابعها : أن يكون المراد بالاول ما أتى به الانسان مع العلم بكونه معصية وذنبا ، وبالثاني : ما أتى به الانسان مع جهله بكونه معصية وذنبا.
وأما قوله : {وَتَوَفَّنَا مَعَ الابْرَارِ} ففيه بحثان : الأول : أن الأبرار جمع بر أو بار ، كرب وأرباب ، وصاحب وأصحاب ، الثاني : ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين : الأول : أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة ، قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة ، ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد ، والثاني : يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف ، أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا. والثالث : أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم ، ومنه قوله : {فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ} (النساء : 69).
جزء : 9 رقم الصفحة : 466
المسألة الثانية : احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم : {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} (آل عمران : 16) والاستدلال به من وجهين : الأول : أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر ، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ، ثم ان الله تعالى أجابهم اليه لأنه قال في آخر الآية : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (آل عمران : 195)وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة. والثاني : وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا ، فعند هذا قالوا : فاغفر لنا ذنوبنا ، والفاء في قوله : {فَاغْفِرْ} فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ، ثم ان الله تعالى أجابهم اليه بقوله : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} فدلت هذه الآية على ان مجرد الايمان سبب لحصول الغفران ، إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار ، فثبت دلالة هذه الآية من / هذين الوجهين على حصول العفو.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة ، فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فاذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب ، فلأن يقبل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم فيه كان أولى.
النوع الرابع : من دعائهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 466
(1/1337)
المسألة الثانية : احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم : {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} (آل عمران : 16) والاستدلال به من وجهين : الأول : أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر ، فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ، ثم ان الله تعالى أجابهم اليه لأنه قال في آخر الآية : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (آل عمران : 195)وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة. والثاني : وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا ، فعند هذا قالوا : فاغفر لنا ذنوبنا ، والفاء في قوله : {فَاغْفِرْ} فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ، ثم ان الله تعالى أجابهم اليه بقوله : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} فدلت هذه الآية على ان مجرد الايمان سبب لحصول الغفران ، إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار ، فثبت دلالة هذه الآية من / هذين الوجهين على حصول العفو.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة ، فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فاذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب ، فلأن يقبل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم فيه كان أولى.
النوع الرابع : من دعائهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 466
468
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى } فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها : وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك. وثانيها : وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك ، والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للايمان وهو ، الرسول وعقيب قوله : {مِنْ} وهو التصديق.
المسألة الثانية : ههنا سؤال : وهو أن الخلف في وعد الله محال ، فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع ؟
والجواب عنه من وجوه : الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل ، بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية ، وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة ، كقوله : {قَـالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } (الأنبياء : 112) وقوله : {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} (غافر : 7).
والوجه الثاني في الجواب : أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم ، فانه تعالى وعد المتقين بالثواب ، ووعد الفساق بالعقاب ، فقوله : {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا} معناه : وفقنا للاعمال التي بها نصير أهلا لوعدك ، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب / والخزي ، وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية.
الوجه الثالث : ان الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم ، فهم طلبوا تعجيل ذلك ، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
المسألة الثالثة : الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وفي آخر الكلام قالوا : {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق.
المسألة الرابعة : ههنا سؤال آخر : وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة ، فقوله : {وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} طلب للثواب ، فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب ؟
وهو قوله : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 468
والجواب من وجهين : الأول : أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله : {وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} المراد منه المنافع ، وقوله : {وَلا تُخْزِنَا} المراد منه التعظيم ، الثاني : أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية ، وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل : وفقنا للطاعات ، واذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك ، والحاصل كأنه قيل : وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك ، واذا وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك ، وهو إشارة الى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال ، ولا فعل من الأفعال ، ولا لمحة ولا حركة إلا باعانة الله وتوفيقه.
(1/1338)
المسألة الخامسة : قوله : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } شبيه بقوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) فانه ربما ظن الانسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ، ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا ، فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد/ ثم قال حكماء الاسلام : وذلك هو العذاب الروحاني. قالوا : وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني ، ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران : 191) وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني.
جزء : 9 رقم الصفحة : 468
469
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (البقرة : 164) إلى قوله : {لايَـاتٍ لاوْلِى الالْبَـابِ} (آل عمران : 190) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـامًا} وعلى التفكر وهو قوله : {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا سُبْحَـانَكَ} (آل عمران : 191) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم : {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران : 191) إلى قوله : {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران : 194) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور ، فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا ، لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : يقال استجابه واستجاب له ، قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال تعالى : {مُّعْرِضُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال : 34).
المسألة الثالثة : أني لا أضيع : قرىء بالفتح ، والتقدير : بأني لا أضيع ، وبالكسر على إرادة القول ، وقرىء {لا أُضِيعُ} بالتشديد.
المسألة الرابعة : من : في قوله : {مِّن ذِكْرِ} قيل للتبيين كقوله : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30) وقيل : إنها مؤكدة للنفي بمعنى : عمل عامل منكم ذكر أو أنثى.
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 469
المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل ، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى ، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل ، والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله : {لا أُضِيعُ} نفي للنفي فيكون اثباتا ، فيصير المعنى : اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم ، اذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا ، والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا ، وبمعصيته استحق عقابا ، فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال ، فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع ، أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب.
المسألة السادسة : جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم.
فان قيل : القوم أولا طلبوا غفران الذنوب ، وثانيا إعطاء الثواب فقوله : {أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم} إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب ؟
قلنا : إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله : {أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم} اجابة لدعائهم في المطلوبين. وعندي في الآية وجه آخر : وهو أن المراد من قوله : {أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم} أني لا أضيع دعاءكم ، وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه.
وأما قوله تعالى : {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } فالمعنى : أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى اذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية ، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال ، لا بسائر صفات العاملين ، لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى ، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ، ومثله قوله تعالى : {لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِا مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِه } (النساء : 123) وروي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية.
(1/1339)
أما قوله تعالى : {بَعْضُكُم مِّنا بَعْضٍ } ففيه وجوه : أحسنا أن يقال : {مِنْ} بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض ، ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال القفال : هذا من قولهم : فلان مني أي على خلقي وسيرتي ، قال تعالى : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّى } (البقرة : 249) وقال عليه الصلاة والسلام : "من غشنا فليس منا" وقال : "ليس منا من حمل علينا السلاح" فقوله : {بَعْضُكُم مِّنا بَعْضٍ } أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه ؟
/
جزء : 9 رقم الصفحة : 469
ثم قال تعالى : {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَـاتَلُوا وَقُتِلُوا لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} والمراد من قوله : {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلّم ، والمراد من {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِم} الذين ألجأهم الكفار الى الخروج ، ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار ، فكانوا أفضل وقوله : {وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى} أي من أجله وسببه {وَقَـاتَلُوا وَقُتِلُوا } لان المقاتلة تكون قبل القتال ، قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو {وَقَـاتِلُوا } بالالف أولا {وَقُتِّلُوا } مخففة ، والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا ، وقرأ ابن كثير وابن عامر {وَقَـاتِلُوا } أولا {وَقُتِّلُوا } مشددة قيل : التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله : {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ} (ص : 50) وقيل : قطعوا عن الحسن ، وقرأ حمزة والكسائي {وَقُتِّلُوا } بغير ألف أولا {وَقَـاتِلُوا } بالالف بعده وفيه وجوه : الأول : أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله : {وَاسْجُدِى وَارْكَعِى} (آل عمران : 43) والثاني : على قولهم : قتلنا ورب الكعبة ، اذا ظهرت أمارات القتل ، أو اذا قتل قومه وعشائره. والثالث : باضمار "قد" أي قتلوا وقد قاتلوا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 469
ثم ان الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة : أولها : محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله : {لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ} وذلك هو الذي طلبوه بقولهم : {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} (آل عمران : 193) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : {وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ} وهو الذي طلبوه بقولهم : وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، وثالثها : أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله : {مِنْ عِندِ اللَّهِ} وهو الذي قالوه : {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته ، واذا قال السلطان العظيم لعبده : اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله : {ثَوَابًا} مصدر مؤكد ، والتقدير : لأثيبنهم ثوابا من عند الله ، أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله ، لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم. ثم قال : {وَاللَّهُ عِندَه حُسْنُ الثَّوَابِ} وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات ، عالما بكل المعلومات ، غنياً عن الحاجات ، كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان ، فكان عنده حسن الثواب. روي عن جعفر الصادق أنه قال : من حزبه أمر فقال خمس مرات : ربنا ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية ، قال : لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات : ربنا ، ثم أخبر أنه استجاب لهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 469
471
واعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم ، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا في النعم ، ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة ، فقال : {لا يَغُرَّنَّكَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك : غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه ، فيقول : غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه ، وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه : رددته على غرة.
(1/1340)
المسألة الثانية : المخاطب في قوله : {لا يَغُرَّنَّكَ} من هو ؟
فيه قولان : الأول : أنه الرسول صلى الله عليه وسلّم ولكن المراد هو الأمة. قال قتادة : والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلّم حتى قبضه الله ، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره ، ويمكن أن يقال : السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه ، كما قال : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} (الإسراء : 74) فسقط قول قتادة ، ونظيره قوله : {وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} (هود : 42) {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام : 14) {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (القلم : 8) والثاني : وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين ، كأنه قيل : لا يغرنك أيها السامع :
المسألة الثالثة : تقلب الذين كفروا في البلاد ، فيه وجهان : الأول : نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية. والثاني : قال الفراء : كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية ، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد ، تصرفهم في التجارات والمكاسب ، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا ، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون ، فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب.
ثم قال تعالى : {مَتَـاعٌ قَلِيلٌ} قيل : أي تقلبهم متاع قليل ، وقال الفراء : ذلك متاع قليل ، وقال الزجاج : ذلك الكسب والربح متاع قليل ، وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب/ بالآفات والحسرات ، ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي ، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن ، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد ، فاذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد ، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 471
ثم قال تعالى : {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة ، وهو كقوله : {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } (آل عمران : 178) وقوله : {وَأُمْلِى لَهُم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} (الأعراف : 183).
ثم قال : {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي الفراش ، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } (الزمر : 16) فهم بين أطباق النيران ، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار.
جزء : 9 رقم الصفحة : 471
472
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل ، والنزل ما يهيأ للضيف وقوله : {لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} يتناول جميع الطاعات ، لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات ، وعن ترك المأمورات. واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا ، فلا بد من الرؤية لتكون خلعة ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} (الكهف : 107) وقوله : {نُزُلا} نصب على الحال من {جَنَّـاتُ} لتخصيصها بالوصف ، والعامل اللام ، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد ، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم ، وقال الفراء : هو نصب على التفسير كما تقول : هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال : {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من الكثير الدائم {خَيْرٌ لِّلابْرَارِ} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل ، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش {نُزُلا} بسكون الزاي ، وقرأ يزيد بن القعقاع {لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا } بالتشديد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
0
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل ، بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال : {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} واختلفوا في نزولها ، فقال ابن عباس وجابر وقتادة : نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال المنافقون : إنه يصلي على نصراني لم يره قط ، وقال ابن جريج وابن زيد : نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه ، وقيل : نزلت في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب ، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب.
(1/1341)
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات : أولها : الايمان بالله ، وثانيها : الايمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلّم. وثالثها : الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام. ورابعها : كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل {يُؤْمِنُ} لأن {مَن يُؤْمِنُ} في معنى الجمع. وخامسها : أنهم لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته.
ثم قال تعالى في صفتهم : {أُوالَا ئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِم إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} والفائدة في كونه سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات ، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب.
قوله تعالى : {الْحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
/ واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع ، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب ، وذلك لأن أحوال الانسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
أما الصبر فيندرج تحته أنواع : أولها : أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين. وثانيها : أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات. وثالثها : أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات. ورابعها : الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف ، فقوله : {اصْبِرُوا } يدخل تحته هذه الأقسام ، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها ، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ، ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء اليك كما قال : {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف : 199) وقال : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر : 9) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (البقرة : 237) ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فان المقدم عليه ربما وصل اليه بسببه ضرر ، ويدخل فيه الجهاد فانه تعريض النفس للهلاك ، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين ، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم ، والاحتيال في إزالة تلك الاباطيل عن قلوبهم ، فثبت ان قوله {اصْبِرُوا } تناول كل ما تعلق به وحده {وَصَابِرُوا } تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره.
واعلم أن الانسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص ، والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة ، فلهذا قال : {وَرَابِطُوا } ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للانسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض ، وجب أن يكون للانسان في هذه المجاهدة غرض وباعث ، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح ، فلهذا قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى ، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة ، وذلك عبارة عن الاتيان بالافعال الحسنة ، والاحتراز عن الافعال الذميمة ، ولما كانت الافعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الافعال الذميمة ، وذلك هو المراد بالمرابطة ، ثم/ ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات ، وذلك هو تقوى الله ، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والاخلاق ، وهو الفلاح ، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والاسرار الروحانية ، وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
ولنذكر ما قاله المفسرون : قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع ، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد ، وقال الفراء : اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم ، وقال الأصم : لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء.
وأما قوله : {وَرَابِطُوا } ففيه قولان : الأول : أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضاً ، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعداً لقتال الآخر ، قال تعالى : {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِه عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال : 60) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة" ا لثاني : أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان : الأول : ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. الثاني : ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال : "فذلكم الرباط" ثلاث مرات.
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل ، وأصل الرباط من الربط وهو الشد ، يقال : لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه ، وقال آخرون : الرباط هو اللزوم والثبات ، وهذا المعنى أيضاً راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم.
قال الامام رضي الله تعالى عنه : تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 472
475
(1/1342)
سورة النساء
مائة وسبعون وست آيات مدنية
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
0
اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف ، وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام ، والرأفة بهم وإيصال حقوقهم اليهم وحفظ أموالهم عليهم ، وبهذا المعنى ختمت السورة ، وهو قوله : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ } (النساء : 176) وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف ، وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع ، لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة ، وهي تقوى الرب الذي خلقنا والاله الذي أوجدنا ، فلهذا قال : {تُفْلِحُونَ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : روى الواحدي عن ابن عباس في قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} أن هذا الخطاب لأهل / مكة ، وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين ، وهذا هو الأصح لوجوه : أحدها : أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق. وثانيها : أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقاً لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم ، وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما. وثالثها : أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام في حق جميع العالمين ، وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل ، وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل ، وكانت علة هذا التكليف ، وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق الكل ، كان القول بالتخصيص في غاية البعد. وحجة ابن عباس أن قوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم. فيقولون أسألك بالله وبالرحم ، وأنشدك الله والرحم ، وإذا كان كذلك كان قوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } مختصا بالعرب ، فكان أول الآية وهو قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} مختصا بهم لأن قوله في أول الآية : {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وقوله بعد ذلك : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } وردا متوجهين إلى مخاطب واحد ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها ، فكان قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} عاما في الكل ، وقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } . خاصاً بالعرب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
(1/1343)
المسألة الثانية : أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن : إحداهما : هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الاول من القرآن. والثانية : سورة الحج ، وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن ، ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ ، وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله ، وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد ، وهو قوله : {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} (الحج : 1) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد/ ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وتحت هذا البحث أسرار كثيرة.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف ، فنقول : قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ، مشتمل على قيدين : أحدهما : أنه تعالى خلقنا ، والثاني : كيفية ذلك التخليق ، وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس / واحدة ، ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى.
أما القيد الأول : وهو أنه تعالى خلقنا ، فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه ، وبيان ذلك من وجوه : الأول : أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا ، والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده ، والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق ، الثاني : أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان ، فانك كنت معدوما فأوجدك ، وميتا فأحياك ، وعاجزا فأقدرك. وجاهلا فعلمك ، كما قال إبراهيم عليه السلام : (الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين) فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم باظهار الخضوع والانقياد ، وترك التمرد والعناد ، وهذا هو المراد بقوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة : 28) الثالث : وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقاً وإلها وربا لنا. وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ، ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة ، لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب ، لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر ، هذا إذا سلمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء ، فكيف وهذا محال ، لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة ، وخلق الداعية على الطاعة ، ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد ، وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده ، والمولى إذا خص عبده بانعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاماً آخر ، فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
وأما القيد الثاني : وهو أن خصوص كونه خالقاً لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية ، فبيانه من وجوه : الأول : أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الانسان الواحد أدل على كمال القدرة ، من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الانسان الواحد ، لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة ، فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير ، دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار ، لا طبيعة مؤثرة ، ولا علة موجبة ، ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات ، فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فكان ارتباط قوله : {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} بقوله : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} في غاية الحسن والانتظام.
/ والوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء ، وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى ، وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ، ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه/ ويحزن بذمهم والطعن فيهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : "فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها" وإذا كان الأمر كذلك ، فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض.
الوجه الثالث : أن الناس اذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق.
(1/1344)
الوجه الرابع : أن هذا يدل على المعاد ، لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين ، وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة ، فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم ، فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَـا ـاُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم : 31).
الوجه الخامس : قال الأصم : الفائدة فيه : أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة ، بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم أمياً ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ ، فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا ، فالحاصل أن قوله : {خَلَقَكُم} دليل على معرفة التوحيد ، وقوله : {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} دليل على معرفة النبوة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
فان قيل : كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس ؟
قلنا : قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم اذا خلقت من بعضه ، ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا ، جازت إضافة الخلق أجمع الى آدم.
المسألة الرابعة : أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس ، ونظيره قوله تعالى : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَا بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الكهف : 74) وقال الشاعر :
أبوك خليفة ولدته أخرى
فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة.
قوله تعالى : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من هذا الزوج هو حواء ، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان : الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه ، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلّم : "ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها".
والقول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني : أن المراد من قوله : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي من جنسها وهو كقوله تعالى : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (النحل : 72) وكقوله : {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} (آل عمران : 164) وقوله : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) قال القاضي : والقول الأول أقوى ، لكي يصح قوله : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين ، لا من نفس واحدة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة "من" لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال : خلقكم من نفس واحدة ، وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب ، وإذا كان الأمر كذلك ، فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم.
المسألة الثانية : قال ابن عباس : إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها ؛ فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي/ فلا جرم سميت بحواء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
المسألة الثالثة : احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا : قوله تعالى : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة ، وقوله : {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يدل على أن زوجها مخلوقة منها ، ثم قال في صفة آدم : {خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) فدل على أن آدم مخلوق من التراب ، ثم قال في حق الخلائق : {مِنْهَا خَلَقْنَـاكُمْ} (طه : 55) وهذه الآيات كلها دالة على ان الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها ، وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال.
أجاب المتكلمون فقالوا : خلق الشيء من الشيء محال في العقول ، لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة ، واذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر ، وان قلنا : ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك ، فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض ، فثبت أن كون الشيء مخلوقا من / غيره محال في العقول ، وأما كلمة {مَّنْ} في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية ، على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار ، بل على وجه الوقوع فقط.
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا} بلفظ اسم الفاعل ، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خالق.
(1/1345)
قوله تعالى : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً } .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : بث منهما : يريد فرق ونشر ، قال ابن المظفر : البث تفريقك الأشياء ، يقال : بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه ، وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض ، وبثثت البسط إذا نشرتها ، قال الله تعالى : {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} قال الفراء والزجاج : وبعض العرب يقول : أبث الله الخلق.
المسألة الثانية : لم يقل : وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال ، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً } .
فان قيل : لم لم يقل : وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ؟
ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء ؟
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
قلنا : السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر ، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة ، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول.
المسألة الثالثة : الذين يقولون : إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر ، وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام ، حملوا قوله : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً } على ظاهره ، والذين أنكروا ذلك قالوا : المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين ، فكان الكل مضافا اليهما على سبيل المجاز.
قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} .
/ فيه مسائل.
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : {تَسَآءَلُونَ} بالتخفيف والباقون بالتشديد ، فمن شدد أراد : تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس ، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة ، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالادغام ، وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالادغام.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده {وَالارْحَامَ } بجر الميم قال القفال رحمه الله : وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره/ وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم. وقال صاحب "الكشاف" : قرىء {وَالارْحَامَ } بالحركات الثلاث ، أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة ، قالوا : لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز. واحتجوا على عدم جوازه بوجوه : أولها : قال أبو علي الفارسي : المضمر المجرور بمنزلة الحرف ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه ، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه : الأول : أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل ، وذلك ان الهاء والكاف في قوله : به ، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين. الثاني : أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد ، وذلك كقولهم : يا غلام ، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه ، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف. وثانيها : قال علي بن عيسى : انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع. فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد ، وذهبت وزيد بل يقولون : يا غلام ، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه ، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين ، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف. وثانيها : قال علي بن عيسى : انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع. فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد ، وذهبت وزيد بل يقولون : اذهب أنت وزيد ، وذهبت أنا وزيد. قال تعالى : {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا} مع ان المضمر المرفوع قد ينفصل ، فاذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع انه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل ، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى. وثالثها : قال أبو عثمان المازني : المعطوف والمعطوف عليه متشاركان ، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول ، وههنا هذا المعنى غير حاصل ، وذلك لأنك لا تقول : مررت بزيدوك ، فكذلك لا تقول مررت بك وزيد.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
(1/1346)
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات ، وذلك لأن / حمزة أحد القراء السبعة ، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وأيضا فلهذه القراءة وجهان : أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار ، كأنه قيل تساءلون به وبالارحام. وثانيها : أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك :
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد أيضا :
نعلق في مثل السواري سيوفنا
وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن. واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله صلى الله عليه وسلّم : "لا تحلفوا بآبائكم" فاذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالارحام ، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله والرحم ، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل ، وأيضاً فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط ، وههنا ليس كذلك ، بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم ، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث ، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله : {وَالارْحَامَ } بالجر. أما قراءته بالنصب ففيه وجهان : الأول : وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني : وهو قول أكثر المفسرين : أن التقدير : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج ، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله : {اللَّهُ} أي : اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله : ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالاغراء ، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك : الأسد الأسد ، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم ، ويدل على وجوب صلتها. وأما القراءة بالرفع فقال صاحب "الكشاف" : الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل : والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى ، أو والأرحام مما يتساءل به.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال أولا : {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ثم قال بعده : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وفي هذا التكرير وجوه : الأول : تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل : اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك : اعجل / الثاني : أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره ، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض. الثالث : قال أولا : {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وقال ثانيا : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} والرب لفظ يدل على التربية والاحسان ، والاله لفظ يدل على القهر والهيبة ، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال : {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة : 16) وقال : {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } (الأنبياء : 90) كأنه قيل : انه رباك وأحسن اليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة.
المسألة الرابعة : اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال : بالله أسألك ، وبالله أشفع اليك ، وبالله أحلف عليك ، الى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته ، وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى ، والتقدير : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول : أسألك بالله والرحم ، وربما أفرد ذلك فقال : أسألك بالرحم ، وكان يكتب المشركون الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم : نناشدك الله والرحم أن لا تبعث الينا فلانا وفلانا ، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع الى ذلك ، والتقدير : واتقوا الله واتقوا الأرحام ، قال القاضي : وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ، لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام ، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والافضال والاحسان ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
(1/1347)
المسألة الخامسة : قال بعضهم : اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي" ووجه التشبيه ان لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض. وقال آخرون : بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الانعام وانه الأصل/ وقال بعضهم : بل كل واحد منهما أصل بنفسه ، والنزاع في مثل هذا قريب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
المسألة السادسة : دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى. روى مجاهد عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من سألكم بالله فأعطوه" وعن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسبع : منها ابرار القسم.
المسألة السابعة : دل قوله تعالى : {وَالارْحَامَ } على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها ، قال/ تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد : 22) وقال : {لا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } قيل في الأول : إنه القرابة ، وقال : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } (الإسراء : 23)وقال : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ} (النساء : 36) وعن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة" وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ان الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه" وقال عليه الصلاة والسلام : "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" قيل الكاشح العدو ، فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ، ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين : إحداهما : أن الرجل اذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والاخت ، والعم والخال ، قال لانه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالاجماع ، لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم ، وذلك حرام بناء على هذا الاصل ، فوجب أن لا يبقى الملك ، وثانيهما : أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لان ذلك الرجوع ايحاش يورث قطيعة الرحم ، فوجب أن لا يجوز ، والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات.
ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك. ومن هذا صفته فانه يجب أن يخاف ويرجى ، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وانه اذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 475
482
اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه ، محترزا عن مساخطه ، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف.
فالنوع الأول : ما يتعلق بأموال اليتامى ، وهو هذه الآية ، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام ، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام ، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الاشفاق عليهم ، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } وفي الآية مسائل :
(1/1348)
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم ، واليتم الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة ، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات. قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء ، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ، فاذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره ، زال عنه هذا الاسم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : يتيم أبي طالب ، إما على القياس ، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له. وأما قوله عليه الصلاة والسلام : "لا يتم بعد حلم" فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة ، يعني اذا احتلم فانه لا تجرى عليه أحكام الصغار. وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب الى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟
فكتب اليه : اذا أونس منه الرشد انقطع يتمه ، وفي بعض الروايات : أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد ، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ اذا لم يؤنس منه الرشد ، ثم قال أبو بكر : واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "تستأمر اليتيمة" وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة ، قال الشاعر :
ان القبور تنكح الأيامى
النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير ، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
المسألة الثانية : ههنا سؤال وهو أن يقال : كيف جمع اليتيم على يتامى ؟
واليتيم فعيل ، والفعيل يجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى ، قال صاحب "الكشاف" : فيه وجهان : أحدهما : أن يقال : جمع اليتيم يتمى ، ثم يجمع فعلى على فعالى ، كأسير وأسرى وأسارى ، والثاني : أن يقال : جمع يتيم يتائم ، لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ، ثم يقلب / اليتائم يتامى. قال القفال رحمه الله : ويجوز يتيم ويتامى ، كنديم وندامى ، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف.
المسألة الثالثة : ههنا سؤال ثان : وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير ، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله اليه ، وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماليه إليه لم يبق يتيما ، فكيف قال : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } والجواب عنه على طريقين : الأول : أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا او كبروا ثم فيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة ، والثاني : أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وان كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى : {فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ} (الأعراف : 120) أي الذين كانوا سحرة قبل السجود ، وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة ، بلوغ الاجل في قوله : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} (الطلاق : 2) والمعنى مقاربة البلوغ ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } (النساء : 6) والاشهاد لا يصح قبل البلوغ وانما يصح بعد البلوغ.
الطريق الثاني : أن نقول : المراد باليتامى الصغار ، وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان : أحدهما : ان قوله : {وَءَاتُوا } أمر ، والامر انما يتناول المستقبل ، فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم ، وعلى هذا الوجه زالت المناقضة. والثاني : المراد : وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون اليه لنفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه انه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا ، فأباح الله تعالى ذلك ، وفيه إشكال وهو انه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
(1/1349)
المسألة الرابعة : نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، فشكوا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى : {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } (البقرة : 220) قال أبو بكر الرازي : وأظن أنه غلط من الراوي ، لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى ، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (البقرة : 152) و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فاشتد ذلك على اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأنزل الله تعالى شرابه ، {فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } فخلطوا عند ذلك طعامهم / بطعامهم وشرابهم بشرابهم. قال المفسرون : الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه ، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، ودفع ماله اليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره" أي جنته ، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "ثبت الأجر وبقي الوزر" فقالوا : يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟
فقال : ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده.
المسألة الخامسة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه ، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين ، قال لأن قوله : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن ، شرط في وجوب دفع المال اليه ، وهذا الاجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
أجاب أصحابنا عنه : بأن هذه الآية عامة ، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة/ ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى } (النساء : 6) وبقوله : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء : 5) حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
ثم قال تعالى : {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : ولا تتبدلوا ، أي ولا تستبدلوا ، والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال ، والتأخر بمعنى الاستئخار. وقال الواحدي رحمه الله : يقال : تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه.
المسألة الثانية : في تفسير هذا التبدل وجوه :
الوجه الأول : قال الفراء والزجاج : لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى ، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض ، فتأكلوه مكانه. الثاني : لا تستبدلوا الأمر الخبيث ، وهو اختزال أموال اليتامى ، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون ، يجعل الزائف بدل الجيد ، والمهزول بدل السمين ، وطعن صاحب "الكشاف" في هذا الوجه ، فقال : ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي. الرابع : / هو أن هذا التبدل معناه : أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك ، وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب.
ثم قال تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى ا أَمْوَالِكُمْ } وفيه وجهان : الأول : معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها. والثاني : أن يكون "إلى" بمعنى "مع" قال تعالى : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } (آل عمران : 52) أي مع الله ، والأول : أصح.
واعلم أنه تعالى وان ذكر الأكل ، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم ، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة ، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل ، فثبت ان المراد منه التصرف ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف.
فان قيل : انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها ، فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم ؟
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
(1/1350)
قلنا : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى ، كان القبح أبلغ والذم أحق.
واعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك ان أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال : {إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} قال الواحدي رحمه الله : الكناية تعود إلى الأكل ، وذلك لأن قوله : {وَلا تَأْكُلُوا } دل على الأكل الاثم الكبير. قال عليه الصلاة والسلام : "ان طلاق أم أيوب لحوب" وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء : الحوب لأهل الحجاز ، والحاب لتميم ، ومعناه الاثم قال عليه الصلاة والسلام : "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" قال صاحب "الكشاف" : الحوب والحاب كالقول والقال. قال القفال : وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع ، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه ، وقال البصريون : الحوب بفتح الحاء مصدر ، والحوب بالضم الاسم ، والحوبة ، المرة الواحدة ، ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فانه اسم ، ثم يقال : قد كلمته كلاما فيصير مصدرا. قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن حوبا ، وقرىء : حابا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
قلنا : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى ، كان القبح أبلغ والذم أحق.
واعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك ان أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال : {إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} قال الواحدي رحمه الله : الكناية تعود إلى الأكل ، وذلك لأن قوله : {وَلا تَأْكُلُوا } دل على الأكل الاثم الكبير. قال عليه الصلاة والسلام : "ان طلاق أم أيوب لحوب" وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء : الحوب لأهل الحجاز ، والحاب لتميم ، ومعناه الاثم قال عليه الصلاة والسلام : "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" قال صاحب "الكشاف" : الحوب والحاب كالقول والقال. قال القفال : وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع ، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه ، وقال البصريون : الحوب بفتح الحاء مصدر ، والحوب بالضم الاسم ، والحوبة ، المرة الواحدة ، ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فانه اسم ، ثم يقال : قد كلمته كلاما فيصير مصدرا. قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن حوبا ، وقرىء : حابا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
0
اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي / الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الاقساط العدل ، يقال أقسط الرجل إذا عدل ، قال الله تعالى : {بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات : 9) والقسط العدل والنصفة ، قال تعالى : {كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ} (النساء : 135) قال الزجاج : وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب ، فاذا قالوا : قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ، ألا ترى أنهم قالوا : قاسطته إذا غلبته على قسطه ، فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب ، وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل ، فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه.
المسألة الثانية : اعلم أن قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا } شرط وقوله : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} جزاء ، ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط ، وللمفسرين فيه وجوه : الأول : روي عن عروة أنه قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى } فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ، إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : "وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله تعالى : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِا قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ فِى يَتَـامَى النِّسَآءِ} قالت : وقوله تعالى : {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ فِى يَتَـامَى النِّسَآءِ} (النساء : 127) المراد منه هذه الآية وهي قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا } .
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
(1/1351)
الوجه الثاني : في تأويل الآية : انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى ، فتحرجوا من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر ، فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء ، فقالوا عدد المنكوحات ، لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج.
الوجه الثالث : في التأويل : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات.
الوجه الرابع : في التأويل : ما روي عن عكرمة أنه قال : كان الرجل عنده النسوة ويكون / عنده الأيتام ، فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا ، أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى } عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف/ فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة ، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع ، والناقص وهو الواحدة ، ونبه بذلك على ما بينهما ، فكأنه تعالى قال : فان خفتم من الأربع فثلاث ، فان خفتم فاثنتان ، فان خفتم فواحدة ، وهذا القول أقرب ، فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير.
أما قوله تعالى : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَا فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم ذَالِكَ أَدْنَى ا أَلا تَعُولُوا } .
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أصحاب الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية ، وذلك لأن قوله {فَانكِحُوا } أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم} (النساء : 25) الى قوله : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُم وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله ، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب ، فضلا عن أن يقال إنه واجب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
المسألة الثانية : إنما قال : {مَا طَابَ} ولم يقل : من طاب لوجوه : أحدها : أنه أراد به الجنس تقول : ما عندك ؟
فيقول رجل أو امرأة ، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك ، وما تلك الحقيقة التي عندك ، وثانيها : أن (ما) مع ما بعده في تقدير المصدر ، وتقديره : فانكحوا الطيب من النساء ، وثالثها : ان "ما" و"من" ربما يتعاقبان. قال تعالى : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} (الشمس : 5) وقال : {وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} (الكافرون : 2) وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان ما سبح له الرعد ، وقال : {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه } (النور : 45) ورابعها : إنما ذكر "ما" تنزيلا للاناث منزلة غير العقلاء. ومنه : قوله : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المعارج : 30).
/ المسألة الثالثة : قال الواحدي وصاحب "الكشاف" : قوله {مَا طَابَ لَكُم} أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها ، وهي الأنواع المذكورة في قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ وَبَنَـاتُكُمْ} (النساء : 23) وهذا عندي فيه نظر ، وذلك لأنا بينا أن قوله : {فَانكِحُوا } أمر إباحة. فلو كان المراد بقوله : {مَا طَابَ لَكُم} أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم : وذلك يخرج الآية عن الفائدة ، وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة ، لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة ، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب ، كانت الآية عاما دخله التخصيص. وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى ، لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا.
المسألة الرابعة : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } معناه : اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وهو غير منصرف وفيه وجهان : الأول : أنه اجتمع فيها أمران : العدل والوصف ، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى ، كما تقول : عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا ، فكذا ههنا تريد بقولك : مثنى : ثنتين ثنتين فكان معدولا ، وأما أنه وصف ، فدليله قوله تعالى : {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } (فاطر : 1) ولا شك أنه وصف.
(1/1352)
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
الوجه الثاني : في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه ، وأيضا انها معدولة عن تكررها فانك لا تريد بقولك : مثنى ثنتين فقط ، بل ثنتين ثنتين ، فاذا قلت : جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الاخبار عن مجيء هذا العدد فقط ، أما إذا قلت : جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين ، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف ، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف ، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه ، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم.
المسألة الخامسة : قال أهل التحقيق : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها ، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه ، ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} (النحل : 75) فقوله : {لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} ينفي كونه مستقلا بالنكاح ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر" فثبت بما ذكرناه أن / هذه الآية لا يندرج فيها العبد.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد ، وقال مالك : يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية.
والجواب الذي يعتمد عليه : أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه : الأول : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } وهذا لا يكون إلا للأحرار ، والثاني : أنه تعالى قال : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} (النساء : 4) والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان ، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس ، قالوا : أجمعنا على أن للرق تأثيراً في نقصان حقوق النكاح ، كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر ، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
المسألة السادسة : ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا. والثاني : أن قوله : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } لا يصلح تخصيصا لذلك العموم ، لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : ان ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا ، فان الانسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة اليه مطلقاً ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ، ولا يكون ذلك تخصيصاً للاذن بتلك الأشياء المذكورة ، بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا ، وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر/ فاذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} كان ذلك تنبيها على حصول الاذن في جميع الأعداد. والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } يفيد حل هذا المجموع ، وهو يفيد تسعة ، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر ، لان قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية. وأما الخبر فمن وجهين : الأول : أنه ثبت بالتواتر أنهصلى الله عليه وسلّم مات عن/ تسع ، ثم ان الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : {فَاتَّبَعُوهُ} وأقل مراتب الأمر الاباحة. الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم انه عليه السلام قال : "فمن رغب عن سنتي فليس مني" فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.
(1/1353)
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين : الأول : الخبر ، وهو ما روي ان غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلّم : أمسك أربعا وفارق باقيهن ، وروي ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام : "أمسك أربعا وفارق واحدة".
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين : الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز. والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز ، إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول : أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ ، فكيف يقال : الاجماع نسخ هذه الآية. الثاني : أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والاجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
والجواب عن الأول : الاجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وعن الثاني ، أن مخالف هذا الاجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته.
فان قيل : فاذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : مثنى أو ثلاث أو رباع ، فلم جاء بواو العطف دون "أو" ؟
قلنا : لو جاء بكلمة "أو" لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام ، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ، ولبعض / آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ههنا الفائدة في ترك "أو" وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم.
المسألة السابعة : قوله : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } محله النصب على الحال مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا.
قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها ، فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة ، سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر/ ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك أكثرت منهم أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل.
المسألة الثانية : قرىء {فَوَاحِدَةً} بنصب التاء والمعنى : فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا ، فان الأمر كله يدور مع العدل ، فأينما وجدتم العدل فعليكم به ، وقرىء {فَوَاحِدَةً} بالرفع والتقدير : فكفت واحدة ، أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
المسألة الثالثة : للشافعي رحمة الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من النكاح ، وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، كما اذا قال الطبيب : كل التفاح أو الرمان ، فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض ، وكما أن الآية دلت على هذه التسوية ، فكذلك العقل يدل عليها ، لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما اذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها ، فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري ، واذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان. فنقول : أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح ؛ لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ أَدْنَى ا أَلا تَعُولُوا } وفيه مسألتان.
المسألة الأولى : المراد من الادنى ههنا الاقرب ، والتقدير : ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف "من" لدلالة الكلام عليه.
(1/1354)
المسألة الثانية : في تفسير {أَلا تَعُولُوا } وجوه : الأول : معناه : لا تجوروا ولا تميلوا ، / وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين ، وروي ذلك مرفوعا ، روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله : {ذَالِكَ أَدْنَى ا أَلا تَعُولُوا } قال : (لا تجوروا) وفي رواية أخرى "أن لا تميلوا" قال الواحدي رحمه الله : كلا اللفظين مروي ، وأصل العول الميل يقال : عال الميزان عولا ، اذا مال ، وعال الحاكم في حكمه اذا جار ، لانه اذا جار فقد مال. وأنشدوا لأبي طالب.
بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم ، فقال له : أتعول علي ، ويقال : عالت الفريضة اذا زادت سهامها ، وقد أعلتها أنا اذا ازدت في سهامها ، ومعلوم أنها اذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ، ثم اختص بحسب العرف بالميل الى الجور والظلم. فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب اليه الأكثرون.
الوجه الثاني : قال بعضهم : المراد أن لا تفتقروا ، يقال : رجل عائل أي فقير ، وذلك لأنه اذا قل عياله قلت نفقاته ، واذا قلت نفقاته لم يفتقر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
الوجه الثالث : نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : (ذلك أدنى أن لا تعولوا} معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا ، وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما ، فأما تفسير معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا ، وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما/ فأما تفسير {تَعُولُوا } بتعيلوا فانه خطأ في اللغة ، وثالثها : أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والاماء في العيال بمنزلة النساء ، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين ، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال. وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا ، وهو أنه تعالى قال في أول الآية : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ولم يقل أن تفتقروا ، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل ، وذلك هو الجور لا كثرة العيال. وأنا أقول :
أما السؤال الأول : فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية : أن لا تجوروا ولا تميلوا ، ولكنه ذكر فيه وجها آخر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين اذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف ، وأيضا : فمن الذي / أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين ، وكيف لا نقول ذلك ، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ : ذلك أدنى أن لا تعيلوا ، واذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة ، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى ، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن.
وأما السؤال الثاني : فنقول : انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد ، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والاعلام ، وشدة بلادتك ، ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد ، وبيان فساده من وجوه : الأول : أنه يقال : عالت المسألة اذا زادت سهامها وكثرة ، وهذا المعنى قريب من الميل لانه اذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة واذا كان كذلك كان معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تكثروا ، واذا لم تكثروا لم يقع الانسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة ، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير الى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
(1/1355)
الوجه الثاني : ان الانسان اذا قال : فلان طويل النجاد كثير الرماد ، فاذا قيل له ما معناه ؟
حسن أن يقال : معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة ، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة ، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى. وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض ، وحاصله يرجع الى حرف واحد وهو الاشارة الى الشيء بذكر لوازمه ، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور ، والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور ، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور ، فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل الكناية والاستلزام ، وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله ، والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب المطابقة ، بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام ، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب ، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه.
الوجه الثالث : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك : عال الرجل عياله يعولهم. كقولهم : مانهم يمونهم اذا أنفق عليهم ، لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب ، فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن ، وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو / مملوكة فجوابه من وجهين : الأول : ما ذكره القفال رضي الله عنه ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا ، وحينئذ تقل العيال أما اذا كانت المرأة حرة لم يكن الامر كذلك فظهر الفرق. الثاني : ان المرأة اذا كانت مملوكة فاذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما اذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فانها لا تطالبه بالمهر ، فاذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة.
وأما السؤال الرابع : وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم ، فالجواب عنه من وجهين : الأول : ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح ، لانه لو حمل على الجور لكان تكراراً لانه فهم ذلك من قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا } أما اذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى. الثاني : أن نقول : هب أن الامر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق الى ذكر التفسير الأول ، لكن على سبيل الكناية والتعريض ، واذا كان الامر كذلك فقد زال هذا السؤال ، فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق.
جزء : 9 رقم الصفحة : 482
491
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَءَاتُوا النِّسَآءَ} خطاب لمن ؟
فيه قولان : أحدهما : ان هذا خطاب لأولياء النساء ، وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئا لك النافجة ، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه ، وقال ابن الاعرابي : النافجة يأخذه الرجل من الحلوان اذا زوج ابنته ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وأمر بدفع الحق الى أهله ، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.
القول الثاني : ان الخطاب للأزواج. أمروا بايتاء النساء مهورهن ، وهذا قول : علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج ، قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا ، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج.
المسألة الثانية : قال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد الالتزام ، قال تعالى : {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ} (التوبة : 29) والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها ، فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن ، وعلى التقدير الثاني : / كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم ، إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلّم في الموهوبة ، ثم قال رحمه الله : ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : {صَدُقَـاتِهِنَّ} مهورهن ، وفي حديث شريح : قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ {صَدُقَـاتِهِنَّ} بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و{صَدُقَـاتِهِنَّ} بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة ، وقرىء {صَدُقَـاتِهِنَّ} بضم الصاد والدل على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة : ظلمة ، قال الواحدي : موضوع صدق على هذا الترتيب للكمال والصحة ، فسمي المهر صداقا وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل.
(1/1356)
المسألة الرابعة : في تفسير النحلة وجوه : الأول : قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد : فريضة ، وإنما فسروا النحلة بالفريضة ، لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب ، يقال : فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به ، ونحلته كذا أي دينه ومذهبه ، فقوله : {وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ نِحْلَةً } أي آتوهن مهورهن ، فانها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة. الثاني : قال الكلبي : نحلة أي عطية وهبة ، يقال : نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا ، قال القفال : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله ، يقال : هذا شعر منحول ، أي مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك ، وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن ؟
فيه احتمالان : أحدهما : أنه عطية من الزوج ، وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ، فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه ، فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل ، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك ، وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين ، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
والقول الثالث : في تفسير النحلة قال أبو عبيدة : معنى قوله {نِحْلَةً } أي عن طيب نفس ، وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض ، كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله/ وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس ، فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة ، لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة.
المسألة الخامسة : إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولا له ، والمعنى آتوهن مهورهن ديانة. والثاني : أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه ، وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان : أحدهما : أنه نصب / على المصدر ، وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء ، فكأنه قيل : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم. والثاني : أنها نصب على الحال ، ثم فيه وجهان : أحدهما : على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء. والثاني : على الحال من الصدقات ، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس.
المسألة السادسة : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الخلوة الصحيحة تقرر المهر ، وقال الشافعي رضي الله عنه : لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية ، وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا ، ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة ، فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية.
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة : 237) يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر ، وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
قوله تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} .
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له ، لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : نفسا : نصب على التمييز والمعنى : طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن ، فخرجت النفس مفسرة كما قالوا : أنت حسن وجها ، والفعل في الأصل للوجه ، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل ، ومثله : قررت به عيناً وضقت به ذرعا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
المسألة الثانية : إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل ، وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما. قال الفراء : لو جمعت كان صوابا كقوله : {بِالاخْسَرِينَ أَعْمَـالا} (الكهف : 103).
المسألة الثالثة : من : في قوله : {مِنْهُ} ليس للتبعيض ، بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30) وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية.
المسألة الرابعة : منه : أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى : {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ } (آل عمران : 15) بعد ذكر الشهوات. وروي أنه لما قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
(1/1357)
فقيل له : الضمير في قوله "كأنه" ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول : كأنها ، وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول : كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك ، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا ، وفيه وجه ثالث : وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق ، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق.
المسألة الخامسة : معنى الآية : فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن ، أو سوء معاشرتكم معهن ، فكلوه وأنفقوه ، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب/ ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال : {فَإِن طِبْنَ} ولم يقل : فان وهبن أو سمحن ، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة.
المسألة السادسة : الهنيء والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وقيل : الهنىء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما يحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه ، وقيل : لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه. وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران ، فالهنيء شفاء من الجرب ، قال المفسرون : المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل ، والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
المسألة السابعة : قوله : {هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} وصف للمصدر ، أي أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير أي كلوهو وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على قوله : {فَكُلُوهُ} ثم يبتدأ بقوله : {هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنأ مرأ.
المسألة الثامنة : دلت هذه الآية على أمور : منها : ان المهر لها ولا حق للولي فيه ، ومنها جواز هبتها المهر للزوج ، وجواز أن يأخذه الزوج ، لأن قوله : {فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} يدل على المعنيين ، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض ، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.
وههنا بحث وهو أن قوله : {فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} يتناول ما إذ كان المهر عينا ، أما إذا كان دينا / فالآية غير متناولة له ، فانه لا يقال لما في الذمة : كله هنيئاً مريئاً.
قلنا : المراد بقوله : {فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} ليس نفس الأكل ، بل المراد منه حل التصرفات ، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) وقال : {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} .
المسألة التاسعة : قال بعض العلماء : ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً ، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح : رد عليها ، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ} فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وروي عنه أيضا : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن ، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتني طيبة به نفسها ، فقال عبد الملك : فان الآية التي بعدها {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا } اردد عليها. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : ان النساء يعطين رغبة ورهبة ، فايما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
0
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة.
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول : إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن ، فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم ، فأما إذا كانوا غير بالغين ، أو غير عقلاء ، أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين ، فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه ، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين.
وفي الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال : أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم. والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله : {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.
فان قيل : فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال : ولا تؤتوا السفهاء أموالهم ، فلم قال أموالكم ؟
(1/1358)
قلنا : في الجواب وجهان : الأول : أنه تعالى أضاف المال اليهم لا لأنهم ملكوه ، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب ، الثاني : إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص ، ونظيره قوله تعالى : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) وقوله : {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } (النساء : 36) وقوله : {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } وقوله : {ثُمَّ أَنتُمْ هَـا ؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} (البقرة : 85) ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ، ولكن كان بعضهم يقتل بعضا ، وكان الكل من نوع واحد ، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الانسان ويحتاج اليه. فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء الى أوليائهم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
والقول الثاني : أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى اذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها اليهم ، لما كان في ذلك من الافساد ، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال اليهم حقيقة ، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك ، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها ، واذا قرب أجله فانه يجب عليه أن يوصي بماله الى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته ، وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين ، ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم ، وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله ، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع الى السفهاء أموالهم ، واذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم. الثاني : أنه قال في آخر الآية : {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه ، لان المرء مشفق بطبعه على ولده ، فلا يقول له إلا المعروف ، وإنما يحتاج الى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب ، ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين. قال القاضي : هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله : {أَمْوَالَكُمُ} على الحقيقة والمجاز جميعا ، ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله : {أَمْوَالَكُمُ} يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها ، ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له/ وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي ، إلا أنه يجب تصرفه ، فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله : / {أَمْوَالَكُمُ} واذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما.
المسألة الثانية : ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها : الأول : قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء ههنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات. وهذا مذهب ابن عمر ، ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها".
فان قيل : لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال : السفائه. أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة.
أجاب الزجاج : بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
والقول الثاني : قال الزهري وابن زيد : عني بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد ، يقول : لا تعط مالك الذي هو قيامك ، ولدك السفيه فيفسده.
القول الثالث : المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير ، قالوا اذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة ، وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده.
والقول الرابع : أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ، ويدخل فيه النساء والصبيان والايتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة ، وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز ، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل ، ولذلك سمي الفاسق سفيها لانه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ، ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله.
المسألة الثالثة : أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم ، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى ، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الاموال.
(1/1359)
المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال ، قال تعالى : {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ } (الإسراء : 26 ـ 27) وقال تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (الإسراء : 29) وقال تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } (الفرقان : 67) وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن ، والعقل أيضاً يؤيد ذلك ، لأن الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة ، أما / من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال ، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة ، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم ، وقرأ نافع وابن عامر {الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} وقد يقال : هذا قيم وقيم ، كما قال : (دينا قيما ملة إبراهيم) وقرأ عبدالله بن عمر (قواما) بالواو ، وقوام الشيء ما يقام به كقولك : ملاك الأمر لما يملك به.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
المسألة السادسة : قال الشافعي رحمه الله : البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يحجر عليه. حجة الشافعي : أنه سفيه ، فوجب أن يحجر عليه ، إنما قلنا إنه سفيه ، لأن السفيه في اللغة ، هو من خف وزنه. ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة ، فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء ، فكان خفيف الوزن عندهم ، فوجب أن يسمى بالسفيه ، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} .
ثم قال تعالى : {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} .
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء : أولها : قوله : {وَارْزُقُوهُمْ} ومعناه : وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال : فلان رزق عياله أي أجرى عليهم ، وإنما قال : {فِيهَآ} ولم يقل : منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال ، وثانيها : قوله : {وَاكْسُوهُمْ} والمراد ظاهر ، وثالثها : قوله : {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} .
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه ، أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها : أحدها : قال ابن جريج ومجاهد : انه العدة الجميلة من البر والصلة ، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : اذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله ، وان غنمت في غزاتي أعطيتك ، وثانيها : قال ابن زيد : انه الدعاء مثل أن يقول : عافانا الله وإياك بارك الله فيك ، وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر ، وثالثها : قال الزجاج : المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ، ورابعها : قال القفال رحمه الله القول المعروف / هو أنه ان كان المولى عليه صبيا ، فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له ، وأنه اذا زال صباه فانه يرد المال اليه ، ونظير هذه الآية قوله : {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} (الضحى : 9) معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد ، وكذا قوله : {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا} (الإسراء : 28( وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ، ورغبه في ترك التبذير والاسراف ، وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام ، وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
0
(1/1360)
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } (النساء : 2) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم ، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين : أحدهما : بلوغ النكاح ، والثاني : إيناس الرشد ، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : غير صحيحة ، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية ، وذلك لان قوله : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء ، وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء ، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار ، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء ، يقال : وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه / لدخل ، فثبت أن قوله : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى } أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال : ليس المراد بقوله : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى } الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ} فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر ، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر ، لأنه لا قائل بالفرق ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي ، وأما الذي احتجوا به ، فجوابه : أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله ، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد ، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي ، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء ، وأيضا : هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري ، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء ، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله ، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء ، وهذا محتمل والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
المسألة الثانية : المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله : {وَإِذَا بَلَغَ الاطْفَـالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ} (النور : 59)وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام ، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع.
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة : منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث ، وهو الاحتلام والسن المخصوص ، ونبات الشعر الخشن على العانة ، واثنان منها مختصان بالنساء ، وهما : الحيض والحبل.
المسألة الثالثة : أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد ، أما الايناس فقوله : {ءَانَسْتُم} أي عرفتم وقيل : رأيتم ، وأصل الايناس في اللغة الابصار ، ومنه قوله : {مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ} (القصص : 29)وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله ، بل لا بد وأن يكون هذا مراداً ، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته ، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين ؟
فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر ، والأول أولى ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن أهل اللغة قالوا : الرشد هو إصابة الخير ، والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير. وثانيها : أن الرشد نقيض / الغي قال تعالى : {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } (البقرة : 256) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى : {وَعَصَى ا ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى } (طه : 121) فجعل العاصي غويا ، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين ، وثالثها : أنه تعالى قال : {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود : 97) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم.
إذا عرفت هذا فنقول : فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق ، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه.
(1/1361)
المسألة الرابعة : اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فانه لا يدفع اليه ماله ، ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فاذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال ، وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة ، فاذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام : "مروهم بالصلاة لسبع" فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال ، فعندها يدفع اليه ماله ، أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه : لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال : لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة ، والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد ، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية ، فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة ، فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى } ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ، ثم قال : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا } ويجب أن يكون المراد : فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه ، فانه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض ، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال ، وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي ، بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه ، فاذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة ، وجب أن لا يجوز دفع المال اليه ، والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص ، لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به ، فاذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي ، فثبت أنه لا وجه لقول من يقول : انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد.
/ المسألة الخامسة : إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} (النسار : 5) والقياس الجلي أيضا يدل عليه ، لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله ، وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته ، وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء ، فوجب اعتباره والله أعلم.
المسألة السادسة : قال صاحب "الكشاف" : الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة ، أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد.
المسألة السابعة : قال صاحب "الكشاف" : قرأ ابن مسعود فان أحستم ، بمعنى أحسستم قال :
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
أحسن به فهن اليه شوس
وقرىء رشدا بفتحتين ورشداً بضمتين.
ثم قال تعالى : {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال اليهم ، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل ، لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل.
(1/1362)
ثم قال تعالى : {وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا } أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا ، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال : {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } قال الواحدي رحمه الله : استعف عن الشيء وعف اذا امتنع منه وتركه ، وقال صاحب "الكشاف" : استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال : {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم ؟
وفي هذه المسألة أقوال : أحدهما : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله ، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه : الأول : أن قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا} مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة ، وثانيها : أنه قال : {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فقوله : {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه ، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله : {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة ، وثالثها : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} فائدة ، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف ، ورابعها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن رجلا قال له : ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله ؟
قال : بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله ، قال : أفأضربه ؟
قال : مما كنت ضاربا منه ولدك ، وخامسها : ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف : سلام عليكم أما بعد : فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار ، وربعها لعبدالله ابن مسعود ، وربعها لعثمان ، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم : من كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله ؟
قال : إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا : يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها/ وسادسها : أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها ، فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم ، فكذا ههنا ، فهذا تقرير هذا القول.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
والقول الثاني : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس. وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها ، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب ، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله تعالى قال : {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فحكم في الأموال بدفعها اليهم.
(1/1363)
والقول الثالث : قال أبو بكر الرازي : الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، سواء كان غنيا أو فقيرا. واحتج عليه بآيات : منها : قوله تعالى : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } إلى قوله : {إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (النساء : 2) ومنها : قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء : 10) ومنها : {وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى بِالْقِسْطِ } (النساء : 127) ومنها : قوله : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} (البقرة : 188) قال : فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر ، وقوله : {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات ، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي / اليه. أما قوله : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة ، والخاص مقدم على العام. وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم ، وهل النزاع الا فيه ، وهو الجواب بعينه عن قوله : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} أما قوله : {وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى بِالْقِسْطِ } فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط ، والنزاع ليس إلا فيه ، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
ثم قال تعالى : {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } .
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا ، فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه : أحدها : أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له ، وثانيها : أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه. ثالثها : أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب" فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه ، فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد. واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق ؟
وكذلك لو قال : أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق ؟
قال مالك والشافعي : لا يصدق ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : يصدق ، واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله : {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، وأيضا قال الشافعي : القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم/ وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع ، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال : لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم : قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه ، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي : قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه ، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه ، فيقال له : ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه ، أما النقض بالقاضي فبعيد ، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة ، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ، ويلزم التسلسل ، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم ، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين : أحدهما : ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي ، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي ، وأما إذا تصادقوا بعد / البلوغ أنه قد هلك فنقول : ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان ، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره ، فههنا يجب أن يقبل قوله ، والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية ، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم ، فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة ، وهو قوله : {وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا } وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان ، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم :
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
(1/1364)
ثم قال بعده : {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا } أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي ؛ لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال اليه إلا عند حضور الشاهد ، صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله : {فَأَشْهِدُوا } كما أنه يجب لظاهر الايجاب ، فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب ، ثم قال هذا الرازي ، ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد ، اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه ، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات ، فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة ، فيقال له : أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه ، واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله ، وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله ، ومثل هذا الفقه مسلم لك ، ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى : {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} قال ابن الانباري والأزهري : يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد : حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم ، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب ، قولنا الشريب بمعنى المشارب ، ومن الثاني قولهم : حسيبك الله أي كافيك الله.
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله ، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.
واعلم أن الباء في قوله : {وَكَفَى بِاللَّهِ} {وَكَفَى بِرَبِّكَ} (الإسراء : 65) في جميع القرآن زائدة ، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و{حَسِيبًا} نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا ، وحال كونه كافيا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 491
502
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس : ان أوس بن ثابت الانصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة ، فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما : سويد ، وعرفجة وأخذا ماله. فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكرت القصة ، وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا ، وما دفعا إلى بناته شيئا من المال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم "ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك" فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآية ، ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ، ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية ، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى الوصيين وقال : "لا تقربا من مال أوس شيئا" ثم نزل بعد : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } (مريم : 11) ونزل فرض الزوج وفرض المرأة ، فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات ، وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه اليها ، فهذا هو الكلام في سبب النزول.
المسألة الثانية : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة ، فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال ، بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء ، فذكر في هذه الآية هذا القدر ، ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء ، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلاً على التدريج ، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع ، فاذا كان دفعة عظم وقعه على القلب ، وإذا كان على التدريج سهل ، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ، ثم أردفه بالتفصيل.
المسألة الثالثة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الارحام قال : / لأن العمات والخالات والاخوال وأولاد البنات من الأقربين ، فوجب دخولهم تحت قوله : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ} أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية ، إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية ، وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 502
(1/1365)
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين : أحدهما : انه تعالى قال في آخر الآية {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي نصيبا مقدرا ، وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر ، فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية ، وثانيهما : أن هذه الآية مختصة بالأقربين ، فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين ؟
وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر ، أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء ، والأول باطل ؛ لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه ، لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد ، وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام ، ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده ، فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل ، ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه ، وما ذاك إلا الوالدان والأولاد/ فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام ، لا يقال : لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار ، لأنا نقول : الأقرب جنس يندرج تحته نوعان : الوالد والولد ، فثبت أنه تعالى ذكر الوالد ، ثم ذكر الأقربين ، فيكون المعنى أنه ذكر النوع ، ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار.
المسألة الرابعة : قوله : {نَصِيبًا} في نصبه وجوه : أحدها : أنه نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا ، والثاني : يجوز أن ينتصب انتصاب المصدر ، لأن النصيب اسم في معنى المصدر كأنه قيل : قسما واجبا ، كقوله : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } (التوبة : 60 ، النساء : 11) أي قسمة مفروضة.
المسألة الخامسة : أصل الفرض الحز ، ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضاً ، والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضاً ، وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها ، والفرضة العلامة في مقسم الماء ، يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب ، فهذا هو أصل الفرض في اللغة ، ثم ان أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ، واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون ، قالوا : لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع ، وأما الوجوب فانه عبارة عن السقوط ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت ، ووجب الحائط إذا سقط ، وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى : {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (الحج : 36) يعني سقطت ، فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع ، وأن الوجوب عبارة عن السقوط ، ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط. / فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ، ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 502
إذا عرفت هذا فنقول : هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة ، فلم يكن توريثهم فرضاً ، والآية إنما تناولت التوريث المفروض ، فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام ، والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 502
0
وفي الآية مسائل :
(1/1366)
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} ليس فيه بيان أي قسمة هي ، فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال : الأول : أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث ، وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث ، وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة ، فان تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم ، فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع اليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : إن ذلك واجب ، ومنهم من قال : إنه مندوب ، أما القائلون بالوجوب ، فقد اختلفوا في أمور : أحدها : أن منهم من قال : الوارث إن كان كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به ، وإن كان صغيراً وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال ، ومنهم من قال : إن كان الوارث كبيراً ، وجب عليه الاعطاء من ذلك المال ، وإن كان صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم ، ويقول : إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق ، وان يكبروا فسيعرفون حقكم ، فهذا هو القول المعروف ، وثانيها : قال الحسن والنخعي : هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان ، فاذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك ، قال لهم قولا معروفا ، مثل أن يقول لهم : ارجعوا بارك الله فيكم ، وثالثها : قالوا : مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل ، ولا تقدير / فيه بالاجماع. ورابعها : أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة. قال ابن عباس في رواية عطاء : وهذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة : الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير ، فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة. روي أن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه وعائشة حية ، فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه ، وتلا هذه الآية ، فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب ، ومنهم من قال : انه ثبت على سبيل الندب والاستحباب ، لا على سبيل الفرض والايجاب ، وهذا الندب أيضا إنما يحصل اذا كانت الورثة كباراً ، أما اذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف ، وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار. واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق ، وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب ، ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره ، ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب.
جزء : 9 رقم الصفحة : 502
القول الثاني : في تفسير الآية : أن المراد بالقسمة الوصية ، فاذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ، ويقول لهم مع ذلك : قولا معروفا في الوقت ، فيكون ذلك سببا لوصول السرور اليهم في الحال والاستقبال ، والقول الأول أولى ، لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية ، ويمكن أن يقال : هذا القول أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية.
القول الثالث : في تفسير الآية أن قوله : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى } فالمراد من {أُوْلِى الْقُرْبَى } الذين يرثون والمراد من {وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينُ} الذين لا يرثون.
ثم قال : {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} فقوله : {فَارْزُقُوهُم} راجع الى القربى الذين يرثون وقوله : {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا} راجع الى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون ، وهذا القول محكى عن سعيد بن جبير.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : الضمير في قوله : {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون ، وقال الواحدي : الضمير عائد الى الميراث فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة ، لا الى لفظها كقوله : {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيه } (يوسف : 76) والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث ، لكن أريد به المشربة فعادت الكناية الى المعنى لا الى اللفظ ، وعلى هذا التقدير / فالمراد بالقسمة المقسوم ، لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة.
المسألة الثالثة : إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر ، وحاجتهم أشد ، فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر.
المسألة الرابعة : الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 502
505
وفي الآية مسائل :
(1/1367)
المسألة الأولى : الجملة الشرطية وهو قوله : {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} هي صلة لقوله : {الَّذِينَ} والمعنى : وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه ، وسنذكر وجوه المفسرين فيه.
المسألة الثانية : لا شك أن قوله : {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} يوجب الاحتياط للذرية الضعاف ، وللمفسرين فيه وجوه : الأول : أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون : ان ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأوص بمالك لفلان وفلان ، ولا يزالون يأمرونه بالوصية الى الأجانب الى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا ، فقيل لهم : كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال ، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله. وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك ، فلا ترضه لأخيك المسلم. عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم "لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
والقول الثاني : قال حبيب بن أبي ثابت : سألت مقسما عن هذه الآية فقال : هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب ، فيقول له من كان عنده : اتق الله وأمسك على ولدك مالك ، مع أن ذلك الانسان يحب أن يوصي له ، ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين / عن الترغيب في الوصية ، وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية ، والأولى أولى ، لأن قوله : {لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا} أشبه بالوجه الأول وأقرب اليه.
والقول الثالث : يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ، ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث. كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث ، بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك ، وكانوا يقولون : الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث ، وخبر سعد يدل عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلّم : "الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس".
جزء : 9 رقم الصفحة : 505
والقول الرابع : أن هذا أمر لأولياء اليتيم ، فكأنه تعالى قال : وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره ، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله ، وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا. قال القاضي : وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء ضعفاء ، وضعافى ، وضعافى : نحو سكارى وسكارى. قال الواحدي : قرأ حمزة {ضِعَـافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} بالامالة فيهما ثم قال : ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال ، وكان أوله حرفا مستعلياً مكسوراً نحو ضعاف ، وغلاب ، وخباب ، يحسن فيه الامالة ، وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة ، فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة ، وأما الامالة في {خَافُوا } فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ، ثم قال : {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} وهو كالتقرير لما تقدم ، فكأنه قال : فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه ، وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل ، والقول السديد هو العدل والصواب من القول. قال صاحب "الكشاف" : القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني ، يا ولدي ، والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا : إذا أردت / الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تحجف بأولادك ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون ، أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالاكرام.
جزء : 9 رقم الصفحة : 505
506
(1/1368)
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما ، وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك ، كقوله : {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِا وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى ا أَمْوَالِكُم إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (النساء : 2){وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا} (النساء : 9) ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم ، وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة ، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم ، والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.
المسألة الثانية : قوله : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } فيه قولان : الأول : أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي : إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه وعينيه ، يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء : فقال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما".
والقول الثاني : ان ذلك توسع ، والمراد : ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه ، وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر ، كقوله تعالى : / {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) قال القاضي : وهذا أولى من الأول لأن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } الاشارة فيه إلى كل واحد ، فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } .
وجوابه : أنه كقوله : {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } (آل عمران : 167) والقول لا يكون إلا بالفهم ، وقال : {وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46) والقلب لا يكون إلا في الصدر ، وقال : {وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الأنعام : 38) والطيران لا يكون إلا بالجناح ، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة.
المسألة الرابعة : انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات ، فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل ، أو بطريق آخر ، وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه : أحدها : أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها. فخرج الكلام على عادتهم. وثانيها : أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا ، أنه يقال : إنه أكل ماله. وثالثها : أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات.
(1/1369)
المسألة الخامسة : قالت المعتزلة : الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل/ سواء كان مسلما أو لم يكن ؛ لأن قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله : {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة ، والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} (البقرة : 254) ثم قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية ، وإذا كان كذلك ، فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة ، فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله ، فقال أبو علي الجبائي : قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة ، هذا جملة ما ذكره القاضي ، فيقال له : فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما : أنك زدت فيه شرط عدم التوبة. والثاني : أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا ، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو ؟
أقصى ما في الباب أن يقال : ما وجدنا دليلا يدل / على حصول العفو ، لكنا نجيب عنه من وجهين : أحدهما : أنا لا نسلم عدم دلائل العفو ، بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة. والثاني : هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا يفيد القطع بعدم الوجود ، بل يبقى الاحتمال ، وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة السادسة : أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم } (التوبة : 35) وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ، ولا شك أن هذا الوعيد أشد ، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب ، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله ، أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح ، فكان الوعيد أشد ، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب ، أما اليتيم فانه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد.
ثم قال تعالى : {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم {وَسَيَصْلَوْنَ} بضم الياء ، أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله ، والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال : صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء ، وهو صالي النار ، وقوم صالون وصلاء قال تعالى : {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 163) وقال : {أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} (مريم : 70) وقال : {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } (إبراهيم : 29 ، ص : 56 ، المجادلة : 8) قال الفراء : الصلي : اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت ، وإذا فتحت قصرت ، ومن ضم الياء فهو من قولهم : أصلاه الله حر النار اصلاء. قال : {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } (النساء : 30) وقال تعالى : {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر : 26) قال صاحب "الكشاف" : قرىء بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها.
المسألة الثانية : السعير : هو النار المستعرة يقال : سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير ، والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة ، وإنما قال : {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة : روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية ، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } (البقرة : 220) ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك ، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا ، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية ، وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر ، كما في قوله : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
0
في الآية مسائل :
(1/1370)
المسألة الأولى : اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين : أحدهما : النسب ، والآخر العهد ، أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الاناث. وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة ، وأما العهد فمن وجهين : الأول : الحلف ، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فاذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت ، والثاني : التبني ، فان الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه ، وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة ، ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلّم تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية ، ومن العلماء من قال : بل قررهم الله على ذلك فقال : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ } (النساء : 33) والمراد التوارث بالنسب. ثم قال : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ فَـاَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } (النساء : 33) والمراد به التوارث بالعهد ، والأولون قالوا المراد بقوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} ليس المراد منه النصيب من المال ، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة ، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية.
وأما أسباب التوارث في الاسلام ، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني ، وزاد فيه أمرين آخرين : أحدهما : الهجرة ، فكان المهاجر يرث من المهاجر. وان كان أجنبيا عنه ، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة ، ولا يرثه غير المهاجر ، وإن كان من أقاربه. والثاني : المؤاخاة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يؤاخي بين كل اثنين منهم ، وكان ذلك سببا للتوارث ، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَـابِ اللَّه } (الأحزاب : 6) والذي تقرر عليه دين الاسلام أن أسباب التوريث ثلاثة : النسب ، والنكاح ، والولاء.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الثانية : روى عطاء قال : استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا ، فأخذ / الأخ المال كله ، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ، وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما ، فقال عليه الصلاة والسلام : "ارجعي فلعل الله سيقضي فيه" ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمهما وقال : "أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ، فهذا أول ميراث قسم في الاسلام.
المسألة الثالثة : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام ، وما على الأولياء فيه ، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالارث ، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث/ الثاني : أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالاجمال في قوله : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ} (النساء : 7) فذكر عقيب ذلك المجمل ، هذا المفصل فقال : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } .
المسألة الرابعة : قال القفال : قوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } أي يقول الله لكم قولا يوصلكم الى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الايصاء هو الايصال يقال : وصى يصي اذا وصل ، وأوصى يوصي اذا أوصل ، فاذا قيل : أوصاني فمعناه أوصلني الى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج : معنى قوله ههنا : {يُوصِيكُمُ} أي يفرض عليكم ، لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّا ذَالِكُمْ وَصَّـاكُم بِه } ولا شك في كون ذلك واجبا علينا.
فان قيل : انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } .
قلنا : لما كانت الوصية قولا ، لا جرم ذكر بعد قوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} خبرا مستأنفا وقال : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } ونظيره قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِا لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الفتح : 29) أي قال الله : لهم مغفرة لأن الوعد قول.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الانسان بولده أشد التعلقات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "فاطمة بضعة مني" فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم.
واعلم أن للأولاد حال انفراد ، وحال اجتماع مع الوالدين : أما حال الانفراد فثلاثة ، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والاناث معا ، وإما أن يخلف الاناث فقط ، أو الذكور فقط.
(1/1371)
القسم الأول : ما اذا خلف الذكران والاناث معا ، وقد بين الله الحكم فيه بقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } .
واعلم أن هذا يفيد أحكاما : أحدهما : اذا خلف الميت ذكراً واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم ، وثانيها : إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الاناث كان لكل ذكر سهمان ، ولك أنثى سهم. وثالثها : إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم ، وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } يفيد هذه الأحكام الكثيرة.
القسم الثاني : ما إذا مات وخلف الاناث فقط : بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين ، فلهن الثلثان ، وإن كانت واحدة فلها النصف ، إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح. واختلفوا فيه ، فعن ابن عباس أنه قال : الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا ، وأما فرض البنتين فهو النصف ، واحتج عليه بأنه تعالى قال : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } وكلمة "إن" في اللغة للاشتراط ، وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعداً ، وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين.
والجواب من وجوه : الأول : أن هذا الكلام لازم على ابن عباس ، لأنه تعالى قال : {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة ، وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين ، فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله. الثاني : أنا لا نسلم أن كلمة "ان" تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ؛ ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين ، لأن الاجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف/ وإما الثلثان ، وبتقدير أن يكون كلمة "إن" للاشتراط وجب القول بفسادهما ، فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ، ولأنه تعالى قال : {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ مَّقْبُوضَةٌ } (البقرة : 283) وقال : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ، ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
الوجه الثالث : في الجواب : هو أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان ، فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس ، وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان ، قالوا : وإنما عرفنا ذلك بوجوه : الأول : قال أبو مسلم الاصفهاني : عرفناه من قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } فاذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ، ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان ، وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين / الثلثين ، الثاني : قال أبو بكر الرازي : اذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } فاذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث ، فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى. الثالث : أن قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة ، وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص ، واذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان ، لأنه لا قائل بالفرق ، والرابع : أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين ، وذلك يدل على ما قلناه. الخامس : أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم الثنتين ، وقال في شرح ميراث الأخوات : {إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَه وَلَدٌ وَلَه ا أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَا وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَآ وَلَدٌا فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ، فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه ، فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ، لأنهما أقرب الى الميت من الأختين ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك ، لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى ، فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب ، فالوجوه الثلاثة الاول مستنبطة من الآية ، والرابع مأخوذ من السنة ، والخامس من القياس الجلي.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
(1/1372)
أما القسم الثالث : وهو اذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول : أما الابن الواحد فانه اذا انفرد أخذ كل المال ، وبيانه من وجوه : الاول من دلالة قوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } (النساء : 176) فان هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين.
ثم قال تعالى في البنات : {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال. الثاني : أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام : "ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر" ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر ، ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل. الثالث : ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن ، وليس له بالاجماع قدر معين من الميراث/ فاذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد ، فوجب أن يأخذ الكل.
فان قيل : حظ الانثيين هو الثلثان فقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } يقتضي أن يكون حظ / الذكر مطلقا هو الثلث ، وذلك ينفي أن يأخذ كل المال.
قلنا : المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ، ويدل عليه وجهان : أحدهما : ان قوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } يقتضي حصول الأولاد ، وقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } يقتضي حصول الذكر والانثى هناك. والثاني : أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد ، هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط ، أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان ، فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم. بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه : أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز ، فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك. وأما ثانيا : فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها. وأما ثالثا : فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة ، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر ، فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة ، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل.
والجواب عنه من وجوه : الأول : أن خرج المرأة أقل ، لأن زوجها ينفق عليها ، وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته ، ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج. الثاني : أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية ، مثل صلاحية القضاء والامامة ، وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد. الثالث : ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة ، فاذا انضاف اليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر :
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } (العلق : 6 ـ 7) وحال الرجل بخلاف ذلك. والرابع : أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، نحو بناء الرباطات ، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل ، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا ، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك. الخامس : روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال : إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها ، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم ، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها ، فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل.
السؤال الثاني : لم لم يقل : للأنثيين مثل حظ الذكر ، أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر ؟
/ والجواب من وجوه : الأول : لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى ، كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى. الثاني : أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام ، ولو قال : كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام ، فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل ، ولهذا قال : {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء : 7) فذكر الاحسان مرتين والاساءة مرة واحدة. الثالث : أنهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث وهو السبب لورود هذه الآية ، فقيل : كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، فلا ينبغى له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية والله أعلم.
المسألة السادسة : لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة ، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى : {تَتَّقُونَ * وَإِذْ أَخَذَ} (الأعراف : 26) وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام : {مَعِىَ بَنِى إسرائيل } (البقرة : 40) الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازاً أو حقيقة.
(1/1373)
فان قلنا : إنه مجاز فنقول : ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا ، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } ولد الصلب وولد الابن معا.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
واعلم أن الطريق في دفع هذا الاشكال أن يقال : انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس ، وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول : الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا ، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين ، إما عند عدم ولد الصلب رأسا ، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث ، فحينئذ يقتسمون الباقي ، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك ، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا ، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن ، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب ، فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن ، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحداً ، أما إذا قلنا : ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة ، فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الاشكال ، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا ، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الانسان / والفرس. والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى : {وَحَلَـا اـاِلُ أَبْنَآاـاِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ} (النساء : 23) وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن ، فعلمنا أن لفظ الابن متواطىء بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن ، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن ؟
قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الاجداد والجدات ؟
ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى : {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} (البقرة : 133) والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة ، فان الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم.
المسألة السابعة : اعلم أن عموم قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } زعموا أنه مخصوص في صور أربعة : أحدها : أن الحر والعبد لا يتوارثان. وثانيها : أن القاتل على سبيل العمد لا يرث. وثالثها : أنه لا يتوارث أهل ملتين ، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض ، ويتفرع عليه فرعان.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
الفرع الأول : اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم ، أما المسلم فهل يرث من الكافر ؟
ذهب الأكثرون إلى أنه أيضاً لا يرث ، وقال بعضهم : إنه يرث قال الشعبي : قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد ، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به ، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث ، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول : هكذا قضى أمير المؤمنين.
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام : "لا يتوارث أهل ملتين" وحجة القول الثاني : ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : "الاسلام يزيد ولا ينقص" ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } يقتضي توريث الكافر من المسلم ، والمسلم من الكافر ، إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام : "لا يتوارث أهل ملتين" لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية ، والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله : "الاسلام يزيد ولا ينقص" أخص من قوله : "لا يتوارث أهل ملتين" فوجب تقديمه عليه ، بل هذا التخصيص أولى ، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية ، والخبر الأول ليس كذلك ، وأقصى ما قيل في جوابه : أن قوله : "الاسلام يزيد ولا ينقص" ليس نصا في واقعة الميراث فوجب حمله على سائر الاحوال.
الفرع الثاني : المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل ، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا / على أنه لا يورث ، بل يكون لبيت المال ، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان : قال الشافعي : لا يورث بل يكون لبيت المال ، وقال أبو حنيفة : يرثه ورثته من المسلمين ، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام : "لا يتوارث أهل ملتين" على عموم قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين ، فوجب أن لا يحصل التوارث.
(1/1374)
فان قيل : لا يجوز أن يقال : إن المرتد زال ملكه في آخر الاسلام وانتقل إلى الوارث ، وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر.
قلنا : لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته ، والأول باطل ، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المؤمنون : 6) وهو بالاجماع باطل. والثاني : باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين ، وهو خلاف الخبر. ولا يبقى ههنا إلا أن يقال : إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه ، إلا أن القول بالاستناد باطل ، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد ، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي ، وذلك باطل في بداهة العقول ، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد ، وقد أبطلناه والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
الموضع الرابع : من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون ، والشيعة خالفوا فيه ، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه ، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ، ثم ان الشيعة قالوا : بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا ، وبيانه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه على خلاف قوله تعالى : حكاية عن زكريا عليه السلام {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } (مريم : 6) وقوله تعالى : {وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ } (النمل : 16) قالوا : ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة. بل يكون كسباً جديداً مبتدأ ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة ، وثانيها : أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين ، وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة ، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة/ وثالثها : يحتمل أن قوله : "ما تركناه صدقة" صلة لقوله : / "لا نورث" والتقدير : أن الشيء الذي تركناه صدقة ، فذلك الشيء لا يورث.
فان قيل : فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك.
قلنا : بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم ، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
والجواب : أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة ، وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال والله أعلم.
المسألة الثامنة : من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } معناه للذكر منهم ، فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم ، كقولك : السمن منوان بدرهم ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن ، وقوله : {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان ، وأن يكون صفة لقوله : {نِسَآءً} أي نساء زائدات على اثنتين. وههنا سؤالات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
السؤال الأول : قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف يحسن إرادته بقوله : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} وهو لبيان حظ الاناث.
والجواب من وجهين : الأول : أنا بينا أن قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان ، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } على معنى : فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد ، فلهن ما للثنتين وهو الثلثان ، ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت ، فثبت أن هذا العطف متناسب. الثاني : أنه قد تقدم ذكر الأنثيين ، فكفى هذا القول في حسن هذا العطف.
السؤال الثاني : هل يصح أن يكون الضميران في "كن" و"كانت" مبهمين ويكون "نساء" و"واحدة" تفسيراً لهما على ان "كان" تامة ؟
الجواب : ذكر صاحب "الكشاف" : أنه ليس ببعيد.
السؤال الثالث : النساء : جمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين ؟
(1/1375)
الجواب : من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته ، ومن يقول : هو ثلاثة قال هذا للتأكيد ، كما في قوله : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } (النساء : 10) وقوله : {لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِا إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } .
أما قوله تعالى : {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فنقول : قرأ نافع (واحدة) بالرفع ، والباقون بالنصب ، أما الرفع فعلى كان التامة ، والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} (النحل : 51) والتقدير : فان كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا ، التقدير : وإن كانت المتروكة واحدة ، وقرأ زيد بن علي : النصف ، بضم النون.
قوله تعالى : {وَلابَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَه وَلَدٌ } .
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر {السُّدُسُ } بالتخفيف وكذلك الربع و{الثُّمُنُ} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الثانية : اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى : أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية ، واعلم أنه لا نزاع أن اسم لولد يقع على الذكر والانثى ، فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد ، أو أكثر من واحد ، فههنا الابوان لكل واحد منهما السدس. وثانيها : أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر ، وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا. وثالثها : أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف ، وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية. والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب ، وههنا سؤالات.
السؤال الأول : لا شك أن حق الوالدين على الانسان أعظم من حق ولده عليه ، وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل ؟
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة ، وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا ، أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق.
السؤال الثاني : الضمير في قوله : {وَلابَوَيْهِ} إلى ماذا يعود ؟
الجواب : أنه ضمير عن غير مذكور ، والمراد : ولأبوي الميت.
السؤال الثالث : ما المراد بالأبوين ؟
والجواب : هما الأب والأم ، والأصل في الأم أن يقال لها أبة ، فأبوان تثنية أب وأبة.
/ السؤال الرابع : كيف تركيب هذه الآية.
الجواب : قوله : {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} بدل من قوله : بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه.
فان قيل : فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس.
قلنا : لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيداً وتشديدا ، والسدس مبتدأ وخبره : لأبويه ، والبدل متوسط بينهما للبيان.
قوله تعالى : {وَلَدٌا فَإِن لَّمْ يَكُن لَّه وَلَدٌ وَوَرِثَه ا أَبَوَاهُ فَلامِّهِ الثُّلُثُ } .
وفي الآية مسألتان :
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
(1/1376)
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين ، وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد ، ولا يكون هناك وارث سواهما ، وهو المراد من قوله : {وَوَرِثَه ا أَبَوَاهُ} فههنا للأم الثلث ، وذلك فرض لها ، والباقي للأب ، وذلك لأن قوله : {وَوَرِثَه ا أَبَوَاهُ} ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما ، واذا كان كذلك كان مجموع المال لهما ، فاذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب ، فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد ، ويتفرع على ما ذكرنا فرعان : الأول : أن الآية السابقة دلت على أن فرض الاب هو السدس ، وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة ، والنصف بالتعصيب. الثاني : لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب اذا انفرد أن يأخذ كل المال ، لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد ، هذا كله اذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين ، أما اذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة الى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي الى الأم ، ويدفع الباقي الى الأب ، وقال ابن عباس : يدفع الى الزوج نصيبه ، والى الأم الثلث ، ويدفع الباقي الى الأب ، وقال : لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي ، وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين ، وخالفه في الزوج والأبوين ، لأنه يفضي الى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، وأما في الزوجة فانه لا يفضي الى ذلك ، وحجة الجمهور وجوه : الأول : أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين ، ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } (النساء : 176)وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى : {وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالا وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } وأيضا الأم مع الأب كذلك ، لأنا بينا أنه اذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث ، وللأب الثلثان ، اذا ثبت هذا فنقول : اذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا ، للذكر مثل حظ الأنثيين. الثاني : أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال ، فاذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول ، الثالث : أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة ، فأشبه الوصية في قسمة الباقي ، الرابع : أن المرأة اذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف ، فلو دفعنا الثلث الى الأم والسدس الى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ، وهذا خلاف قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } .
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول : يرجع حاصلها الى تخصيص عموم القرآن بالقياس.
وأما الوجه الرابع : فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي {فَلامِّهِ} بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسرواً أو ياء.
أما الأول : فكقوله : {فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ} (الزمر : 6).
وأما الثاني : فكقوله : {فِى أُمِّهَا رَسُولا} (القصص : 59) وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله : {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً} وأما الباقون فانهم قرؤا بضم الهمزة ، أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج : انهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله : {فَلامِّهِ} وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة ، وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين ، فلا جرم جعلت الضمة كسرة ، وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل ، ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللازم في حكم المنفصل والله أعلم.
قوله تعالى : {فَإِن كَانَ لَه ا إِخْوَةٌ فَلامِّهِ السُّدُسُ } .
اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الاخوة ، والأخوات وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس ، واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون ، واختلفوا في الأختين ، فالأكثرون من الصحابة على القول باثبات / الحجب كما في الثلاثة ، وقال ابن عباس : لا يحجبان كما في حق الواحدة ، حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة ، ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه ، فاذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب ، فوجب أن لا يحصل الحجب. روي أن ابن عباس قال لعثمان : بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ؟
وإنما قال الله تعالى : {فَإِن كَانَ لَه ا إِخْوَةٌ} والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة ؟
فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار.
(1/1377)
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان ، وعثمان ما أنكره ، وهما كانا من صميم العرب ، ومن علماء اللسان ، فكان اتفاقهما حجة في ذلك.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين : الأول : أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه ، واحتجوا فيه بوجوه : أحدها : قوله تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم : 4) ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد ، وثانيها : قوله تعالى : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} والتقييد بقوله : فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين ، وثالثها : قوله : "الاثنان فما فوقهما جماعة" والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين/ الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة ، وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين ، وإنما الموجب لذلك هو القياس ، وتقريره أن نقول : الأختان يوجبان الحجب ، وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا ، إنما قلنا إن الأختين يحجبان ، وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ، ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان ، وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث ، فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين ، كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة ، فثبت أن الأختين يحجبان ، واذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين ، لأنه لا قائل بالفرق ، فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ، وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى ، فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ، ويمكن أن يقال : لا يتمسك به على طريقة القياس ، بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم ، إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم ، واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس ، والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم.
المسألة الثانية : الاخوة اذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة ، بل / يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس ، سدس بالفرض ، والباقي بالتعصيب ، وقال ابن عباس : الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب ، فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا ، وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين ، وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا ، فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين ، كما كان قبل ذلك والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ} .
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية وههنا مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين ، قال : {السُّدُسُا مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين ، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين ، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق ، فأما إذا لم يكن دين ، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء ، فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ، ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله.
المسألة الثانية : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية.
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة "أو" لا تفيد الترتيب ألبتة.
(1/1378)
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين : الأول : أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة ، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين ، فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه ، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها ، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة "أو" على الوصية والدين ، تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية. الثاني : أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له ، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية/ ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة / بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين ، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى ، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث ، وليس كذلك الدين ، فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي ، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا ، فالوصية تشبه الارب من وجه ، والدين من وجه آخر ، أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث ، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما معنى "أو" ههنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصى بها ودين ، والجواب من وجهين : الأول : أن "أو" معناها الاباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس ، فان جالست الحسن فأنت مصيب ، أو ابن سيرين فأنت مصيب ، وإن جمعتهما فأنت مصيب ، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر ، فكذا ههنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، أما اذا ذكره بلفظ "أو" كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده ، وكذلك إن كان كلاهما. الثاني : أن كلمة "أو" اذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله : {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الإنسان : 24) وقوله : {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } (الأنعام : 146) فكانت "أو" ههنا بمعنى الواو ، فكذا قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.
المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {يُوصِى} بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى : {مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَه وَلَدٌ } .
قوله تعالى : {وَأَبْنَآؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
(1/1379)
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } ومن حق / الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه ، فنقول : إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين ، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات ، والانسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح ، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه ، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء ، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء ، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال : إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة ، وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، فكأنه قيل : أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم ، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم ، فقوله : {وَأَبْنَآؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً} اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة ، وقوله : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها/ وذكروا في المراد من قوله : {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وجوها : الأول : المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة ، قال ابن عباس : إن الله ليشفع بعضهم في بعض ، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة ، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه ، فقال : {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. الثاني : المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث : المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.
قوله تعالى : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما ، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل اليها طباعكم ، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد ، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن ، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها ، وهذا نظير قوله للملائكة : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة : 30).
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
فان قيل : لم قال : {كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} مع أنه الآن كذلك.
قلنا : قال الخليل : الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال ، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ، وقال سيبويه : القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا ، فقيل / لهم : إن الله كان كذلك ، ولم يزل موصوفا بهذه الصفات.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
0
اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات ، وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة ، فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية ، فحصل ههنا أقسام ثلاثة ، أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب ، وذلك هو قرابة الولاد ، ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم. وثانيها : الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية ، وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي ، والذاتي أشرف من العرضي ، وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها. وثالثها : الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة ، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه : أحدها : أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية ، وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية. وثانيها : أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة ، والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة. وثالثها : أن مخالطة الانسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة. وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة ، وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم ، فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه / على قوانين المعقولات وفي الآية مسائل :
(1/1380)
المسألة الأولى : أنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الانثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الانثيين ، واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن ، والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن ، واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والانثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله : يجوز للزوج غسل زوجته ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز. حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها ، بيان أنها زوجته قوله تعالى : {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها ، إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها ، فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها ، إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها ، وعند حصول الزوجية حل له غسلها ، والدوران دليل العلية ظاهرا. وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها : بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ} (المؤمنون : 6) وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل/ لأنه لو ثبت لثبت اما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام : "غض بصرك إلا عن زوجتك" أو بدون حل النظر وهو باطل بالاجماع.
والجواب : لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول : لو لم تكن زوجة لكان قوله : {نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} مجازا ، ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص ، وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى ، فكان الترجيح من جانبنا ، وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان ، وعند اشتغالها باداء الصلاة المفروضة والحج المفروض ، وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة ، وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة ، فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح ، فعاد إلى أصل الحرمة ، أما حل الغسل فان ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم.
المسألة الثالثة : في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة ، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة ، وأيضا / خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات ، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك ، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء ، وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب ، ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن.
قوله تعالى : {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَه ا أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُا فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِا مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ} .
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة. وفي الآية مسائل :
(1/1381)
المسألة الأولى : كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة ، واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد ، وهذا هو المختار والقول الصحيح ، وأما عمر رضي الله عنه فانه كان يقول : الكلالة من سوى الولد ، وروي أنه لما طعن قال : كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له ، وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر ، الكلالة من عدا الوالد والولد ، وعن عمر فيه رواية أخرى : وهي التوقف ، وكان يقول : ثلاثة ، لأن يكون بينها الرسول صلى الله عليه وسلّم لنا أحب الي من الدنيا وما فيها : الكلالة ، والخلافة ، والربا. والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه : الأول : التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه : الأول : يقال : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة ، وحمل فلان على فلان ، ثم كل عنه إذا تباعد. فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه. الثاني : يقال : كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته ، ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة ، وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف ، وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة. الثالث : الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة ، ومنه الاكليل لاحاطته / بالرأس ، ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه ، ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب ، إذا عرفت هذا فنقول : من عدا الوالد والولد إنما سموا بالكلالة ، لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه : أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض : ويتولد البعض من البعض ، كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد ، ولهذا قال الشاعر :
نسب تتابع كابراً عن كابر
كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة/ وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات ، فانما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه ، فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد.
الحجة الثانية : أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين ، في هذه السورة : أحدهما : في هذه الآية ، والثاني : في آخر السورة وهو قوله : {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِا إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَه وَلَدٌ وَلَه ا أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } (النساء : 176) واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط ، قال : لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة : هو أنه ليس له ولد ، إلا أنا نقول : هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد. وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة ، ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين ، فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
الحجة الثانية : انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة ، وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد.
الحجة الرابعة : قول الفرزدق :
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة ، ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم ، وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم.
المسألة الثانية : الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث ، فاذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين ، واذا جعلناها وصفا للمورث ، فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد ، أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال : مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت : يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة ، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد ، وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي / رويناه عن الفرزدق ، فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام ، بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث ، اذا عرفت هذا فنقول : المراد من الكلالة في هذه الآية الميت ، الذي لا يختلف الوالدين والولد ، لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا.
المسألة الثالثة : يقال رجل كلالة ، وامرأة كلالة ، وقوم كلالة ، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة.
إذا عرفت هذا فنقول : إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة ، كما يقول : فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي ، قال صاحب "الكشاف" : ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق.
(1/1382)
المسألة الرابعة : قوله : {يُورَثُ} فيه احتمالان : الأول : أن يكون ذلك مأخوذاً من ورثه الرجل يرثه ، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه ، وفي انتصاب كلالة وجوه : أحدها : النصب على الحال ، والتقدير : يورث حال كونه كلالة ، والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره : يورث متكلل النسب ، وثانيها : أن يكون قوله : {يُورَثُ} صفة لرجل ، و{كَلَـالَةً} خبر كان ، والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة ، وثالثها : أن يكون مفعولا له ، أي يورث لأجل كونه كلالة.
الاحتمال الثاني : في قوله : {يُورَثُ} أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث ، وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب ، وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
المسألة الخامسة : قرأ الحسن ، وأبو رجاء العطاردي : يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على الفاعل.
أما قوله تعالى : {وَلَه ا أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : ههنا سؤال : وهو أنه تعالى قال : {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ثم قال : {وَلَه ا أَخٌ} فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه ؟
والجواب قال الفراء : هذا جائز فانه إذا جاء حرفان في معنى واحد "بأو" جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ، ويجوز إسناده إليهما أيضا ، تقول : من كان له أخ أو أخت فليصله ، يذهب إلى الأخ ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت ، وإن قلت فليصلهما جاز أيضا.
المسألة الثانية : أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت : الأخ والأخت من الأم ، وكان سعد بن أبي قاص يقرأ : وله أخ أو أخت من أم ، وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال/ في آخر السورة : {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ } (النساء : 176) فأثبت للأختين الثلثين ، وللاخوة كل المال ، وههنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث ، فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات ههنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية ، فالمراد ههنا الاخوة والأخوات من الأم فقط ، وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم ، أو من الأب.
ثم قال تعالى : {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ} (النساء : 11) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ما حق امرىء مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده" فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد ، إلا أنا نقول : هذه العمومات مخصوصة من وجهين : الأول : في قدر الوصية ، فانه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة ، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا ، أما المجمل فقوله تعالى : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ} (النساء : 7) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص ، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } (النساء : 11) ويدل عليه أيضا قوله تعالى : {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} (النساء : 9) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : "الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس".
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام : أحدها : أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث ، وثانيها : أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله : "والثلث كثير" وثالثها : أنه اذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام : "ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ورابعها : فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال اذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة ، فعند عدمهم وجب الجواز.
الوجه الثاني : تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له ، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث ، قال عليه الصلاة والسلام : "ألا لا وصية لوارث".
(1/1383)
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمة الله عليه : اذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب ، حجة الشافعي : أن الزكاة الواجبة والحج الواحب / دين فيجب اخراجه بهذه الآية ، وإنما قلنا إنه دين ، لأن اللغة تدل عليه ، والشرع أيضاً يدل عليه ، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد/ قيل في الدعوات المشهورة ؛ يا من دانت له الرقاب ، أي انقادت ، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلّم عن الحج الذي كان على أبيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزىء ؟
فقالت نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يقضي" إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى : {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} قال أبو بكر الرازي : المذكور في الآية الدين المطلق ، والنبي صلى الله عليه وسلّم سمى الحج دينا لله ، والاسم المطلق لا يتناول المقيد.
قلنا : هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين ، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة ، وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب والله أعلم.
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله تعالى : {غَيْرَ مُضَآرٍّ } نصب على الحال ، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته.
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه : أحدها : أن يوصي بأكثر من الثلث. وثانيها : أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي. وثالثها : أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة. ورابعها : أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه. وخامسها : أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال ، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة. وسادسها : أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة ، فهذا هو وجه الاضرار في الوصية.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
واعلم أن العلماء قالوا : الأولى أن يوصى بأقل من الثلث ، قال علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع. ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث. وقال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يوص ، وقبض أبو بكر فوصى ، فان أوصى الانسان فحسن ، وإن لم يوص فحسن أيضا.
واعلم أن لأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص ، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم.
المسألة الرابعة : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الاضرار في الوصية من الكبائر. واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه } (النساء : 13) قال ابن عباس في الوصية : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } (النساء : 14) قال في الوصية ، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "الاضرار في الوصية من الكبائر" وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" وقال عليه الصلاة والسلام : "من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة" ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث ، وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى ، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه ، وذلك من أكبر الكبائر.
ثم قال تعالى : {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّه } وفيه سؤالان :
السؤال الأول : كيف انتصاب قوله : {وَصِيَّةٍ} .
والجواب فيه من وجوه : الأول : أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية ، كقوله : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } (النساء : 11)الثاني : أن تكون منصوبة بقوله : {غَيْرَ مُضَآرٍّ } (النساء : 12) أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث. الثالث : أن يكون التقدير : وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية ، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن : غير مضار وصية بالاضافة.
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
السؤال الثاني : لم جعل خاتمة الآية الأولى : {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه } وخاتمة هذه الآية {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّه } .
الجواب : ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة ، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل ، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى ، ثم قال : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته {حَلِيمٌ} على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد والله أعلم.
(1/1384)
جزء : 9 رقم الصفحة : 506
525
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّه } وفيه بحثان.
البحث الأول : ان قوله : {تِلْكَ} إشارة إلى ماذا ؟
فيه قولان : الأول : أنه إشارة إلى أحوال المواريث.
القول الثاني : أنه إشارة الى كل ما ذكره من أول السورة الى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم ، حجة القول الأول أن الضمير يعود الى أقرب المذكورات ، وحجة القول الثاني أن عوده الى الأقرب اذا لم يمنع من عوده الى الأبعد مانع يوجب عوده الى الكل.
البحث الثاني : أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها ، وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره ، ومنه حدود الدار ، والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حداً له ، لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه ، وغيره هو كل ما سواه.
المسألة الثانية : قال بعضهم : قوله : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه } وقوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة ، وقال المحققون : بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره ، وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل. أقصى ما في الباب ان هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة ، إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم ، ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص ، ثم يقول : احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور ، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثالثة : قرأ نافع وابن عامر : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} بالنون في الحرفين ، والباقون بالياء.
أما الأول : فعلى طريقة الالتفات كما في قوله : {بَلِ اللَّهُ مَوْلَـاـاـكُمْ } ثم قال : {سَنُلْقِى} بالنون.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
وأما الثاني : فوجهه ظاهر.
المسألة الرابعة : ههنا سؤال وهو أن قوله : {يُدْخِلْهُ جَنَّـاتٍ} إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد / ذلك {خَـالِدِينَ فِيهَآ} إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما ؟
الجواب : أن كلمة (من) في قوله : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ} مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان.
المسألة الخامسة : انتصب "خالدين" "وخالدا" على الحال من الهاء في "ندخله" والتقدير : ندخله خالدا في النار.
(1/1385)
المسألة السادسة : قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار. وذلك لأن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَتَعَدَّ حُدُودَه } إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي سبق ذكرها وهي حدود المواريث ، أو يدخل فيها ذلك وغيره ، وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد ، وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة ، فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد ، وعلى ان الوعيد مخلد ، ولا يقال : هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله ، وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. فانه هو الذي تعدى جميع حدود الله ، فانا نقول : هذا مدفوع من وجهين : الأول : انا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية/ فتعدى جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي ، وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال ، فثبت أن تعدى جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة ، فعلمنا ان المراد منه أي حد كان من حدود الله. الثاني : هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث ، فيكون المراد من قوله : {وَيَتَعَدَّ حُدُودَه } تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات. وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال. هذا منتهى تقرير المعتزلة وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة. ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول : أجمعنا على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على انه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد ، فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو ، فان بتقدير قيام الدلالة على حصول العف امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ، ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو ، ثم نقول : هذا العموم مخصوص بالكافر ، ويدل عليه وجهان : الأول : انا إذا قلنا لكم : ما الدليل على أن كلمة (من) في معرض الشرط تفيد العموم ؟
قلتم : الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه ، فنقول : ان صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } مختص بالكافر : لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال : ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر ، والا في الفسق ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه / لدخل ، فهذا يقتضي أن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ} في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر ، وقوله : الاتيان بجميع المعاصي محال لأن الاتيان باليهودية والنصرانية معا محال ، فنقول : ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوى ما ذكرناه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
الوجه الثاني : في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر : أن قوله : {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه } يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب ، وقوله : {وَيَتَعَدَّ حُدُودَه } لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار ، وهو خلاف الأصل ، فوجب حمله على الكفر ، وقوله : بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث.
قلنا : هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام ، لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها ، وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب ، فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود ، وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله ، وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه ، فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث ، فهذا ما يختص بهذه الآية من المباحث ، وأما بقية الأسئلة فقد تقدم ذكرها في سورة البقرة والله أعلم.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
0
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالاحسان الى النساء ومعاشرتهن بالجميل ، وما يتصل بهذا الباب ، ضم الى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، فان ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن ، وأيضا ففيه فائدة أخرى : وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال / بالاحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن ، فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك ، وأيضا فيه فائدة ثالثة ، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم ، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة ، وأن مدار هذا الشرع الانصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الافراط والتفريط ، فقال : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} وفي الآية مسائل :
(1/1386)
المسألة الأولى : اللاتي : جمع التي ، وللعرب في جمع "التي" لغات : اللاتي واللات واللواتي واللوات. قال أبو بكر الانباري : العرب تقول في الجمع من غير الحيوان : التي ، ومن الحيوان : اللاتي ، كقوله : {أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} وقال في هذه : اللاتي واللائي ، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد ، وأما جمع الحيوان فليس كذلك ، بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات ، فهذا هو الفرق ، ومن العرب من يسوي بين البابين ، فيقول : ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا ، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا ، والأول هو المختار.
المسألة الثانية : قوله : {يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ} أي يفعلنها يقال : أتيت أمرا قبيحا ، أي فعلته قال تعالى : {لَقَدْ جِئْتِ شَيْـاًا فَرِيًّا} (مريم : 27) وقال : {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْـاًا إِدًّا} (مريم : 89) وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة ، وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي ، فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها ، بل المكلف كأنه ذهب اليها من عند نفسه ، واختارها بمجرد طبعه ، فلهذه الفائدة يقال : إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب اليها ، إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة. وفي قراءة ابن مسعود : يأتين بالفاحشة ، وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال : فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة ، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل. وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا ، وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
فان قيل : الكفر أقبح منه ، وقتل النفس أقبح منه ، ولا يسمى ذلك فاحشة.
قلنا : السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الانسان ثلاثة : القوة الناطقة ، والقوة الغضبية والقوة الشهوانية ، ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما ، وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما ، وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها ، وأخس هذه القوى الثلاثة : القوة الشهوانية ، فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد ، فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده.
المسألة الثالثة : في المراد بقوله : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} قولان : الأول : المراد / منه الزنا ، وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا/ فاذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، وهذا قول جمهور المفسرين.
والقول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني : أن المراد بقوله : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ} السحاقات ، وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله : {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} (النساء : 16) أهل اللواط ، وحدهما الأذى بالقول والفعل ، والمراد بالآية المذكورة في سورة النور : الزنا بين الرجل والمرأة ، وحده في البكر الجلد ، وفي المحصن الرجم ، واحتج ابو مسلم عليه بوجوه : الأول : أن قوله : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} مخصوص بالنسوان ، وقوله : {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} مخصوص بالرجال ، لأن قوله : {وَالَّذَانِ} تثنية الذكور.
فان قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : {وَالَّذَانِ} الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
(1/1387)
قلنا : لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل ، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله : {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} سقط هذا الاحتمال. الثاني : هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات ، بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقرراً ، وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ ، فكان هذا القول أولى. والثالث : أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ} في الزنا وقوله : {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} يكون أيضا في الزنا ، فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح ، وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى. الرابع : أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله : {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} بالرجم والجلد والتغريب ، وهذا لا يصح لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن. قال تعالى : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (البقرة : 286) وأما نحن فانا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح ، ثم قال أبو مسلم : ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلّم : "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" واحتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه : الأول : أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا ، والثاني : أنه روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : "قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد" وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة. الثالث : أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط ، ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة.
/ والجواب عن الأول : أن هذا اجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد ، وهو من أكابر المفسرين ، ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز.
والجواب عن الثاني : أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز.
والجواب عن الثالث : أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي ؟
وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالاثبات ، فلهذا لم يرجعوا إليها.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
المسألة الرابعة : زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة ، وقال أبو مسلم : إنها غير منسوخة ، أما المفسرون : فقد بنوا هذا على أصلهم ، وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا ، ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين : فالأول : أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم" ثم ان هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } (النور : 2) وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي : لا ينسخ واحد منهما بالآخر.
والقول الثاني : أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد.
واعلم أن أبا بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال : القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله : "خذوا عني" فائدة فوجب أن يكون قوله : "خذوا عني" متقدما على آية الجلد ، وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد ، فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر.
(1/1388)
واعلم أن كلام الرازي ضعيف من وجهين : الأول : ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال : لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة ، وذلك لأن قوله تعالى : {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} يدل على أن امساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا ، فلما قال صلى الله عليه وسلّم : "خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى" صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } (النور : 2) ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لاحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى ، أولى من الحكم بوقوع النسخ مراراً ، وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فانه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو ؟
فلا بد لها من المبين ، وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص ، فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية / الحبس مخصصا لآية الجلد ، وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه : الأول : آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم ، فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
الوجه الثاني : في دفع كلام الرازي : انك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله : "خذوا عني" فلم قلت انه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه ؟
ولم لا يجوز أن يقال : إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم ذلك ؟
وتقديره أن قوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } مخصوص بالاجماع في حق الثيب المسلم ، وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة ، لما أنه يوهم التلبيس ، واذا كان كذلك فثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلّم إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } وعلى هذا التقدير سقط قولك : ان الحديث كان متقدما على آية الجلد. هذا كله تفريع على قول من يقول : هذه الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة ، فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة ، وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم.
المسألة الخامسة : القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات :
السؤال الأول : ما المراد من قوله : {مِّن نِّسَآاـاِكُمُ} ؟
الجواب فيه وجوه : أحدها : المراد ، من زوجاتكم كقوله : {وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآاـاِهِمْ} (المجادلة : 3) وقوله : {مِّن نِّسَآاـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ} (النساء : 23) وثانيها : من نسائكم ، أي من الحرائر كقوله : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } (البقرة : 282) والغرض بيان أنه لا حد على الاماء. وثالثها : من نسائكم ، أي من المؤمنات ورابعها : من نسائكم ، أي من الثيبات دون الأبكار.
السؤال الثاني : ما معنى قوله : {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ} ؟
الجواب : فخلدوهن محبوسات في بيوتكم ، والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز ، فاذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا ، وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا.
السؤال الثالث : ما معنى {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} والموت والتوفي بمعنى واحد ، فصار في التقدير : أو يميتهن الموت ؟
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
الجواب : يجوز أن يراد. حتى يتوفاهن ملائكة الموت ، كقوله : {الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ} (النحل : 38} {قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} (السجدة : 11) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن.
السؤال الرابع : انكم تفسرون قوله : {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام : "قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم" وهذا بعيد ، لأن هذا السبيل عليها لا لها ، فان الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس.
والجواب : أن النبي عليه الصلاة والسلام فسر السبيل بذلك فقال : "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" ولما فسر الرسول صلى الله عليه وسلّم السبيل بذلك وجب القطع بصحته ، وأيضا : له وجه في اللغة فان المخلص من الشيء هو سبيل له ، سواء كان أخف أو أثقل.
جزء : 9 رقم الصفحة : 525
531
في الآية مسائل :
(1/1389)
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير {وَالَّذَانِ} مشددة النون ، والباقون بالتخفيف ، وأما أبو عمرو فانه وافق ابن كثير في قوله : {الرَّهْبِا فَذَانِكَ} أما وجه التشديد قال ابن مقسم : إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين : أحدهما : الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة ، والآخر : أن "الذي وهذا" مبنيان على حرف واحد وهو الذال ، فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها ، وقال غيره : سبب التشديد فيها ان النون فيها ليست نون التثنية ، فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنية ، وقيل زادوا النون تأكيدا ، كما زادوا اللام ، وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة ، فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم ، فكان استحقاقها العوض أشد.
المسألة الثانية : الذين قالوا : ان الآية الأولى في الزناة قالوا : هذه الآية أيضا في الزناة/ فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه ؟
وذكروا فيه وجوها : الأول : أن المراد من قوله : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} (النساء : 15) المراد منه الزواني ، والمراد من قوله : {وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ} الزناة ، ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الايذاء بالرجل ، والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز ، فاذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية ، وأما الرجل فانه لا يمكن حبسه في البيت ، لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله ، فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت ، وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى ، فاذا تاب ترك إيذاؤه ، ويحتمل أيضاً أن يقال إن الايذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة ، والحبس كان من خواص المرأة ، فاذا تابا أزيل الايذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة ، وهذا أحسن الوجوه المذكورة. الثاني : قال السدي : المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء ، وبالآية الأولى الثيب ، وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين. قالوا : ويدل على هذا التفسير وجوه : الأول : أنه تعالى قال : {وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ} فأضافهن إلى الأزواج. والثاني : أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب. والثالث : أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب. والرابع : قال الحسن : هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير : واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما. ثم نزل قوله : {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ} (النساء : 15) يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن ، وهذا القول عندي في غاية البعد ، لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات. الخامس : ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات ، وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره. والسادس : أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة ، فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الامام والحد ، فان تابا قبل الرفع إلى الامام فاتركوهما.
جزء : 9 رقم الصفحة : 531
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الايذاء من الايذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير ، مثل أن يقال : بئس ما فعلتما ، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه/ وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة ، وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة. واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب ؟
فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال ، والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الايذاء ، وذلك حاصل بمجرد / الايذاء باللسان ، ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير اليه.
ثم قال تعالى : {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَآ } يعني فاتركوا ايذاءهما.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} معنى التواب : أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب اليه من ذنبه ، وأما قوله : {كَانَ تَوَّابَا } فقد تقدم الوجه فيه.
جزء : 9 رقم الصفحة : 531
(1/1390)
5
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الاذى عنهما ، وأخبر على الاطلاق أيضا أنه تواب رحيم ، ذكر وقت التوبة وشرطها ، ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما حقيقة التوبة فقد ذكرناها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُم إِنَّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} البقرة : 54) واحتج القاضي على أنه يجب على الله عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين : الأول : ان كلمة "على" للوجوب فقوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ} يدل على أنه يجب على الله عقلا قبولها. الثاني : لو حملنا قوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } فرق لأن هذا أيضا إخبار عن الوقوع ، أما إذا حملنا ذلك على وجوب القبول وهذا على الوقوع يظهر الفرق بين الآيتين ولا يلزم التكرار.
واعلم أن القول بالوجوب على الله باطل ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن لازمة الوجوب استحقاق الذم عند الترك ، فهذه اللازمة اما أن تكون ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى ، أو غير ممتنعة في حقه ، والأول باطل ، لأن ترك ذلك الواجب لما كان مستلزما لهذا الذم ، وهذا الذم محال الثبوت في حق الله تعالى ، وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حق الله ، وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت ، فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار / وذلك باطل ، وأما ان كان استحقاق الذم غير ممتنع الحصول في حق الله تعالى ، فكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فيلزم جواز أن يكون الاله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذم وذلك محال لا يقوله عاقل ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن القول بالوجوب على الله تعالى باطل.
الحجة الثانية : أن قادرية العبد بالنسبة إلى فعل التوبة وتركها إما أن يكون على السوية ، أولا يكون على السوية ، فان كان على السوية لم يترجح فعل التوبة على تركها إلا لمرجح ، ثم ذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصانع ، وإن حدث عن العبد عاد التقسيم وإن حدث عن الله فحينئذ العبد إنما أقدم على التوبة بمعونة الله وتقويته ، فتكون تلك التوبة إنعاما من الله تعالى على عبده ، وإنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرة أخرى ، فثبت أن صدور التوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول ، وأما إن كانت قادرية العبد لا تصلح للترك والفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم ، وإذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا وفسادا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
الحجة الثالثة : التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل ، والندم والعزم من باب الكراهات والارادات ، والكراهة والارادة لا يحصلان باختيار العبد ، وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل ، وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى ، وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر ، فثبت أن القول بالوجوب باطل.
الحجة الرابعة : أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم ، فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثراً في ذات الله وفي صفاته ، وذلك لا يقوله عاقل.
فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين/ فاذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب ، فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة "على" وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} وبين قوله : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } .
إن قيل : فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع ، فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا.
قلنا : الاخبار عن الوقوع تبع للوقوع ، والوقوع تبع للايقاع ، والتبع لا يغير الأصل ، فكان فاعلا مختارا في ذلك الايقاع. أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى ، وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق.
المسألة الثانية : أنه تعالى شرط قبول هذه التوبة بشرطين : أحدهما قوله : {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ} وفيه سؤالان : أحدهما : أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا ، لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة ، فعلى هذا : الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم الى التوبة ، والسؤال الثاني : أن كلمة "إنما" للحصر ، فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة ، وذلك بالاجماع باطل.
والجواب عن السؤال الأول : أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها.
(1/1391)
والجواب عن السؤال الثاني : أن من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية ، واذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم ، وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول التوبة ، فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
واذا عرفت الجواب عن هذين السؤالين فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة.
الأول : قال المفسرون : كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة ، قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام : {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَـاهِلِينَ} (يوسف : 33( وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لأخوته : {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ} (يوسف : 89) وقال تعالى : {قَالَ يَـانُوحُ إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَا إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍا فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌا إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (هود : 46) وقال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةًا قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ} (البقرة : 67) وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل : ياجاهل لم فعلت كذا وكذا ، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية ، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له ، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا ، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الانسان مع العلم بكونهامعصية أو مع الجهل بذلك.
والوجه الثاني : في تفسير الجهالة : أن يأتي الانسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه ، وقد علمنا أن الانسان اذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات ، فانه يصح أن يقال على سبيل المجاز : انه جاهل بفعله.
والوجه الثالث : أن يكون المراد منه أن يأتي الانسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية/ فانه على هذا التقدير يستحق العقاب ، ولهذا / المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب ، وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية ، إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية ، كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب ، ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي ، فانه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا ، وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز ، وفي هذا الوجه على الحقيقة ، إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه ، أما المتعمد فانه لا يكون داخلا تحت الآية ، وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة ، فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى ، فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة ، وأما الشرط الثاني فهو قوله : {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله ، وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه : أحدها : أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب. وثانيها : للتنبيه على أن مدة عمر الانسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فانها محفوفة بطرفي الأزل والأبد ، فاذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم. وثالثها : أن الانسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به ، وما هذا حاله فانه يوصف بالقرب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
فان قيل : ما معنى "من" في قوله : {مِن قَرِيبٍ} .
الجاب : أنه لابتداء الغاية ، أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين ، فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فانه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم قبول التوبة على الله بقوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} وبقوله : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فانه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة "عسى" في قوله : {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } (التوبة : 102) ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى. وقيل : معناه التبعيض ، أي يتوبون بعض زمان قريب ، كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب ، وإلا فهو تائب من بعيد.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذين الشرطين قال : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } .
(1/1392)
فان قيل : فما فائدة قوله : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } بعد قوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} .
قلنا : فيه وجهان : الأول : أن قوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} إعلام بأنه يجب على الله قبولها ، وجوب الكرم والفضل والاحسان ، لا وجوب الاستحقاق ، وقوله : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } / إخبار بأنه سيفعل ذلك. والثاني : أن قوله : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} يعني إنما الهداية الى التوبة والارشاد اليها والاعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الاصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها. ثم قال : {فَ أولئك يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني أن العبد الذي هذا شأنه اذا أتى بالتوبة قبلها الله منه ، فالمراد بالأول التوفيق على التوبة ، وبالثاني قبول التوبة.
ثم قال : {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه ، حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك ، ثم إنه تاب عنها من قريب فانه يجب في الكرم قبول توبته.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
0
اعلم أنه تعالى لما ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة التي لا تكون مقبولة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فان توبته غير مقبولة ، وهذه المسألة مشتملة على بحثين :
البحث الأول : الذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه : الأول : هذه الآية وهي صريحة في المطلوب ، الثاني : قوله تعالى : {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } (غافر : 85) الثالث : قال في صفة فرعون : {وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى ا إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِه بَنُوا إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس : 90 ـ 91) فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب ، ولو أنه أتى بذلك الايمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا ، الرابع : قوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا فِيمَا تَرَكْتُا كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآاـاِلُهَا } (المؤمنون : 99 ـ 100) الخامس : قوله تعالى : {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـالِحِينَ} (المنافقون : 10 ـ 11) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت. السادس : روى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، أي ما لم تتردد الروح في حلقه ، وعن عطاء : ولو قبل موته بفواق الناقة. وعن الحسن : أن ابليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده ، فقال : وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
واعلم أن قوله : {حَتَّى ا إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} (النساء : 18) أي علامات نزول الموت وقربه ، وهو كقوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (البقرة : 180).
(1/1393)
البحث الثاني : قال المحققون : قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة ، بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار ، وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه : الأول : أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بنى إسرائيل ، ومثل أولاد أيوب عليه السلام ، ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الاحياء ، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف. الثاني : أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج ، ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها ، فاذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد. الثالث : أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول : {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل : 62) فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سبباً لعدم قبول التوبة ، فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق ، لا يجوز أن يكون مانعاً من قبول التوبة/ ونقول : المانع من قبول التوبة أن الانسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال ، ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه ، ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب ، لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار ، لا تكون مقبولة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
واعلم أن ههنا بحثا عميقاً أصوليا ، وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا ، ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال ، وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا ، لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة ، وبتقدير أن يقال : هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الاحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري ، وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله ، فهذا / أيضا استدلالي ، فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ثم هب أن الأمر كذلك ، فلم قلتم بأن العلم بالله إذا كان ضروريا منع من صحة التكليف. وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الاله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم ، وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلم قالوا : بأن هذا يوجب زوال التلكيف وأيضا : فهذا الذي يقوله هؤلاء المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا ، فاذا صار ضروريا سقط التكليف : كلام ضعيف ، لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه ، فهذا يكون ظنا لا علما ، وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما ، امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه ، وعلى هذا التقدير لا يبقى ألبتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية ، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات ، وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر ، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردوداً ، والمردود مقبولا {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23).
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر قسمين ، فقال في القسم الأول : {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ} (النساء : 17) وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب ، وقال في القسم الثاني : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ} فهذاجزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث : وهم الذين لم يجزم الله تعالى بقبول توبتهم ، ولم يجزم برد توبتهم. فلما كان القسم الأول : هم الذين يعملون السوء بجهالة ، والقسم الثاني : هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس ، وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين : هم الذين يعملون السوء على سبيل العمد ، ثم يتوبون ، فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم ، وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم ، بل تركهم في المشيئة ، كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } .
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
(1/1394)
المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بين أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال : {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ} وفيه وجهان : الأول : معناه الذين قرب موتهم ، والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت ، كذلك الايمان لا يقبل عند القرب من الموت. الثاني : المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم.
المسألة الرابعة : تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين : الأول : قالوا إنه تعالى قال : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ حَتَّى ا إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْـاَـانَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار ، ثم إنه تعالى قال في حق الكل : { أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق. الثاني : أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة ، فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الاعلام معنى.
والجواب : أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (البقرة : 81) وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة ، ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات ، ثم نقول الضمير يجب أن يعود الى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات من قوله : { أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} هو قوله : {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } فلم لا يجوز أن يكون قوله : {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} عائدا إلى الكفار فقط ، وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة ، ثم ذكر الكافرين بعد ذلك ، فبين أن ايمانهم عند الموت غير مقبول ، ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق ، فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله : { أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} مختصاً بالكافرين ، بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والاذلال.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
أما الوجه الثاني : مما عولوا عليه : فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة ، واذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة ، وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) على أن هذا تمسك بدليل الخطاب ، والمعتزلة لا يقولون به والله أعلم.
المسألة الخامسة : أنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت ، الكفار ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ، فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر ، ويبطل به قول الخوارج : إن الفاسق كافر ، ولا يمكن أن يقال : المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر ، قال تعالى : {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ} (المنافقون : 1) والله أعلم.
المسألة السادسة : أعتدنا : أي أعددنا وهيأنا ، ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم : {أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ} (البقرة : 24 ، آل عمران : 131)احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده ، وقوله : {أَعْتَدْنَا} إخبار عن الماضي ، فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 5
11
اعلم أنه تعالى بعد وصف التوبة عاد الى أحكام النساء ، واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الايذاء ، ويظلمونهن بضروب من الظلم ، فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات.
فالنوع الأول : قوله تعالى : {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : كان الرجل في الجاهلية اذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال : ورثت امرأته كما ورثت ماله ، فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها ، فان شاء تزوجها بغير صداق ، إلا لصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وبين أن ذلك حرام وأن الرجل لا يرث امرأة الميت منه ، فعلى هذا القول المراد بقوله : {أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ} عين النساء ، وأنهن لا يورثن من الميت.
والقول الثاني : ان الوراثة تعود الى المال ، وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها ، فقال تعالى : لا يحل لكم أن ترثوا أموالهن وهن كارهات.
(1/1395)
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي {كَرْهًا } بضم الكاف ، وفي التوبة {أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (التوبة : 53) وفي الأحقاف {حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } (الأحقاف : 15) كل ذلك بالضم ، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم ، والباقي بالفتح ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك ، قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ، وقال الفراء : الكره بالفتح الا الاكراه ، وبالضم المشقة ، فما أكره / عليه فهو كره بالفتح ، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم.
النوع الثاني : من الأشياء التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} وفيه مسائل :
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الأولى : في محل {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} قولان : الأول : انه نصب بالعطف على حرف "أن" تقديره : ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبدالله ، والثاني : أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره ، ولا ترثوا ولا تعضلوا.
المسألة الثانية : العضل : المنع ، ومنه الداء العضال ، وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله : {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (البقرة : 232).
المسألة الثالثة : المخاطب في قوله : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} من هو ؟
فيه أقوال : الأول : أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها ، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها ، وهذا القول اختيار أكثر المفسرين ، فكأنه تعالى قال : لا يحل لكم التزوج بهن بالاكراه ، وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. الثاني : أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت ، كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله : {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت ، الثالث : أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة/ الرابع : أنه خطاب للأزواج. فانهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا ، الخامس : أنه عام في الكل.
أما قوله تعالى : {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفاحشة المبينة قولان : الأول : أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله ، والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع ، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب : إلا أن يفحش عليكم.
والقول الثاني : أنها الزنا ، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي.
المسألة الثانية : قوله : {إِلا أَن يَأْتِينَ} استثناء من ماذا ؟
فيه وجوه : الأول : انه استثناء من أخذ الأموال ، يعني لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه إلا إذا زنت ، والقائلون بهذا منهم من قال : بقي هذا الحكم وما نسخ ، ومنهم من قال : انه منسوخ بآية الجلد. الثاني : أنه استثناء من الحبس والامساك الذي تقدم ذكره في قوله : {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ} (النساء : 15) وهو قول أبي مسلم/ وزعم أنه غير منسوخ. الثالث : يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت ، فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الثالثة : قرأ نافع وأبو عمرو {مُّبَيِّنَةٍ } بكسر الياء و{مُّبَيِّنَـاتٍا وَاللَّهُ} (النور : 34) بفتح الياء حيث كان ، قال لأن في قوله : {مُبَيِّنَـاتٍ} قصد إظهارها ، وفي قوله : {بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } لم يقصد اظهارها ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما ، والباقون بكسر الياء فيهما ، أما من قرأ بالفتح فله وجهان : الأول : أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة ، إنما الله تعالى هو الذي بينهما. والثاني : ان الفاحشة تتبين ، فان يشهد عليها أربعة صارت مبينة ، وأما الآيات فان الله تعالى بينها ، وأما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان اليها ، كما أن الاصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن اسناد الاضلال اليها كقوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36).
النوع الثالث : من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء قوله تعالى : {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم : وعاشروهن بالمعروف ، قال الزجاج : هو النصفة في المبيت والنفقة ، والاجمال في القول.
(1/1396)
ثم قال تعالى : {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن ، وآثرتم فراقهن {فَعَسَى ا أَن تَكْرَهُوا شَيْـاًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} والضمير في قوله {فِيهِ} إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان : الأول : المعنى انكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة ، والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله ، وأنفق عليها وأحسن اليها على خلاف الطبع ، استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا ، الثاني : أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن ، فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا ، وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيراً منه ، ونظيره قوله : {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِّن سَعَتِه } (النساء : 130) وهذا قول أبي بكر الأصم ، قال القاضي : وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة/ فكيف يريد بذلك المفارقة.
النوع الرابع : من التكاليف المتعلقة بالنساء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة ، بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} الآية والقنطار المال العظيم ، وقد مر تفسيره في قوله تعالى : {وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (آل عمران : 14).
المسألة السادسة : قالوا : الآية تدل على جواز المغالاة في المهر ، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر : ألا لا تغالوا في مهور نسائكم ، فقامت امرأة فقالت : يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية ، فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر ، ورجع عن كراهة المغالاة. وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ} لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) لا يدل على حصول الآلهة ، والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع ، وقال عليه الصلاة والسلام : "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين" ولم يلزم منه جواز القتل ، وقد يقول الرجل : لو كان الاله جسما لكان محدثا ، وهذا حق ، ولا يلزم منه ان قولنا : الاله جسم حق.
المسألة الثالثة : هذه الآية يدخل فيها ما اذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها ، وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله ، فلا فرق فيه بين ما اذا آتاها الصداق حساً ، وبين ما إذا لم يؤتها.
المسألة الرابعة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر ، قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر ، وهذا المنع مطلق ترك العمل / به قبل الخلوة ، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال : ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة : 237) وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر : المراد من المسيس الخلوة ، وقال عبدالله : هو الجماع ، واذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
والجواب : ان هذه الآية المذكورة ههنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك.
المسألة الخامسة : اعلم أن سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج ، وإما أن يكون من قبل الزوجة ، فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا } صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فانه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا/ ثم ان وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع ، كما ان البيع وقت النداء منهي عنه ، ثم انه يفيد الملك ، واذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع ؛ لقوله تعالى : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } (النساء : 19).
(1/1397)
ثم قال تعالى : {أَتَأْخُذُونَه بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الانسان به صاحبه على جهة المكابرة ، وأصله من بهت الرجل إذا تحير ، فالبهتان كذب يحير الانسان لعظمته ، ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه {بُهْتَـانًا} ، ومنه الحديث : "إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته".
المسألة الثانية : في أنه لم انتصب قوله : {بُهْتَـانًا} وجوه : الأول : قال الزجاج : البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال ، والمعنى : أتأخذونه مباهتين وآثمين. الثاني : قال صاحب "الكشاف" : يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً في الحقيقة ، كقولك : قعد عن القتال جبنا. الثالث : انتصب بنزع الخافض ، أي ببهتان. الرابع : فيه اضمار تقديره : تصيبون به بهتانا وإثما.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الثالثة : في تسمية هذا الأخذ "بهتانا" وجوه : الأول : أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول : ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا. الثاني : أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر اليها ، وأن لا يأخذه منها ، فاذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا. الثالث : أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه / بذلك المهر ، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر ، جعل كأن أحدهما هو الآخر. الرابع : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله ، فاذا أخذ منها شيئاً أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة ، فاذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان ، من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك. وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها ، فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر ، فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر ، الخامس : أن عقاب البهتان والاثم المبين كان معلوماً عندهم فقوله : {أَتَأْخُذُونَه بُهْتَـانًا} معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } (النساء : 10).
المسألة الرابعة : قوله : {أَتَأْخُذُونَه } استفهام على معنى الانكار والاعظام ، والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل.
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا : أحدهما : أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة ، فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر. وثانيها : أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم ، إلى أخذ المال وهو ظلم آخر ، فلا شك أن التوسل بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا. وثالثها : قوله تعالى : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال : فضا يفضو وفضاء إذا اتسع ، قال الليث : أفضى فلان إلى فلان ، أي وصل اليه ، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه ، وللمفسرين في الافضاء في هذه الآية قولان : أحدهما : أن الافضاء ههنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي ؛ لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر/ وإن خلا بها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
والقول الثاني : في الافضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها ، قال الكلبي : الافضاء أن يكون معها في لحاف واحد ، جامعها أو لم يجامعها ، وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
واعلم أن القول الأول أولى ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن الليث قال : أفضى فلان إلى فلانة / أي صار في فرجتها وفضائها ، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع ، أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل. الثاني : أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب ، فقال : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع لا مجرد الخلوة ، فوجب حمل الافضاء عليه. الثالث : وهو أن الافضاء اليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي اليه ، لأن كلمة "إلى" لانتهاء الغاية ، ومجرد الخلوة ليس كذلك ، لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر ، فامتنع تفسير قوله : {أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} بمجرد الخلوة.
فان قيل : فاذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الافضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا. وأنتم لا تقولون به.
(1/1398)
قلنا : القائل قائلان ، قائل يقول : المهر لا يتقرر إلا بالجماع ، وآخر : انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة ، فكان هذا القول باطلا بالاجماع ، فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين : إما الجماع ، وإما الخلوة ، والقول بالخلوة باطل لما بيناه ، فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع. الرابع : أن المهر قبل الخلوة ما كان متقرراً ، والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض ، وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الافضاء ، هو الخلوة أو الجماع ، وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان ، وهو عدم التقرير ، فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} كلمة تعجب ، أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا ؟
فانها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطبية نفسه ؟
إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الوجه الرابع : من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله : {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} في تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه : الأول : قال السدي وعكرمة والفراء : هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال ، من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان ، ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالاحسان ، بل سرحها بالاساءة. الثاني : قال ابن عباس ومجاهد : الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق ، وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء ، قال صلى الله عليه وسلّم : "اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم / فروجهن بكلمة الله. الثالث : قوله : {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا} أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا ، وصفه بالغلظة لقوته وعظمته ، وقالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج.
النوع الخامس : من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل.
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه ، وقال الشافعي رحمة الله عليه : لا يحرم احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال : إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه ، والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه ، إنما قلنا : إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه : الأول : قوله تعالى : {فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } (البقرة : 230) أضاف هذا النكاح إلى الزوج ، والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد ، لأن الانسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال ، ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هوالعقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد ، فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق ، الثاني : قوله تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (النساء : 6) والمراد من النكاح ههنا الوطء لا العقد ، لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا. الثالث : قوله تعالى : {الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً} (النور : 3) فلو كان المراد ههنا العقد لزم الكذب. الرابع : قوله عليه الصلاة والسلام : "ناكح اليد ملعون" ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء. فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء ، فلزم أن يكون قوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} أي : ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم ، وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية ، لا يقال : كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد / أيضاً بمعنى العقد قال تعالى : {وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ} (النور : 32) {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النسار : 3) {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ} (الأحزاب : 49) وقوله عليه الصلاة والسلام : "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" فلم كان حمل اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد ؟
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1399)
أجابوا عنه من ثلاثة أوجه : الأول : ما ذهب اليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم ، ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد ، فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء. ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سبباً له أطلق اسم المسبب على السبب ، كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد ، ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا ههنا.
واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا ، فلا جرم كان يقول : المستفاد من هذه الآية حكم الوطء ، أما حكم العقد فانه غير مستفاد من هذه الآية ، بل من طريق آخر ودليل آخر.
الوجه الثاني : أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال : دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا ، فكان قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} نهيا عن الوطء وعن العقد معا ، حملا للفظ على كلا مفهوميه.
الوجه الثالث : في الاستدلال ، وهو قول من يقول : اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا/ قالوا : ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى ، والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز ، وإذا كان كذلك كان قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين ، والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة ، فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال.
والجواب عنه من وجوه : الأول : لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء ، والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه : أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام : "النكاح سنتي" ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له ، وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة ، وثبت أن الوطء ليس سنة ، ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء ، كذلك التمسك بقوله : ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء / وكذلك التمسك بقوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ} (النور : 32) وقوله : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3).
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
لا يقال : لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا ، وذلك لأنا لو قلنا : الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا ، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى.
لأنا نقول : أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد ، فلو قلنا : إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ، ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد ، أما قولنا : ان النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص ، فقولكم يوجب المجاز والتخصيص معا ، وقولنا يوجب المجاز فقط ، فكان قولنا أولى.
الوجه الثاني : من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه الصلاة والسلام : "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح ، وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا ، والسفاح وطء ، فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا.
الوجه الثالث : أنه من حلف في أولاد الزنا : أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث ، ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث ، وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة. الثاني : سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح ، لكن العقد أيضاً مسمى به ، فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا ؟
أما الوجه الأول : وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة ، وبيانه من وجهين : الأول : أو الوطء مسبب العقد ، فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا. فكما يحتمل أن يقال : النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء ، فكذلك يحتمل أن يقال : النكاح اسم للعقد ، ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسبباً له ، فلم كان أحدهما أولى من الآخر ؟
بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى ، لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين ، فانه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة ، كالملك فانه يحصل بالبيع والهبة والوصية والارث ، ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز ، فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء ، أولى من عكسه.
(1/1400)
الوجه الثاني : أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد ، وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا/ فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة / على حكم العقد ، وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع ، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم ، وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية ، بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا ؟
وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة ، فاذا ثبت باجماع المفسرين ، أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء ، وثبت باجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مراداً ، ثبت بالاجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية ، فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع ، فكان فاسداً مردودا قطعا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
أما الوجه الثاني : مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه ، فنقول : هذا أيضا باطل ، وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه.
وأما الوجه الثالث : فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب ، وهو أيضاً ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها ، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الايجاب والقبول أصوات غير باقية ، فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال ، وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال : إن لفظ النكاح حقيقة فيه ، فاذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال : لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد ، ويقال : إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، وحينئذ يرجع الكلام إلى الوجهين الأولين ، فهذا هو الكلام الملخص في هذا.
الوجه الثاني : في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول : سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ، ولكن لم قلتم : إن قوله : {مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} المراد منه المنكوحة ، والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه "ما" حقيقة في غير العقلاء ، فلو كان المراد منه ههنا المنكوحة لزم هذا المجاز ، وإنه خلاف الأصل ، بل أهل العربية اتفقوا على أن "ما" مع بعدها في تقدير المصدر ، فتقدير الآية : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم ، فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود ، وكانت موقتة ، وكانت على سبيل القهر والالجاء ، فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة ، وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية.
الوجه الثالث : في الجواب عن هذا الاستدلال : سلمنا أن المراد من قوله : {مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} المنكوحة ، والتقدير : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله : من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه ، فيقال : ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم ، ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ / الكل عليه تكريراً ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصا ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، فثبت أن قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} لا يفيد العموم ، وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع.
لا يقال : لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه الى الباقي ، فحينئذ يصير مجملا غير مفيد ، والأصل أن لا يكون كذلك.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
لأنا نقول : لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره ، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء ، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى ، وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة ، ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع.
الوجه الرابع : سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع ، لكن لم قلتم : إنه يفيد التحريم ؟
أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم ، بل يفيد التنزيه ، فلم قلتم : إنه ليس الأمر كذلك ؟
أقصى ما في الباب أن يقال : هذا على خلاف الأصل ، ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل ، وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس : أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح ، إلا أن ههنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه :
الحجة الأولى : هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا ، بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه منهي عنه بهذه الآية ، ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر ، فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة ، وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق. فهذا وجه حسن من طريق الالزام عليهم في صحة هذا النكاح.
(1/1401)
الحجة الثانية : عموم قوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة : 221) نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن ، والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية ، فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن ، وإذا انتهى المنع حصل الجواز ، فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الاطلاق ، ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها ، أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص. وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى : {وَأَنكِحُوا الايَـامَى } (النور : 32) وقوله : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3) وأيضا نتمسك بقوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} (النساء : 24) وليس لأحد أن يقول : إن قوله : / {مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} ضمير عائد إلى المذكور السابق ، ومن جملة المذكور السابق قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات اليه هو من قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} (النساء : 23) فكان قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} عائدا اليه ، ولا يدخل فيه قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} وأيضاً نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام : "إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه" وقوله : "زوجوا بناتكم الاكفاء" فكل هذه العمومات يتناول : محل النزاع. واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز ، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد ، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الحجة الثالثة : الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام : "الحرام لا يحرم الحلال" أقصى ما في الباب أن يقال : إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال ، وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن ، فههنا الحرام حرم الحلال ، إلا أنا نقول : دخول التخصيص فيه في بعض الصور ، ولا يمنع من الاستدلال به.
الحجة الرابعة : من جهة القياس أن نقول : المقتضى لجواز النكاح قائم ، والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر ، فوجب القول بالجواز ، أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها ، بجامع ما في النكاح من المصالح ، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها ، سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا.
بيان المقام الأول : من تزوج بامرأة ، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه. ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن ، لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا ، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق ، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهورة ، فلا يحصل ذلك الضرر ، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة ، فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية ، السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين ، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال ، فمعلوم / أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء ، فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية ، وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء ، فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية ، وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين ، وهذا هو من قول الامام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال : وطء حمدت به ، ووطء رجمت به ، فكيف يشتبهان ؟
ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة.
(1/1402)
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء ههنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه ، وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة ، ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الامام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره ، وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه ، ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها ، أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم ، ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها ، ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها ، ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة ، ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول ، منطبقة على قواعد الفقه ، ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في قوله : {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } وجوها : الأول : وهو أحسنها : ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال : هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } قبل نزول آية التحريم فانه معفو عنه ، الثاني : قال صاحب "الكشاف" : هذا كما استثنى "غير أن سيوفهم" من قوله : {كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فانه لا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن ، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته ، كما يقال : حتى يبيض القار ، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. الثالث : أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل ، والمعنى : لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه. والرابع : "إلا" ههنا بمعنى بعد ، كقوله تعالى : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى } (الدخان : 56) أي بعد الموتة الأولى. الخامس : قال بعضهم : معناه إلا ما قد سلف فانكم مقرون عليه ، قالوا : إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن. وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج ، وقيل : إن هذا خطأ ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه/ / وإن كان في الجاهلية. روى البراء : أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث أبا بردة الى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله.
المسألة الرابعة : الضمير في قوله تعالى : {إِنَّه } إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان : الأول : أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي ، أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم ، وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه : مقتى ، وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم ، وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب ، فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك ، لا جرم كان مستقبحا عندهم ، فبين الله تعالى أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا ، الثاني : أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي ، فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الاسلام ومقتا عند الله ، وإنما قال : {كَانَ} لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف.
المسألة الخامسة : أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة : أولها : أنه فاحشة ، وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش ، وثانيها : المقت : وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار ، حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه ، وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. وثالثها : قوله : {وَسَآءَ سَبِيلا} قال الليث : "ساء" فعل لازم وفاعله مضمر و"سبيلا" منصوب تفسيرا لذلك الفاعل ، كما قال : {وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا} (النساء : 69) واعلم أن مراتب القبح ثلاثة : القبح في العقول ، وفي الشرائع وفي العادات ، فقوله : {إِنَّه كَانَ فَـاحِشَةً} إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله : {وَمَقْتًا} إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله : {وَسَآءَ سَبِيلا} إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح والله أعلم.
النوع السادس : من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
0
قوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ وَبَنَـاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّـاتُكُمْ وَخَـالَـاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاخِ وَبَنَاتُ الاخْتِ} .
(1/1403)
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان : سبعة منهن من جهة النسب ، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وسبعة / أخرى لا من جهة النسب : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء ، وأزواج الابناء والآباء ، إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا ، وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة ، والجمع بين الأختين. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال : لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان ، وإنما يمكن إضافته إلى الافعال ، وذلك الفعل غير مذكور في الآية ، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الافعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات ، أولى من بعض ، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه.
والجواب عنه من وجهين : الأول : أن تقديم قوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم} (النساء : 22) يدل على أن المراد من قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} تحريم نكاحهن. الثاني : أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلّم أن المراد منه تحريم نكاحهن ، والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان ، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف ، فاذا قيل : حرمت عليكم الميتة والدم ، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما ، وإذا قيل : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن ، ولما قال عليه الصلاة والسلام : "لا يحل دم امرىء مسلم إلا لاحدى معان ثلاث" فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه. وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية ، فكانت في غاية الركاكة والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى : أحدها : أن قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} مذكور على ما لم يسم فاعله ، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى ، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ، ولا سبيل اليه إلا بالاجماع ، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا ، بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة ، وثانيها : أن قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد ، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد ، والى المؤقت ، كأنه تعالى تارة قال : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط ، وأخرى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا ، واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين ، لم يكن نصا في التأييد ، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية/ بل من دلالة منفصلة ، وثالثها : أن قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين ، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل ، ورابعها : أن قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} إخبار عن ثبوت هذا / التحريم في الماضي ، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل ، وخامسها : أن ظاهر قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع ، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة ، وبنته خاصة ، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر ، وسادسها : أن قوله : {حُرِّمَتْ} يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله : {حُرِّمَتْ} تحريماً لما هو في نفسه حرام ، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال ، فثبت أن المراد من قوله : {حُرِّمَتْ} ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور ، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم ، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب والله أعلم.
(1/1404)
المسألة الثانية : اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الالهية ، بل ان زرداشت رسول المجوس قال بحله ، إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا. أما نكاح الاخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام ، وإنما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة ، ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك ، وقال : انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد ، لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة ، فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط ، وذلك بالاجماع باطل. وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم : أن الوطء إذلال وإهانة ، فان الانسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي ، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره ، وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الانعام ، فوجب صونها عن هذا الاذلال ، والبنت بمنزلة جزء من الانسان وبعض منه ، قال عليه الصلاة والسلام : "فاطمة بضعة مني" فيجب صونها عن هذا الاذلال ، لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال ، وكذا القول في البقية والله أعلم. ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول :
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
النوع الأول : من المحرمات : الأمهات ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر :
أمهتى خندف والياس أبي
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي :
/ كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا المسألة الثانية : كل امرأة رجع نسبك اليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات ، بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك. ثم ههنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية ، فأما في الجدات فاما ان يكون حقيقة أو مجازا ، فان كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات ، فاما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا ، فان كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بازاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات ، وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات/ فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا ؟
فمن جوزه حمل اللفظ ههنا على الكل ، وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه ، ومن قال : لا يجوز ، فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع : أحدهما : أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به ههنا الأم الأصلية ، فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه ، وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص ، بل من الاجماع. والثاني : أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين ، يريد في كل مرة مفهوما آخر ، أما إذا قلنا : لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات ، فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا ، وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية ، وفي الجدات.
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد ، وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة ، فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } (النور : 2) إنما قلنا : إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية : تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول : الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول ، فلو حصل هذا الانعقاد ، فاما أن يقال : إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل ، لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى ، والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب ، وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال. والثاني : باطل ، لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا العقد قطعا ، ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع ، كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا ؟
فثبت أن وجود هذا/ العقد وعدمه بمثابة واحدة ، وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
النوع الثاني : من المحرمات : البنات ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو بدرجات ، باناث أو بذكرو فهي بنتك ، وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا ؟
فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات.
(1/1405)
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله : البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني. وقال أبو حنيفة : تحرم. حجة الشافعي أنها ليست بنتاً له فوجب أن لا تحرم ، إنما قلنا : إنها ليست بنتا لوجوه : الأول : أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة ، وهي كونها مخلوقة من مائه ، أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب ، والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا ، أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد ، فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال : لا يثبت نسبها إلا عن الاستلحاق ، ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق ، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد ، فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه ، فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة ، وأما إذا قلنا : النسب إنما يثبت بحكم الشرع ، فههنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ، ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب ، فثبت أن انتسابها اليها غير ممكن ، لا بناء على الحقيقة ، ولا بناء على حكم الشرع.
الوجه الثاني : التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام : "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فقوله : الولد للفراش يقتضي حصر النسب في الفراش.
الوجه الثالث : لو كانت بنتاً له لأخذت الميراث لقوله تعالى : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } (النساء : 11) ولثبتت له ولاية الاجبار ، لقوله عليه السلام : "زوجوا بناتكم الاكفاء" ولوجب عليه نفقتها وحضانتها ، ولحلت الخلوة بها ، فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية ، وإذا ثبت أنها ليست بنتاً له وجب أن يحل التزوج بها ، لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية ، أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة ، وهذا الحصر ثابت بالاجماع. والبنتية باطلة كما ذكرنا ، وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة ، فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم.
النوع الثالث : من المحرمات : الأخوات : ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا ، / والأخوات من الأب فقط ، والأخوات منالأم فقط.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
النوع الرابع والخامس : العمات والخالات. قال الواحدي رحمه الله : كل ذكر رجع نسبك اليه فأخته عمتك ، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك ، وكل أنثى رجع نسبك اليها بالولادة فأختها خالتك ، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك.
النوع السادس والسابع : بنات الأخ وبنات الأخت : والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في بنات الصلب. فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالانساب والارحام. قال المفسرون : كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم ، فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه ، وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارىء ، فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية.
النوع الثامن والتاسع :
قوله تعالى : {وَأُمَّهَـاتُكُمُ الَّـاتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة ، كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله : {وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) لأجل الحرمة.
المسألة الثانية : أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن ، لأنه صلى الله عليه وسلّم قال : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات ، وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً ، والمرضعة أختا ، فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ، وذلك لانه تعالى حرم بسبب النسب سبعا : اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة ، وهما الأمهات والبنات ، وخمس منها بطريق الأخوة ، وهو الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ، ثم انه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي ، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات ، ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات ، ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ، ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية ، وهذا / بيان لطيف.
(1/1406)
المسألة الثالثة : أم الأنسان من الرضاع هي التي أرضعته ، وكذلك كل امرأة انتسبت الى تلك المرضعة بالأمومة ، إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع ، والحال في الأب كما في الأم ، واذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق ، وأما الأخوات فثلاثة : الأولى أختك لأبيك وأمك ، وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك ، سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك ، والثانية أختك لأبيك دون أمك ، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك/ والثالثة أختك لأمك دون أبيك ، وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر ، واذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الرابعة : قال الشافعي رحمة الله عليه : الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الرضعة الواحدة كافية ، وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة ، واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال : انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع ، فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم ، ثم سأل نفسه فقال : ان قوله تعالى : {وَأُمَّهَـاتُكُمُ الَّـاتِى أَرْضَعْنَكُمْ} بمنزلة قول القائل : وأمهاتكم اللاتي أعطينكم ، وأمهاتكم اللاتي كسونكم ، وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع ، بل لو أنه تعالى قال : اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا.
وأجاب عنه بأن قال : الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة ، فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به ، بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم ، لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة ، قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل الى ابن عمر رضي الله عنهما فقال : قال ابن الزبير : لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين ، فقال ابن عمر : قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير ، قال الله تعالى : {وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} قال : فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل.
واعلم أن هذا الجواب ركيك جداً ، أما قوله : ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول : وهل النزاع الا فيه ، فان عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات ، وعندك إنما جاء من أصل الرضاع ، وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لاثبات هذا الأصل ، فاذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط ، وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع ، فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه / منه ، وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب ، فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه. ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات ، ثم ان أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة ، ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يتسنبطه من الآية ، فأما ما سوى ذلك فانما يليق بكتب الفقه.
النوع العاشر : من المحرمات.
قوله تعالى : {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ} وفيه مسألتان :
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الأولى : يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب.
(1/1407)
المسألة الثانية : مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل ، وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها ، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر ، وأظهر الروايات عن ابن عباس ، وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله : {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ وَرَبَـا اـاِبُكُمُ الَّـاتِى فِى حُجُورِكُم} ثم ذكر شرطا وهو قوله : {مِّن نِّسَآاـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ} فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا ، وحجة القول الأول أن قوله تعالى : {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ} جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط اليه ، فوجب القول ببقائه على عمومه ، وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه : الأول : وهو أن الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فاذا علقناه باحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية/ فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل ، وانه لا يجوز. الثاني : وهو أن عموم هذه الجملة معلوم ، وعود الشرط اليه محتمل ، لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصاً بالجملة الأخيرة فقط ، ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا ، والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك ، وانه لا يجوز. الثالث : وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى ، فاما أن يكون مقصورا عليها ، وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضاً ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا ، وذلك باطل بالاجماع ، والثاني باطل أيضا ، لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا / وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فيكون المراد بكلمة "من" ههنا التمييز ثم يقول : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فيكون المراد بكلمة "من" ههنا ابتداء الغاية كما يقول : بنات الرسول من خديجة ، فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز ، ويمكن أن يجاب عنه فيقال : إن كلمة "من" للاتصال كقوله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) وقال عليه الصلاة والسلام : "ما أنا من دد ولا الدد مني" ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الوجه الرابع : في الدلالة على ما قلناه : ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : اذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، واذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت ، وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث. وكان عبدالله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة اذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة ، فاتفق أن ذهب الى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه ، فلما رجع الى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب الى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال : الرجل اذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فان طلقها قبل الدخول تزوج أمها ، وإن ماتت لم يتزوج أمها ، واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم ، لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ، ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة ، وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة ، لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم.
النوع الحادي عشر : من المحرمات.
قوله تعالى : {وَرَبَـا اـاِبُكُمُ الَّـاتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَآاـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الربائب : جمع ربيبة ، وهي بنت امرأة الرجل من غيره ، ومعناها مربوبة ، لأن / الرجل هو يربها يقال : ربيت فلانا أربه : وربيته أربيه بمعنى واحد ، والحجور جمع حجر ، وفيه لغتان قال ابن السكيت : حجر الانسان وحجره بالفتح والكسر ، والمراد بقوله : {فِى حُجُورِكُم} أي في تربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان اذا كان في تربيته ، والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره ، فصار الحجر عبارة عن التربية ، كما يقال : فلان في حضانة فلان ، وأصله من الحضن الذي هو الابط ، وقال أبو عبيدة : في حجوركم أي في بيوتكم.
(1/1408)
المسألة الثانية : روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال : الربيبة اذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ، ثم فارق الأم بعد الدخول فانه يجوز له أن يتزوج الربيبة ، ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال : {وَرَبَـا اـاِبُكُمُ الَّـاتِى فِى حُجُورِكُم} شرط في كونها ربيبة له/ كونها في حجره ، فاذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط ، فوجب أن لا تثبت الحرمة ، وهذا استدلال حسن. وأما سائر العلماء فانهم قالوا : إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن ، والدليل عليه قوله تعالى : {فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول ، وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول. وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الانسان تكون في تربيته ، فهذا الكلام على الأعم ، لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الثالثة : تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى : {وَرَبَـا اـاِبُكُمُ الَّـاتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَآاـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ} قال : لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا ، فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت ، وهذا الاستدلال في نهاية الضعف ، وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين : الأول : أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك ، فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين : الأول : أن قوله : {مِّن نِّسَآاـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ} يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها ، والثاني : أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها ، وإلى من لا تكون كذلك ، بدليل قوله : {فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ} وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها ، وأما بيان أن المزنية ليست كذلك ، فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها ، أما في الزنا فانه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه ، فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة / في هذه الآية. الثاني : لو أوصى لنساء فلان ، لا تدخل هذه الزانية فيهن ، وكذلك لو حلف على نساء بني فلان ، لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية ، فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم.
النوع الثاني عشر : من المحرمات.
قوله تعالى : {وَحَلَـا اـاِلُ أَبْنَآاـاِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الشافعي رحمه الله : لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إنه يجوز ، احتج الشافعي فقال : جارية الابن حليلة ، وحليلة الابن محرمة على الأب ، أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول : الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ، ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الاباحة ، فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة ، ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له. الثاني : أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول ، فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول ، ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد ، فكانت حليلة له ، أما إذا قلنا : الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضاً : الأول : أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك. الثاني : ان كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والالفة ، فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة ، وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى : {وَحَلَـا اـاِلُ أَبْنَآاـاِكُمُ الَّذِينَ} لا يقال : إن أهل اللغة يقولون : حليلة الرجل زوجته لأنا نقول : إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية/ فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت اليه. فكيف وهو شهادة على النفي ؟
فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة ، ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية ، فقول من يقول : إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1409)
المسألة الثانية : قوله : {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ} احترازاً عن المتبني ، وكان المتبني في صدر الاسلام بمنزلة الابن ، ولا يحرم على الانسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه ، نكح الرسول صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت زينب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلّم ، بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة ، فقال المشركون : إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى : {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } (الأحزاب : 4) وقال : {لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآاـاِهِمْ} (الأحزاب : 37).
/ المسألة الثالثة : ظاهر قوله : {وَحَلَـا اـاِلُ أَبْنَآاـاِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ} لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة ، فلما قال في آخر الآية : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع ، إلا أنه عليه السلام قال : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} يتناول الرضاع وغير الرضاع ، فكان قوله : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" أخص منه ، فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم.
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد ، وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن ، سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن. أما ما روي ان ابن عباس سئل عن قوله : {وَحَلَـا اـاِلُ أَبْنَآاـاِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ} أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها. أو غير مخصوص بذلك ، فقال ابن عباس : أبهموا ما أبهمه الله ، فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة ، بل المراد من هذا الابهام التأييد. ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب : انها من المبهمات ، أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد ، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الخامسة : اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد ، وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد ، وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
النوع الثالث عشر : من المحرمات.
قوله تعالى : {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ} في محل الرفع ، لأن التقدير : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين.
المسألة الثانية : الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه : إما أن ينكحهما معا ، أو يملكهما معاً ، أو ينكح إحداهما ويمكل الاخرى ، أما الجمع بين الأختين في النكاح. فذلك يقع على وجهين : أحدهما : أن يعقد عليهما جميعا ، فالحكم ههنا : إما الجمع ، أو التعيين ، أو التخيير ، أو الابطال ، أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا ، إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه ، لأن / الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة ، ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله ، ثم انه يقع ، وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد ، وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة/ فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله.
فان قالوا : وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه ، ثم انه يقع.
قلنا : بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات ، فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب فثبت أن الجمع باطل. وأما أن التعيين أيضا باطل ، فلأن الترجيح من غير مرجح باطل ، وأما أن التخيير أيضا باطل ، فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين. وقد بينا بطلانه ، فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا.
الصورة الثانية : من صور الجمع : وهي أن يتزوج إحداهما ، ثم يتزوج الأخرى بعدها ، فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية ، لأن الدفع أسهل من الرفع ، وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين ، أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى ، فقد اختلفت الصحابة فيه ، فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر : لا يجوز الجمع بينهما : والباقون جوزوا ذلك. أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا ، فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وعن عثمان أنه قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، والتحليل أولى ، فالآية الموجبة للتحليل هي قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } (النساء : 24) وقوله : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المؤمنون : 6).
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1410)
والجواب عنه من وجهين : الأول : أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا ، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء ، فنقول : لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ * إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المعارج : 29 ـ 30 ، المؤمنون : 5 ـ 6) لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك ، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك ، أولى من أن تكون دالة على الجواز.
الوجه الثاني : إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع ، لكن نقول : الترجيح لجانب الحرمة ، ويدل عليه وجوه : الأول : قوله عليه الصلاة والسلام : "ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال" الثاني : أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" الثالث : أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة ، بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة ، ولأن النكاح مشتمل على / المنافع العظيمة ، فلو كان خاليا عن جهة الاذلال والضرر ، لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع اليهن مندوب لقوله تعالى : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا} (البقرة : 83)ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الاذلال والمضارة ، وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة ، والحل إنما ثبت بالعارض ، وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة ، فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب. أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء ، وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين ، فاذا وطىء إحداهما حرمت الثانية ، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج.
المسألة الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز ، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه : لا يجوز. حجة الشافعي : أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع ، إنما قلنا : إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل ، بدليل أنه لا يجوز له وطؤها ، ولو وطئها يلزمه الحد ، وإنما قلنا : انه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع ، لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} (النساء : 24)ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع ، إلا كونه جمعا بين أختين ، فاذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
فان قيل : النكاح باق من عبض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها.
قلنا : النكاح له حقيقة واحدة ، والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا ، بل لو انقسمت هذه الحقيقة الى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك ، أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا. وأما وجوب العدة ولزوم النفقة ، فاعلم أنه ان حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها ، وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح ؛ لأن استثناء عين التالي لا ينتج ، فبالجملة : فاثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة ، فاما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه ، فذلك مما لا يقبله العقل ، وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول ، أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول ، والله أعلم.
(1/1411)
المسألة الرابعة : قال الشافعي رحمة الله عليه : إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : ان كان قد تزوج بهما دفعة واحدة فرق بينه وبينهما ، وان كان قد تزوج باحداهما أولا وبالأخرى ثانيا ، اختار الأولى وفارق الثانية ، واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله : {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ} قال : هذا خطاب عام / فيتناول المؤمن والكافر ، وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا ، لأن النهي يدل على الفساد. فيقال له : انك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد ، وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين ، فان قال : فهما صحيحان على قولكم : فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول : قولنا : الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا ، فانه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الاسلام ، وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالاجماع ، بل المراد منه أحكام الآخرة ، وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الاسلام كما يعاقب على ترك الاسلام ، إذا عرفت هذا فنقول : أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود ، أو تزوج بها على سبيل القهر ، فبعد الاسلام يقر ذلك النكاح في حقه ، فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر ، وحجة الشافعي : أن فيروز الديلمي أسلم على ثمان نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام : "اختر أربعا وفارق سائرهن" خيره بينهن ، وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } فيه الاشكال المشهور : وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف ، وهذا يقتضي استنثاء الماضي من المستقبل ، وإنه لا يجوز ، وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } والمعنى أن ما مضى بدليل قوله : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} ؟
النوع الرابع : عشر من المحرمات.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
0
قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُم وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} .
فيه مسائل :
المسألة الأولى : الاحصان في اللغة المنع ، وكذلك الحصانة ، يقال : مدينة حصينة ودرع حصينة ، أي مانعة صاحبها من الجراحة. قال تعالى : {وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنا بَأْسِكُمْ } (الأنبياء : 80) معناه لتمنعكم وتحرزكم ، والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء ، والحصان بالكسر الفرس / الفحل ، لمنعه صاحبه من الهلاك ، والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد ، قال تعالى : {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (التحريم : 12).
واعلم أن لفظ الاحصان جاء في القرآن على وجوه : أحدها : الحرية كما في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ} (النور : 4) يعني الحرائر ، ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين ، وكذلك قوله : {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يعني الحرائر ، وكذلك قوله : {مُحْصَنَـاتٍ غَيْرَ مُسَـافِحَـاتٍ} (النساء : 25) وقوله : {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } وقوله : {وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (الأنبياء : 91) أي أعفته ، وثالثها الاسلام : من ذلك قوله : {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره : اذا أسلمن ، ورابعها : كون المرأة ذات زوج يقال : امرأة محصنة اذا كانت ذات زوج ، وقوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } يعني ذوات الأزواج ، والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات ، فلا بد وأن يكون الاحصان سببا للحرمة ، ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك ، فوجب أن يكون المراد منه المزوجة ، لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللغوي ، وهو المنع ، وذلك لأنا ذكرنا أن الاحصان عبارة عن المنع ، فالحرية سبب لتحصين الانسان من نفاذ حكم الغير فيه ، والعفة أيضا مانعة للانسان عن الشروع فيما لا ينبغي ، وكذلك الاسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة ، والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور ، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "من تزوج فقد حصن ثلثي دينه" فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم.
(1/1412)
المسألة الثانية : قال الواحدي : اختلف القراء في {الْمُحْصَنَـاتِ} فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فانهم أجمعوا على الفتح فيها ، فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني : أسلمن واخترن العفاف ، وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور. ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن ، يعني أحصنهن أزواجهن والله أعلم.
المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمة الله عليه : الثيب الذمي إذا زنى يرجم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يرجم. حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الاحصان وذلك علة لاباحة الدم/ فوجب أن يثبت إباحة الدم ، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم. أما قولنا : حصل الزنا مع الاحصان ، فهذا يعتمد اثبات قيدين : أحدهما : حصول الزنا ولا شك فيه. الثاني : / حصول الاحصان وهو حاصل ، لأن قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ} يدل على أن المراد من المحصنة : المزوجة ، وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة ، فثبت أنه حصل الزنا مع الاحصان ، وإنما قلنا : ان الزنا مع الاحصان علة لاباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام : "لا يحل دم امرىء مسلم الا لاحدى معان ثلاثة" ومنها قوله : "وزنا بعد إحصان" جعل الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم في حق المسلم ، والمسلم محل لهذا الحكم ، أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الاحصان ، بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه. أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم ، أن الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم ، إلا أن كونه مسلما محل الحكم ، وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل ، والا لبطل القياس بالكلية. وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل ، وهي ماهية الزنا بعد الاحصان ، وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي ، وجب أن يحصل في حقه اباحة الدم ، فثبت أنه مباح الدم. ثم ههنا طريقان : ان شئنا اكتفينا بهذا القدر ، فانا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به ، فصار محجوجا ، أو نقول : لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
فان قيل : ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن ، فههنا ما يدل على أنه غير محصن ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : "من أشرك بالله فليس بمحصن".
قلنا : ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن ، وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن ، فنقول : إنه محصن بمعنى أنه ذات زوج ، وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفة ، وقوله : من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه ، لا على أنه لا يحد على الزنا ، لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية ، والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة ، وقولنا : انه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة ، أما قولنا : لا يحد على الزنا ، لا يصلح أن يكون عقوبة له ، فكان المراد من قوله : من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم.
المسألة الرابعة : في قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ} قولان : أحدهما : المراد منها ذوات الأزواج ، وعلى هذا التقدير ففي قوله : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } وجهان : الأول : أن المرأة اذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها ، إلا اذا صارت ملكا لانسان فانها تحل للمالك ، الثاني : أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح ، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا اذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البنيوية بينهن وبين أزواجهن ، والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد ، أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة ، وعبر عن / ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك.
(1/1413)
القول الثاني : أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر ، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم} (النساء : 25) ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ} كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك ، ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر ، فكذا ههنا. وعلى هذا التقدير ففي قوله : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } وجهان : الأول : المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع ، فصار التقدير : حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع/ الثاني : الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن ، وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة ، فهذا الأول في تفسير قوله : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } هو المختار ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ * إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المعارج : 29 ـ 30 ، المؤمنون : 5 ـ 6) جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها ، فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك ، لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق الى الصدق والصواب والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الخامسة : اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الأخر وأخرج إلى دار الاسلام وقعت الفرقة. أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه : ههنا تزول الزوجية ، ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها ، أو بالحيض. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه : لا تزول. حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ} يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل ، قال أبو بكر الرازي : لو حصلت الفرقة بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، فيقال له : كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي ، وأيضا : فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها ، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى ، فظهر الفرق.
المسألة السادسة : مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق ، وعليه إجماع الفقهاء اليوم ، وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس : إنها إذا بيعت طلقت. حجة الجمهور : أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي صلى الله عليه وسلّم وكانت مزوجة ، ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة. ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : "بيع الأمة طلاقها" وحجة أبي كعب / وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم. ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله : {كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وفيه وجهان : الأول : أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فان قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} يدل على معنى الكتبة فالتقدير : كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله ، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِا صُنْعَ اللَّهِ} (النمل : 88) الثاني : قال الزجاج : ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر ، ويكون "عليكم" مفسرا له فيكون المعنى : الزموا كتاب الله.
ثم قال : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} وفيه مسائل :
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وَأُحِلَّ لَكُم} على ما لم يسم فاعله عطفا على قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على {كِتَـابَ اللَّهِ} يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها.
المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر قوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة. إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها.
(1/1414)
الصنف الأول : لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها ، قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وهذا خبر مشهور مستفيض/ وربما قيل : إنه بلغ مبلغ التواتر ، وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، واحتجوا عليه بوجوه : الأول : أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة ، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة ، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن ، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز. الثاني : من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ ، وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال : بم تحكم ؟
قال بكتاب الله ، قال : فان لم تجد قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة ، وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب ، وأيضا فانه قال : فان لم تجد قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة "إن" وهي للاشتراط ، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط. الثالث : أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه" فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد / إلا عند موافقة الكتاب ، فاذا كان خبر العمة والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده. الرابع : أن قوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} مع قوله عليه السلام : لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه : إما أن يقال : الآية نزلت بعد الخبر ، فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص ، وإما أن يقال : الخبر ورد بعد الكتاب ، فهذا يقتضي نسخ القرآن بخر الواحد وإنه لا يجوز ، وإما أن يقال : وردا معا ، وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة ، ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر ، ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة ، فكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلّم أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر ، وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر ، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية ، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الوجه الخامس : أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا ، إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر. وبيانه من وجهين : الأول : أن قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} نص صريح في التحليل كما أن قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} نص صريح في التحريم. وأما قوله : "لا تنكح المرأة على عمتها" فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار ، وحمل الاخبار على النهي مجاز ، ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الاباحة. الثاني : أن قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات ، وقوله : {تَنكِحَ} ليس صريحا في العموم ، بل احتماله للمعهود السابق أظهر.
الوجه السادس : أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا ، ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال : {كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُم وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا ، وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين ، فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب.
(1/1415)
والجواب على وجوه : الأول : ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم ، وهو أن قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأييد ، وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب ، والدليل عليه أن قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأييد أم لا ، والدليل على أنه لا يفيد التأييد : أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد ، فيقال تارة : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} أبداً ، وأخرى {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} إلى الوقت الفلاني ، ولو كان قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا ، ولأن قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت ، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات ، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت ، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له ، فهذا وجه حسن معقول مقرر. وبهذا الطريق نقول أيضا : إن قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} (النساء : 23) ليس نصا في تأبيد هذا التحريم ، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلّم ، لا من هذا اللفظ ، فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الوجه الثاني : انا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين ، وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة ، والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة ، وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة ، وبين الحالتين منافرة عظيمة ، فثبت أن كونها أختاً لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح ، وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له ، يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله : {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ} (النساء : 23) يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح ، وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها ، فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة ، بل ههنا أولى ، وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت ، وهما يشبهان الولد للعمة والخالة ، واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة ، فكان قوله : {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ} مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى. الثاني : أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال : {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ} (النساء : 23) ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة ، أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام : {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ} (البقرة : 133) فأطلق لفظ الأب على اسمعيل مع أنه كان عما ، وإذا كان العم أباً لزم أن تكون العمة أماً ، وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (يوسف : 100) والمراد أبوه وخالته ، فان أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت ، فثبت بما/ ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة ، فكان قوله : {وَأُمَّهَـاتُ نِسَآاـاِكُمْ} متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه.
وإذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية/ أو بدلالة خفية ، وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الوجه الثالث : في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول : قوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} عام ، وقوله : "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" خاص ، والخاص مقدم على العام ، ثم ههنا طريقان : تارة نقول : هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر ، وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز ، وعندي هذا الوجه كالمكابرة ، لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد. وتارة نقول : تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز ، وتقريره مذكور في الأصول ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب ، والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول.
(1/1416)
الصنف الثالث : من التخصيصات الداخلة في هذا العموم : أن المطلقة ثلاثا لا تحل ، إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } (البقرة : 230).
الصنف الرابع : تحريم نكاح المعتدة ، ودليله قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ } (البقرة : 228).
الصنف الخامس : من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ، وهذا بالاتفاق. وعند الشافعي : القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ودليل هذا التخصيص قوله : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم} (النساء : 25) وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب.
الصنف السادس : يحرم عليه التزوج بالخامسة ، ودليله قوله تعالى : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } .
الصنف السابع : الملاعنة : ودليله قوله عليه الصلاة والسلام : "المتلاعنان لا يجتمعان أبداً".
قوله تعالى : {أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } .
فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قوله : {أَن تَبْتَغُوا } في محله قولان : الأول : أنه رفع على البدل من "ما" والتقدير : وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا ، على قراءة من قرأ (وأحل) بضم الألف. ومن قرأ بالفتح كان محل "أن تبتغوا" نصبا. الثاني : أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل : لأن تبتغوا ، والمعنى : وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله : {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين ، وقوله : {مُّحْصِنِينَ} أي متعففين عن الزنا ، وقوله : {غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } أي غير زانين ، وهو تكرير للتأكيد. قال الليث : السفاح والمسافحة الفجور ، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال : دموع سوافح ومسفوحة ، قال تعالى : {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} (الانعام : 145) وفلان سفاح للدماء أي سفاك ، وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
فان قيل : أين مفعول تبتغوا ؟
قلنا : التقدير : وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوهن ، أي تبتغوا ما وراء ذلكم ، فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم.
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، وقال الشافعي رضي الله عنه : يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه. احتج أبو حنيفة بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد ، وهو الابتغاء بأموالهم ، والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا ، فوجب أن لا يصح جعلها مهرا.
فان قيل : ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال ، مع أنكم تجوزون كونها مهرا.
قلنا : ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية/ إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الاجماع على جوازه ، فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف ، لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز ، وليس فيها دلالة على أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز ، إلا على سبيل المفهوم ، وأنتم لا تقولون به. ثم نقول : الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه :
الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية ، وذلك لأن قوله : {بِأَمْوَالِكُم} مقابلة الجمع بالجمع ، فيقتضي توزع الفرد على الفرد ، فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا ، والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء ، فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير.
/ الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة : 237) دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور ، وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم ، وأنتم لا تقولون به.
الحجة الثالثة : الأحاديث : منها ما روي أن امرأة جيء بها الى النبي صلى الله عليه وسلّم وقد تزوج بها رجل على نعلين ، فقال عليه الصلاة والسلام : "رضيت من نفسك بنعلين" فقالت : نعم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلّم ، والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم ، فان مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر ، ونعل هذا الانسان يكون قليل القيمة جدا. ومنها ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل" ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها : "التمس ولو خاتما من حديد" وذلك لا يساوي عشرة دراهم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1417)
المسألة الثالثة : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها ، ثم قال : اذا تزوج امرأة على خدمته سنة ، فان كان حراً لها مهر مثلها ، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي رحمة الله عليه : يجوز جعل ذلك مهرا ، احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه : الأول : هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال ، والمال اسم للأعيان لا للمنافع ، الثاني : قال تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} (النساء : 4) وذلك صفة الأعيان.
أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز ، وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا ، وعن الثاني : أن لفظ الايتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة ، وعن الثالث : أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب ، ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه :
الحجة الأولى : قوله تعالى في قصة شعيب : {إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَـاتَيْنِ عَلَى ا أَن تَأْجُرَنِى ثَمَـانِىَ حِجَجٍ } (القصص : 27) جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء الى أن يطرأ الناسخ.
الحجة الثانية : ان التي وهبت نفسها ، لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا ، قال عليه الصلاة والسلام : "هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا ، قال زوجتكها بما معك من / القرآن" والله أعلم.
المسألة الرابعة : قال أبو بكر الرازي : دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها ، لأن الآية تقتضي كون البضع مالا ، وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها/ فذاك من خواص الرسول عليه السلام.
المسألة الخامسة : قوله : {مُّحْصِنِينَ} فيه وجهان : أحدهما : أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح ، والثاني : أن يكون الاحصان شرطا في الاحلال المذكور في قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} والأول أولى ، لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى ، وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة ، لأن الاحصان المذكور فيه غير مبين ، والمعلق على المجمل يكون مجملا ، وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
قوله تعالى : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .
فيه مسائل :
المسألة الأولى : الاستمتاع في اللغة الانتفاع ، وكل ما انتفع به فهو متاع ، يقال : استمتع الرجل بولده ، ويقال فيمن مات في زمان شبابه : لم يتمتع بشبابه. قال تعالى : {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} (الأنعام : 128) وقال : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} (الأحقاف : 20) يعني تعجلتم الانتفاع بها ، وقال : {فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَـاقِكُمْ} (التوبة : 69) يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا. وفي قوله : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ} وجهان : الأول : فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن ، فآتوهن أجورهن عليه ، ثم أسقط الراجع إلى "ما" لعدم الالتباس كقوله : {إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} (الشورى : 43) فأسقط منه. والثاني : أن يكون "ما" في قوله : {مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} بمعنى النساء و"من" في قوله : {مِنْهُنَّ} للتبعيض ، والضمير في قوله : {بِه } راجع إلى لفظ {مَآ} لأنه واحد في اللفظ ، وفي قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ} إلى معنى "ما" لأنه جمع في المعنى ، وقوله : {أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن ، قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا} (النساء : 25) إلى قوله : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء : 25) وهي المهور ، وكذا قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ} ههنا ، وقال تعالى في آية أخرى : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } (الممتحنة : 10) وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل المنافع ، وليس ببدل من الأعيان ، كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا والله أعلم.
/ المسألة الثانية : قال الشافعي : الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة تقرره. واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن ، ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن ، فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع ، وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع ، والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع ، فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1418)
المسألة الثالثة : في هذه الآية قولان : أحدهما : وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله : {أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح ، وقوله : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فان استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام ، وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر.
والقول الثاني : أن المراد بهذه الآية حكم المتعة ، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها ، واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الاسلام/ روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة ، فشكا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم طول العزوبة فقال : استمتعوا من هذه النساء ، واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا ؟
فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة ، وقال السواد منهم : إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين ، أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات : احداها : القول بالاباحة المطلقة ، قال عمارة : سألت ابن عباس عن المتعة : أسفاح هي أم نكاح ؟
قال : لا سفاح ولا نكاح ، قلت : فما هي ؟
قال : هي متعة كما قال تعالى ، قلت : هل لها عدة ؟
قال نعم عدتها حيضة ، قلت : هل يتوارثان ؟
قالا لا.
والرواية الثانية عنه : أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس : قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق ، لكني قلت : إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
والرواية الثالثة : أنه أقر بأنها صارت منسوخة. روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ} قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1) وروي أيضا أنه قال عند موته : اللهم إني أتوب اليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فانه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها/ وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتمتعنا بها ، ومات ولم ينهنا عنه ، ثم قال رجل برأيه ما شاء. وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة ، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي ، وروى محمد بن على المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة ، فقال أمير المؤمنين : انه صلى الله عليه وسلّم نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية ، فهذا ما يتعلق بالروايات. واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه : الأول : أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى : {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ * إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المعارج : 29 ـ 30 ، المؤمنون : 5 ـ 6) وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة ، وليست أيضا زوجة ، ويدل عليه وجوه : أحدها : لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى : {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (النساء : 12) وبالاتفاق لا توارث بينهما ، وثانيها : ولثبت النسب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "الولد للفراش" وبالاتفاق لا يثبت ، وثالثها : ولوجبت العدة عليها ، لقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة : 234) واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر.
الحجة الثانية : ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما ، ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد ، فالحال ههنا لا يخلو إما أن يقال : انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا ، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة ، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها. فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك ، والأول هو المطلوب ، والثاني يوجب تكفير عمر ، وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلّم حكم باباحة المتعة ، ثم قال : إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله ، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا ، كان كافرا أيضا. وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران : 110).
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1419)
والقسم الثالث : وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا ، فهذا أيضا باطل ، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح ، واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل ، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا ، بل يجب أن يشتهر العلم به ، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح ، وأن إباحته غير منسوخة ، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام.
/ فان قيل : ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال : لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته ، ولا شك أن الرجم غير جائز ، مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكل ذلك ، فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الانكار على الباطل.
قلنا : لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة ، ومثل هذه السياسات جائزة للامام عند المصلحة ، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال : "من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله" ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز ، لكنه قال النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك للمبالغة في الزجر ، فكذا ههنا والله أعلم.
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة : ما روى مالك عن الزهري عن عبدالله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي : أن الرسول صلى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الانسية. وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال : غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول : "يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "متعة النساء حرام" وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط ، وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا ، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ، ومجرد النكاح ليس كذلك ، أما القائلون باباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه.
الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُم وَأُحِلَّ لَكُم} وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان :
الطريق الأول : أن قول : نكاح المتعة داخل في هذه الآية ، وذلك لأن قوله : {أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد ، ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت ، وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} يقتضي حل القسمين ، وذلك يقتضي حل المتعة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الطريق الثاني : أن نقول : هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة ، وبيانه من وجوه : الأول : ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةًا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِه مِنا بَعْدِ الْفَرِيضَةِا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس ، والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة ، فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة ، وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة / ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا ، وكذا ههنا ، واذا ثبت بالاجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب. الثاني : أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال ، ثم انه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن ، وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء ، ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة ، فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد ، ومع الولي والشهود ، ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل ، فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة. الثالث : أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع ، والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع ، فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع ألبتة ، بل على النكاح ، ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر ، فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا ، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ. ومجرد النكاح ليس كذلك. الرابع : أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة ، لأنه تعالى قال في أول هذه السورة : {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } (النساء : 3) ثم قال : {وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ نِحْلَةً } (النساء : 4) أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا ، فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم.
(1/1420)
الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة : أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الاسلام ، ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه ، إنما الخلاف في طريان الناسخ ، فنقول : لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر ، أو بالآحاد ، فان كان معلوما بالتواتر ، كان علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلّم ، وذلك يوجب تكفيرهم ، وهو باطل قطعا ، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل ، لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالاجماع والتواتر ، كان ثبوته معلوما قطعا ، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعاً للمقطوع وإنه باطل. قالوا : ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر ، وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح ، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر ، وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر ، لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ ، وقول من يقول : انه حصل التحليل مراراً والنسخ مراراً ضعيف ، لم يقل به أحد من المعتبرين ، إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
الحجة الثالثة : ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر : متعتان كانتا مشروعتين في عهد / رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأنا أنهي عنهما : متعة الحج ، ومتعة النكاح ، وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وقوله : وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلّم ما نسخه ، وإنما عمر هو الذي نسخه. وإذا ثبت هذا فنقول : هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وأنه عليه السلام ما نسخه ، وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر ، وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم وما نسخه الرسول ، يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر ، وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال : ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى ، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمتعة وما نهانا عنها ، ثم قال رجل برأيه ما شاء ، يريد أن عمر نهى عنها/ فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة.
والجواب عن الوجه الأول أن نقول : هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول : أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ} ثم قال في آخر الآية : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم ، لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح ، فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح. الثاني : أنه قال : {مُّحْصِنِينَ} والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح. والثالث : قوله : {غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء ، ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح ، والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا ، هذا ما قاله أبو بكر الرازي. أما الذي ذكره في الوجه الأول : فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الانسان وطؤهن ، ثم قال : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف ، فأي فساد في هذا الكلام ؟
وأما قوله ثانياً : الاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا ، وأما قوله ثالثاً : الزنا إنما سمي سفاحا ، لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء ، والمتعة ليست كذلك ، فان المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله ، فان قلتم : المتعة محرمة ، فنقول : هذا أول البحث ، فلم قلتم : إن الأمر كذلك ، فظهر أن الكلام رخو ، والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول : إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة ، إنما الذي نقوله : إنها صارت منسوخة ، وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا ، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس ، فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل ألا على أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع فيه ، إنما الذي نقوله : إن النسخ طرأ عليه ، وما ذكرتم من الدلائل / لا يدفع قولنا ، وقولهم : الناسخ إما أن يكون متواتراً أو آحادا.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
قلنا : لعل بعضهم سمعه ثم نسيه ، ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له.
قوله : إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه.
(1/1421)
قلنا : قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلى الله عليه وسلّم وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ، ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه ، وكل ذلك باطل ، فلم يبق إلا أن يقال : كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه صلى الله عليه وسلّم نسخها ، وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ} والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة ، وذكر صاحب "الكشاف" في قوله : {فَرِيضَةً} ثلاثة أوجه : أحدها : أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة. وثانيها : أنها وضعت موضع إيتاء ، لأن الايتاء مفروض. وثالثها : أنه مصدر مؤكد ، أي فرض ذلك فريضة.
ثم قال تعالى : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِه مِنا بَعْدِ الْفَرِيضَةِا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا : المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين ، فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية ، فعلى هذا : المراد من التراضي الحط من المهر أو الابراء عنه ، وهو كقوله تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} (النساء : 4) وقوله : {إِلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } (البقرة : 237) وقال الزجاج معناه : لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها ، أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول. وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا : المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل ألبتة ، فان قال لها : زيديني في الأيام وأزيدك / في الأجرة كانت المرأة بالخيار ، ان شاءت فعلت ، وان شاءت لم تفعل ، فهذا هو المراد من قوله : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِه مِنا بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : إلحاق الزيادة في الصداق جائز ، وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها ، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة ، وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي رحمة الله عليه : الزيادة بمنزلة الهبة ، فان أقبضها ملكته بالقبض ، وان لم يقبضها بطلت. احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِه مِنا بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان ، فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق ، قال : بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان ؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما ، والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج ، والزيادة لا تصح إلا بقبوله ، فاذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة.
والجواب : لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج ؟
وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول ، فان شاءت المرأة أبرأته عن النصف ، وان شاء الزوج سلم اليها كل المهر ، وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه اليها ، وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة. والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول ، أو بعد زوال العقد ، والأول باطل ، لأن العقد لما انعقد على القدر الأول ، فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني ، لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته ، وذلك يقتضى تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول ، فثبت فساد ما قالوه والله أعلم. ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال ، بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا ، وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة ، وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم.
النوع السابع : من التكاليف المذكورة في هذه السورة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1422)
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : إلحاق الزيادة في الصداق جائز ، وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها ، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة ، وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي رحمة الله عليه : الزيادة بمنزلة الهبة ، فان أقبضها ملكته بالقبض ، وان لم يقبضها بطلت. احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِه مِنا بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان ، فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق ، قال : بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان ؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما ، والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج ، والزيادة لا تصح إلا بقبوله ، فاذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة.
والجواب : لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج ؟
وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول ، فان شاءت المرأة أبرأته عن النصف ، وان شاء الزوج سلم اليها كل المهر ، وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه اليها ، وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة. والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول ، أو بعد زوال العقد ، والأول باطل ، لأن العقد لما انعقد على القدر الأول ، فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني ، لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته ، وذلك يقتضى تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول ، فثبت فساد ما قالوه والله أعلم. ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال ، بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا ، وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة ، وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم.
النوع السابع : من التكاليف المذكورة في هذه السورة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
0
/ اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل : بين فيمن يحل أنه متى يحل ، وعلى أي وجه يحل فقال : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الكسائي {الْمُحْصَنَـاتِ} بكسر الصاد ، وكذلك {مُحْصَنَـاتٍ غَيْرَ مُسَـافِحَـاتٍ} وكذلك {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ} كلها بكسر الصاد ، والباقون بالفتح ، فالفتح معناه ذوات الأزواج ، والكسر معناه العفائف والحرائر والله أعلم.
المسألة الثانية : الطول : الفضل ، ومنه التطول وهو التفضل ، وقال تعالى : {ذِى الطَّوْلِ } (غافر : 3) ويقال : تطاول لهذا الشيء أي تناوله ، كما يقال : يدفلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر ؛ لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة ، كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان ، وسمي الغنى أيضاً طولا ، لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر ، كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر.
إذا عرفت هذا فنقول : الطول القدرة ، وانتصابه على أنه مفعول "يستطع" و{أَن يَنكِحَ} في موضع النصب على أنه مفعول القدرة.
فان قيل : الاستطاعة هي القدرة ، والطول أيضا هو القدرة ، فيصير تقدير الآية : ومن لم يقدر / منكم على القدرة على نكاح المحصنات ، فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة ؟
قلنا : الأمر كما ذكرت ، والأولى أن يقال : المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات ، وعلى هذا الوجه يزول الاشكال ، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما ما قاله المفسرون فوجوه : الأول : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة. الثاني : أن يفسر النكاح بالوطء ، والمعنى : ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة ، وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فانه يجوز له التزوج بالأمة. وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة ، فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة. وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة ، فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة ، سواء قدر على التزوج بالحرة أو لم يقدر. والثالث : الاكتفاء بالحرة ، فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن ، كل هذه الوجوه إنما حصلت ، لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1423)
المسألة الثالثة : المراد بالمحصنات في قوله : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ} هو الحرائر ، ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الاماء ، فلا بد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء ، والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد : أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الأماء ، فان الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة ، والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات ، واما على قراءة من قرأ بكسر الصاد ، فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن.
المسألة الرابعة : مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن الله تعالى شرط في نكاح الاماء شرائط ثلاثة ، اثنان منها في الناكح ، والثالث في المنكوحة ، أما اللذان في الناكح. فأحدهما : أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق ، وهو معنى قوله : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ} فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة.
فان قيل : الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة ، فمن أين هذا التفاوت ؟
قلنا : كانت العادة في الاماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات ، وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت.
وأما الشرط الثاني : فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ } (النساء : 25) أي بلغ الشدة في العزوبة.
وأما الشرط الثالث : المعتبر في المنكوحة ، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة ، فان الأمة/ إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين : الرق والكفر ، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق ، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر ، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر ، فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول : اذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة ، أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك ، سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر ، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين : الأول : أنه تعالى ذكر عدم القدرة على طول الحرة ، ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة ، وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الانسان قد يحتاج الى الجماع ، فاذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها ، وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة ، اذا ثبت هذا فنقول : الحكم اذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه ، فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف ، اذا ثبت هذا فنقول : لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم ألبتة ، لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم ، فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة. الثاني : أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم ، وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، والدليل عليه أن القائل اذا قال : الميت اليهودي لا يبصر شيئا ، فان كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول : اذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا ، فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة ، علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد. قال أبو بكر الرازي : تخصيص هذه الحالة بذكر الاباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه ، كقوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ } (الإسراء : 31) ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة ، وقوله : {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعَـافًا مُّضَـاعَفَةً } (آل عمران : 130) لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة ، وقوله : {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعَـافًا مُّضَـاعَفَةً } لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة ، فيقال له : ظاهر اللفظ يقتضي ذلك ، إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل ، كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب ، وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل ، والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه ، حيث قلنا : لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء ، والتقدير : ومن لم يستطع منكم وطء الحرة ، وذلك عند من لا يكون تحته حرة/ فانه يجوز له نكاح الأمة ، وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1424)
وجوابه : أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى ، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد ، لا في عدم القدرة على الوطء. واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات ، كقوله تعالى : / {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3) وقوله : {وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ} وقوله : {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ} وقوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} (المائدة : 5) وهو متناول للاماء الكتابيات. والمراد من هذا الاحصان العفة.
والجواب : ان آيتنا خاصة ، والخاص مقدم على العام ، ولأنه دخلها التخصيص فيا إذا كان تحته حرة ، وإنما خصت صونا للولد ، عن الارقاق ، وهو قائم في محل النزاع.
المسألة الخامسة : ظاهر قوله : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ} يقتضي كون الايمان معتبرا في الحرة ، فعلى هذا : لو قدر على حرة كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فانه يجوز له أن يتزوج الأمة ، وأكثر العلماء أن ذكر الايمان في الحرائر ندب واستحباب ، لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها.
المسألة السادسة : من الناس من قال : انه لا يجوز التزوج بالكتابيات ألبتة ، واحتجوا بهذه الآيات ، فقالوا : انه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة ، ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا ، لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة ، وذلك ينفي دلالة الآية. ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة : 221) وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة.
المسألة السابعة : الآية دالة على التحذير من نكاح الاماء ، وأنه لا يجوز الاقدام عليه إلا عند الضرورة ، والسبب فيه وجوه : الأول : أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية ، فاذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا ، وذلك يوجب النقص في حق ذلك الانسان وفي حق ولده. والثاني : أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة ، وربما تعودت الفجور ، وكل ذلك ضرر على الأزواج. الثالث : أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج ، فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة ، فربما احتاج الزوج اليها جدا ولا يجد اليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها. الرابع : أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر ، فعلى قول من يقول : بيع الأمة طلاقها ، تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى ، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها ، وذلك من أعظم المضار. الخامس : أن مهرها ملك لمولاها ، فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها ، ولا على إبرائه عنه ، بخلاف الحرة ، فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
قوله تعالى : {فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قوله : {فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم} أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم. قال ابن عباس : يريد جارية أختك ، فان الانسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه.
المسألة الثانية : الفتيات : المملوكة جمع فتاة ، والعبد فتى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي" ويقال للجارية الحديثة : فتاة ، وللغلام فتى ، والأمة تسمى فتاة ، عجوزاً كانت او شابة ، لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير.
المسألة الثالثة : قوله : {مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية ، سواء كان الزوج حراً أو عبدا ، وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ، وقول مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز التزوج بالأمة الكتابية.
حجة الشافعي رضي الله عنه : أن قوله : {مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة ، وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة ، وأيضا قال تعالى : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة : 221).
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه : النص والقياس : أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة ، وآكدها قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة : 5) وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة ، والكتابية المملوكة أيضا مباحة ، فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز.
والجواب عن العمومات : أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات ، وعن القياس : أن الشافعي قال : إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد ، أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص : الرق والكفر ، فظهر الفرق.
(1/1425)
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } قال الزجاج : معناه اعملوا على الظاهر في الايمان فانكم مكلفون بظواهر الأمور ، والله يتولى السرائر والحقائق.
ثم قال تعالى : {بَعْضُكُم مِّنا بَعْضٍ } وفيه وجهان : الأول : كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الاماء عند الضرورة. والثاني : ان المعنى : كلكم مشتركون في الايمان ، والايمان أعظم الفضائل ، فاذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت اليه ، ونظيره قوله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) وقوله : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَا كُمْ } (الحجرات : 13) قال الزجاج : فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات ، أو لأن الشرف بشرف الاسلام أولى منه بسائر الصفات ، وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه : ان الايمان شرط لجواز / نكاح الأمة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب ، فأعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر ويلتفت إليه. روي عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ثلاث من أمر الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والفخر بالأحساب ، والاستسقاء بالانواء ، ولا يدعها الناس في الاسلام" وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين ، فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية.
ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل ، ويدل عليه القرآن والقياس. أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يقتضي كون الاذن شرطا في جواز النكاح ، وان لم يكن النكاح واجبا. وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" فالسلم ليس بواجب ، ولكنه إذا إختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط ، كذلك النكاح وان لم يكن واجبا ، لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة ، وجب أن لا يتزوجها إلا باذن سيدها. وأما القياس : فهو أن الأمة ملك للسيد ، وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها ، فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه. واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة ، وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إذا تزوج العبد بغير اذن السيد فهو عاهر".
المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله عنه : المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يصح ، احتج الشافعي بهذه الآية ، وتقريره أن الضمير في قوله : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} عائد إلى الاماء ، والأمة ذات موصوفة بصفة الرق ، وصفة الرق صفة زائلة ، والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق ، وصفة الرق صفة زائلة ، والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الاشارة إلى تلك الصفة ، ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه ، فثبت أن الاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة ، باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} اشارة إلى الاماء ، فهذه الاشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن ، وحصول صفة الحرية لهن ، وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها ، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور ؛ ضرورة أنه لا قائل بالفرق. احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي/ في هذه المسألة فقال : مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح ، فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها ، بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها. قال : وهذه الآية تبطل ذلك ، لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها ، فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
والجواب من وجوه : الأول : أن المراد بالاذن الرضا. وعندنا أن رضا المولى لا بد منه ، فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه ، وثانيها : أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن ، وذلك إما المولى أن كان رجلا ، أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة. وثالثها : هب أن الاهل عبارة عن المولى ، لكنه عام يتناول الذكور والاناث ، والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام : "العاهر هي التي تنكح نفسها" فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها ، فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} وفيه مسألتان :
(1/1426)
المسألة الأولى : في تفسير الآية قولان : الأول : ان المراد من الأجور : المهور ، وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها ، سمي لها المهر أو لم يسم ، لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى ، وبين من لم يسم في إيجاب المهر ، ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى : {بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة : 33) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } الثاني : قال القاضي : ان المراد من أجورهن النفقة عليهن ، قال هذا القائل : وهذا أولى من الأول ، لأن المهر مقدر ، ولا معنى لاشتراط المعروف فيه ، فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة ، ثم قال القاضي : اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر ، وحملوا قوله : {بِالْمَعْرُوفِ } على ايصال المهر اليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير.
المسألة الثانية : نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها ، وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية ، وهو قوله : {وَمَن لَّمْ} وأما الجمهور فانهم احتجوا على ان مهرها لمولاها بالنص والقياس ، أما النص فقوله تعالى : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} (النحل : 75) وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا ، وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع ، وتلك المنافع مملوكة للسيد ، وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح ، فوجب أن / يكون هو المستحق لبدلها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه : الأول : انا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية. الثاني : أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور اليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله : {وَءَاتُوهُنَّ} ما يوجب كون المهر ملكا لهن ، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال : "العبد وما في يده لمولاه" فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم.
ثم قال تعالى : {مُحْصَنَـاتٍ غَيْرَ مُسَـافِحَـاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : محصنات أي عفائف ، وهو حال من قوله : {فَانكِحُوهُنَّ} باذن أهلهن ، فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الاماء ، واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا ؟
وسنذكره في قوله : {الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً} (النور : 3) والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله : {غَيْرَ مُسَـافِحَـاتٍ} أي غير زوان {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } جمع خدن ، كالاتراب جمع ترب ، والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن. قال أكثر المفسرين : المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها ، والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا ، وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين ، وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية ، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ، ونص على حرمتهما معاً ، ونظيره أيضاً قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف : 33).
المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا ، لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضاً شرطا ، وهذا ليس بشرط.
وجوابه : أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات ، بل على قوله : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولا شك أن كل ذلك واجب ، فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا ، عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم.
ثم قال تعالى : {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ مِنَ الْعَذَابِ } . وفيه مسائل :
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
(1/1427)
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {أُحْصِنَّ} بالفتح في الألف ، والباقون بضم الألف ، فمن فتح فمعناه : أسلمن ، هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي ، ومن/ ضم الألف فمعناه : أنهن أحصن بالازواج. هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد. ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال : انه تعالى وصف الاماء بالايمان في قوله : {فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات ، ثم يقال : فاذا آمن ، فان حالهن كذا وكذا ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين : الأول : حال نكاح الاماء ، فاعتبر الايمان فيه بقوله : {مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } والثاني : حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة ، فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم ، وهو قوله : {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} .
المسألة الثانية : في الآية إشكال قوي/ وهو أن المحصنات في قوله : {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ} إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات ، أو المراد منه الحرائر الأبكار. والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن. والأول مشكل ، لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا : الرجم ، فهذا يقتضي أن يجب في زنا الاماء نصف الرجم ، ومعلوم أن ذلك باطل. والثاني : وهو أن يكون المراد : الحرائر الأبكار ، فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن ، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين : الاحصان والزنا ، لأن قوله : {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـاحِشَةٍ} شرط بعد شرط ، فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا ، فهذا إشكال قوي في الآية.
والجواب : أنا نختار القسم الثاني ، وقوله : {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة ، بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج ، فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه ، فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضاً أولى ، وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص ، لأن عند حصول ما يغلظ الحد ، لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق ، فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم.
المسألة الثالثة : الخوارج اتفقوا على انكار الرجم ، واحتجوا بهذه الآية ، وهو أنه تعالى أوجب على الأمة نصف ما على الحرة المحصنة ، فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم ، لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل ، فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد ، والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة ، وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } (النور : 2).
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
المسألة الرابعة : اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر / في غير الحد ، وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم.
ثم قال تعالى : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ } (النساء : 25) ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الاماء فكأنه قال : فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم ، والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } (البقرة : 220) أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال : {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} (آل عمران : 118) ، أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد. وللمفسرين فيه قولان : أحدهما : أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة ، فهذا هو العنت. والثاني : أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة ، أما في حق النساء فقد تؤدي الى اختناق الرحم ، وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر. وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن.
ثم قال تعالى : {وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد أن نكاح الاماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة ، ووجود العنت ، وكون الأمة مؤمنة : الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح.
المسألة الثانية : مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل ، فان كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقاً أفضل من الاشتغال بالنوافل ، سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة/ فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم ، وآن قالوا : إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة ، فحينئذ يسقط هذا الاستدلال ، إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم.
(1/1428)
ثم انه تعالى ختم الآية بقوله : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح ، يعني انه وان حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم اليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
0
فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : اللام في قوله : {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} فيه وجهان : الأول : قالوا : إنه قد تقام اللام مقام "أن" في أردت وأمرت ، فيقال : أردت أن تذهب ، وأردت لتذهب ، وأمرتك أن تقوم ، وأمرتك لتقوم ، قال تعالى : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ} (الصف : 8) يعني يريدون أن يطفؤا ، وقال : {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الأنعام : 71).
والوجه الثاني : أن نقول ؛ إن في الآية إضمارا ، والتقدير : يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم ، وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها ، فقوله : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ} يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا ، وأمرنا بما أمرنا لنسلم.
المسألة الثانية : قال بعض المفسرين : قوله : {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} معناهما شي واحد ، والتكرير لأجل التأكيد وهذا ضعيف ، والحق أن المراد من قوله : {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف ، وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح.
ثم قال : {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل ، والثاني : أنه ليس المراد ذلك ، بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان مالكم فيه من المصلحة كما بينه لهم ، فان الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها ، إلا أنها متفقة في باب المصالح ، وفيه قول ثالث : وهو أن المعنى : أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق.
ثم قال تعالى : {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } قال القاضي : معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة ، فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها ، كذلك وقع التقصير والتفريط منا ، فيريد أن يتوب علينا ، لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب ، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
واعلم أن في الآية إشكالا : وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى ، والآية مشكلة على كلا القولين. أما على القول الأول : فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فانه يحصل ، فاذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وأما على القول الثاني : فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا ، وقوله : {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة ، فهذه الآية مشكلة على كلا القولين.
/ والجواب أن نقول : إن قوله : {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا. والعقل أيضا مؤكد له ، لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي ، والعزم على عدم العود في المستقبل ، والندم والعزم من باب الارادات ، والارادة لا يمكن إرادتها ، وإلا لزم التسلسل ، فاذن الارادة يمتنع أن تكون فعل الانسان ، فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى ، فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة ما أشعر به ظاهر القرآن وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا فأما قوله : لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة ، فنقول : قوله : {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } خطاب مع الأمة ، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات ، وحصلت هذه التوبة لهم فزال الاشكال والله أعلم.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالكم ، حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 11
54
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : قيل : المجوس كانوا يحلون الأخوات وبنات الاخوة والأخوات ، فلما حرمهن الله تعالى قالوا : إنكم تحلون بنت الخالة والعمة ، والخالة والعمة عليكم حرام ، فانكحوا أيضا بنات الأخ والأخت ، فنزلت هذه الآية.
(1/1429)
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : قوله : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يدل على أنه تعالى يريد التوبة من الكل ، والطاعة من الكل. قال أصحابنا : هذا محالا لأنه تعالى علم من الفاسق أنه لا يتوب وعلمه بأنه لا يتوب مع توبته ضدان ، وذلك العلم ممتنع الزوال ، ومع وجوب أحد الضدين كانت إرادة الضد الآخر إرادة لما علم كونه محالا ، وذلك محال ، وأيضاً إذا كان هو تعالى يريد التوبة من الكل ويريد الشيطان أن تميلوا ميلا عظيما ، ثم يحصل مراد الشيطان لا مراد الرحمن ، فحينئذ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتم من نفاذ الرحمن في ملك نفسه وذلك محال ، فثبت أن قوله : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع قوم معينين حصلت هذه التوبة لهم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 54
55
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في التخفيف قولان : الأول : المراد منه إباحة نكاح الأمة عند الضرورة وهو قول مجاهد ومقاتل ، والباقون قالوا : هذا عام في كل أحكام الشرع ، وفي جميع ما يسره لنا وسهله علينا ، إحسانا منه الينا ، ولم يثقل التكليف علينا كما ثقل على بني إسرائيل ، ونظيره قوله تعالى : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف : 157) وقوله : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) وقوله : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) وقوله عليه الصلاة والسلام : "جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة".
المسألة الثانية : قال القاضي : هذا يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، إذ لو كان كذلك فالكافرين يخلق فيه الكفر ، ثم يقول له : لا تكفر ، فهذا أعظم وجوه التثقيل ، ولا يخلق فيه الايمان ، ولا قدرة للعبد على خلق الايمان. ثم يقول له : آمن ، وهذا أعظم وجوه التثقيل. قال : ويدل أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ، لأنه أعظم وجوه التثقيل.
والجواب : أنه معارض بالعلم والداعي ، وأكثر ما ذكرناه.
ثم قال : {وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا} والمعنى أنه تعالى لضعف الانسان خفف تكليفه ولم يثقل والأقرب أنه يحمل الضعف في هذا الموضع لا على ضعف الخلقة ، بل يحمل على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة ، فيصير ذلك كالوجه في أن يضعف عن احتمال خلافه. وإنما قلنا : ان هذا الوجه أولى ، لأن الضعف في الخلقة والقوة لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة والآلة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف ، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها ، لا لضعف البدن وقوته ، هذا كله كلام القاضي ، وهو كلام حسن ، ولكنه يهدم أصله ، وذلك لما سلم أن المؤثر في وجود الفعل وعدمه ، قوة الداعية وضعفها فلو تأمل لعلم أن قوة الداعية وضعفها لا بد له من سبب ، فان كان ذلك لداعية أخرى من العبد لزم التسلسل ، وإن كان الكل من الله ، فذاك هو الحق الذي لا محيد عنه ، وبطل القول بالاعتزال بالكلية والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 55
المسألة الثالثة : روي عن ابن عباس أنه قال : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء : 26) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (النساء : 27) {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} (النساء : 31) {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه } (النساء : 116) {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } (النساء : 40) {وَمَن يَعْمَلْ سُواءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَه } (النساء : 110) {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} (آل عمران : 147).
ويقول محمد الرازي مصنف هذا الكتاب ختم الله له بالحسنى : اللهم اجعلنا بفضلك ورحمتك أهلا لها يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
النوع الثامن : من التكاليف المذكورة في هذه السورة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 55
0
اعلم أن في كيفية النظم وجيهن : الأول : أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال. والثاني : قال القاضي : لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات ، بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة ، لما أن المقصود الأعظم من الأموال : الأكل ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10).
(1/1430)
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير الباطل وجهين : الأول : أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع ، كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق. وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة ، لأنه يصير تقدير الآية : لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع ، فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة. والثاني : ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : أن الباطل هو كل / ما يؤخذ من الانسان بغير عوض ، وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة ، لكن قال بعضهم : إنها منسوخة ، قالوا : لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا ، وشق ذلك على الخلق ، فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور : {لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى ا أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنا بُيُوتِكُمْ} (النور : 61) الآية. وأيضا : ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه ، تحرم الصدقات والهبات ، ويمكن أن يقال : هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص ، ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال : هذه الآية محكمة ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 55
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل ، وأكل مال نفسه بالباطل ؛ لأن قوله : {أَمْوَالَكُمُ} يدخل فيه القسمان معا ، كقوله : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل. أما أكل مال نفسه بالباطل. فهو إنفاقه في معاصي الله ، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه.
ثم قال : {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : {تِجَـارَةً} بالنصب ، والباقون بالرفع. أما من نصب فعلى "كان" الناقصة ، والتقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، وأما من رفع فعلى "كان" التامة ، والتقدير : إلا أن توجد وتحصل تجارة. وقال الواحدي : والاختيار الرفع ، لأن من نصب أضمر التجارة فقال : تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة ، والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا.
المسألة الثانية : قوله : {إِلا} فيه وجهان : الأول : أنه استثناء منقطع ، لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل ، فكان "إلا" ههنا بمعنى "بل" والمعنى : لكل يحل أكله بالتجارة عن تراض. الثاني : ان من الناس من قال : الاستثناء متصل وأضمر شيئاً ، فقال التقدير : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وإن تراضيتم كالربا وغيره ، إلا أن تكون تجارة عن تراض.
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة ، فقد يحل أيضاً المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات ، فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة.
فان قلنا : إن الاستثناء منقطع فلا إشكال ، فانه تعالى ذكر ههنا سبباً واحد ، من أسباب الملك ولم يذكر سائرها ، لا بالنفي ولا باثبات.
وإن قلنا : الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل ، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص.
/ المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمة الله عليه : النهي في المعاملات يدل على البطلان ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يدل عليه ، واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه : الأول : أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى ، فاذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات ، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع ، فاذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى. وثانيها : أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود ، وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة. والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود ، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها ، قياسا على التصرفات الصحيحة ، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد ، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين. فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال ، وثالثها : أن قوله : لا تبيعوا الدرهم بدرهمين ، كقوله : لا تبيعوا الحر بالعبد ، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول ، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيداً للحكم والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 55
(1/1431)
المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمة الله عليه ، خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة ، وقال الشافعي رحمة الله عليه : ثابت ، احتج أبو حنيفة بالنصوص : أولها : هذه الآية ، فان قوله : {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي ، سواء حصل التفرق أو لم يحصل. وثانيها : قوله : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه. وثالثها : قوله عليه الصلاة والسلام : "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه" وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع ، فوجب أن يحصل الحل. ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : "من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه" جوز بيعه بعد القبض ، وخامسها : ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان ، وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان ، ولم يشترط فيه الافتراق. وسادسها : قوله عليه الصلاة والسلام : "لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق ، وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد.
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص ، لكنه يقول : أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه ، فنحن أيضاً نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" وتأويلات أصحاب / أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات والله أعلم.
قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم بعضا وإنما قال : {أَنفُسَكُمْ } لقوله عليه السلام : "المؤمنون كنفس واحدة" ولأن العرب يقولون : قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم. واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم ؟
فانكره بعضهم وقال : إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه ، لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه ، وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم ، وهو الألم الشديد والذم العظيم ، والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم ، وهو استحقاق العذاب العظيم ، وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة ، وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند ، وذلك لا يتأتى من المؤمن ، ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر ، قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه ، وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة ، وأيضا ففيه احتمال آخر ، كأنه قيل : لا تفعلوا ما تستحقون به القتل : من القتل والردة والزنا بعد الاحصان ، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة ، وقيل : إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما ، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
جزء : 10 رقم الصفحة : 55
ثم قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .
واعلم أن فيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن قوله : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} إلى ماذا يعود ؟
على وجوه : الأول : قال عطاء : إنه خاص في قتل النفس المحرمة ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات. الثاني : قال الزجاج : إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة. والثالث : قال ابن عباس : إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع.
المسألة الثانية : إنما قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ عُدْوَانًا} لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض ، وقد يكون ذلك حقا كالقود ، وفي جملة ما تقدم أخذ المال ، وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها ، فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد.
(1/1432)
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة. قالوا : / وقوله : {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال : بتخليدهم ، فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ، لأنه لا قائل بالفرق. والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع ، إلا أن الذي نقوله ههنا : ان هذا مختص بالكفار ، لأنه قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير ، فيحمل الظلم على ما اذا كان قصده التعدي على تكاليف الله ، ولا شك أن من كان كذلك كان كافراً لا يقال : أليس أنه وصفهم بالايمان فقال : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فكيف يمكن أن يقال : المراد بهم الكفار ؟
لأنا نقول : مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة ، فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا : أنهم كانوا مؤمنين ، ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان ، فاذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام. فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه ؟
والله أعلم.
ثم أنه تعالى ختم الآية فقال : {وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .
واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية ، وحينئذ يمتنع أن يقال : ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض/ بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } أو يكون معناه المبالغة في التهديد ، وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 55
59
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ، فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام ، أو جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر. واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :
الحجة الأولى : هذه الآية ، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر.
/ الحجة الثانية : قوله تعالى : {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} (القمر : 53) وقوله : {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا } (الكهف : 49).
الحجة الثالثة : ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَا وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر.
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } (الحجرات : 7) وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق. وثالثها : العصيان ، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي العصيان. واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى. والثاني : إجلال من عصى ، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (النحل : 18) وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة.
والجواب من وجهين : الأول : كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب. الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت. إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين.
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
أما القول الأول : فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف. الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} (النساء : 31)الثالث : قال قوم : كل عمد فهو كبيرة. واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة.
(1/1433)
أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، / فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه.
وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور/ ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة.
وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلّم وهم لا يعلمون أنه معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة. وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها.
وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : {فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} (الشورى : 7) ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير.
والقسم الثاني : أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير.
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
والقسم الثالث : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة. وهذا قول جمهور المعتزلة.
واعلم أن هذا الكلام مبني على ول كلها باطلة عندنا. أولها : أن هذا مبنى على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن / صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر ، فان أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقط أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أدار لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضاً باطل. ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة/ فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
(1/1434)
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا ؟
فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراءا له بالاقدام على تلك الصغائر ، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه. قالوا : ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات. والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست / إلا كذا وكذا ، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة. روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "ما تعدون الكبائر" فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : "الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات" وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله. وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام.
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
وأجاب أصحابنا من وجوه : الأول : انكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل. لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة "إن" على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات : إحداها : قوله : {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة : 172) فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد. وثانيها : قوله تعالى : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَه } (البقرة : 283) وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك. وثالثها : {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (البقرة : 282) والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا. ورابعها : {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ مَّقْبُوضَةٌ } والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده. وخامسها : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النور : 33) والاكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن. وسادسها : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3) والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ} والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين ، وتاسعها : قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِه } (النساء : 35) وذلك جائز سواء حصل / الخوف أو لم يحصل. وعاشرها : قوله : {إِن يُرِيدَآ إِصْلَـاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ } (النساء : 35) وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِّن سَعَتِه } (النساء : 130) وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة "إن" على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة "إن" على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي.
(1/1435)
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الاصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا. وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة. وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز. الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد ؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت ؟
هذا لفظ القاضي في تفسيره.
والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه. وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات ؟
سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم.
الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه.
الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون / صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} الكفر ؟
وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه/ فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48)وإذا كان هذا محتملا ، بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق.
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة.
ثم قال تعالى : {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ المفضل عن عاصم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ} بالياء في الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع {مُّدْخَلا} بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في {مُدْخَلَ صِدْقٍ} بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد المصدر وهو الادخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} (الفرقان : 34)
المسألة الثانية : أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ، فالتقدير : ان أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة. ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي ، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِه فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } (يونس : 58) والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 59
64
اعلم أن في النظم وجهين : الأول : قال القفال رحمه الله : انه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتل النفس ، أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات ، وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له ، فانه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد ، واذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس ، فإما إذا رضي بما قدر الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال.
(1/1436)
الوجه الثاني : في كيفية النظم : هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس ، من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهراً عن الأفعال القبيحة ، وهو الشريعة. ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد ، ليصير الباطن طاهرا عن الاخلاق الذميمة ، وذلك هو الطريقة. ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : التمني عندنا عبارة عن ارادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ، ولهذا قلنا : انه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا. وقالت المعتزلة : النهي عن قول القائل : ليته وجد كذا ، أو ليته لم يوجد كذا ، وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا ، بل لا بد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون.
المسألة الثانية : اعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية ، أو بدنية ، أو خارجية.
أما السعادات النفسانية فنوعان : أحدهما : ما يتعلق بالقوة النظرية ، وهو : الذكاء التام والحدس الكامل ، والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية. وثانيهما : ما يتعلق بالقوة العملية ، وهي : العفة التي هي وسط بين الخمود والفجور ، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن ، واستعمال الحكمة العملية الذي هو توسط بين البله والجربزة ، ومجموع هذه الأحوال هو العدالة.
وأما السعادات البدنية : فالصحة والجمال ، والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة.
وأما السعادات الخارجية : فهي كثرة الأولاد الصلحاء ، وكثرة العشائر ، وكثرة الأصدقاء والأعوان ، والرياسة التامة ، ونفاذ القول ، وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر فيهم ، مطاع الأمر فيهم ، فهذا هو الاشارة الى مجامع السعادات ، وبعضها فطرية لا سبيل للكسب فيه ، وبعضها كسبية ، وهذا الذي يكون كسبيا متى تأمل العاقل فيه يجده أيضا محض عطاء الله ، فانه لا ترجيح للدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات ، وإلا فيكون سبب السعي والجد مشتركا فيه ، ويكون الفوز / بالسعادة والوصول الى المطلوب غير مشترك فيه ، فهذا هو أقسام السعادات التي يفضل الله بعضهم على بعض فيها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
المسألة الثانية : أن الانسان اذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لانسان ، ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها ، فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ، ثم يعرض ههنا حالتان : إحداهما : أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان ، والأخرى : أن لا يتمنى ذلك ، بل يتمنى حصول مثلها له. أما الأول فهو الحسد المذموم ، لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه : الاحسان الى عبيده والجود اليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين ، وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الانسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته/ وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ، ويزيل عن قلبه نور الايمان ، وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين ، فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا ، فانه يقطع المودة والمحبة والموالاة ، ويقلب كل ذلك الى أضدادها ، فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال : {وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
(1/1437)
واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان ، أما على مذهب أهل السنة والجماعة ، فهو أنه تعالى فعال لما يريد : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23) فلا اعتراض عليه في فعله. ولا مجال لأحد في منازعته ، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، واذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة ، وطرق الاعتراضات مردودة. وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود ، لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ، ولهذا المعنى قال : {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ} (الشورى : 27) وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه ، ولهذا المعنى حكى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن رب العزة أنه قال : "من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب ربا سواي" فهذا هو الكلام فيما اذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الانسان ، ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فان الله هو رازقها" والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد. أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا : هذا أيضا لا يجوز ، لأن تلك النعمة / ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا ، فلهذا السبب قال المحققون : إنه لا يجوز للانسان أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، وزوجة مثل زوجة فلان ، بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وإذا تأمل الانسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكر الله في القرآن تعليما لعباده وهو قوله : {فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا} (البقرة : 201) وروى قتادة عن الحسن أنه قال : لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال ، كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه } .
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
المسألة الرابعة : ذكروا في سبب النزول وجوها : الأول : قال مجاهد قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولهم من الميراث ضعف ما لنا ، فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية ، الثاني : قال السدي : لما نزلت آية المواريث قال الرجال : نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء : نرجو أن يكون الوزر علينا علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية : الثالث : لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج لأنا ضعفاء ، وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية. الرابع : أتت واحدة من النساء الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت : رب الرجال والنساء واحد ، وأنت الرسول الينا واليهم ، وأبونا آدم وأمنا حواء. فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا ، فنزلت الآية. فقالت : وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم : "إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فاذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر/ فاذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس".
ثم قال تعالى : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } .
واعلم أنه يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما يتعلق بأحوال الدنيا ، وأن يكون ما يتعلق بأحوال الآخرة ، وأن يكون ما يتعلق بهما.
أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه : الأول : أن يكون المراد لكل فريق نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. الثاني : كل نصيب مقدر من الميراث على ما حكم الله به فوجب أن يرضى به ، وأن يترك الاعتراض ، والاكتساب على هذا القول بمعنى الاصابة والاحراز. الثالث : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ، فأبطل الله ذلك بهذه الآية ، وبين أن لكل واحد منهم نصيبا ، ذكرا كان أو أنثى ، صغيرا كان أو كبيرا.
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد بهذه الآية : ما يتعلق بأحوال الآخرة ففيه وجوه : الأول : المراد لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه ، فلا تتمنوا خلاف / ذلك. الثاني : لكل أحد جزاء مما اكتسب من الطاعات ، فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم وتقديره : لا تضيع مالك وتتمن ما لغيرك. الثالث : للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قيامهم بالنفقة على النساء ، وللنساء نصيب مما اكتسبن ، يريد حفظ فروجهن وطاعة أزواجهن ، وقيامها بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش ، فالنصيب على هذا التقدير هو الثواب.
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
(1/1438)
وأما الاحتمال الثالث : فهو أن يكون المراد من الآية : كل هذه الوجوه : لأن هذا اللفظ محتمل ، ولا منافاة.
ثم قال تعالى : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير والكسائي : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه } بغير همز ، بشرط أن يكون أمراً من السؤال ، وبشرط أن يكون قبله واو أو فاء ، والباقون بالهمز في كل القرآن.
أما الأول : فنقل حركة الهمزة الى السين ، واستغنى عن ألف الوصل فحذفها.
وأما الثاني : فعلى الأصل. واتفقوا في قوله : {وَلْيَسْـاَلُوا } أنه بالهمزة ، لأنه أمر لغائب.
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قوله : {مِن فَضْلِه } في موضع المفعول الثاني في قول أبي الحسن ويكون المفعول الثاني محذوفا في قياس قول سيبويه ، والصفة قائمة مقامه ، كأنه قيل : واسألوا الله نعمته من فضله.
المسألة الثالثة : قوله : {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه } تنبيه على أن الانسان لا يجوز له أن يعين شيئاً في الطلب والدعاء ، ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الاطلاق.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} والمعنى أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين ، فليقتصر السائل على المجمل ، وليحترز في دعائه عن التعيين ، فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر والله أعلم.
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
0
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثاً ، ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما.
أما الأول : فهو أن قوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ} أي : ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته ، ثم كأنه قيل : ومن هؤلاء الورثة ؟
فقيل : هم الوالدان والأقربون ، وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله : {مِّمَّا تَرَكَ} .
وأما الثاني : ففيه وجهان : الأول : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالى ، أي : ورثة و{جَعَلْنَا} في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين ، لأن معنى {جَعَلْنَا} خلقنا. الثاني : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، فقوله : {مَوَالِىَ} على هذا القول يكون صفة ، والموصوف يكون محذوفا ، والراجع إلى قوله : {وَلِكُلٍّ} محذوفا ، والخبر وهو قوله : {نَصِيبٌ} محذوف أيضا ، وعلى هذا التقدير يكون {جَعَلْنَا} معتديا إلى مفعولين ، والوجهان الأولان أولى ، لكثرة الاضمار في هذا الوجه.
المسألة الثانية : لفظ مشترك بين معان : أحدها : المعتق ، لأنه ولى نعمته في عتقه ، ولذلك يسمى مولى النعمة. وثانيها : العبد المعتق ، لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه ، وهذا كما يسمى الطالب غريما ، لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. وثالثها : الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين. ورابعها : ابن العم ، لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما. وخامسها : المولى الولي لأنه يليه بالنصرة قال تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد : 11) وسادسها : العصبة ، وهو المراد به في هذه الآية لأنه لا يليق بهذه الآية إلا هذا المعنى ، ويؤكده ما روى أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا فأنا وليه" وقال عليه الصلاة والسلام : "اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر".
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
ثم قال تعالى : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ فَـاَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : عقدت بغير ألف وبالتخفيف ، والباقون بالألف والتخفيف ، وعقدت : أضافت العقد إلى واحد ، والاختيار : عاقدت ، لدلالة المفاعلة على عقد الحلف من الفريقين.
/ المسألة الثانية : الأيمان. جمع يمين ، واليمين يحتمل أن يكون معناه اليد ، وأن يكون معناه القسم ، فان كان المراد اليد ففيه مجاز من ثلاثة أوجه : أحدها : أن المعاقدة مسندة في ظاهر اللفظ إلى الأيدي ، وهي في الحقيقة مسندة إلى الحالفين ، والسبب في هذا المجاز أنهم كانوا يضربون صفقة البيع بأيمانهم ، ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد.
(1/1439)
والوجه الثاني : في المجاز : وهو أن التقدير : والذين عاقدت بحلفهم أيمانكم ، فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه ، وحسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه. الثالث : أن التقدير : والذين عاقدتهم ، إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول ، هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد. أما عاقدتهم ، إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول ، هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد. أما إذا فسرناها بالقسم والحلف كانت المعاقدة في ظاهر اللفظ مضافة إلى القسم ، وإنما حسن ذلك لأن سبب المعاقدة لما كان هو اليمين حسنت هذه الاضافة ، والقول في بقية المجازات كما تقدم.
المسألة الثالثة : من الناس من قال : هذه الآية منسوخة ، ومنهم من قال : إنها غير منسوخة أما القائلون بالنسخ فهم الذين فسروا الآية بأحد هذه الوجوه التي نذكرها : فالأول : هو أن المراد بالذين عاقدت أيمانكم : الحلفاء في الجاهلية ، وذلك أن الرجل كان يعاقد غيره ويقول : دمي دمك وسلمي سلمك ، وحربي حربك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون لهذا الحليف السدس من الميراث ، فنسخ ذلك بقوله تعالى : {وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَـابِ اللَّه } (الأنفال : 75) وبقوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} الثاني : أن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له ، وهم المسمون بالأدعياء ، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ. الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يثبت المؤاخاة بين كل رجلين من أصحابه ، وكانت تلك المؤاخاة سببا للتوارث. واعلم أن على كل هذه الوجوه الثلاثة كانت المعاقدة سببا للتوارث بقوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} ثم ان الله تعالى نسخ ذلك بالآيات التي تلوناها.
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
القول الثاني : قول من قال : الآية غير منسوخة ، والقائلون بذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها : الأول : تقدير الآية : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ورثة فآتوهم نصيبهم ، أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم ، فقوله : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ} معطوف على قوله : {الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ} والمعنى : ان ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به ، وسمى الله تعالى الوارث مولى. والمعنى لا تدفعوا المال إلى الحليف ، بل إلى المولى والوارث ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ في الآية ، وهذا تأويل أبي علي الجبائي. الثاني : المراد بالذين عاقدت أيمانكم : الزوج والزوجة ، والنكاح يسمى عقدا قال تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} (البقرة : 235) فذكر تعالى الوالدين والأقربين ، وذكر معهم الزوج والزوجة ، ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة ، وعلى هذا فلا نسخ في الآية أيضا ، وهو قول أبي مسلم الاصفهاني. الثالث : أن يكون المراد بقوله : {بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ} الميراث الحاصل بسبب الولاء ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا. الرابع : أن يكون المراد من {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ} الحلفاء ، والمراد بقوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة ، والمخالصة في المخالطة ، فلا يكون المراد التوارث ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا. الخامس : نقل أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ابنه عبد الرحمن ، وذلك أنه رضي الله عنه حلف أن لا ينفق عليه ولا يورثه شيئا من ماله ، فلما أسلم عبد الرحمن أمره الله أن يؤتيه نصيبه ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا. السادس : قال الاصم : إنه نصيب على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل ، كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أن يجعل له نصيب على ما تقدم ذكره ، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة : القائلون بأن قوله : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ} مبتدأ ، وخبره قوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} قالوا : إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن "الذي" معنى الشرط فلا جرم وقع خبره مع الفاء وهو قوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} ويجوز أن يكون منصوبا على قولك : زيدا فاضربه.
جزء : 10 رقم الصفحة : 64
المسألة الخامسة : قال جمهور الفقهاء : لا يرث المولى الأسفل من الأعلى. وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال : يرث ، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له ، فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ميراثه للغلام المعتق ، ولأنه داخل في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ فَـاَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } .
والجواب عن التمسك بالحديث : أنه لعل ذلك المال لما صار لبيت المال دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغلام لحاجته وفقره ، لأنه كان مالا لا وارث له ، فسبيله أن يصرف إلى الفقراء.
(1/1440)