الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية ، قال القفال : قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا ؟
فيقول : هو رجل من مذهبه كذا ، ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول : كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه/ سألوا عن مقدار ما كلفوا به ، هل هو كل المال أو بعضه ، فأعلمهم الله أن العفو مقبول ، وفي الآية مسائل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : أصل العفو في اللغة الزيادة ، قال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ} (الأعراف : 199) أي الزيادة ، وقال أيضاً : {حَتَّى عَفَوا } (الأعراف : 95) أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال : العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلاً عن الكفاية يقال : خذ ما عفا لك ، أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسر والتسهيل ، قال عليه الصلاة والسلام : "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم" معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق ، ويقال : أعفى فلان فلاناً بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة ، وهو راجع إلى التخفيف ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً ، إذا لم يكدر عليه بالأذى ، ويقال : خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر ، ومنه قوله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ} (الأعراف : 199) أي ما سهل لك من الناس ، ويقال للأرض السهلة : العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال : العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ } (الإسراء : 26 ، 27) وقال : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وقال : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } (الفرقان : 67) وقال صلى الله عليه وسلّم : "إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا" وقال / عليه الصلاة والسلام : "خير الصدقة ما أبقت غني ولا يلام على كفاف" وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضباً فأخذها منه ، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته ، ثم قال : يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة ، وقال الحكماء : الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط ، فالإنفاق الكثير هو التبذير ، والتقليل جداً هو التقتير ، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله : {قُلِ الْعَفْوَ } ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلّم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة ، وشرع النصارى على المسامحة التامة ، وشرع محمد صلى الله عليه وسلّم متوسط في كل هذه الأمور ، فلذلك كان أكمل من الكل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو (العفو) بضم الواو والباقون بالنصب ، فمن رفع جعل {ذَا} بمعنى {الَّذِى} وينفقون صلته كأنه قال : ما الذي ينفقون ؟
فقال : هو العفو ومن نصب كان التقدير : ما ينفقون وجوابه : ينفقون العفو.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع ، أما القائلون بأنه هو الإنفاق الواجب ، فلهم قولان الأول : قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها ههنا على سبيل الإجمال ، وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني : أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم/ ثم ينفقوا الباقي ، ثم صار هذا منسوخاً بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة.
القول الثاني : أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضاً لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض.
وأجيب عنه : بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئاً على سبيل الإجمال ، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.
أما قوله : {كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون.
(1/889)
وقوله : {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } فيه وجوه الأول : قال الحسن : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون والثاني : {كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ} فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة / فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا الثالث : يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا.
واعلم أنه لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولاً عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز.
الحكم الخامس
في اليتامى
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
404
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده ، ثم إن الله تعالى أنزل قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } (النساء : 10) وأنزل في الآيات : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 3) وقوله : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِا قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ فِى يَتَـامَى النِّسَآءِ الَّـاتِى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا} (النساء : 127) وقوله : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (الأنعام : 152) فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى ، والمقاربة من أموالهم ، والقيام بأمورهم ، فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم ، فثقل ذلك على الناس ، وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم ، استعدوا للوعيد الشديد ، وإن تركوا وأعرضوا عنهم ، اختلت معيشة اليتامى ، فتحير القوم عند ذلك.
ثم ههنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة ، يحتمل أن السؤال كان في قلبهم ، وأنهم / تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى ، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء ، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً وطعاماً وشراباً فعظم ذلك على ضعفة المسلمين ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله مالكنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاماً وشراباً يفردهما لليتيم ، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : قوله : {قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } فيه وجوه أحدها : قال القاضي : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما ، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة ، ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة ، ويدخل فيه أيضاً معنى قوله تعالى : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُم وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } (النساء : 2) ومعنى قوله : {خَيْرٍ} يتناول حال المتكفل ، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم ، ويتناول حال اليتيم أيضاً ، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه ، وصلاح ماله ، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 404
فإن قيل : ظاهر قوله : {قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم.
قلنا : ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحاً له ، فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر ، وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها : قول من قال : الخبر عائد إلى الولي ، يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً له ، والثالث : أن يكون الخبر عائداً إلى اليتيم ، والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم/ والقول الأول أولى ، لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض ، ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز ، فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي ، وإلى اليتيم في إصلاح النفس ، وإصلاح المال ، وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة ، فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه ، واليتيم في ماله وفي نفسه ، فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية.
أما قوله تعالى : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } ففيه مسائل :
(1/890)
المسألة الأولى : المخالطة جمع يتعذر فيه التمييز ، ومنه يقال للجماع : الخلاط ويقال : خولط الرجل إذا جن ، والخلاط الجنون لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله.
المسألة الثانية : في تفسير الآية وجوه أحدها : المراد : وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم ، والمعنى : أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم ، وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم ، فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين ، والاجتماع / في المسكن الواحد ، كما يفعله المرء بمال ولده ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة ، والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها : أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنياً أو فقيراً ، ومنهم من قال : إذا كان القيم غنياً لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } وأما إن كان القيم فقيراً فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر ، فإن لم يوسر تحلله من اليتيم ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم : إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثم قضيت ، وعن مجاهد أنه إذا كان فقيراً وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 404
القول الثالث : أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي.
والقول الرابع : وهو اختيار أبي مسلم : أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح ، على نحو قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى فَانكِحُوا } (النساء : 3) وقوله عز من قائل : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِا قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ فِى يَتَـامَى النِّسَآءِ} (النساء : 127) قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها : أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها : أن الشركة داخلة في قوله : {قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } والخلط من جهة النكاح ، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها : أن قوله تعالى : {فَإِخْوَانُكُمْ } يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط ، لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً ، فوجب أن تكون الإشارة بقوله : {فَإِخْوَانُكُمْ } إلى نوع آخر من المخالطة ورابعها : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة : 221) فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة ، فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك.
المسألة الثالثة : قوله : {فَإِخْوَانُكُمْ } أي فهم إخوانكم/ قال الفراء : ولو نصبته كان صواباً ، والمعنى فإخوانكم تخالطون.
أما قوله : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } فقيل : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، وقيل : يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح ، يعني : إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضاً آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم ، وهذا تهديد عظيم ، والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له / أحد يراعيها فكأنه تعالى قال : لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه ، وقيل : والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ، فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئاً من غير إصلاح منكم لمالهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 404
أما قوله تعالى : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } ففيه مسائل :
(1/891)
المسألة الأولى : "الإعنات" الحمل على مشقة لا تطاق يقال : أعنت فلان فلاناً إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتاً إذا لبس عليه في سؤاله ، وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل {الْعَنَتَ} من المشقة ، وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدوداً ، ومنه قوله تعالى : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة : 128) أي شديد عليه ما شق عليكم ، ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً وقال عطاء : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم ، وقال الزجاج : ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم.
المسألة الثانية : احتج الجبائي بهذه الآية ، فقال : إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه ، لأن قوله : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف ، ولو كان مكلفاً بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق.
واعلم أن وجه هذا الاستدلال أن كلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم ، وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأيضاً فولى هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح ، لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه ، ولا سبيل له إلى فعله ، وأيضاً فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق ، فأما من لا يتمكن البتة فذلك لا يصح فيه ، وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد ، وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } .
والجواب عنه : المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل ، لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ } وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات ، فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى ، والله أعلم.
/ الحكم السادس
فيما يتعلق بالنكاح
جزء : 6 رقم الصفحة : 404
407
اعلم أن هذه الآية نظير قوله : {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وقرىء بضم التاء ، أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع ، أو هو متعلق بما تقدم ، فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم ، وقال أبو مسلم : بل هو متعلق بقصة اليتامى ، فإنه تعالى لما قال : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } (البقرة : 220) وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى ، وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات ، وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها ، ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى ، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم ، وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف ، ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد حليفاً لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناساً من المسلمين بها سراً ، فعند قدومه جاءته امرأته يقال لها عناق خليلة له في الجاهلية ، أعرضت عنه عند الإسلام ، فالتمست الخلوة ، فعرفها أن الإسلام يمنع من ذلك ، ثم وعدها أن يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلّم ثم يتزوج بها ، فلما انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عرفه ما جرى في أمر عناق ، وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى / هذه الآية.
المسألة الثانية : اختلف الناس في لفظ النكاح ، فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله : إنه حقيقة في العقد ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام : "لا نكاح إلا بولي وشهود" وقف النكاح على الولي والشهود ، والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء ، والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح ، ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء ، فلو كان النكاح اسماً للوطء لامتنع كون النكاح مقابلاً للسفاح وثالثها : قوله تعالى : {وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ وَالصَّـالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآاـاِكُمْ } (النور : 32) ولا شك أن لفظ لا يمكن حمله إلا على العقد ورابعها : قول الأعشى ، أنشده الواحدي في "البسيط" :
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
فلا تقربن من جارة إن سرها
عليك حرام فانكحن أو تأيما
(1/892)
وقوله : لا يحتمل إلا الأمر بالعقد ، لأنه قال : "لا تقربن جارة" يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء ، وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : أنه حقيقة في الوطء ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله تعالى : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح ، والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء وثانيها : قوله عليه الصلاة والسلام : "ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون" أثبت النكاح مع عدم العقد وثالثها : أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء ، يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينه ، وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى ، وقال الشاعر :
التاركين على طهر نساءهم
والناكحين بشطي دجلة البقرا
وقال المتنبي :
أنكحت صم حصاها خف يعملة
تعثرت بي إليك السهل والجبلا
ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد ، فوجب حمله عليه ، ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم ، ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعاً ، قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة : أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته ، لم يريدوا غير المجامعة ، لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد ، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة ، فهذا تمام ما في / هذا اللفظ من البحث ، وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله : {وَلا تَنكِحُوا } في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
(1/893)
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن لفظ هل يتناول الكفار من أهل الكتاب ، فأنكر بعضهم ذلك ، والأكثرون من العلماء على أن لفظ يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب وهو المختار ، ويدل عليه وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَـارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه } (التوبة : 30) ثم قال في آخر الآية : {سُبْحَـانَه عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة : 31) وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك وثانيها : قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة ، ولما كان كان ذلك باطلاً علمنا أن كفرهما شرك وثالثها : قوله تعالى : {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ } (المائدة : 73) فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة ، أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة ، والأول باطل ، لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً ومن كونه حياً ، وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها ، كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك ، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذواتاً ثلاثة قديمة مستقلة ، ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى ، وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها ، لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك ، وقول بإثبات الآلهة ، فكانوا مشركين ، وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك ؛ وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق ورابعها : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أميراً وقال : إذا لقيت عدداً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة/ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، سمي من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك ، فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك وخامسها : ما احتج به أبو بكر الأصم فقال : كل من جحد رسالته فهو مشرك ، من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر ، وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى ، بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين ، لأنهم كانوا يقولون فيها : إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين ، فالقوم قد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر ، فوجب القطع بكونهم مشركين لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادراً على خلق هذه الأشياء ، واعترض القاضي فقال : إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلّم / من الأمور الخارجة عن قدرة البشر ، فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركاً ، أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلّم من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب ذلك إلى غير الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
والجواب : أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا ، إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركاً ، كما أن إنساناً لو قال : إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ثم أسند حلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركاً فكذا ههنا ، فهذا مجموع ما يدل على أن اليهودي والنصراني يدخلان تحت اسم المشرك ، واحتج من أباه بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر ، وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك ، وإنما قلنا أنه تعالى فصل لقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـابِـاِينَ وَالنَّصَـارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } (الحج : 17) وقال أيضاً : {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} (البقرة : 105) وقال : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ} (البينة : 1) ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر ، وذلك يوجب التغاير.
(1/894)
والجواب : أن هذا مشكل بقوله تعالى : {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} (الأحزاب : 7) وبقوله تعالى : {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيهاً على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور ، قلنا : فههنا أيضاً إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الإسم تنبيهاً على كمال درجتهم في هذا الكفر ، فهذا جملة ما في هذه المسألة ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين فقال قوم : وقوع هذا الإسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك ، وقال الجبائي والقاضي هذا الإسم من جملة الأسماء الشرعية ، واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمى كل من كان كافراً بالمشرك ، ومن كان في الكفار من لا يثبت إلهاً أصلاً أو كان شاكاً في وجوده ، أو كان شاكاً في وجود الشريك ، وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكراً للبعث والقيامة ، فلا جرم كان منكراً للبعثة والتكليف ، وما كان يعبد شيئاً من الأوثان ، والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون : إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم ، بل كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية/ بل من الأسماء الشرعية ، كالصلاة والزكاة وغيرهما ، وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الإسم ، فهذا جملة الكلام في هذه المسألة / وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
المسألة الرابعة : الذين قالوا : إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا : إن قوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ} نهى عن نكاح الوثنية ، أما الذين قالوا : إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا : ظاهر قوله تعالى : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ} يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلاً ، سواء كانت من أهل الكتاب أو لا ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية ، وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام ، حجة الجمهور قوله تعالى في سورة المائدة : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} (المائدة : 5) وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب ؟
.
قلنا : هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أو لا أحل المحصنات من المؤمنات ، وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر ، ومن كن على الإيمان من أول الأمر ، ولأن قوله : {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} (البقرة : 101) يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة ، ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات ، وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك ، فكان هذا إجماعاً على الجواز.
نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية ، فكتب إليه عمر أن خل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟
فقال : لا ولكنني أخاف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" ويدل عليه أيضاً الخبر المشهور ، وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الإستثناء عبثاً ، واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أولها : أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } صريح في تحريم نكاح الكتابية ، والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر ، فوجب المصير إليه ، ثم قالوا : وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية : {أُوالَـا ئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } والوصف إذا ذكر عقيب الحكم ، وكان الوصف مناسباً للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال : حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار وهذه العلة قائمة في الكتابية ، فوجب القطع بكونها محرمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
والحجة الثانية : لهم : أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل ، ووجه الاستدلال أن الأصل في الإبضاع الحرمة ، فلما تعارض دليل الحرمة تساقطاً ، فوجب بقاء / حكم الأصل ، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين ، فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فحكمتم عند ذلك بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا ههنا.
(1/895)
الحجة الثالثة : لهم : حكى محمد بن جرير الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس تحريم أصناف النساء إلا المؤمنات ، واحتج بقوله تعالى : {وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه } (المائدة : 5) وإذا كان كذلك كانت كالمرتدة في أنه لا يجوز إيراد العقد عليها.
الحجة الرابعة : التمسك بأثر عمر : حكى أن طلحة نكح يهودية ، وحذيفة نصرانية ، فغضب عمر رضي الله عنه عليهما غضباً شديداً ، فقالا : نحن نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب/ فقال : إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن ، ولكن أنتزعهن منكم.
أجاب الأولون عن الحجة الأولى بأن من قال : اليهودي والنصراني لا يدخل تحت اسم المشرك فالإشكال عنه ساقط ، ومن سلم ذلك قال : إن قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} (المائدة : 5) أخص من هذه الآية ، فإن صحت الرواية أن هذه الحرمة ثبتت ثم زالت جعلنا قوله : {وَالْمُحْصَنَـاتُ} ناسخاً ، وإن لم تثبت جعلناه مخصصاً ، أقصى ما في الباب أن النسخ والتخصيص خلاف الأصل ، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التوفيق بين الآيتين إلا بهذا الطريق وجب المصير إليه ، أما قوله ثانياً أن تحريم نكاح الوثنية إنما كان لأنها تدعو إلى النار ، وهذا المعنى قائم في الكتابية ، قلنا : الفرق بينهما أن المشركة متظاهرة بالمخالفة والمناصبة ، فلعل الزوج يحبها ، ثم أنها تحمله على المقاتلة مع المسلمين ، وهذا المعنى غير موجود في الذمية ، لأنها مقهورة راضية بالذلة والمسكنة ، فلا يفضي حصول ذلك النكاح إلى المقاتلة ، أما قوله ثالثاً إن آية التحريم والتحليل قد تعارضتا ، فنقول : لكن آية التحليل خاصة ومتأخرة بالإجماع ، فوجب أن تكون متقدمة على آية التحريم وهذا بخلاف الآيتين في الجمع بين الأختين في ملك اليمين ، لأن كل واحدة من تينك الآيتين أخص من الأخرى من وجه وأعم من وجه آخر ، فلم يحصل سبب الترجيح فيه.
أما قوله ههنا : {وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} (المائدة : 5) أخص من قوله : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } مطلقاً ، فوجب حصول الترجيح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
وأما التمسك بقوله تعالى : {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه } (المائدة : 5).
فجوابه : أنا لما فرقنا بين الكتابية وبين المرتدة في أحكام كثيرة ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم ؟
.
وأما التمسك بأثر عمر فقد نقلنا عنه أنه قال : ليس بحرام ، وإذا حصل التعارض سقط الاستدلال والله أعلم.
المسألة الخامسة : اتفق الكل على أن المراد من قوله : {حَتَّى يُؤْمِنَّ } الإقرار بالشهادة والتزام / أحكام الإسلام ، وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار وقالوا إن الله تعالى جعل الإيمان ههنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم ههنا الإقرار ، فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار ، واحتج أصحابنا على فساد هذا المذهب بوجوه : أحدها : أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3) أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وثانيها : قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا هُم} (البقرة : 11) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإفراد لكان قوله تعالى : {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كذباً وثالثها : قوله : {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } (الحجرات : 14) ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } كذباً ، ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الإطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب.
المسألة السادسة : نقل عن الحسن أنه قال : هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي : كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة ، لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين ، أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتاً من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة.
أما قوله تعالى : {وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو مسلم : اللام في قوله : {وَلامَةٌ} في إفادة التوكيد تشبه لام القسم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
(1/896)
المسألة الثانية : الخير هو النفع الحسن : والمعنى : أن الشركة لو كانت ثابة في المال والجمال والنسب ، فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة ، فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة ، وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حركة مشركة ، واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما : أن اللفظ مطلق والثاني : أن قوله : {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } يدل على صفة الحرية ، لأن التقدير : ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها ، فكل ذلك داخل تحت قوله : {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } .
المسألة الثالثة : قال الجبائي : إن الآية دالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، وذلك لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يجوز له التزوج بالأمة لكن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الكفر والإيمان لا يتفاوت بقدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، / فيلزم قطعاً أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة ، وهذا استدلال لطيف في هذه المسألة.
المسألة الرابعة : في الآية إشكال وهو أن قوله : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ} يقتضي حرمة نكاح المشركة ، ثم قوله : {وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الفة ولأحدهما مزية.
قلنا : نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا ، ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة ، والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعاً ، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فاندفع السؤال والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة.
وقوله : {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} فالكلام فيه على نحو ما تقدم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
أما قوله : {أُوالَـا ئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية نظير قوله : {مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَواةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} (غافر : 41).
فإن قيل : فكيف يدعون إلى النار وربما لم يؤمنوا بالنار أصلاً ، فكيف يدعون إليها.
وجوابه : أنهم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها : أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار ، فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة ، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض ، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه.
فإن قيل : احتمال المحبة حاصل من الجانبين ، فكما يحتمل أن يصير المسلم كافراً بسبب الألفة والمحبة ، يحتمل أيضاً أن يصير الكافر مسلماً بسبب الألفة والمحبة ، وإذا تعارض الإحتمالان وجب أن يتساقطا ، فيبقى أصل الجواز.
قلنا : إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة ، وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة ، والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع/ وبين أن يلحقه ضرر عظيم ، وفي مثل هذه الصورة يجب الإحتراز عن الضرر ، فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق.
التأويل الثاني : أن في الناس من حمل قوله : {أُوالَـا ئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وبين غيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق.
التأويل الثالث : أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل / النار ، فهذا هو الدعوة إلى النار {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ} حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِه } ففيه قولان :
القول الأول : أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة ، فكأنه قيل : أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى ، وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة والثاني : أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها ، قال : {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
(1/897)
أما قوله : {بِإِذْنِه } فالمعنى بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة ، ونظيره قوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } (يونس : 100) وقوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران : 145) وقوله : {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّه } (البقرة : 102) وقرأ الحسن {وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِه } بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسيره.
أما قوله تعالى : {وَيُبَيِّنُ ءَايَـاتِه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فمعناه ظاهر.
الحكم السابع
في المحيض
جزء : 6 رقم الصفحة : 407
414
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى جمع في هذا الموضع ستة من الأسئلة ، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو ، وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو ، والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ ، / وسألو عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن كذا ، والسؤال عن كذا.
المسألة الثانية : روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها ، والنصارى كانوا يجامعونهن ، ولا يبالون بالحيض ، وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس فلما نزلت هذه الآية أخذ المسلمون بظاهر الآية فأخرجوهن من بيوتهن فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد ، والثياب قليلة ، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرناها هلكت الحيض ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ، ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم ، فلما سمع اليهود ذلك قالوا : هذا الرجل يريد أن لا يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه ، ثم جاء عباد بن بشير ، وأسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأخبراه بذلك وقالا : يا رسول الله أفلا ننكحهن في المحيض ؟
فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ظننا أنه غضب عليها فقاما ، فجاءته هدية من لبن ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلّم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما.
المسألة الثالثة : أصل الحيض في اللغة السيل يقال : حاض السيل وفاض ، قال الأزهري : ومنه قيل للحوض حوض ، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل إليه ، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو لأنهما من جنس واحد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
إذا عرفت هذا فنقول : إن هذا البناء قد يجيء للموضع ، كالمبيت ، والمقيل ، والمغيب ، وقد يجيء أيضاً بمعنى المصدر ، يقال : حاضت محيضاً ، وجاء مجيئاً ، وبات مبيتاً ، وحكى الواحدي في "البسيط" عن ابن السكيت : إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة ، نحو : كال يكيل ، وحاض يحيض ، وأشباهه فإن الإسم منه مكسور ، والمصدر مفتوح من ذلك مال ممالا ، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم ، وبالفتح إلى المصدر ، ولو فتحهما جميعاً أو كسرهما في المصدر والاسم لجاز ، تقول العرب : المعاش والمعيش ، والمغاب والمغيب ، والمسار والمسير ، فثبت أن لفظ المحيض حقيقة في موضوع الحيض ، وهو أيضاً اسم لنفس الحيض وإذا ثبت هذا فاعلم أن أكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض ههنا الحيض ، وعندي أنه ليس كذلك ، إذ لو كان المراد بالمحيض ههنا الحيض لكان قوله : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } معناه : فاعتزلوا النساء في الحيض ، ويكون المراد فاعتزلوا النساء في زمان الحيض ، فيكون ظاهره مانعاً من الإستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة ولما كان هذا المنع غير ثابت لزم القول بتطرق النسخ أو التخصيص إلى الآية ، ومعلوم أن ذلك خلاف الأصل أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض كان معنى الآية : فاعتزلوا النساء في / موضع الحيض ، ويكون المعنى : فاعتزلوا موضع الحيض من النساء/ وعلى هذا التقدير لا يتطرق إلى الآية نسخ ولا تخصيص ، ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان مشتركاً بين معنيين ، وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور ، فإن حمل اللفظ على المعنى الذي لا يوجب المحذور أولى ، هذا إذا سلمنا أن لفظ المحيض مشترك بين الموضع وبين المصدر ، مع أنا نعلم أن استعمال هذا اللفظ في موضع أكثر وأشهر منه في المصدر.
فإن قيل : الدليل على أن المراد من المحيض الحيض أنه قال : {هُوَ أَذًى} أي المحيض أذى ، ولو كان المراد من المحيض الموضع لما صح هذا الوصف.
(1/898)
قلنا : بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض ، فالحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص ، والأذى كيفية مخصوصة ، وهو عرض ، والجسم لا يكون نفس العرض ، فلا بد وأن يقولوا : المراد منه أن الحيض موصوف بكونه أذى ، وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضاً أن نقول : المراد أن ذلك الموضع ذو أذى ، وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد من المحيض الأول هو الحيض ، ومن المحيض الثاني موضع الحيض ، وعلى هذا التقدير يزول ما ذكرتم من الإشكال ، فهذا ما عندي في هذا الموضع وبالله التوفيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
أما قوله تعالى : {قُلْ هُوَ أَذًى} فقال عطاء وقتادة والسدي : أي قذر ، واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } الاعتزال التنحي عن الشيء ، قدم ذكر العلة وهو الأذى ، ثم رتب الحكم عليه ، وهو وجوب الإعتزال.
فإن قيل : ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة.
قلنا : العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة ، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط ، فكان أذى وقذر ، أما دم الاستحاضة فليس كذلك ، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى ، هذا ما عندي في هذا الباب ، وهو قاعدة طيبة ، وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة : اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية ، أما الصفات الحقيقية فأمران أحدهما : المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم ، قال تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} (البقرة : 228) قيل في تفسيره : المراد منه الحيض والحمل ، وأما دم الاستحاضة ، فإنه لا يخرج من الرحم ، لكن من عروق تنقطع في فم الرحم ، قال عليه والسلام في صفة دم الاستحاضة : "إنه دم عرق انفجر" وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع للنقض / عن تعليل القرآن.
والنوع الثاني : من صفات دم الحيض : الصفات التي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم دم الحيض بها أحدها : أنه أسود والثاني : أنه ثخين والثالث : أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته الرابعة : أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلاناً والخامسة : أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة السادسة : أنه بحراني ، وهو شديد الحمرة وقيل : ما تحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر ، فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية.
ثم من الناس من قال : دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفاً بهذه الصفات فهو دم الحيض ، وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض ، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض ، فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان ، ومن الناس من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف ، فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة ، فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء/ ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء ، والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف ، ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن ، وتصير المرأة به بالغة ، والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
المسألة الخامسة : اختلف الناس في مدة الحيض فقال الشافعي رحمه الله تعالى : أقلها يوم وليلة ، وأكثرها خمسة عشر يوماً ، وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحق رضي الله عنهم ، وقال أبو حنيفة والثوري : أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد ، وأكثره عشرة أيام ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء : إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً ، ثم تركه وقال مالك لا تقدير لذلك في القلة والكثرة ، فإن وجد ساعة فهو حيض ، وإن وجد أياماً فكذلك ، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال : لو كان المقدار ساقطاً في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة ، لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة ، ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي صلى الله عليه وسلّم إني أستحاض فلا أطهر ، وأيضاً روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلّم لهما إن جميع ذلك حيض ، بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة ، فبطل هذا القول والله أعلم.
(1/899)
/ واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن لقائل أن يقول : إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لدم الحيض ، فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض ، وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض ، وإذا ترددنا في الأمرين كان طريقان الحيض مجهولاً وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم والمشكوك لا يعارض المعلوم ، فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية ، فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زمان معين ، وحجة مالك من وجهين الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم بين علامة دم الحيض وصفته بقوله : "دم الحيض هو الأسود المحتدم" فمتى كان الدم موصوفاً بهذه الصفة كان الحيض حاصلاً ، فيدخل تحت قوله تعالى : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } وتحت قوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش : "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة".
الحجة الثانية : أنه تعالى قال في دم الحيض : {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } ذكر وصف كونه أذى في معرض بيان العلة لوجوب الإعتزال ، وإنما كان أذى للرائحة المنكرة التي فيه ، واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه ، وإذا كان وجوب الاعتزال معللاً بهذه المعاني فعند حصول هذه المعاني وجب الاحتراز عملاً بالعلة المذكورة في كتاب الله تعالى على سبيل التصريح ، وعندي أن قول مالك قوي جداً ، أما الشافعي فاحتج على أبي حنيفة وجهين :
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
الحجة الأولى : أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته وفي الزائد على العشرة بدليل أنه عليه السلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم ، فإذا وجد ذلك فقد حصل الحيض ، فيدخل تحت عموم قوله تعالى : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } تركنا العمل بهذا الدليل في الأقل من يوم وليلة ، وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً بالاتفاق بيني وبين أبي حنيفة ، فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدة.
الحجة الثانية : للشافعي في جانب الزيادة ما روي أنه صلى الله عليه وسلّم لما وصف النسوان بنقصان الدين/ فسر ذلك بأن قال : تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي ، وهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً ، لأن على هذا التقدير يكون الطهر أيضاً خمسة عشر يوماً فيكون الحيض نصف عمرها ، ولو كان الحيض أقل من ذلك لما وجدت امرأة لا تصلي نصف عمرها ، أجاب أبو بكر الرازي عنه من وجهين الأول : أن الشطر ليس هو النصف بل هو البعض والثاني : أنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها ، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها.
والجواب عن الأول : أن الشطر هو النصف ، يقال : شطرت الشيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل : أجلب جلباً لك شطره ، أي نصفه ، وعن الثاني أن قوله عليه السلام : "تمكث إحداهن شطر عمرها لا نصلي" إنما يتناول زمان هي تصلي فيه ، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ ، واحتج / أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة من وجوه :
الحجة الأولى : ما روى عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشر أيام" قال أبو بكر : فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد.
الحجة الثانية : ما روى عن أنس بن مالك ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي أنهما قالا الحيض ثلاثة أيام وأربعة أيام إلى عشرة أيام وما زاد فهو استحاضة والاستدلال به من وجهين أحدهما : أن القول إذا ظهر عن الصحابي ولم يخالفه أحد كان إجماعاً والثاني : أن التقدير مما لا سبيل إلى العقل إليه متى روى عن الصحابي فالظاهر أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلّم.
الحجة الثالثة : قوله عليه السلام لحمنة بنت جحش : "تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء في كل شهر" مقتضاه أن يكون حيض جميع النساء في كل شهر هذا القدر خالفنا هذا الظاهر في الثلاثة إلى العشرة فيبقى ماعداه على الأصل.
الحجة الرابعة : قوله عليه السلام في حق النساء : "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن ، فقيل ما نقصان دينهن ؟
قال : تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي" وهذا الخبر يدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليال ، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة لأنه لا يقال في الواحد والإثنين لفظ الأيام ، ولا يقال في الزائد على العشرة أيام ، بل يقال : أحد عشر يوماً أما الثلاثة إلى العشرة فيقال فيها أيام ، وأيضاً قال صلى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش دعى الصلاة أيام أقرائك ولفظ الأيام مختص بالثلاثة إلى العشرة ، وفي حديث أم سلمة في المرأة التي سألته أنها تهرق الدم ، فقال : لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر فلتترك الصلاة ذلك القدر من الشهر ، ثم لتغتسل ولتصل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
فإن قيل : لعل حيض تلك المرأة كان مقدراً بذلك المقدار.
(1/900)
قلنا : إنه عليه السلام ما سألها عن قدر حيضها بل حكم عليها بهذا الحكم مطلقاً فدل على أن الحيض مطلقاً مقدر بما ينطلق عليه لفظ الأيام وأيضاً قال في حديث عدي بن ثابت المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها ، وذلك عام في جميع النساء.
الحجة الخامسة : وهي حجة ذكرها الجبائي من شيوخ المعتزلة في "تفسيره" فقال : إن فرض الصوم والصلاة لازم يتعين للعمومات الدالة على وجوبهما ترك العمل بها في الثلاثة إلى العشرة فوجب بقاؤها على الأصل فيما دون الثلاثة وفوق العشرة وذلك لأن فيما دون الثلاثة حصل اختلاف للعلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضاً وما زاد على العشرة ففيه أيضاً اختلاف العلماء فأورث شبهة فلم نجعله حيضاً ، فأما من الثلاثة إلى العشرة فهو متفق عليه فجعلناه حيضاً فهذا خلاصة كلام الفقهاء في هذ المسألة وبالله التوفيق.
/ المسألة السادسة : اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض ، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة/ واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة ، فنقول : إن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط ، فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه ، بل من يقول : إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه ، يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع ، أما من يفسر المحيض بالحيض ، كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض ، ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة ، فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة وبالله التوفيق.
أما قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَا فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } فاعلم أن قوله : {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} أي ولا تجامعوهن ، يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } ويمكن أيضاً حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } نهياً عن المباشرة في موضع الدم وقوله : {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} يكون نهياً عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب الحضرمي ، وأبو بكر عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة من الطهارة ، وقرأ حمزة والكسائي {يَطْهُرْنَ } بالتشديد ، وكذلك حفص عن عاصم ، فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها ، وذلك إذا انقطع الحيض ، فالمعنى : لا تقربون حتى يزول عنهم الدم ، ومن قرأ : {يَطْهُرْنَ } بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله : {عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (المزمل : 1) ، ويا أيها المدثر} (المدثر : 1) أي المتزمل والمتدثر وبالله التوفيق.
المسألة الثانية : أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري ، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها ، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال ، حجة الشافعي من وجهين.
الحجة الأولى : أن القراءة المتواترة ، حجة بالإجماع ، فإذا حصلت قراءتان متواترتان وأمكن الجمع بينهما ، وجب الجمع بينهما.
إذا ثبت هذا فنقول : قرىء {حَتَّى يَطْهُرْنَ } بالتخفيف وبالتثقيل بالتخفيف عبارة عن انقطاع الدم ، وبالتثقيل عبارة عن التطهر بالماء والجمع بين الأمرين ممكن ، وجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين ، وإذا كان وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين.
(1/901)
/ الحجة الثانية : أن قوله تعالى : {يَطْهُرْنَا فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} علق الإتيان على التطهر بكلمة {إِذَآ} وكلمة {إِذَآ} للشرط في اللغة ، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط ، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر ، حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى : {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } نهى عن قربانهن وجعل غاية ذلك النهي أن يطهرن بمعنى ينقطع حيضهن ، وإذا كان انقطاع الحيض غاية لهذا النهي وجب أن لا يبقى هذا النهي عند انقطاع الحيض ، أجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله : {حَتَّى يَطْهُرْنَ } لكان ما ذكرتم لازماً ، أما لما ضم إليه قوله : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} صار المجموع هو الغاية وذلك بمنزلة أن يقول الرجل : لا تكلم فلاناً حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه ، فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً ، وإذا ثبت أنه لا بد بعد انقطاع الحيض من التطهر فقد اختلفوا في ذلك التطهر فقال الشافعي وأكثر الفقهاء : هو الاغتسال وقال بعضهم : وهو غسل الموضع ، وقال عطاء وطاوس : هو أن تغسل الموضع وتتوضأ ، والصحيح هو الأول لوجهين الأول : أن ظاهر قوله : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} حكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يحصل هذا التطهر في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها والثاني : أن حمله على التطهر الذي يختص الحيض بوجوبه أولى من التطهر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحيض ، فهذا يوجب أن المراد به الاغتسال وإذا أمكن بوجود الماء وإن تعذر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمم يقوم مقامه ، وإنما أثبتنا التيمم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع ، وإلا فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلا عند الاغتسال بالماء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد بقوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } وفيه وجوه الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة : فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به ، ولا تؤتوهن في غير المأتي ، وقوله : {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } أي في حيث أمركم الله ، كقوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ} أي في يوم الجمعة. الثاني : قال الأصم والزجاج : أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن ، وذلك بأن لا يكن صائمات ، ولا معتكفات ، ولا محرمات الثالث : وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور ، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة {حَيْثُ} حقيقة في المكان مجاز في غيره.
أما قوله : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فالكلام في تفسير محبة الله تعالى ، وفي تفسير التوبة قد تقدم فلا نعيده إلا أنا نقول : التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة ، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة.
فإن قيل : ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقاً والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب ، فمن لم يكن مذنباً وجب أن لا تحسن منه التوبة.
/ والجواب من وجهين : الأول : أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير ، فتلزمه التوبة دفعاً لذلك التقصير المجوز الثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني {التَّوْبَةُ} في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع ، إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي ، والترك في الحاضر ، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي ، ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول : مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية ، فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال ، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية ، لئلا يتوجه الطعن والسؤال.
أما قوله تعالى : {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ففيه وجوه أحدها : المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه ، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه ، ولا ثالث لهذين القسمين ، واللفظ محتمل لذلك ، لأن الذنب نجاسة روحانية ، ولذلك قال : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة : 28) فتركه يكون طهارة روحانية ، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزهاً عن العيوب والقبائح ، ويقال : فلان طاهر الذيل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
والقول الثاني : أن المراد : لا يأتيها في زمان الحيض ، وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } ومن قال بهذا القول قال : هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُم إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (الأعراف : 82) فكان قوله : {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ترك الإتيان في الأدبار.
(1/902)
والقول الثالث : أنه تعالى لما أمرنا بالتطهر في قوله : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فلا جرم مدح المتطهر فقال : {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والمراد منه التطهر بالماء ، وقد قال تعالى : {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة : 108) فقيل في التفسير : أنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم.
الحكم الثامن
جزء : 6 رقم الصفحة : 414
421
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها : روي أن اليهود قالوا : من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلاً ، وزعموا أن ذلك في التوراة ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : كذبت اليهود ونزلت هذه الآية وثانيها : روي عن ابن عباس أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله هلكت ، وحكى وقوع ذلك منه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها : كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها ، وكانوا أخذوا ذلك من اليهود ، وكانت قريش تفعل ذلك فأنكرت الأنصار ذلك عليهم ، فنزلت الآية.
المسألة الثانية : {حَرْثٌ لَّكُمْ} أي مزرع ومنبت للولد ، وهذا على سبيل التشبيه ، ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات الخارج ، والحرث مصدر ، ولهذا وحد الحرث فكان المعنى نساؤكم ذوات حرث لكم فيهن تحرثون للولد ، فحذف المضاف ، وأيضاً قد يسمى موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة كقوله :
فإنما هي إقبالي وإدبار
ويقال : هذا أمر الله ، أي مأموره ، وهذا شهوة فلان ، أي مشتهاه ، فكذلك حرث الرجل محرثة.
المسألة الثالثة : ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها ، فقوله : {أَنَّى شِئْتُمْ } محمول على ذلك ، ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن ، وسائر الناس كذبوا نافعاً في هذه الرواية ، وهذا قول مالك ، واختيار السيد المرتضى من الشيعة ، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه ، وحجة من قال : إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه :
الحجة الأولى : أن الله تعالى قال في آية المحيض : {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } (البقرة : 222) جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 421
الحجة الثانية : قوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } (البقرة : 222) وظاهر الأمر للوجوب ، ولا يمكن أن يقال : إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب ، فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر ، لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولاً على القبل ، وذلك هو المطلوب.
/ الحجة الثالثة : روى خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلّم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : حلال ، فلما ولى الرجل دعاه فقال : كيف قلت في أي الخربتين ، أو في أي الخرزتين ، أو في أي الخصفتين ، أو من قبلها في قبلها فنعم ، أمن دبرها في قبلها فنعم ، أمن دبرها في دبرها فلا ، إن الله لا يستحي من الحق : "لا تؤتوا النساء في أدبارهن" وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها ، والخرزة هي التي يثقبها الخراز ، كنى به عن المأتي ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته ، حجة من قال بالجواز وجوه :
الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية من وجهين الأول : أنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة فقال : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين ، فلما قال بعده : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه ، فيدخل فيه محل النزاع.
الوجه الثاني : أن كلمة {إِنِّى} معناها أين ، قال الله تعالى : {أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه } (الأعراف : 37خ والتقدير : من أين لك هذا فصار تقدير الآية : فأتوا حرثكم أين شئتم وكلمة : أين شئتم ، تدل على تعدد الأمكنة : اجلس أين شئت ويكون هذا تخييراً بين الأمكنة.
(1/903)
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها ، أو من دبرها في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد ، والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان ، واللفظ اللائق به أن يقال : اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور ههنا لفظة : كيف ، بل لفظة {إِنِّى} ويثبت أن لفظة {إِنِّى} مشعرة بالتخيير بين الأمكنة ، ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 421
الحجة الثانية : لهم : التمسك بعموم قوله تعالى : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المؤمنون : 6) ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع ، فوجب أن يبقى معمولاً به في حق النسوان.
الحجة الثالثة : توافقنا على أنه لو قال للمرأة : دبرك على حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقاً ، وهذا يقتضي كون دبرها حلالاً له ، هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.
أجاب الأولون فقالوا : الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه الأول : أن الحرث اسم لموضع الحراثة ، ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعاً للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة ، ويقتضي هذا الدليل أن لايطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة ، فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه ، وهذه الصورة مفقودة في قوله : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} فوجب حمل الحرث ههنا على / موضع الحراثة على التعيين ، فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتى.
الوجه الثاني : في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين أحدهما : قوله : {قُلْ هُوَ أَذًى} (البقرة : 222) والثاني : قوله : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعاً بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد ، والأصل أنه لا يجوز.
الوجه الثالث : الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها ، وسبب نزول الآية لا يكون خارجاً عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة ، ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه ، وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل.
أما الوجه الأول : فقد بينا أن قوله : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} معناه : فأتوه موضع الحرث.
وأما الثاني : فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ذلك الموضع المعين لم يكن حمل {أَنَّى شِئْتُمْ } على التخيير في مكان ، وعند هذا يضمر فيه زيادة ، وهي أن يكون المراد من {أَنَّى شِئْتُمْ } فيضمر لفظة : من ، لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته ، والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز ، حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول : بل هذا أولى ، لأن الأصل في الإبضاع الحرمة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 421
وأما الثالث : فجوابه : أن قوله : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المؤمنون : 6) عام ، ودلائلنا خاصة ، والخاص مقدم على العام.
وأما الرابع : فجوابه : أن قوله : دبرك على حرام ، إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق ، لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة ، فصار ذلك كقوله : يدك طالق ، والله أعلم.
المسألة الرابعة : اختلف المفسرون في تفسير قوله : {أَنَّى شِئْتُمْ } والمشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها ، ومن دبرها في قبلها والثاني : أن المعنى : أي وقت شئتم من أوقات الحل : يعنى إذا لم تكن أجنبية ، أو محرمة ، أو صائمة ، أو حائضاً والثالث : أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة ، أو مضطجعة ، بعد أن يكون في الفرج الرابع : قال ابن عباس : المعنى إن شاء ، وإن شاء لم يعزل ، وهو منقول عن سعيد بن المسيب الخامس : متى شئتم من ليل أو نهار.
فإن قيل : فما المختار من هذه الأقاويل ؟
.
قلنا : قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون : من أتى / المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم ، فكان الأولى حمل اللفظ عليه ، وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب ، لأن {إِنِّى} يكون بمعنى {مَتَى } ويكون بمعنى {كَيْفَ} وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت {إِنِّى} لأن حال الجماع لا يختلف بذلك ، فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا.
(1/904)
أما قوله : {وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ } فمعناه : افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره : قدم لنفسك عملاً صالحاً ، وهو كقوله : {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة : 197) ونظير لفظ التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله : {قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُم أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} (ص : 60).
فإن قيل : كيف تعلق هذا الكلام بما قبله ؟
.
جزء : 6 رقم الصفحة : 421
قلنا : نقل عن ابن عباس أنه قال : معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد ، والذي عندي فيه أن قوله : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء ، كأنه قيل : هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث ، فأتوا حرثكم ، ولاتأتوا غير موضع الحرث ، فكان قوله : {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} دليلاً على الإذن في ذلك الموضع ، والمنع من غير ذلك الموضع ، فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين ، والمنع عن الموضع الآخر ، لا جرم قال : {وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ } أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ثم أكده ثالثاً بقوله : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوه } وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى ، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل ، وما بعدها أيضاً دال على تحريمه ، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين.
أما قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوه } فاعلم أن الكلام في التقوى قد تقدم ، والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46) واعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة أولها : {وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ } والمراد منه فعل الطاعات وثانيها : قوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} والمراد منه ترك المحظورات وثالثها : قوله : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوه } وفيه إشارة إلى أنى إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب ، فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثاً وما أحسن هذا الترتيب ، ثم قال : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن / وهو أن يجعل مع كل وعيد وعداً والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهم كالمعلوم ، فصار كقوله : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} (الأحزاب : 47).
الحكم التاسع
في الأيمان
جزء : 6 رقم الصفحة : 421
424
والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية ، وأجود ما ذكروه وجهان الأول : وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو الأحسن أن قوله : {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ} نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به ، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل : قد جعلتني عرضة للومك ، وقال الشاعر :
ولا تجعلني عرضة للوائم
وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله : {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ} (القلم : 10) وقال تعالى : {وَاحْفَظُوا أَيْمَـانَكُمْ } (المائدة : 89) والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف ، كما قال كثير :
قليل الألا يا حافظ ليمينه
وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع ، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة ، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين ، وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية.
وأما قوله تعالى بعد ذلك : {أَن تَبَرُّوا } فهو علة لهذا النهي ، فقوله : {أَن تَبَرُّوا } أي إرادة أن تبروا ، والمعنى : إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.
فإن قيل : وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس ؟
.
(1/905)
قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في / مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل ، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله ، وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته ، وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.
التأويل الثاني : قالوا : العرضة عبارة عن المانع ، والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال : أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا ، واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه ، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعاً للناس من السلوك والمرور ويقال : اعترض فلان على كلام فلان ، وجعل كلامه معارضاً لكلام آخر ، أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه ، إذا عرفت أصل الاستقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول ، كالقبضة ، والغرفة ، فيكون اسماً لما يجعل معرضاً دون الشيء ، ومانعاً منه ، فثبت أن العرضة عبارة عن المانع ، وأما اللام في قوله : {لايْمَـانِكُمْ} فهو للتعليل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 424
إذا عرفت هذا فنقول : تقدير الآية : ولا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا ، فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره ، قالوا : وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم ، أو إصلاح ذات البين ، أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر ، ولكن لا فائدة فيها فتركناها/ ثم قال في آخر الآية : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي : إن حلفتم يسمع ، وإن تركتم الحلف تعظيماً لله وإجلالاً له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأعراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 424
426
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : {اللَّغْوَ} الساقط الذي لا يعتد به ، سواء كان كلاماً أو غيره ، أما ورود هذه اللفظة في الكلام ، فيدل عليه الآية والخبر والرواية ، أما الآية فقوله تعالى : {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص : 55) وقوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} (الواقعة : 25) وقوله : {لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ} (فصلت : 26) وقوله : {لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً} (الغاشية : 11) أما قوله : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) فيحتمل أن يكون المراد ، وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغواً ، وأن يكون المراد ، وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغواً.
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلّم : "من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا".
وأما الرواية فيقال : لغا الطائر يلغو لغواً إذا صوت ، ولغو الطائر تصويته ، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام ، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل : لغو ، قال جرير :
يعد الناسبون بني تميم
بيوت المجد أربعة كباراً
وتخرج منهم المرئى لغوا
كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء : اللغا ، مصدر للغيت ، و{اللَّغْوَ} مصدر للغوت ، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً الأول : قال الشافعي رضي الله عنه : إنه قول العرب : لا والله ، وبلى والله ، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف ، ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك ، ولعله قال : لا والله ألف مرة والثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو ، وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والنخعي والزهري ، وسليمان بن يسار ، وقتادة ، والسدي ، ومكحول ، حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول : ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله ، وبلى والله ، ولا والله" وروى أنه صلى الله عليه وسلّم مر بقوم ينتضلون ، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم ، فقال : أصبت والله ، ثم أخطأ ، ثم قال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلّم : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب ، وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 426
(1/906)
الحجة الثانية : أن قوله : {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب/ ولكن المراد من / قوله : {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام : لا والله بلى والله ، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلاً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك ، فلم يكن ذلك لغواً ألبتة بل كان ذلك حاصلاً بكسب القلب.
الحجة الثالثة : أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية : {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ} (البقرة : 224) وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين ، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد : لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف ، فذكر تعالى عقيب قوله : {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ} حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف ، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية ، فأما الذي قال أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه.
الحجة الأولى : قوله صلى الله عليه وسلّم : "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل.
الحجة الثانية : أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق ، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس : لا والله بلى والله ، إذا حصل الحنث ، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي ، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة ، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين ، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلاً للتقوية ، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة ، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها ، والخالي عن المطلوب يكون لغواً ، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي ، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية ، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغواً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 426
القول الثالث : في تفسير يمين اللغو : هو أنه إذا حلف على ترك طاعة ، أو فعل معصية ، / فهذا هو يمين اللغوا وهو المعصية. قال تعالى : {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص : 55) فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان ، ثم قال : {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية ، قالوا : وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام : "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر" وهذا التأويل ضعيف من وجهين الأول : هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى : {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَا فَكَفَّـارَتُه } (المائدة : 89) ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وههنا الكفارة واجبة/ علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة الثاني : أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب ، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد ، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب.
القول الرابع : في تفسير يمين اللغو : أنها اليمين المكفرة سميت لغواً لأن الكفارة أسقطت الإثم ، فكأنه قيل : لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم ، وهذا قول الضحاك.
القول الخامس : وهو قول القاضي : أن المراد به ما يقع سهواً غير مقصود إليه ، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك : {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } أي يؤاخذكم إذا تعمدتم ، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو.
(1/907)
المسألة الثانية : احتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على وجوب الكفارة في اليمين الغموس ، قال : إنه تعالى ذكر ههنا {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وقال في آية المائدة : {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَ } وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد منه عقد القلب به ، ولأن يكون المراد به العقد الذي يضاد الحل ، فلما ذكر ههنا قوله : {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب ، وأيضاً ذكر المؤاخذة ههنا ، ولم يبين أن تلك المؤاخذة ما هي ، وبينها في آية المائدة بقوله : {وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَا فَكَفَّـارَتُه } فبين أن المؤاخذة هي الكفارة ، فكل واحدة من هاتين الآيتين مجملة من وجه ، مبينة من وجه آخر فصارت كل واحدة منهما مفسرة للأخرى من وجه ، وحصل من كل واحدة منهما أن كل يمين ذكر على سبيل الجد وربط القلب ، فالكفارة واجبة فيها ، واليمين الغموس كذلك فكانت الكفارة واجبة فيها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 426
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقد علمت أن : الغفور ، مبالغة في ستر الذنوب ، وفي إسقاط عقوبتها ، وأما : الحليم ، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون ، يقال : ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي على أشدها تؤدة في السير ، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون ، وحلمة الثدي ، ومعنى : الحليم ، في صفة الله : الذي لا يعجل بالعقوبة ، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 426
428
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : آلى يؤالي إيلاء ، وتألى يتألى تألياً ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والإسم منه ألية وألوة ، كلاهما بالتشديد ، وحكى أبو عبيدة الوة والوة والوة ثلاثة لغات ، وبالجملة فالألية والقسم واليمين ، والحلف ، كلها عبارات عن معنى واحد ، وفي الحديث حكاية عن الله تعالى : "آليت أفعل خلاف المقدرين" وقال كثير :
قليل الألايا حافظ ليمينه
فإن سبقت منه الألية برت
هذا هو معنى اللفظ بحسب أصل اللغة ، أما في عرف الشعر فهو اليمين على ترك الوطء ، كما إذا قال : والله لا أجامعك ، ولا أباضعك ، ولا أقربك ، ومن المفسرين من قال : في الآية حذف تقديره : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم ، إلا أنه حذف لدلالة الباقي عليه ، وأنا أقول : هذا الإضمار إنما يحتاج إليه إذا حملنا لفظ الإيلاء على المعهود اللغوي ، أما إذا حملناه على المتعارف في الشرع استغنينا عن هذا الإضمار.
المسألة الثانية : روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً قال سعيد بن المسيب : كان الرجل لا يريد المرأة ولا يجب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها ، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل ، والغرض منه مضارة المرأة ، ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً ، فأزال الله تعالى ذلك وأمهل للزوج مدة حتى يتروى ويتأمل ، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها.
المسألة الثالثة : قرأ عبد الله {يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} .
أما قوله : {مِن نِّسَآئِهِمْ} ففيه سؤال ، وهو أنه يقال : المتعارف أن يقال : حلف فلان على / كذا أو آلى على كذا ، فلم أبدلت لفظة {عَلَى} ههنا بلفظة {مِّنْ} ؟
.
والجواب من وجهين : الأول : أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر ، كما يقال : لي منك كذا والثاني : أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
أما قوله تعالى : {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال : تربصت الشيء تربصاً ، ويقال : ما لي على هذا الأمر ربصة ، أي تلبث ، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله : بينهما مسيرة يوم ، أي مسيرة في يوم ومثله كثير.
أما قوله : {فَإِن فَآءُو} فمعناه فإن رجعوا ، والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل ، ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود : فيء ، وفرق أهل العربية بين الفيء والظل ، فقالوا : الفيء ما كان بالعشي ، لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء ، لأنه لا شمس فيها ، قال الله تعالى : {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} (الواقعة : 30) وأنشدوا :
فلا الظل من برد الضحى يستطيعه
ولا الفيء من برد العشي يذوق
وقيل : فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب ، أي سريع الرجوع عن الغصب إلى الحالة المتقدمة وقيل : لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله : {فَإِن فَآءُو} معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين.
(1/908)
أما قوله تعالى : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فاعلم أن العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يعوم عزماً وعزيمة ، وعزمت عليك لتفعلن ، أي أقسمت ، والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقاً ، وقال الليث : طلقت بضم اللام ، وقال ابن الأعرابي : طلقت بضم اللام من الطلاق أجود ، ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالاً في الشرع ، وأصله من الإنطلاق ، وهو الذهاب ، فالطلاق عبارة عن انطلاق المرأة ، فهذا ما يتعلق بتفسير لفظ الآية.
أما الأحكام فكثيرة ونذكر هاهنا بعض ما دلت الآية عليه في مسائل :
المسألة الأولى : كل زوج يتصور منه الوقاع ، وكان تصرفه معتبراً في الشرع ، فإنه يصح منه الإيلاء ، وهذا القيد معتبر طرداً وعكساً. أما الطرد فهو أن كل من كان كذلك صح إيلاؤه ، ويتفرع عليه أحكام الأول : يصح إيلاء الذمي ، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق لنا قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وهذا العموم يتناول الكافر والمسلم.
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
الحكم الثاني : قال الشافعي رضي الله عنه : مدة الإيلاء لا تختلف بالرق والحرية فهي أربعة أشهر سواء كان الزوجان حرين أو رقيقين ، أو أحدهما كان حراً والآخر رقيقاً ، وعند أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما تتنصف بالرق ، إلا أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة ، وعند مالك برق الرجل ، كما قالا في الطلاق لنا إن ظاهر قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} يتناول الكل ، والتخصيص خلاف الظاهر ، لأن تقدير هذه المدة إنما كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع ، وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج ، فيستوي فيه الحر والرقيق ، كالحيض ، ومدة الرضاع ومدة العنة.
الحكم الثالث : يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب ، وقال مالك : لا يصح إلا في حال الغضب لنا ظاهر هذه الآية.
الحكم الرابع : يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح ، أو كانت مطلقة طلقة رجعية ، بدليل أن الرجعية يصدق عليها أنها من نسائه ، بدليل أنه لو قال : نسائي طوالق ، وقع الطلاق عليها ، وإذا ثبت أنها من نسائه دخلت تحت الآية لظاهر قوله : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} .
أما عكس هذه القضية. وهو أن من لا يتصور منه الوقاع لا يصح إيلاؤه ، ففيه حكمان :
الحكم الأول : إيلاء الخصي صحيح ، لأنه يجامع كما يجامع الفحل ، إنما المفقود في حقه الإنزال وذلك لا أثر له : ولأنه داخل تحت عموم الآية.
الحكم الثاني : المجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يجامع به صح إيلاؤه وإن لم يبق ففيه قولان أحدهما : أنه لا يصح إيلاؤه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه والثاني : أنه يصح لعموم هذه الآية ، لأن قصد المضارة باليمين قد حصل منه.
القيد الثاني : أن يكون زوجاً ، فلو قال لأجنبية : والله لا أجامعك ثم نكحها لم يكن مؤلياً لأن قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } يفيد أن هذا الحكم لهم لا لغيرهم ، كقوله : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} (الكافرون : 6) أي لكم لا لغيركم.
المسألة الثانية : المحلوف به والحلف إما أن يكون بالله أو بغيره ، فإن كان بالله كان مولياً ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء ، وهل تجب كفارة اليمين فيه قولان : الجديد وهو الأصح ، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب كفارة اليمين ، والقديم أنه إذا فاء بعد مضي المدة أو في خلال المدة فلا كفارة عليه ، حجة القول : والله لا أقربك ثم يقربها ، وبين أن يقول : والله لا أكلمك ثم يكلمها وحجة القول القديم قوله تعالى : {فَإِن فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والاستدلال به من وجهين أحدهما : أن الكفارة لو كانت واجبة لذكرها الله ههنا ، لأن الحاجة ههنا داعية إلى / معرفتها ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والثاني : أنه تعالى كما لم يذكر وجوب الكفارة نبه على سقوطها بقوله : {فَإِن فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والغفران يوجب ترك المؤاخذة وللأولين أن يجيبوا فيقولوا : إنما ترك الكفارة ههنا لأنه تعالى بينها في القرآن وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سائر المواضع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
(1/909)
أما قوله : {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو يدل على عدم العقاب ، لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل ، كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه ، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص ، وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال : إن وطئتك فعبدي حر ، أو أنت طالق ، أو ضرتك طالق ، أو ألزم أمراً في الذمة ، فقال : إن وطئتك فلله علي عتق رقبة ، أو صدقة ، أو صوم ، أو حج ، أو صلاة ، فهل يكون مولياً للشافعي رضي الله عنه فيه قولان : قال في القديم : لا يكون مولياً ، وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية ، ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله ، وأيضاً روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال : من حلف فليحلف بالله ، فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله ، وقال في الجديد ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون مولياً لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل ، وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقاً أو طلاقاً ، فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق ، وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج ، وفيه أقوال أصحها : أن عليه كفارة اليمين والثاني : عليه الوفاء بما سمى ، والثالث : أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى ، وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون مولياً فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا : لا يكون مولياً لا يضيق عليه الأمر.
المسألة الثالثة : اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول : قول ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أبداً والثاني : قول الحسن البصري وإسحق : إن أي مدة حلف عليها كان مولياً وإن كانت يوماً ، وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث : قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع : قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم : إنه لا يكون موا لياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة ، وهذه المدة تكون حقاً للزوج ، فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق ، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه ، وعن أبي حنيفة : إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه ، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : أن الفاء في قوله : {فَإِن فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تقتضي كون هذين الحكمين مشروعين متراخياً عن انقضاء الأربعة أشهر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
فإن قيل : ما ذكرتموه ممنوع لأن قوله : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ} تفصيل لقوله : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : أنا أنزل عندكم هذا الشهر فإن أكرمتموني بقيت معكم وإلا ترحلت عنكم.
قلنا : هذا ضعيف لأن قوله : {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} هذه المدة يدل على الأمرين والفاء في قوله : {فَإِنْ} ورد عقيب ذكرهما/ فيكون هذا الحكم مشروعاً عقيب الإيلاء ، وعقيب حصول التربص في هذه المدة بخلاف المثال الذي ذكره وهو قوله : أنا أنزل عندكم فإن أكرمتموني بقيت وإلا ترحلت ، لأن هناك الفاء متأخرة عن ذلك النزول ، أما ههنا فالفاء مذكورة عقيب ذكر الإيلاء وذكر التربص ، فلا بد وأن يكون ما دخل الفاء عليه واقعاً عقيب هذين الأمرين ، وهذا كلام ظاهر.
الحجة الثانية : للشافعي رضي الله عنه أن قوله : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ} صريح في أن وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج ، وعلى قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقع الطلاق بمضي المدة لا بإيقاع الزوج.
فإن قيل : الإيلاء الطلاق في نفسه. فالمراد من قوله : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ} الإيلاء المتقدم.
قلنا : هذا بعيد لأن قوله : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ} لا بد وأن يكون معناه : وإن عزم الذين يؤلون الطلاق ، فجعل المؤلى عازماً ، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاء والعزم قد اجتمعا ، وأما الطلاق فهو متعلق العزم ، ومتعلق العزم متأخر عن العزم ، فإذاً الطلاق متأخر عن العزم لا محالة ، والإيلاء إما أن يكون مقارناً للعزم أو متقدماً ، وهذا يفيد القطع بأن الطلاق في هذه الآية مغاير لذلك الإيلاء وهذا كلام ظاهر.
الحجة الثالثة : أن قوله تعالى : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن يصدر من الزوج شيء يكون مسموعاً ، وما ذاك إلا أن نقول تقدير الآية فإن عزموا الطلاق وطلقوا فإن الله سميع لكلامهم ، عليم بما في قلوبهم.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد إن الله سميع لذلك الإيلاء.
قلنا : هذا يبعد لأن هذا التهديد لم يحصل على نفس الإيلاء ، بل إنما حصل على شيء حصل بعد الإيلاء ، وهو كلام غيره حتى يكون {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تهديداً عليه.
(1/910)
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
الحجة الرابعة : أن قوله تعالى : {وَإِنْ عَزَمُوا } ظاهره التخيير بين الأمرين ، وذلك يقتضي أن يكون وقت ثبوتهما واحداً ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك.
الحجة الخامسة : أن الإيلاء في نفسه ليس بطلاق ، بل هو حلف على الامتناع من الجماع / مدة مخصوصة إلا أن الشرع ضرب مقداراً معلوماً من الزمان ، وذلك لأن الرجل قد يترك جماع المرأة مدة من الزمان لا بسبب المضارة ، وهذا إنما يكون إذا كان الزمان قصيراً ، فأما ترك الجماع زماناً طويلاً فلا يكون إلا عند قصد المضارة ، ولما كان الطول والقصر في هذا الباب أمراً غير مضبوط ، بين تعالى حداً فاصلاً بين القصير والطويل ، فعند حصول هذه تبين قصد المضارة ، وذلك لا يوجب ألبتة وقوع الطلاق ، بل اللائق بحكمة الشرع عند ظهور قصد المضارة أنه يؤمر إما بترك المضارة أو بتخليصها من قيد الإيلاء ، وهذا المعنى معتبر في الشرع كما قلنا في ضرب الأجل في مدة العنين وغيره حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن عبد الله بن مسعود قرأ ، فإن فاؤا فيهن.
والجواب الصحيح : أن القراءة الشاذة مردودة لأن كل ما كان قرآناً وجب أن يثبت بالتواتر فحيث لم يثبت بالتواتر قطعنا أنه ليس بقرآن وأولى الناس بهذا أبو حنيفة ، فإنه بهذا الحرف تمسك في أن التسمية ليست من القرآن ، وأيضاً فقد بينا أن الآية مشتملة على أمور ثلاثة دلت على أن هذه الفيئة لا تكون في المدة ، فالقراءة الشاذة لما كانت مخالفة لها وجب القطع بفسادها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 428
433
قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍا وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } .
اعلم أنه تعالى ذكر في هذا الموضع أحكاماً كثيرة للطلاق :
فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة : اعلم أن المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها ، وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة ، فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة ، لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع ، والعدة غير واجبة عليها بالإجماع ، وأما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون ، فإن لم تكن مدخولاً بها لم تجب العدة عليها ، قال الله تعالى : {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (الأحزاب : 49) وأما إن كانت مدخولاً بها فهي إما أن تكون حائلاً أو حاملاً ، فإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل لا بالإقراء قال الله تعالى : {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (الطلاق : 4) وأما إن كانت حائلاً فأما أن يكون / الحيض ممكناً في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط ، أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالإقراء ، قال الله تعالى : {وَالَّـا ـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} وأما إذا كان الحيض في حقها ممكناً فإما أن تكون رقيقة ، وإما أن تكون حرة ، فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة ، أما إذا كانت المرأة منكوحة ، وكانت مطلقة بعد الدخول ، وكانت حائلاً ، وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة ، فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالإقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
السؤال الأول : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث أنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب ، يقال في الثوب : إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد ، أو حصل فيه بياض قليل ، فأما إذا كان الغالب عليه البياض ، وكان السواد قليلاً ، كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذباً ، فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصاً أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر ، وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسماً واحداً ، فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى.
والجواب : أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها : إنها مطلقة ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل ، وأما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالإقراء إنما يكون حيث تحصل الإقراء ، وهذان القسمان لم تحصل الإقراء في حقهما ، وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم.
السؤال الثاني : قوله : {يَتَرَبَّصْنَ} لا شك أنه خبر ، والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر.
(1/911)
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار ، وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافياً في المقصود ، لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف ، أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم ، وعرف أنه مهماً انقضت هذه العدة حصل المقصود ، سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب الثاني : قال صاحب "الكشاف" : التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونظيره قولهم في الدعاء : رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.
/ السؤال الثالث : لو قال يتربص المطلقات : لكان ذلك جملة من فعل وفاعل ، فما الحكمة في ترك ذلك ، وجعل المطلقات مبتدأ ، ثم قوله : إسناد الفعل إلى الفاعل ، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المبتدأ.
الجواب : قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب "دلائل الإعجاز" : إنك إذا قدمت الاسم فقلت : زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك : فعل زيد ، وذلك لأن قولك : زيد فعل يستعمل في أمرين أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل ، كقولك : أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد الثاني : أن لا يكون المقصود ذلك ، بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل ، كقولهم : هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر ، بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا وَهُمْ} (النحل : 20) ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى : {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه } (المائدة : 61) وقول الشاعر :
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
هما يلبسان المجد أحسن لبسة
شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما
والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت : عبد الله ، فقد أشعرت بأنك تريد الاخبار عنه ، فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه ، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة.
السؤال الرابع : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء كما قيل : {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } (البقرة : 226) وما الفائدة في ذكر الأنفس.
الجواب : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص.
السؤال الخامس : لفظ جمع قلة ، مع أنهن نفوس كثيرة ، والقروء جمع كثرة ، فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة.
والجواب : أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية ، أو لعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الإقراء.
السؤال السادس : لم لم يقل : ثلاث قروء ، كما يقال : ثلاثة حيض.
الجواب : لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر فهذا ما يتعلق بالسؤالات في هذه الآية وبقى من الكلام في هذه الآية مسألة واحدة في حقيقة القروء ، فنقول : القروء جمع قرء وقرء ، ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر/ قال أبو عبيدة : الإقراء من الأضداد في كلام / العرب ، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعاً ، وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض ، مجاز في الطهر ، ومنهم من عكس الأمر ، وقال قائلون : إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر ، والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول : أن القرء هو الاجتماع ، ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم ، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن ، وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي.
والقول الثاني : وهو قول أبي عبيد : أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة.
والقول الثالث : وهو قول أبي عمرو بن العلاء : أن القرء هو الوقت ، يقال : أقرأت النجوم إذا طلعت ، وأقرأت إذا أفلت ، ويقال : هذا قارىء الرياح لوقت هبوبها ، وأنشدوا للهذلي :
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
إذا هبت لقارئها الرياح
(1/912)
وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر ، لأن لكل واحد منهما وقتاً معيناً ، واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء ، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف ، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك ، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين ، واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار ، روى ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السبعة ، ومالك ، وربيعة ، وأحمد رضي الله عنهم في رواية ، وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق رضي الله عنهم ، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر ، وعندهم أطول ، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها ، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء ، أو يمضي عليها وقت صلاة ، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : قوله تعالى : {النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1) ومعناه في وقت عدتهن ، لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض ، أجاب صاحب "الكشاف" عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن ، كما يقول لثلاث بقين من الشهر ، يريد مستقبلاً لثلاث ، وأقول هذا الكلام يقوى استدلال الشافعي رضي الله عنه لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه ، فكذا ههنا قوله : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه ، ولما كان الأمر حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن / يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة ، وذلك هو المطلوب.
الحجة الثانية : ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : هل تدرون الأقراء ؟
الأقراء الأطهار ، ثم قال الشافعي رضي الله عنه : والنساء بهذا أعلم ، لأن هذا إنما يبتلي به النساء.
الحجة الثالثة : عبارة عن الجمع ، يقال : ما قرأت الناقة نسلاً قط ، أي ما جمعت في رحمها ولداً قط ومنه قول عمرو بن كلثوم :
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال الأخفش يقال : ما قرأت حيضة ، أي ما ضمت رحمها على حيضة ، وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء ، واقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب ، وسمي القرآن قرآناً لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه/ وقرأ القارىء أي جمع الحروف بعضها إلى بعض.
إذا ثبت هذا فنقول : وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم ، لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم.
قلنا : الدماء لا تجتمع في الرحم ألبتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم ، وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً في الدم آخر الطهر ، إذ لو تمتلىء بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج ، فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين.
الحجة الثالثة : أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه ، وهو أقل ما يسمى بالإقراء الثلاثة وهي الأطهار ، لأن الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض ، فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع.
(1/913)
الحجة الرابعة : أن ظاهر قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ } يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء أن تخرج عن العهدة ، وكل واحد من الطهر ومن الحيض يسمى بهذا الاسم ، فوجب أن تخرج المرأة عن العهدة بأيهما كان على سبيل التخيير ، إلا أنا بينا أن مدة العدة بالأطهار أقل من مدة العدة بالحيض ، فعلى هذا تكون المرأة مخيرة بين أن تعتد بالمدة الناقصة أو بالمدة الزائدة ، وإذا كان كذلك كانت متمكنة من أن تترك القدر الزائد لا إلى بدل ، / وكل ما كان كذلك لم يكن واجباً فأذن الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب وذلك يقتضي أن لا يكون الاعتداد بمدة الحيض واجباً وهو المطلوب ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول : أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن في الشرع غلب استعمالها في الحيض ، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "دعي الصلاة أيام أقرائك" وإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكورة في القرآن إلى الحيض أولى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
الحجة الثانية : أن القول بأن الأقراء حيض يمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها لأن هذا القائل يقول : إن المطلقة يلزمها تربص ثلاث حيض ، وإنما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثالثة ومن قال : إنه طهر يجعلها خارجة من العدة بقرأين وبعض الثالث ، لأن عنده إذا طلقها في آخر الطهر تعتد بذلك قرءاً فإذا كان في أحد القولين تكمل الأقراء الثلاثة دون القول الآخر كان القول الأول أليق بالظاهر ، أجاب الشافعي رضي الله عنه عن ذلك أن الله قال : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } (الحج : 197) والأشهر جمع وأقله ثلاثة ، ثم إنا حملنا الآية على شهرين وبعض الثالث ، وذلك هو شوال ، وذو القعدة ، وبعض ذو الحجة ، فكذا ههنا جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين وبعض طهر ، أجاب الجبائي من شيوخ المعتزلة عن هذا الجواب من وجهين الأول : أنا تركنا الظاهر في تلك الآية لدليل ، فلم يلزمنا أن نترك الظاهر ههنا من غير دليل والثاني : أن في العدة تربصاً متصلاً ، فلا بد من استيفاء الثلاثة وليس كذلك أشهر الحج ، لأنه ليس فيها فعل متصل ، فكأنه قيل : هذه الأشهر وقت الحج لا على سبيل الإستغراق ، وإجاب المتأخرون من أصحابنا عن هذه الحجة من وجهين الأول : كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب النقصان عن الثلاثة ، فحمله على الحيض يوجب الزيادة/ لأنه إذا طلقها في أثناء الطهر كان ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة فتحصل الزيادة وعذرهم عنه أن هذه لا بد من تحملها لأجل الضرورة ، لأنه لو جاز الطلاق في الحيض لأمرناه بالطلاق في آخر الحيض حتى تعتد بأطهار كاملة ، وإذا اختص الطلاق بالطاهر صارت تلك الزيادة متحملة للضرورة ، فنحن أيضاً نقول : لما صارت الأقراء مفسرة بالأطهار ، والله تعالى أمرنا بالطلاق في الطهر ، صار تقدير الآية يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار طهر الطلاق فيه.
والوجه الثاني : في الجواب أنا بينا أن القرء اسم للاجتماع وكمال الاجتماع إنما يحصل في آخر الطهر قرءاً تاماً ، وعلى هذا التقدير لم يلزم دخول النقصان في شيء من القرء.
الحجة الثالثة : لهم : أنه تعالى نقل إلى الشهور عند عدم الحيض فقال : {وَالَّـا ـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآاـاِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ} (الطلاق : 4) فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأيضاً لما كان الأشهر شرعت بدلاً عن الأقراء والبدل يعتبر بتمامها ، فإن الأشهر لا بد من إتمامها وجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل ، فلا بد وأن تكون الأقراء الكاملة هي الحيض ، / أما الأطهار فالواجب فيها قرءان وبعض.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
الحجة الرابعة : لهم : قوله صلى الله عليه وسلّم : "طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان" وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة ، فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض.
الحجة الخامسة : أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة ، فكذا العدة تكون بالحيضة ، لأن المقصود من الاستبراء والعدة شيء واحد.
الحجة السادسة : لهم : أن الغرض الأصلي في العدة استبراء الرحم ، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر ، فوجب أن يكون المعتبر هو الحيض دون الطهر.
(1/914)
الحجة السابعة : لهم : أن القول بأل القروء هي الحيض احتياط وتغليب لجانب الحرمة ، لأن المطلقة إذا مر عليها بقية الطهر وطعنت في الحيضة الثالثة فإن جعلنا القرء هو الحيض ، فحينئذ يحرم للغير التزوج بها ، وإن جعلنا القرء طهراً ، فحينئذ يحل للغير التزوج بها ، وجانب التحريم أولى بالرعاية ، لقوله صلى الله عليه وسلّم : "ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال" ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة ، ولأن هذا أقرب إلى الاحتياط ، فكان أولى لقوله صلى الله عليه وسلّم : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فهذا جملة الوجوه في هذا الباب.
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات ، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه.
أما قوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء ، وضع الحمل في حق الحامل ، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذراً جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوماً وساعة ، لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة ، ثم حاضت يوماً وليلة وهو أقل الحيض ، ثم طهرت خمسة عشر يوماً وهو أقل الطهر ، مرة أخرى يوماً وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر يوماً ، ثم رأيت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار ، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت أنها أسقطت كان القول قولها ، لأنها على أصل أمانتها.
واعلم أن للمفسرين في قوله : {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} ثلاثة أقوال الأول : أنه الحبل والحيض معاً ، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما/ أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زماناً من انقضاء عدتها بوضع الحمل ، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بزوج آخر. / أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحبل ، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولاً فكتمته ، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل ، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها ، فثبت أنه كما أن لها غرضاً في كتمان الحبل ، فكذلك في كتمان الحيض ، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
القول الثاني : أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } وثانيها : أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها : أن حمل قوله تعالى : {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} على الولد الذي هو جوهر شريف ، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر ، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة ، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها ، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح ، فوجب حمل اللفظ على الكل.
القول الثالث : المراد هو النهي عن كتمان الحيض ، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الإقراء ، ولم يتقدم ذكر الحمل ، وهذا أيضاً ضعيف ، لأن قوله : {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم ، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم.
أما قوله تعالى : {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة ، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم : إن كنت مؤمناً فلا تظلم ، تريد إن كنت مؤمناً فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي ، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء ، وهو كما قال في الشهادة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ا ءَاثِمٌ قَلْبُه } (البقرة : 283) وقال : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } (البقرة : 283) والآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد.
(1/915)
/ اعلم أن هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية ، وفي البعولة قولان أحدهما : أنه جمع بعل ، كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة ، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كعوبه ، ولا في كلب : كلابة ، واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة ، كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات ، وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان ، كما أنهما زوجان ، وأصل البعل السيد المالك فيما قيل ، يقال : من بعل هذه الناقة ؟
كما يقال : من ربها ، وبعل اسم صنم كانوا يتخدونه رباً ، وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسودد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
القول الثاني : أن العبولة مصدر ، يقال : بعل الرجل يبعل بعولة ، إذا صار بعلاً ، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في أيام التشريق : "أنها أيام أكل وشرب وبعال" وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ، ومنه الحديث "إذا أحسنتن ببعل أزواجكن" وعلى هذا الوجه كان معنى الآية : وأهل بعولتهن.
وأما قوله : {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَالِكَ} فالمعنى : أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما فائدة قوله : {أَحَقُّ} مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك.
الجواب من وجهين الأول : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} كان تقدير الكلام : فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ، فبين أن الزوج الأول أحق منه ، وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة الثاني : إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة.
السؤال الثاني : ما معنى الرد ؟
.
الجواب : يقال : رددته أي رجعته قال تعالى في موضع {وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى} (الكهف : 36) وفي موضع آخر : {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ} .
السؤال الثالث : ما معنى الرد في المطلقة الرجعية ؟
وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت.
الجواب : أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك ، فلا جرم سميت الرجعة رداً ، لا سيما ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة ، ففي الرد على مذهبه شيئان / أحدهما : ردها من التربص إلى خلافه الثاني : ردها من الحرمة إلى الحل.
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله تعالى : {فِي ذَالِكَ} .
الجواب : أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص ، فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
أما قوله تعالى : {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَـاحًا } فالمعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة ، ونظيره قوله : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍا وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ا وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ} (البقرة : 231) والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات ، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة ، حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة ، فنهوا عن ذلك ، وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح ، وهو قوله : {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَـاحًا } .
فإن قيل : إن كلمة {ءَانٍ} للشرط ، والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد أرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة.
والجواب : أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها ، فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها ، بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة ، حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم.
أما قوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ} فاعلم أنه تعالى لما بين أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقاً على الآخر.
(1/916)
واعلم أن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعياً حق الآخر ، وتلك الحقوق المشتركة كثيرة ، ونحن نشير إلى بعضها فأحدها : أن الزوج كالأمير والراعي ، والزوجة كالمأمور والرعية ، فيجب على الزوج بسبب كونه أميراً وراعياً أن يقوم بحقها ومصالحها ، ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج وثانيها : روي عن ابن عباس أنه قال : "إني لأتزين لأمرأتي كما تتزين لي" لقوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ} وثالثها : ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة ، مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لمقدمة الآية.
أما قوله تعالى : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : رجل بين الرجلة ، أي القوة ، وهو أرجل الرجلين أي أقواهما ، وفرس رجيل قوي على المشي ، والرجل معروف لقوته على المشي ، وارتجل الكلام أي قوي عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية ، وترجل النهار قوي ضياؤه ، وأما الدرجة فهي المنزلة وأصلها / من درجت الشيء أدرجه درجاً ، وأدرجته إدراجاً إذا طويته ، ودرج القوم قرناً بعد قرن أي فنوا ومعناه أنهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً ، والمدرجة قارعة الطريق ، لأنها تطوي منزلاً بعد منزل ، والدرجة المنزلة من منازل الطريق ، ومنه الدرجة التي يرتقي فيها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
المسألة الثانية : اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمر معلوم ، إلا أن ذكره ههنا يحتمل وجهين الأول : أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها : العقل والثاني : في الدية والثالث : في المواريث والرابع : في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة والخامس : له أن يتزوج عليها ، وأن يتسرى عليها ، وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج والسادس : أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه والسابع : أن الزوج قادر على تطليقها ، وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها ، شاءت المرأة أم أبت ، أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج ، وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضاً على أن تمنع الزوج من المراجعة والثامن : أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة ، وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور ، ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم : "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان" وفي خبر آخر : اتقوا الله في الضعيفين : اليتيم والمرأة ، وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن أكثر ، فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن ، وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد.
والوجه الثاني : أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين ، لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة ، واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال : إن نصيب المرأة فيها أوفر ، ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة ، وهي التزام المهر والنفقة ، والذب عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها عن مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوباً ، رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } (النساء : 34) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها" ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يمنع ، مصيب أحكامه وأفعاله ، لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 433
441
قوله تعالى : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِا فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } .
/ اعلم أن هذا هو الحكم الثالث من أحكام الطلاق ، وهو الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها ، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له ، فجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها ، فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك ، فذكرت عائشة رضي الله عنها ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فنزل قوله تعالى : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ } .
(1/917)
المسألة الثانية : اختلف المفسرون في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله ، قال قوم : إنه حكم مبتدأ ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، وهذا التفسير هو قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام ، وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار : أن هذا هو قول عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعمران بن الحصين ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي الدرداء وحذيفة.
والقول الأول : في تفسير الآية أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله ، والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ، ولا رجعة بعد الثلاث ، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث ، وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
حجة القائلين بالقول الأول : أن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق ، لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كل الطلاق مرتان ، ومرة ثالثة ، ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق ، لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع.
فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون ، وعندي الجمع مباح لا مسنون.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
قلنا : ليس في الآية بيان صفة السنة ، بل كان تفسير الأصل الطلاق ، ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر ، إلا أن معناه هو الأمر ، أي طلقوا مرتين يعني دفعتين ، وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر ، فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات ، وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين الأول : وهو اختيار كثير من علماء الدين ، أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثاً لا يقع إلا الواحدة ، وهذا القول هو الأقيس ، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعى في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز ، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع ، وهذا / منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد.
القول الثالث : في تفسير هذه الآية أن نقول : أنها ليست كلاماً مبتدأ ، بل هي متعلقة بما قبلها ، وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة/ فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين ، أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة ، هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت ألبتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله : الطلاق للمعهود السابق ، يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين ، فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه الأول : أن قوله : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة : 228) إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص ، وإن لم يكن عاماً فهو مجمل ، لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة ، فيكون مفتقراً إلى البيان ، فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة بما قبلها كان المخصص حاصلاً مع العام المخصوص ، أو كان البيان حاصلاً مع المجمل ، وذلك أولى من أن لا يكون كذلك ، لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزاً إلا أن الأرجح أن لا يتأخر.
الحجة الثانية : إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ ، كان قوله : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ } يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع ، لا يقال : إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة ، وهو قوله : {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } فصار تقدير الآية : الطلاق مرتان ومرة ، لأنا نقول : إن قوله : {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } متعلق بقوله : {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ} لا بقوله : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ } ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق ، ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة ، لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
الحجة الثالثة : ما روينا في سبب نزول هذه الآية ، إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيراً بسبب المضارة ، وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجاً عن عموم الآية ، فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه.
أما قوله تعالى : {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الإمساك خلاف الإطلاق والمساك والمسكة اسمان منه ، يقال : إنه لذو مسكة ومساكة إذا كان بخيلاً قال الفراء : يقال إنه ليس بمساك غلمانه ، وفيه مساكة من جبر ، أي قوة ، وأما التسريح فهو الإرسال ، وتسريح الشعر تخليصك بعضه من بعض ، وسرح الماشية إذا أرسلها ترعى.
(1/918)
/ المسألة الثانية : تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج ، هو أن يوجد مرتان ، ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة ، بل على قصد الإصلاح والإنفاع ، وفي معنى الآية وجهان أحدهما : أن توقع عليها الطلقة الثالثة ، روى أنه لما نزل قوله تعالى : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ } قيل له صلى الله عليه وسلّم : فأين الثالثة ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم : هو قوله : {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } والثاني : أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهو مروي عن الضحاك والسدي.
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها : أن الفاء في قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} (البقرة : 230) تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح ، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة ، لكان قوله : فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها : أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال ، لأنه بعد الطلقة الثانية ، إما أن يراجعها وهو المراد بقوله : {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ} أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله : {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } أو يطلقها وهو المراد بقوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام ، أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقاً آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث ، ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها : أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها : أنه قال بعد ذكر التسريح {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} والمراد به الخلع ، ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة ، فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول ، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
واعلم أن المراد من الإحسان ، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها.
المسألة الثالثة : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر ، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب ، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده.
/ قوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا} .
واعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع ، واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقروناً بالإحسان ، بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ، وذلك لأنه ملك بضعها ، واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها ، فلا يجوز أن يأخذ منها شيئاً ، ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء ، كما قال في سورة النساء : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} (النساء : 19خ وقوله ههنا : {إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه } هو كقوله هناك : {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق ، ونظيره قوله تعالى : {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنا بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } (الطلاق : 1) فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضاً : {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا أَتَأْخُذُونَه بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (النساء : 20) فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
فإن قيل : لمن الخطاب في قوله : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا } فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئاً.
قلنا : الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطاباً للأزواج وآخرها خطاباً للأئمة والحكام ، وذلك غير غريب في القرآن ، ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ، لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون.
(1/919)
أما قوله تعالى : {إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه } فاعلم أنه تعالى لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئاً استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع وفي الآية مسائل :
/المسألة الأولى : روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه أشد البغض ، وكان يحبها أشد الحب ، فأنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقالت : فرق بيني وبينه فإني أبغضه ، ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة ، وأقبحهم وجهاً ، وأشدهم سواداً ، وإني أكره الكفر بعد الإسلام ، فقال ثابتٍ : يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها ، فقال لها : ما تقولين ؟
قالت : نعم وأزيده فقال صلى الله عليه وسلّم : لا حديقته فقط ، ثم قال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام ، وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.
المسألة الثانية : اختفلوا في أن قوله تعالى : {إِلا أَن يَخَافَآ} هو استثناء متصل أو منقطع ، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية ، وهي أن أكثر المجتهدين قالوا : يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب ، وقال الأزهري والنخعي وداود : لا يباح الخلع إلا عند الغضب ، والخوف من أن لا يقيما حدود الله ، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئاً ، ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال : {إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه } فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف ، وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا} (النساء : 4) فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى ، وأما كلمة {إِلا} فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا} (النساء : 92) أي لكن إن كان خطأ {مِّيثَـاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى ا أَهْلِه } (النساء : 92).
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
المسألة الثالثة : الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف ، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه ، ويمكن حمله على الظن ، وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة ، وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف ، وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره : قد خرج غلامك بغير إذنك ، فتقول : قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته ، وأنشد الفراء :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكذ هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه } (البقرة : 230).
/ المسألة الرابعة : اعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة ، ولا بد ههنا من مزيد بحث ، فنقول : الأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة فقط ، أو من قبل الزوج فقط ، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما ، أو يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً.
أما القسم الأول : وهو أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة ، وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج/ فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت ، لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله صلى الله عليه وسلّم لها الخلع ولثابت الأخذ.
فإن قيل : فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معاً ، فكيف قلتم : إنه يكفي حصول الخوف منها فقط.
قلنا : سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج ، لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج ، وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها ، وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلاً لهما جميعاً ، فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج ، ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه ، أو لمرض منفر منه ، وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج ، ويكون الزوج خائفاً من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها.
(1/920)
القسم الثاني : أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط ، بأن يضربها ويؤذيها ، حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية ، وبدليل سائر الآيات ، كقوله : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا } إلى قوله : {أَتَأْخُذُونَه بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (النساء : 19 ، 20) وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
القسم الثالث : أن لا يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل الزوج ، ولا من قبل الزوجة ، وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين : أن هذا الخلع جائز ، والمال المأخوذ حلال ، وقال قوم إنه حرام.
القسم الرابع : أن يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً ، فهذا المال حرام أيضاً ، لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلاً من قبل الزوج ، وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية ، ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال ، فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة ، واعلم أن هذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى ، فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء.
المسألة الخامسة : قرأ حمزة : {إِلا أَن يَخَافَآ} بضم الياء والباقون بفتحها ، قال صاحب "الكشاف" / وجه قراءة حمزة إبدال أن لا يقيما من ألف الضمير ، وهو من بدل الاشتمال ، كقولك : خيف زيد تركه إقامة حدود الله ، وهذا المعنى متأكد بقراءة عبد الله {إِلا أَن يَخَافَآ} وبقوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ} ولم يقل : خافا ، فجعل الخوف لغيرهما ، وجه قراءة العامة إضافة الخوف إليهما على ما بينا أن المرأة تخاف الفتنة على نفسها ، والزوج يخاف أنها إن لم تطعه يعتدي عليها.
المسألة السادسة : اختلفوا في قدر ما يجوز وقوع الخلع به ، فقال الشعبي والزهري والحسن البصري وعطاء وطاوس : لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال سعيد بن المسيب : بل ما دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له ، وأما سائر الفقهاء فإنهم جوزوا المخالعة بالأزيد والأقل والمساوي ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر والقياس ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} ثم قال بعد ذلك : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه } فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها : وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله تعالى إلا قدر ما آتاها من المهر ، وأما الخبر روينا أن ثابتاً لما طلب من جميلة أن ترد عليه حديقته ، فقالت جميلة وأزيده ، فقال صلى الله عليه وسلّم : لا حديقته فقط ، ولو كان الخلع بالزائد جائزاً لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلّم أن يمنعها منه/ وأما القياس فهو أنه استباح بعضها ، فلو أخذ منها أزيد مما دفع إليها لكان ذلك إجحافاً بجانب المرأة وإلحاقاً للضرر بها ، وأنه غير جائز ، وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا الخلع عقد معاوضة ، فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين ، فكما أن للمرأة أن لا ترضى عند النكاح إلا بالصداق الكثير ، فكذا للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير ، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج ، حيث أظهرت بغضه وكراهته ، ويتأكد هذا بما روي أن عمر رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحبسها في بيت الزبل ليلتين ، ثم قال لها : كيف حالك ؟
فقالت : ما بت أطيب من هاتين الليلتين ، فقال عمر : اخلعها ولو بقرطها ، والمراد اخلعها حتى بقرطها وعن ابن عمر أنه جاءته امرأة قد اختلعت من زوجها بكل شيء وبكل ثوب عليها إلا درعها ، فلم ينكر عليها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
المسألة الرابعة : الخلع تطليقة بائنة وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان ، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنهم ، وقال ابن عباس وطاوس وعكرمة رضي الله عنهم : إنه فسخ للعقد ، وهو القول الثاني للشافعي ، وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور.
(حجة من قال إنه طلاق) أن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق ، فإذا بطل كونه فسخاً ثبت أنه طلاق وإنما قلنا : إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى : كالإقالة في البيع ، وأيضاً لو كان الخلع فسخاً فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر ، كالإقالة ، / فإن الثمن يجب رده ، وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ ، وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق.
حجة من قال إنه ليس بطلاق وجوه :
(1/921)
الحجة الأولى : أنه تعالى قال : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه } ثم ذكر الطلاق فقال : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } (البقرة : 230) فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً ، وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس.
الحجة الثانية : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته ، مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام ، فلو كان الخلع طلاقاً لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستكشف الحال في ذلك ، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً دل على أن الخلع ليس بطلاق.
الحجة الثالثة : روى أبو داود في "سننه" عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلّم عدتها حيضة ، قال الخطابي : وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ، لأن الله تعالى قال : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ } (البقرة : 228) فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.
أما قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع {فَلا تَعْتَدُوهَا } أي فلا تتجاوزوا عنها ، ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد ، فقال : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} وفيه وجوه أحدها : أنه تعالى ذكره في سائر الآيات {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ} (هود : 18) فذكر الظلم ههنا تنبيهاً على حصول اللعن وثانيها : أن الظالم اسم ذم وتحقير ، فوقوع هذا الاسم يكون جارياً مجرى الوعيد وثالثها : أنه أطلق لفظ الظلم تنبيهاً على أنه ظلم من الإنسان على نفسه/ حيث أقدم على المعصية ، وظلم أيضاً للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها ، أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها ، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة ، ففي كل هذه المواضع يكون ظالماً للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالماً لنفسه ، وظالماً لغيره ، وفيه أعظم التهديدات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 441
448
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق ، وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين قالوا : إن قوله {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } (البقرة : 229) إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} تفسير لقوله : {تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } وهذا قول مجاهد ، إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله : {تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } الطلقة الثالثة ، وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالاً ثلاثة أحدها : أن يراجعها ، وهو المراد بقوله : {فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ} (البقرة : 229) والثاني : أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة ، وهو المراد بقوله : {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } والثالث : أن يطلقها طلقة ثالثة ، وهو المراد بقوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} فإذا كانت الأقسام ثلاثة ، والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة ، فأما إن جعلنا قوله : {أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار ، وأهملنا القسم الثالث ، ومعلوم أن الأول أولى.
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي ، ونظم الآية {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِا فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍا وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه ا تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
فإن قيل : فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين ؟
.
قلنا : السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك : فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة ، ثم أتبعه بحكم الخلع ، ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم.
(1/922)
المسألة الثانية : مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط : تعتد منه ، وتعقد للثاني ، ويطؤها ، ثم يطلقها ، ثم تعتد منه ، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : تحل بمجرد العقد ، واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة ، أو بالكتاب ، قال أبو مسلم الأصفهاني : الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار.
وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة ، قال عثمان بن جني : سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه عقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة ، وأقول : هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية ، لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من / المضافين ، فإذا قيل : نكح فلان زوجته ، فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته ، ثم الزوجة ليست اسماً لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسماً لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية ، فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
إذا ثبت هذا فنقول : إذا قلنا نكح فلان زوجته ، فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية ، والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة/ تقدم المفرد على المركب ، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية ، إذا ثبت هذا كان قوله : {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية ، فكل من قال بذلك قال : إنه الوطء ، فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء ، فقوله : {تَنكِحَ} يدل على الوطء ، وقوله : {زَوْجًا} يدل على العقد ، وأما قول من يقول : إن الآية غير دالة على الوطء ، وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف ، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية ، وهي قوله : {حَتَّى تَنكِحَ} وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ، فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله : {زَوْجًا} على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال ، وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها ، فطلقها ثلاثاً ، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلّم وقالت : كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإن ما معه مثل هدبة الثواب ، وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي ؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل ، فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالت : إن زوجي مسني فكذبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال : كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأتت أبا بكر فاستأذنت ، فقال : لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله ، فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك ، وفي قصة رفاعة نزل قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } .
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر ، ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة ، ومعلوم أن الزجر إنما يحصل / بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعاً وزاجراً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
المسألة الثانية : قال الشافعي : إذا طلق زوجته واحدة أو اثنتين ، ثم نكحت زوجاً آخر وأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة ، وهي التي بقيت له من الطلقات الأولى ، وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث ، حجة الشافعي أن هذه طلقة ثالثة ، فوجب أن تحصل الحرمة الغليظة ، إنما قلنا إنها طلقة ثالثة لأنها طلقة وجدت بعد الطلقتين ، والطلقة الثالثة موجبة للحرمة الغليظة ، لقوله تعالى : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ} الآية وقوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} أعم من أن يطلقها الطلقة الثالثة مسبوقاً بنكاح غيره ، أو غير مسبوق بنكاح غيره فكان الكل داخلاً فيه.
(1/923)
المسألة الرابعة : مذهب الشافعي رضي الله عنه : إذا تزوج بالمطلقة ثلاثاً للغير على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما ، فهذا نكاح متعة بأجل مجهول ، وهو باطل ولو تزوجها بشرط أن لا يطلقها إذا أحلها للأول ففيه قولان أحدهما : لا يصح والثاني : يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة ، ولو تزوجها مطلقاً معتقداً بأنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به/ وقال مالك والثوري وأحمد : هذا النكاح باطل دليلنا أن الآية تدل على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد ، وقد وجدت فوجب القول بانتهاء الحرمة وحيث حكمنا بفساد النكاح ، فوطئها هل يقع به التحليل قولان والأصح أنه لا يقع به التحليل.
أما قوله تعالى : {فَإِن طَلَّقَهَا} فالمعنى : إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله : {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه ا فَإِن طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد ، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع ، لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك ، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح ، فهذا تراجع لغوي ، بقي في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول ، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ } (البقرة : 228) لأن المقصود من العدة استبراء الرحم ، وهذا المعنى حاصل ههنا ، وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد ، لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة ، وهذه الآية تدل على سقوط العدة ، لأن الفاء في قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
المسألة الثانية : قال الخليل والكسائي : موضع {أَن يَتَرَاجَعَآ} خفض بإضمار الخافض ، تقديره : في أن يتراجعا ، وقال الفراء : موضعه نصب بنزع الخافض.
/ أما قوله تعالى : {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال كثير من المفسرين {إِن ظَنَّآ} أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله ، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها : أنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد والثاني : أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه والثالث : أنه بمنزلة قوله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَالِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَـاحًا } (البقرة : 228) فإن المعتبر هناك الظن فكذا ههنا ، وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن ، أي متى حصل هذا الظن ، وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله ، حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم.
المسألة الثانية : كلمة {ءَانٍ} في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول : ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة : بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى ، وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره ، ثم قال بعد ذلك : {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إشارة إلى ما بينها من التكاليف ، وقوله : {يُبَيِّنُهَا} إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة ، وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة ، فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم ، وهو كقوله تعالى : {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل : 44).
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
المسألة الثانية : قرأ عاصم في رواية أبان بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى.
(1/924)
والمسألة الثالثة : إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه أحدها : أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به ، وهو كقوله : {فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) والثاني : أنه خصهم بالذكر كقوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) والثالث : يعني به العرب لعلمهم باللسان والرابع : يريد من له عقل وعلم ، كقوله : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} (العنكبوت : 43) والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلاً عالماً بما يكلفه ، لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف والخامس : أن قوله : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
المسألة الثانية : قرأ عاصم في رواية أبان بالنون وهي نون التعظيم والباقون بالياء على أنه يرجع على اسم الله تعالى.
والمسألة الثالثة : إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه أحدها : أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به ، وهو كقوله : {فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) والثاني : أنه خصهم بالذكر كقوله : {وَمَلـا ـاـاِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ} (البقرة : 98) والثالث : يعني به العرب لعلمهم باللسان والرابع : يريد من له عقل وعلم ، كقوله : {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ} (العنكبوت : 43) والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلاً عالماً بما يكلفه ، لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف والخامس : أن قوله : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعلموا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 448
451
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أول ما يجب تقديمه في هذه الآية أن لقائل أن يقول : لا فرق بين هذه الآية وبين قوله : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِا فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } (البقرة : 229) فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريراً لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز.
والجواب : أما أصحاب أبي حنيفة فهم الذين حملوا قوله : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِا فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع ، وإنما المشروع هو التفريق ، فهذا السؤال ساقط عنهم ، لأن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق ، وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة ، وأما أصحاب الشافعي رحمهم الله وهم الذين حملوا تلك الآية على كيفية الرجعة فهذا السؤال وارد عليهم ، ولهم أن يقولوا : إن من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة ، وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى ، ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وههنا كذلك وذلك لأن قوله : {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِا فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ } (البقرة : 229) فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين ، وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب / من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت ، وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها ، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر ، فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيهاً على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالاً على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 451
المسألة الثانية : قوله : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إشارة إلى المراجعة واختلف العلماء في كيفية المراجعة ، فقال الشافعي رضي الله عنه : لما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام ، لم تكن الرجعة إلا بكلام ، وقال أبو حنيفة والثوري رضي الله عنهما : تصح الرجعة بالوطء ، وقال مالك رضي الله عنه : إن نوى الرجعة بالوطء كانت رجعة وإلا فلا.
(1/925)
حجة الشافعي رضي الله عنه ما روى أن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام "مره فليراجعها ثم ليمسكها" حتى تطهر أمره النبي صلى الله عليه وسلّم بالمراجعة مطلقاً ، وقيل : درجات الأمر الجواز فنقول : إنه كان مأذوناً بالمراجعة في زمان الحيض ، وما كان مأذوناً بالوطء في زمان الحيض فيلزم أن لا يكون الوطء رجعة وحجة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه تعالى قال : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أمر بمجرد الإمساك ، وإذا وطئها فقد أمسكها ، فوجب أن يكون كافياً ، أما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه لما قال : إنه لا بد من الكلام/ فظاهر مذهبه أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا يجب وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما ، وقال في "الإملاء" : هو واجب ، وهو اختيار محمد بن جرير الطبري ، والحجة فيه قوله تعالى : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ولا يكون معروفاً إلا إذا عرفه الغير ، وأجمعنا على أنه لا يجب عرفان غير الشاهد ، فوجب أن يكون عرفان الشاهد واجباً وأجاب الأولون بأن المراد بالمعروف هو المراعاة وإيصال الخير لا ما ذكرتم.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إنه تعالى أثبت عند بلوغ الأجل حق المراجعة ، وبلوغ الأجل عبارة عن انقضاء العدة ، وعند انقضاء العدة لا يثبت حق المراجعة.
والجواب من وجهين : أحدهما : المراد ببلوغ الأجل مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ ، وبالجملة فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر ، وهو كقول الرجل إذا قارب البلد : قد بلغنا الثاني : أن الأجل اسم للزمان فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة إليه ، بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة الرجعة ، وعلى هذا التأويل فلا حاجة بنا إلى المجاز.
أما قوله تعالى : {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : فلا فرق بين أن يقول : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وبين قوله : {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار ؟
.
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 451
والجواب : الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة ، فلا يتناول كل الأوقات ، أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات ، فلعله يمسكها بمعروف في الحال ، ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل ، فلما قال تعالى : {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات.
المسألة الثانية : قال القفال : الضرار هو المضارة قال تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} (التوبة : 107) أي اتخذوا المسجد ضراراً ليضاروا المؤمنين ، ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة ، وموجبات النفرة ، وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها أحدها : ما روي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها ، فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها ، وهكذا يفعل بها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر والثاني : في تفسير الضرار سوء العشرة والثالث : تضييق النفقة ، واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها.
أما قوله تعالى : {لِّتَعْتَدُوا } ففيه وجهان الأول : المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين ، يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك وهو كقوله : {فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } (القصص : 8) أي فكان لهم وهي لام العاقبة والثاني : أن يكون المعنى : لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن ، فحينئذٍ تصيرون عصاة الله ، وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية ، ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي.
أما قوله تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه } ففيه وجوه أحدها : ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وثانيها : ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين ، أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد ، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 451
(1/926)
أما قوله تعالى : {وَلا تَتَّخِذُوا ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا } ففيه وجوه الأول : أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر ، يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به ، فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله ، ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها/ كان كالمستهزىء بها ، وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة وثانيها : المراد : ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث والثالث : قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ، ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ، ويقول مثل ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال : "من طلق ، أو حرر ، أو نكح ، فزعم أنه لاعب فهو جد" والرابع : قال عطاء : المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله ، كان كالمستهزىء بآيات الله تعالى ، والأقرب هو الوجه الأول ، لأن قوله : {وَلا تَتَّخِذُوا ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا } تهديد ، والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديداً على تركها ، لا على شيء آخر غيرها ، واعلم أنه / تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد ، رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم ، فبدأ أولاً بذكرها على سبيل الإجمال فقال : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ} وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين ، ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين ، وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا ، فقال : {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَـابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِه } والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به ، ثم قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في أوامره كلها ، ولا تخالفوه في نواهيه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 451
454
اعلم أن هذا هو الحكم السادس من أحكام الطلاق ، وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في سبب نزول الآية وجهان الأول : روى أن معقل بن يسار زوج أخته جميل بن عبد الله بن عاصم ، فطلقها ثم تركها حتى انقضت عدتها ، ثم ندم فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك ، فقال لها معقل : إنه طلقك ثم تريدين مراجعته وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم معقل بن يسار وتلا عليه هذه الآية فقال معقل : رغم أني لأمر ربي ، اللهم رضيت وسلمت لأمرك ، وأنكح أخته زوجها والثاني : روي عن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وكان جابر يقول في نزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : العضل المنع ، يقال : عضل فلان ابنته ، إذا منعها من التزوج ، فهو يعضلها ويعضلها ، بضم الضاد وبكسرها وأنشد الأخفش :
وإن قصائدي لك فاصطنعني
كرائم قد عضلن عن النكاح
وأصل العضل في اللغة الضيق ، يقال : عضلت المرأة إذا نشب الولد في بطنها ، وكذلك عضلت / الشاة ، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت لهم لكثرتهم ، قال أوس بن حجر :
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة
معضلة منا بجيش عرمرم
وأعضل المريض الأطباء أي أعياهم ، وسميت العضلة عضلة لأن القوى المحركة منشؤها منها ، ويقال : داء عضال ، للأمر إذا اشتد ، ومنه قول أوس :
جزء : 6 رقم الصفحة : 454
وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمك إن ولى ويرضيك مقبلاً
ولكنه النائي إذا كنت آمنا
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
(1/927)
المسألة الثالثة : اختلف المفسرون في أن قوله : {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب لمن ؟
فقال الأكثرون إنه خطاب للأولياء ، وقال بعضهم إنه خطاب للأزواج ، وهذا هو المختار ، الذي يدل عليه أن قوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء ، فالشرط قوله : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} والجزاء قوله : {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ولا شك أن الشرط وهو قوله : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} خطاب مع الأزواج ، فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله : {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً معهم أيضاً ، إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية : إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحيئنذٍ لا يكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلاً وذلك يوجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله عن مثله واجب ، فهذا كلام قوي متين في تقرير هذا القول ، ثم إنه يتأكد بوجهين آخرين الأول : أن من أول آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كله مع الأزواج ، والبتة ما جرى للأولياء ذكر فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم والثاني : ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة ، فإذا جعلنا هذه الآية خطاباً لهم في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدة كان الكلام منتظماً ، والترتيب مستقيماً ، أما إذا جعلناه خطاباً للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف ، فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 454
حجة من قال الآية خطاب للأولياء وجوه الأول : وهو عمدتهم الكبرى : أن الروايات المشهورة في سبب نزول الآية دالة على أن هذه الآية خطاب مع الأولياء لا مع الأزواج ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لما وقع التعارض بين هذه الحجة وبين الحجة التي ذكرناها كانت الحجة التي ذكرناها أولى بالرعاية لأن المحافظة على نظم الكلام أولى من المحافظة على خبر الواحد وأيضاً فلأن الروايات متعارضة ، فروي عن معقل أنه كان يقول ، إن هذه الآية لو كانت خطاباً مع الأزواج لكانت إما أن تكون خطاباً قبل انقضاء العدة أو مع انقضائها ، والأول باطل لأن ذلك مستفاد من الآية ، فلو حملنا هذه الآية على مثل ذلك المعنى كان تكراراً من غير فائدة ، وأيضاً فقد قال تعالى : {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } فنهى عن العضل حال / حصول التراضي ، ولا يحصل التراضي بالنكاح إلا بعد التصريح بالخطبة ، ولا يجوز التصريح بالخطبة إلا بعد انقضاء العدة ، قال تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَه } (البقرة : 235) والثاني : أيضاً باطل لأن بعد انقضاء العدة ليس للزوج قدرة على عضل المرأة ، فكيف يصرف هذا النهي إليه ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل قد يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة بعد انقضاء عدنها وتلحقه الغيرة إذا رأى من يخطبها ، وحينئذٍ يعضلها عن أن ينكحها غيره إما بأن يجحد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة ، أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها وذلك بأن ينسبها إلى أمور تنفر الرجل عن الرغبة فيها ، فالله تعالى نهى الأزواج عن هذه الأفعال وعرفهم أن ترك هذه الأفعال أزكى لهم وأطهر من دنس الآثام.
الحجة الثالثة لهم قالوا قوله تعالى : {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} معناه : ولا تمنعوهن من أن ينكحن الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك ، وهذا الكلام لا ينتظم إلا إذا جعلنا الآية خطاباً للأولياء ، لأنهم كانوا يمنعونهن من العود إلى الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك ، فأما إذا جعلنا الآية خطاباً للأزواج ، فهذا الكلام لا يصح ، ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قوله : {يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} من يريدون أن يتزوجوهن فيكونون أزواجاً والعرب قد تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 454
(1/928)
المسألة الرابعة : تمسك الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولي لا يجوز وبنى ذلك الاستدلال على أن الخطاب في هذه الآية مع الأولياء ، قال : وإذا ثبت هذا وجب أن يكون التزويج إلى الأولياء لا إلى النساء ، لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ، ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل عن العضل ، وحيث نهاه عن العضل كان قادراً على العضل ، وإذا كان الولي قادراً على العضل وجب أن لا تكون المرأة متمكنة من النكاح ، واعلم أن هذا الاستدلال بناءً على أن هذا الخطاب مع الأولياء ، وقد تقدم ما فيه من المباحث ، ثم إن سلمنا هذه المقدمة لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أن يخليها ورأيها في ذلك ، وذلك لأن الغالب في النساء الأيامى أن يركن إلى رأي الأولياء في باب النكاح/ وإن كان الاستئذان الشرعي لهن ، وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم ، وحينئذٍ يكونون متمكنين من منعهن لتمكنهم من تزويجهن ، فيكون النهي محمولاً على هذا الوجه ، وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية ، وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع ، لأنه مهما عضل لا يبقى لعضله أثر ، وعلى هذا الوجه فصدور العضل عنه غير معتبر ، وتمسك أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى : {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} على أن النكاح بغير ولي جائز ، وقال إنه / تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله ، والتصرف إلى مباشره ، ونهى الولي عن منعها من ذلك ، ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه ، قالوا : وهذا النص متأكد بقوله تعالى : {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه } (البقرة : 230) وبقوله : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة : 234) وترويجها نفسها من الكفء فعل بالمعروف فوجب أن يصح ، وحقيقة هذه الإضافة على المباشر دون الخطاب ، وأيضاً قوله تعالى : {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} (الأحزاب : 250) دليل واضح مع أنه لم يحضر هناك ولي البتة ، وأجاب أصحابنا بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر قد يضاف أيضاً إلى المتسبب ، يقال : بنى الأمير داراً ، وضرب ديناراً ، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 454
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} محمول في هذه الآية على انقضاء العدة ، قال الشافعي رضي الله عنه : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، ومعنى هذا الكلام أنه تعالى قال في الآية السابقة : {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ولو كانت عدتها قد انقضت لما قال : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} لأن إمساكها بعد انقضاء العدة لا يجوز ، ولما قال : {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } لأنها بعد انقضاء العدة تكون مسرحة فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزوج بالأزواج ، وهذا النهي إنما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوج فيه بالأزواج ، وذلك إنما يكون بعد انقضاء العدة ، فهذا هو المراد من قول الشافعي رضي الله عنه ، دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين.
أما قوله تعالى : {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في التراضي وجهان أحدهما : ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز وشهود عدول وثانيها : أن المراد منه ما يضاد ما ذكرناه في قوله تعالى : {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا } (البقرة : 231) فيكون معنى الآية أن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه ، حتى تحصل الصحبة الجميلة ، وتدوم الألفة.
المسألة الثانية : قال بعضهم : التراضي بالمعروف ، هو مهر المثل ، وفرعوا عليه مسألة فقهية وهي أنها إذا زوجت نفسها ونقصت عن مهر مثلها نقصاناً فاحشاً ، فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة ، وللولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر ، وقال أبو يوسف ومحمد : ليس للولي ذلك.
(1/929)
حجة أبي حنيفة رحمه الله في هذه الآية هو قوله تعالى : {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } وأيضاً أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء ، لأن الأولياء يتضررون بذلك لأنهم يعيرون بقلة المهور ، ويتفاخرون بكثرتها ، ولهذا يكتمون المهر القليل حياء ويظهرون المهر الكثير رياء ، وأيضاً فإن نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن/ / فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل ، فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك وينوبوا عن نساء العشيرة ثم أنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد فقال : {ذالِكَ يُوعَظُ بِه مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } وذلك لأن من حق الوعظ أن يتضمن التحذير من المخالفة كما يتضمن الترغيب في الموافقة ، فكانت الآية تهديداً من هذا الوجه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 454
وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم وحد الكاف في قوله تعالى : {ذَالِكَ} مع أنه يخاطب جماعة ؟
.
والجواب : هذا جائز في اللغة ، والتثنية أيضاً جائزة ، والقرآن نزل باللغتين جميعاً ، قال تعالى : {ذَالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى } (يوسف : 37) وقال : {فَذَالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيه } (يوسف : 32) وقال : {يُوعَظُ بِه } وقال : {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} (الأعراف : 22).
السؤال الثاني : لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم ؟
.
الجواب : لوجوه أحدها : لما كان المؤمن هو المنتفع به حسن تخصيصه به كقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وهو هدى للكل ، كما قال : {هُدًى لِّلنَّاسِ} وقال : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) ، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} (يس : 11) مع أنه كان منذراً للكل كما قال : {لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان : 1) وثانيها : احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين ، قالوا : والدليل عليه أن قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم ذكره من بيان الأحكام ، فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف ، لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام ، قال تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آل عمران : 97) وثالثها : أن بيان الأحكام وإن كان عاماً في حق المكلفين ، إلا أن كون ذلك البيان وعظاً مختص بالمؤمنين ، لأن هذه التكاليف إنما توجب على الكفار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها ، فإنها إنما تذكر له وتشرح له على سبيل التنبيه والتحذير ، ثم قال : {ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } يقال : زكا الزرع إذا نما فقوله : {أَزْكَى لَكُمْ} إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم ، وقوله : {وَأَطْهَرُ } إشارة إلى إزالة الذنوب والمعاصي التي يكون حصولها سبباً لحصول العقاب ، ثم قال : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} والمعنى أن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير ، لأنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات ، فلما كان كذلك صح أن يقول : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ويجوز أن يراد به والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد.
/ الحكم الثاني عشر
في الرضاع
جزء : 6 رقم الصفحة : 454
458
قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِا لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِا لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} .
اعلم أن في قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ} ثلاثة أقوال الأول : أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات ، سواء كن مزوجات أو مطلقات ، والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه.
والقول الثاني : المراد منه : الوالدات المطلقات ، قالوا : والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان أحدها : أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق ، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهراً ، وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي ، وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما : أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق والثاني : أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر ، وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم ، فقال : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ} والمراد المطلقات.
(1/930)
الحجة الثانية لهم : ما ذكره السدي ، قال : المراد بالوالدات المطلقات ، لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع ، واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه ، فلم يجب تعلقها بما قبلها ، وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق / المرأة قدراً من المال لمكان الزوجية وقدراً آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
القول الثالث : قال الواحدي في "البسيط" : الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة.
فإن قيل : إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع.
قلنا : النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين ، فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإجاب الرزق والكسوة ، وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع ، هذا كله كلام الواحدي رحمه الله.
أما قوله تعالى : {يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبراً إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين الأول : تقدير الآية : والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه ، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه والثاني : أن يكون معنى يرضعن : ليرضعن ، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام.
المسألة الثانية : هذا الأمر ليس أمر إيجاب ، ويدل عليه وجهان الأول : قوله تعالى : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن} (الطلاق : 6) ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني : أنه تعالى قال بعد ذلك : {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَه ا أُخْرَى } (الطلاق : 6) وهذا نص صريح ، ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} (البقرة : 233) والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع ، فلو كان الإرضاع واجباً عليها لما وجب ذلك ، وفيه البحث الذي قدمناه ، إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان ، ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم ، أو لا يرضع الطفل إلا منها ، فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام.
أما قوله تعالى : {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني ، وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين ، وإنما أقام حولاً وبعض الآخر ، ويقولون : اليوم يومان مذ لم أره ، وإنما يعنون / يوماً وبعض اليوم الآخر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
المسألة الثانية : اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول : أنه تعالى قال بعد ذلك : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني : أنه تعالى قال : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار ، بل فيه وجوه الأول : وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع ، فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما ، فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك ، وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك.
الوجه الثاني : في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكماً خاصاً في الشريعة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان ، لا يفيد هذا الحكم ، هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : مدة الرضاع ثلاثون شهراً.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه :
(1/931)
الحجة الأولى : أنه ليس المقصود من قوله : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك ، إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين ، فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك ، وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى ، وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع ، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة.
الحجة الثانية : روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "لا رضاع بعد فصال" وقال تعالى : {وَفِصَـالُه فِى عَامَيْنِ} (لقمان : 14).
الحجة الثالثة : ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين".
والوجه الثالث : في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين ، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً ، وقال آخرون : الحولان هذا الحد في رضاع كل مولود ، وحجة ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى قال : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا } (الأحقاف : 15) دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من / الزمان ، فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
المسألة الثالثة : روي أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه فقال : تزوجت جارية بكراً وما رأيت بها ريبة ، ثم ولدت لستة أشهر ، فقال علي رضي الله عنه قال الله : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا } وقال تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فالحمل ستة أشهر الولد ولدك ، وعن عمر أنه جىء بامرأة وضعت لستة أشهر ، فشاور في رجمها ، فقال ابن عباس : إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر.
أما قوله تعالى : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عباس رضي الله عنهما : {أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وقرىء {الرَّضَاعَةَ } بكسر الراء.
المسألة الثانية : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول : أن تقدير الآية : هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة ، وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين ، ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية والثاني : أن اللام متعلقة بقوله : {يُرْضِعْنَ} كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه.
أما قوله تعالى : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : {الْمَوْلُودِ لَه } هو الوالد ، وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" : إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد :
وإنما أمهات الناس أوعية
مستودعات وللآباء أبناء
الثاني : أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه على ما قال صلى الله عليه وسلّم : "الولد للفراش" فكأنه قال : إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه ، وجب عليه رعاية مصالحه ، فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر الثالث : أنه قيل في تفسير قوله : {قَالَ ابْنَ أُمَّ} (طه : 94) أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد ، فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة ، فكذا ههنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيهاً على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب ، فكان نقصه عائداً إليه ، ورعاية مصالحه لازمة له ، كما قيل : كلمة لك ، وكلمة عليك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
المسألة الثانية : أنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية / مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف ، والمعرف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف/ لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها ، فقد استغنى عن تقدير الأجرة ، فإنه إن كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها من الجوع والعري ، فضررها يتعدى إلى الولد.
(1/932)
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصى الأم برعاية الطفل أولاً ، ثم وصى الأب برعايته ثانياً ، وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب ، لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة البتة ، أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة ، فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة ، وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب ، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة ، ثم قال تعالى : {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التكليف : الإلزام ، يقال : كلفه الأمر فتكلف وكلف ، وقيل : إن أصله من الكلف ، وهو الأثر على الوجه من السواد ، فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره ، والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه ، من سعة الملك أي العرض ، ولو ضاق لعجز عنه ، والسعة بمنزلة القدرة ، فلهذا قيل : الوسع فوق الطاقة.
المسألة الثانية : المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه ، إلا ما تتسع له قدرته ، لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة ، ولا يبلغ استغراقها ، وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك ، وهو نظير قوله في سورة الطلاق : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن} ثم قال : {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَه ا أُخْرَى } ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله : {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِه ا وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَـاـاهُ اللَّه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَآ} (الطلاق : 6/ 7) .
المسألة الثالثة : المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما يقدرون عليه ، لأنه أخبر أنه لا يكلف أحداً إلا ما تتسع له قدرته ، والوسع فوق الطاقة ، فإذا لم يكلفه الله تعالى ما لا تتسع له قدرته ، فبأن لا يكلفه ما لا قدرة له عليه أولى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
ثم قال : {لا تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي {لا تُضَآرَّ} بالرفع والباقون بالفتح ، أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله : {لا تُكَلَّفُ} قال علي بن عيسى : هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو : ضربت زيداً لا عمراً فأما أن يقال : يقوم زيد لا يقعد عمرو ، فهو غير جائز على النسق ، بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال : لا يضرب زيد لا تقتل عمراً وأما النصب فعلى النهي ، والأصل لا تضار فأدغمت / الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين ، يقال : يضارر رجل زيداً ، وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف ، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى ، فصار لا تضار ، كما تقول : لا تردد ثم تدغم فتقول : لا ترد بالفتح قال تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه } (المائدة : 54) وقرأ الحسن : {لا تُضَآرَّ} بالكسر وهو جائز في اللغة ، وقرأ أبان عن عاصم {لا تُضَآرَّ} مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها.
المسألة الثانية : قوله : {لا تُضَآرَّ} يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة ، وإنما احتمل الوجهين نظراً لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما : أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى ، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني : أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعوله بها الضرار/ وعلى الوجه الأول يكون المعنى : لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد ، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة ، فتلقى الولد عليه ، وعلى الوجه الثاني معناه : لا تضارر ، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له ، وقوله : {وَلا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِه } أي : ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقى الولد عليه ، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد.
فإن قيل : لم قال {تُضَآرَّ} والفعل لواحد ؟
.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
قلنا لوجوه أحدها : أن معناه المبالغة ، فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك والثاني : لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها والثالث : أن المقصود لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر ، فكان ذلك في الحقيقة مضارة.
المسألة الثالثة : قوله : {لا تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا} وإن كان خبراً في الظاهر ، لكن المراد منه النهي ، وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع ، وترك التعهد والحفظ.
(1/933)
وقوله : {وَلا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِه } يتناول كل المضار ، وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد ، فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ } فاعلم أنه لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى واحد من هؤلاء ، والعلماء لم يدعوا وجهاً يمكن القول به إلا وقال به بعضهم.
فالقول الأول : وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المراد وارث الأب ، وذلك لأن قوله : {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ } معطوف على قوله : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وما بينهما اعتراض لبيان المعروف ، والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة ، يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور ، وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار ، قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف ، لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضاً وارثه ، أدى إلى وجوب نفقته على غيره ، حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالاً فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف ، ويدفع الضرار عنه ، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
القول الثاني : أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو ؟
فقيل : هو العصبات دون الأم ، والأخوة من الأم ، وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ، قالوا : النفقة على قدر الميراث ، وقيل : الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث ، لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي الرحم ، كما أن البعيد كالقريب ، والنساء كالرجال ، ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق لها ، لصح أيضاً دخولها تحت الكلام ، لأنها قد تكون وارث كغيرها.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين ، وجاء في الدعاء المشهور : واجعله الوارث منا ، أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة.
القول الرابع : أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله ، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه ، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان ، وهو قول مالك والشافعي.
أما قوله تعالى : {مِثْلُ ذالِكَ } فقيل من النفقة والكسوة عن إبراهيم ، وقيل : من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك ، وقيل : منهما عن أكثر أهل العلم.
أما قوله تعالى : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فاعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الفصال قولان الأول : أنه الفطام لقوله تعالى : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا } (الأحقاف : 15) وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات قال المبرد : يقال فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً ، وقرىء بهما في قوله : {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه } والفصال / أحسن ، لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه ، فبينهما فصال نحو القتال والضراب ، وسمي الفصيل فصيلاً لأنه مفصول عن أمه ، ويقال : فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} (البقرة : 249) واعلم أن حمل الفصال ههنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال : إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز ، وبعده أيضاً جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضاً دليلاً على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط.
وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفاً فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين ، وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
(1/934)
القول الثاني : في تفسير الفصال ، وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال : ويحتمل معنى آخر ، وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد.
المسألة الثانية : التشاور في اللغة : استجماع الرأي ، وكذلك المشورة والمشورة مفعلة منه كالمعونة ، وشرت العسل استخرجته ، وقال أبو زيد : شرت الدابة وأشرتها أي أجريتها لاستخراج جريها ، والشوار متاع البيت ، لأنه يظهر للناظر ، وقالوا : شورته فتشور ، أي خجلته ، والشارة هيئة الرجل ، لأنه ما يظهر من زيه ويبدو من زينته ، والإشارة إخراج ما في نفسك ، وإظهاره للمخاطب بالنطق وبغيره.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع ، فقد يحاول الفطام دفعاً لذلك ، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس ، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما ، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد ، فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره البتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعاً للمضار عنه/ ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن / بل قال : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفاً كانت رحمة الله معه أكثر وعنايته به أشد.
اعلم أنه تعالى لما بين حكم الأم وأنها أحق بالرضاع ، بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول ، وقال الواحدي : {أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَـادَكُمْ} أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاءً بدلالة الاسترضاع ، لأنه لا يكون إلا للأولاد ، ولا يجوز دعوت زيداً وأنت تريد لزيد ، لأنه تلبيس ههنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع ، ونظير حذف اللام قوله تعالى : {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ} (المطففين : 3) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
المسألة الثانية : اعلم أنا قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع ، فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها ، منها ما إذا تزوجت آخر ، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع ، ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر ، ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشاً له ، ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها ، فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها ، فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى ، أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم.
أما قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحده {مَّآ ءَاتَيْتُم} مقصورة الألف ، والباقون {مَّآ ءَاتَيْتُم} ممدودة الألف ، أما المد فتقديره : ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره : ما آتيتم / به ، فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة {بِه } في الثاني لحصول العلم بذلك ، وروى شيبان عن عاصم {مَآ أُوتِيتُمْ} أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه } (الحديد : 7).
المسألة الثانية : ليس التسليم شرطاً للجواز والصحة ، وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يداً بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سبباً لصلاح حال الصبي ، والاحتياط في مصالحه ، ثم إنه تعالى ختم الآية بالتحذير ، فقال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
الحكم الثالث عشر
عدة الوفاة
جزء : 6 رقم الصفحة : 458
465
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يتوفون معناه يموتون ويقبضون قال الله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر : 42) وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً ، فمن مات فقد وجد عمره وافياً كاملاً ، ويقال : توفي فلان ، وتوفي إذا مات ، فمن قال : توفي. كان معناه قبض وأخذ ومن قال : توفى. كان معناه توفى أجله واستوفى أكله وعمره وعليه قراءة علي عليه السلام يتوفون بفتح الياء.
(1/935)
وأما قوله : {وَيَذَرُونَ} معناه : يتركون ، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر استغناءً عنه يترك تركاً ، ومثله يدع في رفض مصدره وماضيه ، فهذان الفعلان العابر والأمر منهما موجودان ، يقال : فلان يدع كذا ويذر ويقال : دعه وذره أما الماضي والمصدر فغير موجودين منهما والأزواج ههنا النساء والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له ، وربما ألحقوا بها الهاء.
المسألة الثانية : قوله : {وَالَّذِينَ} مبتدأ ولا بد له من خبر ، واختلفوا في خبره على أقوال الأول : أن المضاف محذوف والتقدير ، وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن والثاني : وهو / قول الأخفش التقدير : يتربصن بعدهم إلا أنه أسقط لظهوره كقوله : السمن منوان بدرهم وقوله تعالى : {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ} (الشورى : 43) والثالث : وهو قول المبرد : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً ، أزواجهم يتربصن ، قال : وإضمار المبتدأ ليس بغريب قال تعالى : {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكُمُا النَّارُ} (الحج : 72) يعني هو النار ، وقوله : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } (يوسف : 18).
فإن قيل : أنتم أضمرتم ههنا مبتدأ مضافاً ، وليس ذلك شيئاً واحداً بل شيئان ، والأمثلة التي ذكرتم المضمر فيها شيء واحد.
قلنا : كما ورد إضمار المبتدأ المفرد ، فقد ورد أيضاً إضمار المبتدأ المضاف ، قال تعالى : {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـادِ * مَتَـاعٌ قَلِيلٌ} (آل عمران : 196 ، 197) والمعنى : تقلبهم متاع قليل الرابع : وهو قول الكسائي والفراء ، أن قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} مبتدأ ، إلا أن الغرض غير متعلق ههنا ببيان حكم عائد إليهم ، بل ببيان حكم عائد إلى أزوجهم ، فلا جرم لم يذكر لذلك المبتدأ خبراً ، وأنكر المبرد والزجاج ذلك ، لأن مجىء المبتدأ بدون الخبر محال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 465
المسألة الثالثة : قد بينا فيما تقدم معنى التربص ، وبينا الفائدة في قوله : {بِأَنفُسِهِنَّ} وبينا أن هذا وإن كان خبراً إلا أن المقصود منه هو الأمر ، وبينا الفائدة في العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر.
المسألة الرابعة : قوله : {وَعَشْرًا } مذكور بلفظ التأنيث مع أن المراد عشرة أيام ، وذكروا في العذر عنه وجوهاً الأول : تغليب الليالي على الأيام وذلك أن ابتداء الشهر يكون من الليل ، فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت ، لأن الأوائل أقوى من الثواني ، قال ابن السكيت : يقولون صمنا خمساً من الشهر ، فيغلبون الليالي على الأيام ، إذ لم يذكروا الأيام ، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا خمسة أيام الثاني : أن هذه الأيام أيام الحزن والمكروه ، ومثل هذه الأيام تسمى بالليالي على سبيل الاستعارة ، كقولهم : خرجنا ليالي الفتنة ، وجئنا ليالي إمارة الحجاج والثالث : ذكره المبرد/ وهو أنه إنما أنث العشر لأن المراد به المدة ، معناه وعشر مدد ، وتلك المدة كل مدة منها يوم وليلة الرابع : ذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية ، فقال : إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج ، فيتأول العشرة بالليالي ، وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم.
المسألة الخامسة : روي عن أبي العالية أن الله سبحانه إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة ، وهو أيضاً منقول عن الحسن البصري.
المسألة السادسة : اعلم أن هذه العدة واجبة في كل امرأة مات عنها زوجها إلا في صورتين أحداهما : أن تكون أمة فإنها تعتد عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرة ، وقال أبو بكر الأصم : عدتها عدة الحرائر ، وتمسك بظاهر الآية ، وأيضاً الله تعالى جعل وضع الحمل في حق الحامل بدلاً / عن هذه المدة ، ثم وضع الحمل مشترك فيه الحرة والرقيقة ، فكذا الاعتداد بهذه المدة يجب أن يشتركا فيه ، وسائر الفقهاء قالوا : التنصيف في هذه المدة ممكن ، وفي وضع الحمل غير ممكن ، فظهر الفرق.
الصورة الثانية : أن يكون المراد إن كانت حاملاً فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل ، فإذا وضعت الحمل حلت ، وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة ، وعن علي عليه السلام : تتربص أبعد الأجلين ، والدليل عليه القرآن والسنة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 465
(1/936)
أما القرآن فقوله تعالى : {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (الطلاق : 4) ومن الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} والشافعي لم يقل بذلك لوجهين الأول : أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه ، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى ، كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون ، ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى والثاني : أن قوله : {وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } إنما ورد عقيب ذكر المطلقات ، فربما يقول قائل : هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها. فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن ، وإنما عول على السنة ، وهي ما روى أبو داود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب ، فقال لها بعض الناس : ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : فسألت النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، فأمرني بالتزوج إن بدا لي ، إذا عرفت هذا الأصل فههنا تفاريع الأول : لا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول وهذا قول متروك لأن الآية عامة في حق الكل.
الحكم الثاني : إذا تمت أربعة أشهر وعشر انقضت عدتها ، وإن لم تر عادتها من الحيض فيها وقال مالك : لا تنقضي عدتها حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام ، مثلاً إن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة فعليها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا تكفيها الشهور حجة الشافعي رحمه الله أن هذه الآية دلت على أنه تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزد على هذا القدر فوجب أن يكون هذا القدر كافياً ، ثم قال الشافعي : إنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الإقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.
/ الحكم الثالث : إذا مات الزوج فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام فالشهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلة سواء خرجت كاملة أو ناقصة/ ثم تكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوماً ، ثم تضم إليها عشرة أيام ، وإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلة وكمل العشر من الشهر السادس.
جزء : 6 رقم الصفحة : 465
المسألة السابعة : أجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني فإنه أبى نسخها ، وسنذكر كلامه من بعد إن شاء الله تعالى ، والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول ، إذ ليس ترتيب المصحف على ترتيب النزول ، وإنما ترتيب التلاوة في المصاحف هو ترتيب جبريل بأمر الله تعالى.
المسألة الثامنة : اختلفوا في أن هذه العدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة ، فقال بعضهم : ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة ، واحتجوا بأنه تعالى قال : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} ولا يحصل إلا إذا قصدت هذا التربص ، والقصد إلى التربص لا يحصل إلا مع العلم بذلك ، والأكثرون قالوا السبب هو الموت ، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ، قالوا والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة.
المسألة التاسعة : المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح ، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه : والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول : الامتناع عن النكاح مجمع عليه ، وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة ، وأما ترك التزين فهو واجب ، لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وقال الحسن والشعبي : هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه والله أعلم.
واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "وتلبثي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت".
المسألة العاشرة : احتج من قال : إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع بقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} فقوله : {مِّنكُم} خطاب مع المؤمنين ، فدل على أن الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط.
(1/937)
وجوابه : أن المؤمنين لما كانوا هم العاملين بذلك خصهم بالذكر كقوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) مع أنه كان منذراً للكل ، لقوله تعالى : {لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان : 1).
جزء : 6 رقم الصفحة : 465
وأما قوله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فالمعنى إذا انقضت هذه المدة التي هي أجل العدة فلا جناح / عليكم قيل الخطاب مع الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، وقيل : الخطاب مع الحكام وصلحاء المسلمين ، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع ، فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان ، وذلك لأن المقصود من هذه العدة أنه لا يؤمن اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول ، وفي الآية وجه ثالث وهو أنه {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} تقديره : لا جناح على النساء وعليكم ، ثم قال : {فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي ما يحسن عقلاً وشرعاً لأنه ضد المنكر الذي لا يحسن ، وذلك هو الحلال من التزوج إذا كان مستجمعاً لشرائط الصحة ، ثم ختم الآية بالتهديد ، فقال : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : تمسك بعضهم في وجوب الإحداد على المرأة بقوله تعالى : {فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} فإن ظاهره يقتضي أن يكون المراد منه ما تنفرد المرأة بفعله/ والنكاح ليس كذلك ، فإنه لا يتم إلا مع الغير فوجب أن يحمل ذلك على ما يتم بالمرأة وحدها من التزين والتطيب وغيرهما.
المسألة الثانية : تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي ، قالوا : إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزاً لقوله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة ، لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة ، وتمسك أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطباً بقوله : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وبالله التوفيق.
الحكم الرابع عشر
في خطبة النساء
جزء : 6 رقم الصفحة : 465
469
قوله تعالى : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِه مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُم عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـاكِن لا} وفي مسائل :
المسألة الأولى : التعريض في اللغة ضد التصريح ، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة / على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ، ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضياً
والتعريض قد يسمى تلويحاً لأنه يلوح منه ما يريد والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه ، كقولك : فلان طويل النجاد ، كثير الرماد ، والتعريض أن تذكر كلاماً يحتمل مقصودك ويحتمل غير مقصودك إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك ، وأما الخطبة فقال الفراء : الخطبة مصدر بمنزلة الخطب وهو مثل قولك : أنه الحسن العقدة والجلسة تريد العقود والجلوس وفي اشتقاقه وجهان الأول : أن الخطب هو الأمر ، والشأن يقال : ما خطبك ، أي ما شأنك ، فقولهم : خطب فلان فلانة ، أي سألها أمراً وشأناً في نفسها الثاني : أصل الخطبة من الخطاب الذي هو الكلام ، يقال : خطب المرأة خطبة لأنه خاطب في عقد النكاح ، وخطب خطبة أي خاطب بالزجر والوعظ والخطب : الأمر العظيم ، لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير.
المسألة الثانية : النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام أحدها : التي تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها ، بل يستثنى عنه صورة واحدة ، وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه" ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقاً لكن فيه ثلاثة أحوال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
الحالة الأولى : إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحاً ههنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث.
الحالة الثانية : إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة : إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي ههنا قولان أحدهما : أنه يجوز للغير خطبتها ، لأن السكوت لا يدل على الرضا والثاني : وهو القديم وقول مالك : أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضاً على الكراهة ، فربما كانت الرغبة حاصله من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.
(1/938)
القسم الثاني : التي لا تجوز خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً ، وهي ما إذا كانت منكوحة للغير لأن خطبته إياها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها من حيث أنها إذا علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج ، والتسبب إلى هذا حرام ، وكذا / الرجعة فإنها في حكم المنكوحة ، بدليل أنه يصح طلاقها وظاهرها ولعانها ، وتعتد منه عدة الوفاة/ ويتوارثان.
القسم الثالث : أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية وهي أيضاً على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً ، أما جواز التعريض فلقوله تعالى : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِه مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ} وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها ، لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية ، أما أنه لا يجوز التصريح ، فقال الشافعي : لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه ، ثم المعنى يؤكد ذلك ، وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب.
القسم الثاني : المعتدة عن الطلاق الثلاث ، قال الشافعي رحمه الله في "الأم" : ولا أحب التعريض لخطبتها ، وقال في "القديم" و"الإملاء" : يجوز لأنها ليست في النكاح ، فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما ههنا تنقضي عدتها بالإقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي.
القسم الثالث : البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها ، وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح ؛ لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان أحدهما : يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثاً والثاني : وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
المسألة الثالثة : قال الشافعي : والتعريض كثير ، وهو كقوله : رب راغب فيك ، أو من يجد مثلك ؟
أو لست بأيم وإذا حللت فأدريني ، وذكر سائر المفسرين من ألفاظ التعريض : إنك لجميلة وإنك لصالحه ، وإنك لنافعه ، وإن من عزمي أن أتزوج ، وإني فيك لراغب.
أما قوله تعالى : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } فاعلم أن الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء : للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان : كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى ، ومنه : و{مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} (النحل : 74) ، {بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} (الصافات : 49) وفرق قوم بينهما ، فقالوا : كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة ، وإن لم يكن مستوراً يقال : در مكنون ، وجارية مكنونة ، وبيض مكنون ، مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت ، ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره ، / وهو ضد أعلنت وأظهرت ، والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها.
فإن قيل : إن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من أن يميل قلبه إليها ولا يذكر شيئاً فلما قدم جواز التعريض بالخطبة كان قوله بعد ذلك : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } جارياً مجرى إيضاح الواضحات.
قلنا : ليس المراد ما ذكرتم بل المراد منه أنه أباح التعريض وحرم التصريح في الحال ، ثم قال : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } والمراد أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل ، فالآية الأولى إباحة للتعريض في الحال ، وتحريم للتصريح في الحال ، والآية الثانية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ، ثم أنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك ، فقال : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم والتمني/ فلما كان دفع هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط تعالى عنه هذا الحرج وأباح له ذلك.
ثم قال تعالى : {وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} وفيه سؤالان :
السؤال الأول : أين المستدرك بقوله تعالى : {وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} الجواب : هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه ، تقديره : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} فاذكروهن {وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
السؤال الثاني : ما معنى السر ؟
.
(1/939)
والجواب : أن السر ضد الجهر والإعلان ، فيحتمل أن يكون السر ههنا صفة المواعدة على شيء : ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا توعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفاً بوصف كونه سراً ، أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين ، فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات ، وههنا احتمالات الأول : أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة الثاني : أن يواعدها بذكر الجماع والرفث ، لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز ، قال تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم : {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} (الأحزاب : 32) أي لا تقلن من أمر الرفث شيئاً {فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِه مَرَضٌ} (الأحزاب : 32) الثالث : قال الحسن : {وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه ، وقال : إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى.
والجواب : روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة ، وهو يعرض بالنكاح فيقول لها : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك ، فالله تعالى نهى عن ذلك الرابع : أن يكون / ذلك نهياً عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية ، لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها الخامس : أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحداً سواها.
أما إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه الأول : السر الجماع قال امرؤ القيس :
وأن لا يشهد السر أمثالي
وقال الفرزدق :
موانع للأسرار إلا من أهلها
ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن ، يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد لا يصف نفسه لها فيقول : آتيك الأربعة والخمسة الثاني : أن يكون المراد من السر النكاح ، وذلك لأن الوطء يسمى سراً والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز.
أما قوله تعالى : {إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا } ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء.
وجوابه : أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض ، ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف ، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفل بمصالحها ، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
قوله تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَه ا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} .
اعلم أن في لفظ العزم وجوهاً الأول : أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال ، قال تعالى : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه } (آل عمران : 159) واعلم أن العزم إنما يكون عزماً على الفعل ، فلا بد في الآية من إضمار فعل/ وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف {عَلَى} فيقال : فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية : ولا تعزموا على عقدة النكاح ، قال سيبويه : والحذف في هذه الأشياء لا يقاس ، فعلى هذا تقدير الآية : ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه ، فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكداً عن الإقدام على المعزوم عليه أولى.
/ القول الثاني : أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب ، يقال : عزمت عليكم ، أي أوجبت عليكم ويقال : هذا من باب العزائم لا من باب الرخص ، وقال عليه الصلاة والسلام : "عزمة من عزمات ربنا" وقال : "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى ، وبالوجه الأول لا يجوز.
إذا عرفت هذا فنقول : الإيجاب سبب الوجود ظاهراً ، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه ، ولا تفرغوا منه فعلاً ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين.
القول الثالث : قال القفال رحمه الله : إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح ، لأن المعنى : لا تعزموا عليهن عقدة النكاح ، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح ، كما تقول : عزمت عليك أن تفعل كذا.
فأما قوله تعالى : {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} فاعلم أن أصل العقد الشد ، والعهود والأنكحة تسمى عقوداً لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
(1/940)
أما قوله تعالى : {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَه } ففي الكتاب وجهان الأول : المراد منه : المكتوب والمعنى : تبلغ العدة المفروضة آخرها ، وصارت منقضية والثاني : أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته ، وإنما حسن أن يعبر عن معنى : فرض ، بلفظ {كَتَبَ} لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله : {حَتَّى } هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم ، لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
ثم إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوه } وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالماً بالسر والعلانية ، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد ، فقال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
الحكم الخامس عشر
حكم المطلقة قبل الدخول
جزء : 6 رقم الصفحة : 469
473
اعلم أن أقسام المطلقات أربعة أحدها : المطلقة التي تكون مفروضاً لها ومدخولاً بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر ، وأن عدتهن ثلاثة قروء.
والقسم الثاني : من المطلقات ما لا يكون مفروضاً ولا مدخولاً بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وذكر أنه ليس لها مهر ، وأن لها المتعة بالمعروف.
والقسم الثالث : من المطلقات : التي يكون مفروضاً لها ، ولكن لا يكون مدخولاً بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية ، وهي قوله سبحانه وتعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة : 237) واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها ألبتة ، فقال : {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} (الأحزاب : 49).
القسم الرابع : من المطلقات : التي تكون مدخولاً بها ، ولكن لا يكون مفروضاً لها ، وحكم هذا القسم مذكور في قوله : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء : 24) أيضاً القياس الجلي دال عليه وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطئة بالشبهة لها مهر المثل ، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم ، فهذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية ، ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى ، فيقال : إن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ، ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور ، فإن كان البدل مذكوراً ، فإن حصل الدخول استقر كله ، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية ، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق ، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجىء عقيب هذه الآية. فإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية ، وحكمها أنه لا مهر لها ، ولا عدة عليها ، ويجب عليه لها المتعة ، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات ، إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل ، ولما نبهنا على هذا التقسيم فلنرجع إلى التفسير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
أما قوله تعالى : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} فهذا نص في أن الطلاق جائز ، واعلم أن كثيراً من أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام ، قالوا : لأن قوله : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} يتناول جميع أنواع التطليقات ، بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح ، قالوا : وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فثبت أن قوله : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} يتناول جميع أنواع التطليقات ، أعني حال الإفراد وحال الجمع ، وهذا الاستدلال عندي ضعيف ، وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود ، ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة ، ولهذا قلنا : إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار/ ولهذا قلنا : إنه إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط ؛ فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع ، وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول : يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين ، مع أنه يصح أن يقال : صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني والله أعلم.
(1/941)
أما قوله تعالى : {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي بالألف على المفاعلة ، وكذلك في الأحزاب والباقون {لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} بغير ألف ، حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعاً وأيضاً يدل على ذلك قوله تعالى : {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } (المجادلة : 3) وهو إجماع وحجة الباقين إجماعهم على قوله : {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } (آل عمران : 47) ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} (الرحمن : 56) وكقوله : {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} (النساء : 25) وأيضاً المراد من هذا المس : الغشيان ، وذلك فعل الرجل ، ويدل في الآية الثانية على أن المراد من هذا المس الغشيان ، وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى : {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار ، وبعض من قرأ : قال : إنه بمعنى {لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} لأن فاعل قد يراد به فعل ، كقوله : طارقت النعل ، وعاقبت اللص ، وهو كثير.
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس.
وجوابه من وجوه الأول : أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً ، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس ، فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض ، ولا في الطهر الذي جامعها فيه ، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق ، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس ، صح ظاهر اللفظ.
الوجه الثاني : في الجواب قال بعضهم : إن {مَّآ} في قوله : {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} بمعنى {الَّذِى} والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن ، إلا أن {مَّآ} اسم جامد لا ينصرف ، / ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد ، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ {مَّآ} شرطاً ، فزال السؤال.
الوجه الثالث : في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله ، وحاصله يرجع إلى ما أقوله ، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر ، فتقدير الآية : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، بمعنى : لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين ، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر ، وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله : {لا جُنَاحَ} معناه لا مهر ، فنقول : إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل ، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه ، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل ، يقال : أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحاً لما فيه من الثقل ، قال تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت : 13) إذا ثبت أن الجناح هو الثقل ، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحاً ، فثبت أن اللفظ محتمل له ، وإنما قلنا : إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين الأول : أنه تعالى قال : {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } نفى الجناح محدوداً إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض ، والتقدير : فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر/ فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر الثاني : أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين أحدهما : الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر ، وهو المذكور في هذه الآية والثاني : الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة : 237) ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت ههنا ، فلما كان المثبت ههنا هو لزوم المهر وجب أن يقال : الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة ، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها ، لأنه لما صار تقدير الآية : لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير ، عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها لا يجب لها المهر ، وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضاً لها والتي تكون مفروضاً لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر ، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة.
(1/942)
وأما القسم الرابع : وهي التي تكون ممسوسة ومفروضاً لها ، فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام وهذا من لطائف الكلمات والحمد لله على ذلك.
/ المسألة الثالثة : قال أبو بكر الأصم والزجاج : هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير المهر جائز ، وقال القاضي : إنها لا تدل على الجواز لكنها تدل على الصحة ، أما بيان دلالتها على الصحة ، فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تكن المتعة لازمة ، وأما أنها لا تدل على الجواز ، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز ، بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ومع ذلك واقع وصحيح.
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن المراد من المسيس في هذه الآية الدخول ، قال أبو مسلم : وإنما كنى تعالى بقوله : {تَمَسُّوهُنَّ} عن المجامعة تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به والله أعلم.
أما قوله تعالى : {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } فالمعنى يقدر لها مقداراً من المهر يوجبه على نفسه ، لأن الفرض في اللغة هو التقدير ، وذكر كثير من المفسرين أن {أَوْ} ههنا بمعنى الواو ، ويريد : ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ، كقوله : {أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات : 147) وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف ، بل خطأ قطعاً والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ} فاعلم أنه تعالى لما بين أنه لا مهر عند عدم المسيس ، والتقدير بين أن المتعة لها واجبة ، وتفسير لفظ المتعة قد تقدم في قوله : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (البقرة : 196).
وفي الآية مسائل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
المسألة الأولى : المطلقات قسمان ، مطلقة قبل الدخول ، ومطلقة بعد الدخول ، أما المطلقة قبل الدخول ينظر إن لم يكن فرض لها مهر فلها المتعة بهذه الآية التي نحن فيها ، وإن كان قد فرض لها فلا متعة ، لأن الله تعالى أوجب في حقها نصف المهر ولم يذكر المتعة ، ولو كانت واجبة لذكرها وقال ابن عمر : لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر ، وأما المطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض ، فهل تستحق المتعة ، فيه قولان : قال في "القديم" وبه قال أبو حنيفة : لا متعة لها ، لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول ، وقال في "الجديد" : بل لها المتعة ، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام ، والحسن بن علي/ وابن عمر ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ مَتَـاعُا بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة : 241) وقال تعالى : {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} (الأحزاب : 28) وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي صلى الله عليه وسلّم ، وليس كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس ، لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة استباحة عوض فلم تستحق المتعة والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة استباحة البضع فتجب لها المتعة للإيحاش بالفراق.
المسألة الثانية : مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن المتعة واجبة ، وهو قول شريح والشعبي والزهري ، وروي عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة ، وهو قول مالك / لنا قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ} وظاهر الأمر للإيجاب ، وقال : {وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ مَتَـاعُ } فجعل ملكاً لهن أو في معنى الملك ، وحجة مالك أنه تعالى قال في آخر الآية : {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فجعل هذا من باب الإحسان وإنما يقال : هذا الفعل إحسان إذا لم يكن واجباً فإن وجب عليه أداء دين فأداه لا يقال إنه أحسن ، وأيضاً قال تعالى : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } (التوبة : 91) وهذا يدل على عدم الوجوب ، والجواب عنه أن الآية التي ذكرتموها تدل على قولنا لأنه تعالى قال : {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فذكره بكلمة {عَلَى} وهي للوجوب ، ولأنه إذا قيل : هذا حق على فلان ، لم يفهم منه الندب بل الوجوب.
المسألة الثالثة : أصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً غير باق بل منقضياً عن قريب ، ولهذا يقال : الدنيا متاع ، ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة وقلة لبث.
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
أما قوله تعالى : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : {الْمُوسِعِ} الغني الذي يكون في سعة من غناه ، يقال : أوسع الرجل إذا كثر ماله ، واتسعت حاله ، ويقال : أوسعه كذا أي وسعه عليه ، ومنه قوله تعالى : {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات : 47) وقوله : {قَدَرُه } أي قدر إمكانه وطاقته ، فحذف المضاف ، والمقتر الذي في ضيق من فقره وهو المقل الفقير ، وأقتر إذا افتقر.
(1/943)
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم {قَدَرُه } بسكون الدال ، والباقون قدره بفتح الدال ، وهما لغتان في جميع معاني القدر ، يقال : قدر القوم أمرهم يقدرونه قدراً ، وهذا قدر هذا ، واحمل على رأسك قدر ما تطيق ، وقدر الله الرزق يقدره ويقدره قدراً ، وقدرت الشيء بالشيء أقدره قدراً ، وقدرت على الأمر أقدر عليه قدرة ، كل هذا يجوز فيه التحريك والتسكين ، يقال : هم يختصمون في القدر والقدر ، وخدمته بقدر كذا وبقدر كذا ، قال الله تعالى : {فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا} (الرعد : 17) وقال : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } (الأنعام : 91) ولو حرك لكان جائزاً ، وكذلك : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) ولو خفف جاز.
المسألة الثالثة : أن قوله تعالى : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه } يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد ، ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات ، وبين أن الموسع يخالف المقتر وقال الشافعي : المستحب على الموسع خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة ، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة ، وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، قال : لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها ، ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول ، فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى والله أعلم.
أما قوله تعالى : {مَتَـاعَا بِالْمَعْرُوفِ } ففيه مسألتان :
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
المسألة الأولى : معنى الآية أنه يجب أن يكون على قدر حال الزوج في الغنى والفقر ، ثم اختلفوا فمنهم من يعتبر حالهما ، وهو قول القاضي ، ومنهم من يعتبر حال الزوج فقط قال أبو بكر الرازي رحمه الله في المتعة : يعتبر حال الرجل ، وفي مهر المثل حالها ، وكذلك في النفقة واحتج أبو بكر بقوله : {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه } واحتج القاضي بقوله : {بِالْمَعْرُوفِ } فإن ذلك يدل على حالهما لأنه ليس من المعروف أن يسوى بين الشريفة والوضيعة.
المسألة الثانية : {مَّتَـاعًا} تأكيد لمتعوهن ، يعني : متعوهن تمتيعاً بالمعروف و{حَقًّا} صفة لمتاعاً أي : متاعاً واجباً عليهم ، أو حق ذلك حقاً على المحسنين ، وقيل : نصب على الحال من قدره لأنه معرفة ، والعامل فيه الظرف ، وقيل : نصب على القطع.
وأما قوله : {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ففي سبب تخصيصه بالذكر وجوه أحدها : أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان : كقوله : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا} (النازعات : 45) والثاني : قال أبو مسلم : المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه ، والمحسن هو المؤمن ، فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين الثالث : {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 473
478
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المطلقة غير الممسوسة إذا لم يفرض لها مهر ، تكلم في المطلقة غير الممسوسة إذا كان قد فرض لها مهر. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر ، وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة / تقرر المهر ، ويعني بالخلوة الصحيحة : أن يخلوا بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي ، فالحسي نحو : الرتق والقرن والمرض ، أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً ، والشرعي نحو ، الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق سواء كان فرضاً أو نقلاً ، حجة الشافعي أن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر وههنا وجد الطلاق قبل المسيس فوجب القول بسقوط نصف المهر.
(1/944)
بيان المقدمة الأولى : قوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فقوله : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ليس كلاماً تاماً بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام ، فأما أن يضمر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ساقط ، أو يضمر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ثابت والأول هو المقصود ، والثاني مرجوح لوجوه أحدها : أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهراً ، فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق ، لأنه غير منفي قبله ، أما لو حملناه على السقوط ، عملنا بقضية التعليق ، لأنه منفي قبله وثانيها : أن قوله تعالى : {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يقتضي وجوب كل المهر عليه ، لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضاً لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف ، لأن عند قيام المقتضى لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل ، فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب وثالثها : أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله : {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (البقرة : 129) فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف ورابعها : وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس ، وكون الطلاق واقعاً قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيء ، فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط ، لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى ، وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال : إن معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجب ، وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر ، إلا من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة ، فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 478
بيان المقدمة الثانية : وهي أن ههنا وجد الطلاق قبل المسيس ، هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع ، وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله ، حجة أبي حنيفة قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا } (النساء : 20) إلى قوله : {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (النساء : 21) وجه التمسك به من وجهين الأول : هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر ، ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة ، ومن ادعى التخصيص ههنا فعليه البيان والثاني : أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء ، وهي الخلوة ، والإفضاء مشتق من الفضاء ، وهو المكان الخالي ، فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر.
وجوابنا عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة ، والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله : {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} حال من مفعول {طَلَّقْتُمُوهُنَّ} والتقدير : طلقتموهن حال ما فرضتم لهن فريضة.
أما قوله تعالى : {إِلا أَن يَعْفُونَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما لم تسقط النون من {يَعْفُونَ} وإن دخلت عليه {ءَانٍ} الناصبة للأفعال لأن {يَعْفُونَ} فعل النساء ، فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم ، والنون في {يَعْفُونَ} إذا كان الفعل مسنداً إلى النساء ضمير جمع المؤنث ، وإذا كان الفعل مسنداً إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث ، كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر ، والساقط في {يَعْفُونَ} إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في {يَعْفُونَ} لا الواو التي هي ضمير الجمع ، والله أعلم.
المسألة الثانية : المعنى : إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر ، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ، ولا استمتع بي. فكيف آخذ منه شيئاً.
أما قوله تعالى : {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ففيه مسألتان :
جزء : 6 رقم الصفحة : 478
المسألة الأولى : في الآية قولان الأول : أنه الزوج ، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام ، وسعيد بن المسيب ، وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.
والقول الثاني : أنه الولي ، وهو قول الحسن ، ومجاهد وعلقمة ، وهو قول أصحاب الشافعي.
(1/945)
حجة القول الأول وجوه الأول : أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي والثاني : أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح ، فإذا عقد حصلت العقدة ، لأن بناء الفعلة يدل على المفعول ، كالأكلة واللقمة ، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم ، ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي والثالث : أن قوله تعالى : {الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره ، كما أن قوله : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } (النازعات : 40) أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره ، كانت الجنة ثابتة له ، فتكون مأواه الرابع : ما روي عن جبير بن مطعم ، أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو ، وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
/ حجة من قال : المراد هو الولي وجوه الأول : أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كل المهر ، وذلك يكون هبة ، والهبة لا تسمى عفواً ، أجاب الأولون عن هذا من وجوه أحدها : أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج ، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها وثانيها : سماه عفواً على طريق المشاكلة وثالثها : أن العفو قد يراد به التسهيل يقال : فلان وجد المال عفواً صفواً ، وقد بينا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة.
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات والله تعالى ندب إلى العفو مطلقاً وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل/ وأجابوا عن السؤال الثاني أن العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمى عفواً ؟
.
جزء : 6 رقم الصفحة : 478
وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل لكان كل من سهل على إنسان شيئاً يقال إنه عفا عنه ومعلوم أنه ليس كذلك.
الحجة الثانية : للقائلين بأن المراد هو الولي هو أن ذكر الزوج قد تقدم بقوله عز وجل : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فلو كان المراد بقوله : {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هو الزوج ، لقال : أو تعفو على سبيل المخاطبة ، فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة ، علمنا أن المراد منه غير الزواج.
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو ، والمعنى : إلا أن يعفو أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج ، فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها.
الحجة الثالثة : للقائلين بأنه هو الولي هو أن الزوج ليس بيده البتة عقدة النكاح ، وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبياً عن المرأة ، ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه ، فلا يكون له قدرة على إنكاحها البتة وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قدرة على إزالة النكاح ، والله تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح ، فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح ثبت أنه ليس المراد هو الزوج ، أما الولي فله قدرة على إنكاحها ، فكان المراد من الآية هو الولي لا الزوج ، ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال : المراد هو الزوج.
أما الحجة الأولى : فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند / السبب يقال بنى الأمير داراً ، وضرب ديناراً ، والظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء والظاهر أن كل ما يتعلق بأمر التزوج فإن المرأة لا تخوض فيه ، بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي ، وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وبسعيه فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء.
وأما الحجة الثانية : وهي قولهم : الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح ، قلنا : العقدة قد يراد بها العقد قال تعالى : {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} سلمنا أن العقدة هي المعقودة لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد ، وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداءً ، فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضاً بواسطة كونها من نتائج العقد ومن آثاره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 478
(1/946)
وأما الحجة الثالثة : وهي قوله : إن المراد من الآية الذي بيده عقدة النكاح لنفسه فجوابه : أن هذا التقييد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل : فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض فلا يراد به أن الذي في يده الأمر نفسه ونهى نفسه بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره فكذا ههنا.
المسألة الثانية : للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي ، وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله : {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } إما الزوج وإما الولي ، وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له البتة على عقدة النكاح ، فوجب حمله على الولي.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ } هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل : بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره ، قال تعالى : {لَكُمْ دِينَكُمْ} (الكافرون : 6) أي لا لغيركم ، فكذا ههنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره/ وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب والله أعلم.
قوله تعالى : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث ، وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى أما في اللفظ فلأنك تقول : قائم. ثم تريد التأنيث فتقول : قائمة. فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل ، والدال على المؤنث فرع عليه ، وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث ، فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلباً.
المسألة الثانية : موضع {ءَانٍ} رفع بالابتداء ، والتقدير : والعفو أقرب للتقوى ، واللام بمعنى {إِلَى } .
المسألة الثالثة : معنى الآية : عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى وإنما / كان الأمر كذلك لوجهين الأول : أن من سمح بترك حقه فهو محسن ، ومن كان محسناً فقد استحق الثواب ، ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله والثاني : أن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة ، لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقرباً إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق ، ثم قال تعالى : {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } وليس المراد منه النهى عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك ، فقال تعالى : ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم ، وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به ، فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه ، وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهراً من غير أن انتفع بها البتة صار ذلك سبباً لتأذيه منها ، فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذى عن قلب الآخر ، فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية ، وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية ، ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجرى مجرى التهديد على العادة المعلومة ، فقال : {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
الحكم السادس عشر
حكم المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى
جزء : 6 رقم الصفحة : 478
482
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه ، وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه أحدها : أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى ، وزوال التمرد عن الطبع ، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه ، كما قال : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} (العنكبوت : 45) والثاني : أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال : {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 45) والثالث : أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا ، فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة ، وفي الآية مسائل :
(1/947)
المسألة الأولى : أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة خمسة ، وهذه الآية التي نحن في تفسيرها دالة على ذلك ، لأن قوله : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يدل على الثلاثة من حيث أن أقل الجمع ثلاثة ، ثم إن قوله تعالى : {حَـافِظُوا عَلَى} يدل على شيء أزيد من الثلاثة ، وإلا لزم التكرار ، / والأصل عدمه ، ثم ذلك الزائد يمتنع أن يكون أربعة ، وإلا فليس لها وسطى ، فلا بد وأن ينضم إلى تلك الثلاثة عدد آخر يحصل به للمجموع وسط ، وأقل ذلك أن يكون خمسة ، فهذه الآية دالة على وجوب الصلوات الخمسة بهذا الطريق ، واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا بينا أن المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة ونبين ذلك بالدليل إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآية وإن دلت على وجوب الصلوات الخمس لكنها لا تدل على أوقاتها ، والآيات الدالة على تفصيل الأوقات أربع :
الآية الأولى : قوله : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم : 17) وهذه الآية أبين آيات المواقيت فقوله : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ} أي سبحوا الله معناه صلوا لله حين تمسون ، أراد به صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أراد صلاة الصبح {وَعَشِيًّا} (مريم : 11) أراد به صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم : 18) صلاة الظهر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
الآية الثانية : قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} (الإسراء : 78) أراد بالدلوك زوالها فدخل فيه صلاة الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ثم قال : {أَقِمِ الصَّلَواةَ} أراد صلاة الصبح.
الآية الثالثة : قوله : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآى ِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} (طه : 130) فمن الناس من قال : هذه الآية تدل على الصلوات الخمس ، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، فالليل والنهار داخلان في هاتين اللفظتين.
الآية الرابعة : قوله تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } (هود : 114) فالمراد بطرفي النهار : الصبح ، والعصر ، وقوله : {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } المغرب والعشاء ، وكان بعضهم يتمسك به في وجوب الوتر ، لأن لفظ زلفاً جمع فأقله الثلاثة.
المسألة الثانية : اعلم أن الأمر بالمحافظة على الصلاة أمر بالمحافظة على جميع شرائطها ، أعني طهارة البدن ، والثوب ، والمكان ، والمحافظة على ستر العورة ، واستقبال القبلة ، والمحافظة على جميع أركان الصلاة ، والمحافظة على الاحتراز عن جميع مبطلات الصلاة سواء كان ذلك من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان/ أو من أعمال الجوارح ، وأهم الأمور في الصلاة ، رعاية النية فإنها هي المقصود الأصلي من الصلاة ، قال تعالى : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (طه : 14) فمن أدى الصلاة على هذا الوجه كان محافظاً على الصلاة وإلا فلا.
فإن قيل : المحافظة لا تكون إلا بين اثنين ، كالمخاصمة ، والمقاتلة ، فكيف المعنى ههنا ؟
.
والجواب : من وجهين أحدهما : أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب ، كأنه قيل له : احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وهذا كقوله : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} (البقرة : 152) وفي الحديث : "احفظ الله يحفظك" الثاني : أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة فكأنه قيل : احفظ الصلاة / حتى تحفظك الصلاة ، واعلم أن حفظ الصلاة للمصلي على ثلاثة أوجه الأول : أن الصلاة تحفظه عن المعاصي ، قال تعالى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} (العنكبوت : 45) فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن الفحشاء والثاني : أن الصلاة تحفظه من البلايا والمحن ، قال تعالى : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 153) وقال تعالى : {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُم لئن أَقَمْتُمُ الصَّلَواةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَواةَ} (المائدة : 12) ومعناه : إني معكم بالنصرة والحفظ إن كنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة والثالث : أن الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع لمصليها ، قال تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَا وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّه } (البقرة : 110) ولأن الصلاة فيها القراءة ، والقرآن يشفع لقارئه ، وهو شافع مشفع وفي الخبر : "إنه تجىء البقرة وآل عمران كأنهما عمامتان فيشهدان ويشفعان" وأيضاً في الخبر "سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه" والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
المسألة الثالثة : اختلفوا في الصلاة الوسطى على سبعة مذاهب.
(1/948)
فالقول الأول : أن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها ، ولم يبين لنا أنها أي صلاة هي ، وإنما قلنا : إنه لم يبين لأنه لو بين ذلك لكان إما أن يقال : إنه تعالى بينها بطريق قطعي ، أو بطريق ظني والأول باطل لأنه بيان إما أن يكون بهذه الآية ، أو بطريق آخر قاطع ، أو خبر متواتر ولا يمكن أن يكون البيان حاصلاً في هذه الآية ، لأن عدد الصلوات خمس ، وليس في الآية ذكر لأولها وآخرها ، وإذا كان كذلك أمكن في كل واحدة من تلك الصلوات أن يقال : إنما هي الوسطى ، وإما أن يقال : بيان حصل في آية أخرى أو في خبر متواتر ، وذلك مفقود ، وأما بيانه بالطريق الظني وهو خبر الواحد والقياس فغير جائز ، لأن الطريق المفيد للظن معتبر في العمليات ، وهذه المسألة ليست كذلك ، فثبت أن الله تعالى لم يبين أن الصلاة الوسطى ما هي ؟
ثم قالوا : والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد ، مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام ، ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في رمضان ، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء ، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً من الموت في كل الأوقات ، فيكون آتياً بالتوبة في كل الأوقات ، وهذا القول اختاره جمع من العلماء ، قال محمد بن سيرين : إن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات كلها تصبها ، وعن الربيع بن خيثم أنه سأله واحد عنها ، فقال : يا ابن عم الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظاً على الوسطى ثم قال الربيع : لو علمتها بعينها لكنت محافظاً لها ومضيعاً لسائرهن ، قال السائل : لا. قال الربيع : فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى.
/ القول الثاني : هي مجموع الصلوات الخمس وذلك لأن هذه الخمسة هي الوسطى من الطاعات وتقريره أن الإيمان بضع وسبعون درجة ، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والصلوات المكتوبات دون الإيمان وفوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين.
القول الثالث : أنها صلاة الصبح ، وهذا القول من الصحابة قول علي عليه السلام ، وعمر وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبي أمامة الباهلي ، ومن التابعين قول طاوس ، وعطاء ، وعكرمة ومجاهد ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على صحة هذا القول وجوه الأول : أن هذه الصلاة تصلى في الغلس فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل ، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار الثاني : أن هذه الصلاة تؤدى بعد طلوع الصبح ، وقبل طلوع الشمس ، وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة ، ولا يكون الضوء أيضاً تاماً ، فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما الثالث : أنه حصل في النهار التام صلاتان : الظهر والعصر ، وفي الليل صلاتان : المغرب والعشاء ، وصلاة الصبح كالمتوسط بين صلاتي الليل والنهار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
فإن قيل : فهذه المعاني حاصلة في صلاة المغرب قلنا : إنا نرجح صلاة الصبح على المغرب بكثرة فضائل صلاة الصبح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الرابع : أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بالاتفاق ، وفي السفر عند الشافعي ، وكذا المغرب والعشاء ، وأما صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتاً واحداً ووقت المغرب والعشاء وقتاً واحداً ، ووقت الفجر متوسطاً بينهما ، قال القفال رحمه الله : وتحقيق هذا الاحتجاج يرجع إلى أن الناس يقولون : فلان وسط ، إذا لم يمل إلى أحد الخصمين ، فكان منفرداً بنفسه عنهما ، والله أعلم الخامس : قوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى } (الإسراء : 78) وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر ، وإنما جعلها مشهوداً لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار.
(1/949)
إذا عرفت هذا فوجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين أحدهما : أن الله تعالى أفرد صلاة الفجر بالذكر ، فدل هذا على مزيد فضلها ، ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد ، فيغلب على الظن أن صلاة الفجر لما ثبت أنها أفضل بتلك الآية ، وجب أن تكون هي المراد بالتأكيد المذكور في هذه الآية والثاني : أن الملائكة تتعاقب بالليل والنهار ، فلا تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت واحد إلا صلاة الفجر ، فثبت أن صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه ، فكانت كالشيء المتوسط السادس : أنه تعالى قال بعد ذكر الصلاة الوسطى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} قرن هذه الصلاة بذكر القنوت ، وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا الصبح ، فدل على أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الصبح السابع : لا شك أنه تعالى إنما أفردها بالذكر لأجل التأكيد ، ولا شك أن صلاة الصبح أحوج / الصلوات إلى التأكيد ، إذ ليس في الصلاة أشق منها ، لأنها تجب على الناس في ألذ أوقات النوم ، حتى إن العرب كانوا يسمون نوم الفجر العسيلة للذتها ، ولا شك أن ترك النوم اللذيذ الطيب في ذلك الوقت ، والعدول إلى استعمال الماء البارد ، والخروج إلى المسجد والتأهب للصلاة شاق صعب على النفس ، فيجب أن تكون هي المراد بالصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد الثامن : أن صلاة الصبح أفضل الصلوات ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الصلاة الوسطى صلاة الصبح ، إنما قلنا : إنها أفضل الصلوات لوجوه أحدها : قوله تعالى :
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
{الصَّـابِرِينَ وَالصَّـادِقِينَ} إلى قوله تعالى : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} (آل عمران : 17) فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغفرين بالأسحار ، ثم يجب أن يكون أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض ، لقوله عليه الصلاة والسلام حاكياً عن ربه تعالى "لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم" وذلك يقتضي أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح وثانيها : ما روي فيها أن التكبيرة الأولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها وثالثها : أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالأذان مرتين : مرة قبل طلوع الفجر ، ومرة أخرى بعده وذلك لأن المقصود من المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء ورابعها : أن الله تعالى سماها بأسماء ، فقال في بني إسرائيل : {أَقِمِ الصَّلَواةَ} (الإسراء : 78) وقال في النور : {مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ} (النور : 58) وقال في الروم : {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم : 17) وقال عمر بن الخطاب : المراد من قوله : {وَإِدْبَـارَ النُّجُومِ} (الطور : 49) صلاة الفجر وخامسها : أنه تعالى أقسم به فقال : {وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} (الفجر : 1 ، 2) ولا يعارض هذا بقوله تعالى : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 1 ، 2) فإنا إذا سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر لكن في صلاة الفجر تأكيد ، وهو قوله : {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ} (هود : 114) وقد بينا أن هذا التأكيد لم يوجد في العصر وسادسها : أن التثويب في أذان الصبح معتبر ، وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين : الصلاة خير من النوم مرتين ، ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات وسابعها : أن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه كان معدوماً ، ثم صار موجوداً ، أو كان ميتاً ، ثم صار حياً ، بل كأن الخلق كانوا في الليل كلهم أمواتاً ، فصاروا أحياء ، فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل ، وظلمة النوم والغفلة ، وظلمة العجز والخيرة ، وأبدل الكل بالإحسان ، فملأ العالم من النور ، والأبدان من قوة الحياة والعقل والفهم والمعرفة ، فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية ، وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة ، فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات ، فكان حمل الوسطى عليها أولى التاسع : ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى ، فقال : كنا نرى أنها الفجر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الصبح ثم قال : هذه / هي الصلاة الوسطى العاشر : أن سنن الصبح آكد من سائر السنن ففرضها يجب أن يكون أقوى من سائر الفروض فصرف التأكيد إليها أولى ، فهذا جملة ما يستدل به على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
(1/950)
القول الرابع : قول من قال : إنها صلاة الظهر ، ويروى هذا القول عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد رضي الله عنهم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى ، وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصلي بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان ، فقال عليه الصلاة والسلام : "لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم" فنزلت هذه الآية والثاني : صلاة الظهر تقع وسط النهار وليس في المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها والثالث : أنها بين صلاتين نهاريتين : الفجر والعصر الرابع : أنها صلاة بين البردين : برد الغداة وبرد العشي الخامس : قال أبو العالية : صليت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الظهر ، فلما فرغوا سألتهم عن الصلاة الوسطى/ فقالوا التي صليتها السادس : روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" وجه الاستدلال أنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى ، والمعطوف عليه قبل المعطوف ، والتي قبل العصر هي الظهر السابع : روي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت ، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى ، فقال : هي صلاة الظهر كانت تقام في الهاجرة الثامن : روي في الأحاديث الصحيحة أن أول إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلّم كانت في صلاة الظهر ، فدل هذا على أنها أشرف الصلوات ، فكان صرف التأكيد إليها أولى التاسع : أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات ، وهي صلاة الظهر ، فصرف المبالغة إليها أولى.
القول الخامس : قول من قال : إنها صلاة العصر ، وهو من الصحابة مروى عن علي عليه السلام وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، ومن الفقهاء : النخعي ، وقتادة ، والضحاك ، وهو مروى عن أبي حنيفة ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : ما روي عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال يوم الخندق : "شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً" وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة ، وهو عظيم الوقع في المسألة ، وفي صحيح مسلم : "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" ومن الفقهاء من أجاب عنه فقال : العصر وسط ، ولكن ليس هي المذكورة في القرآن ، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر ، وأحدهما ثبت بالقرآن والآخر بالسنة ، كما أن الحرم حرمان : حرم مكة بالقرآن ، وحرم المدينة بالسنة ، وهذا الجواب متكلف / جداً الثاني : قالوا روي في صلاة العصر من التأكيد ما لم يرو في غيرها قال عليه الصلاة والسلام : "من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" وأيضاً أقسم الله تعالى بها فقال : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 1 ، 2) فدل على أنها أحب الساعات إلى الله تعالى الثالث : أن العصر بالتأكيد أولى من حيث إن المحافظة على سائر أوقات الصلاة أخف وأسهل من المحافظة على صلاة العصر ، والسبب فيه أمران أحدهما : أن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات ، لأن دخول صلاة الفجر بطلوع الفجر المستطير ضوؤه ، ودخول الظهر بظهور الزوال ، ودخول المغرب بغروب القرص ودخول العشاء بغروب الشفق ، أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل ، فلما كانت معرفته أشق لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر الثاني : أن أكثر الناس عند العصر يكونون مشتغلين بالمهمات ، فكان الإقبال على الصلاة أشق ، فكان صرف التأكيد إلى هذه الصلاة أولى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
الحجة الرابعة : في أن الوسطى هي العصر أشبه بالصلاة الوسطى لوجوه أحدها : أنها متوسطة بين صلاة هي شفع ، وبين صلاة هي وتر ، أما الشفع فالظهر ، وأما الوتر فالمغرب ، إلا أن العشاء أيضاً كذلك ، لأن قبلها المغرب وهي وتر ، وبعدها الصبح وهو شفع وثانيها : العصر متوسطة بين صلاة نهارية وهي الظهر ، وليلية وهي المغرب وثالثها : أن العصر بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.
والقول السادس : أنها صلاة المغرب ، وهو قول عبيدة السلماني ، وقبيصة بن ذؤيب ، والحجة فيه من وجهين الأول : أنها بين بياض النهار وسواد الليل ، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصبح إلا أن المغرب يرجح بوجه آخر ، وهو أنه أزيد من الركعتين كما في الصبح ، وأقل من الأربع كما في الظهر والعصر والعشاء ، فهي وسط في الطول والقصر.
الحجة الثانية : أن صلاة الظهر تسمى بالصلاة الأولى ، ولذلك ابتدأ جبريل عليه السلام بإمامة فيها ، وإذا كان الظهر أول الصلوات كان الوسطى هي المغرب لا محالة.
(1/951)
القول السابع : أنها صلاة العشاء ، قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران/ المغرب والصبح ، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة" فهذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة ، وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلاً عظيماً ، والله أعلم.
المسألة الرابعة : احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب ، قال : الوتر لو كان واجباً لكانت الصلوات الواجبة ستة ، ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى ، والآية دلت على حصول الوسطى لها.
/ فإن قيل : الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143) أي عدولاً وقال تعالى : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (القلم : 28) أي أعدلهم ، وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الإثنين وبين الأربع ، وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء.
الجواب : أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطاً لا من حيث إنه خلق فاضل ، بل من حيث إنه يكون متوسطاً بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط ، مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطاً بحسب العدد ومجاز في الخلق الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطاً بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
أما قوله : نحمله على ما يكون وسطاً في الزمان وهو الظهر.
فجوابه : أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة ، لأنها تؤدى بعد الزوال ، وهنا قد زال الوسط.
وأما قوله : نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطاً بين وقت الظلمة وبين وقت النور ، أو على المغرب لكون عددها متوسطاً بين الإثنين والأربعة.
فجوابه : أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضاً محتمل ، فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} ففيه وجوه أحدها : وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر ، واحتج عليه بوجهين الأول : أن قوله : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} أمر بما في الصلاة من الفعل ، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر ، فمعنى الآية : وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني : أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء ، بدليل قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا} (الزمر : 9) وهو المعنى بالقنوت في صلاة الصبح والوتر ، وهو المفهوم من قولهم : قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه.
والقول الثاني : {قَـانِتِينَ} أي مطيعين ، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل ، الدليل عليه وجهان الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "كل قنوت في القرآن فهو الطاعة" الثاني : قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلّم : {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِه } (النساء : 34) وقال في كل النساء : {فَالصَّـالِحَـاتُ قَـانِتَـاتٌ} (النساء : 34) / فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها ، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها ، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزىء وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد/ ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأساً ، لأنه يقال : كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا ، فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلّم والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال.
القول الثالث : {قَـانِتِينَ} ساكتين ، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ، ويسألهم : كم صليتم ؟
كفعل أهل الكتاب ، فنزل الله تعالى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
القول الرابع : وهو قول مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع ، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى ، ولا يعبث بشيء من جسده ، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف.
(1/952)
القول الخامس : هو القيام ، واحتجوا عليه بحديث جابر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلّم : "أي الصلاة أفضل ؟
قال طول القنوت" يريد طول القيام ، وهذا القول عندي ضعيف ، وإلا صار تقدير الآية : وقوموا لله قائمين اللهم إلا أن يقال : وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذٍ يصير القنوت مفسراً بالإدامة لا بالقيام.
القول السادس : وهو اختيار علي بن عيسى : أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصاً بالمداومة على طاعة الله تعالى ، والمواظبة على خدمة الله تعالى ، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون ، ويحتمل أن يكون المراد : وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه والله تعالى أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 482
488
اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها ، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف ، فقال : {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : يروى {فَرِجَالا} بضم الراء و{رِجَالا} بالتشديد و{رَجُلا} .
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله معنى الآية : فإن خفتم عدواً فحذف المفعول لإحاطة العلم به ، قال صاحب الكشاف : فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره ، وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف ، سواء كان الخوف من العدو أو من غيره ، وفيه قول ثالث وهو أن المعنى : فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً ، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود.
المسألة الثالثة : في الرجال قولان أحدهما : رجالاً جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشياً كان أو وافقاً ويقال في جمع راجل : رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال.
والقول الثاني : ما ذكره القفال ، وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع ، لأن راجلاً يجمع على راجل ، ثم يجمع رجل على رجال ، والركبان جمع راكب ، مثل فرسان وفارس ، قال القفال : ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل ، فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس ، والله أعلم.
المسألة الرابعة : رجالاً نصب على الحال ، والعامل فيه محذوف ، والتقدير : فصلوا رجالاً أو ركباناً.
المسألة الخامسة : صلاة الخوف قسمان أحدهما : أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني : في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} (النساء : 102) وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين.
إذا عرفت هذا فنقول : إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد ، فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود ، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر ، واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول : قال ابن عمر : {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
الوجه الثاني : وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال ، فصار قوله : {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } يدل على الترخص / في ترك التوجه ، وأيضاً يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود ، فصح بما ذكرنا دلالة رجالاً أو ركباناً على جواز ترك الاستقبال ، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود.
(1/953)
إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط ، فنقول : لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها : فعل القلب وهو النية ، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني : فعل اللسان وهي القراءة ، وهي لا تسقط عند الخوف ، ولا يجوز له أيضاً أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي ، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث : أعمال الجوارح فنقول : أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه ، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما ، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع ، لأن هذا القدر ممكن ، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف ، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب ، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه ، والأصح أنه يجوز ، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم ، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك ، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضاً.
والجواب : أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلّم أخرى الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل.
المسألة السادسة : اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول : الخوف إما أن يكون في القتال ، أو في غير القتال ، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب ، أو مباح ، أو محظور ، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف ، وفيه نزلت الآية ، ويلتحق به قتال أهل البغي ، قال تعالى : {فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى ا أَمْرِ اللَّه } (الحجرات : 9) وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر : أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه ، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالاً بحق الإسلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
إذا عرفت هذا فنقول : أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم ، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف ، أما قصد أخذ ماله ، أو إتلاف حاله ، فهل له أن يصلي صلاة شدة / الخوف ، فيه قولان : الأصح أن يجوز ، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام : "من قتل دون ماله فهو شهيد" فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس والثاني : لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم ، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف ، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة ، أما الخوف الحاصل لا في القتال ، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسراً خائفاً من الحبس ، عاجزاً عن بينة الإعسار ، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة ، لأن قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ} مطلق يتناول الكل.
فإن قيل : قوله : {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة.
قلنا. هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعاً للضرر ، وهذا المعنى قائم ههنا ، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً والله أعلم.
المسألة الرابعة : روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : فرض الله على لسان نبيكم الصلاة في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، والجمهور على أن الواجب في الحضر أربع ، وفي السفر ركعتان سواء كان في الخوف أو لم يكن ، وأن قول ابن عباس متروك.
أما قوله تعالى : {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم} وفيه قولان الأول : فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} (البقرة : 238) وكما بينه بشروطه وأركانه ، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل ، والصلاة قد تسمى ذكراً لقوله تعالى : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة : 9).
والقول الثاني : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن ، طعن القاضي في هذا القول وقال : إن هذا الذكر لما كان معلقاً بشرط مخصوص ، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعاً على حد واحد ، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر ، كما يلزم مع الأمن ، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة ، والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى ، فالواجب حمل قوله تعالى : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} على ذكر يختص بهذه الحالة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
والقول الثالث : أنه دخل تحت قوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} الصلاة والشكر جميعاً ، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.
(1/954)
أما قوله تعالى : {كَمَا عَلَّمَكُم} فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف ، وأن ذلك من نعمه تعالى ، ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك ، ثم إن إصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل ، وفعل الألطاف ، وقوله تعالى : {مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} إشارة إلى ما قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم من زمان الجهالة والضلالة.
الحكم السابع عشر
الوفاة
جزء : 6 رقم الصفحة : 488
491
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَصِيَّةً} بالرفع ، والباقون بالنصب ، أما الرفع ففيه أقوال الأول : أن قوله : {وَصِيَّةً} مبتدأ وقوله : {لازْوَاجِهِم} خبر ، وحسن الابتداء بالنكرة ، لأنها متخصصة بسبب تخصيص الموضع ، كما حسن قوله : سلام عليكم ، وخبر بين يدي والثاني : أن يكون قوله : {وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم} مبتدأ ، ويضمر له خبر ، والتقدير فعليهم وصية لأزواجهم ، ونظيره قوله : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة : 237) ، {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} (النساء : 92) ، {فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ} (المائدة : 89) والثالث : تقدير الآية : الأمر وصية ، أو المفروض ، أو الحكم وصية ، وعلى هذا الوجه أضمرنا المبتدأ والرابع : تقدير الآية : كتب عليكم وصية والخامس : تقديره : ليكون منكم وصية والسادس : تقدير الآية : ووصية الذين يتوفون منكم وصية إلى الحول ، وكل هذه الوجوه جائزة حسنة ، وأما قراءة النصب ففيها وجوه الأول : تقدير الآية فليوصوا وصية والثاني : تقديرها : توصون وصية ، كقولك : إنما أنت سير البريد أي تسير سير البريد الثالث : تقديرها : ألزم الذين يتوفون وصية.
أما قوله تعالى : {مَّتَـاعًا} ففيه وجوه الأول : أن يكون على معنى : متعوهن متاعاً ، فيكون التقدير : فليوصوا لهن وصية ، وليمتعوهن متاعاً الثاني : أن يكون التقدير : جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبل الكلام يدل على هذا الثالث : أنه نصب على الحال.
أما قوله : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ } ففيه قولان الأول : أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه قال : متعوهن مقيمات غير مخرجات والثاني : انتصب بنزع الخافض ، أراد من غير إخراج.
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 491
المسألة الثانية : في هذه الآية ثلاثة أقوال الأول : وهو اختيار جمهور المفسرين ، أنها منسوخة ، قالوا : كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة ، وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج ، ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج ، وإن شاءت خرجت قبل الحول ، لكنها متى خرجت سقطت نفقتها ، هذا جملة ما في هذه الآية ، لأنا إن قرأنا {وَصِيَّةً} بالرفع ، كان المعنى : فعليهم وصية ، وإن قرأناها بالنصب ، كان المعنى : فليوصوا وصية ، وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة ، ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين أحدهما : المتاع والنفقة إلى الحول والثاني : السكنى إلى الحول ، ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك ، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين أحدهما : وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والثاني : وجوب الاعتداد سنة ، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة ، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين ، أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها ، والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث ، فصار مجموع القرآن والسنة ناسخاً للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول ، وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة : 234) فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين.
القول الثاني : وهو قول مجاهد : أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما : ما تقدم وهو قوله : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } والأخرى : هذه الآية ، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين. فنقول : إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها ، كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً على ما في تلك الآية المتقدمة ، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله وتركته ، فعدتها هي الحول ، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى ، حتى يكون كل واحد منهما معمولاً به.
(1/955)
القول الثالث : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : أن معنى الآية : من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً ، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة ، قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب ، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل ، واحتج على قوله بوجوه أحدها : أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني : أن يكون الناسخ متأخراً / عن المنسوخ في النزول ، وإذا كان متأخراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخراً عنه في التلاوة أيضاً ، لأن هذا الترتيب أحسن ، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة ، فهو وإن كان جائزاً في الجملة ، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة ، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 491
الوجه الثالث : وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص ، كان التخصيص أولى ، وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل ، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر ، لأنكم تقولون تقدير الآية : فعليهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : فليوصوا وصية ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصية لأزواجهم ، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج ، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره ، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية ، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم ، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل ، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وهذا كلام واضح.
وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية ، فالشرط هو قوله : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم مَّتَـاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كله شرط ، والجزاء هو قوله : {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } فهذا تقرير قول أبي مسلم ، وهو في غاية الصحة.
المسألة الثالثة : المعتدة عن فرقة الوفاة لا نفقة لها ولا كسوة ، حاملاً كانت أو حائلاً ، وروي عن علي عليه السلام وابن عمر رضي الله عنهما ، أن لها النفقة إذا كانت حاملاً ، وعن جابر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا لا نفقة لها حسبها الميراث ، وهل تستحق السكنى فيه قولان أحدهما : لا تستحق السكنى وهو قول علي عليه السلام وابن عباس وعائشة ، ومذهب أبي حنيفة واختيار المزني والثاني : تستحق وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والثوري وأحمد ، وبناء القولين على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قتل زوجها قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إني أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما تركني في منزل يملكه فقال عليه السلام : نعم فانصرفت حين إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، واختلفوا في تنزيل هذا الحديث ، قيل لم يوجب في الابتداء ، ثم أوجب فصار الأول منسوخاً ، وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أمراً على سبيل / الاستحباب لا على سبيل الوجوب ، واحتج المزني رحمه الله على أنه لا سكنى لها ، فقال : أجمعنا على أنه لا نفقة لها ، لأن الملك انقطع بالموت ، فكذلك السكنى ، بدليل أنهم أجمعوا على أن من وجب له نفقة وسكنى من والد وولد على رجل فمات انقطعت نفقتهم وسكناهم ، لأن ماله صار ميراثاً للورثة ، فكذا ههنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 491
أجاب الأصحاب فقالوا : لا يمكن قياس السكنى على النفقة لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حال ولا تستحق النفقة لنفسها عند المزني ولأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا يمكن ههنا ، وأما السكنى فوجبت لتحصين النساء وهو موجود ههنا فافترقا.
إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بأن هذه الآية منسوخة لا بد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة ، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى ، أما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً ، وأما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا ؟
والكلام فيه ما ذكرناه.
(1/956)
المسألة الرابعة : القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالاً فقالوا : الله تعالى ذكر الوفاة ، ثم أمر بالوصية ، فكيف يوصي المتوفي ؟
وأجابوا عنه بأن المعنى : والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه ، كأنه قيل : وصية من الله لأزواجهم ، كقوله : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } (النساء : 11) وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع.
أما قوله تعالى : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فالمعنى : لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين ، ومن الإقدام على النكاح ، وفي رفع الجناح وجهان أحدهما : لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والثاني : لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج ، لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها.
الحكم الثامن عشر
في المطلقات
جزء : 6 رقم الصفحة : 491
494
يروى أن هذه الآية إنما نزلت ، لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ} إلى قوله : {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة : 236) قال رجل من المسلمين : إن أردت فعلت ، وإن لم أرد لم أفعل ، فقال تعالى : {وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ مَتَـاعُا بِالْمَعْرُوفِا حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني على كل من كان متقياً عن الكفر ، واعلم أن المراد من المتاع ههنا فيه قولان أحدهما : أنه هو المتعة ، فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات ، فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات ، وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى : لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس ، وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه } (البقرة : 236).
فإن قيل : لم أعيد ههنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله : {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه } .
قلنا : هناك ذكر حكماً خاصاً ، وههنا ذكر حكماً عاماً.
والقول الثاني : أن المراد بهذه المتعة النفقة ، والنفقة قد تسمى متاعاً وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى ، وههنا آخر الآيات الدالة على الأحكام والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 494
495
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار السامع ، ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ، ومزيد الخضوع والانقياد فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} أما قوله : {أَلَمْ تَرَ} ففيه مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أن الرؤية قد تجىء بمعنى رؤية البصيرة والقلب ، وذلك راجع إلى العلم ، كقوله : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} (البقرة : 128) معناه : علمنا ، وقال : {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاـاكَ اللَّه } (النساء : 105) أي علمك ، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به ، وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : ألم تر إلى ما جرى على فلان ، فيكون هذا ابتداء تعريف ، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ، ويجوز أن نقول : كان العلم بها سابقاً على نزول هذه الآية ، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم.
المسألة الثانية : هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته ، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه ، كقوله تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1).
المسألة الثالثة : دخول لفظة {إِلَى } في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} يحتمل أن يكون لأجل أن {إِلَى } عندهم حرف للانتهاء كقولك : من فلان إلى فلان ، فمن علم بتعليم معلم ، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه ، فحسن من هذا الوجه دخول حرف {إِلَى } فيه ، ونظيره قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان : 45).
جزء : 6 رقم الصفحة : 495
(1/957)
أما قوله : {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} ففيه روايات أحدها : قال السدي : كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها ، والذين بقوا مات أكثرهم ، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا سالمين ، فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحرص منا ، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ، ولئن وقع الطاعون ثانياً خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً ، فلما خرجوا من ذلك الوادي ، ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا ، فهلكوا وبليت أجسامهم ، فمر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهما وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم ؟
فقال نعم فقيل له : ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام ثم أوحى الله إليه : ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً ودماً ، فصارت لحماً ودماً ، ثم قيل : ناد إن الله يأمرك أن تقومي فقامت ، فلما صاروا أحياء قاموا ، وكانوا يقولون : "سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت" ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم ، وكانت أمارات أنهم ماتوا ظاهرة في وجوههم ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.
الرواية الثانية : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال ، فخافوا القتال وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء/ فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء ، فأماتهم الله تعالى بأسرهم ، وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا ، وبلغ بني / إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم ، فعجزوا من كثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر ، فأحياهم الله بعد الثمانية ، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم ، واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى عقيب هذه الآية {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 190).
والرواية الثالثة : أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا ، فأرسل الله عليهم الموت ، فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يحرجون عن قبضتك ، فأرسل الله عليهم الموت ، ثم إنه عليه السلام ضاق صدره بسبب موتهم ، فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى.
جزء : 6 رقم الصفحة : 495
أما قوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ} ففيه قولان الأول : أن المراد منه بيان العدد ، واختلفوا في مبلغ عددهم ، قال الواحدي رحمه الله : ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفاً ، والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف.
والقول الثاني : أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد ، وجلوس وجالس ، والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب ، قال القاضي : الوجه الأول أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم ، لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتباراً عظيماً ، فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة ، كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف.
ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفاً لحياته ، محباً لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ} (البقرة : 96) ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها ، أماتهم الله تعالى وأهلكهم ، ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد.
أما قوله : {حَذَرَ الْمَوْتِ} فهو منصوب لأنه مفعول له ، أي لحذر الموت ، ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت ، فلما خص هذا الموضع بالذكر ، علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر ، إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة.
أما قوله تعالى : {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا } ففي تفسير {قَالَ اللَّهُ} وجهان الأول : أنه جار مجرى قوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ} (النحل : 40) وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول ، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير ، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة ، ويدل عليه قوله : {ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ } فإذا صح الإحياء بالقول ، فكذا القول في الإماتة.
/ والقول الثاني : أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم : موتوا ، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي ، ويحتمل أيضاً ما رويناه من أن الملك قال ذلك ، والقول الأول أقرب إلى التحقيق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 495
أما قوله تعالى : {ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ } ففيه مسائل :
(1/958)
المسألة الأولى : الآية دالة على أنه تعالى أحياهم بعد أن ماتوا فوجب القطع به ، وذلك لأنه في نفسه جائر والصادق أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه ، أما الإمكان فلأن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن ، وإلا لما وجد أولاً ، واحتمال تلك الأجزاء للحياة ممكن وإلا لما وجد أولاً ، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الإمكان ، وأما إن الصادق قد أخبر عنه ففي هذه الآية ، ومتى أخبر الصادق عن وقوع ما ثبت في العقل إمكان وقوعه وجب القطع به.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : إحياء الميت فعل خارق للعادة ، ومثل هذا لا يجوز من الله تعالى إظهاره إلا عندما يكون معجزة لنبي ، إذ لو جاز ظهوره لا لأجل أن يكون معجزة لنبي لبطلت دلالته على النبوة ، وأما عند أصحابنا فإنه يجوز إظهار خوارق العادات لكرامة الولي ، ولسائر الأغراض ، فكأن هذا الحصر باطلاً ، ثم قالت المعتزلة : وقد روي أن هذا الإحياء إنما وقع في زمان حزقيل النبي عليه السلام ببركة دعائه ، وهذا يحقق ما ذكرناه من أن مثل هذا لا يوجد إلا ليكون معجزة للأنبياء عليهم السلام ، وقيل : حزقيل هو ذو الكفل ، وإنما سمي بذلك لأنه تكفل بشأن سبعين نبياً وأنجاهم من القتل ، وقيل : إنه عليه السلام مر بهم وهم موتى فجعل يفكر فيهم متعجباً ، فأوحى الله تعالى إليه : إن أردت أحييتهم وجعلت ذلك الإحياء آية لك ، فقال : نعم فأحياهم الله تعالى بدعائه.
المسألة الثالثة : أنه قد ثبت بالدلائل أن معارف المكلفين تصير ضرورية عند القرب من الموت : وعند معاينة الأهوال والشدائد ، فهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم لا يخلو إما أن يقال إنهم عاينوا الأهوال والأحوال التي معها صارت معارفهم ضرورية ، وإما ما شاهدوا شيئاً من تلك الأهوال بل الله تعالى أماتهم بغتة ، كالنوم الحادث من غير مشاهدة الأهوال البتة ، فإن كان الحق هو الأول ، فعندما أحياهم يمتنع أن يقال : إنهم نسوا تلك الأهوال ونسوا ما عرفوا به ربهم بضرورة العقل ، لأن الأحوال العظيمة لا يجوز نسيانها مع كمال العقل ، فكان يجب أن تبقى تلك المعارف الضرورية معهم بعد الإحياء ، وبقاء تلك المعارف الضرورية يمنع من صحة التكليف ، كما أنه لا يبقى التكليف في الآخرة ، وإما أن يقال : إنهم بقوا بعد الإحياء غير مكلفين ، وليس في الآية ما يمنع منه ، أو يقال : إن الله تعالى حين أماتهم ما أراهم شيئاً من الآيات العظيمة التي تصير معارفهم عندها ضرورية ، وما كان ذلك الموت كموت سائر المكلفين الذين يعاينون الأهوال عند / القرب من الموت ، والله أعلم بحقائق الأمور.
جزء : 6 رقم الصفحة : 495
المسألة الرابعة : قال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم ، وهذا القول فيه كلام كثير وبحث طويل.
أما قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} ففيه وجوه أحدها : أنه تفضل على أولئك الأقوام الذين أماتهم بسبب أنه أحياهم ، وذلك لأنهم خرجوا من الدنيا على المعصية ، فهو تعالى أعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي وثانيها : أن العرب الذين كانوا ينكرون المعاد كانوا متمسكين بقول اليهود في كثير من الأمور ، فلما نبه الله تعالى اليهود على هذه الواقعة التي كانت معلومة لهم ، وهم يذكرونها للعرب المنكرين للمعاد ، فالظاهر أن أولئك المنكرين يرجعون من الدين الباطل الذي هو الإنكار إلى الدين الحق الذي هو الإقرار بالبعث والنشور فيخلصون من العقاب ، ويستحقون الثواب ، فكان ذكر هذه القصة فضلاً من الله تعالى وإحساناً في حق هؤلاء المنكرين وثالثها : أن هذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد ، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان ، وتزيل عن قلبه الخوف من الموت ، فكان ذكر هذه القصة سبباً لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة التي بها يفوز بالثواب العظيم ، فكان ذكر هذه القصة فضلاً وإحساناً من الله تعالى على عبده ، ثم قال : {وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} وهو كقوله : {فَأَبَى ا أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} (الفرقان : 50).
جزء : 6 رقم الصفحة : 495
498
فيه قولان الأول : أن هذا خطاب للذين أحيوا ، قال الضحاك : أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد.
واعلم أن القول لا يتم إلا بإضمار محذوف تقديره : وقيل لهم قاتلوا.
(1/959)
والقول الثاني : وهو اختيار جمهور المحققين : أن هذا استئناف خطاب للحاضرين ، يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت ، وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت ، كما قال في قوله : {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} (الأحزاب : 16) فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين ، إما في العاجل الظهور على العدو ، أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم ، والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.
أما قوله تعالى : {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} فالسبيل هو الطريق ، وسميت العبادات سبيلاً إلى الله تعالى / من حيث أن الإنسان يسلكها ، ويتوصل إلى الله تعالى بها ، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين ، فكان طاعة ، فلا جرم كان المجاهد مقاتلاً في سبيل الله ثم قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي هو يسمع كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد ، وفي تنفير الغير عنه ، وعليم بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 498
498
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله ثم أردفه بقوله : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} اختلف المفسرون فيه على قولين {الاوَّلِ } أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة ، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد ، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد ، ثم أكد تعالى ذلك بقوله : {مَّن ذَا الَّذِى} وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله ، والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق.
والقول الثاني : أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال : المراد من هذا القرض إنفاق المال ، ومنهم من قال : إنه غيره ، والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال الأول : أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة ، وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين الأول : أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعاً.
الحجة الثانية : سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في أبي الدحداح قال : يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة ؟
قال : نعم ، قال : وأم الدحداح معي ؟
قال : نعم ، قال : والصبية معي ؟
قال : نعم ، فتصدق بأفضل حديقته ، وكانت تسمى الحنينة ، قال : فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها ، فقام على باب الحديقة ، وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح : بارك الله لك فيما اشتريت ، فخرجوا منها وسلموها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : كم من نخلة رداح ، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح.
/ إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعاً لا واجباً.
والقول الثاني : أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله ، واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وذلك كالزجر ، وهو إنما يليق بالواجب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 498
والقول الثالث : وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين ، كما أنه داخل تحت قوله : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ} (البقرة : 261) من قال : المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال ، قالوا : روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال القاضي : وهذا بعيد ، لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال : ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة ، إلا أن نقول : الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه لو كان قادراً لأنفق وأعطى فحينئذٍ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة".
المسألة الثانية : اختلفوا في أن إطلاق لفظ القرض على هذا الإنفاق حقيقة أو مجاز ، قال الزجاج : إنه حقيقة ، وذلك لأن القرض هو كل ما يفعل ليجازى عليه ، تقول العرب : لك عندي قرض حسن وسيء ، والمراد منه الفعل الذي يجازى عليه ، قال أمية بن أبي الصلت :
كل امرىء سوف يجزى قرضه حسنا
أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا
ومما يدل على أن القرض ما ذكرناه أن القرض أصله في اللغة القطع/ ومنه القراض ، وانقرض القوم إذا هلكوا ، وذلك لانقطاع أثرهم فإذا أقرض فالمراد قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها.
(1/960)
والقول الثاني : أن لفظ القرض ههنا مجاز ، وذلك لأن القرض هو أن يعطي الإنسان شيئاً ليرجع إليه مثله وههنا المنفق في سبيل الله إنما ينفق ليرجع إليه بدله إلا أنه جعل الاختلاف بين هذا الإنفاق وبين القرض من وجوه أحدها : أن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها : أن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا المثل ، وفي هذا الإنفاق هو الضعف وثالثها : أن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا هذا المال المأخوذ ملك لله ، ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله قرضاً ، والحكمة فيه التنبيه على أن ذلك لا يضيع عند الله ، فكما أن القرض يجب أداؤه لا يجوز الإخلال به فكذا الثواب الواجب على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة ، ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء ، فهو يطلب منا القرض ، وهذا الكلام لائق بجهلهم وحمقهم ، لأن الغالب عليهم التشبيه ، ويقولون : إن معبودهم شيخ ، قال القاضي : من يقول في معبوده مثل هذا القول / لا يستبعد منه أن يصفه بالفقر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 498
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ولأي فائدة جرى الكلام على طريق الاستفهام.
قلنا : إن ذلك في الترغيب في الدعاء إلى الفعل أقرب من ظاهر الأمر.
أما قوله تعالى : {قَرْضًا حَسَنًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي : القرض في هذه الآية اسم لا مصدر ، ولو كان مصدراً لكان ذلك إقراضاً.
المسألة الثانية : كون القرض حسناً يحتمل وجوهاً أحدها : أراد به حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام ، لأن مع الشبهة يقع الاختلاط ، ومع الاختلاط ربما قبح الفعل وثانيها : أن لا يتبع ذلك الإنفاق مناً ولا أذى وثالثها : أن يفعله على نية التقرب إلى الله تعالى ، لأن ما يفعل رياء وسمعة لا يستحق به الثواب.
أما قوله تعالى : {فَيُضَـاعِفَه لَه } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله : {فَيُضَـاعِفَه } أربع قراءات أحدها : قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي {فَيُضَـاعِفَه } بالألف والرفع والثاني : قرأ عاصم {فَيُضَـاعِفَه } بألف والنصب والثالث : قرأ ابن كثير بالتشديد والرفع بلا ألف والرابع : قرأ ابن عامر بالتشديد والنصب.
فنقول : أما التشديد والتخفيف فهما لغتان ، ووجه الرفع العطف على يقرض ، ووجه النصب أن يحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ لأن المعنى يكون قرضاً فيضاعفه ، والاختيار الرفع لأن فيه معنى الجزاء ، وجواب الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعاً.
المسألة الثانية : التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يبلغ مثلين أو أكثر ، وفي الآية حذف ، والتقدير : فيضاعف ثوابه.
أما قوله تعالى : {لَه ا أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فمنهم من ذكر فيه قدراً معيناً ، وأجود ما يقال فيه : إنه القدر المذكور في قوله تعالى : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} (البقرة : 261) فيقال يحمل المجمل على المفسر لأن كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لم يقتصر في هذه الآية على التحديد ، بل قال بعده : {وَاللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } (البقرة : 261).
جزء : 6 رقم الصفحة : 498
والقول الثاني : وهو الأصح واختيار السدي : أن هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو وكم هو ؟
وإنما أبهم تعالى ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود.
أما قوله تعالى : {مَّن ذَا الَّذِى} ففي بيان أن هذا كيف يناسب ما تقدم وجوه أحدها : / أن المعنى أنه تعالى لما كان هو القابض الباسط ، فإن كان تقدير هذا الذي أمر بإنفاق المال الفقر فلينفق المال في سبيل الله ، فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الفقر ، وإن كان تقديره الغنى فلينفق فإنه سواء أنفق أو لم ينفق فليس له إلا الغنى والسعة وبسط اليد ، فعلى كلا التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى وثانيها : أن الإنسان إذا علم أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا ، وبقي اعتماده على الله ، فحينئذٍ يسهل عليه إنفاق المال في سبيل مرضاة الله تعالى وثالثها : أنه تعالى يوسع عن عباده ويقتر ، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم ، لئلا يبدل السعة الحاصلة لكم بالضيق ورابعها : أنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم عليها أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه وإعانته ، فقال : {مَّن ذَا الَّذِى} يعني يقبض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة ، ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة ، ثم قال : {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} والمراد به إلى حيث لا حاكم ولا مدبر سواه ، والله أعلم.
القصة الثانية
قصة طالوت
جزء : 6 رقم الصفحة : 498
501
الملأ الأشراف من الناس ، وهو اسم الجماعة ، كالقوم والرهط والجيش ، وجمعه أملاء ، قال الشاعر :
وقال لها الأملاء من كل معشر
(1/961)
وخير أقاويل الرجال سديدها
وأصلها من الملء ، وهم الذين يملأون العيون هيبة ورواء ، وقيل : هم الذين يملأون المكان إذا حضروا ، وقال الزجاج : الملأ الرؤساء ، سموا بذلك لأنهم يملأون القلوب بما يحتاج إليه ، من قولهم : ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملىء.
قوله تعالى : {إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا} في الآية مسائل :
المسألة الأولى : تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 190) ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل ، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه ، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة ، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى.
المسألة الثانية : لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل ، سواء علمنا أن النبي من كان من أولئك ، وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئاً من ذلك ، لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف ، وإنما يعلم من ذلك النبي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود ، وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن ، ومنهم من قال : إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف ، والدليل عليه قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ مُوسَى } وهذا ضعيف لأن قوله : {مِنا بَعْدِ مُوسَى } كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان ، ومنهم من قال : كان اسم ذلك النبي أشمويل من بني هرون واسمه بالعربية : إسماعيل ، وهو قول الأكثرين ، وقال السدي : هو شمعون ، سمته أمه بذلك ، لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها ، فسمته شمعون ، يعني سمع دعاءها فيه ، والسين تصير شيناً بالعبرانية ، وهو من ولد لاوى بن يعقوب عليه السلام.
جزء : 6 رقم الصفحة : 501
المسألة الثالثة : قال وهب والكلبي : إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل ، والخطايا عظمت فيهم ، ثم غلب عليهم عدو لهم فسبى كثيراً من ذراريهم ، فسألوا نبيهم ملكاً تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم ، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم ، وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل ، وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ، ويجري الأحكام ، ونبي يطيعه الملك ، ويقيم أمر دينهم ، ويأتيهم بالخبر من عند ربهم.
أما قوله : {نُّقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّه } فاعلم أنه قرىء {نُّقَـاتِلْ} بالنون والجزم على الجواب ، وبالنون والرفع على أنه حال ، أي ابعثه لنا مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قيل : ما تصنعون بالملك ، / قالوا نقاتل ، وقرىء بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لقوله : {مَلِكًا } أما قوله : {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَـاتِلُوا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحده {عَسَيْتُمْ} بكسر السين ههنا ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلّم ، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابي أنهم يقولون : هو عسى بكذا وهذا يقوي {عَسَيْتُمْ} بكسر السين ، ألا ترى أن عسى بكذا ، مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز {عَسَى رَبُّكُمْ} أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين الأول : أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة ، وليست الياء من {عَسَى } كذلك ، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة ، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى.
والجواب الثاني : هب أن القياس يقتضي جواز {عَسَى رَبُّكُمْ} إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان ، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر.
المسألة الثانية : خبر {هَلْ عَسَيْتُمْ} وهو قوله : {أَلا تُقَـاتِلُوا } والشرط فاصل بينهما ، والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل {هَلْ} مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون ، وأراد بالاستفهام التقرير ، وثبت أن المتوقع كائن له ، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} معناه التقرير ، ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا : {وَمَا لَنَآ أَلا نُقَـاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا يدل على ضمان قوي خصوصاً واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك ، وهو قولهم : {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآاـاِنَا } لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته.
جزء : 6 رقم الصفحة : 501
فإن قيل : المشهور إنه يقال : مالك تفعل كذا ؟
ولا يقال : مالك أن تفعل كذا ؟
قال تعالى : {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح : 13) وقال : {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّه } (الحديد : 8).
(1/962)
والجواب من وجهين : الأول : وهو قول المبرد : أن {مَّآ} في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال : ما لنا نترك القتال ، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.
الوجه الثاني : أن نسلم أن {مَّآ} ههنا بمعنى الاستفهام ، ثم على هذا القول وجوه الأول : قال الأخفش : أن ههنا زائدة ، والمعنى : ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف ، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل الثاني : قال الفراء : الكلام ههنا محمول على المعنى ، لأن قولك : مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل ؟
فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} (ص : 75) وقال : {مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ} (الحجر : 32) الثالث : قال الكسائي : معنى {وَمَا لَنَآ أَلا نُقَـاتِلَ} أي شيء لنا في ترك القتال ؟
ثم سقطت كلمة {فِى } ورجح أبو علي الفارسي ، قول / الكسائي على قول الفراء ، قال : وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر ، والتقدير : ما يمنعنا من أن نقاتل ، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين ، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره ، وعلى قول الفراء لا يبقى ، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى.
أما قوله : {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا } فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
أما قوله : {إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم ، وقيل : كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر {وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ} أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه/ وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجراً عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثاً على الجهاد ، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 501
503
اعلم أنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا ، ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت ، وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكاً فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً ، قال صاحب "الكشاف" : طالوت اسم أعجمي ، كجالوت ، وداود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته ، وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم ، ووزنه إن كان من الطول فعلوت ، وأصله طولوت ، إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون / منه ، إلا أن يقال : هو اسم عبراني وافق عربياً كما وافق حطة حنطة ، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببية العجمة لكونه عبرانياً ، ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكاً لهم أظهروا التولي عن طاعته ، والإعراض عن حكمه ، وقالوا : {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} واستبعدوا جداً أن يكون هو ملكاً عليهم ، قال المفسرون : وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل ، وهو سبط لاوى بن يعقوب ، ومنه موسى وهرون ، وسبط المملكة ، سبط يهوذا ، ومنه داود وسليمان ، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين ، بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكاً لهم ، وزعموا أنهم أحق بالملك منه ، ثم أنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى ، وهي قولهم : ولم يؤت سعة من المال ، وذلك إشارة إلى أنه فقير ، واختلفوا فقال وهب ، كان دباغاً ، وقال السدي : كان مكارياً ، وقال آخرون ، كان سقاء.
فإن قيل : ما الفرق بين الواوين في قوله : {وَنَحْنُ أَحَقُّ} وفي قوله : {وَلَمْ يُؤْتَ} .
قلنا : الأولى للحال ، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً ، والمعنى : كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك ، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به ، ثم إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول : قوله : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ} وفيه مسائل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 503
المسألة الأولى : معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة.
واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي ، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكاً عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم ، وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك ، وإذا ثبت ذلك كان ملكاً واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة.
(1/963)
المسألة الثانية : قوله : {اصْطَفَـاهُ} أي أخذ الملك من غيره صافياً له ، واصطفاه ، واستصفاه بمعنى الاستخلاص ، وهو أن يأخذ الشيء خالصاً لنفسه ، وقال الزجاج : إنه مأخوذ من الصفوة ، والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد ، وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة ، وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم : المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى.
المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول : إن الإمامة موروثة ، وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة ، فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط/ والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك وهو نظير قوله : {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} (آل عمران : 26).
الوجه الثاني : في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى : {وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } وتقرير / هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين أحدهما : أنه ليس من أهل بيت الملك الثاني : أنه فقير ، والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما : العلم والثاني : القدرة ، وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه أحدها : أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية ، والمال والجاه ليسا كذلك والثاني : أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان الثالث : أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان ، والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان والرابع : أن العلم بأمر الحروب ، والقوي الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد ، وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح ، وقدرة على دفع الأعداء ، فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر ، أولى من إسناده إلى النسيب الغني ثم ههنا مسائل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 503
المسألة الأولى : احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله : {وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } وهذا يدل على أن العلوم الحاصلة للخلق ، إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده ، وقالت المعتزلة هذه الإضافة إنما كانت لأنه تعالى هو الذي يعطي العقل ونصب الدلائل ، وأجاب الأصحاب بأن الأصل في الإضافة المباشرة دون التسبب.
المسألة الثانية : قال بعضهم : المراد بالبسطة في الجسم طول القامة ، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه ، وإنما سمي طالوت لطوله ، وقيل المراد من البسطة في الجسم الجمال ، وكان أجمل بني إسرائيل وقيل : المراد القوة ، وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة ، لا الطول والجمال.
المسألة الثالثة : أنه تعالى قدم البسطة في العلم ، على البسطة في الجسم ، وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية.
الوجه الثالث : في الجواب عن الشبهة قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَه مَن يَشَآءُ } وتقريره أن الملك لله والعبيد لله فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله ، لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله.
الوجه الرابع : في الجواب قوله تعالى : {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وفيه ثلاثة أقوال أحدها : أنه تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة ، وسعت رحمته كل شيء ، والتقدير : أنتم طعنتم في طالوت بكونه فقيراً ، والله تعالى واسع الفضل والرحمة ، فإذا فوض الملك إليه ، فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال ، فالله تعالى يفتح عليه باب الرزق والسعة في المال.
والقول الثاني : أنه واسع ، بمعنى موسع ، أي يوسع على من يشاء من نعمه ، وتعلقه بما / قبله على ما ذكرناه والثالث : أنه واسع بمعنى ذو سعة ، ويجيء فاعل ومعناه ذو كذا ، كقوله : {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) أي ذات رضا ، وهم ناصب ذو نصب ، ثم بين بقوله : {عَلِيمٌ} أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بمقادير ما يحتاج إليه في تدبير الملك ، وعالم بحال ذلك الملك في الحاضر والمستقبل ، فيختار لعلمه بجميع العواقب ما هو مصلحته في قيامه بأمر الملك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 503
505
(1/964)
اعلم أن ظاهر الآية المتقدمة يدل على أن أولئك الأقوام كانوا مقرين بنبوة النبي الذي كان فيهم / لأن قوله تعالى حكاية عنهم {إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} كالظاهر في أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي ، ومقرين بأنه مبعوث من عند الله تعالى ، ثم إن ذلك النبي لما قال : {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } كان هذا دليلاً قاطعاً في كون طالوت ملكاً ، ثم إنه تعالى لكمال رحمته بالخلق ، ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر يدل على كون ذلك النبي صادقاً في ذلك الكلام ، ويدل أيضاً على أن طالوت نصبه الله تعالى للملك وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز ، ولذلك أنه كثرت معجزات موسى عليه السلام ، ومحمد عليه الصلاة والسلام ، فلهذا قال تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِه أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن مجيء ذلك التابوت لا بد وأن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون آية من عند الله ، دالة على صدق تلك الدعوى ، ثم قال أصحاب الأخبار : إن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده ، فتوارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل ، فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصرة ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت ، قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره ، ثم إن الكفار الذين سلبوا ذلك التابوت كانوا قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي عليهم في ذلك الوقت ، فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كلّ من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله تعالى بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت ، فأخرجوه ووضعوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران ووكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما ، حتى أتوا منزل طالوت ، ثم إن قوم ذلك النبي رأوا التابوت عند طالوت ، فعلموا أن ذلك دليل على كونه ملكاً لهم ، فذلك هو قوله تعالى : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِه } والإتيان على هذا مجاز ، لأنه أتى به ولم يأت هو فنسب إليه توسعاً ، كما يقال : ربحت الدراهم ، وخسرت التجارة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
والرواية الثانية : أن التابوت صندوق كان موسى عليه السلام يضع التوراة فيه ، وكان من خشب ، وكانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل/ ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، ثم إن التابوت لم تحمله الملائكة ولا الثوران ، بل نزل من السماء إلى الأرض ، والملائكة كانوا يحفظونه ، والقوم كانوا ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت ، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وعلى هذا الإتيان حقيقة في التابوت ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً ، لأن من حفظ شيئاً في / الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء وإن لم يحمله كما يقول القائل : حملت الأمتعة إلى زيد إذا حفظها في الطريق ، وإن كان الحامل غيره.
واعلم أنه تعالى جعل إتيان التابوت معجزة ، ثم فيه احتمالان أحدهما : أن يكون مجىء التابوت معجزاً ، وذلك هو الذي قررناه والثاني : أن لا يكون التابوت معجزاً ، بل يكون ما فيه هو المعجز ، وذلك بأن يشاهدوا التابوت خالياً ، ثم إن ذلك النبي يضعه بمحضر من القوم في بيت ويغلقوا البيت ، ثم إن النبي يدعي أن الله تعالى خلق فيه ما يدل على واقعتنا ، فإذا فتحوا باب البيت ونظروا في التابوت رأوا فيه كتاباً يدل على أن ملكهم هو طالوت ، وعلى أن الله سينصرهم على أعدائهم فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنه من عند الله تعالى ، ولفظ القرآن يحتمل هذا ، لأن قوله : {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أنهم يجدون في التابوت هذا المعجز الذي هو سبب لاستقرار قلبهم واطمئنان أنفسهم فهذا محتمل.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : وزن التابوت إما أن يكون فعلوتاً أو فاعولاً ، والثاني مرجوح ، لأنه يقل في كلام العرب لفظ يكون فاؤه ولامه من جنس واحد ، نحو : سلس وقلق ، فلا يقال : تابوت من تبت قياساً على ما نقل ، وإذا فسد هذا القسم تعين الأول ، وهو أنه فعلوت من التوب ، وهو الرجوع لأنه ظرف يوضع فيه الأشياء ، ويودع فيه فلا يزول يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته.
المسألة الثالثة : قرأ الكل : التابوت بالتاء ، وقرأ أبي وزيد بن ثابت بالهاء وهي لغة الأنصار.
(1/965)
المسألة الرابعة : من الناس من قال : إن طالوت كان نبياً ، لأنه تعالى أظهر المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً ، ولا يقال : إن هذا كان من كرامات الأولياء ، لأن الفرق بين الكرامة والمعجزة أن الكرامة لا تكون على سبيل التحدي ، وهذا كان على سبيل التحدي ، فوجب أن لا يكون من جنس الكرامات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
والجواب : لا يبعد أن يكون ذلك معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له فإنه كان آية قاطعة في ثبوت ملكه.
أما قوله تعالى : {التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : {السَّكِينَةَ} فعيلة من السكون ، وهو ضد الحركة وهي مصدر وقع موقع الاسم ، نحو : القضية والبقية والعزيمة.
المسألة الثانية : اختلفوا في السكينة ، وضبط الأقوال فيها أن نقول : المراد بالسكينة إما أن يقال إنه كان شيئاً حاصلاً في التابوت أو ما كان كذلك.
/ والقسم الثاني : هو قول أبي بكر الأصم ، فإنه قال : {مُلْكِه أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ} أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك ، وتزول نفرتكم عنه ، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية.
وأما القسم الأول : وهو أن المراد من السكينة شيء كان موضوعاً في التابوت ، وعلى هذا ففيه أقوال الأول : وهو قول أبي مسلم أنه كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام ، بأن الله ينصر طالوت وجنوده ، ويزيل خوف العدو عنهم الثاني : وهو قول علي عليه السلام : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وكان لها ريح هفافة والثالث : قول ابن عباس رضي الله عنهما : هي صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، فإذا صاحت كصياح الهر ذهب التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا وقف وقفوا ونزل النصر.
القول الرابع : وهو قول عمرو بن عبيد : إن السكينة التي كانت في التابوت شيء لا يعلم.
واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن ، وهو كقوله في قصة الغار : {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَه عَلَى رَسُولِه وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (الفتح : 26) فكذا قوله تعالى : {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} معناه الأمن والسكون.
واحتج القائلون بأنه حصل في التابوت شيء بوجهين الأول : أن قوله : {فِيهِ سَكِينَةٌ} يدل على كون التابوت ظرفاً للسكينة والثاني : وهو أنه عطف عليه قوله : {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى } فكما أن التابوت كان ظرفاً للبقية وجب أن يكون ظرفاً للسكينة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
والجواب عن الأول : أن كلمة {فِى } كما تكون للظرفية فقد تكون للسببية قال عليه الصلاة والسلام : "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" وقال : "في خمس من الإبل شاة" أي بسببه فقوله في هذه الآية : {فِيهِ سَكِينَةٌ} أي بسببه تحصل السكينة.
والجواب عن الثاني : لا يبعد أن يكون المراد بقية مما ترك آل موسى وآل هارون من الدين والشريعة ، والمعنى أن بسبب هذا التابوت ينتظم أمر ما بقي من دينهما وشريعتهما.
وأما القائلون بأن المراد بالبقية شيء كان موضوعاً في التابوت فقالوا : البقية هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفير من المن الذي كان ينزل عليهم.
أما قوله : {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ} ففيه قولان الأول : قال بعض المفسرين يحتمل أن يكون المراد من آل موسى وآل هارون هو موسى وهارون أنفسهما ، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى الأشعري : "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود" وأراد به داود نفسه ، لأنه لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن مثل ما كان لداود عليه السلام.
/ والقول الثاني : قال القفال رحمه الله : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون ، لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت ، وما في التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون ، فيكون الآل هم الأتباع ، قال تعالى : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } (غافر : 46).
وأما قوله : {تَحْمِلُهُ الْمَلَـا ئِكَةُ } فقد تقدم القول فيه.
وأما قوله : {إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالمعنى أن هذه الآية معجزة باهرة إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق المدعي.
قوله تعالى : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} فيه مسائل.
(1/966)
المسألة الأولى : اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها يظهر بتقدير محذوف يدل عليه باقي الكلام ، والتقدير أنه لما أتاهم بآية التابوت أذعنوا له ، وأجابوا إلى المسير تحت رايته. فلما فصل بهم أي فارق بهم حد بلده وانقطع عنه ، ومعنى الفصل القطع ، يقال : قول فصل ، إذا كان يقطع بين الحق والباطل وفصلت اللحم عن العظم فصلاً وفاصل الرجل شريكه وامرأته فصالاً ، ويقال للفطام فصال ، لأنه يقطع عن الرضاع ، وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه ، ومنه قوله : {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} (يوسف : 94) قال صاحب "الكشاف" قوله : فصل عن موضع كذا أصله فصل نفسه ، ثم لأجل الكثرة في الاستعمال حذفوا المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كما يقال انفصل والجنود جمع جند وكل صنف من الخلق جند على حدة ، يقال للجراد الكثيرة إنها جنود الله/ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "الأرواح جنود مجندة".
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
المسألة الثانية : روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل يبني بناءً لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختار ثمانون ألفاً.
أما قوله تعالى : {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن هذا القائل من كان فقال الأكثرون : أنه هو طالوت وهذا هو الأظهر لأن قوله لا بد وأن يكون مسنداً إلى مذكور سابق ، والمذكور السابق هو طالوت ، ثم على هذا يحتمل أن يكون القول من طالوت لكنه تحمله من نبي الوقت ، وعلى هذا التقدير لا يلزم أن يكون طالوت نبياً ويحتمل أن يكون من قبل نفسه فلا بد من وحي أتاه عن ربه ، وذلك يقتضي أنه مع الملك كان نبياً.
والقول الثاني : أن قائل هذا القول هو النبي المذكور في أول الآية ، والتقدير : فلما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم : {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} ونبي ذلك الوقت هو اشمويل عليه السلام.
/ المسألة الثانية : في حكمة هذا الابتلاء وجهان الأول : قال القاضي : كان مشهوراً من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو ، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال : {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} الثاني : أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد.
المسألة الثالثة : في النهر أقوال أحدها : وهو قول قتادة والربيع ، أنه نهر بين الأردن وفلسطين والثاني : وهو قول ابن عباس والسدي : أنه نهر فلسطين ، قال القاضي : والتوفيق بين القولين أن النهر الممتد من بلد قد يضاف إلى أحد البلدين.
القول الثالث : وهو الذي رواه صاحب "الكشاف" : أن الوقت كان قيظاً فسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً فقال : إن الله مبتليكم بما اقترحتموه من النهر.
المسألة الرابعة : قوله : {مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} أي ممتحنكم امتحان العبد كما قال : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} (الإنسان : 2) ولما كان الابتلاء بين الناس إنما يكون لظهور الشيء ، وثبت أن الله تعالى لا يثبت ، ولا يعاقب على علمه ، إنما يفعل ذلك بظهور الأفعال بين الناس ، وذلك لا يحصل إلا بالتكليف لا جرم سمي التكليف ابتلاء ، وفيه لغتان بلا يبلو ، وابتلى يبتلي ، قال الشاعر :
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
ولقد بلوتك وابتليت خليفتي
ولقد كفاك مودتي بتأدب
فجاء باللغتين.
المسألة الخامسة : نهر ونهر بتسكين الهاء وتحريكها لغتان ، وكل ثلاثي حشوه حرف من حروف الحلق فإنه يجىء على هذين ، كقولك : صخر وصخر ، وشعر وشعر ، وقالوا : بحر وبحر ، وقال الشاعر :
كأنما خلقت كفاء من حجر
فليس بين يديه والندى عمل
يرى التيمم في بر وفي بحر
مخافة أن يرى في كفه بلل
أما قوله تعالى : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {فَلَيْسَ مِنِّي} كالزجر ، يعني ليس من أهل ديني وطاعتي ، ونظيره قوله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم قال قبل هذا : {الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍا يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} وأيضاً نظيره قوله صلى الله عليه وسلّم : "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا" أي ليس على ديننا ومذهبنا والله أعلم.
(1/967)
المسألة الثانية : قال أهل اللغة {لَّمْ يَطْعَمْهُ} أي لم يذقه ، وهو من الطعم ، وهو يقع على الطعام / والشراب هذا ما قاله أهل اللغة ، وعندي إنما اختير هذا اللفظ لوجهين من الفائدة أحدهما : أن الإنسان إذا عطش جداً ، ثم شرب الماء وأراد وصف ذلك الماء بالطيب واللذة قال : إن هذا الماء كأنه الجلاب ، وكأنه عسل فيصفه بالطعوم اللذيذة ، فقوله : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} معناه أنه وإن بلغ به العطش إلى حيث يكون ذلك الماء في فمه كالموصوف بهذه الطعوم الطيبة فإنه يجب عليه الاحتراز عنه ، وأن لا يشربه والثاني : أن من جعل الماء في فمه وتمضمض به ثم أخرجه من الفم ، فإنه يصدق عليه أنه ذاقه وطعمه ، ولا يصدق عليه أنه شربه ، فلو قال : ومن لم يشربه فإنه مني كان المنع مقصوراً على الشرب ، أما لما قال : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} كان المنع حاصلاً في الشرب وفي المضمضة ، ومعلوم أن هذا التكليف أشق ، وأن الممنوع من شرب الماء إذا تمضمض به وجد نوع خفة وراحة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال في أول الآية : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ثم قال بعده : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} وكان ينبغي أن يقال : ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقاً أولها ، إلا أنه ترك ذلك اللفظ ، واختير هذا لفائدة ، وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث ؟
قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر ، حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث ، لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلاً بذلك الشيء ، وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر ، وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث ، لأن ذلك وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز معروف مشهور.
إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ظاهره أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر ، حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي ، فلما كان هذا الاحتمال قائماً في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام ، فقال : {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّى } أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام.
أما قوله : {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَا بِيَدِه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {غُرْفَةَ } بفتح الغين ، وكذلك يعقوب وخلف ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم ، قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف ، والغرفة بالفتح الفعل ، وهو الاغتراف مرة واحدة ، ومثله الأكلة والأكلة ، يقال : فلان يأكل في النهار أكله واحدة ، وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئاً قليلاً كاللقمة ، ويقال : الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه ، وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة ، ونحوه : الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين ، والخطوة أن يخطو مرة واحدة ، وقال المبرد : غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم ملء / الكف أو ما اغترف به.
المسألة الثانية : قوله : {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ} استثناء من قوله : {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} وهذه الجملة في حكم المتصلة بالاستثناء ، إلا أنها قدمت في الذكر للعناية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
المسألة الثالثة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه/ ويحمل منها.
وأقول : هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما : أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة ، بغرفة واحدة ، بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه ، ولأن يحمله مع نفسه والثاني : أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء ، وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة والسلام.
أما قوله تعالى : {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبي والأعمش {إِلا قَلِيلا} قال صاحب "الكشاف" : وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى ، وإعراضهم عن اللفظ ، لأن قوله : {فَشَرِبُوا مِنْهُ} في معنى : فلم يطيعوه ، لا جرم حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم.
(1/968)
المسألة الثانية : قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق ، والموافق عن المخالف ، فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلاً لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر ، وأن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذوناً في هذا القتال ، وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال ، لا جرم أقدموا على الشرب ، فتميز الموافق عن المخالف ، والصديق عن العدو ، ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد ، وقع أكثرهم في النهر ، وأكثروا الشرب ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى ، فلم يزيدوا على الاغتراف ، وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا ، وبقوا على شط النهر ، وجبنوا على لقاء العدو ، وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى ، فقوي قلبهم وصح إيمانهم ، وعبروا النهر سالمين.
المسألة الثالثة : القليل الذي لم يشرب قيل : إنه أربعة آلاف ، والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون ، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه يوم بدر : أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن ، قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
أما قوله : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ} ففيه مسألتان :
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
المسألة الأولى : لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر ، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده ، وفيه قولان الأول : أنه ما عبر معه إلا المطيع ، واحتج هذا القائل بأمور الأول : أن الله تعالى قال : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ} فالمراد بقوله : {الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه } الذين وافقوه في تلك الطاعة ، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر ، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر ، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية : الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي ليس من أصحابي في سفري ، كالرجل الذي يقول لغيره : لست أنت منا في هذا الأمر ، قال : ومعنى {فَشَرِبُوا مِنْهُ} أي ليتسببوا به إلى الرجوع ، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.
الحجة الثالثة : أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد ، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو ، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.
القول الثاني : أنه استصحب كل جنوده وكلهم عبروا النهر واعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِه } ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق ، وهذه الحجة ضعيفة ، وبيان ضعفها من وجوه أحدها : يحتمل أن يقال : إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر وتخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فنحن معذورون في هذا التخلف ، أقصى ما في الباب أن يقال : إن الفاء في قوله : {فَلَمَّا جَاوَزَه } تقتضي أن يكون قولهم : {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ} إنما وقع بعد المجاوزة ، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال : إن طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة ، ويحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، وعلى هذا التقدير فالإشكال أيضاً زائل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
والجواب الثاني : أنه يحتمل أن يقال : المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالباً على طبعه ، ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى.
فالقسم الأول : هم الذين قالوا : {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ} .
والقسم الثاني : هم الذين أجابوا بقولهم : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ } .
(1/969)
والجواب الثالث : يحتمل أن يقال : القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا : / {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِه } فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل ، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر الله ، والقسم الثاني قالوا : لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر ، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة ، وعلى هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر.
المسألة الثانية : الطاقة مصدر بمنزلة الإطاقة ، يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ، ومثلها أطاع إطاعة ، والاسم الطاعة ، وأغار يغير إغارة والاسم الغارة ، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة وفي المثل : أساء سمعاً فأساء جابة ، أي جواباً.
أما قوله تعالى : {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا اللَّهِ} ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى لم جعلهم ظانين ولم يجعلهم حازمين ؟
.
وجوابه : أن السبب فيه أمور الأول : وهو قول قتادة : أن المراد من لقاء الله الموت ، قال عليه الصلاة والسلام : "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وهؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل ، وغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت ، لا جرم قيل في صفتهم : إنهم يظنون أنهم ملاقوا الله الثاني : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا اللَّهِ} أي ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك لأن أحداً لا يعلم عاقبة أمره ، فلا بد أن يكون ظاناً راجياً وإن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر ، إلا من أخبر الله بعاقبة أمره ، وهذا قول أبي مسلم وهو حسن.
الوجه الثالث : أن يكون المعنى : قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة الله ، وذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعاً بأن هذا العمل الذي عمله طاعة ، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء والسمعة ، ولا يكون بنية خالصة فحيئذٍ لا يكون الفعل طاعة ، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة والإخلاص.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
الوجه الرابع : أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين/ دالة على حصول النصر والظفر لطالوت وجنوده ، ولكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر والظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها ، فقوله : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا اللَّهِ} يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد الله بالظفر ، وإنما جعله ظناً لا يقيناً لأن حصوله في الجملة وإن كان قطعاً إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.
الوجه الخامس : قال كثير من المفسرين : المراد بقوله : {يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا اللَّهِ} أنهم يعلمون ويوقنون ، إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد.
/ أما قوله : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَا بِإِذْنِ اللَّه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا : {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِه } والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي ، والنصر السماوي ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة.
المسألة الثانية : الفئة : الجماعة ، لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة ، وقال الزجاج : أصل الفئة من قولهم : فأوت رأسه بالسيف ، وفأيت إذا قطعت ، فالفئة الفرقة من الناس ، كأنها قطعة منهم.
المسألة الثالثة : قال الفراء : لو ألغيت من ههنا جاز في فئة الرفع والنصب والخفض ، أما النصب فلأن {كَمْ} بمنزلة عدد فنصب ما بعده نحو عشرين رجلاً ، وأما الخفض فبتقدير دخول حرف {مِّنْ} عليه ، وأما الرفع فعلى نية تقديم الفعل كأنه قيل : كم غلبت فئة.
وأما قوله : {وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ} فلا شبهة أن المراد المعونة والنصرة ، ثم يحتمل أن يكون هذا قولاً للذين قالوا : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} ويحتمل أن يكون قولاً من الله تعالى ، وإن كان الأول أظهر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 505
514
فيه مسائل :
المسألة الأولى : المبارزة في الحروب ، هي أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه وقت القتال ، والأصل فيها أن الأرض الفضاء التي لا حجاب فيها يقال لها البراز ، فكان البروز عبارة عن حصول كل واحد منهما في الأرض المسماة بالبراز ، وهو أن يكون كل واحد منهما بحيث يرى صاحبه.
(1/970)
المسألة الثانية : أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام والضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وأوضحوا أن الفتح والنصرة لا يحصلان إلا بإعانة الله ، لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت ورأوا القلة في جانبهم ، والكثرة في جانب عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدعاء والتضرع ، فقالوا : {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين : {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَـاتَلَ مَعَه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} (آل عمران : 146) / إلى قوله : {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} (آل عمران : 147) وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في كل المواطن ، وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده ، وكان متى لقي عدواً قال : "اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم" وكان يقول : "اللهم بك أصول وبك أجول".
المسألة الثالثة : الإفراغ الصب ، يقال : أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه ، وأصله من الفراغ ، يقال : فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله ، والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه ، وإنما يخلو بصب كل ما فيه.
إذا عرفت هذا فنقول قوله : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين أحدهما : أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه ، وهذا يدل على التأكيد والثاني : أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه ، وذلك يكون بصب كل ما فيه ، فمعنى : أفرغ علينا صبراً : أي أصبب علينا أتم صب وأبلغه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 514
المسألة الرابعة : اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة فأولها : أن يكون الإنسان صبوراً على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة ، وهذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جباناً لا يحصل منه مقصود أصلاً وثانيها : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات والاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار وثالثها : أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو.
إذا عرفت هذا فنقول المرتبة الأولى : هي المراد من قوله : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} والثانية : هي المراد بقوله : {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} والثالثة : هي المراد بقوله : {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} .
المسألة الخامسة : احتج الأصحاب على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بقوله : {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} وذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات ، ولا معنى للثبات إلا السكون والاستقرار وهذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من الله تعالى ، وهو قوله : {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} وعلى أن الثبات والسكون الحاصل عند ذلك القصد أيضاً بفعل الله تعالى ، وهو قوله : {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وهذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد وبخلق الله تعالى ، أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر وتثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر/ وأسباب ثبات القدم ، وتلك الأسباب أمور أحدها : أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب والجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ، ويصير داعياً لهم إلى الصبر على القتال وترك الانهزام ، وثانيها : أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف والتفرق ويصير ذلك سبباً لجراءة المؤمنين عليهم وثالثها : أن يحدث تعالى فيهم وفي ديارهم وأهاليهم من / البلاء مثل الموت والوباء ، وما يكون سبباً لاشتغالهم بأنفسهم ، ولا يتفرغون حينئذٍ للمحاربة فيصير ذلك سبباً لجراءة المسلمين عليهم ورابعها : أن يبتليهم بمرض وضعف يعمهم أو يعم أكثرهم ، أو يموت رئيسهم ومن يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سبباً لقوة قلوبهم ، وموجباً لأن يحصل لهم الصبر والثبات ، هذا كلام القاضي.
والجواب عنه من وجهين : الأول : أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت والثبات عبارة عن السكون ، فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد ومراده من الله تعالى وذلك يبطل قولكم وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره وتحملونه على أسباب الصبر وثبات الأقدام ، ومعلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز.
جزء : 6 رقم الصفحة : 514
الوجه الثاني : في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أوليس لها أثر فيه وإن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من الله قائدة وإن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من الله يحصل الرجحان ، وعند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح ، فيجب حصول الطرف الراجح ، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب والله أعلم.
(1/971)
جزء : 6 رقم الصفحة : 514
515
المعنى : أن الله تعالى استجاب دعاءهم ، وأفرغ الصبر عليهم ، وثبت أقدامهم ، ونصرهم على القوم الكافرين : جالوت وجنوده وحقق بفضله ورحمته ظن من قال : {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَا بِإِذْنِ اللَّه وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ} وأصل الهزم في اللغة الكسر ، يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف ، وهزمت العظم أو القصبة هزماً ، والهزمة نقرة في الجبل ، أو في الصخرة ، قال سفيان بن عيينة في زمزم : هي هزمة جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء ، ويقال : سمعت هزمة / الرعد كأنه صوت فيه تشقق ، ويقال للسحاب : هزيم ، لأنه يتشقق بالمطر ، وهزم الضرع وهزمه ما يكسر منه ، ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن الله وبإعانته وتوفيقه وتيسيره ، وأنه لولا إعانته وتيسيره لما حصل ألبتة ثم قال : {وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن داود عليه السلام كان راعياً وله سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشاً أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجبار وكان من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف ؟
فسكتوا ، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرض الناس ، فقال له داود : ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف ؟
فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي فقال داود : فأنا خارج إليه وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في الرعي ، وكان طالوت عارفاً بجلادته ، فلما هم داود بأن يخرج رماه فأصابه في صدره ، ونفذ الحجر فيه ، وقتل بعده ناساً كثيراً ، فهزم الله جنود جالوت {وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ} فحسده طالوت وأخرجه من مملكته ، ولم يف له بوعده ، ثم ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل ، وملك داود وحصلت له النبوة ، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة إلا له.
اعلم أن قوله : {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ} يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت وإن كان قتل جالوت ما كان إلا من داود ولا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده ، لأن الواو لا تفيد الترتيب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
أما قوله تعالى : {وَءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة ، وبذل النفس في سبيل الله ، مع أنه تعالى كان عالماً بأنه صالح لتحمل أمر النبوة ، والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى : {وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ * وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ مَا فِيهِ بَلَـا ؤٌا مُّبِينٌ} (الدخان : 32 ، 33) وقال : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } (الأنعام : 124) وظاهر هذه الآية يدل أيضاً على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت ، قال بعده : {وَءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة ، يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة ، وقال الأكثرون : إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ، بل ذلك محض التفضل والإنعام/ قال تعالى : {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } (الحج : 75).
المسألة الثانية : قال بعضهم : ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة ، وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت ، وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبيان المناسبة أنه عليه السلام / لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر ، كان ذلك معجزاً ، لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت : خذنا فإنك تقتل جالوت بنا ، فظهور المعجز يدل على النبوة ، وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل ، فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهراً ، وقال الأكثرون : إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك ، قالوا والروايات وردت بذلك ، قالوا : لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته ، والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل ، وملك ذلك الزمان طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود ، ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود ، فاجتمع الملك والنبوة فيه.
(1/972)
المسألة الثالثة : {الْحِكْمَةَ} هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح ، وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة ، قال تعالى : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ا فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (النساء : 54) وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران : 146).
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
فإن قيل : فإذا كان المراد من الحكمة النبوة ، فلم قدم الملك على الحكمة ؟
مع أن الملك أدون حالاً من النبوة.
قلنا : لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية ، وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي ، فكل ما كان أكثر تأخراً في الذكر كان أعلى حالاً وأعظم رتبة.
أما قوله تعالى : {وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَآءُ } ففيه وجوه أحدها : أن المراد به ما ذكره في قوله : {وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنا بَأْسِكُمْ } (الأنبياء : 80) وقال : {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَـابِغَـاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ } (سبأ : 10 ، 11) وثانيها : أن المراد كلام الطير والنمل ، قال تعالى حكاية عنه : {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} (النمل : 16) وثالثها : أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك ، فإنه ما ورث الملك من آبائه ، لأنهم ما كانوا ملوكاً بل كانوا رعاة ورابعها : علم الدين ، قال تعالى : {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} (النساء : 163) وذلك لأنه كان حاكماً بين الناس ، فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء وخامسها : الألحان الطيبة ، ولا يبعد حمل اللفظ على الكل.
فإن قيل : إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة ، وكان المراد بالحكمة النبوة ، فقد دخل العلم في ذلك ، فلم ذكر بعده {وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَآءُ } .
قلنا : المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم ، سواء كان نبياً أو لم يكن ، ولهذا السبب قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) ثم قال تعالى : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الارْضُ} .
/ اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده/ وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب ، وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض ، فقال : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الارْضُ} وههنا مسائل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} (البقرة : 25) بغير ألف ، وكذلك في سورة الحج {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} وقرآ جميعاً {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (الحج : 38) بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } بالألف ، وقرأ نافع {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} و{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} بالألف.
إذا عرفت هذه الروايات فنقول : أما من قرأ : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} ، {إِنَّ اللَّهَ} فوجهه ظاهر ، وأما من قرأ : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} ، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة ، وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعاً لصاحبه ومانعاً له من فعله ، وذلك من العبد في حق الله تعالى محال ، وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين أحدهما : أنه مصدر لدفع ، تقول : دفعته دفعاً ودفاعاً ، كما تقول : كتبته كتباً وكتاباً ، قالوا : وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فعل وفعل ، تقول : جمح جماحاً ، وطمح طماحاً ، وتقول : لقيته لقاء ، وقمت قياماً ، وعلى هذا التأويل كان قوله : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} معناه ولولا دفع الله.
والقول الثاني : قول من جعل دفاع من دافع ، فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات ، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة ، كما قال : {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه } (المائدة : 33) ، {شَآقُّوا اللَّهَ} (الأنفال : 13) وكما قال : {قَـاتَلَهُمُ اللَّه } (التوبة : 30) ونظائره والله أعلم.
(1/973)
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به ، فقوله : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم} إشارة إلى المدفوع ، وقوله : {بِبَعْضِ} إشارة إلى المدفوع به ، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية ، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا ، ويحتمل أن يكون مجموعهما.
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
أما القسم الأول : وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر ، أو إلى الفسق ، أو إليهما ، فلنذكر هذه الاحتمالات.
الاحتمال الأول : أن يكون المعنى : ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض ، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى : {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم : 1).
/ والاحتمال الثاني : أن يكون المراد : ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض ، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على ما قال تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران : 110) ويدخل في هذا الباب : الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى : {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } (المؤمنون : 96) وفي موضع آخر : {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد : 22).
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
الاحتمال الثالث : ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض ، واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام ، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم ، وتقريره : أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده ، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا ، ولا يبني هذا لذاك ، ولا ينسج ذاك لهذا ، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد ، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد ، فلهذا قيل : الإنسان مدني بالطبع ، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً ، والمقاتلة ثانياً ، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق ، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات ، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع ، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة ، والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "الإسلام والسلطان أخوان توأمان" وقال أيضاً : "الإسلام أمير ، والسلطان حارس ، فما لا أمير له فهو منهزم ، وما لا حارس له فهو ضائع" ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم ، ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله : {لَّفَسَدَتِ الارْضُ} أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي ، وذلك يسمى فساداً قال الله تعالى : {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة : 205) وقال : {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا بِالامْسِا إِن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الارْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ} (القصص : 19) وقال : {إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ} (غافر : 26) وقال : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَه لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ} (الأعراف : 127) وقال : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ} (الروم : 41) وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَـاجِدُ} (الحج : 40).
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
(1/974)
الاحتمال الرابع : ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار ، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها ، وتصديق هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "يدفع بمن يصلي من / أمتي عمن لا يصلي ، وبمن يزكي عمن لا يزكي ، وبمن يصوم عمن لا يصوم ، وبمن يحج عمن لا يحج ، وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى : {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَه كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـالِحًا} (الكهف : 82) وقال تعالى : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ} (الفتح : 25) إلى قوله : {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح : 25) وقال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } (الأنفال : 33) ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله : {لَّفَسَدَتِ الارْضُ} أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة.
والاحتمال الخامس : أن يكون اللفظ محمولاً على الكل ، لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً وهو دفع المفسدة ، فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه.
المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر ، لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الارْضُ} ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس.
والجواب : أن الله تعالى لما كان عالماً بوقوع الفساد ، فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد ، فيلزم أن يكون قادراً على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال.
أما قوله : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى ، فقالوا : لو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى ، لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلاً من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ} عقيب قوله : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع ، فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
فإن قالوا : يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر.
قلنا : كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع ، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
فإن قالوا : يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر.
قلنا : كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع ، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 515
520
اعلم أن قوله : {تِلْكَ} إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت ، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء ، وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ، ولا شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته.
فإن قيل : لم قال : {تِلْكَ} ولم يقل : (هذه) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر ؟
.
قلنا : قد بينا في تفسير قوله : {ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه } (البقرة : 2) أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا ، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى ، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال : {تِلْكَ} .
أما قوله تعالى : {نَتْلُوهَا} يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه ، وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام ، وهو كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح : 10).
(1/975)
أما قوله : {بِالْحَقِّ} ففيه وجوه أحدها : أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلى الله عليه وسلّم ، وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد ، كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة وثانيها : {بِالْحَقِّ} أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ، لأنه في كتبهم ، كذلك من غير تفاوت أصلاً وثالثها : إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها : {تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى ، وليس بسبب إلقاء الشياطين ، ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة.
ثم قال : {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه أحدها : أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة ، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى وثانيها : أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم ، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك ، وخلاف من خالف عليك ، لأنك مثلهم ، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع ، لا على سبيل الإكراه ، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم فيما يظهر من الكفار والمنافقين ، ويكون قوله : {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} كالتنبيه على ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 520
521
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : {تِلْكَ} ابتداء ، وإنما قال : {تِلْكَ} ولم يقل أولئك الرسل ، لأنه ذهب إلى الجماعة ، كأنه قيل : تلك الجماعة الرسل بالرفع ، لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
المسألة الثانية : في قوله : {تِلْكَ الرُّسُلُ} أقوال أحدها : أن المراد منه : من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن ، كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني : أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبياً والثالث : وهو قول الأصم : تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الارْضُ} (البقرة : 251).
المسألة الثالثة : وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمداً صلى الله عليه وسلّم من أخبار المتقدمين مع قومهم ، كسؤال قوم موسى {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء : 153) وقولهم : {اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } (الأعراف : 138) وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله ، ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود ، وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة ، وكذلك ما جرى من أمر النهر ، فعزى الله رسوله عما / رأى من قومه من التكذيب والحسد ، فقال : هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم ، ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس ، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات ، وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك ، فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك ، ولكن ما قضى الله فهو كائن ، وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم على إيذاء قومه له.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
المسألة الرابعة : أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمداً صلى الله عليه وسلّم أفضل من الكل ، ويدل عليه وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين.
الحجة الثانية : قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك.
الحجة الثالثة : أنه تعالى قرن طاعته بطاعته ، فقال : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء : 80) وبيعته ببيعته فقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (الفتح : 10) وعزته بعزته فقال : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه } (المنافقون : 8) ورضاه برضاه فقال : {وَاللَّهُ وَرَسُولُه ا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} (التوبة : 62) وإجابته بإجابته فقال : {مُّعْرِضُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال : 24).
(1/976)
الحجة الرابعة : أن الله تعالى أمر محمداً بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } (البقرة : 23) وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات ، وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن ، ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية ، وكذا آية ، لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزاً واحداً بل يكون ألفي معجزة وأزيد.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات ، فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى.
الحجة الخامسة : أن معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلّم أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء.
بيان الأول قوله عليه السلام : "القرآن في الكلام كآدم في الموجودات".
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك.
الحجة السادسة : أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلّم باقية إلى آخر الدهر ، ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
الحجة السابعة : أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) فأمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بالاقتداء بمن قبله ، فإما أن يقال : إنه كان مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد ، أو في فروع الدين وهو غير جائز ، لأن شرعه نسخ سائر الشرائع ، فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق ، فكأنه سبحانه قال : إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم ، فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتدياً بهم في كلها ، وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقاً فيهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم.
الحجة الثامنة : أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر ، فوجب أن يكون أفضل ، أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ : 28) وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنساناً فرداً من غير مال ولا أعوان وأنصار ، فإذا قال لجميع العالمين : يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له ، وحينئذٍ يصير خائفاً من الكل ، فكانت المشقة عظيمة ، وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحداً إلا من فرعون وقومه ، وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له ، يبين ذلك أن إنساناً لو قيل له : هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيداً وبلغ إليه خبراً يوحشه ويؤذيه ، فإنه قلما سمحت نفسه بذلك ، مع أنه إنسان واحد ، ولو قيل له : اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق ، وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان ، أما النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه كان مأموراً بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم ، بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه ، ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ ، بل سارع إليها سامعاً مطيعاً ، فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق ، ولهذا قال تعالى : {لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ } (الحديد : 10) ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول صلى الله عليه وسلّم ، فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول ، وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام : "أفضل العبادات أحمزها".
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
الحجة التاسعة : أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان ، فيلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء ، بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان ، والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثواباً ، كان واضعه أكثر ثواباً من واضعي سائر الأديان ، فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء.
(1/977)
الحجة العاشرة : أمة محمد صلى الله عليه وسلّم أفضل الأمم ، فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء ، بيان الأول قوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 110) بيان الثاني أن هذه الأمة إنما / نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، قال تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران : 31) وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع ، وأيضاً أن محمداً صلى الله عليه وسلّم أكثر ثواباً لأنه مبعوث إلى الجن والإنس ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لأن لكثرة المستجيبين أثراً في علو شأن المتبوع.
الحجة الحادية عشر : أنه عليه السلام خاتم الرسل ، فوجب أن يكون أفضل ، لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول.
الحجة الثانية عشرة : أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها : كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم ، وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف ، وهي بالجملة على أقسام ، منها ما يتعلق بالقدرة ، كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وإروائهم من الماء القليل ، ومنها ما يتعلق لعلوم كالإخبار عن الغيوب ، وفصاحة القرآن ، ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل ، نحو كونه أشرف نسباً من أشراف العرب ، وأيضاً كان في غاية الشجاعة ، كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود : كيف وجدت نفسك يا علي ، قال : وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال : تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك ، الحديث إلى آخره وهو مشهور ، ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه ، وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب.
الحجة الثالثة عشرة : قوله عليه السلام : "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام" وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده ، وقال عليه السلام : "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وقال عليه السلام : "لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا ، ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي" وروى أنس قال صلى الله عليه وسلّم : "أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر" وعن ابن عباس قال : جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثهم فقال بعضهم : عجباً إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه ، وقال آخر : آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجى الله وهو كذلك ، وعيسى روح الله وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر/ وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر.
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
الحجة الرابعة عشرة : روى البيهقي في "فضائل الصحابة" أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام : هذا سيد العرب فقالت عائشة : ألست أنت سيد العرب ؟
فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب ، وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام.
الحجة الخامسة عشرة : روى مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر ، بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي ، فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً" وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره.
(1/978)
الحجة السادسة عشرة : قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى : إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته ، فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة ، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع ، والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب ، وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة ، ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله ، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه : {فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى } (النجم : 10) وفي الفصاحة إلى أن قال : "أوتيت جوامع الكلم" وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت أمته خير الأمم.
الحجة السابعة عشرة : روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب "النوادر" : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً ، وموسى نجياً ، واتخذني حبيباً ، ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي".
الحجة الثامنة عشرة : في "الصحيحين" عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون : ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤك ؟
فقال محمد : كنت أنا تلك اللبنة".
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
الحجة التاسعة عشرة : أن الله تعالى كلما نادى نبياً في القرآن ناداه باسمه {وَقُلْنَا يَـا اَادَمُ اسْكُنْ} (البقرة : 35) ، / {وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ} (الصافات : 104) ، {إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} (طه : 12) وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله : {مُّنتَظِرُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ} ، {اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وذلك يفيد الفضل.
واحتج المخالف بوجوه الأول : أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته ، فإن آدم عليه السلام كان مسجوداً للملائكة ، وما كان محمد عليه السلام كذلك ، وإن إبراهيم عليه السلام ألقى في النيران العظيمة فانقلبت روحاً وريحاناً عليه/ وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة ، ومحمد ما كان له مثلها ، وداود لأن له الحديد في يده ، وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له ، وما كان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم.
الحجة الثانية : أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلاً ، فقال : {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} (النساء : 125) وقال في موسى عليه السلام {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء : 164) وقال في عيسى عليه السلام : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (التحريم : 12) وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام.
الحجة الثالثة : قوله عليه السلام : "لا تفضلوني على يونس بن متى" وقال صلى الله عليه وسلّم : "لا تخيروا بين الأنبياء".
الحجة الرابعة : روي عن ابن عباس قال : كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحاً بطول عبادته ، وإبراهيم بخلته ، وموسى بتكليم الله تعالى إياه ، وعيسى برفعه إلى السماء ، وقلنا رسول الله أفضل منهم ، بعث إلى الناس كافة ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو خاتم الأنبياء ، فدخل رسول الله فقال : فيم أنتم ؟
فذكرنا له فقال : "لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا" وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.
(1/979)
والجواب : أن كون آدم عليه السلام مسجوداً للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلّم : "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة" وقال : "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج ، وهذا أعظم من السجود ، وأيضاً أنه تعالى صلى بنفسه على محمد ، وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه ، وذلك أفضل من سجود الملائكة ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديباً ، وأمرهم بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلّم تقريباً والثاني : أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة ، وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث : أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة ، وأما الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلّم فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع : أن الملائكة أمروا بالسجود / لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
فإن قيل : إنه تعالى خص آدم بالعلم ، فقال : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وأما محمد عليه السلام فقال في حقه : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} (الشورى : 52) وقال : {وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى } (الضحى : 7) وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ، قال : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ} ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5).
والجواب : أنه تعالى قال في علم محمد صلى الله عليه وسلّم : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء : 113) وقال عليه السلام : "أدبني ربي فأحسن تأديبي" وقال تعالى : {الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} (الرحمن : 2) وكان عليه السلام يقول : (أرنا الأشياء كما هي) وقال تعالى لمحمد عليه السلام : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} (طه : 114) وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } فذاك بحسب التلقين ، وأما التعليم فمن الله تعالى ، كما أنه تعالى قال : {قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} (السجدة : 11) ثم قال تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر : 42).
فإن قيل : قال نوح عليه السلام {وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء : 114) وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} (الأنعام : 52) وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن.
قلنا : إنه تعالى قال : {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (نوح : 1) فكان أول أمره العذاب ، وأما محمد عليه السلام فقيل فيه : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 107) ، لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة : 128) إلى قوله : (التوبة : 128) إلى قوله : {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فكان عاقبة نوح أن قال : {رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح : 26) وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة {عَسَى ا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء : 79) وأما سائر المعجزات فقد ذكر في "كتب دلائل النبوة" في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه ، والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
وأما قوله تعالى : {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد منه من كلمه الله تعالى ، والهاء تحذف كثيراً كقوله تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } (الزخرف : 71).
المسألة الثانية : قرىء {كَلَـامَ اللَّهِ} بالنصب ، والقراءة الأولى أدل على الفضل ، لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام : "المصلي مناج ربه" إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى ، وقرأ اليماني : {عَبْدُ اللَّهِ} من المكالمة ، ويدل عليه قولهم : كليم الله بمعنى مكالمه.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي ، الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره ؟
فقال الأشعري وأتباعه : المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ، فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف ، وقال الماتريدي : سماع ذلك الكلام محال ، وإنما المسموع هو الحرف والصوت.
(1/980)
/ المسألة الرابعة : اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى : {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّه } قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه سَبْعِينَ رَجُلا} (الأعراف : 155) وهل سمعه محمد صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج ؟
اختلفوا فيه منهم من قال : نعم بدليل قوله : {فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى } (النجم : 10).
فإن قيل : إن قوله تعالى : {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّه } المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ، ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام ، قال : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس ، حيث قال : {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (ص : 79 ـ 81) إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ؟
.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
والجواب : أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل الواسطة كانت موجودة.
أما قوله تعالى : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ } ففيه قولان الأول : أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة ، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة ، وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره ، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ، ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام ، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع ، وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب ، أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه ، لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام ، وهي قلب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ، ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه ، وهو الطب ، ومعجزة محمد عليه السلام ، وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار ، وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ، وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا ، وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة ، فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان مستجمعاً للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر.
القول الثاني : أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام ، لأنه هو المفضل على الكل ، وإنما قال : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ } على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له : من فعل هذا / فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به ، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس ، فذكر زهيراً والنابغة ، ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة.
فإن قيل : المفهوم من قوله : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ } هو المفهوم من قوله : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فما الفائدة في التكرير ؟
وأيضاً قوله : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } كلام كلي ، وقوله بعد ذلك : {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّه } شروع في تفصيل تلك الجملة ، وقوله بعد ذلك : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ } إعادة لذلك الكلي ، ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركاً.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
والجواب : أن قوله : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض ، فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله : {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ } فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريراً.
أما قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى قال في أول الآية : {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال : {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـاتٍ } ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال : {وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَـاتِ} فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى ؟
.
(1/981)
والجواب : أن قوله : {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّه } أهيب وأكثر وقعاً من أن يقال منهم من كلمنا ، ولذلك قال : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة.
وأما قوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا} فإنما اختار لفظ المخاطبة ، لأن الضمير في قوله : {وَءَاتَيْنَا} ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء.
السؤال الثاني : لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر ؟
وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما ؟
.
والجواب : سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما ، كأنه قيل : هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما ، بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.
السؤال الثالث : تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات ، يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ، ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلت : إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات / أقوى ؟
فنقول : إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام ، فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
الجواب : المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود ، حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة.
السؤال الرابع : البينات جمع قلة ، وذلك لا يليق بهذا المقام.
قلنا : لا نسلم أنه جمع قلة ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم.
المسألة الثانية : في تفسيره أقوال الأول : قال الحسن : القدس هو الله تعالى ، وروحه جبريل عليه السلام ، والإضافة للتشريف ، والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره ، أما في أول الأمر فلقوله : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (التحريم : 12) وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم ، وحفظه من الأعداء ، وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى : {قُلْ نَزَّلَه رُوحُ الْقُدُسِ} (النحل : 102).
والقول الثاني : وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى.
والقول الثالث : وهو قول أبي مسلم : أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه ، وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.
ثم قال تعالى : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنا بَعْدِهِم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات ، ووضحت لهم الدلائل والبراهين ، اختلفت أقوامهم ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا.
المسألة الثانية : احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية ، وقالوا تقدير الآية : ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا ، والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال ، وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم ، فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئه عدم الاقتتال مفقودة ، بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ، ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية ، فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته ، وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى.
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال ، وقالوا : المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال : إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال : لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال : لو شاء لمنعهم من القتال جبراً وقسراً وإذا كان كذلك فقوله : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ} المراد منه هذه الأنواع من المشيئة ، وهذا كما يقال : لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ، ولم تشرب النصارى الخمر ، والمراد منه المشيئة التي ذكرناها ، وكذا ههنا ، ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال : إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص ، لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية.
(1/982)
والجواب : أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة ، والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة ، لا من حيث إنها مشيئة خاصة ، فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلاً ، وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة ، وهي إما مشيئة الهلاك ، أو مشيئة سلب القوى والقدر ، أو مشيئة القهر والإجبار ، تقييد للمطلق وهو غير جائز ، وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع ، وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالماً بوقوع الاقتتال ، والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات ، وبين السلب والإيجاب ، فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال ، فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم ، والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق.
ثم قال : {وَلَـاكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى : ولو شاء لم يختلفوا ، وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا ، وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا ، وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي ، لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل ، والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة ، وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي ، وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة ، فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي ، وواجب عند حصول الداعي ، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعاً للتسلسل ، فكانت الآية دالة أيضاً من هذا الوجه على صحة مذهبنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
ثم قال : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } فإن قيل : فما الفائدة في التكرير ؟
.
قلنا : قال الواحدي رحمه الله تعالى : إنما كرره تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى.
ثم قال : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله / واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين ، وقالوا : لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ، ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد ، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى ، وأيضاً لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ، ولكانوا مؤمنين ، ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم ، فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال ، وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون : المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه ، وهذا ضعيف لوجوه أحدها : أنه تقييد للمطلق والثاني : أنه على هذا التقييد تصير الآية بياناً للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله الثالث : أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلاً على كمال قدرته وعلو مرتبته والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 521
530
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال ، وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق ، وأيضاً فيه وجه آخر ، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ثم أعقبه بقوله : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (البقرة : 245) والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد ، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد ، وهو قوله : {يُرِيدُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا } .
إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل :
المسألة الأولى : المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً بقوله : {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم} فنقول : الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقاً بالإجماع أما ما كان حراماً فإنه لا يجوز إنفاقه ، وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراماً ، والأصحاب قالوا : ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً حلالاً.
(1/983)
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله : {أَنفِقُوا } مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام / في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، فقال الحسن : هذا الأمر مختص بالزكاة ، قال لأن قوله : {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ} كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون : هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب ، وليس في الآية وعيد ، فكأنه قيل : حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا ، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث : أن المراد منه الإنفاق في الجهاد : والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد ، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد ، وهذا قول الأصم.
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ } بالنصب ، وفي سورة إبراهيم عليه السلام {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلَـالٌ} (إبراهيم : 31) وفي الطور {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} (الطور : 23) والباقون جميعاً بالرفع ، والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} (البقرة : 197).
جزء : 6 رقم الصفحة : 530
المسألة الرابعة : المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده ، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا ، قال تعالى : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ } (الأنعام : 94) وقال : {وَنَرِثُه مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (مريم : 80).
أما قوله : {لا بَيْعٌ فِيهِ} ففيه وجهان الأول : أن البيع ههنا بمعنى الفدية ، كما قال : {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} (الحديد : 15) وقال : {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} (البقرة : 123) وقال : {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَآ } (الأنعام : 7) فكأنه قال : من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني : أن يكون المعنى : قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال.
أما قوله : {وَلا خُلَّةٌ} فالمراد المودة/ ونظيره من الآيات قوله تعالى : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67) وقال : {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ} (البقرة : 166) وقال : {يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} (العنكبوت : 25) وقال حكاية عن الكفار : {فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (الشعراء : 100) وقال : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (البقرة : 270) وأما قوله : {وَلا شَفَـاعَةٌ } يقتضي نفي كل الشفاعات.
واعلم أن قوله : {وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ } عام في الكل ، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } (البقرة : 281) {لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـاعَةٌ} (البقرة : 48).
جزء : 6 رقم الصفحة : 530
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها : أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه ، على ما قال تعالى : {لِكُلِّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ شَأْنٌ} (عبس : 37) والثاني : أن الخوف الشديد غالب على كل أحد ، على ما قال : {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى } (الحج : 2) والثالث : أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار / مبغضاً لهذين الأمرين ، وإذا صار مبغضاً لهما صار مبغضاً لمن كان موصوفاً بهما.
أما قوله تعالى : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} ولم يقل الظالمون هم الكافرون ، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها : أنه تعالى لما قال : {وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ } أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقاً ، فذكر تعالى عقيبه : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين ، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على إثبات الشفاعة في حق الفساق ، قال القاضي : هذا التأويل غير صحيح لأن قوله : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم.
والجواب : أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى ، لأن غير الكافرين قد يكون ظالماً ، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله.
(1/984)
التأويل الثاني : أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب ، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ، ونظيره قوله تعالى : {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف : 49).
والتأويل الثالث : أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء ، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله.
جزء : 6 رقم الصفحة : 530
والتأويل الرابع : الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها ، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله ، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان : {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 18) ، وقالوا أيضاً : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) فمن عبد جماداً وتوقع أن يكون شفيعاً له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه.
والتأويل الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق ، قال تعالى : {أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـاًا وَفَجَّرْنَا} (الكهف : 3) أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئاً قل أو كثر.
والتأويل السادس : {وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال : العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا ، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 530
5
اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها بالبعض ، أعني علم التوحيد ، وعلم الأحكام ، وعلم القصص ، والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال ، فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب ، فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر ، ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى ، ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد ، فقال : {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في فضائل هذه الآية روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : /"ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة" وعن علي أنه قال : سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول : "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات التي حوله" وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي : أين أنتم من آية الكرسي ، ثم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "يا علي سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي" وعن علي أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنظر ماذا يصنع ، قال فجئت وهو ساجد يقول : يا حي يا قيوم ، لا يزيد على ذلك ، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك ، فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه ، وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال : إنه أشرف من غيره ، لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة ، وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ، فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه ، كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف ، ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات.
(1/985)
المسألة الثانية : اعلم أن تفسير لفظة {اللَّهَ} قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} قد تقدم في قوله {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌا لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (البقرة : 163) بقي ههنا أن نتكلم في تفسير قوله : {الْحَىُّ الْقَيُّومُ } وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول : أعظم أسماء الله {الْحَىُّ الْقَيُّومُ } وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره/ ومن الله التوفيق : أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسراها ممكنة ، وإما أن تكون بأسراها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسراها ممكنة ، لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له ، فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعاً وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل ما كان مغايراً لكل الممكنات لم يكن ممكناً فقد وجد موجود ليس بممكن ، فبطل القول بأن كل موجود ممكن وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضاً باطل. لأنه لو حصل /وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي ، وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة ، فيكون كل واحد منهما مركباً في الوجوب الذي به المشاركة ، ومن الغير الذي به الممايزة ، وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره ، وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال ، ولما بطلل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وإن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ، ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ، ومستغن في وجوده عن كل ما سواه ، وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته ، فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده ، فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات ، فالقيوم هو المتقوم بذاته ، المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ، ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ، ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثراً على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثراً على سبيل الفعل والاختيار : لا جرم أزال وهم كونه مؤثراً بالعلية والإيجاب بقوله
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
{الْحَىُّ الْقَيُّومُ } فإن {الْحَىُّ} هو الدرك الفعال ، فبقوله {الْحَىُّ} دل على كونه عالماً قادراً ، وبقوله {الْقَيُّومُ } دل على كونه قائماً بذاته ومقوماً لكل ما عداه ، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد.
فأولها : أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء ، وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره ، وكل مركب فهو متقوم بغيره ، والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته ، فلا يكون قيوماً ، وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد ، فهذا الأصل له لازمان أحدها : أن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركباً من جزأين ، وقد بينا بيان أنه محال.
اللازم الثاني : أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزاً ، لأن كل متحيز فهو منقسم ، وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة ، لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة ، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون.
وثانيها : أنه لما كان قيوماً كان قائماً بذاته ، وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور :
/اللازم الأول : أن لا يكون عرضاً في موضوع ، ولا صورة في مادة/ ولا حالا في محل أصلاً لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته.
(1/986)
واللازم الثاني : قال بعض العلماء : لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، فإذا كان قيوماً بمعنى كونه قائماً بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضررة عند ذاته ، وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور ، وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته ، وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ، ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوماً لغيره ، وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بدّ وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضاً كونه عالماً بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه ، وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائماً بالنفس لذاته كونه عالماً بذاته ، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوماً كونه عالماً بجميع المعلومات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
وثالثها : لما كان قيوماً لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثاً ، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً.
ورابعها : أنه لما كان قيوماً لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة ، وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقاً ، وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بواسطة كونه تعالى حياً قيوماً فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا ، وأما سائر الآيات الإلهية ، كقوله {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌا لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (البقرة : 163) وقوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (آل عمران : 18) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وأما قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الصمد : 1) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء ، وأما قوله {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} ( الأعراف : 54) ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة ، أما قوله {الْحَىُّ الْقَيُّومُ } فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته ، وأن يكون مقوماً لغيره وكونه قائماً بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته ، وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة ، وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو روحاً عقلاً كان أو نفساً ، ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه ، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي ، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى.
/
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
(1/987)
ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } والمعنى : أنه لا يغفل عن تدبير الخلق ، لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل ، فهو سبحانه قيم جميع المحدثات ، وقيوم الممكنات ، فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم ، فقوله {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائماً ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لو سنان نائم ، ثم إنه تعالى لما بيّن كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته ، مقوماً لغيره ، رتب عليه حكماً وهو قوله {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته/ وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكاً له وملكاً له ، وهو المراد من قوله {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ، ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } ثم لما بيّن أنه يلزم من كونه مالكاً للكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه ، بيّن أيضاً أنه يلزم من كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه ، وهو قوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالماً بالكل ، ثم قال : {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ، ثم إنه لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السموات وفي الأرض ، بيّن أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل ، وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين ، فقال : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } ثم بيّن أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد ، وصورة واحدة ، فقال : {وَلا يَاُودُه حِفْظُهُمَا } ثم لما بين كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً للمحدثات والممكنات والمخلوقات ، بيّن كونه قيوماً بمعنى قائماً بنفسه وذاته ، منزّهاً عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور ، فتعالى عن أن يكون متحيزاً حتى يحتاج إلى مكان ، أو متغيراً حتى يحتاج إلى زمان ، فقال : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} فالمراد منه العلو والعظمة ، بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ، ولا ينسب غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت ، فقال : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره ، ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلهية كلام أكمل ، ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
وإذا عرفت هذه الأسرار ، فلنرجع إلى ظاهر التفسير.
أما قوله {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : {اللَّهَ} رفع بالابتداء ، وما بعده خبره.
/المسألة الثانية : قال بعضهم : الإله هو المعبود ، وهو خطأ لوجهين الأول : أنه تعالى كان إلهاً في الأزل ، وما كان معبوداً والثاني : أنه تعالى أثبت معبوداً سواه في القرآن بقوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (الأنبياء : 98) بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مسحتقاً للعبادة.
أما قوله {الْحَىُّ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الحي أصله حيي كقوله : حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وقال ابن الأنباري : أصله الحيو ، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة.
المسألة الثانية : قال المتكلمون الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا ، فقال بعضهم : إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر ، وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة ، وقال المحققون : ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع ، وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي ، إذ لو كان وصفاً موجوداً لكان الموصوف به موجوداً ، فيكون ممتنع الوجود موجوداً وهو محال ، وثبت أن الامتناع عدم ، وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع. وثبت أن عدم العدم وجود ، لزم أي يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر ، وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات ، فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات.
(1/988)
والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة ، بل كل شيء كان كاملاً في جنسه ، فإنه يسمى حياً ، ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى : إحياء الموات ، وقال تعالى : {فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَـارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } (الروم : 50) وقال : {إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ} (فاطر : 9) والصفة المسماة في عرف المتكلمين ، إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته ، وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ، ولما لم يكن ذلك مقيداً بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق ، فقوله الحي يفيد كونه كاملاً على الإطلاق ، والكامل هو أن لا يكون قابلاً للعدم ، لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية ، ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سبباً لتقويم غيره فقد زال الإشكال ، لأن كونه سبباً لتقويم غيره يدل على كونه متقوماً بذاته ، وكونه قيوماً يدل على كونه مقوماً لغيره ، وإن جعلنا القيوم اسماً يدل على كونه /يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيداً فائدة لفظ الحي مع زيادة ، فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
أما قوله تعالى : {الْقَيُّومُ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القيوم في اللغة مبالغة في القائم ، فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً جعلتا ياء مشددة ، ولا يجوز أن يكون على فعول ، لأنه لو كان كذا لكان قووما ، وفيه ثلاث لغات : قيوم ، وقيام وقيم ، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ : الحي القيام ومن الناس من قال هذه اللفظة عبرية لا عربية ، لأنهم يقولون : حياً قيوماً ، وليس الأمر كذلك ، لأنا بينا أن له وجهاً صحيحاً في اللغة ، ومثله ما في الدار ديار وديور ، ودير ، وهو من الدوران ، أي ما بها خلق يدور ، يعني : يجيء ويذهب ، وقال أُمية بن أبي الصلت :
قدرها المهيمن القيوم
المسألة الثانية : اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب ، فقال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء ، وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم ، وفي أرزاقهم ، ونظيره من الآيات قوله تعالى : {أَفَمَنْ هُوَ قَآاـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (الرعد : 33) وقال : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (آل عمران : 18) إلى قوله {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } وقال : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّنا بَعْدِه } (فاطر : 41) وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوماً لغيره ، وقال الضحاك : القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير ، وأقول : هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائماً بنفسه في ذاته وفي وجوده ، وقال بعضهم : القيوم الذي لا ينام بالسريانية ، وهذا القول بعيد ، لأنه يصير قوله {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } .
أما قوله تعالى : {لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ما يتقدم من الفتور الذي يسمى النعاس.
فإن قيل : إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم ، فإذا قال : {الْقَيُّومُا لا تَأْخُذُه سِنَةٌ} فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، وكان ذكر النوم تكريراً.
قلنا : تقدير الآية : لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه النوم.
المسألة الثانية : الدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى ، لأن هذه الأشياء ، إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم ، وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى ، فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً ، ويصح أن لا يكون عالماً ، فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل ، والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال ، /وإذا كان كذلك كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
المسألة الثالثة : يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه : هل ينام الله تعالى أم لا ، فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة ، وأمره بالاحتفاظ بهما ، وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان ، فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرض.
(1/989)
واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام ، فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً ، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى ، بل إن صحت الرواية ، . فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه.
أما قوله تعالى : {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك ، وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحداً كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر ، وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد.
فإن قيل : لم قال : {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ} ولم يقل : له من في السموات ؟
.
قلنا : لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية ، وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ {مَّآ} وأيضاً فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة ، وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة ، فعبّر عنها بلفظ {مَّآ} للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة.
واعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، قالوا : لأن قوله {لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } يتناول كل ما في السموات والأرض ، وأفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق ، وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده ، وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته ، وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال.
أما قوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } ففيه مسألتان :
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
المسألة الأولى : قوله {مَن ذَا الَّذِى} استفهام معناه الإنكار والنفي ، أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) وقولهم {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 18) ثم بيّن تعالى /أنهم لا يجدون هذا المطلوب. فقال : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} (يونس : 18) فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله {إِلا بِإِذْنِه } ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا} (النبأ : 38).
المسألة الثانية : قال القفال : إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين ، إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية ، وطول في تقريره.
وأقول : إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم ، ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم ، وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول ، إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع ، وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم ، بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلاً ، فإن كان القفال على مذهب الكعبي ، فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال ، إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول : أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه ، بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه ، وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني : أن قوله : لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل ، لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات ، والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه ، فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع ، ولا يكون خائفاً من العقاب ، والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة ، ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
واعلم أن القفال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة.
أما قوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الضمير لما في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء ، أو لما دل عليه {مَن ذَا} من الملائكة والأنبياء.
(1/990)
المسألة الثانية : في الآية وجوه أحدها : قال مجاهد ، وعطاء ، والسدي {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما كان قبلهم من أمور الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ } ما يكون بعدهم من أمر الآخرة والثاني : قال الضحاك والكلبي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها {وَمَا خَلْفَهُمْ } الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم والثالث : قال عطاء عن ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من السماء إلى الأرض {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُا لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌا لَّه مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِا مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه ا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه إِلا بِمَا شَآءَا وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَا وَلا يَاُودُه حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} بعد انقضاء آجالهم {وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما كان من قبل أن يخلقهم والخامس : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام : أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك ، وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
المسألة الثالثة : هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكون هم الملائكة ، وسائر من يشفع يوم القيامة من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
أما قوله {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد بالعلم ههنا كما يقال : اللّهم اغفر لنا علمك فينا ، أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة ، قيل : هذه قدرة الله ، أي مقدوره والمعنى : أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى.
المسألة الثانية : احتج بعض الأصحاب بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه أحدها : أن كلمة {مِّنْ} للتبعيض ، وهي داخلة ههنا على العلم. فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال والثاني : أن قوله {بِمَا شَآءَ } لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم والثالث : أن الكلام إنما وقع ههنا في المعلومات ، والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات ، والخلق لا يعلمون كل المعلومات ، بل لا يعلمون منها إلا القليل.
المسألة الثالثة : قال الليث : يقال لكل من أحرز شيئاً ، أو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به ، وذلك لأنه علم بأول الشيء وآخره بتمامه صار العلم كالمحيط به.
أما قوله {إِلا بِمَا شَآءَ } ففيه قولان أحدها : أنهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا {لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ } والثاني : أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب ، كما قال : {عَـالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِه أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} .
أما قوله تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } فاعلم أنه يقال : وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا ، أي لا تطبقه ولا تحتمله ومنه قوله عليه السلام : "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي" أي لا يحتمل غير ذلك وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ، والكرسي أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق /بعض ، وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض ، وتكارس الشيء إذا تركب ، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول : أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض ، ثم اختلفوا فيه فقال الحسن هو نفس العرش ، لأن السرير قد يوصف بأنه عرش ، وبأنه كرسي ، لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه ، وقال بعضهم : بل الكرسي غير العرش ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : إنه دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي.
(1/991)
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه ، وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : موضع القدمين ، ومن البعيد أن يقول ابن عباس : هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء ، وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى.
القول الثاني : أن المراد من السلطان والقدرة والملك ، ثم تارة يقال : الإلهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد ، والعرب يسمون أصل كل شيء وتارة يسمى الملك بالكرسي ، لأن الملك يجلس على الكرسي ، فيسمى الملك باسم مكان الملك.
القول الثالث : أن هو العلم ، لأن العلم موضع العالم ، وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه ، والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم : أوتاد الأرض.
والقول الرابع : ما اختاره القفال ، وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ، وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً ، فقال {الْعُلَى * الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) ثم وصف عرشه فقال {وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ} (هود : 7) ثم قال : {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } (الزمر : 75) وقال : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ} وقال : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَه } (غافر : 7) ثم أثبت لنفسه كرسياً فقال : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } .
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
إذا عرفت هذا فنقول : كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي ، فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ، ولما توافقنا ههنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزّه عن الكعبة ، فكذا الكلام في العرش والكرسي ، وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول ، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَلا يَاُودُه حِفْظُهُمَا } فاعلم أنه يقال : آده يؤده : إذا أثقله وأجهده ، وأدت العود أوداً ، وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته ، والمعنى : لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السموات والأرض.
ثم قال : {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة ، وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة ، ونزيد ههنا وجهين آخرين الأول : أنه لو كان علوه بسبب المكان ، لكان لا يخلو إما أن يكون متناهياً في جهة فوق ، أو غير متناه في تلك الجهة ، والأول باطل لأنه إذا كان متناهياً في جهة فوق ، كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه ، فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه ، بل يكون غيره أعلى منه ، وإن كان غير متناه فهذا محال ، لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية ، وأيضاً فإنا إذا قدرنا بعداً لا نهاية له ، لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية ، فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى ، وإما أن لا يحصل ، فإن كان الأول كانت النقطة طرفاً لذلك البعد ، فيكون ذلك البعد متناهياً ، وقد فرضناه غير متناه. هذا خلف ، وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلاً ، ولا يكون فيها ما يكون فوقاً على الاطلاق ، فحينئذ لا يكون لشيء من النفقات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق ألبتة وذلك ينفي صفة العلوية.
الحجة الثانية : أن العالم كرة ، ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علواً بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلاً بالنسبة إلى الوجه الثاني ، فينقلب غاية العلو غاية السفل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
(1/992)
الحجة الثالثة : أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته/ وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل ، وفي العرضي أقل وأضعف ، فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية ، ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان ، فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى ، فيكون علو الله ناقصاً وعلو غيره كاملاً وذلك محال ، فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة ، وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله /{قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا قُل لِّلَّه } (الأنعام : 12) قال : وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ، ثم قال : {وَلَه مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } (الأنعام : 13) وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ، فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان وأما عظمته فهي أيضاً بالمهابة والقهر والكبرياء ، ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم ، لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية ، وإن كان متناهياً من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه ، فلا يكون مثل هذا الشيء عظيماً على الاطلاق ، فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 5
15
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : اللام في {الدِّينَ} فيه قولان أحدهما : أنه لام العهد والثاني : أنه بدل من الإضافة ، كقوله {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } (النازعات : 41) أي مأواه ، والمراد في دين الله.
المسألة الثانية : في تأويل الآية وجوه أحدها : وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة : معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنما بناه على التمكن والاختيار ، ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر ، قال بعد ذلك : إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء ، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان ، ونظير هذا قوله تعالى : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29) وقال في سورة أخرى {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لامَنَ مَن فِى الارْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء : 3 ، 4) وقال في سورة الشعراء {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـاقُهُمْ لَهَا خَـاضِعِينَ} ومما يؤكد هذا / القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } يعني ظهرت الدلائل ، ووضحت البينات ، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه ، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل.
القول الثاني : في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر : إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى : {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ } أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس ، فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم ، وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم ، فقال بعضهم : إنه يقر عليه ؛ وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية ، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ } عاماً في كل الكفار ، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه ، فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم ، وكان قوله {لا إِكْرَاهَ} مخصوصاً بأهل الكتاب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 15
والقول الثالث : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً ، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (النساء : 94).
أما قوله تعالى : {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح ، ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين ، وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بياناً لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره ، والرشد في اللغة معناه إصابة الخير ، وفيه لغتان : رشد ورشد والرشاد مصدر أيضاً كالرشد ، والغي نقيض الرشد ، يقال غوي يغوي غياً وغواية ، إذا سلك غير طريق الرشد.
(1/993)
المسألة الثانية : {تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } أي تميز الحق من الباطل/ والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة ، قال القاضي : ومعنى {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ} أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول : قد ذكرنا أن معنى {تَّبَيَّنَ} انفصل وامتاز ، فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين ، وعلى هذا كان اللفظ مجري على ظاهره.
أما قوله تعالى : {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ} فقد قال النحويون : الطاغوت وزنه فعلوت ، نحو جبروت ، والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا ، وتقديره طغووت ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب ، نحو : الصاقعة والصاعقة ، ثم قلبت الواو ألفاً لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها ، قال المبرد في الطاغوت : الأصوب عندي أنه جمع قال أبو علي الفارسي : وليس الأمر عندنا كذلك ، وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت ، فكما /أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع ، ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ} فأفرد في موضع الجمع ، كما يقال : هم رضاهم عدل ، قالوا : وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع ، أما في الواحد فكما في قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّـاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِه } (النساء : 60) وأما في الجمع فكما في قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ} (البقرة : 257) وقالوا : الأصل فيه التذكير ، فأما قوله : {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} (الزمر : 17) فإنما أنثت إرادة الآلهة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 15
إذا عرفت هذا فنقول : ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال الأول : قال عمر ومجاهد وقتادة هو الشيطان الثاني : قال سعيد بن جبير : الكاهن الثالث : قال أبو العالية : هو الساحر الرابع : قال بعضهم الأصنام الخامس : أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36).
أما قوله {وَيُؤْمِنا بِاللَّهِ} ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر ، ثم يؤمن بعد ذلك.
أما قوله {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فاعلم أنه يقال : استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك ، لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته ، فكذا ههنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها ، لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى.
أما قوله {لا انفِصَامَ لَهَا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الفصم كسر الشيء من غير إبانة ، والانفصام مطاوع الفصم فصمته فانفصم والمقصود من هذا اللفظ المبالغة ، لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فإن لا يكون لها انقطاع أولى.
المسألة الثانية : قال النحويون : نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، والعرب تضمر {الَّتِى } و{الَّذِى} و{مِّنْ} وتكتفي بصلاتها منها ، قال سلامة بن جندل :
والعاديات أسامي للدماء بها
كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} (الصافات : 164) أي من له.
ثم قال : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وفيه قولان :
القول الأول : أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين ، وقول من يتكلم بالكفر ، ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر ، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث.
/والقول الثاني : روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة ، وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية ، فمعنى قوله {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 15
17
.
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : {الْوَلِىُّ} فعيل بمعنى فاعل من قولهم : ولى فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولى ، وأصله من الولي الذي هو القرب ، قال الهذلي :
وعدت عواد دون وليك تشغب
ومنه يقال : داري تلى دارها ، أي تقرب منها ، ومنه يقال : للمحب المعاون : ولي. لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك ، ومنه الوالي ، لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة.
(1/994)
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، بأن قالوا : الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سبباً لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى : {يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَه ا إِنْ أَوْلِيَآؤُه ا إِلا الْمُتَّقُونَ} (الأنفال : 34) فجعل القيم بعمارة المسجد ولياً له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه ، فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح ، ثم إنه تعالى جعل نفسه ولياً للمؤمنين على التخصيص ، علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار ، وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف ، فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم ، قالت المعتزلة : هذا التخصيص محمول على /أحد وجوه الأول : أن هذا محمول على زيادة الألطاف ، كما ذكره في قوله {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض ، وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلساً يجري فيه الوعظ ، فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار ، ويكون حاله مفارقاً لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي ، وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره ، فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولاً على ذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
والوجه الثاني : أنه تعالى يثيبهم في الآخرة ، ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولاً عليه.
والوجه الثالث : وهو أنه تعالى وإن كان ولياً للكل بمعنى كونه متكفلاً بمصالح الكل على السوية ، إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن ، فصح تخصيصه بهذه الآية ، كما في قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2).
الوجه الرابع : أنه تعالى ولي المؤمنين ، بمعنى : أنه يحبهم ، والمراد أنه يحب تعظيمهم.
أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم ، ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب ، وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر ، بل المؤمن فعل مالأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف.
أما السؤال الثاني : وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضاً بعيد ، لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى ، فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقاً على الله ذلك الثواب ، فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو ولياً له.
وأما السؤال الثالث : وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن ، فنقول : هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى/ فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير.
وأما السؤال الرابع : وهو أن الولاية ههنا معناها المحبة والجواب : أن المحبة معناها إعطاء الثواب ، وذلك هو السؤال الثاني ، وقد أجبنا عنه.
أما قوله تعالى : {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أن المراد ههنا من الظلمات والنور : الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان ، فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله ، لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان ، وذلك يناقض صريح الآية.
أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول : أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب /الدلائل ، وإرسال الأنبياء ، وإنزال الكتب ، والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه ، والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه ، وقال القاضي : قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36) لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم ، فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
والوجه الثاني : أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة قال القاضي : هذا أدخل في الحقيقة ، لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله.
والجواب عن الأول من وجهين : أحدهما : أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل ، مجاز في الحث والترغيب ، والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني : أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجباً ، والمرجوح ممتنعاً ، وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج.
(1/995)
وأما السؤال الثاني : وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضاً مدفوع من وجهين الأول : قال الواقدي : كل ما كان في القرآن {مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } فإنه أراد به الكفر والإيمان ، غير قوله تعالى في سورة الأنعام {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1) فإنه يعني به الليل والنهار ، وقال : وجعل الكفر ظلمة ، لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك.
والجواب الثاني : أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه.
المسألة الثانية : قوله {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ، ثم ههنا قولان :
القول الأول : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافراً ثم أسلم ، والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما : قال مجاهد : هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّم آمن به من كفر بعيسى ، وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام وثانيتها : أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد صلى الله عليه وسلّم ، فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به ظلمةً وكفراً ، لأن القول بالاتحاد كفر ، والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام وثالثتها : أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
والقول الثاني : أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم سواء كان ذلك /الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك ، وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات ألبتة/ ويدل على جوازه : القرآن والخبر والعرف ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } (آل عمران : 103) ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال {لَمَّآ ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ} (يونس : 98) ولم يكن نزل بهم عذاب ألبتة ، وقال في قصة يوسف عليه السلام : {تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (يوسف : 37) ولم يكن فيها قط ، وقال : {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى ا أَرْذَلِ الْعُمُرِ} (النحل : 70) وما كانوا فيه قط ، وأما الخبر فروي أنه صلى الله عليه وسلّم سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال على الفطرة ، فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال خرج من النار ، ومعلوم أنه ما كان فيها ، وروي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلّم أقبل على أصحابه فقال : تتهافتون في النار تهافت الجراد ، وها أنا آخذ بحجزكم ، ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار ، وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له : أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئاً ، لا أنه كان فيه ثم أخرج منه ، وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات. فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع مشابهة ، فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} فاعلم أنه قرأ الحسن {أَوْلِيَآؤُهُمُ} واحتج بقوله تعالى بعده {الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم} إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضاً قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع.
أما قوله تعالى {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازاً باتفاق ، لأن المراد من الطاغوت على أظهر الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36) فأضاف الإضلال إلى الصنم ، وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازاً ، خرجت عن أن تكون حجة لكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
ثم قال تعالى : {أُوالَا ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط ، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معاً ، فيكون زجراً للكل ووعيداً ، لأن لفظ {أُوالَا ئِكَ} إذا كان جمعاً وصح رجوعه إلى كلا المذكورين ، وجب رجوعه إليهما معاً ، والله تعالى أعلم بالصواب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
0
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا قصصاً ثلاثة : الأولى : منها في بيان إثبات العلم بالصانع ، والثانية : في إثبات الحشر والنشر والبعث ، والقصة الأولى مناظرة إبراهيم صلى الله عليه وسلّم مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول :
(1/996)
أما قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ، ولفظها لفظ الاستفهام وهي كما يقال : ألم تر إلى فلان كيف يصنع ، معناه : هل رأيت كفلان في صنعه كذا.
أما قوله : {إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ فِى رَبِّه } فقال مجاهد : هو نمروذ بن كنعان ، وهو أول من /تجبر وادعى الربوبية ، واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل : إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل ، وقيل : بعد إلقائه في النار ، والمحاجة المغالبة ، يقال : حاججته فحججته ، أي غالبته فغلبته ، والضمير في قوله {فِى رَبِّه } يحتمل أن يعود إلى إبراهيم ، ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن ، والأول أظهر ، كما قال : {وَحَآجَّه قَوْمُه ا قَالَ أَتُحَـا جُّوانِّى فِى اللَّهِ} (الأنعام : 80) والمعنى وحاجه قومه في ربه.
أما قوله : {أَنْ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} فاعلم أن في الآية قولين الأول : أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم ، يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم صلى الله عليه وسلّم الملك ، واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول : قوله تعالى : {فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (النساء : 54) أي سلطاناً بالنبوّة ، والقيام بدين الله تعالى والثاني : أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار ، ويدعي الربوبية لنفسه والثالث : أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب ، وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير ، فوجب أن يكون هذا الضمير عائداً إليه والقول الثاني : وهو قول جمهور المفسرين : أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
وأجابو عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام.
وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك ههنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا ، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى ، وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً ، ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى.
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك/ فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة ، ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول : أن قوله تعالى : {أَنْ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} يحتمل تأويلات ثلاثة ، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا : الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم ، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك ، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك ، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي ، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك ، كما يقال : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ونظيره قوله تعالى : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (الواقعة : 82) وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له ، فثبت أنه لا يستقيم لقوله {أَنْ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي.
الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم صلى الله عليه وسلّم في إظهار الدعوة إلى الدين الحق ، ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً ، وإبراهيم ما كان ملكاً ، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً ، ولما كان الكافر ملكاً ، فوجب المصير إلى ما ذكرنا.
الحجة الثانية : ما ذكره أبو بكر الأصم ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر ، بل كان إبراهيم صلى الله عليه وسلّم يمنعه منه أشد منع ، بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك ، قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف ، لأنه من المحتمل أن يقال : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم كان ملكاً وسلطاناً في الدين والتمكن من إظهار المعجزات ، وذلك الكافر كان ملكاً مسلطاً قادراً على الظلم ، فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين ، وأيضاً فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوماً ، وكان الاختيار إليه ، واستبقى الآخر ، إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
وأيضاً قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى} خبر ووعد ، ولا دليل في القرآن على أنه فعله ، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة.
أما قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ فِى} ففيه مسائل :
(1/997)
المسألة الأولى : الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ، وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة ، والظاهر أنه متى ادعى الرسالة ، فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلهاً ، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال : {إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الزخرف : 46) {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 23) فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلهية بقوله {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} فكذا ههنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة ، فقال نمروذ : من ربك ؟
فقال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت ، لأن الواقعة تدل عليها.
المسألة الثانية : دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة ، وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين ، والأحياء والاماتة كذلك ، لأن الخلق عاجزون عنهما ، والعلم بعد الاختيار ضروري ، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم ، وذلك المؤثر إما أن يكون موجباً أو مختاراً ، والأول : باطل ، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر ، فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة/ وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء ، والثاني : وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية ، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة ، والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها ، وذلك هو الله سبحانه وتعالى ، وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون : 12) إلى آخره ، وقوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ} (التين : 4 ، 5) وقال تعالى : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) وقال : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى : {وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} (الشعراء : 81) فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت ، حيث قال : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
والجواب : لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإنسان عليها أتم ، فلا جرم وجب تقديم الحياة ههنا في الذكر.
أما قوله تعالى : {قَالَ إِبْرَاه مُ رَبِّيَ الَّذِى} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة ، دعا ذلك الملك الكافر شخصين ، وقتل أحدهما ، واستبقى الآخر ، وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت ، هذا هو المنقول في التفسير ، وعندي أنه بعيد ، وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال ، ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ، ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق ، والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر ، تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية ، أو تدعى صدور الأحياء والاماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية ، أما الأول : فلا سبيل إليه ، وأما الثاني : فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الاحياء والاماتة بواسطة سائر الأسباب ، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية ، وتناول السم قد يفضي إلى الموت ، فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال : هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر ، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى ، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى ، وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك ، لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية ، فظهر الفرق.
(1/998)
وإذا عرفت هذا فقوله {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} ليس دليلاً آخر ، بل تمام الدليل /الأول : ومعناه : أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك/ إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى ، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته ، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه ، وأنه لا يصلح نقضاً عليه ، فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة ، لا ما هو المشهور عند الكل ، والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
المسألة الثانية : أجمع القرّاء على إسقاط ألف {أَنَا } في الوصل في جميع القرآن ، إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة ، والصحيح ما عليه الجمهور ، لأن ضمير المتكلم هو {ءَانٍ} وهو الهمزة والنون ، فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف ، وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل ، فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل ، لأن ما يتصل به يقوم مقامه ، ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت ، لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في {أَنَا } والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل.
أما قوله تعالى : {قَالَ إِبْرَاه مُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول : وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه ، فقال : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل.
فإن قيل : هلا قال نمروذ : فليأت ربك بها من المغرب ؟
.
قلنا : الجواب من وجهين : أحدهما : أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً ، فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني : أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام.
والطريق الثاني : وهو الذي قال به المحققون : إن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى ، ثم إن قولنا : نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها : الإحياء ، والإماتة ، ومنها السحاب ، والرعد ، والبرق ، ومنها حركات /الأفلاك ، والكواكب ، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر ، لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر ، فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر ، وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه ، والإشكال عليهما من وجوه :
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
الإشكال الأول : أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع ، وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول ، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول ، أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً ، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
والإشكال الثاني : أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال ، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر ، أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً ، وأنه ما كان عالماً بضعفه ، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً/ وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه ، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز.
والإشكال الثالث : وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل ، أو من مثال إلى مثال ، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب ، وههنا ليس الأمر كذلك ، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام ، فللخلق قدرة عليه ، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السموات ، وأنه هو الذي يكون محركاً للسموات ، وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً.
(1/999)
والإشكال الرابع : أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر ، أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً ، ولا في صفاتها تبدلاً ، ولا في منهج حركاتها تبدلاً ألبتة ، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى ، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف ، وأنه لا يجوز.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
الإشكال الخامس : أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول : طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب ، وعند ذلك التزم المحققون /من المفسرين ذلك فقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب ، فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب ، إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب ، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع ، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً ، وأيضاً فما الدليل الذي جمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب ، وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علماً فضلاً عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء ، فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف ، وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات ، لأنا نقول : لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء ، وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة ، فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلاً ، وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ، ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازماً عليه ، والله أعلم بحقيقة كلامه.
أما قوله تعالى : {فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ } فالمعنى : فبقي مغلوباً لا يجد مقالاً ، ولا للمسألة جوابه ، وهو كقوله {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} (الأنبياء : 40) قال الواحدي ، وفيه ثلاث لغات : بهت الرجل فهو مبهوت ، وبهت وبهت ، قال عروة العذري :
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
فما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي أتجير وأسكت.
ثم قال : {وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ} وتأويله على قولنا ظاهر ، أما المعتزلة فقال القاضي : يحتمل وجوهاً : منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع.
وأقول : هذا ضعيف ، لأن قوله لا يهديهم للحجاج ، إنما يصح حيث يكون الحجاج موجوداً ولا حجاج على الكفر ، فكيف يصح أن يقال : إن الله تعالى لا يهديه إليه ، قال القاضي : ومنها /أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به.
وأقول : هذا أيضاً ضعيف ، لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلاً لم يصح أن يقال : إنه تعالى لا يهديهم ، كما لا يقال : إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي : ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة.
وأقول : هذا أيضاً ضعيف ، لأن المذكور ههنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر ، فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة ، بل أقول : اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بيّن أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر ، ونظير هذا التفسير قوله {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} الأنعام : 111).
القصة الثانية
والمقصود منها إثبات المعاد ، قوله تعالى : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} .
(1/1000)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله {أَوْ كَالَّذِى} وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول : أن يكون قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ} (البقرة : 258) في معنى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ} وتكون هذه الآية معطوفة عليه ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم ، أو كالذي مرّ على قرية ، فيكون هذا عطفاً على المعنى ، وهو قول الكسائي والفرّاء وأبي علي الفارسي ، وأكثر النحويين قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : {قُل لِّمَنِ الارْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّه } (المؤمنون : 84 ، 85) ثم قال : {سَيَقُولُونَ لِلَّه قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (المؤمنون : 85 ، 86) فهذا عطف على المعنى لأن معناه : لمن السموات ؟
فقيل لله. قال الشاعر :
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فحمل على المعنى وترك اللفظ.
والقول الثاني : وهو اختيار الأخفش : أن الكاف زائدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج والذي مرّ على قرية.
والقول الثالث : وهو اختيار المبرد : أنا نضمر في الآية زيادة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، وألم تر إلى من كان كالذي مرّ على قرية.
المسألة الثانية : اختلفوا في الذي مرّ بالقرية ، فقال قوم : كان رجلاً كافراً شاكاً في البعث /وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة/ وقال الباقون : إنه كان مسلماً ، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس : هو أرمياء ، ثم من هؤلاء من قال : إن أرمياء هو الخضر عليه السلام ، وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام ، وهو قول محمد بن إسحاق ، وقال وهب بن منبه : إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة ، حجة من قال : إن هذا المار كان كافراً وجوه الأول : أن الله حكى عنه أنه قال : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر.
فإن قيل : يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ.
قلنا : لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك ، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل ، فيقول : متى يقلبه الله ذهباً ، أو ياقوتاً ، لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى ، بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات ، فكذا ههنا.
الوجه الثاني : قالوا : إنه تعالى قال في حقه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه } وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلاً له وهذا أيضاً ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلاً له قبل ذلك ، فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلاً فهو ممنوع.
الوجه الثالث : أنه قال : {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وأنه كان خالياً عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت ، وهذا أيضاً ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق ، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلاً قبل ذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
الوجه الرابع : لهم أن هذا المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضاً ، لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم ، فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم.
وحجة من قال : إنه كان مؤمناً وكان نبياً وجوه الأول : أن قوله {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} يدل على أنه كان عالماً بالله ، وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
(1/1001)
/الحجة الثانية : أن قوله {كَمْ لَبِثْتَ } لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير : قال الله تعالى : {كَمْ لَبِثْتَ } فقال ذلك الإنسان {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فقال الله تعالى : {بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ} ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ، ثم قال : {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } ولا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر.
فإن قيل : لعله تعالى بعث إليه رسولاً أو ملكاً حتى قال له هذا القول عن الله تعالى.
قلنا : ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى ، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز.
والحجة الثالثة : أن إعادته حياً وإبقاء الطعام والشراب على حالهما ، وإعادة الحمار حياً بعد ما صار رميماً مع كونه مشاهداً لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم ، وذلك لا يليق بحال الكافر له.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراماً لإنسان آخر كان نبياً في ذلك الزمان.
قلنا : لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي ، وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلاً فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالاً لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
فإن قيل : لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال : إنه ادعى النبوّة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما ، والأول : باطل ، لأن أرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة ، وذلك لا يتم بعد الإماتة ، وإن ادعى النبوّة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى ، وذلك غير جائز.
قلنا : إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولاً جائز عندنا ، وعلى هذا الطريق زال السؤال.
الحجة الرابعة : أنه تعالى قال في حق هذا الشخص {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى : {وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 91) فكان هذا وعداً من الله تعالى بأنه يجعله نبياً ، وأيضاً فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شاباً كاملاً إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا ، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان /وقد عاد شاباً صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ، ونبوّة نبي ذلك الزمان.
والجواب من وجهين الأول : أن قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً} إخبار عن أنه تعالى يجعله آية ، وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله ، وتكلم معه ، والمجعول لا يجعل ثانياً ، فوجب حمل قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } على أمر زائد عن هذا الإحياء ، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلاً والثاني : أنه وجه التمسك أن قوله {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } يدل على التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
(1/1002)
الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون ، ومنهم عزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى بابل ، فدخل عزير يوماً تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً فعجب من ذلك وقال : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} لا على سبيل الشك في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ونام ، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عن موته أيضاً الإنس والسباع والطير ، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء : يا عزير {كَمْ لَبِثْتَ } بعد الموت فقال {يَوْمًا} فأبصر من الشمس بقية فقال {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فقال الله تعالى : {بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال : {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتاً أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض/ ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور عن الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجداً ، وقال : {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل ، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير بن الله ، وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس ، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبياً.
المسألة الثالثة : اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع : إيلياء وهي بيت المقدس ، وقال ابن زيد : هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت.
/
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
أما قوله تعالى : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} قال الأصمعي : خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله ، والخوا : خلو البطن من الطعام ، وفي الحديث : "كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا سجد خوى" أي خلى ما بين عضديه وجنبيه ، وبطنه وفخذيه ، وخوى الفرس ما بين قوائمه ، ثم يقال للبيت إذا انهدم : خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك : خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر ، والعرش سقف البيت ، والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب يقال : عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب ، فقوله : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي منهدمة ساقطة خراب ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وفيه وجوه أحدها : أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى : {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (الحاقة : 7) وموضع آخر {أَعْجَازُ نَخْلٍ} (القمر : 20) وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني : قوله تعالى : {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خاوية عن عروشها ، جعل {عَلَى} بمعنى {عَنْ} كقوله {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} (المطففين : 2) أي عنهم والثالث : أن المراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر ، لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة ، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر.
أما قوله تعالى : {قَالَ أَنَّى يُحْىِا هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } فقد ذكرنا أن من قال : المار كان كافراً حمله على الشك في قدرة الله تعالى ، ومن قال كان نبياً حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد ، كما قال إبراهيم عليه السلام : (أرني كيف تحيي الموتى) وقوله {إِنِّى} أي من أين كقوله {أَنَّى لَكِ هَـاذَا } والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها ، أي متى يفعل الله تعالى ذلك ، على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه ، وفي إحياء القرية آية {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِا ئَةَ عَامٍ} وقد ذكرنا القصة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
فإن قيل : ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام ، مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل.
(1/1003)
قلنا : لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة ، وأيضاً فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره أعجب.
أما قوله تعالى : {ثُمَّ بَعَثَه } فالمعنى : ثم أحياه ، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، وإنما قال {ثُمَّ بَعَثَه } ولم يقل : ثم أحياه لأن قوله {ثُمَّ بَعَثَه } يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال : ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد.
/أما قوله تعالى : {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه وجهان من القراءة ، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار ، فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين.
المسألة الثانية : أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى ، لأن ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى.
المسألة الثالثة : في الآية إشكال ، وهو أن الله تعالى كان عالماً بأنه كان ميتاً وكان عالماً بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة ، فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة.
والجواب عنه : أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق.
أما قوله تعالى : {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم ذكر هذا الترديد ؟
.
الجواب : أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتاً لأنه اليقين ، وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار ، فقال {يَوْمًا} ثم لما نظر إلى ضوء الشمس باقياً على رؤوس الجدران فقال : {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
السؤال الثاني : أنه لما كان اللبث مائة عام ، ثم قال : {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أليس هذا يكون كذباً ؟
.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
والجواب : أنه قال ذلك على حسب الظن ، ولا يكون مؤاخذاً بهذا الكذب ، ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } على ما توهموه ووقع عندهم ، وأيضاً قال أخوة يوسف عليه السلام : {فَقُولُوا يَـا أَبَانَآ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلا بِمَا عَلِمْنَا} (يوسف : 81) وإنما قالوا : ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله.
السؤال الثالث : هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت.
الجواب : الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، وهو أيضاً قد شاهد إما في نفسه ، أو في حماره أحوالاً دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت.
/أما قوله تعالى : {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ} فالمعنى ظاهر ، وقيل : العام أصله من العوم الذي هو السباحة ، لأن فيه سبحاً طويلاً لا يمكن من التصرف فيه.
أما قوله تعالى : {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ } و{اقْتَدِهْ } و{مَالِيَهْ } و{سُلْطَـانِيَهْ} وبعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف ، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله {وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } و{اقْتَدِهْ } ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِشِمَالِه فَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} (الحاقة : 25 ، 26) أنها بالهاء في الوصل والوقف.
إذا عرفت هذا فنقول : أما الحذف ففيه وجوه أحدهما : أن اشتقاق قوله {يَتَسَنَّهْ } من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة ، قالوا : والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة ، وقال الشاعر :
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
ورجال مكة مسنتون عجاف
(1/1004)
ويقولون في جمعها : سنوات وفي الفعل منها : سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة ، وفي التصغير : سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ } للسكت لا للأصل وثانيها : نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال : يجوز أن تكون أصل سنة سننة ، لأنهم قالوا في تصغيرها : سنينة وإن كان ذلك قليلاً ، فعلى هذا يجوز أن يكون {لَمْ يَتَسَنَّهْ } أصله لم يتسنن ، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ، ثم أدخل عليه هاء السكت عند الوقف ، فيقال : لم يتقضه وثالثها : أن يكون {لَمْ يَتَسَنَّهْ } مأخوذاً من قوله تعالى : {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر : 26) والسن في اللغة هو الصب ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، فقوله : لم يتسنن. أي الشراب بقي بحاله لم ينضب ، وقد أتى عليه مائة عام ، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني ، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف ، وأما بيان الإثبات فهو أن {لَمْ يَتَسَنَّهْ } مأخوذ من السنة ، والسنة أصلها سنهه ، بدليل أنه يقال في تصغيرها : سنيهة ، ويقال : سانهت النخلة بمعنى عاومت ، وآجرت الدار مسانهة ، وإذا كان كذلك فالهاء في {لَمْ يَتَسَنَّهْ } لام الفعل ، فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يتغير وأصل معنى {لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ، ونقلنا عن أبي علي الفارسي : لم يتسنن أي لم ينضب الشراب ، بقي في الآية سؤالان :
/السؤال الأول : أنه تعالى لما قال : {بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ} كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم.
والجواب : أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال : {بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ} قال : {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } فإن هذا مما يؤكد قولك {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ، ثم قال بعده {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما ، والحمار ربما بقي دهراً طويلاً وزماناً عظيماً ، فرأى ما لا يبقى باقياً ، وهو الطعام والشراب ، وما يبقى غير باق وهو العظام ، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
السؤال الثاني : أنه تعالى ذكر الطعام والشراب ، وقوله {لَمْ يَتَسَنَّهْ } راجع إلى الشراب لا إلى الطعام.
والجواب : كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير ، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير ، لا سيما إذا كان الطعام لطيفاً يتسارع الفساد إليه ، والمروى أن طعامه كان التين والعنب ، وشرابه كان عصير العنب واللبن ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} .
أما قوله تعالى : {وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْا وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة ، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته ، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حياً في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت ، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله {بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ} قال الضحاك : معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلاً على صحة البعث ، وقال غيره : كان آية لأن الله تعالى أحياه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس.
أما قوله تعالى : {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا ، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى.
(1/1005)
فإن قيل : ما فائدة الواو في قوله {وَلِنَجْعَلَكَ} قلنا : قال الفرّاء : دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال : وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً ، وجعله آية جزاء ، /وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام ، أما لما قال : {وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً} كان المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ، ومثله قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} (الأنعام : 105) والمعنى : وليقولوا درست صرفنا الآيات {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام : 75) أي ونريه الملكوت.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
أما قوله تعالى : {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ} فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، فإن اللام فيه بدل الكناية ، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه ، قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه ، وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة ، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض ، وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه حين كان حياً لم يأكل ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : وانظر إلى عظامك ، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد ، وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها : أن قوله {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائماً في بعض يوم ، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة ، وعظام بدنة رميمة نخرة ، فلا يليق به ذلك القول وثانيها : أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب ، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله ، فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله ، فالمجيب أيضاً الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها : أن قوله {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِا ئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه } يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها.
أما قوله {كَيْفَ} فالمراد يحييها ، يقال : أنشر الله الميت ونشره ، قال تعالى : {فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَه } وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى : {قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا} (يس : 78 ، 79) وقرىء بفتح النون وضم الشين ، قال الفرّاء : كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي ، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف ، فهو كأنه مطوي ما دام ميتاً ، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي ، وقرأ حمزة والكسائي {كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي المنقوطة من فوق ، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض ، وانشاز الشيء رفعه ، يقال أنشزته فنشز ، أي رفعته فارتفع ، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ، ومنه نشوز المرأة ، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج/ ومعنى الآية على هذه القراءة : كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض ، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ {نُنشِزُهَا} بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال : نشزته وأنشزته أي رفعته ، والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ، ثم بسط اللحم عليها ، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ، ورفع بعضه إلى جنب البعض ، فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
ثم قال تعالى : {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه } وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} /والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب "الكشاف" : فاعل {تَبَيَّنَ لَه } مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا عندي فيه تعسف ، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال : {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وتأويله : أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي {قَالَ أَعْلَمُ} على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما : أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، قال الأعشى :
ودع أمامة إن الركب قد رحلوا
والثاني : أن الله تعالى قال : {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش : قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِـامُ رَبِّ} (البقرة : 260) ثم قال في آخرها {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 260) قال القاضي : والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه } فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز ، أما الاخبار عن أنه حصل كان جائزاً.
القصة الثالثة
وهي أيضاً دالة على صحة البعث :
جزء : 7 رقم الصفحة : 17
34
في الآية مسائل :
(1/1006)
المسألة الأولى : في عامل {إِذْ} قولان قال الزجاج التقدير : اذكر إذ قال إبراهيم ، وقال غيره إنه معطوف على قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ} ألم تر إذ حاج إبراهيم في ربه ، وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى.
/المسألة الثانية : أنه تعالى لم يسم عزيراً حين قال : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (البقرة : 259) وسمى ههنا إبراهيم مع أن المقصود من البحث في كلتا القصتين شيء واحد ، والسبب أن عزيراً لم يحفظ الأدب ، بل قال : {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} وإبراهيم حفظ الأدب فإنه أثنى على الله أولاً بقوله {رَبِّ} ثم دعا حيث قال : {أَرِنِى} وأيضاً أن إبراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور ، وعزيراً لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه.
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً الأول : قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر ، فقيل : أو لم تؤمن قال بلى ولكن المطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضرورياً.
الوجه الثاني : قال محمد بن إسحاق والقاضي : سبب السؤال أنه مع مناظرته مع نمروذ لما قال : {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِا وَأُمِيتُ } فأطلق محبوساً وقتل رجلاً قال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة ، وعند ذلك قال : {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى } لتنكشف هذه المسألة عند نمروذ وأتباعه ، وروي عن نمرود أنه قال : قل لربك حتى يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله تعالى ذلك ، وقوله {لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة ، بل كان بسبب جهل المستمع.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
والوجه الثالث : قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي رضي الله عنهم : أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشراً خليلاً : فاستعظم ذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلّم ، وقال إلهي ما علامات ذلك ؟
فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه ، فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة ، خطر بباله : إني لعلي أن أكون ذلك الخليل ، فسأل إحياء الميت فقال الله {أَوَلَمْ تُؤْمِنا قَالَ بَلَى ا وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } على أنني خليل لك.
الوجه الرابع : أنه صلى الله عليه وسلّم إنما سأل ذلك لقومه وذلك أتباع الأنبياء كانوا يطالبونهم بأشياء تارة باطلة وتارة حقة ، كقولهم لموسى عليه السلام : (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) فسأل إبراهيم ذلك. والمقصود أن يشاهده فيزول الإنكار عن قلوبهم.
الوجه الخامس : ما خطر ببالي فقلت : لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادق في ادعاء الرسالة إلى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولاً يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول أن ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل على أن ذلك /الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجز فقال : {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى ا قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنا قَالَ بَلَى ا وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم.
الوجه السادس : وهو على لسان أهل التصوف : أن المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلي ، والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلي والأنوار الإلهية فقوله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاه مُ رَبِّ} طلب لذلك التجلي والمكاشفات فقال أولم تؤمن قال بلى أو من به إيمان الغيب ، ولكن أطلب حصولها ليطمئن قلبي بسبب حصول ذلك التجلي ، وعلى قول المتكلمين : العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه الشبهات والشكوك فطلب علماً ضرورياً يستقر القلب معه استقرار لا يتخالجه شيء من الشكوك والشبهات.
الوجه السابع : لعله طالع في الصحف التي أنزلها الله تعالى عليه أنه يشرف ولده عيسى بأنه يحيي الموتى بدعائه فطلب ذلك فقيل له {أَوَلَمْ تُؤْمِنا قَالَ بَلَى ا وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } على أني لست أقل منزلة في حضرتك من ولدي عيسى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
الوجه الثامن : أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم أمر بذبح الولد فسارع إليه ، ثم قال : أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ففعلت ، وأنا أسألك أن تجعل غير ذي روح روحانياً ، فقال : أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أنك اتخذتني خليلاً.
(1/1007)
الوجه التاسع : نظر إبراهيم صلى الله عليه وسلّم في قلبه فرآه ميتاً بحب ولده فاستحيي من الله وقال : أرني كيف تحيي الموتى أي القلب إذا مات بسبب الغفلة كيف يكون إحياؤه بذكر الله تعالى.
الوجه العاشر : تقدير الآية أن جميع الخلق يشاهدون الحشر يوم القيامة فأرني ذلك في الدنيا ، فقال : أولم نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أن خصصتني في الدنيا بمزيد هذا التشريف.
الوجه الحادي عشر : لم يكن قصد إبراهيم إحياء الموتى ، بل كان قصده سماع الكلام بلا واسطة.
الثاني عشر : ما قاله قوم من الجهال ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم كان شاكاً في معرفة المبدأ وفي معرفة المعاد ، أما شكه في معرفة المبدأ فقوله {هَـاذَا رَبِّى } وقوله {لَـاـاِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} (الأنعام : 77) وأما شكه في المعاد فهو في هذه الآية ، وهذا القول سخيف ، بل كفر وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر ، فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك فقد كفر النبي المعصوم ، فكان هذا بالكفر أولى ، ومما يدل على فساد ذلك وجوه أحدها : قوله تعالى : {أَوَلَمْ تُؤْمِنا قَالَ بَلَى ا وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } ولو كان شاكاً لم يصح ذلك وثانيها : قوله {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } وذلك كلام عارف طالب لمزيد اليقين ، ومنها أن الشك في قدرة الله تعالى يوجب الشك في النبوّة فكيف يعرف نبوّة نفسه.
/أما قوله تعالى : {أَوَلَمْ تُؤْمِن } ففيه وجهان أحدهما : أنه استفهام بمعنى التقرير ، قال الشاعر :
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
والثاني : المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمناً بذلك عارفاً به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر.
أما قوله تعالى : {قَالَ بَلَى ا وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } فاعلم أن اللام في {لِّيَطْمَـاـاِنَّ} متعلق بمحذوف ، والتقدير : سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب ، قالوا. والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
وههنا بحث عقلي وهو أن التفسير مفرع على أن العلوم يجوز أن يكون بعضها أقوى من بعض ، وفيه سؤال صعب ، وهو أن الإنسان حال حصول العلم له إما أن يكون مجوزاً لنقيضه ، وإما أن لا يكون ، فإن جوّز نقيضه بوجه من الوجوه ، فذاك ظن قوي لا اعتقاد جازم ، وإن لم يجوز نقيضه بوجه من الوجوه امتنع وقوع التفاوت في العلوم.
واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا قلنا المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أما لو قلنا : المقصود شيء آخر فالسؤال زائل.
أما قوله تعالى : {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} فقال ابن عباس رضي الله عنهما : أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً ، وفي قول مجاهد وابن زيد رضي الله عنهما : حمامة بدل النسر ، وههنا أبحاث :
البحث الأول : أنه لما خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة ذكروا فيه وجهين الأول : أن الطيران في السماء ، والارتفاع في الهواء ، والخليل كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت فجعلت معجزته مشاكلة لهمته.
والوجه الثاني : أن الخليل عليه السلام لما ذبح الطيور وجعلها قطعة قطعة ، ووضع على رأس كل جبل قطعاً مختلطة ، ثم دعاها طار كل جزء إلى مشاكله ، فقيل له كما طار كل جزء إلى مشاكله كذا يوم القيامة يطير كل جزء إلى مشاكله حتى تتألف الأبدان وتتصل به الأرواح ، ويقرره قوله تعالى : {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} (القمر : 7).
البحث الثاني : أن المقصود من الإحياء والإماتة كان حاصلاً بحيوان واحد ، فلم أمر بأخذ أربع حيوانات ، وفيه وجهان الأول : أن المعنى فيه أنك سألت واحداً على قدر العبودية وأنا أعطي أربعاً على قدر الربوبية والثاني : أن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس.
البحث الثالث : إنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب /الزينة والجاه والترفع ، قال تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} (آل عمران : 14) والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب ، فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب ، والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين للخلق لم يجد في قلبه روحاً وراحة من نور جلال الله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
أما قوله تعالى : {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} ففيه مسائل :
(1/1008)
المسألة الأولى : قرأ حمزة {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بكسر الصاد ، والباقون بضم الصاد ، أما الضم ففيه قولان الأول : أن من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ورجل أصور أي مائل العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه ، وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف ، كأنه قيل : أملهن إليك وقطعهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ، فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَا فَانفَلَقَ} على معنى : فضرب فانفلق لأن قوله {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ} يدل على التقطيع.
فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟
.
قلنا : الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك.
والقول الثاني : وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد {أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} معناه قطعهن ، يقال : صار الشيء يصوره صوراً ، إذ قطعه/ قال رؤبة يصف خصماً ألد : صرناه بالحكم ، أي قطعناه ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وأما قراءة حمزة بكسر الصاد ، فقد فسّر هذه الكلمة أيضاً تارة بالإمالة ، وأخرى بالتقطيع ، أما الإمالة فقال الفرّاء : هذه لغة هذيل وسليم : صاره يصيره إذا أماته ، وقال الأخفش وغيره بكسر الصاد : قطعهن. يقال : صاره يصيره إذا قطعه ، قال الفرّاء : أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع ، فقدمت ياؤها ، كما قالوا : عثا وعاث ، قال المبرّد : وهذا لا يصح ، لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته ، فلا يجوز جعل أحدهما فرعاً عن الآخر.
المسألة الثانية : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها ، وخلط بعضها على بعض ، غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك ، وقال : إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة ، أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك ، فاجعل على كل جبل واحداً حال حياته ، ثم ادعهن /يأتينك سعياً ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن. واحتج عليه بوجوه الأول : أن المشهور في اللغة في قوله {الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ} أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية إلحاقاً لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز والثاني : أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك ، فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن.
قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجىء إلى التزامه خلاف الظاهر والثالث : أن الضمير في قوله {ثُمَّ ادْعُهُنَّ} عائد إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً الضمير في قوله {يَأْتِينَكَ سَعْيًا } عائداً إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في {يَأْتِينَكَ} عائداً إلى أجزائها لا إليها ، واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول : أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبو مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع والثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وسلّم ، فلا يكون له فيه مزية على العير والثالث : أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة والرابع : أن قوله {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ ، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب : أن ما ذكرته وإن كان محتملاً إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير : فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزأً أو بعضاً.
أما قوله تعالى : {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} ففيه مسائل :
(1/1009)
المسألة الأولى : ظاهر قوله {عَلَى كُلِّ جَبَلٍ} جميع جبال الدنيا ، فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة وعلى حسب الجهات الأربعة أيضاً أعني المشرق والمغرب والشمال والجنوب/ وقال السدي وابن جريج : سبعة من الجبال لأن المراد كل جبل يشاهده إبراهيم عليه السلام حتى يصح منه دعاء الطير ، لأن ذلك لا يتم إلا بالمشاهدة ، والجبال التي كان يشاهدها إبراهيم عليه السلام سبعة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
المسألة الثانية : روي أنه صلى الله عليه وسلّم أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءاً جزءاً وخلط دمائها ولحومها ، وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها : تعالين بإذن الله تعالى ، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته ، وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم في رواية أبي بكر والفضل {جُزْءًا} مثقلاً مهموزاً حيث وقع ، والباقون مهمزاً مخففاً وهما لغتان بمعنى واحد.
أما قوله تعالى : {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } فقيل عدواً ومشياً على أرجلهن ، لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل طيراناً وليس يصح ، لأنه لا يقال للطير إذا طار : سعى ، ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة ، فإن كانت الحركة طيراناً فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة.
وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة ، وذلك لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً فاهماً للنداء ، قادراً على السعي والعدو ، فدل ذلك على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة قال القاضي : الآية دالة على أنه لا بد من البنية من حيث أوجب التقطيع بطلان حياتها.
والجواب : أنه ضعيف لأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فإنه يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ، ولما دلّت الآية على حصول فهم النداء ، والقدرة على السعي لتلك الأجزاء حال تفرقها ، كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة.
أما قوله تعالى : {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فالمعنى أنه غالب على جميع الممكنات {حَكِيمٌ} أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 34
39
اعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف.
/فالحكم الأول : في بيان التكاليف المعتبرة في إنفاق الأموال ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه الأول : قال القاضي رحمه الله : إنه تعالى لما أجمل في قوله {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَه لَه ا أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء ولإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق ، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب ، لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثاً ، فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة ، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال ، فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً ، وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، فصارت الواحدة سبعمائة.
الوجه الثاني : في بيان النظم ما ذكره الأصم ، وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلّم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته.
والوجه الثالث : لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت.
المسألة الثانية : في الآية إضمار ، والتقدير : مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل : مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة.
المسألة الثالثة : معنى {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني في دينه ، قيل : أراد النفقة في الجهاد خاصة ، وقيل : جميع أبواب البر ، ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ، ومن صرف المال إلى الصدقات ، ومن إنفاقها في المصالح ، لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 39
فإن قيل : فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها ؟
.
(1/1010)
قلنا : الجواب عنه من وجوه الأول : أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة ، وسبعمائة ، وإذا كان هذا المعنى معقولاً سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلاً مستقيماً ، وهذا قول القفال رحمه الله وهو حسن جداً.
والجواب الثاني : أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس ، وهذا الجواب في غاية الركاكة.
/المسألة الرابعة : كان أبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء في السين في قوله {أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} لأنهما حرفان مهموسان ، والباقون بالإظهار على الأصل.
ثم قال : {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة ، ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة ، بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين/ ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص ، أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب.
ثم قال : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والافضال عليهم ، بمقادير الانفاقات ، وكيفية ما يستحق عليها ، ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعاً عند الله تعالى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 39
40
اعلم أنه تعالى لما اعظم أمر الانفاق في سبيل الله ، أتبعه ببيان الأمور التي يجب تحصيلها حتى يبقى ذلك الثواب ، منها ترك المن والأذى ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يديه يقول : يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه ، وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية.
المسألة الثانية : قال بعض المفسرين : إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه ، وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبيّن تعالى أن الانفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى قال القفال رحمه الله : وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه ، وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى ، ولا يمن به على النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين ، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين ، مثل أن يقول : لو لم أحضر لما تم هذا الأمر ، ويقول لغيره : أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد.
/المسألة الثالثة : {الْمَنَّ} في اللغة على وجوه أحدها : بمعنى الانعام ، يقال : قد من الله على فلان ، إذا أنعم ، أو لفلان على منّة ، وأنشد ابن الأنباري :
فمني علينا بالسلام فإنما
كلامك ياقوت ودر منظم
ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم : "ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة" يريد أكثر إنعاماً بماله ، وأيضاً الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم.
والوجه الثاني : في التفسير {الْمَنَّ} النقص من الحق والبخس له ، قال تعالى : {وَإِنَّ لَكَ لاجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير مقطوع وغير ممنوع ، ومنه سمي الموت : منوناً لأنه ينقص الأعمار ، ويقطع الأعذار : ومن هذا الباب المنة المذمومة ، لأن ينقص النعمة ، ويكدرها ، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة ، قال قائلهم :
جزء : 7 رقم الصفحة : 40
زاد معروفك عندي عظما
أنه عندي مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
وهو في العالم مشهور كثير
(1/1011)
إذا عرفت هذا فنقول : المن هو إظهار الاصطناع إليهم ، والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموماً لوجوه الأول : أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام ، زاد ذلك في انكسار قلبه ، فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة ، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه والثاني : إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث : أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه ، وأن يعتقد أن لله عليه نعماً عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ، وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير الرابع : وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع ، ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد ، فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيراً بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولاً بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر ، وأما الأذى فقد اختلفوا فيه ، منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصاً بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير : أنت أبداً تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك ، فبيّن سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل.
فإن قيل : ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني /لا يبطل الأجر.
قلنا : بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله {لا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى } يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها ، وذلك لأنه تعالى بيّن أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى ، لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 40
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الانفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً ، من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن ، ولم ينفق لطلب رضوان الله ، ولا على وجه القربة والعبادة ، فلا جرم بطل الأجر ، طعن القاضي في هذا الجواب فقال : إنه تعالى بيّن أن هذا الانفاق قد صح ، ولذلك قال : {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا } وكلمة {ثُمَّ} للتراخي ، وما يكون متأخراً عن الانفاق موجب للثواب ، لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلاً حال حصول المؤثر لا بعده.
أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول : أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخراً عن الانفاق ، إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهراً على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله ، بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة ، ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب والثاني : هب أن هذا الشرط متأخر ، ولكن لم يجوز أن يقال : إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة ، وتقريره معلوم في علم الكلام.
المسألة الخامسة : الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر ، حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل.
أما قوله {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى ، وأصحابنا يقولون : حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط ، وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الاطلاق ، فوجب أن يكون الأجر حاصلاً لهم بعد فعل الكبائر ، وذلك يبطل القول بالإحباط.
المسألة الثالثة : أجمعت الأمة على أن قوله {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} مشروط بأن لا يوجد منه الكفر ، وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص ، ومتى جاز ذلك في الجملة /لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية ، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد.
(1/1012)
أما قوله {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ففيه قولان الأول : أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع ، بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة ، لا يخافون من أن لا يوجد ، ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد ، وهو كقوله تعالى : {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (طه : 112) والثاني : أن يكون المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ألبتة ، كما قال : {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَـاـاِذٍ ءَامِنُونَ} (النمل : 89) وقال : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103).
جزء : 7 رقم الصفحة : 40
42
أما القول المعروف ، فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره ، والمراد منه ههنا أن يرد /السائل بطريق جميل حسن ، وقال عطاء : عدة حسنة ، أما المغفرة ففيه وجوه أحدها : أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك ، فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان ، فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته وثانيها : أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل وثالثها : أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره ، والمراد من القول المعرروف رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله ورابعها : أن قوله {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} خطاب مع المسؤول بأن يرد السائل بأحسن الطرق ، وقوله {وَمَغْفِرَةٌ} خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرد ، فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة ، ثم بيّن تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى ، وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى ، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء ، فهناك جمع بين الانفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب الانفاع بعقاب الإضرار ، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار ، فكان هذا خيراً من الأول.
واعلم أن من الناس من قال : إن الآية واردة في التطوع ، لأن الواجب لا يحل منعه ، ولا رد السائل منه ، وقد يحتمل أن يراد به الواجب ، وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
ثم قال : {وَاللَّهُ غَنِىٌّ} عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها {حَلِيمٌ} إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته ، وهذا سخط منه ووعيد له ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين على الإنفاق أحدهما : الذي يتبعه المن والأذى والثاني : الذي لا يتبعه المن والأذى ، فشرح حال كل واحد منهما ، وضرب مثلاً لكل واحد منهما.
فقال في القسم الأول : الذي يتبعه المن والأذى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } وفي الآية مسائل ؛
المسألة الأولى : قال القاضي : إنه تعالى آكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بيّن أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت ، فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها ، لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى.
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين ، فمثله أولاً : بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر/ لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى ، ثم مثله ثانياً : بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ، ثم أصابه المطر القوي ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلاً ، فالكافر كالصفوان ، والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل /الكافر ، وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الانفاق بعد حصوله ، وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير ، قال الجبائي : وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضاً ، وذلك لأن من أطاع وعصى ، فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين ، لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال ، ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنه حقه ، وأن يكون ظلماً من حيث إنه منع الإثابة ، فيكون ظالماً بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال ، فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل ، هذا كلام المعتزلة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
(1/1013)
وأما أصحابنا فإنهم قالوا : ليس المراد بقوله {لا تُبْطِلُوا } النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلاً ، وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان ، واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل :
أولها : أن النافي والطارىء إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارىء زوال النافي ، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارىء أولى من زوال النافي ، بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع.
ثانيها : أن الطارىء لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال ، لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال.
وثالثها : أن شرط طريان الطارىء زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال.
ورابعها : أن الطارىء إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارىء شيئاً أو لا يعدم منه شيئاً ، والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل ، وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معاً اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجوداً حال كون كل واحد منهما معدوماً وهو محال.
/وأما الثاني : وهو قول أبي علي الجبائي فهو أيضاً باطل لأن العقاب الطارىء لما أزال الثواب السابق ، وذلك الثواب السابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارىء ، فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلاً لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7) ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة ، ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة.
وخامسها : وهو أنكم تقولون : الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض ، وذلك محال من القول/ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية ، فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال ، فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق ، أو لا نزيل شيئاً منها وهو المطلوب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
وسادسها : وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم ، فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارىء أو كلها والأول : باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للمكن من غير مرجح وهو محال ، والقسم الثاني باطل ، لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإيطال ذلك الثواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال ، لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنياً عنهما معاً حال كونه محتاجاً إليهما معاً وهو محال.
وسابعها : وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده : احفظ المتاع لئلا يسرقه السارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده ، ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة ، وكل واحد من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة ، فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول.
وثامنها : أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارىء إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون ، والأول : محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجوداً في الزمان الماضي ، فلو كان لهذا الطارىء أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعاً للتأثير في الزمان الماضي وهو محال ، وإن لم يكن للطارىء أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا /الطارىء مانعاً من ظهور الأثر على ذلك السابق ، لأنا نقول : إذا كان هذا الطارىء لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلاً وألبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال ، واندفاع أثر هذا الطارىء ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس.
(1/1014)
وتاسعها : أن هؤلاء المعتزلة يقولون : إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص ، وذلك محال. لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم لا يحيط بالأقل ، قال الجبائي : إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة ، لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه ، كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه ، فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظماً وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات ، واعلم أن هذا العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً ، فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الانصاف والقسوة ، ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم ، فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
وعاشرها : أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة/ فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة ، وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم ، فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة ، في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول : قوله تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى } يحتمل أمرين أحدهما : لا تأتوا به باطلاً ، وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة ، فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة ، وهذا التأويل لا يضرنا ألبتة.
الوجه الثاني : أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب ، ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلاً لثواب تلك الصدقة ، وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية ، فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما : يطابق الاحتمال الأول ، وهو قوله {كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} إذ من المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلاً أنه دخل في الوجود باطلاً ، لا أنه دخل صحيحاً ، ثم يزول ، لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر ، والكفر مقارن له ، فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود ، فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل ، وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل ، فهذا يشهد لتأويلهم ، لأنه تعالى جعل /الوابل مزيلاً لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا ههنا يجب أن يكون المن والأذى مزبلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر ، إلا أن لنا أن نقول : لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر ، بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقروناً بالنية الفاسدة لكان موجباً لحصول الأجر والثواب ، فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه ، وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى ، لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ولا غائصاً فيه ألبتة ، بل كان ذلك الاتصال كالانفصال ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة غير متصل ، فكذا الانفاق المقرون بالمن والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف ، وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين ، وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
المسألة الثانية : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم ، وبالأذى لذلك السائل ، وقال الباقون : بالمن على الفقير ، وبالأذى للفقير. وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل ، لأن الإنسان إذا أنفق متبجحاً بفعله ، ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله ، والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له.
أما قوله {كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ} ففيه مسألتان :
(1/1015)
المسألة الأولى : الكاف في قوله {كَالَّذِى} فيه قولان الأول : أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس ، فبيّن تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة ، كما أن النفاق والرياء يبطلانها ، وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى ، فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضاً إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه ، فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى ، وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الابطال الإتيان به باطلاً ، لا أن المقصود الإتيان به صحيحاً/ ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى.
والقول الثاني : أن يكون الكاف في محل النصب على الحال ، أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس.
المسألة الثانية : الرياء مصدر ، كالمراءاة يقال : راأيته رياء ومراءاة ، مثل : راعيته مراعاة ورعاء ، وهو أن ترائي بعملك غيرك ، وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني ، فقال {فَمَثَلُه } وفي هذا الضمير وجهان أحدهما : أنه عائد إلى المنافق ، فيكون /المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر ، ثم قال : {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس ، وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد ، وكل ذلك مقصور ، وقال بعضهم : الصفوان جمع صفوانه ، كمرجان ومرجانة ، وسعدان وسعدانة ، ثم قال : {فَأَصَابَه وَابِلٌ} الوابل المطر الشديد ، يقال : وبلت السماء تبل وبلا ، وأرض موبولة ، أي أصابها وابل ، ثم قال : {فَتَرَكَه صَلْدًا } الصلد الأمس اليابس ، يقال : حجر صلد ، وجبل صلد إذا كان براقاً أملس وأرض صلدة ، أي لا تنبت شيئاً كالحجر الصلد وصلد الزند إذا لم يور ناراً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
واعلم أن هذا مثل ضربة الله تعالى لعمل المان المؤذي ، ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً ، كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب ، وأما المعتزلة فقالوا : إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر ، كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان ، واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين الأول : ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب ، والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا ، وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل.
الوجه الثاني : في التشبيه ، قال القفال رحمه الله تعالى ، وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ، ويجده وقت حاجته ، والصفوان محل بذر المنافق ، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر ، والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعاً بذره خالياً لا شيء فيه ، ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة ، والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل ، فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستاناً في ربوة من الأرض ، فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة ، وأما عمل المان والمؤذي والمنافق ، فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً ، ومن الملحدة من طعن في التشبيه ، فقال : إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهراً نقياً نظيفاً عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق ، والجواب أن وجه التشبيه ما ذكرناه ، فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه ، قال القاضي : وأيضاً فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه أحدها : أنه أصلح في الاستقرار عليه وثانيها : الانتفاع بها في التيمم وثالثها : الانتفاع به فيما يتصل بالنبات ، وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول.
(1/1016)
أما قوله تعالى : {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا } فاعلم أن الضمير في قوله {لا يَقْدِرُونَ} إلى /ماذا يرجع ؟
فيه قولان أحدهما : أنه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان/ لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه ، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر ، وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى ، وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة والثاني : أنه عائد إلى قوله {كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه } وخرج على هذا المعنى ، لأن قوله {كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه } إنما أشير به إلى الجنس ، والجنس في حكم العام ، قال القفال رحمه الله : وفيه وجه ثالث ، وهو أن يكون ذلك مردوداً على قوله {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى } فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فرجع عن الخطاب إلى الغائب ، كقوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ} (يونس : 22).
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
ثم قال : {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ومعناه على قولهم : سلب الإيمان ، وعلى قول المعتزلة : إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم.
ثم قال تعالى : {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةا بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَاَاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
اعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون ماناً ومؤذياً ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك ، وهو هذه الآية ، وبيّن تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الانفاق أمران أحدهما : طلب مرضاة الله تعالى ، والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت ، وسواء قولك : بغيت وابتغيت.
والغرض الثاني : هو تثبيت النفس ، وفيه وجوه أحدها : أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ، ومن جملة ذلك ترك اتباعها بالمن والأذى ، وهذا قول القاضي وثانيها : وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد {وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} وثالثها : أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية ، إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ، ومعشوقها أمران : الحياة العاجلة والمال ، فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه ، وإذا كلفت يبذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت ، فلهذا دخل فيه {مِّنْ} التي هي التبعيض ، والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها ، وهو المراد من قوله {وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } (الصف : 11) وهذا الوجه ذكره صاحب "الكشاف" ، وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها : وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع : أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَا ِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي ، إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض /العبودية ، ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلا شُكُورًا} (الإنسان : 9) ووصف إنفاق أبي بكر فقال : {وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } (الليل : 19 ، 20 ، 21) فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض. فهناك اطمأن قلبه ، واستقرت نفسه ، ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه ، ولهذا قال أولاً في هذا الانفاق إنه لطلب مراضاة الله ، ثم أتبع ذلك بقوله {وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} وخامسها : أنه ثبت في العلوم العقلية ، أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
(1/1017)
إذا عرفت هذا فنقول : إن من يواظب على الانفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما : حصول هذا المعنى والثاني : صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس ، حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس ، وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح ، فإتيان العبد بالطاعة لله ، ولابتغاء مرضاة الله ، يفيد هذه الملكة المستقرة ، التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس ، وهو المراد أيضاً بقوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية ، فصار العبد كما قاله بعض المحققين : غائباً حاضراً ، ظاعناً مقيماً وسادسها : قال الزجاج : المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ، ولا يخيب رجاءهم ، لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق ، فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعاً ، لأنه لا يؤمن بالثواب ، فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها : قال الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف ، قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإذا كان لله أعطى ، وإن خالطه أمسك ، قال الواحدي : وإنما جاز أن يكون التثبيت ، بمعنى التثبيت ، لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق ، وصرف المال في وجهه ، ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الانفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلاً ، فقال : {كَمَثَلِ جَنَّةا بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وابن عامر {بِرَبْوَةٍ} بفتح الراء وفي المؤمنين {إِلَى رَبْوَةٍ} وهو لغة تميم ، والباقون بضم الراء فيهما ، وهو أن أشهر اللغات ولغة قريش ، وفيه سبع لغات {رَبْوَةٍ} بتعاقب الحركات الثلاث على الراء ، وبالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء ، ووالربوة المكان المرتفع ، قال الأخفش : والذي اختاره {إِلَى رَبْوَةٍ} بالضم ، لأن جمعها الربى ، وأصلها من قولهم : ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ، ومنه الرابية ، لأن أجزاءها ارتفعت ، ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ، ومنه الربا ، لأنه يأخذ الزيادة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
واعلم أن المفسرين قالوا : البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعاً.
/ولي فيه إشكال : وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيراً فلا يحسن ريعه ، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ، ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضاً ريعه ، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة ، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه ، بل المراد منه كون الأرض طيناً حراً ، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما ، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها ، وتكمل الأشجار فيها ، وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما : قوله تعالى : {وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (الحج : 5) والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا ههنا والثاني : أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ، ولا يربو ، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه ، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو ، فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى : {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَاَاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {أُكُلَهَا} بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل ، وهو الأصل ، والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى : {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينا بِإِذْنِ رَبِّهَا } (إبراهيم : 25) أي ثمرتها وما يؤكل منها ، فالأكل في المعنى مثل الطعمة ، وأنشد الأخفش :
فما أكلة إن نلتها بغنيمة
ولا جوعة إن جعتها بقرام
وقال أبو زيد : يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا.
المسألة الثانية : قال الزجاج : {فَاَاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} يعني مثلين لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه ، وقيل ضعف الشيء مثلاه قال عطاء : حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين ، وقال الأصم : ضعف ما يكون في غيرها ، وقال أبو مسلم : مثلي ما كان يعهد منها.
ثم قال تعالى : {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } الطل : مطر صغير الفطر ، ثم في المعنى وجوه :
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
(1/1018)
الأول : المعنى أن هذه الجنّة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل ، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني : معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمراً دون ثمر الوابل ، فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر ، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلاً كان أو كثيراً.
ثم قال : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} والمراد من البصير العليم ، أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها ، والأمور الباعثة عليها ، وأنه تعالى مجاز بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
الأول : المعنى أن هذه الجنّة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل ، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني : معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمراً دون ثمر الوابل ، فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر ، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلاً كان أو كثيراً.
ثم قال : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} والمراد من البصير العليم ، أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها ، والأمور الباعثة عليها ، وأنه تعالى مجاز بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 42
50
اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى ، والمعنى أن يكون للإنسان جنّة في غاية الحسن والنهاية ، كثيرة النفع ، وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة ، وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضاً في غاية الحاجة ، وفي غاية العجز ، ولا شك أن كونه محتاجاً أو عاجزاً مظنة الشدة والمحنة ، وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة ، فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية ، فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة ، والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس ، وثانياً : بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئاً ، وثالثاً : بسبب تعلق غيره به ، ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة ، فكذلك من أنفق لأجل الله ، كان ذلك نظيراً للجنة المذكورة وهو يوم القيامة ، كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده في وجوه الانتفاع على تلك الجنة ، وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنّة ، ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة ، وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله ، لم يجد هناك شيئاً فيبقى لا محالة في أعظم غم ، وفي أكمل حسرة وحيرة ، وهذا المثل في غاية الحسن ، ونهاية الكمال ، ولنذكر ما يتعلق بألفاظ الآية.
أما قوله {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الود ، هو المحبة الكاملة.
المسألة الثانية : الهمزة في {أَيَوَدُّ} استفهام لأجل الإنكار ، وإنما قال : {أَيَوَدُّ} ولم يقل /أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال : {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} حصول مثل هذه الحالة تنبيهاً على الإنكار التام ، والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 50
أما قوله {جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} فاعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث :
الصفة الأول : كونها من نخيل وأعناب ، واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب ، ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب ، صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب ، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها.
والصفة الثانية : قوله {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة.
الصفة الثالثة : قوله {لَه فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ولا شك أن هذا يكون سبباً لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها ، ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن ، لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع ، ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك ، ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة ، فقال : {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وذلك لأنه إذا صار كبيراً ، وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه/ وملبسه ، ومسكنه ، ومن يقوم بخدمته ، وتحصيل مصالحه ، فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب ، إلا من تلك الجنة ، فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة.
(1/1019)
فإن قيل : كيف عطف {وَأَصَابَهُ} على {أَيَوَدُّ} وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل.
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" للحال لا للعطف ، ومعناه {بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَه جَنَّةٌ} حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق.
والجواب الثاني : قال الفرّاء : وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى ، كأنه قيل : أيود أحدكم إن كان له جنّة وأصابه الكبر.
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج ذلك الإنسان إلى تلك الجنّة فقال : {وَلَه ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} والمراد من ضعف الذرية : الضعف بسبب الصغر والطفولية ، فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر ، وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 50
ثم قال تعالى : {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء /كأنها عمود ، وهي التي يسميها الناس الزوبعة ، وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر :
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصارا
والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله ، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة ، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله ، بل يقرن بها أموراً تخرجها عن كونها موجبة للثواب ، فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) وقوله {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} (الفرقان : 23).
ثم قال : {كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَاتِ} أي كما بيّن الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيباً وترهيباً كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن : لعل ، للترجي وهو لا يليق بالله تعالى.
المسألة الثانية : أن المعتزلة تمسكوا به في أنه يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وقد تقدم شرح هاتين الآيتين مراراً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 50
52
اعلم أنه رغب في الإنفاق ، ثم بيّن أن الإنفاق على قسمين : منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك.
ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين ، وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه.
ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال : {أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} واختلفوا في أن قوله {أَنفِقُوا } المراد منه ماذا فقال الحسن : /المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم : المراد منه التطوع وقال ثالث : إنه يتناول الفرض والنفل ، حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله {أَنفِقُوا } أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد : أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "بئس ما صنع صاحب هذا" فأنزل الله تعالى هذه الآية ، حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز ، وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل ، فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر.
إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان ، فيدخل فيه زكاة التجارة ، وزكاة الذهب والفضة ، وزكاة النعم ، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً ، إلا أن مخالفيه خصصوا هذا الغموم بقوله صلى الله عليه وسلّم : "ليس في الخضراوات صدقة" وأيضاً مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلاً كان أو كثيراً وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلّم : "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
جزء : 7 رقم الصفحة : 52
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين :
القول الأول : أنه الجيد من المال دون الرديء ، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة ، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.
(1/1020)
والقول الثاني : وهو قول ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال ، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه :
الحجة الأولى : إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.
الحجة الثانية : أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض ، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله : ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء ، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال ، أمن حلاله أو من حرامه.
/الحجة الثالثة : أن هذا القول متأيد بقوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها ، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته ، واحتج القاضي للقول الثاني فقال : أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال ، فإذا بطل الأول تعين الثاني ، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراماً أو حلالاً وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل ، فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال ، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب ههنا ما يكون طيباً من كل الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال ، ويكون طيباً بمعنى الجودة ، وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيباً لأنه يستطيبه العقل والدين ، والجيد إنما يسمى طيباً لأنه يستطيبه الميل والشهوة ، فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين ، فكان اللفظ محمولاً عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول : الأموال الزكية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة ، فإن كان الكل شريفاً كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك ، وإن كان الكل خسيساً كان الزكاة أيضاً من ذلك الخسيس ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء ، فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطاً فالواجب هو الوسط قال صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم" هذا كله إذا قلنا المراد من قوله {أَنفِقُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا كَسَبْتُمْ} الزكاة الواجبة ، أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع ، أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع ، فنقول : إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه ، كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية ، فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها ، فكذا ههنا ، بقي في الآية سؤال واحد ، وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة {مِّنْ} في قوله {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الارْضِ } .
جزء : 7 رقم الصفحة : 52
وجوابه : تقدير الآية : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه.
أما قوله تعالى : {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : أممته ، ويممته ، وتأممته ، كله بمعنى قصدته قال الأعشى :
تيممت قيساً وكم دونه
من الأرض من مهمه ذي شرف
/المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وحده {وَلا تَيَمَّمُوا } بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة ، وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى ، والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها ، وهي ثلاثة وعشرون موضعاً : لا تفرقوا ، توفاهم ، تعاونوا ، فتفرق بكم ، تلقف ، تولوا ، تنازعوا ، تربصون ، فإن تولوا ، لا تكلم ، تلقونه ، تبرجن ، تبدل ، تناصرون ، تجسسوا ، تنابزوا ، لتعارفوا ، تميز ، تخيرون ، تلهى ، تلظى ، تنزل الملائكة ، وههنا بحثان :
البحث الأول : قال أبو علي : هذا الإدغام غير جائز ، لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به ، كما جلبت في أمثلة الماضي نحو : أدارأتم/ وارتبتم وأطيرنا ، لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع.
البحث الثاني : اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة ، فقال بعضهم : هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية ، والفرّاء يقول : أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها.
أما قوله تعالى : {مِنْهُ تُنفِقُونَ} .
(1/1021)
فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول : أنه تم الكلام عند قوله {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} ثم ابتدأ ، فقال : {مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِاَاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيه } فقوله {مِنْهُ تُنفِقُونَ} استفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الاغماض والثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله {إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيه } ويكون الذي مضمراً ، والتقدير : ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه ، ونظيره إضمار التي في قوله تعالى : {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا } (البقرة : 256) والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 52
أما قوله تعالى : {وَلَسْتُم بِاَاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الاغماض في اللغة غض البصر ، وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض ، وهو الخفاء يقال : هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض.
المسألة الثانية : في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول : أن المراد بالإغماض ههنا المساهلة ، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً ، فقوله {وَلَسْتُم بِاَاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيه } يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني : أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول : أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن.
ثم ختم الآية بقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} والمعنى أنه غني عن صدقاتكم ، ومعنى حميد ، أي /محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر ، وهو أن قوله {غَنِىٌّ} كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و{حَمِيدٌ} بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله {فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 52
55
اعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيراً فلا تبال بقوله فإن الرحمن {يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلا } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء.
المسألة الثانية : الوعد يستعمل في الخير والشر ، قال الله تعالى : {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الحج : 72) ويمكن أن يكون هذا محمولاً على التهكم ، كما في قوله {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
المسألة الثالثة : الفقر والفقر لغتان ، وهو الضعيف بسبب قلة المال وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار ، يقال : رجل فقر وفقير إذا كان مكسور الفقار ، قال طرفة.
إنني لست بمرهون فقر
قال صاحب "الكشاف" : قرىء الفقر بالضم والفقر بفتحتين.
المسألة الرابعة : أما الكلام في حقيقة الوسوسة ، فقد ذكرناه في أول الكتاب في تفسير {أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} روي عن ابن مسعود رضي الله عنه : إن للشيطان لمة وهي الإيعاد بالشر ، وللملك لمة وهي الوعد بالخير ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأول فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقرأ هذه الآية وروى الحسن ، قال بعض المهاجرين : من سره أن يعلم مكان الشيطان منه فليتأمل موضعه من المكان الذي منه يجد الرغبة في فعل المنكر.
أما قوله تعالى : {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } ففيه وجوه الأول : أن الفحشاء هي البخل {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل ، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل ، قال تعالى : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات : 8) وقد نبّه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل ، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة ، وهي التخويف من الفقر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 55
(1/1022)
الوجه الثاني : في تفسير الفحشاء ، وهو أنه يقول : لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيراً ، فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان ، فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الرديء وحتى يمنع الحقوق الواجبة ، فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها ، وهناك يتسع الخرق ويصير مقداماً على كل الذنوب ، وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطاً فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش ، لا يمكنه إلا بأن يجره إلى الوسط ، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه/ وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش ، فالوسط هو قوله تعالى : {يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} والطرف الفاحش قوله {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلا } فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة ، والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق ، وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أن الملك ينادي كل ليلة "اللّهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً".
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك ، والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك ، ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها : أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه ، ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها : أن بتقدير وجدان غد الدنيا ، فقد يبقى المال المبخول به ، وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى ، لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها : أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا ، فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها : أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع /ينقطع ولا يبقى ، وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول ، وخامسها : أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار ، فلا ترى شيئاً من اللذات إلا ويكون سبباً للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب ، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 55
(1/1023)
إذا عرفت هذا فنقول : المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة : 103) وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها : التنكير في لفظة المغفرة ، والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني : قوله {مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} فقوله {مِنْهُ} يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضاً لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة ، لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية ، وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى {فَ أولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّاَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (الفرقان : 70) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ، ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا ، وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا ، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاً أحدها : أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء ، وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث : نفسانية ، وبدنية ، وخارجية ، وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث : السعادات النفسانية ، وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل ، فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني : وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها/ ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا حب الدنيا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة ، وهذا هو الفضل لا غير والثالث : وهو أحسن الوجوه : أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقاً لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه ، فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا ، ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير.
جزء : 7 رقم الصفحة : 55
ثم ختم الآية بقوله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي أنه واسع المغفرة ، قادر على إغنائكم ، وإخلاف /ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون ، فهو يخلفه عليكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 55
57
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم. بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها : مواعظ القرآن ، قال في البقرة {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِه } يعني مواعظ القرآن وفي النساء {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} يعني المواعظ ، ومثلها في آل عمران وثانيها : الحكمة بمعنى الفهم والعلم ، ومنه قوله تعالى : {وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (مريم : 12) وفي لقمان {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (لقمان : 12) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام { أولئك الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} (الأنعام : 89) وثالثها : الحكمة بمعنى النبوّة في النساء {فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (النساء : 54) يعني النبوّة ، وفي ص {وَشَدَدْنَا مُلْكَه وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} (ص : 20) يعني النبوّة ، وفي البقرة {وَءَاتَا هُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة : 251) ورابعها : القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (النحل : 125) وفي هذه الآية {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } (
جزء : 7 رقم الصفحة : 57
(1/1024)
البقرة : 269) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم ، قال تعالى : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (الإسراء : 85) وسمى الدنيا بأسرها قليلا ، فقال : {قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} (النساء : 77) وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير ، والبرهان العقلي أيضاً يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار ، متناهية المدة ، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها ، والسعادة /الحاصلة منها ، وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا} (البقرة : 31) وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها : إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلّم : "تخلقوا بأخلاق الله تعالى" واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين ، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فالمرجع بالأول : إلى العلم والإدراك المطابق ، وبالثاني : إلى فعل العدل والصواب ، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم قوله {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا} (الشعراء : 83) وهو الحكمة النظرية {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83) الحكمة العملية ، ونادى موسى عليه السلام فقال : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : {فَاعْبُدْنِى} وهو الحكمة العملية ، وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال : {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} (مريم : 30) الآية ، وكل ذلك للحكمة النظرية ، ثم قال : {وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَـانِى} (مريم : 31) وهو الحكمة العملية ، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلّم : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} (محمد : 19) وهو الحكمة النظرية ، ثم قال : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} (غافر : 55) (محمد : 19) وهو الحكمة العملية ، وقال في جميع الأنبياء {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا } (النحل : 2) وهو الحكمة النظرية : ثم قال : {فَاتَّقُونِ} وهو الحكمة العملية ، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين ، قال أبو مسلم : الحكمة فعلة من الحكم ، وهي كالنحلة من النحل ، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي ، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال : أمر حكيم ، أي محكم ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، قال الله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان : 4) وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 57
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ} بمعنى : ومن يؤته الله الحكمة ، وهكذا قرأ الأعمش.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية ، لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال ، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم ، فهي مفسرة بالعلوم النظرية ، وإن فسرناها بالأفعال الحسيّة فالأمر ظاهر ، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسيّة ثابتاً من غيرهم ، وبتقدير مقدر غيرهم ، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق ، فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوّة والقرآن ، أو قوة الفهم والحسيّة على ما هو قول الربيع بن أنس.
قلنا : الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات ، وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل /لفظ الحكيم في غير الأنبياء ، فتكون الحكمة مغايرة للنبوّة والقرآن ، بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء ، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف ، قلنا : كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار ، مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم ، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الالطاف والله أعلم.
(1/1025)
ثم قال : {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ} والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ، ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره ، كان من أولي الألباب ، لأنه لم يقف عند المسببات ، بل ترقى منها إلى أسبابها ، فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب ، وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه ، واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها ، كان من الظاهر بين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب ، وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل ، قالوا : هذه الحكمة لا تقوم بنفسها ، وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر/ فيعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 57
59
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال ، ثم حث أولاً : بقوله {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} (البقرة : 267) وثانياً : بقوله {الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (البقرة : 268) حيث عليه ثالثاً : بقوله {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُه } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُه } على اختصاره ، يفيد الوعد العظيم للمطيعين ، والوعيد الشديد للمتمردين ، وبيانه من وجوه أحدها : أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة وثانيها : أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات ، كما قال : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة : 27) وقوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة : 7 ، 8) وثالثها : أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها ، ولا يشتبه عليه شيء منها.
/المسألة الثانية : إنما قال : {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُه } ولم يقل : يعلمها ، لوجهين الأول : أن الضمير عائد إلى الأخير ، كقوله {وَمَن يَكْسِبْ خَطِى ـاَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِه بَرِى ـاًا} وهذا قول الأخفش ، والثاني : أن الكتابة عادت إلى ما في قوله {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ} لأنها اسم كقوله {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَـابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِه } (البقرة : 231).
المسألة الثالثة : النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال : نذر ينذر ، وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ، وأنذرت القوم إنذاراً بالتخويف ، وفي الشريعة على ضربين : مفسر وغير مفسر ، فالمفسر أن يقول : لله علي عتق رقبة ، ولله علي حج ، فههنا يلزم الوفاء به ، ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول : نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله ، أو يقول : لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين ، لقوله صلى الله عليه وسلّم : "من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين".
جزء : 7 رقم الصفحة : 59
أما قوله تعالى : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : أنه وعيد شديد للظالمين ، وهو قسمان ، أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي ، وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الانفاق عن المستحق إلى غيره ، أو يكون نيته في الانفاق على المستحق الرياء والسمعة ، أو يفسدها بالمعاصي ، وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير ، بل من باب الظلم على النفس.
المسألة الثانية : المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر ، قالوا : لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصاراً لهم وذلك يبطل قوله تعالى : {وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} .
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصراً ، بدليل قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة : 48) ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء.
والجواب الثاني : ليس لمجموع الظالمين أنصار ، فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار.
فإن قيل : لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع ، والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد ، فكان المعنى : ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار.
قلنا : لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.
(1/1026)
والجواب الثالث : أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل ، وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات ، والخاص مقدم على العام والله أعلم.
والجواب الرابع : ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعاً في الاستغراق ، بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً ، والمسألة ليست ظنية ، فكان التمسك بها ساقطاً.
المسألة الثالثة : الأنصار جمع نصير ، كإشراف وشريف ، وأحباب وحبيب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 59
61
اعلم أنه تعالى بيّن أولاً : أن الانفاق منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يكون كذلك ، وذكر حكم كل واحد من القسمين ، ثم ذكر ثانياً : أن الانفاق قد يكون من جيد ومن رديء ، وذكر حكم كل واحد من القسمين ، وذكر في هذه الآية أن الانفاق قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً ، وذكر كل واحد من القسمين ، فقال : {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} (التوبة : 103) وقال : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ} وقال صلى الله عليه وسلّم : "نفقة المرء على عياله صدقة" والزكاة لا تطلق إلا على الفرض ، قال أهل اللغة أصل الصدقة "ص د ق" على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال ، ومنه قولهم : رجل صدق النظر ، وصدق اللقاء ، وصدقوهم القتال ، وفلان صادق المودة ، وهذا خل صادق الحموضة ، وشيء صادق الحلاوة ، وصدق فلان في خبره إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحاً كاملاً ، والصديق يسمى صديقاً لصدقه في المودة ، والصداق سمي صداقاً لأن عقد النكاح به يتم ويكمل ، وسمى الله تعالى الزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويكمل ، فهي سبب إما لكمال المال وبقائه ، وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه.
المسألة الثالثة : الأصل في قوله {فَنِعِمَّا} نعم ما ، إلا أنه أدغم أحد الميمين في الآخر ، ثم فيه ثلاثة أوجه من القراءة : قرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر عن عاصم {فَنِعِمَّا} بكسر النون وإسكان العين وهو اختيار أبي عبيد ، قال : لأنها لغة النبي صلى الله عليه وسلّم حين قال لعمرو بن العاص : "نعما بالمال الصالح للرجل الصالح" هكذا روي في الحديث بسكون العين ، والنحويون قالوا : هذا يقتضي /الجمع بين الساكنين ، وهو غير جائز إلا فيما يكون الحرف الأول منهما حرف المد واللين ، نحو : دابة وشابة ، لأن ما في الحرف من المد يصير عوضاً عن الحركة ، وأما الحديث فلأنه لما دل الحس على أنه لا يمكن الجمع بين هذين الساكنين علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما تكلم به أوقع في العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس والقراءة الثانية قرأ ابن كثير ونافع برواية ورش وعاصم في رواية حفص {فَنِعِمَّا هِىَ } بكسر النون والعين وفي تقريره وجهان أحدهما : أنهم لما احتاجوا إلى تحريك العين حركوها مثل حركة ما قبلها والثاني : أن هذا على لغة من يقول {نِعْمَ} بكسر النون والعين ، قال سيبويه : وهي لغة هذيل ، القراء الثالثة وهي قراءة سائر القرّاء {فَنِعِمَّا هِىَ } بفتح النون وكسر العين ، ومن قرأ بهذه القراءة ، فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي {نِعْمَ} قال طرفة :
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
نعم الساعون في الأمر المير
المسألة الرابعة : قال الزجاج : ما في تأويل الشيء ، أي نعم الشيء هو ، قال أبو علي الجيد : في تمثيل هذا أن يقال : ما في تأويل شيء ، لأن ما ههنا نكرة ، فتمثيله بالنكرة أبين ، والدليل على أن ما نكرة ههنا أنها لو كانت معرفة فلا بد لها من الصلة ، وليس ههنا ما يوصل به ، لأن الموجود بعد ما هو هي ، وكلمة هي مفردة والمفرد لا يكون صلة لما وإذا بطل هذا القول فنقول : ما نصب على التمييز/ والتقدير : نعم شيئاً هي إبداء الصدقات ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
المسألة الخامسة : اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية : التطوع ، أو الواجب ، أو مجموعهما.
فالقول الأول : وهو قول الأكثرين : أن المراد منه صدقة التطوع ، قالوا : لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل ، والإظهار في الزكاة أفضل ، وفيه بحثان :
(1/1027)
البحث الأول : في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه ، أو إظهاره ، فلنذكر أولاً الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل فالأول : أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة ، قال صلى الله عليه وسلّم : "لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان" والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء ، والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما ، وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء ، واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى ، وبعضهم يلقيه في طريق الفقير ، وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي ، وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم ، وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره ، والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة ، لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معاً وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها : أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم ، فكان /ذلك يشق على النفس ، فوجب أن يكون ذلك أكثر ثواباً وثالثها : قوله صلى الله عليه وسلّم : "أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر" وقال أيضاً "إن العبد ليعمل عملاً في السر يكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء" وفي الحديث المشهور "سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله : أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه" وقال صلى الله عليه وسلّم : "صدقة السر تطفيء غضب الرب" ورابعها : أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه ، والإخفاء لا يتضمن ذلك ، فوجب أن يكون الإخفاء أولى ، وبيان تلك المضار من وجوه الأول : أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره ، وربما لا يرضى الفقير بذلك والثاني : أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال ، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَـاهُمْ لا يَسْـاَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } (البقرة : 273) والثالث : أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ، ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها ، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع : أن في إظهر الإعطاء إذلالاً للآخذ وإهانة له وإزلال المؤمن غير جائز والخامس : أن الصدقة جارية مجرى الهدية ، وقال عليه الصلاة والسلام : "من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها" وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئاً إلى شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة ، فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها ، صار ذلك سبباً لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات ، فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع ، والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل ، وروي ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "السر أفضل من العلانية ، والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به" قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي : الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق ، والقلب ينكر ذلك ويدفعه/ فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفاً على العلانية ، ثم إن الله عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة ، وذهبت عنهم وساوس النفس ، لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى ؛ فإذا عمل عملاً علانية لم يحتج أن يجاهد ، لأن شهوة النفس قد بطلت ، ومنازعة النفس قد اضمحلت ، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاماً وفوق التمام ، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن ، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة ، فقال : { أولئك يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} (الفرقان : 75) ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان : 74) ومدح أمة موسى عليه السلام فقال : {وَمِن قَوْمِ مُوسَى ا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} (الأعراف : 159) ومدح أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فقال : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران : 110) ثم أبهم المنكر فقال : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يَعْدِلُونَ} (الأعراف : 181) فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله.
(1/1028)
فإن قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
والجواب : من وجهين الأول : لا نسلم قوله {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات ، وطاعة من جملة الطاعات ، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيراً وطاعة ، لا أن المقصود منه بيان الترجيح.
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
والوجه الثاني : سلمنا أن المراد منه الترجيح ، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء ، فالأفضل هو الإخفاء ، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء.
البحث الثاني : أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل ، ويدل عليه وجوه الأول : أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها : أن في إظهارها نفي التهمة ، روي أنه صلى الله عليه وسلّم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة ، فكذا في الزكاة وثالثها : أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه ، وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى ، هذا كله في بيان قول من قال المراد بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط.
القول الثاني : وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب ، وأجاب عن قول من قال : الإظهار في الواجب أولى من وجوه الأول : أن إظهار زكاة الأموال توجب إظهار قدر المال ، وربما كان ذلك سبباً للضرر ، بأن يطمع الظلمة في ماله ، أو بكثرة حساده ، وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني : أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث : أن لا نسلم دلالة قوله {فَهُوَ خَيْرٌ} على الترجيح وقد سبق بيانه.
أما قوله تعالى : {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله /{فَهُوَ} كناية عن الإخفاء/ لأن الفعل يدل على المصدر ، أي الإخفاء خير لكم ، وقد ذكرنا أن قوله {خَيْرٌ لَّكُمْ } يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات ، كما يقال : الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح ، وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء ، إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة ، ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء ، والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة ، فيصير عالماً بالفقراء ، فيميزهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
أما قوله تعالى : {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّاَاتِكُمْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التكفير في اللغة التغطية والستر ، ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه ، ومنه يقال : كفر عن يمينه ، أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة ، والكفارة ستارة لما حصل من الذنب.
(1/1029)
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر {نَّكْفُرَ} بالنون ورفع الراء وفيه وجوه أحدها : أن يكون عطفاً على محل ما بعد الفاء والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر والثالث : أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها ، والقراءة الثانية قراءة حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم ، ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فإن موضعه جزم ، ألا ترى أنه لو قال : وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم ، لجزم فيظهر أن قوله {خَيْرٌ لَّكُمْ } في موضع جزم ، ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه ا وَيَذَرُهُمْ} (الأعراف : 186) بالجزم ، والقراءة الثالثة قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم {يَكْفُرْ} بالياء وكسر الفاء ورفع الراء ، والمعنى : يكفر الله أو يكفر الاخفاء ، وحجتهم أن ما بعده على لفظ الافراد ، وهو قوله {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فقوله {يَكْفُرْ} يكون أشبه بما بعده ، والأولون أجابوا وقالوا لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولاً ثم لفظ الأفراد ثانياً كما أتى بلفظ الأفراد أولاً والجمع ثانياً في قوله {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا} (الإسراء : 1) ثم قال : {وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ} (الإسراء : 2) ونقل صاحب "الكشاف" قراءة رابعة بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفاعل الصدقات ، وقراءة خامسة وهي قراءة الحسن بالتاء والنصب بإضمار {حَمِيمٍ ءَانٍ} ومعناها إن تخفوها يكن خير لكم ، وإن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم.
المسألة الثالثة : في دخول {مِّنْ} في قوله {مِّن سَيِّاَاتِكُمْ } وجوه أحدها : المراد : ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك ، وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة ، بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله /بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام والثاني : أن يكون {مِّنْ} بمعنى من أجل ، والمعنى : ونكفر عنكم من أجل ذنوبكم ، كما تقول : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك والثالث : أنها صلة زائدة كقوله {فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (محمد : 15) والتقدير : ونكفر عنكم جميع سيئاتكم والأول أولى وهو الأصح.
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
ثم قال : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية ، والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته ، فقد حصل مقصودكم في السر ، فما معنى الإبداء ، فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 61
65
هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق ، وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في بيان سبب النزول وجوه أحدها : أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها ، وكذلك جدتها وهما مشركتان ، أتيا أسماء يسألانها شيئاً فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنكما لستما على ديني ، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تتصدق عليهما.
والرواية الثانية : كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم ، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً فنزلت هذه الآية.
والرواية الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلّم كان لا يتصدق على المشركين ، حتى نزلت هذه الآية فتصدق علهيم والمعنى على جميع الروايات : ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام ، فتصدق عليهم لوجه الله ، ولا توقف ذلك على إسلامهم ، ونظيره قوله تعالى : {لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم} (الممتحنة : 8) فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين.
(1/1030)
/المسألة الثانية : أنه صلى الله عليه وسلّم كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى : {فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ا ءَاثَـارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف : 6) {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء : 3) وقال : {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس : 99) وقال : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم} (التوبة : 128) فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل ، فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك ، فالهدى ههنا بمعنى الإهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم ، وفيه وجه آخر : ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 65
المسألة الثالثة : ظاهر قوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم ولكن المراد به هو وأمته ، ألا تراه قال : {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـاتِ} (البقرة : 271) وهذا خطاب عام ، ثم قال : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} وهو في الظاهر خاص ، ثم قال بعده {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلانفُسِكُمْ } وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً.
أما قوله تعالى : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا : لأن قوله {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } إثبات للهداية التي نفاها بقوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} لكن المنفي بقوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار ، فكان قوله {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } يحتمل وجوهاً أحدها : أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك وثانيها : يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء وثالثها : ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله ورابعها : أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء ، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك.
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } هو المنفي أولاً بقوله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولاً : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ} هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، فالمثبت بقوله {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار ، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه.
ثم قال : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلانفُسِكُمْ } فالمعنى : وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم.
/
جزء : 7 رقم الصفحة : 65
ثم قال تعالى : {وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوه الأول أن يكون المعنى : ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله ، فقد علم الله هذا من قلوبكم ، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني : أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي ، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ} (البقرة : 233) {وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (البقرة : 228) الثالث : أن قوله {وَمَا تُنفِقُونَ} أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله.
المسألة الثانية : ذكر في الوجه في قوله {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّه } قولان أحدهما : أنك إذا قلت : فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك : فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ والثاني : أنك إذا قلت : فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال : فعلته له ولغيره أيضاً ، أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه ، فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة.
(1/1031)
المسألة الثالثة : أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم ، فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع ، وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة ، وأباه غيره ، وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك.
ثم قال تعالى : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة ، وإنما حسن قوله {إِلَيْكُمْ} مع الترفيه لأنها تضمنت معنى التأدية.
ثم قال : {وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى : {أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْاًا } (الكهف : 33) يريد لم تنقص.
جزء : 7 رقم الصفحة : 65
67
/ اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان ، بيّن في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقاً بصرف الصدقة إليه من هو ؟
فقال : {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اللام في قوله {لِلْفُقَرَآءِ} متعلق بماذا فيه وجوه الأول : لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الانفاق ، قال بعدها {لِلْفُقَرَآءِ} أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء ، وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب ، والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم : ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه الثاني : أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث : يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء.
المسألة الثانية : نزلت في فقراء المهاجرين ، وكانوا نحو أربعمائة ، وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد ، ويتعلمون القرآن ، ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، عن ابن عباس : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم ، فقال : "أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفاقي".
واعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس :
الصفة الأولى : قوله {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 273) فنقول : الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره ، من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء ، يقال : أحصر الرجل فهو محصر ، ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} بما يعني عن الإعادة ، أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول : أن المعنى : إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد ، وأن قوله {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن الجهاد كان واجباً في ذلك الزمان ، وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول صلى الله عليه وسلّم ، فيكون مستعداً لذلك ، متى مست الحاجة ، فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة ، ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً من الخير أحدها : إزالة عيلتهم والثاني : تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه وثالثها : تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين ورابعها : أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم ، على ما قال تعالى : {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الارْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 67
والقول الثاني : وهو قول قتادة وابن زيد : منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم.
/والقول الثالث : وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي : أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وصاروا زمنى ، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض.
والقول الرابع : قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله.
والقول الخامس : هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته ، وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات.
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء : قوله تعالى : {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الارْضِ} يقال ضربت في الأرض ضرباً إذا سرت فيها ، ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد ، يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه ، وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معيناً لهم على مهماتهم.
الصفة الثالثة لهم : قوله تعالى : {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وفيه مسائل :
(1/1032)
المسألة الأولى : قرأ عاصم وابن عامر وحمزة {يَحْسَبُهُمُ} بفتح السين والباقون بكسرها وهما اللتان بمعنى واحد ، وقرىء في القرآن ما كان من الحسبان باللغتين جميعاً الفتح والكسر والفتح عند أهل اللغة أقيس ، لأن الماضي إذا كان على فعل ، نحو حسب كان المضارع على يفعل ، مثل فرق يفرق وشرب يشرب ، وشذ حسب يحسب فجاء على يفعل مع كلمات أُخر ، والكسر حسن لمجيء السمع به وإن كان شاذاً عن القياس.
المسألة الثانية : الحسبان هو الظن ، وقوله {الْجَاهِلُ} لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل ، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار ، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف ، وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم ، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 67
الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء : قوله تعالى : {تَعْرِفُهُم بِسِيمَـاهُمْ} السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصلها من السمة التي هي العلامة ، قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي : وزنه يكون فعلاً ، كما قالوا : له جاه عند الناس أي وجه ، وقال قوم : السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور ، قال مجاهد {سِيمَاهُمْ} التخشع والتواضع ، قال الربيع والسدي : أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية ، لا علات جسمانية ، ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة ، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة ، وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية ، فكذا ههنا ، ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة ، كما قال تعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (الفتح : 29) وأيضاً ظهور آثار الفكر ، روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف.
الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء : قوله تعالى : {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى} عن ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله يحب العفيف المتعفف ، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيراً أفرط في المدح ، وإن أعطى قليلاً أفرط في الذم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يستعفف يعفه الله تعالى ، لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس".
واعلم أن هذه الآية مشكلة ، وذكروا في تأويلها وجوهاً الأول : أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا/ وهو اختيار صاحب "الكشاف" وهو ضعيف ، لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال قبل ذلك فقال : {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني : وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع : أنه ليس المقصود من قوله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً ، وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال ، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضاً أنهم لا يسألون إلحافاً ، بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت ، والآخر طياش مهذار سفيه ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ، لا يخوض في الترهات ، ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك ، لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك ، لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك ، بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا ههنا قوله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى} بعد قوله {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافاً وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 67
الوجه الثالث : أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه ، فقوله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا} بالرفق والتلطف ، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال ، فعلى هذا يكون قوله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى} كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلاً.
(1/1033)
/والوجه الرابع : هو الذي خطر ببالي أيضاً في هذا الوقت ، وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء ، ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه ، فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه :
ولي نفس أقول لها إذا ما
تنازعني لعلي أو عساني
الوجه الخامس : أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات ، لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه ، ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال ، فيقول : لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود ، فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح ، فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات ، فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجباً لنفي السؤال عنهم مطلقاً.
الوجه السادس : وهو أيضاً خطر ببالي في هذا الوقت ، وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة ، ثم سكت عن السؤال ، فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف ، لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جداً ، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً ، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف ، فقوله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى} معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق ، فهذا الوجه أيضاً مناسب معقول وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة ، وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده.
واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء/ ثم قال بعده {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} (البقرة : 273) وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (البقرة : 272) وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما : أنه تعالى لما قال : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالماً بمقادير الأعمال وكيفياتها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 67
والوجه الثاني : وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي ، قال : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} بين أن أجره واصل لا محالة ، ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة ، وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات ، لا جرم /أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته : ما يكفيك بأن يكون علي شاهداً بكيفية طاعتك وحسن خدمتك ، فإن هذا أعظم وقعاً مما إذا قال له : إن أجرك واصل إليك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 67
70
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم أقوال الأول : لما بيّن في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بيّن في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو ، فقال : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ} والثاني : أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِىَ } (البقرة : 274) والثالث : أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق ، فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات.
(1/1034)
المسألة الثانية : في سبب النزول وجوه الأول : لما نزل قوله تعالى : {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} بعت عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير ، وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلاً ، فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته ، فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل والثاني : قال ابن عباس : إن علياً عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "ما حملك على هذا ؟
فقال : أن استوجب ما وعدني ربي ، فقال : لك ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والثالث : قال صاحب "الكشاف" : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية والرابع : نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله ، فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس : أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال ، وهذا هو أحسن الوجوه ، لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات والله أعلم.
/المسألة الثالثة : قال الزجاج {الَّذِينَ} رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله {فَلَهُمْ} جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء ، فكان التقدير : من أنفق فلا يضيع أجره ، وتقديره أنه لو قال : الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام ، أما لو قال : الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام ، فههنا الفاء دلّت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 70
المسألة الرابعة : في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية ، وذلك لأنه قدم الليل على النهار ، والسر على العلانية في الذكر.
ثم قال في خاتمة الآية {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة : 274) والمعنى معلوم وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة ، ويتأكد ذلك بقوله تعالى : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103).
المسألة الثانية : أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر ، وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة ، وقد أحكمنا هذه المسألة ، وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق.
الحكم الثاني : من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا :
جزء : 7 رقم الصفحة : 70
72
اعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد ، وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص /المال بسبب أمر الله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه ، فكانا متضادين ، ولهذا قال الله تعالى : {يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ } فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة ، لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا.
أما قوله {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا } فالمراد الذين يعاملون به ، وخص الأكل لأنه معظم الأمر ، كما قال : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه ، ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة : 188) وأيضاً فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل ، إنما يصرف في المأكول فيؤكل ، والمراد التصرف فيه ، فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد ، وأيضاً فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلّم : "لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له" فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل ، وأيضاً فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس ، أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا ، وأما الربا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال : ربا الشيء يربو ومنه قوله {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } (الحج : 5) أي زادت ، وأربى الرجل إذا عامل في الربا ، ومنه الحديث "من أجبى فقد أربى" أي عامل بالربا ، والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه ، هذا معنى الربا في اللغة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
(1/1035)
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي {الرِّبَوا } بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء ، وهي في المصاحف مكتوبة بالواو ، وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء ، قال صاحب "الكشاف" : الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع.
المسألة الثالثة : اعلم أن الربا قسمان : ربا النسيئة ، وربا الفضل.
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية ، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ويكون رأس المال باقياً ، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال ، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل ، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به.
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول : المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، وكان يجوز بالنقد ، فقال له أبو سعيد الخدري : شهدت ما لم تشهد ، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين : كنا في /بيت ومعنا عكرمة ، فقال رجل : يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس/ فقال : إنما كنت استحللت التصرف برأيي ، ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلّم حرمه ، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله ، وحجة ابن عباس أن قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً ، وقوله {وَحَرَّمَ الرِّبَوا } لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة ، وليست كل زيادة محرمة ، بل قوله {وَحَرَّمَ الرِّبَوا } إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا. وذلك هو ربا النسيئة ، فكان قوله {وَحَرَّمَ الرِّبَوا } مخصوصاً بالنسيئة ، فثبت أن قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يتناول ربا النقد ، وقوله {وَحَرَّمَ الرِّبَوا } لا يتناوله ، فوجب أن يبقى على الحل ، ولا يمكن أن يقال : إنما يحرمه بالحديث ، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن مخبر الواحد وأنه غير جائز ، وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا ؟
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين ، أما القسم الأول فبالقرآن ، وأما ربا النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ، ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء : حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة ، بل ثابتة في غيرها ، وقال نفاة القياس : بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه :
الحجة الأولى : أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة ، فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال : لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلاً ، أو قال : لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلاً ، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً ، وأكثرر فائدة ، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة ، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عيها فقط.
الحجة الثانية : أنا بينا في قوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها ، فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد ، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة ، ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد ، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن ، فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى ، وأنه غير جائز.
الحجة الثالثة : أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص ، لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص ، وذلك غير جائز ، أما أولاً : فلأنه يقتضي تعليل حكم الله ، وذلك محال على ما ثبت في الأصول ، وأما ثانياً : فلأن الحكم في مورد النص معلوم ، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز ، وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة ، بل هي ثابتة في غيرها ، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى /غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب.
فالقول الأول : وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه : أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس ، وفي الذهب والفضة النقدية.
والقول الثاني : قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا ، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن ، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس.
والقول الثالث : قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت ، وهو الملح.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
(1/1036)
والقول الرابع : وهو قول عبد الملك بن الماجشون : أن كل ما ينتفع به ففيه الربا ، فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا ، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير.
المسألة الرابعة : ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً أحدها : الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض ، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة ، قال صلى الله عليه وسلّم : "حرمة مال الإنسان كحرمة دمه" فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد ، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحاً فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله.
قلنا : إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن ، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها : قال بعضهم : الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب ، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة ، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة ، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها : قيل : السبب في تحريم عقد الربا ، أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله ، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين ، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها : هو أن الغالب أن المقرض يكون غنياً ، والمستقرض يكون فقيراً ، فالقول /بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف ما لا زائداً ، وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها : أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق ، فوجب القطع بحرمة عقد الربا ، وإن كنا لا نعلم الوجه فيه.
أما قوله تعالى : {لا يَقُومُونَ} فأكثر المفسرين قالوا : المراد منه القيام يوم القيامة ، وقال بعضهم : المراد منه القيام من القبر ، واعلم أنه لا منافاة بين الوجهين ، فوجب حمل اللفظ عليهما.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
أما قوله تعالى : {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : التخبط معناه الضرب على غير استواء ، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : إنه يخبط خبط عشواء ، وخبط البعير للأرض بأخفافه ، وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش ، وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ، ويقال : به خبطة من جنون ، والمس الجنون ، يقال : مس الرجل فهو ممسوس وبه مس ، وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، ثم سمي الجنون مساً ، كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ثم فيه سؤالان :
السؤال الأول : التخبط تفعل ، فكيف يكون متعدياً ؟
.
الجواب : تفعل بمعنى فعل كثير ، نحو تقسمه بمعنى قسمه ، وتقطعه بمعنى قطعه.
السؤال الثاني : بم تعلق قوله {مِنَ الْمَسِّ } .
قلنا : فيه وجهان أحدهما : بقوله {لا يَقُومُونَ} والتقدير : لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني : أنه متعلق بقوله {يَقُومُ} والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس.
المسألة الثانية : قال الجبائي : الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل/ لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه :
(1/1037)
أحدها : قوله تعالى حكاية عن الشيطان {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (إبراهيم : 22) وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني : الشيطان إما أن يقال : إنه كثيف الجسم ، أو يقال : إنه من الأجسام اللطيفة ، فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد ، إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها ، وذلك جهالة عظيمة ، ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان ، وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء ، فمثل هذا يمتنع /أن يكون فيه صلابة وقوة ، فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث : لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ، ولم لا يغصب أموالهم ، ويفسد أحوالهم ، ويفشي أسرارهم ، ويزيل عقولهم ؟
وكل ذلك ظاهر الفساد ، واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول : ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
والجواب عنه : أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني : أن هذه الآية وهي قوله {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ} صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه.
والجواب عنه : أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع ، وهو كقول أيوب عليه السلام {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (ص : 41) وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع ، وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة ، كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ، ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين ، وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب ، وذكر القفال فيه وجه آخر ، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن ، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا ، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان ، كما في قوله تعالى : {طَلْعُهَا كَأَنَّه رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ} (الصافات : 65).
المسألة الثالثة : للمفسرين في الآية أقوال الأول : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا ، فعلى هذا معنى الآية : أنهم يقومون مجانين ، كمن أصابه الشيطان بجنون.
والقول الثاني : قال ابن منبه : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله {يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ سِرَاعًا} (المعارج : 43) إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون ، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا ، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ، ويسقطون ، ويريدون الإسراع ، ولا يقدرون ، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن ، وهذا ليس من الجنون في شيء ، ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلّم انطلق به جبريل إلى /رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم/ يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟
قال : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ } .
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
والقول الثالث : أنه مأخوذ من قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف : 201) وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مس الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً ، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى ، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى ، فحدثت هناك حركات مضطربة ، وأفعال مختلفة ، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى ، فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة ، وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا.
(1/1038)
أما قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة ، وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال ، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال ، لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين ، فهذا في ربا النقد ، وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضاً ، لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر ، وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين ، وذلك لأنه إنما جاز هناك ، لأنه حصل التراضي من الجانبين ، فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضاً ، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ، ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة ، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئاً فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة ، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعاً في الزيادة ، والمديون يرده عند وجدان المال ، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال ، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة ، فهذا هو شبهة القوم ، والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد ، وهو قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس ، وهو من عمل إبليس ، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلّم عارض النص بالقياس ، فقال : {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} (الأعراف : 12) (ص : 76) واعلم أن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف ، فقالوا : لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة ، فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس ، وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين ، فقال : من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات /الثوب مقابلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما ، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض ، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ، ولا يمكن أن يقال : إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل ، لأن الامهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة ، فظهر الفرق بين الصورتين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه/ وأكله مع التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر.
فإن قيل : مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا.
قلنا : إن قوله {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط ، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية ، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل ، وذكرنا عليه وجوهاً من الدلائل ، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته ، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال ، يقال : فلان يأكل مال الله قضماً خصماً ، أي يستحل التصرف فيه ، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال ، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها ، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية ، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا ، لا على وعيد من يستحل هذا العقد.
المسألة الثالثة : في الآية سؤال ، وهو أنه لم لم يقل : إنما الربا مثل البيع ، وذلك لأن حل البيع متفق عليه ، فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، فكان نظم الآية أن يقال : إنما الربا مثل البيع ، فما الحكمة في أن قلب هذه القضية ، فقال : {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } .
والجواب : أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس ، بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز.
أما قوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } ففيه مسائل :
(1/1039)
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار ، والمعنى أنهم قالوا : البيع مثل الربا ، ثم إنكم تقولون {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } فكيف يعقل هذا ؟
يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين ، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد ، وأما /أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } وأما قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا ، والحجة على صحة هذا القول وجوه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
الحجة الأولى : أن قول من قال : هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل ، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار ، فكان ذلك أولى.
الحجة الثانية : أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار ، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به ، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية.
الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّه فَانتَهَى فَلَه مَا سَلَفَ وَأَمْرُه ا إِلَى اللَّه وَمَنْ عَادَ فَ أولئك أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا} فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ، ولو لم يكن قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً فلم يكن قوله {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّه } لائقاً بهذا الموضع.
المسألة الثانية : مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، وهذا هو المختار عندي ، ويدل عليه وجوه الأول : أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة ، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة.
والوجه الثاني : وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلاً قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق ، فثبت أن قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ، ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلّم ، لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال ، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جداً فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب ، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
الوجه الثالث : ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم /من الدنيا وما سألناه عن الربا ، ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات.
الوجه الرابع : أن قوله {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله {وَحَرَّمَ الرِّبَوا } يقتضي أن يكون كل ربا حراماً ، لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرم الجميع ، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية ، فكانت مجملة ، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلّم.
أما قوله {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّه } فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ ، وقرأ أبي والحسن {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ} ثم قال : {فَانتَهَى } أي فامتنع ، ثم قال : {فَلَه مَا سَلَفَ} وفيه مسألتان :
(1/1040)
المسألة الأولى : في التأويل وجهان الأول : قال الزجاج : أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية ، وهو كقوله {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38) وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً ، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب ، والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله {فَلَه مَا سَلَفَ} فكيف يكون ذلك ذنباً الثاني : قال السدي : له ما سلف أي له ما أكل من الربا ، وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} (البقرة : 279).
المسألة الثانية : قال الواحدي : السلف المتقدم ، وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ، ومنه الأمة السالفة ، والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو ، والسلفة ما يقدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر صفوتها ، لأنه أول ما يخرج من عصيرها.
أما قوله تعالى : {وَأَمْرُه ا إِلَى اللَّه } ففيه وجوه للمفسرين ، إلا أن الذي أقوله : إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك ، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
أما مقدمة الآية فلأن قوله {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّه فَانتَهَى } ليسس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق/ وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، فكان قوله {فَانتَهَى } عائداً إليه ، فكان المعنى : فانتهى عن هذا القول.
وأما مؤخرة الآية فقوله {وَمَنْ عَادَ فَ أولئك أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} ومعناه : عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا {أَمْرِى إِلَى اللَّه } ثم هذا الإنسان إما أن يقال : إنه كما انتهى /عن استحلال الربا انتهى أيضاً عن أكل الربا ، أو ليس كذلك ، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله ، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام ، لكن قوله {أَمْرِى إِلَى اللَّه } ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلا أن يكون مختصاً بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } فيكون ذلك دليلاً ظاهراً على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو.
أما قوله {وَمَنْ عَادَ فَ أولئك أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} فالمعنى : ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً.
واعلم أن قوله {فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله {أُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ } يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله {هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} يفيد الحصر ، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار ، وكونه خالداً في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه ، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع ، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمناً بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ، ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله ، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل يخرجه منها ، والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله {أَمْرِى إِلَى اللَّه } على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
ثم قوله {فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها الأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان ، وهذا بيان شريف وتفسير حسن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 72
80
(1/1041)
اعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر ههنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا ، وكشف عن فساده ، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال ، إلا أنه نقصان في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة ، إلا أنها زيادة في المعنى ، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف ، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل :
/المسألة الأولى : المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه الله فانمحق وامتحق ، ويقال : هجير ما حق إذا نقص في كل شيء بحرارته.
المسألة الثانية : اعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة ، أما في الدنيا فنقول : محق الربا في الدنيا من وجوه أحدها : أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر ، وتزول البركة عن ماله ، قال صلى الله عليه وسلّم : "الربا وإن كثر فإلى قل" وثانيها : إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم ، والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة وثالثها : أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه ، وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ورابعها : أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إلى الأطماع ، وقصده كل ظالم ومارق وطماع ، ويقولون : إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده ، وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صلة رحم وثانيها : إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى التبعة والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر وثالثها : أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك ، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون ، فذلك هو المحق والنقصان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 80
وأما أرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا ، وأن يكون المراد في الآخرة.
أما في الدنيا فمن وجوه أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا ، وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم جائعاً "اللّهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا" وثانيها : أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة ورابعها : الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء ، فكل أحد يحترز عن منازعته ، وكل ظالم ، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله ، اللّهم إلا نادراً ، فهذا هو المراد بأرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد" وتصديق ذلك بين في كتاب الله {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (التوبة : 104) {يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ } (البقرة : 276) قال القفال رحمه الله تعالى : /ونظير قوله {يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا } المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ، ونظير قوله {وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ } المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
أما قوله {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ، ومعناه من كان ذلك منه عادة ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا ، فتقول : فلان فعال للخير أمار به ، والأثيم فعيل بمعنى فاعل ، وهو الآثم ، وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم ، فتكون الآية جامعة للفريقين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 80
0
اعلم أن عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً فلما بالغ ههنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد ، وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع ، وفيه مسائل :
(1/1042)
المسألة الأولى : احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ} مع أنه لا نزاع في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فكذا فيما ذكرتم ، وأيضاً قال تعالى : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (محمد : 34) وقال : {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَاتِنَا} (البقرة : 239) (المائدة : 5/ 10).
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر ، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل.
المسألة الثانية : {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أقوى من قوله : على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد ، فذاك النقد هناك حاضر متى شاء البائع أخذه ، وقوله : أجرهم على ربهم. يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة ، ولا شك أن الأول أفضل.
المسألة الثالثة : اختلفوا في قوله {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فقال ابن عباس : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ، ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة ، وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة ، وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ، ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء ، لأنه لا منافسة في الآخرة ، ولا هم يحزنون أيضاً بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 80
المسألة الرابعة : في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا الزَّكَواةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت ، ثم عند انقطاع حيضها ماتت ، أو الرجل بلغ عارفاً بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات ، فهما بالاتفاق من أهل الثواب ، فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال ، وأيضاً من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال ، وإذا كان كذلك ، فكيف وقف الله ههنا حصول الأجر على حصول الأعمال ؟
.
الجواب : أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا ، بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب ، كما قال في ضد هذا {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ} (الفرقان : 68) ثم قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (الفرقان : 68) ومعلوم أن من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر/ ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلهاً لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 80
82
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم ، فقال تعالى في هذه الآية {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا } وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض ، فالزيادة تحرم ، وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم ، وإنما شدد تعالى في ذلك ، لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل ، ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ، فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم ، فقال : {اتَّقُوا اللَّهَ} واتقاؤه ما نهى عنه {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا } يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه ، وإن لم تقبضوه ، أو لم تقبضوا بعضه ، فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان ، أو بعضاً فإنه محرم قبضه.
و اعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا ، وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص ، ولا يفسخ ، وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب ، وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
فإن قيل : كيف قال : {مُّسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا } ثم قال في آخره {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .
(1/1043)
الجواب : من وجوه الأول : أن هذا مثل ما يقال : إن كنت أخاً فأكرمني ، معناه : إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني : قيل : معناه إن كنتم مؤمنين قبله الثالث : إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع : يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
المسألة الثانية : في سبب نزول الآية روايات :
الرواية الأولى : أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله /تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة.
والرواية الثانية : قال مقاتل : إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف : مسعود ، وعبد يا ليل ، وحبيب ، وربيعة ، بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم على الطائف أسلم الأخوة ، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة : نزلت في العباس ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قبضا بعضاً ، وزاد في الباقي فنزلت الآية ، وهذا قول عطاء وعكرمة.
الرواية الرابعة : نزلت في العباس وخالد بن الوليد ، وكانا يسلفان في الربا ، وهو قول السدي.
المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر.
والجواب : لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3) على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه ، فكان التقدير : إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان ، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل.
ثم قال تعالى : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة {فَأْذَنُوا } مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال {فَـاَامِنُوا } والباقون {فَأْذَنُوا } بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك {فَأْذَنُوا } ممدودة ، أي فاعلموا من قوله تعالى : {فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ } (الأنبياء : 109) ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية ، والتقدير : فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم ، فهذه القراءة في البلاغة آكد ، وقال أحمد بن يحيى : قراءة العامة من الاذن ، أي كونوا على علم وإذن ، وقرأ الحسن وهو دليل لقراءة العامة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الخطاب بقوله {مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ} خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا ، أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا ، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا ، قال القاضي : والاحتمال الأول أولى ، لأن قوله {فَأْذَنُوا } خطاب مع قوم تقدم ذكرهم ، وهم المخاطبون بقوله {يَحْزَنُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا } وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين.
فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين ؟
/قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل ، كما جاء في الخبر "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله" وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه } (المائدة : 33) أصلاً في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله.
إذا عرفت هذا فنقول : في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول : المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني : المراد نفس الحرب وفيه تفصيل ، فنقول : الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة ، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة ، وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وتترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه.
(1/1044)
والقول الثاني : في هذه الآية أن قوله {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا } (البقرة : 279) خطاب للكفار ، وأن معنى الآية {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة : 278) معترفين بتحريم الربا {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا } أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } ومن ذهب إلى هذا القول قال : إن فيه دليلاً على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً ، كما لو كفر بجميع شرائعه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
ثم قال تعالى : {وَإِن تُبْتُمْ} والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا/ وعلى القول الثاني من استحلال الربا {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال.
ثم قال تعالى : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال النحويون {كَانَ} كلمة تستعمل على وجوه أحدها : أن تكون بمنزلة حدث ووقع ، وذلك في قوله : قد كان الأمر ، أي وجد ، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني : أن يخلع منه معنى الحدث ، فتبقى الكلمة مجردة للزمان ، وحينئذ يحتاج إلى الخبر ، وذلك كقوله : كان زيد ذاهباً.
واعلم أني حين كنت مقيماً بخوارزم ، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء ، أوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب فقلت : إنكم تقولون إن {كَانَ} إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلاً وهذا محال ، لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان ، فقولك {كَانَ} يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً كانت /تامة لا ناقصة ، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلاً ألبتة بل كانت حرفاً ، وأنتم تنكرون ذلك ، فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً ، وصنفوا في الجواب عنه كتباً ، وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره ههنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد ، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها : أن يكون المعنى : وجد وحدث الشيء كقولك : وجد الجوهر وحدث العرض والثاني : أن يكون المعنى : وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم ، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة ، وفي الحقيقة فالمفهوم من {كَانَ} في الموضعين هو الحدوث والوقوع ، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه ، فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً ، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً ، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث ، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالاً على وقوع المصدر في الزمان الماضي ، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة ، وإن قلنا : إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر ، وجميع خواص الأفعال ، وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
المفهوم الثالث : لكان يكون بمعنى صار ، وأنشدوا :
بتيهاء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وعندي أن هذا اللفظ ههنا محمول على ما ذكرناه ، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع ، إلا أنه حدوث مخصوص ، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى.
المفهوم الرابع : أن تكون زائدة وأنشدوا :
سراة بني أبي بكر تسامى
على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول : في {كَانَ} في هذه الآية وجهان الأول : أنها بمعنى وقع وحدث ، والمعنى : وإن وجد ذو عسرة ، ونظيره قوله {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرَةً} بالرفع على معنى : وإن وقعت تجارة حاضرة ، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل : وإن كان ذا عسرة لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة ، فتكون النظرة مقصورة عليه ، وليس الأمر كذلك ، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني : أنها ناقصة على حذف الخبر ، تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم ، وقرأ عثمان {ذُو عُسْرَةٍ} والتقدير : إن كان الغريم ذا عسرة ، وقريء {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} .
/المسألة الثانية : العسرة اسم من الأعسار ، وهو تعذر الموجود من المال ؛ يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال.
ثم قالل تعالى : {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف ، والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة ، أو فالذي تعاملونه نظرة.
(1/1045)
المسألة الثانية : نظرة أي تأخير ، والنظرة الاسم من الأنظار ، وهو الإمهال ، تقول : بعته الشيء بنظرة وبانظار ، قال تعالى : {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (الحجر : 36/ 37/ 38).
المسألة الثالثة : قرىء {فَنَظِرَةٌ} بسكون الظاء ، وقرأ عطاء أي فصاحب الحق أي منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريق النسب ، كقولهم : مكان عاشب وباقل ، أي ذو عشب وذو بقل ، وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
المسألة الرابعة : الميسرة مفعلة من اليسر واليسار ، الذي هو ضد الأعسار ، وهو تيسر الموجود من المال ، ومنه يقال : أيسر الرجل فهو موسر ، أي صار إلى اليسر ، فالميسرة واليسر والميسور الغنى.
المسألة الخامسة : قرأ نافع {إِلَى مَيْسَرَةٍ } بضم السين والباقون بفتحها ، وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة ، والمشرفة ، والمشربة ، والمسربة ، والفتح أشهر اللغتين ، لأنه جاء في كلامهم كثيراً.
المسألة السادسة : اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل ، فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا ، وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل : إنه معسر ، فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، والله تعالى قال في كتابه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَانَاتِ إِلَى ا أَهْلِهَا} (النساء : 58) وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى : {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا : بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله ، فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروهم ، فأنزل الله تعالى : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } .
القول الثاني : وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين : إنها عامة في كل دين ، واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} ولم يقل : وإن كان ذا عسرة ، ليكون الحكم عاماً في كل المفسرين ، قال القاضي : والقول الأول أرجح ، لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} من غير بخس ولا نقص ، ثم قال في هذه الآية : وإن كان من عليه المال معسراً /وجب إنظاره إلى وقت القدرة ، لأن النظرة يراد بها التأخر ، فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر ، بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ، ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى ، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به ، وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم.
المسألة السابعة : اعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار ، فنقول : الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ، ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه ، فلهذا قلنا : من وحد داراً وثياباً لا يعد في ذوي العسرة ، إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها/ ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله ، وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم ، واختلفوا إذا كان قوياً هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره ، فقال بعضهم : يلزمه ذلك ، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله ، وقال بعضهم : لا يلزمه ذلك ، واختلفوا أيضاً إذا كان معسراً ، وقد بذل غيره ما يؤديه ، هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك ، فأما من له بضاعة كسدت عليه ، فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ، ويؤديه في الدين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
المسألة الثامنة : إذا علم الإنسان أن غريمه معسر جرم عليه حبسه ، وأن يطالبه بما له عليه ، فوجب الإنظار إلى وقت اليسار ، فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار ، واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم ، فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض ، أو لا يكون كذلك ، وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض ، مثل إتلاف أو صداق أو ضمان ، كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر.
ثم قال تعالى : {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم {تَصَدَّقُوا } بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها ، والأصل فيه : أن تتصدقوا بتاءين ، فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
(1/1046)
المسألة الثانية : في التصدق قولان الأول : معناه : وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره ، وإنما جاز هذا الحذف للعلم به ، لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما ، وهو كقوله {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (البقرة : 237) والثاني : أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام "لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة" وهذا القول ضعيف ، لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى ، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ، ولأن قوله {خَيْرٌ لَّكُمْ } لا يليق بالواجب بل بالمندوب.
/المسألة الثالثة : المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.
ثم قال : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وفيه وجوه الأول : معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه ، فجعل العمل من لوازم العلم ، وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني : إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث : إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم.
ثم قال تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} اعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم ، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد ، حتى يمتنعوا عن الربا ، وعن أخذ أموال الناس بالباطل ، فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية ، وخوفهم على أعظم الوجوه ، وفيه مسائل :
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
المسألة الأولى : قال ابن عباس : هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} (النساء : 127) وهي آية الكلالة ، ثم نزل وهو واقف بعرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} (المائدة : 3) ثم نزل {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } (البقرة : 281) فقال جبريل عليه السلام : يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة ، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وثمانين يوماً/ وقيل : أحدا وعشرين وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاث ساعات.
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو {تُرْجَعُونَ} بفتح التاء والباقون بضم التاء ، واعلم أن الرجوع لازم ، والرجع متعد ، وعليه تخرج القراءتان.
المسألة الثالثة : انتصب {يَوْمًا} على المفعول به ، لا على الظرف ، لأنه ليس المعنى : واتقوا في هذا اليوم ، لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح ، ومثله قوله {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل : 17) أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله.
المسألة الرابعة : قال القاضي : اليوم عبارة عن زمان مخصوص ، وذلك لا يتقي ، وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي الواجبات ، فصار قوله {وَاتَّقُوا يَوْمًا} يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف.
المسألة الخامسة : الرجوع إلى الله تعالى ليس ، المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى ، وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه ، فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } له معنيان الأول : أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب.
فالحالة الأولى : كونهم في بطون أمهاتهم ، ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم ، بل المتصرف فيهم /ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
والحالة الثانية : كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم ، وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين ، ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
والحالة الثالثة : بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهراً في الحقيقة إلا الله سبحانه ، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا ، فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني : أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب ، وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ.
ثم قال : {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} وفيه مسألتان :
(1/1047)
المسألة الأولى : المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام ، كما قال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة : 7 ، 8) وقال : {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الارْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّه } وقال : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْاًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا} (الأنبياء : 47) وفي تأويل قوله {مَا كَسَبَتْ} وجهان الأول : أن فيه حذفاً والتقدير جزاء ما كسبت والثاني : أن المكتسب هو ذلك الجزاء ، لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه ، فقوله {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي توفى كل نفس مكتسبها ، وهذا التأويل أولى ، لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى.
المسألة الثانية : الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق ، وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود ، لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه ، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة.
ثم قال : {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وفيه سؤال وهو أن قوله {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون ، فكان ذلك تكريراً.
وجوابه : أنه تعالى لما قال : {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} كان ذلك دليلاً على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار ، فكان لقائل أن يقول : كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره ، وسهل عليه طريق الاستدلال ، وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه ، وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة ، وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق ، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً ، فكان قوله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه.
الحكم الثالث : من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 82
89
/ اعلم أن في الآية مسائل :
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
(1/1048)
المسألة الأولى : أن في كيفية النظم وجهين الأول : أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما : الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني : ترك الربا ، وهو أيضاً سبب لتنقيص المال ، ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم ، فقال : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى ترك الربا ، وعلى ملازمة التقوى لا يتم ولا يكمل إلا عند حصول المال ، ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف ، وقد ورد نظيره في سورة النساء {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا} (النساء : 5) فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد ، قال القفال رحمه الله تعالى : والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسط شديد ، ألا ترى أنه قال : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوه } ثم قال ثانياً : {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُا بِالْعَدْلِ } ثم قال ثالثاً : {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه } فكان هذا كالتكرار لقوله {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُا بِالْعَدْلِ } لأن العدل هو ما علمه الله ، ثم قال رابعاً : {فَلْيَكْتُبْ} وهذا إعادة الأمر الأول ، ثم قال خامساً : {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} وفي قوله {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُا بِالْعَدْلِ } كفاية عن قوله {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادساً : {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } وهذا تأكيد ، ثم قال سابعاً : {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْـاًا } فهذا كالمستفاد من قوله {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } ثم قال ثامناً : {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه فَلْيَكْتُبْ} وهو أيضاً تأكيد لما مضى/ ثم قال تاسعاً : {ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ وَأَدْنَى ا أَلا تَرْتَابُوا } فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة ، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه /عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره ، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم ، وهو حسن لطيف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
والوجه الثاني : أن قوماً من المفسرين قالوا : المراد بالمداينة السلم ، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ، ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم.
المسألة الثانية : التداين تفاعل من الدين ، ومعناه داين بعضكم بعضاً ، وتداينتم تبايعتم بدين ، قال أهل اللغة : القرض غير الدين ، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم ، أو دنانير ، أو حباً ، أو تمراً ، أو ما أشبه ذلك ، ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل ، ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل ، ودان يدين إذا أقرض ، ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر :
ندين ويقضي الله عنا وقد نرى
مصارع قوم لا يدينون ضيقا
إذا عرفت هذا فنقول : في المراد بهذه المداينة أقوال : قال ابن عباس : أنها نزلت في السلف لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل ، فقال : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوه } .
والقول الثاني : أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل.
والقول الثالث : وهو قول أكثر المفسرين : أن البياعات على أربعة أوجه أحدها : بيع العين بالعين ، وذلك ليس بمداينة ألبتة والثاني : بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية ، بقي هنا قسمان : بيع العين بالدين ، وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم ، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :
(1/1049)
السؤال الأول : المداينة مفاعلة ، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين ، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق.
والجواب : أن المراد من تداينتم تعاملتم ، والتقدير : إذا تعاملتم بما فيه دين.
السؤال الثاني : قوله {تَدَايَنتُم} يدل على الدين فما الفائدة بقوله {بِدَيْنٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
الجواب من وجوه الأول : قال ابن الأنباري : التداين يكون لمعنيين أحدهما : التداين /بالمال ، والآخر التداين بمعنى المجازاة ، من قولهم : كما تدين تدان ، والدين الجزاء ، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين الثاني : قال صاحب "الكشاف" : إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله {فَاكْتُبُوه } إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، فلم يكن النظم بذلك الحسن الثالث : أنه تعالى ذكره للتأكيد ، كقوله تعالى : {فَسَجَدَ الْمَلَـا اـاِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (الحجر : 30) (ص : 73) {وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (الأنعام : 38) الرابع : فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً ، على أي وجه كان ، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس : ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة ، وذكل إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل ، فلو قال : إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل ، أما لما قال : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} كان المعنى : إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد ، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ، ويبقى بيع العين بالدين ، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير.
السؤال الثالث : المراد من الآية : كلما تداينتم بدين فاكتبوه ، وكلمة {إِذَآ} لا تفيد العموم فلم قال : {تَدَايَنتُم} ولم يقل كلما تداينتم.
الجواب : أن كلمة {إِذَآ} وإن كانت لا تقتضي العموم ، إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أن المراد هو العموم ، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية ، وهو قوله {ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ وَأَدْنَى ا أَلا تَرْتَابُوا } والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب ، فالظاهر أنه تنسى الكيفية ، فربما توهم الزيادة ، فطلب الزيادة وهو ظلم ، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر ، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة ، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل ، كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكل.
أما قوله تعالى : {إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى} ففيه سؤالان :
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
السؤال الأول : ما الأجل ؟
.
الجواب : الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل ، وأصله من التأخير ، يقال : أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر ، والآجل نقيض العاجل.
السؤال الثاني : المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة ؟
.
الجواب : إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله {مُّسَمًّى} والفائدة في قوله {مُّسَمًّى} ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً ، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو إلى قدوم الحاج ، لم يجز لعدم التسمية.
/أما قوله تعالى : {فَاكْتُبُوه } فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما : الكتبة وهي قوله ههنا {فَاكْتُبُوه } الثاني : الإشهاد وهو قوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل ، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ، ويدخل فيه الجحد ، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين ، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم.
(1/1050)
المسألة الثانية : القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه ، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه ، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء ، وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري ، وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل ، وقال آخرون : هذا الأمر محمول على الندب ، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين ، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد ، وذلك إجماع على عدم وجوبهما ، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين/ والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول : "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" وقال قوم : بل كانت واجبة ، إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَه } (البقرة : 283) وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة ، وقال التيمي : سألت الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين :
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
الشرط الأول : أن يكون الكاتب عدلاً وهو قوله {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُا بِالْعَدْلِ } واعلم أن قوله تعالى : {فَاكْتُبُوه } ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكن ، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً ، فصار معنى قوله {فَاكْتُبُوه } أي لا بد من حصول هذه الكتبة ، وهو كقوله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَ } (المائدة : 38) فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل ، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إما الإمام أو نائبه أو المولى ، فكذا ههنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى : {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُا بِالْعَدْلِ } فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان.
أما قوله {بِالْعَدْلِ } ففيه وجوه الأول : أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه الثاني : إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين /آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه الثالث : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين الرابع : أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها ، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين ، وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة ، ثم قال : {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة ، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً ، وفيه وجوه الأول : أن هذا على سبيل الارشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب ، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة ، وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية ، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة ، وهو كقوله تعالى : {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (القصص : 77) فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
والقول الثاني : وهو قول الشعبي : أنه فرض كفاية ، فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه ، فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب.
والقول الثالث : أن هذا كان واجباً على الكاتب ، ثم نسخ بقوله تعالى : {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } .
والقول الرابع : أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله ، يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله ، وأن لا يخل بشرط من الشرائط ، ولا يدرج فيه قيداً يخل بمقصود الإنسان ، وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان ، وضاع ماله ، فكأنه قيل له : إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل ، واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى.
المسألة الثانية : قوله {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه } فيه احتمالان الأول : أن يكون متعلقاً بما قبله/ ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها ، ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك : فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها.
والاحتمال الثاني : أن يكون متعلقاً بما بعده ، والتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب ، وههنا تم الكلام ، ثم قال بعده {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه فَلْيَكْتُبْ} فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها ، والوجهان ذكرهما الزجاج.
(1/1051)
الشرط الثاني في الكتابة : قوله تعالى : {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} وفيه مسألتان ؛
المسألة الأولى : أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره /وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلأجل ذلك قال تعالى : {وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} .
المسألة الثانية : الأملال والإملاء لغتان ، قال الفرّاء : أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة تميم وقيس ، ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية {فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} (الفرقان : 5).
ثم قال : {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْـاًا } وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
ثم قال تعالى : {فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّه بِالْعَدْلِ } والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبراً فالمعتبر هو إقرار وليّه.
ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : إدخال حرف {أَوْ} بين هذه الألفاظ الثلاثة ، أعني السفيه ، والضعيف ، ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة ، لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل ، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة ، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين ، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف ، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية ، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس ، أو جهله بماله وما عليه ، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار ، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم ، فقال تعالى : {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّه بِالْعَدْلِ } والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة ، لأن ولي المحجور السفيه ، وولي الصبي : هو الذي يقر عليه بالدين ، كما يقرب بسائر أموره ، وهذا هو القول الصحيح ، وقال ابن عباس ومقاتل والربيع : المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد ، لأنه كيف يقبل قول المدعي ، وإن كان قوله معتبراً ، فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد.
النوع الثاني : من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد ، وهو قوله تعالى : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } واعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أي أشهدوا يقال : أشهدت الرجل واستشهدته ، بمعنى : والشهيدان هما الشاهدان ، فعيل بمعنى فاعل.
المسألة الثانية : الإضافة في قوله {شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } فيه وجوه الأول : يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون والثاني : قال بعضهم : يعني الأحرار والثالث : {مِّن رِّجَالِكُمْ } الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة.
المسألة الثالثة : شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه/ ونذكر ههنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد ، وعند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما لا تجوز ، حجة شريح أن قوله تعالى : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } عام يتناول العبيد وغيرهم ، والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه ، وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب ، فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي ، فصار ذلك سبباً في إحياء حقه ، والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب الحرية والرق ، فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة ، حجة الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قوله تعالى : {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهداً الذهاب إلى موضع أداء الشهادة ، ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة ، فلما دلّت الآية على أن كل من كان شاهداً وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب ، فوجب أن لا يكون العبد شاهداً ، وهذا الاستدلال حسن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
وأما قوله تعالى : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } فقد بينا أن منهم من قال : واستشهدوا شهيدين من رجالكم الذين تعتدونهم لأداء الشهادة ، وعلى هذا التقدير فلم قلتم أن العبيد كذلك.
ثم قال تعالى : {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وفي ارتفاع رجل وامرأتان أربعة أوجه الأول : فليكن رجل وامرأتان والثاني : فليشهد رجل وامرأتان والثالث : فالشاهد رجل وامرأتان والرابع : فرجل وامرأتان يشهدون كل هذه التقديرات جائز حسن ، ذكرها علي بن عيسى رحمه الله.
(1/1052)
ثم قال : {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} وهو كقوله تعالى في الطلاق {وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق : 2) واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا : شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ، ولا بترك المروأة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
ثم قال : {أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاـاهُمَا الاخْرَى } والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة {أَن تَضِلَّ} بكسر إن {فَتُذَكِّرَ} بالرفع والتشديد ، ومعناه : الجزاء موضع {تَضِلَّ} جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف {فَتُذَكِّرَ} رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ /وأما سائر القراء فقرؤا بنصب {ءَانٍ} وفيه وجهان أحدهما : التقدير : لأن تضل ، فحذف منه الخافض والثاني : على أنه مفعول له ، أي إرادة أن تضل.
فإن قيل : كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للاذكار لا الإضلال.
قلنا : ههنا غرضان أحدهما : حصول الإشهاد ، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية والثاني : بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية ، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين ، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد ، وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين ، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها ، والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
المسألة الثانية : الضلال في قوله {أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا} فيه وجهان أحدهما : أنه بمعنى النسيان ، قال تعالى : {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ذهب عنهم الثاني : أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له ، والوجهان متقاربان ، وقال أبو عمرو : أصل الضلال في اللغة الغيبوبة.
المسألة الثالثة : قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي {فَتُذَكِّرَ} بالتشديد والنصب ، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب ، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل ، والتشديد أكثر استعمالاً ، قال تعالى : {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} (الغاشية : 21) ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال ، وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاـاهُمَا الاخْرَى } أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد ، وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها ، لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين ، ويدل على ضعفه وجهان الأول : أن النساء لو بلغن ما بلغن ، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن ، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى.
الوجه الثاني : أن قوله {فَتُذَكِّرَ} مقابل لما قبله من قوله {أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا} فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسراً بما يقابل النسيان.
ثم قال تعالى : {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوه الأول : وهو الأصح : أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها والثاني : أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق ، /وهو قول قتادة واختيار القفال ، قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة ، لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر ، وفي عدمهما ضياع الحقوق الثالث : أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع : وهو قول الزجاج : أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولاً ، والأداء ثانياً ، واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه الأول : أن قوله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } يقتضي تقديم كونهم شهداء ، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة ، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
فإن قيل : يشكل هذا بقوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب.
(1/1053)
قلنا : الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية والثاني : أن ظاهر قوله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } النهي عن الامتناع ، والأمر بالفعل ، وذلك للوجوب في حق الكل ، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل ، فلم يجز حمله عليه ، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل ، ومتأكد بقوله تعالى : {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَـادَةَ } فكان هذا أولى الثالث : أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه ، فصار الأمرر بتحمل الشهادة داخلاً في قوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } فكان صرف قوله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } إلى الأمر بالأداء حملاً له على فائدة جديدة ، فكان ذلك أولى ، فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها.
واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعيناً ، وإما أن يكون فيهم كثرة ، فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة/ وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية.
المسألة الثانية : قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً فلا نعيده الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : يجوز القضاء بالشاهد واليمين ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجوز ، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال : إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين ، فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين ، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قضى بالشاهد واليمين ، وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه.
واعلم أنه تعالى لما أمر عند المداينة بالكتبة أولاً ، ثم بالإشهاد ثانياً ، أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد ، فأمر بالكتبة ، فقال : {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه فَلْيَكْتُبْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : السآمة الملال والضجر ، يقال : سئمت الشيء سأماً وسآمة ، والمقصود من /الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر ، فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير ، فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد ، فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة ، فقال : {وَلا يَأْبَ} أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
فإن قيل : فهل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر ؟
.
قلنا : لا لأن هذا محمول على العادة ، ليس في العادة أن يكتبوا التافه.
المسألة الثانية : {ءَانٍ} في محل النصب لوجهين : إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً فتقديره : ولا تسأموا كتابته ، وإن شئت بنزع الخافض تقديره : ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله.
المسألة الثالثة : الضمير في قوله {أَن تَكْتُبُوهُ} لا بد وأن يعود إلى المذكورر سابقاً ، وهو ههنا إما الدين وإما الحق.
المسألة الرابعة : قرىء {وَلا} بالياء فيهما.
ثم قال تعالى : {ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ وَأَدْنَى ا أَلا تَرْتَابُوا } اعلم أن الله تعالى بيّن أن الكتبة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث :
الفائدة الأولى : قوله {ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} وفي قوله {ذالِكُمْ} وجهان الأول : أنه إشارة إلى قوله {أَن تَكْتُبُوهُ} لأنه في معنى المصدر ، أي ذلك الكتب أقسط والثاني : قال القفال رحمه الله : ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى {أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} أعدل عند الله ، والقسط اسم ، والإقساط مصدر ، يقال : أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط ، قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة : 8) (الحجرات : 9) ويقال : هو قاسط إذا جار ، قال تعالى : {وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (الجن : 15) وإنما كان هذا أعدل عند الله ، لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب ، وعن الجهل والكذب أبعد ، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى : {ادْعُوهُمْ لابَآاـاِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه } (الأحزاب : 5) أي أعدل عند الله ، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم.
والفائدة الثانية : قوله {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ} معنى {أَقْوَمُ} أبلغ في الاستقامة ، التي هي ضد الاعوجاج ، وذلك لأن المنتصب القائم ، ضد المنحني المعوج.
فإن قيل : مم بنى أفعل التفضيل ؟
أعني : أقسط وأقوم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
قلنا : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ، ويجوز أن يكون أقسط من قاسط ، وأقوم من قويم.
(1/1054)
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة ، لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة ، والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى : تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى ، والثانية : /بتحصيل مصلحة الدنيا ، وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعاراً بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا.
والفائدة الثالثة : هي قوله {وَأَدْنَى ا أَلا تَرْتَابُوا } يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين ، والفرق بين الوجهين الأولين ، وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة ، فالأول : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين ، والثاني : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث : إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير ، أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً ، وأما دفع الضر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان ، فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط ، وما أحسن ما فيها من الترتيب.
ثم قال تعالى : {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {إِلا} فيه وجهان أحدهما : أنه استثناء متصل والثاني : أنه منقطع ، أما الأول ففيه وجهان الأول : أنه راجع إلى قوله تعالى : {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى ا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوه } وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب ، وقد يكون إلى أجل بعيد ، فلما أمر بالكتبة عند المداينة ، استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً ، والتقدير : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً ، وهو المراد من التجارة الحاضرة والثاني : أن هذا استثناء من قوله {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ} وأما الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون هذا استثناءً منقطعاً فالتقدير : لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها ، فهذا يكون كلاماً مستأنفاً ، وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة ، لكثرة ما يجري بين الناس ، فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق ، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس ، لم يكن هناك خوف التجاحد ، فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
المسألة الثانية : قوله {أَن تَكُونَ} فيه قولان أحدهما : أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} والثاني : قال الفرّاء : إن شئت جعلت {كَانَ} ههنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة ، والخبر تديرونها ، والتقدير : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم {تِجَـارَةً} بالنصب ، والباقون بالرفع ، أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان ، ولا بد فيه من إضمار الاسم ، وفيه وجوه أحدها : التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب ، ومنه قول الشاعر :
بني أسد هل تعلمون بلاءناإذا كان يوما ذا كواكب أشهبا
/أي إذا كان اليوم وثانيها : أن يكون التقدير : إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة وثالثها : قال الزجاج : التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضر ، قال أبو علي الفارسي : هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة ، صح تسميتها بالتجارة الحاضرة ، فإن من باع ثوباً بدرهم في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة ، وأما القراءة بالرفع ، فالوجه فيها ما ذكرناه في المسألة الثانية والله أعلم.
المسألة الرابعة : التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح ، يقال : تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر ، واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين/ فالتجارة تجارة حاضرة ، فقوله {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرَةً} لا يمكن حمله على ظاهره ، بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال ، ألا ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد ، ثم قال : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } (البقرة : 282) معناه : لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ، ويأثم صاحب الحق بتركها ، وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه.
ثم قال تعالى : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وأكثر المفسرين قالوا : المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم ، لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة ، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط.
(1/1055)
ثم قال تعالى : {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق ، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط ، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع ، ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد ، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول : قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ، والثاني : قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة ، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في {وَلا يُضَآرَّ} أحدهما : أن يكون أصله لا يضارر ، بكسر الراء الأولى ، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني : أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى ، فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة ، وهو قوله {لا تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا} وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك ، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه {وَلا} بالإظهار والكسر ، وقراءة ابن عباس {وَلا} بالإظهار والفتح ، واختار الزجاج القول /الأول ، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك {وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّه فُسُوقُا بِكُم وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌا فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه ا وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَا وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ا ءَاثِمٌ قَلْبُه ا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة : 283) والإثم والفاسق متقاربان ، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكم ، وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم.
ثم قال : {وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّه فُسُوقُا بِكُمْ } وفيه وجهان أحدهما : يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى : فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار والثاني : أنه عام في جميع التكليف ، والمعنى : وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم ، أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
ثم قال تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} يعني فيما حذر منه ههنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاماً ، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه.
ثم قال : {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه } والمعنى : أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا ، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 89
99
اعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع الأمانة ، ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد ، واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب ، أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً /آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكرنا اشتقاق في السفر في قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (البقرة : 184) ونعيده ههنا قال أهل اللغة : تركيب هذه الحروف للظهور والكشف فالسفر هو الكتاب ، لأنه يبين الشيء ويوضحه ، وسمي السفر سفراً ، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، أي يكشف ، أو لأنه لما خرج من الكن إلى الصحراء فقد انكشف للناس ، أو لأنه لما خرج إلى الصحراء ، فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية ، وأسفر الصبح إذا ظهر ، وأسفرت المرأة عن وجهها ، أي كشفت وسفرت عن القوم أسفر سفارة إذا كشفت ما في قلوبهم ، وسفرت أسفر إذا كنست ، والسفر الكنس ، وذلك لأنك إذا كنست ، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار والسفر من الورق ما سفر به الريح ، ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سفر لوضوحه والله أعلم.
المسألة الثانية : أصل الرهن من الدوام ، يقال : رهن الشيء إذا دام وثبت ، ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة.
إذا عرفت أصل المعنى فنقول : أصل الرهن مصدر. يقال : رهنت عند الرجل أرهنه رهناً إذا وضعت عنده ، قال الشاعر :
يراهنني فيرهنني بنيه
وأرهنه بني بما أقول
إذا عرفت هذا فنقول : إن المصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل ، فإذا قال : رهنت عند زيد رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ، لكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت عند زيد ثوباً ، ولما جعل اسماً بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان : رهن ورهان ، ومما جاء على رهن قول الأعشى :
(1/1056)
جزء : 7 رقم الصفحة : 99
آليت لا أعطيه من أبنائنا
رهناً فيفسدهم كمن قد أفسدا
وقال بعيث :
بانت سعاد وأمسى دونها عدن
وغلقت عندها من قبلك الرهن
ونظيره قولنا : رهن ورهن ، سقف وسقف ، ونشر ونشر ، وخلق وخلق ، قال الزجاج : فعل وفعلى قليل ، وزعم الفرّاء أن الرهن جمعه رهان ، ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر ، ومن الناس من عكس هذا فقال : الرهن جمعه رهن ، والرهن جمعه رهان ، واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً ، فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق ، وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر ، مثل نعل ونعال ، وكبش وكباش /وكعب وكعاب ، وكلب وكلاب.
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير أبو عمرو {فَرِهَـانٌ} بضم الراء والهاء ، وروي عنهما أيضاً {فَرِهَـانٌ} برفع الراء وإسكان الهاء والباقون {فَرِهَـانٌ} قال أبو عمرو : لا أعرف الرهان إلا في الخيل ، فقرأت {فَرِهَـانٌ} للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع الرهن ، وأما قراءة أبي عمرو بضم الراء وسكون الهاء ، فقال الأخفش : إنها قبيحة لأن فعلاً لا يجمع على فعل إلا قليلاً شاذاً كما يقال : سقف وسقف تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها ، وقلب للنخل ولحد ولحد وبسط وبسط وفرس ورد ، وخيل ورد.
المسأل الرابعة : في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر ، والتقدير : فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو ما يقوم مقامهما ، أو فعليه رهن مقبوضة ، وإن شئنا جعلناه خبراً وأضمرنا المبتدأ ، والتقدير : فالوثيقة رهن مقبوضة.
المسألة الخامسة : اتفقت الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب وعدمه ، وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية ، ولا يعمل بقوله اليوم وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب ، كقوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النساء : 101) وليس الخوف من شرط جواز القصر.
المسألة السادسة : مسائل الرهن كثيرة ، واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلّت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضاً والعقل أيضاً يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود ، وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضاً فوجب ألا يصح رهن المشاع.
جزء : 7 رقم الصفحة : 99
ثم قال تعالى : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَه } واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية ، وهو بيع الأمانة ، أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفاً منه ، قال تعالى : {هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى ا أَخِيهِ} (يوسف : 64) فقوله {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي لم يخف خيانته وجحوده {فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَه } أي فليؤد المديون الذي كان أميناً ومؤتمناً في ظن الدائن ، فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه ، يقال : أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن.
ثم قال : {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه } أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد ، لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق ، وفي أن يؤديه إليه عند /حلول الأجل ، وفي الآية قول آخر ، وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده ، والوجه هو الأول.
المسألة الثانية : من الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن ، واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجىء إليه خطأ ، بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ليس في آية المداينة نسخ ، ثم قال : {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَـادَةَ } وفي التأويل وجوه :
الوجه الأول : قال القفال رحمه الله : إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن ، وأن يخرج خائناً جاحداً للحق ، إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم ، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة/ أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم خبر يدل على صحة هذا التأويل ، وهو قوله "خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد".
جزء : 7 رقم الصفحة : 99
(1/1057)
الوجه الثاني : في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ا قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه وَمَنْ أَظْلَمُ} (البقرة : 140) والمراد الجحود وإنكار العلم.
الوجه الثالث : في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، وقد تقدم ذلك في قوله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } (البقرة : 282) وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه ، وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فهذا بالغ في الوعيد.
ثم قال : {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ا ءَاثِمٌ قَلْبُه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الآثم الفاجر ، روي أن عمر كان يعلم أعرابياً {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ} (الدخان : 43 ، 44) فكان يقول : طعام اليتيم ، فقال له عمر : طعام الفاجر. فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرىء {قَلْبُه } بالفتح كقوله {سَفِهَ نَفْسَه } (البقرة : 130) وقرأ ابن أبي عبلة {قَلْبُه ا وَاللَّهُ} أي جعله آثماً.
/ المسألة الثالثة : اعلم أن كثيراً من المتكلمين قالوا. إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب ، وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193) وذكرنا طرفاً منه في تفسير قوله {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّه نَزَّلَه عَلَى قَلْبِكَ} (البقرة : 97) وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون : إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثماً.
وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو ، فيقال : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، ويقال : فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف ، فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم ههنا إلى القلب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 99
ثم قال عزّ وجلّ : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وهو تحذير من الإقدام على هذا الكتمان ، لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى ، فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال ، ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً ، وإن شراً فشراً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 99
102
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه الأول : قال الأصم : إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول ، وهو دليل التوحيد والنبوّة ، وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف ، وهي في الصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدة ، والصداق ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاع ، والبيع ، والربا ، وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد.
/وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم ، فعبّر سبحانه عن كمال القدرة بقوله {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ملكا وملكاً ، وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله {وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } وإذا حصل كمال القدرة والعلم ، فكان كل من في السموات والأرض عبيداً مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين ، ونهاية الوعيد للمذنبين ، فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية.
والوجه الثاني : في كيفية النظم ، قال أبو مسلم : إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة : 283) ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال : {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالماً بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به ، فكان الله تعالى احتج بخلقه السموات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها.
(1/1058)
الوجه الثالث : في كيفية النظم ، قال القاضي : إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن ، فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال ، والاحتياط في حفظها بيّن الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السموات والأرض.
جزء : 7 رقم الصفحة : 102
الوجه الرابع : قال الشعبي وعكرمة ومجاهد : إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السموات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بقوله {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } على أن فعل العبد خلق الله تعالى ، لأنه من جملة ما في السموات والأرض بدليل صحة الاستثناء ، واللام في قوله {لِّلَّهِ} ليس لام الغرض ، فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله ، فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق.
المسألة الثالثة : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السموات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادراً على تحقيق تلك الحقائق ، وتكوين تلك الماهيات ، فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات ، ومحققة للحقاق ، فكان القول بأن المعدوم شيءً باطلاً.
/ثم قال تعالى : {وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } يروى عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقالوا : يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ، وإن له الدنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : "فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا : سمعنا وأطعنا ، فقالوا سمعنا وأطعنا ، واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولاً فأنزل الله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) فنسخت هذه الآية ، فقال صلى الله عليه وسلّم : "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلموا به".
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله {وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } يتناول حديث النفس ، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ، ولا يتمكن من دفعها ، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق ، والعلماء أجابوا عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين ، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس ، فالقسم الأول : يكون مؤاخذاً به ، والثاني : لا يكون مؤاخذاً به ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } (البقرة : 225) وقال في آخر هذه السورة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (البقرة : 286) وقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا } (النور : 19) هذا هو الجواب المعتمد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 102
والوجه الثاني : أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل ، فهو في محل العفو وقوله {وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف ، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب : وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه ، وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب.
والوجه الثالث في الجواب : أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي العموم والغموم في الدنيا ، روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى ، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه ، وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه.
فإن قيل : المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (غافر : 17).
/قلنا : هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام.
(1/1059)
الوجه الرابع في الجواب : أنه تعالى قال : {يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } ولم يقل : يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة ، وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها ، فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم ، فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه ، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب.
الوجه السابع في الجواب : أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارهاً لورود تلك الخواطر ، والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها.
الوجه السادس : قال بعضهم : المراد بهذه الآية كتمان الشهادة ، وهو ضعيف ، لأن اللفظ عام ، وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 102
الوجه السابع في الجواب : ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (القرة : 286) وهذا أيضاً ضعيف لوجوه أحدها : أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا : أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها ، وذلك باطل ، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة ، ولذلك قال عليه السلام : "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" والثاني : أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر ، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث : أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي.
واعلم أن الناس اختلافاً في أن الخبر هل ينسخ أم لا ؟
وقد ذكرنا في أصول الفقه والله أعلم.
ثم قال : {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب ، والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب ، وقوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } رفع للقطع واحد من الأمرين ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيباً للمؤمن يرثه المذنب بأعماله.
المسألة الثانية : قرأ عاصم وابن عامر {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } برفع الراء والباء ، وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف ، والتقدير : فهو يغفر ، وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} قال صاحب "الكشاف" : إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب ، وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقد بيّن بقوله {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } أنه كامل الملك والملكوت ، وبين بقوله {وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } أنه كامل العلم والإحاطة ، ثم بيّن بقوله {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له ، خاضعاً لأوامره ونواهيه محترزاً عن سخطه ونواهيه ، وبالله التوفيق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 102
105
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه الأول : وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك ، وكمال العلم ، وكمال القدرة لله تعالى ، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى ، وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية ، وقد ظهر منا كمال العبودية ، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل.
الوجه الثاني في النظم : أنه تعالى لما قال : {وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } (القبرة : 284) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة ، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا ، فقال : {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ} كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك ، فلا أظهر من أحوالك ، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحاً لك وثناء عليك ، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة ، فأنا الكامل في الجود والرحمة ، وفي إظهار الحسنات ، وفي الستر على السيئات.
(1/1060)
الوجه الثالث : أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة /ومما رزقناهم ينفقون ، وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فقال : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } وهذا هو المراد بقوله في أول السورة {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة : 3).
ثم قال ههنا {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وهو المراد بقوله في أول السورة {وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
ثم قال ههنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وهو المراد بقوله في أول السورة {وَبِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة : 4) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } (البقرة : 286) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة { أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِم وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة : 5) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.
والوجه الرابع : وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله ، وقال له : إن الله بعثك رسولاً إلى الخلق ، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطاناً ضالاً مضلاً ، وذلك الملك أيضاً إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير ، وهذه المراتب معتبرة أولها : قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره ، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها : قيام المعجزة عند النبي صلى الله عليه وسلّم على أن ذلك الملك صادق في دعواه ، وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها : أن تقوم المعجزة على يد الرسولعند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولاً من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك ، فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام ، قال : {الرَّسُولُ بِمَآ} فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه ، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف ، وليس بشيطان مضل ، ثم ذكر إيمان الرسول صلى الله عليه وسلّم بذلك ، وهو المرتبة المتقدمة ، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة ، فقال : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ} ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه ، فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعلّ الذين قالوا : إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور ، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل :
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ، ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته.
/المسألة الثانية : قوله تعالى : {الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ } فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى ، وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين ، ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة ، وإنما عرف الرسول لأنه صلى الله عليه وسلّم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام.
فأما قوله {وَالْمُؤْمِنُونَ } ففيه احتمالان أحدهما : أن يتم الكلام عند قوله {وَالْمُؤْمِنُونَ } فيكون المعنى : آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ، ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله {كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ} والمعنى : كل واحد من المذكورين فيما تقدم ، وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله.
(1/1061)
الاحتمال الثاني : أن يتم الكلام عند قوله {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه } ثم يبتدىء من قوله {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ} ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه ، وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمناً بربه ، ثم صار مؤمناً به ، ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال ، وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه ، كما قال : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلا الايمَانُ} (الشورى : 52) وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال ، فقد كان حاصلاً منذ خلقه الله من أول الأمر ، وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال : إني عبد الله آتاني الكتاب ، فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولاً من عند الله حين كان طفلاً ، فكيف يستبعد أن يقال : إن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان عارفاً بربه من أول ما خلق كامل العقل.
المسألة الثالثة : دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وإنما خص الرسول بذلك ، لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاماً متلواً يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به ، وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه ، فيكون هو صلى الله عليه وسلّم مختصاً بالإيمان به ، ولا يتمكن غيره من الإيمان به ، فلهذا السبب كان الرسول مختصاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
ثم قال الله تعالى : {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَا ا ِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية دلّت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان.
فالمرتبة الأولى : هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعاً قادراً على جميع المقدورات ، عالماً بجميع المعلومات ، غنياً عن كل الحاجات ، لا يمكن معرفة صدق /الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل ، فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر.
والمرتبة الثانية : أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة ، فقال : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } (النحل : 2) وقال : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآى ِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُ } (الشورى : 51) وقال : {فَإِنَّه نَزَّلَه عَلَى قَلْبِكَ} (البقرة : 97) وقال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 193 ، 194) وقال : {عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائك فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر ، فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ، ولهذا السر قال أيضاً : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَا ا ِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآا ِمَا بِالْقِسْطِ } (آل عمران : 18).
والمرتبة الثالثة : الكتب ، وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب ، فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة ، فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة.
والمرتبة الرابعة : الرسل ، وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة ، فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة ، واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة ، وحكماً عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
المسألة الثانية : المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده ، وبصفاته ، وبأفعاله ، وبأحكامه ، وبأسمائه.
أما الإيمان بوجوده ، فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها ، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئاً آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها ، فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات.
وأما الإيمان بصفاته ، فالصفات إما سلبية ، وإما ثبوتية.
(1/1062)
فأما السلبية : فهي أن يعلم أنه فرد منزّه عن جميع جهات التركيب ، فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، فهو مركب ، فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته ، وكل ما ليس ممكناً لذاته ، بل كان واجباً لذاته امتنع أن /يكون مركباً بوجه من الوجوه ، بل كان فرداً مطلقاً ، وإذا كان فرداً في ذاته لزم أن لا يكون متحيزاً ، ولا جسماً ، ولا جوهراً ، ولا في مكان ، ولا حالاً ، ولا في محل ، ولا متغيراً/ ولا محتاجاً بوجه من الوجوه ألبتة.
وأما الصفات الثبوتية : فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي ، فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال ، علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات ، ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه ، فحينئذ يعرفه قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً موصوفاً منعوتاً بالجلال وصفات الكمال ، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } (البقرة : 255).
وأما الإيمان بأفعاله ، فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث ، وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته ، بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم ، وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات ، فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها.
فإن قلت : إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت ، وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري.
فنقول : قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك ، وسكونك بمشيئتك لسكونك ، فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن ، وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
إذا ثبت هذا فنقول : هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها إما أن يكون لا بمحدث أصلاً أو يكون بمحدث ، ثم ذلك المحدث إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى ، فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع ، وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل ، فثبت أن محدثها هو الله سبحانه وتعالى.
إذا ثبت هذا فنقول : لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة ، وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به ، ولا حصول الفعل بعد المشيئة ، فالإنسان مضطر في صورة مختار ، فهذا كلام قاهر قوي ، وفي معارضته إشكالان أحدهما : كيف يليق بكمال حكمة الله تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق والثاني : أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي ، والمدح والذم ، والثواب والعقاب على العبد ، فهذا هو الحرف المعول عليه من /جانب الخصم ، إلا أنه وارد عليه أيضاً في العلم على ما قررناه في مواضع عدة.
وأما المرتبة الرابعة في الإيمان بالله : فهي معرفة أحكامه ، ويجب أن يعلم في أحكامه أموراً أربعة أحدها : أنها غير معللة بعلة أصلاً ، لأن كل ما كان معللاً بعلة كان صاحبه ناقصاً بذاته ، كاملاً بغيره ، وذلك على الحق سبحانه محال وثانيها : أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق ، فإنه منزّه عن جلب المنافع ، ودفع المضار وثالثها : أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ورابعها : أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء ، وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ، وأنه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، لأن الكل ملكه وملكه ، والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي ، فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي.
وأما الرتبة الخامسة في الإيمان بالله : فمعرفة أسمائه قال في الأعراف {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الأعراف : 180) وقال في بني إسرائيل {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (الإسراء : 110) وقال في طه {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } (طه : 8) وقال في آخر الحشر {لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى ا يُسَبِّحُ لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الحشر : 24) والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزّلة على ألسنة أنبيائه المعصومين ، وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
(1/1063)
وأما الإيمان بالملائكة ، فهو من أربعة أوجه أولها : الإيمان بوجودها ، والبحث عن أنها روحانية محضة ، أو جسمانية ، أو مركبة من القسمين ، وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة ، فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية ، أو هوائية ، وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى ، فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية.
والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة : العلم بأنهم معصومون مطهرون {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النحل : 50) {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الأنبياء : 19) فإن لذتهم بذكر الله ، وأنسهم بعبادة الله ، وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء ، فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته.
والمرتبة الثالثة : أنهم وسائط بين الله وبين البشر ، فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم ، كما قال سبحانه : {وَالصَّـا فَّـاتِ صَفًّا * فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا} (الصافات : 1 ، 2) وقال : {وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا * فَالْحَـامِلَـاتِ وِقْرًا} (الذاريات : 1 ، 2) وقال : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا * فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} (المرسلات : 1 ، 2) وقال : {وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا * وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا} (النازعات : 1 ، 2) ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسراراً مخفية ، إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها.
/والمرتبة الرابعة : أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة ، قال الله تعالى : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير : 19 ، 20 ، 21) فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة ، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم.
وأما الإيمان بالكتب : فلا بد فيه من أمور أربعة أولها : أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله ، وأنها ليست من باب الكهانة ، ولا من باب السحر ، ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وثانيها : أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين ، فالله تعالى لم يمكن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر ، وعند هذا يعلم أن من قال : إن الشيطان ألقى قوله : تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي ، فقد قال قولاً عظيماً ، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
والمرتبة الثالثة : أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف ، ودخل فيه فساد قول من قال : إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه ، فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة.
والمرتبة الرابعة : أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، وأن محكمه يكشف عن متشابهه.
وأما الإيمان بالرسل : فلا بد فيه من أمور أربعة :
المرتبة الأولى : أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب ، وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَـانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه } (البقرة : 36) وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى.
والمرتبة الثانية : من مراتب الإيمان بهم : أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ، ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب.
المرتبة الثالثة : قال بعضهم : أنهم أفضل من الملائكة/ وقال كثير من العلماء : إن الملائكة السماوية أفضل منهم ، وهم أفضل من الملائكة الأرضية ، وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـا ئِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ} (البقرة : 34) ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة.
المرتبة الرابعة : أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض ، وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (البقرة : 253) ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } (البقرة : 253).
(1/1064)
/وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر ، وهو أن الطريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم ، فإذا كان هذا هو الطريق ، وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقاً ، وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته ، فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض ، والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوّة موسى وعيسى ، ويكذبون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فهذا هو المقصود من قوله تعالى : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
المسألة الثالثة : قرأ حمزة على الواحد ، والباقون {أُوتِىَ كِتَـابَه } على الجمع ، أما الأول ففيه وجهان أحدهما : أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل والثاني : على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع ، ونظيره قوله تعالى : {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ} (البقرة : 213).
فإن قيل : اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا كان مقروناً بالألف واللام ، وهذه مضافة.
قلنا : قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة ، قال الله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) وقال الله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } (البقرة : 187) وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء : والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه ، واعلم أن القراء أجمعوا في قوله {وَرُسُلِه } على ضم السين ، وعن أبي عمرو سكونها ، وعن نافع {وَكُتُبِه وَرُسُلِه } مخففين ، وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين ، وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات ، لأنهم كرهوا ذلك ، ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفاً ، وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات ، والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة.
المسألة الرابعة : قوله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } فيه محذوف ، والتقدير : يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا } (الأنعام : 93) معناه يقولون : أخرجوا وقال : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ} (الزمر : 3) أي قالوا هذا.
المسألة الخامسة : قرأ أبو عمرو {يُفْرَقُ} بالياء على أن الفعل لكل ، وقرأ عبد الله {مَا يُفَرِّقُونَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
المسألة السادسة : أحد في معنى الجمع ، كقوله {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَـاجِزِينَ} (الحاقة : 47) والتقدير : /لا نفرق بين جميع رسله ، هذا هو الذي قالوه ، وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع ، لأنه يصير التقدير : لا نفرق بين جميع رسله ، وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا ، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل بين البعض وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ، فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل ، بل معنى الآية : لا نفرق بين أحد من الرسل ، وبين غيره في النبوّة ، فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام ، والله أعلم.
ثم قال الله تعالى : {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الكلام في نظم هذه الآية من وجوه الأول : وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، واستكمال القوة النظرية بالعلم ، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات ، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية ، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83) فالحكم كمال القوة النظرية {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} كمال القوة العملية ، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب.
(1/1065)
إذا عرفت هذا فنقول : الأمر في هذه الآية أيضاً كذلك ، فقوله {كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
والوجه الثاني : من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياماً ثلاثة : الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر ، والبحث عنه يسمى بعلم الوسط ، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامْرُ كُلُّه } (هود : 123) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة ، لا جرم ذكرها في هذه الآية ، وقوله {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} إشارة إلى كمال العلم ، وقوله {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامْرُ كُلُّه } إشارة إلى كمال القدرة ، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به ، فله أيضاً مرتبتان : البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية ، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب ، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب ، وذلك هو المسمى بالتوكل ، فذكر هذين المقامين ، فقال : {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه } (هود : 123) وأما علم المعاد فهو قوله {وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 132) أي فيومك غداً سيصل فيه نتائج أعمالك إليك ، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ، ونظيرها أيضاً قوله /سبحانه وتعالى : {سُبْحَـانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات : 180) وهو إشارة إلى علم المبدأ ، ثم قال : {وَسَلَـامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (الصافات : 181) وهو إشارة إلى علم الوسط ، ثم قال : {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ} (الصافات : 182) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة {دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } (يونس : 100).
إذا عرفت هذا فنقول : تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة ، فقوله {الرَّسُولُ بِمَآ} إلى قوله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه } إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } إشارة إلى علم الوسط ، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالماً مشتغلاً بها ، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا ، وقوله {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إشارة إلى علم المعاد ، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك ، وأنوار بهجة السموات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
الوجه الثالث في النظم : أن المطالب قسمان أحدهما : البحث عن حقائق الموجودات والثاني : البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر ، أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله {وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ} والقسم الثاني هو المراد بقوله {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } .
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله قوله {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي سمعنا قوله وأطعنا أمره ، إلا أنه حذف المفعول ، لأن في الكلام دليلاً عليه من حيث مدحوا به.
وأقول : هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهراً وتقديراً أولى لأنك إذا جعلت التقدير : سمعنا قوله ، وأطعنا أمره ، فإذن ههنا قول آخر غير قوله ، وأمر آخر يطاع سوى أمره ، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته : أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى.
(1/1066)
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون : سمعنا وأطعنا ، فقوله {سَمِعْنَا} ليس المراد منه السماع الظاهر ، لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا ، أي عقلناه وعلمنا صحته ، وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن ، قال الله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق : 37) والمعنى : لمن سمع الذكرى بفهم حاضر ، وعكسه قوله تعالى : {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا } (لقمان : 7) ثم قال بعد ذلك {وَأَطَعْنَا } فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علماً وعملاً.
/ثم حكي عنهم بعد ذلك أنهم قالوا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية سؤال ، وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها ، فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
والجواب من وجوه الأول : أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم ، فلما جوزوا ذلك قالوا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون والثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيراً ، فكان يستغفر الله منه ، فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضاً غير مستبعد والثالث : أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلهيته جنايات ، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل ، ولذلك قال : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } (الأنعام : 91) وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية ، وإن كان عالماً جداً إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه ، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَاهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ} (محمد : 19) فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير ، فكان يستغفر منها ، وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال {دَعْوَا هُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } (يونس : 10) فسبحانك اللّهم إشارة إلى التنزيه.
ثم إنه قال : {دَعْوَا هُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ } (يونس : 10) يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا.
المسألة الثانية : قوله {غُفْرَانَكَ} تقديره : اغفر غفرانك ، ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو سقياً ورعياً ، قال الفرّاء : هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب ، ومثله الصلاة الصلاة ، والأسد الأسد ، وهذا أولى من قول من قال : نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه ، ونظيره قولك : حمداً حمداً ، وشكراً شكراً ، أي أحمد حمداً ، وأشكر شكر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
(1/1067)
المسألة الثالثة : أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين أحدهما : بالإضافة إليه ، وهو قوله {غُفْرَانَكَ} والثاني : أردفه بقوله {رَبَّنَآ} وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها : أنت الكامل في هذه الصفة ، فأنت غافر الذنب ، وأنت غفور {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} (الكهف : 58) {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (البروج : 14) وأنت /الغفار {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا} (نوح : 10) يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت ، بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب ، فهذه الغفارية كالحرفة له ، فقوله ههنا {غُفْرَانَكَ} يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة ، والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، فقوله {غُفْرَانَكَ} طلب لغفران كامل ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته ، ويبدلها بالحسنات ، كما قال : {فَ أولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّاَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } (الفرقان : 70) وثانيها : روي في الحديث الصحيح "إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً واحداً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات ، فيها يتراحمون ، وادخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة" فأظن أن المراد من قوله {غُفْرَانَكَ} هو ذلك الغفران الكبير ، كان العبد يقول : هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي وثالثها : كأن العبد يقول : كل صفة من صفات جلالك وإلهيتك ، فإنما يظهر أثرها في محل معين ، فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، فكذا لولا جرم العبد وجنايته ، وعجزه وحاجته ، لما ظهرت آثار غفرانك ، فقوله {غُفْرَانَكَ} معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي ، وفي حق أمثالي من المجرمين.
وأما القيد الثاني : وهو قوله {رَبَّنَآ} ففيه فوائد أولها : ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد ، فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك وثانيها : ربيتني حين كنت معدوماً ، ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به ، لأني كنت أبقى حينئذ في العدم/ وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد ، فأسألك أن لا تهملي وثالثها : ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل ورابعها : ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه ، فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
ثم قال الله تعالى : {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وفيه فائدتان إحداهما : بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد ، لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد ، فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات ، وقادر على كل الممكنات ، لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية : بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه ، والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله ، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله ، كان إخلاصه في الطاعات أتم ، واحترازه عن السيئات أكمل ، وههنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 105
115
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة : 285) وقالوا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ} (البقرة : 286) فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
المسألة الثانية : في كيفية النظم : إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع ، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا ، فإذا كان هو تعالي بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين ، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين ، وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ثم قالوا بعده {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} دل ذلك على أن قولهم {غُفْرَانَكَ} طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم : {غُفْرَانَكَ} طلباً للمغفرة في ذلك التقصير ، لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ، وما تعمدتم التقصير ، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
(1/1068)
المسألة الثالثة : يقال : كلفته الشيء فتكلف ، والكلف اسم منه ، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه ، قال الفرّاء : هو اسم كالوجد والجهد ، وقال بعضهم : الوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.
المسألة الرابعة : المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه ، ونظيره قوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } (النساء : 28) وقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وقالوا : هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق ، قالوا : وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول : أن العبد موجد لأفعال نفسه ، فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة ألبتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه ، أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل /وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانياً ، وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل/ فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق والثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان ، فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع.
أما الأصحاب فقالوا : دلّت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية.
الحجة الأولى : أن من مات على الكفر ينبىء موته على الكفر أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط ، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع ، وهو أيضاً مقدم بينة بنفسها ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النقيضين ، وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم ، فهي أيضاً جارية في الجبر.
الحجة الثانية : أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداهي ، وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازماً ، إنما قلنا : إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ، لأن قدرة العبد لما كانت صالح للفعل والترك ، فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإنما قلنا : إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر ، لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين ، فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلف به ، فكان التكليف تكليف ما لا يطاق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
الحجة الثالثة : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين ، أو حال رجحان أحدهما ، فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق ، لأن الاستواء يناقض الرجحان ، فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان ، فقد كلف بالجمع بين النقيضين ، وإن كان الثاني فالراجح واجب ، والمرجوح ممتنع ، وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب ، وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع.
الحجة الرابعة : أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان ، والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر /عنه ، وهو مما أخبر أنه لا يؤمن ، فقد صار أبو لهب مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق.
(1/1069)
الحجة الخامسة : العبد غير عالم بتفاصيل فعله ، لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها ، لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات ، والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ، ويسكن في بعضها ، وأنه أين تحرك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله لم يكن موجداً لها ، لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال ، فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن العبد غير موجد ، فإذا لم يكن موجداً كان تكليف ما لا يطاق لازماً على ما ذكرتم ، فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب ، فعلمنا أنه لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه الأول : وهو الأصوب : أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي ، والظاهر السمعي ، فإما أن يصدقهما وهو محال ، لأنه جمع بين النقيضين ، وإما أن يكذبهما وهو محال ، لأنه إبطال النقيضين ، وإما أن يكذب القاطع العقلي ، ويرجح الظاهر السمعي ، وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوّة والقرآن ، وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معاً/ فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ، ويحمل الظاهر السمعي على التأويل ، وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبداً في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه ، فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلاً في الجملة ، سواء عرفناه أو لم نعرفه ، وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل.
الوجه الثاني في الجواب : هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ، ومتى لم يفعل فإنه يعاقب ، فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكناً كان ذلك أمراً وتكليفاً في الحقيقة ، وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفاً ، بل كان إعلاماً بنزول العقاب به في الدار الآخرة ، وإشعاراً بأنه إنما خلق للنار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
والجواب الثالث : وهو أن الإنسان ما دام لم يمت ، وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك ، فنحن شاكون في قيام المانع ، فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه ، فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائماً في حقه. فتبين أن شرط التكليف كان زائلاً عنه حال حياته ، وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر.
الجواب الرابع : أنا بينا أن قوله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } ليس قول الله تعالى ، بل هو قول المؤمنين ، فلا يكون حجة ، إلا أن هذا ضعيف ، وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم ، فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام ، /إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا ، وأن يعفو عن خطايانا ، فإنا لا نطلب إلا الحق ، ولا نروم إلا الصدق.
أما قوله تعالى : {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب ، قال الواحدي رحمه الله : الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما ، قال ذو الرمة :
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
والقرآن أيضاً ناطق بذلك ، قال الله تعالى : {كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } (المدثر : 38) وقال : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا } (الأنعام : 164) وقال : {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه } (البقرة : 81) وقال : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } (الأحزاب : 58) فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر ، ومن الناس من سلم الفرق ، ثم فيه قولان أحدهما : أن الاكتساب أخص من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ، والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه خاصة يقال فلان كاسب لأهله ، ولا يقال مكتسب لأهله والثاني : قال صاحب "الكشاف" : إنما خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب ، لأن الاكتساب اعتمال ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس ، وهي منجذبة إليه ، وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد ، فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
(1/1070)
المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه ، قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق ، قال القاضي : لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف ، وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا : لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع ، فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت ، وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان ، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر ، قال الجبائي : ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير : لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله ، وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة ، وإنما صرنا إلى إضمار هذا /الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة ، والجمع بينهما محال في العقول ، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالاً.
واعلم أن الكلام على هذه المسألة مرّ على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى } (القرة : 264) فلا نعيده.
المسألة الرابعة : احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ، ووجه الاستدلال ظاهر فيه ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الأنعام : 164).
المسألة الخامسة : الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار ، لأن اللام في قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يدل على ثبوت هذا الاختصاص ، وتأكد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلّم : "كل امرىء أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين" وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه.
منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان ، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله : {لَهَا مَا كَسَبَتْ} والعارض الموجود ، إما الغضب ، وإما الضمان ، وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه ، أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} .
ومنها أنه لا شفعة للجار ، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك ، وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار.
ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان ، لأن المقتضي لبقاء الملك قائم ، وهو قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ} والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً ، فإنه يجب رده على المالك ، ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه.
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به ، وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص ، والخاص مقدم على العام ، وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم.
ثم اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم قال : "الدعاء مخ العبادة" لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي ، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام /في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186) فقال : {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء ، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله {رَبَّنَآ} إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} .
أما النوع الأول فهو قوله {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا ، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد ، لأن الناسي قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو ، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة.
(1/1071)
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
المسألة الثانية : في النسيان وجهان الأول : أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر.
فإن قيل : أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلّم : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء".
والجواب : عنه من وجوه الأول : أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً ، إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان ههنا معذوراً ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون ملوماً ، وأما إذا واظب على القراءة ، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً ، فثبت أن النسيان على قسمين ، منه ما يكون معذوراً ، ومنه ما لا يكون معذوراً ، وروي أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً ، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء.
الوجه الثاني في الجواب : أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه /النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به.
الوجه الثالث في الجواب : أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى ، لا طلب الفعل ، ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع ، قال الله تعالى : {قَـالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } (الأنبياء : 112) وقال : {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } (آل عمران : 194) وقالت الملائكة في دعائهم {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} (غافر : 7) فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
الوجه الرابع في الجواب : أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً ، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس ، فلما كان ذلك جائزاً في العقول ، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء.
الوجه الخامس : أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنه جائز عقلاً من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه.
والقول الثاني : في تفسير النسيان ، أن يحمل على الترك ، قال الله تعالى : {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَه عَزْمًا} (طه : 115) وقال تعالى : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } (التوبة : 67) أي تركوا العمل لله فتركهم ، ويقول الرجل لصاحبه : لا تنسني من عطيتك ، أي لا تتركني ، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد ، والمراد بالخطأ ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد.
المسألة الثالثة : علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي ، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر ، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلاً في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم {لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ، ولما أمرهم بطلب ذلك ، دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب ، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ، وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم ، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء.
فإن قيل : الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة.
قلنا : فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً ، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه /عمداً ، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر.
قوله تعالى : {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } .
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل :
(1/1072)
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
المسألة الأولى : الإصر في اللغة : الثقل والشدة ، قال النابغة :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا
ثم سمي العهد إصراً لأنه ثقيل ، قال الله تعالى : {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى } (آل عمران : 81) أي عهدي وميثاقي والإصر العطف ، يقال : ما يأصرني عليه آصرة ، أي رحم وقرابة ، وإنما سمي العطف إصراً لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره.
المسألة الثانية : ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول : لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود ، قال المفسرون : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها ، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالاً لهم ، قال الله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} (النساء : 160) وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر ، وكان عذابهم معجلاً في الدنيا ، كما قال : {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} وكانوا يمسخون قرد وخنازير ، قال القفال : ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم ، قال الله تعالى في صفة هذه الأمة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف : 157) وقال عليه السلام : "رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق" وقال الله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِم وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقال عليه الصلاة والسلام : "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير ، والتقصير موجب للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى ، فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
والقول الثاني : لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة ، وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ ، فيكون القول الأول أولى.
/المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ، فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد ، قالت المعتزلة : من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان ، مفسدة في حق غيره ، فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم ، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة ، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم ، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول : ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع ، وقسوة القلب ودناءة الهمة ، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم.
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال ، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لا يُسْئلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} .
قوله تعالى : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } .
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الطاقة اسم من الإطاقة ، كالطاعة من الإطاعة ، والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر.
المسألة الثانية : من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى.
أجاب المعتزلة عنه من وجوه الأول : أن قوله {مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلاً له. قال الشاعر :
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
(1/1073)
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في المملوك : "له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" أي ما يشق عليه ، وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "المريض يصلي جالساً ، فإن لم يستطع فعلى جنب" فقوله : فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس ، بل كل الفقهاء يقولون : المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة ، /وقال الله تعالى في وصف الكفار {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} (هود : 20) أي كان يشق عليهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
الوجه الثاني : أنه تعالى لم يقل : لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به ، بل قال : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله {وَلا تُحَمِّلْنَا} حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله {وَلا تُحَمِّلْنَا} مجازاً فيه ، فكان الأول أولى.
الوجه الثالث : هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه/ لأنه لو دل على ذلك لدل قوله {رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } (الأنبياء : 112) على جواز أن يحكم بباطل ، وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام {وَلا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (الشعراء : 87) على جواز أن يخزي الأنبياء ، وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم {وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } (الأحزاب : 48) ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) هذا جملة أجوبة المعتزلة.
أجاب الأصحاب فقالوا :
أما الوجه الأول : فمدفوع من وجهين الأول : أنه لو كان قوله {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } محمولاً على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز الثاني : أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة ، فقوله {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.
وأما الوجه الثاني : فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف ، قال الله تعالى : {إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ} (الأحزاب : 72) إلى قوله {وَحَمَلَهَا الانسَـانُ } (الأحزاب : 72) ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
وأما الوجه الثالث : فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه : ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً ، كما أن ذلك غير جائز ، فكذا ما ذكرتم.
إذا ثبت هذا فنقول : هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة : اعلم أنه بقي في الآية سؤالات :
/السؤال الأول : لم قال في الآية الأولى {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} وقال في هذه الآية {وَلا تُحَمِّلْنَا} خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل.
الجواب : أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله ، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه ، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.
السؤال الثاني : أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق ، وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى.
والجواب : الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما : قيامه بظاهر الشريعة والثاني : شروعه في بدء المكاشفات ، وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد ، وفي المقام الثاني قال : لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ، ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك ، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك ، ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} مقدماً في الذكر على قوله {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } .
(1/1074)
السؤال الثالث : أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا {لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء ؟
والجواب : المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
قوله تعالى : {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآا أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
اعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ {رَبَّنَآ} وأما هذا الدعاء الرابع ، فقد حذف منه لفظ {رَبَّنَآ} وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان :
السؤال الأول : لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا ؟
.
الجواب : النداء إنما يحتاج إليه عند البعد ، أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً /بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر.
السؤال الثاني : ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة ؟
.
الجواب : أن العفو أن يسقط عنه العقاب ، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة ، كأن العبد يقول : أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة ، والأول : هو العذاب الجسماني ، والثاني : هو العذاب الروحاني ، فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب ، وهو أيضاً قسمان : ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها ، وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى ، وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى ، مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى ، فقوله {وَارْحَمْنَآ } طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك {أَنتَ مَوْلَانَا} طلب للثواب الروحاني ، ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله {أَنتَ مَوْلَانَا} خطاب الحاضرين ، ولعلّ كثيراً من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات ، ويقولون : إنها من باب الطاعات ، ولقد صدقوا فيما يقولون ، فذلك مبلغهم من العلم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } (النجم : 30).
وفي قوله {أَنتَ مَوْلَانَا} فائدة أخرى ، وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها ، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه ، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه ، فهو سبحانه قيوم السموات والأرض ، والقائم بإصلاح مهمات الكل ، وهو المتولي في الحقيقة للكل ، على ما قال : {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال : 40) ونظير هذه الآية {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البقرة : 257) أي ناصرهم ، وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَا هُ} (التحريم : 4) أي ناصره ، وقوله {ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد : 11).
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
ثم قال : {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم ، وفي مناظرتنا بالحجة معهم ، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال : {لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه } (التوبة : 33) ومن المحققين من قال : {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله ، وهذا آخر السورة.
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلّم إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة/ فقالت الملائكة : إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله {الرَّسُولُ بِمَآ} فسله وارغب إليه ، فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو ، /فقال محمد صلى الله عليه وسلّم : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فقال الله تعالى : "قد غفرت لكم" فقال : {لا تُؤَاخِذْنَآ} فقال الله : {لا} فقال : {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} فقال : "لا أشدد عليكم" فقال محمد {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه } فقال : "لا أحملكم ذلك" فقال محمد {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ } فقال الله تعالى : "قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين" وفي بعض الروايات أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يذكر هذه الدعوات ، والملائكة كانوا يقولون آمين.
وهذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول : إلهي وسيدي كل ما للبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك ، فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ، ولا يشغله سؤال السائلين وهذا آخر الكلام في تفسير هذه والسورة الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلّم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 115
126
(1/1075)
سورة آل عمران
مائتا اية مدنية
جزء : 7 رقم الصفحة : 126
126
أما تفسير { الر } فقد تقدم في سورة البقرة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو بكر عن عاصم { الر * اللَّهُ} بسكون الميم ، ونصب همزة : الله ، والباقون موصولاً بفتح الميم ، أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول : نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني : أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل ، فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم ، وأما من نصب الميم ففيه قولان :
القول الأول : وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر ، يقول : ألف ، لام ، ميم ، كما تقول : واحد ، إثنان ، ثلاثة ، وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله : الله ، فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة ، إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف ، ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها.
/فإن قيل : إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة ، وإن كان التقدير هو الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها ، وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها ، وامتنع إلقاء حركتها على الميم.
قلنا : لم لا يجوز أن يكون ساقطاً بصورته باقياً بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفرّاء.
والقول الثاني : قول سيبويه ، وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين ، وهذا القول رده كثير من الناس ، وفيه دقة ولطف ، والكلام في تلخيصه طويل.
وأقول : فيه بحثان أحدهما : سبب أصل الحركة والثاني : كون تلك الحركة فتحة.
أما البحث الأول : فهو بناء على مقدمات :
المقدمة الأولى : أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفاً من حروف المد واللين لم يجب التحريك ، لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين ، كقولك : هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر ، أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين ، لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة.
المقدمة الثانية : مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام ، وهي ساكنة ، والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام ، فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفاً آخر فإن كان متحركاً توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكناً حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام ، وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام ، فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام ، فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى ، حقيقة وحكماً ، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكماً ، لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام ، أو أثر من الآثار ، لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطاً كلياً ، وبهذا يبطل قول الفرّاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 126
المقدمة الثالثة : أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر ، وذلك متفق عليه.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الميم من قولنا { الر } ساكن ولام التعريف من قولنا {اللَّهِ} ساكن ، وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم ، ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى ، وصح بهذا البيان قول سيبويه ، وبطل قول الفرّاء.
(1/1076)
أما البحث الثاني : فلقائل أن يقول : الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر ، فلم اختير الفتح /ههنا ، قال الزجاج في الجواب عنه : الكسر ههنا لا يليق ، لأن الميم من قولنا { الر } مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل/ فتركت الكسرة واختيرت الفتحة ، وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج ، وقال : ينتقض قوله بقولنا : جير ، فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء ، وهذا الطعن عندي ضعيف ، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها ، فإذا اجتمعا عظم الثقل ، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك {اللَّهِ} وهو في غاية الخفة ، فيصير اللسان منتقلاً من أثقل الحركات إلى أخف الحركات ، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان ، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة ، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا {اللَّهِ} فكان النطق به سهلاً ، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم.
المسألة الثانية : في سبب نزول أول هذه السورة قولان :
القول الأول : وهو قول مقاتل بن سليمان : أن بعض أول هذه السورة في اليهود ، وقد ذكرناه في تفسير { الر * ذَالِكَ الْكِتَابُ} (البقرة : 1/ 2).
جزء : 7 رقم الصفحة : 126
والقول الثاني : من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى ، وهو قول محمد بن إسحاق قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم ، أحدهم : أميرهم ، واسمه عبد المسيح ، والثاني : مشيرهم وذو رأيهم ، وكانوا يقولون له : السيد ، واسمه الأيهم ، والثالث : حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم ، يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته ، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة ، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت ، فقال كرز أخوه : تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال أبو حارثة : بل تعست أمك ، فقال : ولم يا أخي ؟
فقال : إنه والله النبي الذي كنا ننتظره ، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ، قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا ، فلو آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلّم لأخذوا منا كل هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك ، ثم تكلم أولئك الثلاثة : الأمير ، والسيد والحبر ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على اختلاف من أديانهم ، فتارة يقولون عيسى هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون : ثالث ثلاثة ، ويحتجون لقولهم : هو الله ، بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويبرىء الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ، ويحتجون في قولهم : إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا وجعلنا ، ولو كان واحداً لقال فعلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم : أسلموا ، فقالوا : قد أسلمنا ، فقال صلى الله عليه وسلّم /كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً ، وتعبدون الصليب ، وتأكلون الخنزير ، قالوا : فمن أبوه ؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يناظر معهم ، فقال : ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت ، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟
قالوا : بلى ، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟
قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ، فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك ؟
قالوا : لا ، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم ؟
قالوا : لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة/ ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ، ويحدث الحدث قالوا : بلى فقال صلى الله عليه وسلّم : "فكيف يكون كما زعمتم ؟
فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟
قال : بلى" ، قالوا : فحسبنا فأنزل الله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} الآية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 126
(1/1077)
ثم إن الله تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك ، فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة ، فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل ، فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض : ما ترى ؟
فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبياً قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم ، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم ، وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع نحن على ديننا ، فابعث رجلاً من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا ، فقال عليه السلام : آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول : ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها ، فلما صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره ، وجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه فقال : اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة.
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعاً ، والله أعلم.
المسألة الثالثة : اعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب ، وذلك لأن أولئك النصارى /الذين نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كأنه قيل لهم : إما أن تنازعوه في معرفة الإله ، أو في النبوّة ، فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولداً وأن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية ، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل عقلاً أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوّة ، فهذا أيضاً باطل ، لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى الله عليه وسلّم ، وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا ، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة ، فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جداً فلننظر ههنا إلى بحثين.
البحث الأول : ما يتعلق بالإلهيات فنقول : إنه تعالى حي قيوم ، وكل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد ، وإنما قلنا : إنه حي قيوم ، لأنه واجب الوجود لذاته ، وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى : {اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} وإذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له وإلهاً ، كما قال : {إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرحمن عَبْدًا} (مريم : 93) وأيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً ، وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد ، وكان يأكل ويشرب ويحدث ، والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه ، فثبت أنه ما كان حياً قيوماً ، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلهاً ، فهذه الكلمة وهي قوله {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.
جزء : 7 رقم الصفحة : 126
(1/1078)
وأما البحث الثاني : وهو ما يتعلق بالنبوّة ، فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة ، وذلك لأنه قال : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ} (آل عمران : 3) وهذا يجري مجرى الدعوى ، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى ، فقال : وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس ، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان ، لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقاً لا محالة ، ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله ، فكذلك حصل في كون القرآن نازلاً من عند الله وإذا كان الطريق مشتركاً ، فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة ، أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين ، وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد ، ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ، وما هو العمدة في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَـاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران : 4) فقد ظهر أنه لا يمكن /أن يكون كلام أقرب إلى الضبط ، وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام ، والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه ، وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر.
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ.
أما قوله {اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبيّن الله تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه.
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال : {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته ، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم ، من الليل والنهار ، والحر والبرد ، والرياح والأمطار ، والنعم التي لا يقدر عليها سواه ، ولا يحصيها غيره ، كما قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (إبراهيم : 34) وقرأ عمر رضي الله عنه {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} قال قتادة ، الحي الذي لا يموت ، والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم ، وآجالهم ، وأرزاقهم ، وعن سعيد بن جبير : الحي قبل كل حي ، والقيوم الذي لا ند له ، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا : الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلهية ، ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حياً قيوماً ودلّت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حياً قيوماً ، وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت. علمنا قطعاً أن عيسى ما كان إلهاً ، ولا ولداً للإله تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 126
130
فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن ، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه ، وإنما خص القرآن بالتنزيل ، والتوراة والإنجيل بالإنزال ، لأن التنزيل للتكثير ، والله تعالى نزل القرآن نجما نجما ، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه ، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة ، فلهذا خصهما بالإنزال ، ولقائل أن يقول : هذا يشكل بقوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ} (الكهف : 1) وبقوله {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } (الإسراء : 105).
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين :
الوصف الأول : قوله {بِالْحَقِّ} قال أبو مسلم : إنه يحتمل وجوهاً أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها : أنه /حق بمعنى أنه قول فصل ، وليس بالهزل ورابعها : قال الأصم : المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية ، وشكر النعمة ، وإظهار الخضوع ، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها : أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة ، كما قال : {أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا } وقال : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82).
(1/1079)
والوصف الثاني : لهذا الكتاب قوله {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه } والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولما أخبروا به عن الله عزّ وجلّ ، ثم في الآية وجهان الأول : أنه تعالى دلّ بذلك على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب ، لأنه كان أُمياً لم يختلط بأحد من العلماء ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا قرأ على أحد شيئاً ، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف ، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني : قال أبو مسلم : المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان به ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان ، فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، بقي في الآية سؤالان :
جزء : 7 رقم الصفحة : 130
السؤال الأول : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه.
والجواب : أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم.
السؤال الثاني : كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب ، مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام ؟
.
والجواب : إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن ، كانت موافقة للقرآن ، فكان القرآن مصدقاً لها ، وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها ، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك ، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل.
ثم قال الله تعالى : {وَأَنزَلَ التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد ، وقرأ الحسن {وَالانجِيلَ} بفتح الهمزة ، وهو دليل على العجمية ، لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب ، واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه ، ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه.
/أما لفظ {التَّوْرَاـاةَ} ففيه أبحاث ثلاثة :
البحث الأول : في اشتقاقه ، قال الفرّاء {التَّوْرَاـاةَ} معناها الضياء والنور ، من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار ، قال الله تعالى : {فَالمُورِيَـاتِ قَدْحًا} (العاديات : 2) ويقولون : وريت بك زنادي ، ومعناه : ظهر بك الخير لي ، فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَـارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً} (الأنبياء : 48).
البحث الثاني : لهم في وزنه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قال الفرّاء : أصل {التَّوْرَاـاةَ} تورية تفعلة بفتح التاء ، وسكون الواو ، وفتح الراء والياء ، إلا أنه صارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
القول الثاني : قال الفرّاء : ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية ، فيكون أصلها تورية ، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيىء ، فإنهم يقولون في جارية : جاراة ، وفي ناصية : ناصاة ، قال الشاعر :
فما الدنيا بباقاة لحي
وما حي على الدنيا بباق
والقول الثالث : وهو قول الخليل والبصريين : إن أصلها : وورية ، فوعلة ، ثم قلبت الواو الأولى تاء ، وهذا القلب كثير في كلامهم ، نحو : تجاه ، وتراث ، وتخمة ، وتكلان ، ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت وكتبت بالياء على أصل الكلمة ، ثم طعنوا في قول الفرّاء ، أما الأول : فقالوا : هذا البناء نادر ، وأما فوعلة فكثير ، نحو : صومعة ، وحوصلة ، ودوسرة والحمل على الأكثر أولى ، وأما الثاني : فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيىء ، والقرآن ما نزل بها ألبتة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 130
البحث الثالث : في التوراة قراءتان : الإمالة والتفخيم ، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير ، والله أعلم.
وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول : قال الزجاج : إنه افعيل من النجل ، وهو الأصل ، يقال : لعن الله ناجليه ، أي والديه ، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم ، لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني : قال قوم : الإنجيل مأخوذ من قول العرب : نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر : نجل ، ويقال : قد استنجل الوادي ، إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلاً لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث : قال أبو عمرو الشيباني : التناجل التنازع ، فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع : أنه من النجل الذي هو سعة العين ، ومنه طعنة نجلاء ، سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم.
(1/1080)
وأقول : أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخر ، / ولو كان كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا : حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ، وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء ، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل ، والطين أصل الكوز ، فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع/ ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب ، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 130
البحث الثالث : في التوراة قراءتان : الإمالة والتفخيم ، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير ، والله أعلم.
وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول : قال الزجاج : إنه افعيل من النجل ، وهو الأصل ، يقال : لعن الله ناجليه ، أي والديه ، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم ، لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني : قال قوم : الإنجيل مأخوذ من قول العرب : نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر : نجل ، ويقال : قد استنجل الوادي ، إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلاً لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث : قال أبو عمرو الشيباني : التناجل التنازع ، فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع : أنه من النجل الذي هو سعة العين ، ومنه طعنة نجلاء ، سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم.
وأقول : أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخر ، / ولو كان كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا : حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ، وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء ، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل ، والطين أصل الكوز ، فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع/ ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب ، فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 130
132
أما قوله تعالى : {وَالانجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} .
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن ، ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس ، قال الكعبي : هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم ، ويدل على معنى قوله {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } (فصلت : 44) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، كقول نوح عليه السلام {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا} (نوح : 6) لما فروا عنده.
واعلم أن قوله {هُدًى لِّلنَّاسِ} فيه احتمالان الأول : أن يكون ذلك عائداً إلى التوراة والإنجيل فقط ، وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان.
(1/1081)
فإن قيل : إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدىً للمتقين ، فلم لم يصفه ههنا به ؟
.
قلنا : فيه لطيفة ، وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) لأنهم هم المنتفعون به ، فصار من الوجه هدىً لهم لا لغيرهم ، أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى ، وهم /لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدىً بل قال : إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدىً ، فهذا ما خطر بالبال والله أعلم.
القول الثاني : وهو قول الأكثرين : أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى ، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل والله أعلم بمراده.
ثم قال : {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } .
ولجمهور المفسرين فيه أقوال الأول : أن المراد هو الزبور ، كما قال : {وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا} (النساء : 163) والثاني : أن المراد هو القرآن ، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ومدحاً بكونه فارقاً بين الحق والباطل أو يقال : إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل ، وعلى هذا التقدير فلا تكرار.
جزء : 7 رقم الصفحة : 132
والقول الثالث : وهو قول الأكثرين : أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة ، فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع ، فصار هذا الكلام دالاً على أن الله تعالى بيّن بهذه الكتب ما يلزم عقلاً وسمعاً ، هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد ، لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام ، بل ليس فيه إلا المواعظ ، ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل ، وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك ، وأما القول الثاني : وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } عطف على ما قبله ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايراً للقرآن ، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث ، لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى ، والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع ، وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب/ وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين ، فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين /دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب ، فالمعجزة هي الفرقان ، فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق ، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك ، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة ، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية ، وهب أن أحداً من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى عليه يفيد قوة المعنى ، وجزالة اللفظ ، واستقامة الترتيب والنظم ، والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك ، فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله ، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال :
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَـاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 132
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى ، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله ، والمحققون من المفسرين قالوا : خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى.
ثم قال : {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} .
والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة ، يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه ، وقال الليث يقال : لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع ، والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب ، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب ، فالأول : صفة الذات ، والثاني : صفة الفعل ، والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 132
134
اعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين :
(1/1082)
الاحتمال الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم ، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم ، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما : أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني : أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها ، /والأول : لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ، والثاني : لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات ، فقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات ، فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات ، لا يشغله سؤال عن سؤال ، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات ، وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم ، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ، ثم فيه لطيفة أخرى ، وهي أن قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه ، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع ، لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي ، وذلك هو أن نقول : إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة ، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً ، فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا ، فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك ، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة ، والتركيب الغريب ، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة ، فبعضها عظام ، وبعضها غضاريف ، وبعضها شرايين ، وبعضها أوردة ، وبعضها عضلات ، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن ، والتأليف الأكمل ، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ، ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم ، فكان قوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ، ودالاً على صحة ما تقدم من قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، وقادر على كل الممكنات ، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات ، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم ، ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة ، ولا أحسن ترتيباً ، ولا أكثر تأثيراً في القلوب من هذه الكلمات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 134
والاحتمال الثاني : أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها ، وذلك لأن النصارى ادعوا إلهية عيسى عليه السلام ، وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه ، أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة ، والنوع الثاني : شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية.
أما النوع الأول من الشبه : فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما : يتعلق بالعلم والثاني : يتعلق بالقدرة.
/أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب ، وكان يقول لهذا : أنت أكلت في دارك كذا ، ويقول لذاك : إنك صنعت في دارك كذا ، فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم.
وأما الأمر الثاني من شبههم ، فهو متعلق بالقدرة ، وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة ، وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ، ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (البقرة : 255) يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً ، وعيسى ما كان حياً قيوماً ، لزم القطع إنه ما كان إلهاً ، فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين :
(1/1083)
أما الشبهة الأولى : وهي المتعلقة بالعلم ، وهي قولهم : إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلهاً ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلهاً لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه ، وتعليم الله تعالى له ذلك ، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإله لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً ، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات ، فكيف والنصارى يقولون : إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله ، لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله ، وأنه يتأذى بذلك ويتألم ، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه ، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات ، فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلهاً فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلهية ، وأما الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلهية ، فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 134
أما النوع الثاني : من الشبه ، وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً ، لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له.
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلهية ، وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب ، /والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ، ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه ، فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً ، أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلهاً ، فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة.
وأما النوع الثاني من الشبه : فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية ، وحاصلها يرجع إلى نوعين.
النوع الأول : أن النصارى يقولون : أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر ، فوجب أن يكون ابناً له فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 134
(1/1084)
والنوع الثاني : أن النصارى قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ، فهذا يدل على أنه ابن الله ، فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي ، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز ، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات ، فوجب رده إلى التأويل ، وذلك هو المراد بقوله {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ } (آل عمران : 7) فظهر بما ذكرنا أن قوله {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله ولا ابن له ، وأما قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم ، وقوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة ، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر ، فوجب أن يكون ابناً لله ، وأما قوله {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} (آل عمران : 7) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ، ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب ، وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب ، ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث ، فقال : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم ، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب ، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور لا يكفي في كونه إلهاً فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة /وهو العزيز ، وكامل العلم وهو الحكيم ، وبقي في الآية أبحاث لطيفة ، أما قوله {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 134
فإن قيل : ما الفائدة في قوله {فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} مع أنه لو أطلق كان أبلغ.
قلنا : الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه ، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى ، وذلك لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض ، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ، ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال ، فإن المثال يعين على الفهم.
أما قوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة ، والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله ، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى : {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} (البقرة : 260) وأما {الارْحَامِ} فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة ، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف ، فلهذا سمي ذلك العضو رحماً والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 134
137
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في اتصال قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ} بما قبله احتمالين أحدهما : أن ذلك كالتقرير لكونه قيوماً والثاني : أن ذلك الجواب عن شبه النصارى ، فأما على الاحتمال الأول فنقول : إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح /الخلق ومصالح الخلق قسمان : جسمانية وروحانية ، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية ، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال ، وهو المراد بقوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ} (آل عمران : 6) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : إنه روح الله وكلمته ، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه ، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم ، هو في غاية الحسن والاستقامة.
المسألة الثانية : اعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم ، ودل على أنه بكليته متشابه ، ودل على أن بعضه محكم ، وبعضه متشابه.
(1/1085)
أما ما دل على أنه بكليته محكم ، فهو قوله {الارا تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْحَكِيمِ} (يونس : 1) {الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُه } (هود : 1) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم ، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين ، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله : محكم ، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه ، فهو قوله تعالى : {كِتَـابًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِيَ} (الزمر : 23) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82) أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة.
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها ، ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة : أما المحكم فالعرب تقول : حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ، ومنعت ، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب ، وفي حديث النخعي : احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد ، وقال جرير : أحكموا سفهاءكم ، أي امنعوهم ، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له ، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي ، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز/ قال الله تعالى : {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَـابَهَ عَلَيْنَا} (البقرة : 70) وقال في وصف ثمار الجنة {وَأُتُوا بِه مُتَشَـابِهًا } (البقرة : 25) أي متفق المنظر مختلف الطعوم ، وقال الله تعالى : {تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } (البقرة : 118) ومنه يقال : اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما ، ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وقال عليه السلام : "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات" وفي رواية /أخرى مشتبهات.
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه ، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، ونظيره المشكل سمي بذلك ، لأنه أشكل ، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه ، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل ، ويحتمل أن يقال : إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه ، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ، ومشابهاً له ، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان ، فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه ، فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ، فنقول :
الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه ، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين ، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول :
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى ، فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى ، وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعاً لمعنى ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص ، وأما إن كان محتملاً لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر ، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء ، فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً ، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً ، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً ، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً ، فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصاً ، أو ظاهراً ، أو مؤولاً ، أو مشتركاً ، أو مجملاً ، أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح ، إلا أن النص راجح مانع من الغير ، والظاهر راجح غير مانع من الغير ، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.
(1/1086)
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة ، وإن لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح ، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد ، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً وقد بينا أن ذلك يسمى متشابهاً إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن ، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم ، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه ، ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية ، فههنا يتوقف الذهن ، مثل : القرء ، بالنسبة إلى الحيض والطهر ، إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المعنيين ، ومرجوحاً في الآخر ، ثم كان الراجح باطلاً ، والمرجوح حقاً ، ومثاله من القرآن قوله تعالى : {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} (الإسراء : 16) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ، ومحكمه قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ } (الأعراف : 28) رداً على الكفار فيما حكى عنهم {وَإِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } (الأعراف : 28) وكذلك قوله تعالى : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } (التوبة : 67) وظاهر النسيان ما يكون ضداً للعلم ، ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى : {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم : 64) وقوله تعالى : {لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى} (طه : 52).
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول : إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة ، فالمعتزلي يقول قوله {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29) محكم ، وقوله {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ} (التكوير : 29) متشابه والسيء يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول : اللفظ إذا كان محتملاً لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحاً ، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحاً ، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح ، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح ، فهذا هو المتشابه فنقول : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون عقلياً.
أما القسم الأول : فنقول : هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس ، اللّهم إلا أن يقال : إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان ، أو يقال : كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح ، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول :
أما الأول فباطل ، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة ، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات ، ونقل وجوه النحو والتصريف ، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز ، وعدم التخصيص ، وعدم الإضمار ، وعدم المعارض النقلي والعقلي ، وكان ذلك مظنون ، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً ، فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً.
(1/1087)
وأما الثاني وهو أن يقال : أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً ، فهذا صحيح ، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً ، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية ، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال ، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره ، فعنذ هذا يتعين /التأويل ، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره ، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف ، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل ، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب ، والله ولي الهداية والرشاد.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
المسألة الثالثة : في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول : ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا } (الأنعام : 151) إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور ، وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه ، وأقول : التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع ، وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى ، والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ، ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك ، فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس ، لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم.
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل ، وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية ، فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة.
القول الثاني : وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ ، والمتشابه هو المنسوخ.
والقول الثالث : قال الأصم : المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً ، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (المؤمنون : 14) وقوله {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } (الأنبياء : 30) وقوله {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } (البقرة : 22) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً.
/واعلم أن كلام الأصم غير ملخص ، فإنه إن عني بقوله : المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة ، والمتشابه ما لا يكون كذلك ، وهو إما المجمل المتساوي ، أو المؤول المرجوح ، فهذا هو الذي ذكرناه أولاً ، وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل ، فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل ، والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل ، وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً ، لأن قوله {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية ، وإن أهل الطبيعة يقولون : السبب في ذلك الطبائع والفصول ، أو تأثيرات الكواكب ، وتركيبات العناصر وامتزاجاتها ، فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل ، فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ، ولعلّ الأصم يقول : هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل ، إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً ، ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول : هو المحكم والثاني : هو المتشابه.
(1/1088)
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
القول الرابع : أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي ، أو بدليل خفي ، فذاك هو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه ، وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة ، والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ، ونظيره قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } (الأعراف : 187) (النازعات : 42).
المسألة الرابعة : في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً.
اعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقال : إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر ، كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } (الأنعام : 103) والقدري يقول : بل هذا مذهب الكفار ، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ} (الأنعام : 25) وفي موضع آخر {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُا } (الإسراء : 46) وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 22 ، 23) والنافي يتمسك بقوله {لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ} (الأنعام : 103) ومثبت الجهة يتمسك بقوله {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل : 50) وبقوله {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) والنافي يتمسك بقوله {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه : محكمة ، والآيات المخالفة لمذهبه : متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ، ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا ، أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض.
/واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهاً :
الوجه الأول : أنه متى كانت المتشابهات موجودة ، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب ، قال الله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} (آل عمران : 142).
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
الوجه الثاني : لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه ، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكم وعلى المتشابه ، فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ، ويؤثر مقالته ، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب ، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق.
الوجه الثالث : أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل ، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة ، أما لو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد.
الوجه الرابع : لما كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه ، افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة.
الوجه الخامس : وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية ، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه/ ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات ، فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده.
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ} فالمراد به هو القرآن {مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ} وهي التي يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية ، أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها.
(1/1089)
/ثم قال : {هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ} وفيه سؤالان :
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
السؤال الأول : ما معنى كون المحكم أماً للمتشابه ؟
.
الجواب : الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء ، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل : أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب ، وهو أنه قال : إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها ، فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ، ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة ، فكان قوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } (مريم : 35) محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية ، وكان قوله : عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم.
السؤال الثاني : لم قال : {أُمُّ الْكِتَـابِ} ولم يقل : أمهات الكتاب ؟
.
الجواب : أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ، ونظيره قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً} (المؤمنون : 50) ولم يقل آيتين ، وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة ، فكذلك ههنا.
ثم قال : {وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ } وقد عرفت حقيقة المتشابهات ، قال الخليل وسيبويه : أن {ءَاخَرَ } فارقت أخواتها في حكم واحد ، وذلك لأن أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأُخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع {مِنْ} أو بالألف واللام ، فيقال : زيد أفضل من عمرو ، وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل ، فكان القياس أن يقال : زيد آخر من عمرو ، أو يقال : زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ {مِنْ} لأن لفظه اقتضى معنى {مِنْ} فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن ، فسقط الألف واللام أيضاً فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أُخر فأخر جمعه ، فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها.
ثم قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه ، بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه ، والزيغ الميل عن الحق ، يقال : زاغ زيغاً : أي مال ميلاً واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله {فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} فقال الربيع : هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه قال : بلى. فقالوا : حسبنا. فأنزل الله هذه الآية ، ثم أنزل {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } (آل عمران : 59) وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج : هم الكفار الذين ينكرون البعث ، لأنه قال في آخر الآية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ا إِلا اللَّه } وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
(1/1090)
وقال المحققون : إن هذا يعم جميع المبطلين ، وكل من احتج لباطله بالمتشابه ، لأن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت : 29) {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } (سبأ : 3) {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } (الحجر : 7) فموهوا الأمر على الضعفة ، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث ، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان ، فيكون قوله {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } متشابهاً ، فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد ، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي ، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى ، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجباً ، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجباً ، فحينئذ يبطل ذلك التفويض ، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته ، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالاً بالمتشابهات ، فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغاً عن الحق وطلباً لتقرير الباطل.
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة ، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله : المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب ، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
وقال أبو مسلم الأصفهاني : الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال ، ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} (طه : 85) {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَه وَمَا هَدَى } (طه : 79) {وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ} (البقرة : 26) وفسروا أيضاً قوله {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الإسراء : 16) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم ، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} (النساء : 26) وتأولوا قوله تعالى : {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} (النمل : 4) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } (الرعد : 11) {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى ا إِلا وَأَهْلُهَا ظَـالِمُونَ} (القصص : 59) وقال : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } (فصلت : 17) وقال : {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه } (يونس : 108) وقال : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ} (الحجرات : 7) فكيف يزين النعمة ؟
فهذا ما قاله أبو مسلم ، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات/ وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات ؟
ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر ، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر ؟
ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة ، فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية ، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح ، وذلك تصريح بنفي الصانع ، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به ، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص ، وذلك نفي للصانع ، ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً ، ولو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها ، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه ، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.
(1/1091)
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
وأما المحقق المنصف ، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها : ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية ، فذاك هو المحكم حقاً وثانيها : الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها ، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها : الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه ، فيكون من حقه التوقف فيه ، ويكون ذلك متشابهاً بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ، ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر ، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده.
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه ، بيّن أن لهم فيه غرضين ، فالأول : هو قوله تعالى : {ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ} والثاني : هو قوله {وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِه } .
فأما الأول : فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر ، وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً : أولها : قال الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين ، صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها : أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها : أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه.
/وأما الغرض الثاني لهم : وهو قوله تعالى : {وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِه } فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير ، من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه ، وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه ، هذا معنى التأويل في اللغة ، ثم يسمى التفسير تأويلاً ، قال تعالى : {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (الكهف : 78) وقال تعالى : {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (النساء : 59) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى ، واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم ؟
وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون ؟
قال القاضي : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما : أن يحملوه على غير الحق : وهو المراد من قوله {ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ} والثاني : أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه ، وهو المراد من قوله {وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِه } ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَه ا إِلا اللَّه } واختلف الناس في هذا الموضع ، فمنهم من قال : تم الكلام ههنا ، ثم الواو في قوله { والراسخون فِي الْعِلْمِ} واو الابتداء ، وعلى هذا القول : لا يعلم المتشابه إلا الله ، وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
والقول الثاني : أن الكلام إنما يتم عند قوله { والراسخون فِي الْعِلْمِ} وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه :
(1/1092)
الحجة الأولى : أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ، ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة ، وفي المجازات كثرة ، وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية ، والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف ، فإذا كانت المسألة قطعية يقينية ، كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز ، مثاله قال الله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (البقرة : 286) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية ، فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات ، وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية ، وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية ، فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلاً ، وأيضاً قال الله تعالى : {الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (طه : 5) دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان ، فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها ، إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية ، والقول بالظن في /ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين ، وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه ، والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق.
الحجة الثانية : وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم ، حيث قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِه } ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة ، كما في قوله {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } (الأعراف : 178) وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب ، وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة } (الحجر : 7).
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
قلنا : إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه ، ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم ، وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه ، ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركاً للظاهر ، وأنه لا يجوز.
الحجة الثالثة : أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به ، وقال في أول سورة البقرة {فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح/ لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به ، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى ، بل مراده منه غير ذلك الظاهر ، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه ، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب ، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن.
الحجة الرابعة : لو كان قوله { والراسخون فِي الْعِلْمِ} معطوفاً على قوله {إِلا اللَّهُ} لصار قوله {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه } ابتداء ، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة ، بل كان الأولى أن يقال : وهم يقولون آمنا به ، أو يقال : ويقولون آمنا به.
فإن قيل : في تصحيحه وجهان الأول : أن قوله {يَقُولُونَ} كلام مبتدأ ، والتقدير : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني : أن يكون {يَقُولُونَ} حالا من الراسخين.
قلنا : أما الأول فمدفوع ، لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني : أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره ، وههنا قد تقدم /ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله {يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه } حالا من الراسخين لا من الله تعالى ، فيكون ذلك تركاً للظاهر ، فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه ، فكان هذا القول أولى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
(1/1093)
الحج الخامسة : قوله تعالى : {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل ، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله ، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة.
الحجة السادسة : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحداً جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عند بدعة ، وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة ، فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة ، وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى : { والراسخون فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِه كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء.
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية ، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية ، فإذا رأى شيئاً متشابهاً ، ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى ، علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره ، وأن ذلك المراد حق ، ولا يصير كون ظاهره مردوداً شبهة في الطعن في صحة القرآن.
ثم حكي عنهم أيضاً أنهم يقولون {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } والمعنى : أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا ، وفيه سؤالان :
السؤال الأول : لو قال : كل من ربنا كان صحيحاً ، فما الفائدة في لفظ {عِندَ} ؟
.
الجواب ؛ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد ، فذكر كلمة {عِندَ} لمزيد التأكيد.
السؤال الثاني : لم جاز حذف المضاف إليه من {كُلٌّ} ؟
.
الجواب : لأن دلالة المضاف عليه قوية ، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل.
ثم قال : {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ} وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به/ ومعناه : ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة ، فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن ، فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكماً ، وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابهاً ، ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل ، فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى ، وهذه /الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ، وتوافق اللغة والإعراب.
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس ، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفاً بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه ، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول ، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
جزء : 7 رقم الصفحة : 137
148
واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا} وحذف {يَقُولُونَ} لدلالة الأول عليه ، وكما في قوله {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} (آل عمران : 191) وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة.
(1/1094)
أما كلام أهل السنة فظاهر ، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر ، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى ، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر ، فهي الخذلان ، والإزاغة ، والصد ، والختم ، والطبع ، والرين ، والقسوة ، والوقر ، والكنان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي : التوفيق ، والرشاد ، والهداية ، والتسديد ، والتثبيت ، والعصمة ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان ، فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين ، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين ، ومن أنصف ولم يتعسف ، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس ، ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى الله عليه وسلّم يقول : "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" ومعناه ما ذكرنا /فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق ، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني.
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات ، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات ، ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك ، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات ، وهذا كلام متين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 148
وأما المعتزلة فقد قالوا : لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى ، وجب صرف هذه الآية إلى التأويل ، فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6).
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم ، وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول : وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي : أن المراد بقوله {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} (الصف : 5) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان ، وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال : أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } والثاني : قال الأصم : لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } (النساء : 66) وقال : {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} (الزخرف : 33) والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ ، وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك الثالث : قال الكعبي {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي لا تسمنا باسم الزائغ ، كما يقال : فلان يكفر فلاناً إذا سماه كافراً ، والرابع : قال الجبائي : أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا ؛ وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر ، وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر ، فقوله {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} محمول على أن يميته قبل أن يصير كافراً ، وذلك لأن إبقاءه حياً إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس : قال الأصم {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس : قال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ ، فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 148
أما الأول : فلأن من مذهبم أن كل ما صحّ في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفاً /وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلهيته ، ولصار جاهلاً ومحتاجاً والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف.
(1/1095)
وأما الثاني : فضعيف ، لأن التشديد في التكليف إن علم الله تعالى له أثراً في حمل المكلف على القبيح قبح من الله تعالى ، وإن علم الله تعالى أنه لا أثر له ألبتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعاً وعاصياً ، فلا فائدة في صرف الدعاء إليه.
وأما الثالث : فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجوداً وعدماً والكفر والزيغ باختيار العبد ، فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر.
وأما الرابع : فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية ، يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه.
وأما الخامس : وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف ، لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران : 7).
وأما السادس : وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدوراً وجب فعله ، فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدوراً تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء ، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه ، وأن الحق ما ذهبنا إليه.
فإن قيل : فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (الصف : 5).
قلنا : لا يبعد أن يقال إن الله تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون ، ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه.
أما قوله تعالى : {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران : 8) أي بعد أن جعلتنا مهتدين ، وهذا أيضاً صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى.
ثم قال : {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي ، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة ، ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ، وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة ، وإنما قال : {رَحْمَةً} ليكون ذلك شاملاً لجميع أنواع الرحمة ، فأولها : أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة ، وثانيها : أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة/ وثالثها : أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها : أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها : أن يحصل في القبر سهولة السؤال ، وسهولة ظلمة القبر.
/
جزء : 7 رقم الصفحة : 148
وسادسها : أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله {مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } يتناول جميع هذه الأقسام ، ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو ، ولا كريم إلا هو ، لا جرم أكد ذلك بقوله {مِن لَّدُنْكَ} تنبيهاً للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه ، ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير ، كأنه يقول : أطلب رحمة وأية رحمة ، أطلب رحمة من لدنك ، وتليق بك ، وذلك يوجب غاية العظمة.
ثم قال : {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي ، لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودك ورحمتك ، فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك ، يا دائم المعروف ، يا قديم الإحسان ، لا تخيب رجاء هذا المسكين ، ولا ترد دعاءه ، واجعله بفضلك أهلاً لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
جزء : 7 رقم الصفحة : 148
150
واعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً وكلامك لا يكون كذباً ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين ، بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد ، فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة ، بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه } تقديره : جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه ، فحذف لكون المراد ظاهراً.
(1/1096)
المسألة الثانية : قال الجبائي : إن كلام المؤمنين تم عند قوله {لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه } فأما قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} فهو كلام الله عزّ وجلّ ، كأن القوم لما قالوا {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه } صدقهم الله تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} كما قال حكاية عن المؤمنين في آخر هذه السورة {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِا إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران : 194) ومن الناس من قال : لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور ، ومثله في كتاب الله تعالى كثير ، قال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (يونس : 22).
فإن قيل : فلم قالوا في هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وقالوا في تلك الآية {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
قلت : الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة ، يعني أن الإلهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام ، أما قوله في آخر السورة {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران : 194) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله ، وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة ، فلا جرم قال : {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 150
المسألة الثالثة : احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق ، قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، بدليل قوله تعالى : {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا } (الأعراف : 44) والوعد والموعد والميعاد واحد ، وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد.
والجواب : لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ، أما قوله تعالى : {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا } .
قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران : 21) وقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع ، وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مرّ في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (البقرة : 81) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى ، فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشاعر :
إذ وعد السراء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء ، وبين عمرو بن عبيد ، قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟
قال : أقول إن الله وعد وعداً ، وأوعد إيعاداً ، فهو منجز إيعاده ، كما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم /اللسان ولكن أعجم القلب ، إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟
فقال : لا ، فقال عمرو بن عبيد : فقد سقطت حجتك ، قالوا : فانقطع أبو عمرو بن العلاء.
جزء : 7 رقم الصفحة : 150
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم ، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك ، وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق ، فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط ، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى ، فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 150
152
(1/1097)
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم ، حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم ، فهذا هو وجه النظم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا } قولان الأول : المراد بهم وفد نجران ، وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني لأعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حقاً ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه ، فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة.
والقول الثاني : أن اللفظ عام ، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
المسألة الثانية : اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ، ثم يجتمع عليه /جميع الأسباب المؤلمة.
أما الأول : فهو المراد بقوله {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم} وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد ، فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبيّن الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم ، فما عداه بالتعذر أولى ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 88 ، 89) وقوله {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} (الكهف : 46) وقوله {وَنَرِثُه مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (مريم : 80) وقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ } (مريم : 80).
وأما القسم الثاني : من أسباب كمال العذاب ، فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَ أولئك هُمْ وَقُودُ النَّارِ} وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس ، والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار ، وبالضم هو مصدر وقدت النار وقوداً كقوله : وردت وروداً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 152
المسألة الثالثة : في قوله {مِنَ اللَّهِ} قولان أحدهما : التقدير : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني : قال أبو عبيدة {مِنْ} بمعنى عند ، والمعنى لن تغني عند الله شيئاً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 152
153
يقال : دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه ، قال الله تعالى : {سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} (يوسف : 47) أي بجد واجتهاد ودوام ، ويقال : سار فلان يوماً دائباً ، إذا أجهد في السير يومه كله ، هذا معناه في اللغة ، ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة ، يقال : هذا دأب فلان أي عادته ، وقال بعضهم : الدؤب والدأب الدوام.
إذا عرفت هذا فنقول : في كيفية التشبيه وجوه الأول : أن يفسر الدأب بالاجتهاد ، كما هو معناه في أصل اللغة ، وهذا قول الأصم والزجاج ، ووجه التشبيه أن دأب الكفار ، أي جدهم /واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم ، فكذا نهلك هؤلاء.
الوجه الثاني : أن يفسر الدأب بالشأن والصنع ، وفيه وجوه الأول : {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم ، كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى ، ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد ، وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني : أن تقدير الآية : أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون ، فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم ، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل ، وتارة إلى المفعول ، والمراد ههنا ، كدأب الله في آل فرعون ، فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم ، ونظيره قوله تعالى : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه } (البقرة : 165) أي كحبهم الله وقال : {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } (الإسراء : 77) والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث : قال القفال رحمه الله : يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى ، والعادة المضافة إلى الكفار ، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد صلى الله عليه وسلّم كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم ، وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء ، كعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين ، والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي صلى الله عليه وسلّم على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم.
(1/1098)
جزء : 7 رقم الصفحة : 153
الوجه الثالث : في تفسير الدأب والدؤب ، وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء ، وتقدير الآية ، وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون ، أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون.
والوجه الرابع : أن الدأب هو الاجتهاد ، كما ذكرناه ، ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به ، فإنه تعالى بيّن أن عذابهم حصل في غاية القرب ، وهو قوله تعالى : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) وفي غاية الشدة أيضاً وهو قوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر : 46).
الوجه الخامس : أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب ، فكان التشبيه بآل فرعون حاصلاً في هذين الوجهين ، والمعنى : أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد ، بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلّم في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد.
الوجه السادس : يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلّم وذلك من القتل والسبي /وسلب الأموال ويكون قوله تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ } (آل عمران : 12) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بيّن أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل ، ثم يصيرون إلى دوام العذاب ، فسينزل بمن كذب بمحمد صلى الله عليه وسلّم أمران أحدهما : المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال ، ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم ، وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى.
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فالمعنى : والذين من قبلهم من مكذبي الرسل ، وقوله {كَذَّبُوا بِاَايَاتِنَآ } المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء.
ثم قال : {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص.
ثم قال : {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهو ظاهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 153
154
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي {سَيَغْلِبُونَ} بالياء فيهما ، والباقون بالتاء المنقطة من فوق فيهما ، فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت ، فالمعنى : بلغهم أنهم سيغلبون ، ويدل على صحة الياء قوله تعالى : {يَتَفَكَّرُونَ * قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (الجاثية : 14) و{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } (النور : 30) ولم يقل غضوا ، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة ، ويدل على حسن التاء قوله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّانَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ} (آل عمران : 81) والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم ، والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم.
المسألة الثانية : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة ، جمع يهود في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً ، فقالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال ، لو قاتلتنا لعرفت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الرواية الثانية : أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر ، قالوا : والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة ، ونعته وأنه لا ترد له راية ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا : ليس هذا هو ذاك ، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
/والرواية الثالثة : أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم ، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم.
المسألة الثالثة : احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية ، فقال : إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذباً وذلك محال ، ومستلزم المحال محال ، فكان الإيمان والطاعة محالاً منهم ، وقد أمروا به ، فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق ، وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى : {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6).
جزء : 7 رقم الصفحة : 154
(1/1099)
المسألة الرابعة : قوله {سَتُغْلَبُونَ} إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع مخبره على موافقته ، فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز ، ونظيره قوله تعالى : {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الارْضِ وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم : 2 ، 3) الآية ، ونظيره في حق عيسى عليه السلام {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } (آل عمران : 49).
المسأُلة الخامسة : دلّت الآية على حصول البعث في القيامة ، وحصول الحشر والنشر ، وأن مرد الكافرين إلى النار.
ثم قال : {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال : {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} والمهاد : الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش ، قال الله تعالى : {وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ} (الذاريات : 48) فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة ، قال الله تعالى : {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابا بَئِيس } (الأعراف : 165) أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 154
155
اعلم أن في الآية مسائل :
/المسألة الأولى : لم يقل : قد كانت لكم آية ، بل قال : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ} وفيه وجهان :
الأول : أنه محمول على المعنى ، والمراد : قد كان لكم إتيان هذا آية.
والثاني : قال الفرّاء : إنما ذكر للفصل الواقع بينهما ، وهو قوله {لَكُمْ} .
المسألة الثانية : وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة ، وهي قوله تعالى : {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} نزلت في اليهود ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم ، فقال : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره ، ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم ، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة ، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} الآية ، فهذا هو الكلام في وجه النظم.
المسألة الثالثة : الجماعة ، وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين : رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وقادوا مائة فرس ، وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير ، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك ، وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير ، ومعهم من الدروع ستة ، ومن الخيل فرسان ، ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 155
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول : أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور ، منها : قل العدد ، ومنها : أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنها قلة السلاح والفرس ، ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها : كثرة العدد ، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب ، ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم ، ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة ، والمقاتلة في الأزمنة الماضية ، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة ، ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً.
/والوجه الثاني : في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله {يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآاـاِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} (الأنفال : 7) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان ، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً.
(1/1100)
والوجه الثالث : في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون ، والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين ، أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة ، وذلك معجز.
فإن قيل : تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة.
قلنا : نحمل الرؤية على الظن والحسبان ، وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة ، وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب ، لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة.
والوجه الرابع : في بيان كون هذه القصة آية ، قال الحسن : إن الله تعالى أمد رسوله صلى الله عليه وسلّم في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال : {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ} (الأنفال : 9) وقال : {بَلَى ا إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة } (آل عمران : 125) والألف مع الأربعة آلاف : خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض ، وهو المراد بقوله {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِه مَن يَشَآءُ } والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 155
ثم قال الله تعالى : {فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : القراءة المشهورة {فِئَةٌ} بالرفع ، وكذا قوله {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وقرىء {فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} بالجر على البدل من فئتين ، وقرىء بالنصب إما على الاختصاص ، أو على الحال من الضمير في التقتا ، قال الواحدي رحمه الله : والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل الله فهو رفع على استئناف الكلام.
المسألة الثانية : المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون ، لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله.
وقوله {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} المراد بها كفار قريش.
ثم قال تعالى : {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وأبان عن عاصم {تَرَوْنَهُمْ } بالتاء المنقطة من فوق ، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود ، والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا ، أو مثلي /الفئة الكافرة ، أو تكون الآية خطاباً مع مشركي قريش والمعنى : ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب ، وهو قوله {فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ} فقوله {يَرَوْنَهُم} يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين.
المسألة الثانية : اعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ} يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة ، والمرئيون هم الفئة المسلمة ، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان ، وأيضاً فقوله {مِّثْلَيْهِمْ} يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوهاً أربعة الأول : أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين.
والاحتمال الثاني : أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 155
فإن قيل : هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال {وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} (الأنفال : 44).
فالجواب : أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين ، فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين ، ثم إن تقليلهم في أول الأمر ، وتكثيرهم في آخر الأمر ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.
والاحتمال الثالث : أن الرائين هم المسلمون ، والمرئيين هم المشركون ، فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد ، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى : {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } (الأنفال : 66).
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأي العين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ؟
.
الجواب : أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم ، وذلك لأنه تعالى قال : {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ } فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم ، وإزالة للخوف عن صدورهم.
(1/1101)
والاحتمال الرابع : أن الرائين هم المسلمون ، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد ، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك ، وفي الآية احتمال خامس ، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود ، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة.
فإن قيل : كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه.
بقي من مباحث هذا الموضع أمران :
البحث الأول : أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً ، والاحتمال /الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول : فهو محال عقلاً ، لأن المعدوم لا يرى ، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي ، وأما الثاني : فهو جائز عند أصحابنا ، لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً ، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات ، فلم يبعد أن يقال : إنه حصل ذلك المعجز ، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد ، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها : أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام ، فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها : لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها : يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر ، وكل ذلك محتمل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 155
البحث الثاني : اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون ، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل : إن كون المشرك رائياً أولى ، ويدل عليه وجوه الأول : أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول ، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً ، وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} والثاني : أن مقدمة الآية وهو قوله {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ} خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار/ حيث قال : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه ، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم.
واحتج من قال : الراؤن هم المسلمون ، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ، ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال ، وكان ذلك أولى والله أعلم.
ثم قال : {رَأْىَ الْعَيْنِ} يقال : رأيته رأياً ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيا حسنة ، فالرؤية مختص بالمنام ، ويقول : هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري ، فقوله {رَأْىَ الْعَيْنِ} يجوز أن ينتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان ، كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله : هو مني مناط العنق ومزجر الكلب.
ثم قال : {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِه مَن يَشَآءُ } نصر الله المسلمين على وجهين : نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ، ونصر بالحجة ، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال : هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة ، وبالعاقبة الحميدة ، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان /بتأييد الله ونصره ، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح.
ثم قال : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً} والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ، ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب ، وعبارة الرؤيا من ذلك ، لأنها تعبير لها ، وقوله {لاوْلِى الابْصَـارِ} أي لأولي العقول ، كما يقال : لفلان بصر بهذا الأمر ، أي علم ومعرفة ، والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 155
159
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم قولان الأول : ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلّم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه ، وأيضاً روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة ، وأن الآخرة خير وأبقى.
(1/1102)
القول الثاني : وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِه مَن يَشَآءُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ} ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية ، واللذات الدنيوية ، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها ، وتبقى تبعاتها ، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ } (آل عمران : 15) ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} من الذي زين ذلك ؟
أما أصحابنا فقولهم /فيه ظاهر ، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا : لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ، فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان ، وإن كان من الله تعالى ، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك ، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله {رَبَّنَا هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } (القصص : 63) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا ، وهذا الكلام ظاهر جداً.
جزء : 7 رقم الصفحة : 159
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال :
القول الأول : حكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زين لهم ، وكان يحلف على ذلك بالله ، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها : أنه تعالى أطلق حب الشهوات ، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها : أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ، ومنتهى مقصوده ، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها : قوله تعالى : {ذَالِكَ مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها : قوله بعد هذه الآية {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ } (آل عمران : 15) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه ، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه.
والقول الثاني : قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده ، وإباحتها للعبيد تزيين لها ، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى ، وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة/ ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها : أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة ، والله تعالى قد ندب إليها ، فكان مزيناً لها ، وإنما قلنا : إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول : أن يتصدق بها والثاني : أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث : أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم ، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع : أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً ، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس : قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} (البقرة : 29) وقال : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ } (الأعراف : 32) وقال : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا} (الكهف : 7) وقال : {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف : 31) وقال /في سورة البقرة {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } (البقرة : 22) وقال {كُلُوا مِمَّا فِى الارْضِ حَلَـالا طَيِّبًا} (البقرة : 168) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} على تسمية الفاعل.
جزء : 7 رقم الصفحة : 159
والقول الثالث : وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل ، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي ، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم ، وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى ، أو من الشيطان.
المسألة الثالثة : قوله {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} فيه أبحاث ثلاثة :
(1/1103)
البحث الأول : أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال ، كما يقال للمقدور قدرة ، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم ، وهذه استعارة مشهورة في اللغة ، يقال : هذه شهوة فلان ، أي مشتهاه ، قال صاحب "الكشاف" : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها.
البحث الثاني : قال المتكلمون : دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه ، والشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات.
البحث الثالث : قال الحكماء : الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب ، وأما من أحب شيئاً وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة ، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة ، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام {إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} (ص : 32) ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير ، وإن كان ذلك في جانب الشر ، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها : أنه يحب شهوته لها وثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس ، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق ، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس ، والعقل أيضاً يدل عليه ، وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب /ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان : جسماني وروحاني ، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر ، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية ، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة ، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة ، فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} .
جزء : 7 رقم الصفحة : 159
وأما قوله تعالى : {مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ} ففيه بحثان :
البحث الأول : {مِنْ} في قوله {مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ} كما في قوله {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ} (الحج : 30) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية : زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة.
البحث الثاني : اعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها : النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى : {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } (الروم : 21) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة.
المرتبة الثانية : حب الولد : ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك.
واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة ، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل ، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات ، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل.
المرتبة الثالثة والرابعة : {وَالْقَنَـاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وفيه أبحاث :
(1/1104)
البحث الأول : قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق ، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب ، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد ، واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده ، وفيه روايات : فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "القنطار إثنا عشر ألف أوقية" وروى أنس عنه أيضاً أن القنطار ألف دينار ، وروى أُبي بن كعب أنه عليه السلام قال : القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس : القنطار ألف دينار أو إثنا عشر /ألف درهم ، وهو مقدار الدية ، وبه قاس الحسن ، وقال الكلبي : القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة ، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 159
البحث الثاني : {الْمُقَنطَرَةِ} منفعلة من القنطار ، وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلفة/ وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة ، وقال الكلبي : القناطير ثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة.
البحث الثالث : الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب ، لا جرم كانا محبوبين.
المسألة الخامسة : {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه ، كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلاً لخيلائها في مشيها ، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا ، وسمي الخيال خيالا ، والتخيل تخيلا ، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة ، والأخيل الشقراق ، لأنه يتخيل تارة أخضر ، وتارة أحمر ، واختلفوا في معنى {الْمُسَوَّمَةِ} على ثلاثة أقوال الأول : أنها الراعية ، يقال : أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي ، كما يقال : أقمت الشيء وقومته ، وأجدته وجودته ، وأنمته ونومته ، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً ، ومنه قوله تعالى : {فِيهِ تُسِيمُونَ} (النحل : 10).
والقول الثاني : المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني : وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد ، ومعناه واحد ، وهو الهيئة الحسنة ، قال الله تعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (الفتح : 29) ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة ، فقال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل ، وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة ، وقال الأصم : إنما هي البلق ، وقال قتادة : الشية ، وقال المؤرج : الكي ، وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال ، وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا ، وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفاً في الفرس.
القول الثالث : وهو قول مجاهد وعكرمة : أنها الخيل المطهمة الحسان ، قال القفال : المطهمة المرأة الجميلة.
المرتبة السادسة : {الانْعَـامِ} وهيي جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، ولا يقال للجنس الواحد منها : نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها.
جزء : 7 رقم الصفحة : 159
المرتبة السابعة : {الْحَرْثِ} وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } (البقرة : 205).
/ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال : {ذَالِكَ مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } قال القاضي : ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى ، ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه : منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموماً ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضاً مذموماً ، ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم ، ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح.
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ عِندَه حُسْنُ الْمَاَابِ} اعلم أن المآب في اللغة المرجع ، يقال : آب الرجل إياباً وأوبة وأبية ومآبا ، قال الله تعالى : {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته ، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن.
فإن قيل : المآب قسما : الجنة وهي في غاية الحسن ، والنار وهي خالية عن الحسن ، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن.
قلنا : المآب المقصود بالذات هو الجنة ، فأما النار فهي المقصود بالغرض/ لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، كما قال : سبقت رحمتي غضبي ، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 159
163
في الآية مسائل :
(1/1105)
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {أَؤُنَبِّئُكُم} بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو.
المسألة الثانية : ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول : أن يكون المعنى : هل أؤنبئكم بخير من ذلكم ، ثم يبتدأ فيقال : للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني : هل أؤنبئكم /بخير من ذلكم للذين اتقوا ، ثم يبتدأ فيقال : عند ربهم جنّات تجري والثالث : هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم ، ثم يبتدى فيقال : جنّات تجري.
المسألة الثالثة : في وجه النظم وجوه الأول : أنه تعالى لما قال : {وَاللَّهُ عِندَه حُسْنُ الْمَاَابِ} (آل عمران : 14) بيّن في هذه الآية أن ذلك المآب ، كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا ، فقال {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ } الثاني : أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (الأعلى : 7) الثالث : كأنه تعالى نبّه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسناً منتظماً إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل ، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم ، فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا.
المسألة الرابعة : إنما قلنا : إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا ، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة ، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية ، وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة ، ونعم الآخرة باقية لا محالة.
أما قوله تعالى : {لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا } فقد بينا في تفسير قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) أن التقوى ما هي وبالجملة ، فإن الإنسان لا يكون متقياً إلا إذا كان آتياً بالواجبات ، متحرزاً عن المحظورات ، وقال بعض أصحابنا : التقوى عبارة عن اتقاء الشرك ، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان ، قال تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } (الفتح : 26) وظاهر اللفظ أيضاً مطابق له ، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات ، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات ، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز ، فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك ، وعرف القرآن مطابق لذلك ، فوجب حمله عليه فكان قوله {لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا } محمولاً على كل من اتقى الكفر بالله.
جزء : 7 رقم الصفحة : 163
أما قوله تعالى : {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ} ففيه احتمالان الأول : أن يكون ذلك صفة للخير ، والتقدير : هل أنبئكم بخير من ذلكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني : أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير : للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى ، فيخرج عنه المنافق ، ويدخل فيه من كان مؤمناً في علم الله.
وأما قوله {جَنَّـاتُ} فالتقدير : هو جنّات ، وقرأ بعضهم {جَنَّـاتُ} بالجر على البدل من خير ، واعلم أن قوله {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } وصف لطيب الجنّة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر ، وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب ، كما قال تعالى : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } (الزخرف : 71).
/ثم قال : {خَـالِدِينَ فِيهَآ} والمراد كون تلك النعم دائمة.
ثم قال : {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّه } وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة : {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } (البقرة : 25) وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن ، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب ، فقال {مُّطَهَّرَة } ويدخل في ذلك : الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة.
ثم قال تعالى : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ عاصم {وَرِضْوَانٍ} بضم الراء ، والباقون بكسرها ، أما الضم فهو لغة قيس وتميم ، وقال الفرّاء : يقال رضيت رضا ورضوانا ، ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران.
(1/1106)
المسألة الثانية : قال المتكلمون : الثواب له ركنان أحدهما : المنفعة ، وهي التي ذكرناها ، والثاني : التعظيم ، وهو المراد بالرضوان ، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم ، حامد لهم ، مثن عليهم ، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع ، وأما الحكماء فإنهم قالوا : الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية ، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية ، وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته ، ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى ، وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى ، والله الإشارة بقوله {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 28) ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍا وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} (التوبة : 72).
جزء : 7 رقم الصفحة : 163
ثم قال : {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} أي عالم بمصالحهم ، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا.
جزء : 7 رقم الصفحة : 163
165
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في إعراب موضع {الَّذِينَ يَقُولُونَ} وجوه الأول : أنه خفض صفة /للذين اتقوا ، وتقدير الآية : للذين اتقوا الذين يقولون ، ويجوز أن يكون صفة للعباد ، والتقدير : والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني : أن يكون نصباً على المدح والثالث : أن يكون رفعاً على التخصيص ، والتقدير : هم الذين يقول كذا وكذا.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا {رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا} ثم إنهم قالوا بعد ذلك {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم ، والثناء عليهم ، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى ، فإن قالوا : الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور ، وتاب عن جميع الذنوب ، كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم ، والقبيح هو الذي يلزم من فعله ، إما الجهل ، وإما الحاجة فهما محالان ، ومستلزم المحال محال ، فإدخال الله تعالى إياهم النار محال ، وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة {رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ} (آل عمران : 193).
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله {الصَّـابِرِينَ وَالصَّـادِقِينَ} (آل عمران : 17).
قلنا : تأويل هذه الآية ما ذكرناه ، وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة ، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين ، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى ، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات ، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة ، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات.
جزء : 7 رقم الصفحة : 165
166
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {الصَّـابِرِينَ} قيل نصب على المدح بتقدير : أعني الصابرين ، وقيل : الصابرين في موضع جر على البدل من الذين.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة :
الصفة الأولى : كونهم صابرين ، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات ، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد ، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى ، كما قال : {الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة : 156) قال سفيان بن عيينة في قوله {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } (السجدة : 24) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر ، ويروى أنه وقف رجل على الشلبي ، فقال : أي صبر أشد على الصابرين ؟
فقال الصبر في الله تعالى ، فقال لا ، فقال : الصبر لله تعالى فقال لا فقال : الصبر مع الله تعالى ، قال لا قال فايش ؟
قال : الصبر عن الله تعالى ، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.
(1/1107)
وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين ، فقال : {وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } (البقرة : 177).
الصفة الثانية : كونهم صادقين ، اعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة ، فالصدق في القول مشهور ، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه ، يقال : صدق فلان في القتال وصدق في الحملة ، ويقال في ضده : كذب في القتال ، وكذب في الحملة ، والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل.
الصفة الثالثة : كونهم قانتين ، وقد فسرناه في قوله تعالى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} (البقرة : 238) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها.
الصفة الرابعة : كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر.
الصفة الخامسة : كونهم مستغفرين بالأسحار ، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت ، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك فقوله {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول : أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل ، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء ، فهناك وقت الجود العام والفيض التام ، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير ، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني : أن وقت السحر أطيب أوقات النوم ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل والثالث : نقل عن ابن عباس {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} يريد المصلين صلاة الصبح.
/
جزء : 7 رقم الصفحة : 166
المسألة الثالثة : قوله {الصَّـابِرِينَ وَالصَّـادِقِينَ} أكمل من قوله : الذين يصبرون ويصدقون ، لأن قوله {الصَّـابِرِينَ} يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم ، وأنهم لا ينفكون عنها.
المسألة الرابعة : اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف/ والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها ، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعاً أُخر من الطاعات ، وإما بسبب الشروع فيه ، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه ، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة ، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى ، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً ثم قال : {الصَّـادِقِينَ} ثانياً ، ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة ، فقال : {وَالْقَـانِتِينَ} فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات ، ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة ، وكان أعظم الطاعات قدراً أمران أحدهما : الخدمة بالمال ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : "والشفقة على خلق الله" فذكر هنا بقوله {وَالْمُنَـافِقِينَ } والثانية : الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله "التعظيم لأمر الله" فذكره هنا بقوله {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} .
فإن قيل : فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين ، وأخر في قوله "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله".
قلنا : لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف ، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار ، وقوله "التعظيم لأمر الله" في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى ، فلا جرم كان الترتيب بالعكس.
المسألة الرابعة : هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد ، فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله {هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } (الحشر : 24) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند الله أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 166
168
اعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا} (آل عمران : 16) أردفه بأن بيّن /أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية ، فقال : {شَهِدَ اللَّهُ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم على العلم به ، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، لكن العلم بصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحداً فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحداً بمجرد الدلائل السمعية القرآنية.
(1/1108)
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في قوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} قولين : أحدهما : أن الشهادة من الله تعالى ، ومن الملائكة ، ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني : أنه ليس كذلك ، أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين :
الوجه الأول : أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم ، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحداً لا إله معه ، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز ، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضاً أن الله تعالى واحد لا شريك له ، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله ، وفي حق الملائكة ، وفي حق أولي العلم.
الوجه الثاني : أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ، ثم نقول : إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك ، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك ، وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين ، أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام ، والرسل للعلماء ، والعلماء لعامة الخلق ، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان ، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى ، وفي حق أولي العلم ، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين ، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلّم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى ، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم ، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام.
جزء : 7 رقم الصفحة : 168
القول الثاني : قول من يقول : شهادة الله تعالى على توحيده ، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة ، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـا اـاِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّا يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب : 56) ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس ، مع أنه قد جمعهم في اللفظ.
/فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله ، فكيف يكون المدعي شاهداً ؟
.
الجواب : من وجوه الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله/ وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد ، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ، ولهذا قال : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه } (الأنعام : 19).
الوجه الثاني : في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً ، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً ، ونفياً محضاً ، والعدم يشبه الغائب ، والموجود يشبه الحاضر ، فكل ما سواه فقد كان غائباً ، وبشهادة الحق صار شاهداً ، فكان الحق شاهداً عل الكل ، فلهذا قال : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} .
الوجه الثالث : أن هذا وإن كان في صورة الشهادة ، إلا أنه في معنى الإقرار ، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه ، كان الكل عبيداً له ، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد ، فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق.
الوجه الرابع : في الجواب قرأ ابن عباس {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} بكسر {أَنَّهُ} ثم قرأ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } (آل عمران : 19) بفتح {ءَانٍ} فعلى هذا يكون المعنى : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله {أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} اعتراضاً في الكلام ، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه ، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء ، وبتقدير {ءَانٍ} تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها ، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 168
المسألة الثانية : المراد من {وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة ، إذا كان الإخبار مقروناً بالعلم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم : "إذا علمت مثل الشمس فاشهد" وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول.
أما قوله تعالى : {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } ففيه مسائل :
(1/1109)
المسألة الأولى : {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } منتصب ، وفيه وجوه :
الوجه الأول : نصب على الحال ، ثم فيه وجوه أحدها : التقدير : شهد الله قائماً بالقسط وثانيها : يجوز أن يكون حالا من هو تقديره : لا إله إلا هو قائماً بالقسط ، ويسمى هذا حالاً مؤكدة كقولك : أتانا عبد الله شجاعاً ، وكقولك : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً.
الوجه الثاني : أن يكون صفة المنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو ، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف.
/والوجه الثالث : أن يكون نصباً على المدح.
فإن قيل : أليس من حق المدح أن يكون معرفة ، كقولك ، الحمد لله الحميد.
قلنا : وقد جاء نكرة أيضاً ، وأنشد سيبويه :
ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية : قوله {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } فيه وجهان الأول : أنه حال من المؤمنين والتقدير : وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني : وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من {شَهِدَ اللَّهُ} .
المسألة الثالثة : معنى كونه {قَآاـاِمَا بِالْقِسْطِ } قائماً بالعدل ، كما يقال : فلان قائم بالتدبير ، أي يجريه على الاستقامة.
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ، ومنه ما هو متصل بباب الدين ، أما المتصل بالدين/ فانظر أولاً في كيفية خلقة أعضاء الإنسان ، حتى تعرف عدل الله تعالى فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك ، وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة ، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب ، أما ما يتصل بأمر الدين ، فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل ، والفطانة والبلادة والهداية والغواية ، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، ولقد خاض صاحب "الكشاف" ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف ، وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً ، وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع ، فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك ، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه ، لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات ، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلاً ، فقد اعترف بهذا الجبر ، فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث.
جزء : 7 رقم الصفحة : 168
ثم قال الله تعالى : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} والفائدة في إعادته وجوه الأول : أن تقدير الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو ، ونظيره قول من يقول : الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى ، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني : أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير ، كأنه قال : /يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث : فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبداً في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة ، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلاً بذكرها وبتكريرها كان مشتغلاً بأعظم أنواع العبادات ، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع : ذكر قوله {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} أولاً : ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى ، وذكرها ثانيا : ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم.
أما قوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم ، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، وكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر ، لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الإستدلالية ، فلما كان مقدماً في المعرفة الإستدلالية ، وكان هذا الخطاب مع المستدلين ، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 168
171
وفيه مسائل :
(1/1110)
المسألة الأولى : اتفق القرّاء على كسر {ءَانٍ} إلا الكسائي فإنه فتح {ءَانٍ} وقراءة الجمهور ظاهرة ، لأن الكلام الذي قبله قد تم ، وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن التقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحداً موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني : أن التقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وأن الدين عند الله الإسلام الثالث : وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلاً من الأول ، ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك : ضربت زيداً نفسه ، وإن قلنا : دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال : ضربت زيداً رأس زيد.
قلنا : قد يظهرون الاسم في موضع الكناية ، قال الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شي
وأمثاله كثيرة.
/المسألة الثانية : في كيفية النظم من قرأ {إِنَّ الدِّينَ} بفتح {ءَانٍ} كان التقدير : شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام ، فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد ، والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام ، ومن قرأ {إِنَّ الدِّينَ} بكسر الهمزة ، فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته ، وشهد به الملائكة وأولوا العلم ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } .
المسألة الثالثة : أصل الدين في اللغة الجزاء ، ثم الطاعة تسمى ديناً لأنها سبب الجزاء ، وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول : أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة ، قال تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ} (النساء : 94) أي لمن صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم والثاني : من أسلم أي دخل في السلم ، كقولهم : أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث : قال ابن الأنباري : المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم : سلم الشيء لفلان ، أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى ، هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة ، أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان ، والدليل عليه وجهان الأول : هذه الآية فإن قوله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام ، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله ، ولا شك في أنه باطل الثاني : قوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران : 85) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله تعالى.
جزء : 7 رقم الصفحة : 171
فإن قيل : قوله تعالى : {قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات : 14) هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان.
قلنا : الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا ، والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف ، فلا جرم كان الإسلام حاصلاً في حكم الظاهر/ والإيمان كان أيضاً حاصلاً في حكم الظاهر ، لأنه تعالى قال : {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } (البقرة : 221) والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر ، فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر ، وتارة في الحقيقة ، والمنافق حصل له الإسلام الظاهر ، ولم يحصل له الإسلام الباطن ، لأن باطنه غير منقاد لدين الله ، فكان تقدير الآية : لم تسلموا في القلب والباطن ، ولكن قولوا : أسلمنا في الظاهر ، والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُم وَمَن يَكْفُرْ بِاَايَـاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيه مسائل :
(1/1111)
المسألة الأولى : الغرض من الآية بيان إن الله تعالى أوضح الدلائل ، وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير ، فقوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} فيه وجوه : الأول : المراد بهم اليهود ، واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبراً ، وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغياً بينهم ، وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني : المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث : المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقالوا : نحن أحق بالنبوّة من قريش ، لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب.
المسألة الثانية : قوله {إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم ، لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح ، وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 171
المسألة الثالثة : في انتصاب قوله {بَغِيًّا} وجهان الأول : قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك : جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني : قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى ، فإن قوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} قائم مقام قوله : وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل {بَغِيًّا} مصدراً ، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل ، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل.
المسألة الرابعة : قال الأخفش قوله {بَغْيَا بَيْنَهُمْ } من صلة قوله {اخْتَلَفَ} والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وقال غيره : المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم ، فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي ، وقال القفال : وهذا أجود من الأول ، لأن الأول : يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم ، والثاني : يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَكْفُرْ بِاَايَـاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وهذا تهديد ، وفيه وجهان : الأول : المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني : أن الله /تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 171
المسألة الثالثة : في انتصاب قوله {بَغِيًّا} وجهان الأول : قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك : جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني : قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى ، فإن قوله {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} قائم مقام قوله : وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل {بَغِيًّا} مصدراً ، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل ، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل.
المسألة الرابعة : قال الأخفش قوله {بَغْيَا بَيْنَهُمْ } من صلة قوله {اخْتَلَفَ} والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وقال غيره : المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم ، فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي ، وقال القفال : وهذا أجود من الأول ، لأن الأول : يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم ، والثاني : يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَكْفُرْ بِاَايَـاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وهذا تهديد ، وفيه وجهان : الأول : المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني : أن الله /تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال.
جزء : 7 رقم الصفحة : 171
173
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بيّن الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلّم ما يقوله في محاجتهم ، فقال : {فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان :
(1/1112)
الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلّم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً ، فإن هذه السورة مدنيّة ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه ، فأولها : أنه تعالى ذكر الحجة بقوله {الْحَىُّ الْقَيُّومُ} على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ} (آل عمران : 3) على صحة النبوّة ، وذكر شبه القوم ، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ، ثم ذكر لهم معجزة أخرى ، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } (آل عمران : 13) ثم بيّن صحة القول بالتوحيد ، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (آل عمران : 18) ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق ، واختلافهم في الدين ، إنما كان لأجل البغي والحسد ، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين ، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل ، فبعد هذا قال : {فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل ، وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد ، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين ، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم ، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام ، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق ، مستسلمون له ، /مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد ، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه.
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ} محاجة ، وإظهار للدليل ، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع ، وكونه مستحقاً للعبادة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات ، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طا عة الله تعالى وعبوديته ، وهذا القدر متفق عليه ، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : {بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِه شَيْـاًا} (آل عمران : 64).
والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه ، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام ، فأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن يتبع ملته فقال : {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } (النحل : 123) ثم إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلّم حيث قال : {إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} (الأنعام : 79) فقول محمد صلى الله عليه وسلّم : {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} كقول إبراهيم عليه السلام {وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة وأخلصت له ، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم ، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات ، وداخلاً تحت قوله {وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النحل : 125).
(1/1113)
والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع ، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ، ثم قال : {فَإِنْ حَآجُّوكَ} يعني فإن نازعوك في قولك {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } (آل عمران : 19) فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية ، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ، ولا أشرك به غيره ، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام ، وهذا الوجه يناسب الآية.
/
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
الوجه الرابع : في كيفية الاستدلال ، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} (مريم : 42) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً ، ويكون أمري في يديه ، وحكمي في قبضة قدرته ، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له ، وأن انقاد له ، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، والتدبير ، والتقدير.
الوجه الخامس : يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله {إِذْ قَالَ لَه رَبُّه ا أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (البقرة : 131) وهذا مروي عن ابن عباس.
أما قوله {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ} ففيه وجوه الأول : قال الفرّاء أسلمت وجهي لله ، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ، ولم يشاركه غيره قال : ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله {يُرِيدُونَ وَجْهَه } (الكهف : 28) أي عبادته ، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك ، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مرّ على وجهه الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله ، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته ، عادل عن كل ما سواه.
وأما قوله {وَمَنِ اتَّبَعَنِ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : حذف عاصم وحمزة والكسائي ، الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف ، وأثبته الآخرون على الأصل :
المسألة الثانية : {مِنْ} في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله {أَسْلَمْتُ} أي ومعنى اتبعني أسلم أيضاً.
فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن ، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن.
قلنا : إن الكلام طال بقوله {وَجْهِىَ لِلَّهِ} فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل ، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ، ومن جاء معي جاز وحسن.
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
ثم قال تعالى : {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالامِّيِّانَ ءَأَسْلَمْتُمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب ، سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى ، أو كان كاذباً فيه كالمجوس ، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان.
/المسألة الثانية : إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول : أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني : أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم.
المسألة الثالثة : دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله {فَانٍ} عام في كل الكفار ، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} ودخل من لا كتاب له تحت قوله {الامِّيِّـانَ} .
ثم قال الله تعالى {ءَأَسْلَمْتُمْ } فهو استفهام في معرض التقرير ، والمقصود منه الأمر قال النحويون : إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام ، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة ، وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الانصاف ، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان ؛ هل فهمتها ؟
فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم ، وقال الله تعالى في آية الخمر {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة : 91) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهى عنه.
(1/1114)
ثم قال الله تعالى : {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا } وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه ، والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً ، ويحتمل أن يريد : فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال : {وَإِن تَوَلَّوْا } عن الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلّم : {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ} والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه ، وليس عليه قبولهم ثم قال : {وَاللَّهُ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ} وذلك يفيد الوعد والوعيد ، وهو ظاهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
0
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله {وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ } أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ} .
فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد.
قلنا : الجواب من وجهين الأول : أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلّم الثاني : أن نحمله على العموم ، ونقول إن من كذب بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع.
الصفة الثانية : قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الحسن {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وهو للمبالغة.
المسألة الثانية : روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟
قال : رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى ، وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن ذكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء.
وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : إذا كان قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ} في حكم المستقبل ، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك ؟
.
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
والجواب من وجهين الأول : أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم ، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين ، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته الثاني : إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم ، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز ، كما يقال : النار محرقة ، والسم قاتل ، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل ، فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك.
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك.
/والجواب : ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة ، والمراد منه شرح عظم ذنبهم ، وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل.
السؤال الثالث : قوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ} ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف.
والجواب : الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق.
الصفة الثالثة : قوله {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة وحده بالألف والباقون {اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ} وهما سواء ، لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال ، وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أُبي {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ} .
المسألة الثانية : قال الحسن : هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف ، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء ، وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : أي الجهاد أفضل ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة ، فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول : قوله {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما دخلت الفاء في قوله {فَبَشِّرْهُم} مع أنه خبران ، لأنه في معنى الجزاء والتقدير : من يكفر فبشرهم.
(1/1115)
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
المسألة الثانية : هذا محمول على الاستعارة ، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم ، والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (البقرة : 25).
النوع الثاني من الوعيد : قوله { أولئك الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} .
اعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة ، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن ، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي ، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم ، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.
النوع الثالث من وعيدهم : قوله تعالى : {وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ} .
اعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه /لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم.
جزء : 7 رقم الصفحة : 173
178
اعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله {فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ} (آل عمران : 20) بيّن في هذه الآية غاية عنادهم ، وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به ، وهو التوراة ثم إنهم يتمردون ، ويتولون ، وذلك يدل على غاية عنادهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ظاهر قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ} يتناول كلهم ، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم ، إلا أنه قد دلّ دليل آخر ، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران : 113).
المسألة الثانية : قوله تعالى : {أوتوا نصيباً من الكتاب المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى ، وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق ، ومن عند الله.
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها : روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا ، وكانا ذوي شرف ، وكان في كتابهم الرجم ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه وسلّم بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم ؟
قالوا : عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة ، فلما أتى /على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابن سلام : قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بهما فرجما ، فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
جزء : 7 رقم الصفحة : 178
والرواية الثانية : أنه صلى الله عليه وسلّم دخل مدرسة اليهود ، وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا : على أي دين أنت ؟
فقال : على ملة إبراهيم ، فقالوا : إن إبراهيم كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلّم : هلموا إلى التوراة ، فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرواية الثالثة : أن علامات بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم مذكورة في التوراة ، والدلائل الدالة على صحة نبوّته موجودة فيها ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلّم إلى التوراة ، وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم ، فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى : {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاـاةِ فَاتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ} (آل عمران : 93) وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته ، إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك.
والرواية الرابعة : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى ، وذلك لأن دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم كانت موجودة في التوراة والإنجيل/ وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون.
أما قوله {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ} فالمراد منه نصيباً من علم الكتاب ، لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب ، لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه.
أما قوله تعالى : {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَـابِ اللَّهِ} ففيه قولان :
القول الأول : وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن.
فإن قيل : كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به ؟
.
(1/1116)
قلنا : إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله.
والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين : إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول : أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني : أنه تعالى عجب رسوله صلى الله عليه وسلّم من تمردهم وإعراضهم ، والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته ، ويقرون بحقيته الثالث : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية ، وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ ، وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا /ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق.
جزء : 7 رقم الصفحة : 178
وأما قوله {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} فالمعنى : ليحكم الكتاب بينهم ، وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور ، وقرىء {لِيَحْكُمَ} على البناء للمفعول ، قال صاحب "الكشاف" : وقوله {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء.
ثم قال : {وَهُم مُّعْرِضُونَ} وفيه وجهان :
الأول : المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم ، كأنه قيل : ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي صلى الله عليه وسلّم لأجل تولي علمائهم.
والثاني : أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب ، كأنه قيل : لا تظن أنه تولى عن هذه المسأُلة بل هو معرض عن الكل.
وأما قوله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } (آل عمران : 24) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة ، ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} قال في هذه الآية : ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ، قال الجبائي : وفيها دلالة على بطلان قول من يقول : إن أهل النار يخرجون من النار ، قال : لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم ، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً ، ولما استحق الذم ، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل.
وأقول : كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام ، وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى ، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم.
سلمنا أنه يلزم ذلك ، لكن لم قلتم : إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أُخر الأول : لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة/ فإنه روي أنهم كانوا يقولون : مدة عذابنا سبعة أيام ، ومنهم من قال : بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ ، لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم ، لأنه كافر ، والكافر عذابه دائم والثالث : أنهم لما قالوا {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } فقد استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ /العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 178
أما قوله تعالى : {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فقيل : هو قولهم {نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُه } (المائدة : 18) وقيل : هو قولهم {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } وقيل : غرهم قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل.
(1/1117)
أما قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ، ويكشف فيه ذلك الغرور فقال {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} وفي الكلام حذف ، والتقدير : فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيراً مع كيف لدلالته عليها تقول : كنت أكرمه وهو لم يزرني ، فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني ، واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل : لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية.
أما قوله تعالى : {إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ} ولم يقل في يوم ، لأن المراد : لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه ، قال الفرّاء : اللام لفعل مضمر إذا قلت : جمعوا ليوم الخميس ، كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت : جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلاً وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب ، وقوله {لا رَيْبَ فِيه } أي لا شك فيه.
ثم قال : {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف ، والتقدير : ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب ، وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار.
ثم قال : {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فلا ينقص من ثواب الطاعات ، ولا يزاد على عقاب السيئات.
واعلم أن قوله {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} يستدل به القائلون بالوعيد ، ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار ، أما الأولون قالوا : لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة ، والآية دلّت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت ، وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة.
جزء : 7 رقم الصفحة : 178
وجوابنا : أن هذا من العمومات ، وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات.
وأما أصحابنا فإنهم يقولون : إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك /الثواب لقوله {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع ، وإما أن يقال : يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبداً مخلداً وهو المطلوب.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم ؟
.
قلنا : هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة ، وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر ، والمنازع فيه مكابر ، فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر ، وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول : ثواب إيمان لحظة ، يسقط كفر سبعين سنة ، فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة ، ولا شك أنه كلام ظاهر.
جزء : 7 رقم الصفحة : 178
(1/1118)
185
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة ، وصحة دين الإسلام ، ثم قال لرسوله {فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله ، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق ، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ} (آل عمران : 23) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } (آل عمران : 24) ثم ذكر وعيدهم بقوله {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} (آل عمران : 25) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه ، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين ، فقال معلماً نبيّه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب {قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ} وفي الآية مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
المسألة الأولى : اختلف النحويون في قوله {اللَّهُمَّ} فقال الخليل وسيبويه {اللَّهُمَّ} معناه : يا الله ، والميم المشددة عوض من : يا ، وقال الفرّاء : كان أصلها ، يا الله أم بخير : فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء ، وحذفوا الهمزة من : أم ، فصار {اللَّهُمَّ} ونظيره قول العرب : هلم ، والأصل : هل ، فضم : أم إليها ، حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه الأول : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال : اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف ، لأن التقدير : /يا الله أمنا واغفر لنا ، ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف والثاني : وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال ، لجاز أن يتكلم به على أصله ، فيقال {اللَّهِ إِمَّا} كما يقال ثم يتكلم به على الأصل فيقال {كُلُّ أُمَّةٍ} الثالث : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً ، فكان يجوز أن يقال : يا اللّهم ، فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن هذه الوجوه ، فقال : أما الأول فضعيف ، لأن قوله {لامْرِ اللَّهِ إِمَّا} معناه : يا الله اقصد ، فلو قال : واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما : قوله {مِنْ} والثاني : قوله {وَاغْفِرْ لَنَآ } أما إذا حذفنا العطف صار قوله : اغفر لنا تفسيراً لقوله : أمنا. فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد ، ونظائره كثيرة في القرآن ، وأما الثاني فضعيف أيضاً ، لأن أصله عندنا أن يقال : يا الله أمنا. ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك ، وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله : ما أكرمه ، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا ، وأما الثالث : فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ : يا اللّهم وأنشد الفرّاء :
وأما عليك أن تقولي كلما
سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين : إن هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن ، وأما قوله : كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} (يوسف : 46) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف ، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى ، وهذا غير جائز ألبتة ، فإنه لا يقال ألبتة (الله يا) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء ، حتى يقال : زيدم وبكرم ، كما يجوز أن يقال : يا زيد ويا بكر والثالث : لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع : لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها ، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز ، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
المسأل الثانية : {مَـالِكَ الْمُلْكِ} في نصبه وجهان الأول : وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء ، وكذلك قوله {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الزمر : 46) ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله {اللَّهُمَّ} لأن قولنا {اللَّهُمَّ} مجموع الاسم والحرف ، وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني : وهو /قول المبرد والزجاج أن {مُلْكُ} وصف للمنادى المفرد ، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه ولا يمتنع الصفة مع الميم ، كما لا يمتنع مع الياء.
(1/1119)
المسألة الثالثة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم ، وهم أعز وأمنع من ذلك ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً ، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فخبره ، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبّر وكبر المسلمون ، وقال عليه الصلاة والسلام : "أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب" ثم ضرب الثانية ، فقال : "أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم" ثم ضرب الثالثة فقال : "أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا" فقال المنافقون : ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم ، وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء ، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم.
المسألة الرابعة : {وَقَالَ الْمَلِكُ} هو القدرة ، والمالك هو القادر ، فقوله {مَـالِكَ الْمُلْكِ} معناه القادر على القدرة ، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ، ويملك كل مالك مملوكه ، قال صاحب "الكشاف" {مَـالِكَ الْمُلْكِ} أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه {مَـالِكَ الْمُلْكِ} على الإطلاق ، فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة :
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
النوع الأول : قوله تعالى : {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} وذكروا فيه وجوهاً الأول : المراد منه : ملك النبوّة والرسالة ، كما قال تعالى : {فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} (النساء : 54) والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم ، وأن يعتقد أنه هو الحق ، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء : 94) وقال الله /تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا} (الأنعام : 9) وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر ، إلا أنهم كانوا يقولون : إن محمداً فقير يتيم ، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا {لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا ، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلّم ؟
وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة ، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله {مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ا فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ} (النساء : 37).
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَا وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران : 12) أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلّم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء ، فقال {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} .
فإن قيل : فإذا حملتم قوله {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ} على إيتاء ملك النبوّة ، وجب أن تحملوا قوله {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً ، ومعلوم أن ذلك لا يجوز.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
قلنا : الجواب من وجهين الأول : أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل ، فإذا أخرجها الله من نسله ، وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل ، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل ، فلما شرف الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بها ، صح أن يقال : إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب.
(1/1120)
والجواب الثاني : أن يكون المراد من قوله {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ، ونظيره قوله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } (البقرة : 257) مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط ، وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } (الأعراف : 88) وأولئك الأنبياء قالوا {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ} (الأعراف : 89) مع أنهم ما كانوا فيها قط ، فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى : {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ} بملك النبوة.
القول الثاني : أن يكون المراد من الملك ، ما يسمى ملكاً في العرف ، وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها : تكثير المال والجاه ، أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع ، والحرث ، والنسل ، وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيباً عن الناس ، مقبول القول ، مطاعاً في الخلق والثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته ، وتحت أمره ونهيه والثالث : أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد ، قدر على قهر ذلك المنازع ، وعلى غلبته ، ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى ، أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم /مع الكد الشديد ، والعناء العظيم قليل من المال ، ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته ، وأما الجاه فالأمر أظهر ، فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه ، وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية ، وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب ، ينقاد له الصغير والكبير ، ويتواضع له القاصي والداني ، وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة ، فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده ، وأما القسم الثالث ، وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى ، فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
واعلم أن المعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} ليس على سبيل المختارية ، ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ، ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 124) وقال في حق العبد الصالح {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } (البقرة : 247) فجعله سبباً للملك ، وقال الجبائي : هذا الحكم مختص بملوك العدل ، فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله ، وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك ، فأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به ، وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا ، قالوا : وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه : منها بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدر والحواس ، ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ، ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة ، فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى ، لأنه وقع عن أمره ، وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول ، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب.
واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم ، إما أن يقال : إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب ، أو إنما حصل بالأسباب الربانية ، والأول : نفي للصانع والثاني : باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى ، وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس ، وتميل إليه القلوب ، ويكون النصر قريناً له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده/ وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك /اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ، ولذلك قال حكيم الشعراء :
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بأجل أسباب السماء تعلقي
من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
(1/1121)
والقول الثاني : أن قوله {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ} محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة ، وملك العلم ، وملك العقل ، والصحة والأخلاق الحسنة ، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
وأما قوله تعالى : {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } فاعلم أن العزة قد تكون في الدين ، وقد تكون في الدنيا ، أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون : 8) إذا ثبت هذا فنقول : لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد ، لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به ، ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه ، ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً ، فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله ، والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله ، وهذا وجه قوي في المسألة ، قال القاضي : الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين ، وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملاً على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة ، وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة ، وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب ، وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق.
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه إلهاً للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلهية نفسه عن الزوال فأما العبد ، فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه ، فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم.
أما قوله {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } فقال الجبائي في "تفسيره" : إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحداً من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم ، لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة ، إما بالثواب ، وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما : إنهما تعذيب ، /قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (المائدة : 54).
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
إذا عرفت هذا فنقول : إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة ، ومنها بأن يجعلهم خولاً لأهل دينه ، ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة/ ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة ، ويذل البعض بالكفر والضلالة ، وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه الأول : وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل ، لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه ، بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل ، علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد الثاني : وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال : يفعله العبد ابتداء ، والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال ، فبقي أن يقال : تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه الثالث : ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً ، وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالاً ، فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى.
أما قوله تعالى : {بِيَدِكَ الْخَيْرُ } .
(1/1122)
فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة ، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم ، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات ، وأيضاً فقوله {بِيَدِكَ الْخَيْرُ } يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك ، كما أن قوله تعالى : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} (الكافرين : 6) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره ، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه ، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه ، إذا عرفت هذا فنقول : أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته ، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد ، وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال : كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر ، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير ، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى ، وفي الفضيلة والكمال ، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
فإن قيل : فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال : {بِيَدِكَ الْخَيْرُ } كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير ، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله.
والجواب : أن قوله {بِيَدِكَ الْخَيْرُ } يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره ، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي : كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه ، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى ، ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد ، وذلك على خلاف هذا النص.
أما قوله {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال.
أما قوله تعالى : {تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ } فيه وجهان الأول : أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني : أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار ، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر ، والأول أقرب إلى اللفظ ، لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل.
وأما قوله {وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة والكسائي {الْمَيِّتِ} بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، قال المبرد : أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا :
إنما الميت ميت الأحياء
وهو مثل قوله : هين وهين ، ولين ولين ، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات ، والميت من لم يمت.
المسألة الثانية : ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني : يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث : يخرج الحيوان من النطفة ، والطير من البيضة وبالعكس والرابع : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس ، والنخلة من النواة وبالعكس ، قال القفال رحمه الله : والكلمة محتملة /للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعل قبل ذلك ميتة فقال {فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَـارِ رَحْمَتِ} (الروم : 19) وقال : {فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } (فاطر : 9) وقال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة : 28).
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
(1/1123)
أما قوله {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ففيه وجوه الأول : أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد ، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني : ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود ، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال : فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة ، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان : عنده مال لا يحصى والثالث : ترزق من تشاء بغير حساب ، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب ، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى : إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
0
في كيفية النظم وجهان الأول : أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى ، ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله قال : {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الثاني : لما بيّن أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده ، وعند أوليائه دون أعدائه.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في سبب النزول وجوه الأول : جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الرحمن بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر /من المسلمين : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية والثاني : قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية الثالث : أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود ، ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية.
فإن قيل : إنه تعالى قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ} وهذه صفة الكافر.
قلنا : معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء ، وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين.
واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى : {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران : 118) وقوله {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَه } (المجادلة : 22) وقوله {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـارَى ا أَوْلِيَآءَا } وقوله {الْحَكِيمُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} (الممتحنة : 1) وقال : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71).
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
واعلم أن كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله ، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين ، وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر ، فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة.
فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ} وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية ، لأنه تعالى قال : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فلا بد وأن يكون خطاباً في شيء يبقى المؤمن معه مؤمناً وثانيها : المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر ، وذلك غير ممنوع منه.
والقسم الثالث : وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة ، والمظاهرة ، والنصرة إما بسبب القرابة ، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه ، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه ، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ} .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين ، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه ، وأيضاً فقوله {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} فيه زيادة مزية ، لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه موالياً فالنهي عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل مولاته.
/قلنا : هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلّت على سقوط هذين الاحتمالين.
المسألة الثانية : إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي ، وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج : ولو رفع على الخبر لجاز ، ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً.
(1/1124)
واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر ، ومتى كان منهياً عن ذلك ، كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك.
المسألة الثالثة : قوله {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } أي من غير المؤمنين كقوله {وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (البقرة : 23) أي من غير الله ، وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه ، ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملاً في معنى غير ، ثم قال تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ} وفيه حذف ، والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً ، وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي ، وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى : فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ.
ثم قال تعالى : {إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَـاـاةً } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الكسائي : تقاة بالإمالة ، وقرأ نافع وحمزة : بين التفخيم والإمالة ، والباقون بالتفخيم ، وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء ، وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة ، ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف.
المسألة الثانية : قال الواحدي : تقيته تقاة ، وتقى ، وتقية ، وتقوى ، فإذا قلت اتقيت كان مصدره الاتقياء ، وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر ، كما يقال : جلس جلسة ، وركب ركبة ، وقال الله تعالى : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران : 37) وقال الشاعر :
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فأجراه مجرى الإعطاء ، قال : ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالاً مؤكدة.
المسألة الثالثة : قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟
قال : نعم نعم نعم ، فقال : أفتشهد أني رسول الله ؟
/قال : نعم ، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ومحمد رسول قريش ، فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله ؟
قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله ؟
فقال : إني أصم ثلاثا ، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى : {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} (النحل : 106).
المسألة الرابعة : اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها.
الحكم الأول : أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يعرض في كل ما يقول ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
الحكم الثاني للتقية : هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل ، ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
الحكم الثالث للتقية : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين ، فذلك غير جائز ألبتة.
الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله صلى الله عليه وسلّم : "حرمة مال المسلم كحرمة دمه" ولقوله صلى الله عليه وسلّم : "من قتل دون ماله فهو شهيد" ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم.
الحكم السادس : قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا ، وروى عوف عن الحسن : أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذا القول أولى ، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
(1/1125)
ثم قال تعالى : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } وفيه قولان الأول : أن فيه محذوفاً ، والتقدير : ويحذركم الله عقاب نفسه ، وقال أبو مسلم المعنى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } أن تعصوه فتستحقوا عقابه /والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال : ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره ، فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه ، ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له ، وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد.
والقول الثاني : أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار ، أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل.
ثم قال : {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} والمعنى : إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
0
اعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية ، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة ، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن ، فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر ، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه ، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : هذه الآية جملة شرطية فقوله {إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} شرط وقوله {يَعْلَمْهُ اللَّه } جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه ، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى.
والجواب : أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم ، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام.
السؤال الثاني : محل البواعث والضمائر هو القلب ، فلم قال : {إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ} ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم ؟
.
الجواب : لأن القلب في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال : {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} (الناس : 5) وقال : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46).
السؤال الثالث : إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق.
الجواب : ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِا وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّه } (البقرة : 284).
ثم قال تعالى : {وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } .
واعلم أنه رفع على الاستئناف ، وهو كقوله {قَـاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} (التوبة : 14) جزم الأفاعيل ، ثم قال : {وَيَتُوبَ اللَّهُ} فرفع ، ومثله قوله {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَا وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ} (الشورى : 24) رفعاً ، وفي قوله {وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إتماماً للتحذير ، وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه ، وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب ، ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات ، فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 185
195
اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب ، ومن تمام الكلام الذي تقدم.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في العامل في قوله {يَوْمٍ} وجوهاً الأول : قال ابن الأنباري : اليوم متعلق بالمصير والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد الثاني : العامل فيه قوله {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } في الآية السابقة ، كأنه قال : ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث : العامل فيه قوله /{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ، وخص هذا اليوم بالذكر ، وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلاً له لعظم شأنه كقوله {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) الرابع : أن العامل فيه قوله {تَوَدُّ} والمعنى : تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس : يجوز أن يكون منتصباً بمضمر ، والتقدير : واذكر يوم تجد كل نفس.
(1/1126)
المسألة الثانية : اعلم أن العمل لا يبقى ، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة ، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين الأول : أنه يجد صحائف الأعمال ، وهو قوله تعالى : {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية : 29) وقال : {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ا أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه } (المجادلة : 6) الثاني : أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى : {مُّحْضَرًا} يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن جزاء العمل يكون محضراً ، كقوله {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } (الكهف : 49) وعلى كلا الوجهين ، فالترغيب والترهيب حاصلان.
أما قوله : {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَه ا أَمَدَا بَعِيدًا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الأظهر أن يجعل {مَآ} ههنا بمنزلة الذي ، ويكون {عَمِلَتْ} صلة لها ، ويكون معطوفاً على {مَآ} الأول ، ولا يجوز أن تكون {مَآ} شرطية ، وإلا كان يلزم أن ينصب {تَوَدُّ} أو يخفضه ، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع ، فكان هذا دليلاً على أن {مَآ} ههنا بمعنى الذي.
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
فإن قيل : فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ، ودت.
قلنا : لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع ، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم ، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة.
المسألة الثانية : الواو في قوله {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ} فيه قولان الأول : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : الواو واو العطف ، والتقدير : تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء ، وأما قوله {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَه ا أَمَدَا بَعِيدًا } ففيه وجهان الأول : أنه صفة للسوء ، والتقدير : وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني : أن يكون حالاً ، والتقدير : يوم تجد ما عملت من سوء محضراً حال ما تود بعده عنها.
والقول الثاني : أن الواو للاستئناف ، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين ، وموضع الكرم واللطف هذا ، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضراً وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد.
المسألة الثالثة : الأمد ، الغاية التي ينتهي إليها/ ونظيره قوله تعالى : {قَالَ يَـالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (الزخرف : 38).
/واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم ، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان ، إذ المقصود تمني بعده ، ثم قال : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } وهو لتأكيد الوعيد. ثم قال : {وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ} وفيه وجوه الأول : أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه ، وعرفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يمهل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه ، قال الحسن : ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني : أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث : أنه لما قال : {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه } وهو للوعيد أتبعه بقوله {وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ} وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته ، غالب على وعيده وسخطه والرابع : وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص ، قال تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا} (الفرقان : 63) وقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6) فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال : {وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ} أي كما هو منتقم من الفساق ، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين.
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
0
(1/1127)
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به ، والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد ، دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون {نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُه } (المائدة : 18) فنزلت هذه الآية ، ويروى أنه صلى الله عليه وسلّم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال : يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى ، فنزلت هذه الآية ، ويروى أن النصارى قالوا : إنما نعظم المسيح حباً لله ، فنزلت هذه الآية ، وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله ، ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله صلى الله عليه وسلّم : قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته ، وتقدير الكلام : أن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ، وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم وجبت متابتعه ، فإن لم تحصل هذه المتابعة دلّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما الكلام المستقصى في المحبة ، فقد تقدم في تفسير قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه } (البقرة : 165) والمتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله ، أو محبة طاعته ، أو محبة ثوابه ، قالوا : لأن المحبة من جنس الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع.
واعلم أن هذا القول ضعيف ، وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور ، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً بالذات ، كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها ، فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته ، وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل ، بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها ، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته ، كما أن اللذة محبوبة لذاتها ، وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى ، فكان ذلك يقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون : وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
المسألة الثانية : القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى ، وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى ، والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين أحدهما : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ، لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي الثاني : إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله ، والله تعالى يحب كل من أطاعه ، وأيضاً فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره ، ومن أحب الله كان راغباً فيه ، لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب ، والإعراض بالكلية عن غير المحبوب.
المسألة الثالثة : خاض صاحب "الكشاف" في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى/ نسأل الله العصمة والهداية ، ثم قال تعالى : {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب ، ومن غفران ذنبه إزالة العقاب ، وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل ، ثم قال : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه.
جزء : 8 رقم الصفحة : 195
198
يروى أنه لما نزل قوله {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الآية قال عبد الله بن أُبي : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ، فنزلت هذه الآية ، وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ، ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين ، وهي أن محمداً يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى ، ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة ، فقال : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ، ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبه التي ألقاها المنافق في الدين.
ثم قال تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ} يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله ، لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه ، ومن كفر استوجب الذلة والإهانة ، وذلك ضد المحبة والله أعلم.
(1/1128)
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
0
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ا ءَادَمَ} وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المخلوقات على قسمين : المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف ، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة : الملائكة ، والإنس والجن ، والشياطين ، أما الملائكة ، فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول : أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني : لهذا السبب قدروا على حمل العرش ، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث : لهذا السبب سموا روحانيين ، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور ، ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول : أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السموات ، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى : {وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ} (البقرة : 34) وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى : {وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِهِمْ لِيُجَـادِلُوكُم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام : 121) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه ا أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّا } (الكهف : 50) وقال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} (الأنعام : 112) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} (الأعراف : 12) وقال : {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (الحجر : 27) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن ، قال تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَا فَمَنْ أَسْلَمَ فَ أولئك تَحَرَّوْا رَشَدًا} (الجن : 14) أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول ، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم صلى الله عليه وسلّم على ما قال تعالى في هذه السورة {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ} (آل عمران : 59) وقال : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء : 1).
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
إذا عرفت هذا فنقول : اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين ، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة ، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى : {اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا } (الأعراف : 11) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية ، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة ، فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين.
فإن قيل : إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال/ ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض ، فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ} (البقرة : 47) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلّم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم ، والجواب ظاهر في قوله : اصطفى آدم على العالمين ، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك ، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه ، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل.
المسألة الثانية : {اصْطَفَى } في اللغة اختار ، فمعنى : اصطفاهم ، أي جعلهم صفوة خلقه ، تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ، ويقال على ثلاثة أوجه : صفوة ، وصفوة وصفوة ، ونظير هذه الآية قوله لموسى {إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـالَـاتِي} (الأعراف : 144) وقال في إبراهيم {وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ * إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ} (ص : 47).
(1/1129)
إذا عرفت هذا فنقول. في الآية قولان الأول : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم ، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني : أن يكون المعنى : إن الله اصطفاهم ، أي صفاهم من الصفات الذميمة ، وزينهم بالخصال /الحميدة ، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما : أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني : أنه موافق لقوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} (الأنعام : 124) وذكر الحليمي في كتاب "المنهاج" أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية ، والقوى الروحانية ، أما القوى الجسمانية ، فهي إما مدركة ، وإما محركة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
أما المدركة : فهي إما الحواس الظاهرة ، وإما الحواس الباطنة ، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها : القوة الباصرة ، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلّم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول : قوله صلى الله عليه وسلّم : "زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها" والثاني : قوله صلى الله عليه وسلّم : "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (الأنعام : 75) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله : وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام ، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى الله عليه وسلّم أقوى من بصرها وثانيها : القوة السامعة ، وكان صلى الله عليه وسلّم أقوى الناس في هذه القوة ، ويدل عليه وجهان أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلّم : "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى" فسمع أطيط السماء والثاني : أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن ، قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا ، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك ، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النمل : 18) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم ، وكان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها : تقوية قوة الشم/ كما في حق يعقوب عليه السلام ، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه ، فلما فصلت العير قال يعقوب {إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } (يوسف : 94) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها : تقوية قوة الذوق ، كما في حق رسولنا صلى الله عليه وسلّم حين قال : "إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم" وخامسها : تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه ، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة ، وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ ، قال تعالى : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } (الأعلى : 6) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام : "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب" فإذا كان حال الولي هكذا ، فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
وأما القوى المحركة : فمثل عروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المعراج ، وعروج عيسى حياً /إلى السماء ، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار ، وقال الله تعالى : {قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِه قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } (النمل : 40).
وأما القوى الروحانية العقلية : فلا بد وأن تكون في غاية الكمال ، ونهاية الصفاء.
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء ، والفطنة ، والحرية ، والاستعلاء ، والترفع عن الجسمانيات والشهوات ، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف ، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن ، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.
(1/1130)
إذا عرفت هذا فقوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ا ءَادَمَ وَنُوحًا} معناه : إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول : الملك أفضل من البشر ، أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول : البشر أشرف المخلوقات ، ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام ، هم شيث وأولاده ، إلى إدريس ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق ، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين : يعقوب وعيصو ، فوضع النبوّة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيصو ، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلّم ، فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلّم نقل نور النبوّة ونور الملك إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة ، ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
المسألة الثالثة : من الناس من قال. المراد بآل إبراهيم المؤمنون ، كما في قوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} (غافر : 46) والصحيح أن المراد بهم الأولاد ، وهم المراد بقوله تعالى : {إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 124) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون ، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء ، ومنهم من قال : بل المراد : عمران بن ماثان والد مريم ، وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا ، وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، قالوا. وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة/ واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها : أن المذكور عقيب قوله {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ا ءَادَمَ} هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم ، فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها : أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه ، فالله تعالى يقول : إنما ظهرت على يده إكراماً من الله تعالى إياه بها ، وذلك لأنه /تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة ، فكان حمل هذا الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها : أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى : {وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 91) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية ، بل هي أمور ظنية ، وأصل الاحتمال قائم.
أما قوله تعالى : {ذُرِّيَّةَا بَعْضُهَا مِنا بَعْضٍ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في نصب قوله {ذُرِّيَّةِ} وجهان الأول : أنه بدل من آل إبراهيم والثاني : أن يكون نصباً على الحال ، أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض.
المسألة الثانية : في تأويل الآية وجوه الأول : ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة ، ونظيره قوله تعالى : {الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ } (التوبة : 67) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق والثاني : ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام ، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فقال القفال : المعنى والله سميع لأقوال العباد ، عليم بضمائرهم وأفعالهم ، وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ، ونظيره قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} (الأنعام : 124) وقوله {زَوْجَه ا إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَـاشِعِينَ} (الأنبياء : 90) وفيه وجه آخر : وهو أن اليهود كانوا يقولون : نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران ، فنحن أبناء الله وأحباؤه ، والنصارى كانوا يقولون : المسيح ابن الله ، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلام باطل ، إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصراً عليه ، فالله تعالى كأنه يقول : والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم ، عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها ، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياء والرسل ، وآخرها تهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم.
واعلم أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قصصاً كثيرة :
القصة الاولى
واقعة حنة أم مريم عليهما السلام
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
0
/وفيه مسائل :
(1/1131)
المسألة الأولى : في موضع {إِذْ} من الإعراب أقوال الأول : قال أبو عبيدة : إنها زائدة لغواً ، والمعنى : قالت امرأة عمران ، ولا موضع لها من الإعراب ، قال الزجاج : لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً ، لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى ، ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة والثاني : قال الأخفش والمبرد : التقدير اذكر {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} ومثله في كتاب الله تعالى كثير الثالث : قال الزجاج ، التقدير : واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران ، وطعن ابن الأنباري فيه وقال : إن الله تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح ، ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحاً قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال : إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهرر عند وجوده ، وظهور طاعاته ، فجاز أن يقال : إن الله اصطفى آدم عند وجوده ، ونوحاً عند وجوده ، وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع : قال بعضهم : هذا متعلق بما قبله ، والتقدير : والله سميع عليم إذ قالت امرأة /عمران هذا القول.
فإن قيل : إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول ، فما معنى هذا التقييد ؟
قلنا : إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات.
المسألة الثانية : أن زكريا بن أذن ، وعمران بن ماثان ، كانا في عصر واحد ، وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ ، وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم ، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة ، ثم في كيفية هذا النذر روايات :
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
الرواية الأولى : قال عكرمة. إنها كانت عاقراً لا تلد ، وكانت تغبط النساء بالأولاد ، ثم قالت : (اللّهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته).
والرواية الثانية : قال محمد بن إسحاق : إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت ، وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد ، فدعت ربها أن يهب لها ولداً فحملت بمريم ، وهلك عمران ، فلما عرفت جعلته لله محرراً ، أي خادماً للمسجد ، قال الحسن البصري : إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي.
المسألة الثالثة : المحرر الذي جعل حراً خالصاً ، يقال : حررت العبد إذا خلصته عن الرق ، وحررت الكتاب إذا أصلحته ، وخلصته فلم تبق فيه شيئاً من وجوه الغلط ، ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه تعلق/ والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصاً للعبادة عن الشعبي ، وقيل : خادماً للبيعة ، وقيل : عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله ، وقيل : خادماً لمن يدرس الكتاب ، ويعلم في البيع ، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً على طاعة الله ، قال الأصم : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا ، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى ، وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير بين المقام والذهاب ، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس.
المسألة الرابعة : هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض ، والأذى ، ثم إن حنة نذرت مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر.
/المسألة الخامسة : في انتصاب قوله {مُحَرَّرًا} وجهان الأول : أنه نصب على الحال من {مَآ} وتقديره : نذرت لك الذي في بطني محرراً والثاني : وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
ثم قال الله تعالى حاكياً عنها : {فَتَقَبَّلْ مِنِّى ا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} التقبل : أخذ الشيء على الرضا ، قال الواحدي : وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء ، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته ، ثم قالت {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والمعنى : أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي ، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي.
واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا ، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام.
(1/1132)
قال تعالى : {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} واعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائداً إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالماً بأنها كانت أنثى أو يقال : إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال : عادت إلى المنذورة.
ثم قال تعالى : {قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى } واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها ، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت {رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى } خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى ، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها ، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار.
ثم قال الله تعالى : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر {وَضَعَتْ} برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها ، والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت {إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى } خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى ، فأزالت الشبهة بقولها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام ، والباقون بالجزم على أنه كلام الله ، وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال : والله أعلم بما وضعت تعظيماً لولدها ، وتجهيلاً لها بقدر ذلك الولد ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت/ وفي قراءة ابن عباس {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} على خطاب الله لها ، أي : أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
ثم قال تعالى حكاية عنها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالانثَى } وفيه قولان الأول : أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى ، وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها : أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني : أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ، ولا يصح /ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث : الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع : أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس : أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى.
والقول الثاني : أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر ، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى ، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله ، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه.
ثم حكى تعالى عنها كلاماً ثانياً وهو قولها {وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وفيه أبحاث :
البحث الأول : أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم ، فلذلك تولت الأم تسميتها ، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء.
البحث الثاني : أن مريم في لغتهم : العابدة ، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا ، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} .
البحث الثالث : أن قوله {وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} معناه : وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسماً لها ، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة.
ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثالثاً وهو قولها {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم ، وأن يجعلها من الصالحات القانتات ، وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب.
ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ} وفيه مسألتان :
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
(1/1133)
المسألة الأولى : إنما قال {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ولم يقل : فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى : {وَاللَّهُ أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} (نوح : 17) أي إنباتاً ، والقبول مصدر قولهم : قبل فلان الشيء قبولاً إذا رضيه ، قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على فعول : قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ ، إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم ، وأجاز الفراء والزجاج : قبولاً بالضم ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال : قبلته قبولاً وقبولا ، وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة ، فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول.
/فإن قيل : فلم لم يقل : فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل ؟
والجواب : أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع ، أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة/ ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع ، بل على وفق الطبع ، وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى ، إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها ، وهذا الوجه مناسب معقول.
المسألة الثانية : ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً :
الوجه الأول : أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها" ثم قال أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ} طعن القاضي في هذا الخبر وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده ، وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني : أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث : لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع : أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره ، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه ، واعلم أن هذه الوجوه محتملة ، وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
الوجه الثاني : في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن ، ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، وقالت : خذوا هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها ، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح ، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ، ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا.
الوجه الثالث : روى القفال عن الحسن أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الجنة.
الوجه الرابع : في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة /قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد ، فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن.
ثم قال الله تعالى : {وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} قال ابن الأنباري : التقدير أنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا ، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين ، أما الأول فقالوا : المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد ، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة.
ثم قال الله تعالى : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : كفل يكفل كفالة وكفلاً فهو كافل ، وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه ، وفي الحديث "أنا وكافل اليتيم كهاتين" وقال الله تعالى : {أَكْفِلْنِيهَا} .
(1/1134)
المسألة الثانية : قرأ عاصم وحمزة والكسائي {وَكَفَّلَهَا} بالتشديد ، ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد ، وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا ، فمن قرأ (زكرياء) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه/ وهو الاختيار ، لأن هذا مناسب لقوله تعالى : {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وعليه الأكثر ، وعن ابن كثير في رواية بكسر الفاء ، وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان ، كالهيجاء والهيجا ، وقرأ مجاهد {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا} على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ، ونصب {رَبُّهَا} كأنها كانت تدعو الله فقالت : اقبلها يا ربها ، وأنبتها يا ربها ، واجعل زكريا كافلاً لها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
المسألة الثالثة : اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفوليتها ، وبه جاءت الروايات ، وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن فطمت ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال : {وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} ثم قال : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني : أنه تعالى قال : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة ، وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً.
وأما الحجة الثانية : فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة.
ثم قال الله : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {الْمِحْرَابَ} الموضع العالي الشريف ، قال عمر بن أبي ربيعة :
ربة محراب إذا جئتها
لم أدن حتى أرتقي سلما
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص : 21) والتسور لا يكون إلا من علو ، وقيل : المحراب أشرف المجالس وأرفعها ، يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية ، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم : أنى لك هذا ؟
قالت هو من عند الله ، فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة ، أو لا يكون ، فإن قلنا : إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول : أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلاً على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ا قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه } أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث : أن التنكر في قوله {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } يدل على تعظيم حال ذلك الرزق ، كأنه قيل : رزقاً. أي رزق غريب عجيب ، وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة الرابع : هو أنه تعالى قال : {وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ} (الأنبياء : 91) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق ، وإلا لم يصح ذلك.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر ؟
(1/1135)
قلنا : ليس هذا بآية ، بل يحتاج تصحيحه إلى آية ، فكيف نحمل الآية على ذلك ، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها ، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس : ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلاً خارقاً للعادة ، فنقول : إما أن يقال : إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام ، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه ، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم {أَنَّى لَكِ هَـاذَا } وأيضاً فقوله تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه } مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من /المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم ، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال : إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام ، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء.
اعترض أبو علي الجبائي وقال : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام ، وبيانه من وجهين الأول : أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً ، وأنه ربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها {أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه } فعنذ ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني : يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت هو من عند الله لا من عند غيره.
المقام الثاني : أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات ، بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات ، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال ، هذا مجموع ما قاله الجبائي في "تفسيره" وهو في غاية الضعف ، لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يبق أيضاً لقوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه } فائدة ، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني.
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة ، وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق.
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء ، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم.
والجواب من وجوه الأول : وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي ، فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً ، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني : قال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون /بإخفائها والثالث : وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به ، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام : {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم ، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى ، وقوله {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير تقدير لكثرته ، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها ، وهذا كقوله {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق : 3) وههنا آخر الكلام في قصة حنة.
القصة الثانية
واقعة زكريا عليه السلام
جزء : 8 رقم الصفحة : 198
208
في الآية مسائل :
(1/1136)
المسألة الأولى : اعلم أن قولنا : ثم ، وهناك ، وهنالك ، يستعمل في المكان ، ولفظة : عند ، وحين يستعملان في الزمان ، قال تعالى : {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَـاغِرِينَ} (الأعراف : 119) وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه ، وقال تعالى : {وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (الفرقان : 13) أي في ذلك المكان الضيق ، ثم قد يستعمل لفظة {هُنَالِكَ} في الزمان أيضاً ، قال تعالى : {هُنَالِكَ الْوَلَـايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } (الكهف : 44) فهذا إشارة إلى الحال والزمان.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه } إن حملناه على المكان فهو جائز ، أي في ذلك المكان الذي كان قاعداً فيه عند مريم عليها السلام ، وشاهد تلك الكرامات دعا ربه ، وإن حملناه على الزمان فهو أيضاً جائز ، يعني في ذلك الوقت دعا ربه.
المسألة الثانية : اعلم أن قوله {هُنَالِكَ دَعَا} يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء ، وقد اختلفوا فيه ، والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا : هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء ، ومن فاكهة الشتاء في الصيف ، فلما رأى خوارق العادات عندها ، طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد /من الزوجة الشيخة العاقر.
والقول الثاني : وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء ، وإرهاصات الأنبياء قالوا : إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك ، واعلم أن القول الأول أولى ، وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات ، فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة ، وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلاً خارقاً للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم ، والزوجة العاقر من خوارق العادات ، فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 208
فإن قيل : إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام.
فإن قلنا : إنه كان عالماً بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباً لزيادة علمه بقدرة الله تعالى ، فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك ، فلا يبقى لقوله هنالك أثر.
والجواب : أنه كان قبل ذلك عالماً بالجواز ، فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي ، فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات.
المسألة الثالثة : إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن ، لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة ، فحينئذ تصير دعوته مردودة ، وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، هكذا قاله المتكلمون ، وعندي فيه بحث ، وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً ، وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب ، فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية ، ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب ، وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق.
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام : {هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أما الكلام في لفظة {لَّدُنْ} فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى : أُريد منك إلهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب.
/المسألة الثانية : لذرية النسل ، وهو لفظ يقع على الواحد ، والجمع ، والذكر والأنثى ، والمراد منه ههنا : ولد واحد ، وهو مثل قوله {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} (مريم : 5) قال الفراء : وأنث {طَيِّبَةً} لتأنيث الذرية في الظاهر ، فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ ، وتارة على المعنى ، وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس ، أما في أسماء الأعلام فلا ، لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة ، لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص ، فإذا كان ذلك الشخص مذكراً لم يجز فيها إلا التذكير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 208
(1/1137)
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ} ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم ، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه ، وهو كقول المصلين : سمع الله لمن حمده ، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين ، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم {وَلَمْ أَكُنا بِدُعَآاـاِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (مريم : 4).
جزء : 8 رقم الصفحة : 208
210
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي : فناداه الملائكة ، على التذكير والإمالة ، والباقون على التأنيث على اللفظ ، وقيل : من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم ، ومن أنث فلأن الفعل للملائكة ، وقرأ ابن عامر {الْمِحْرَابَ} بالإمالة ، والباقون بالتفخيم ، وفي قراءة ابن مسعود : فناداه جبريل.
المسألة الثانية : ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة ، ولا شك أن هذا في التشريف أعظم ، فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه. وحملنا هذ اللفظ على التأويل ، فإنه يقال : فلان يأكل الأطعمة الطيبة ، ويلبس الثياب النفيسة ، أي يأكل من هذا الجنس ، ويلبس من هذا الجنس ، مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة ، ولم يلبس جميع الأثواب ، فكذا ههنا ، ومثله في القرآن {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} (آل عمران : 173) وهم نعيم بن مسعود /إن الناس : يعني أبا سفيان ، قال المفضل بن سلمة : إذا كان القائل رئيساً جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه ، فلما كان جبريل رئيس الملائكة ، وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك.
أما قوله {وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم ، والمحراب قد ذكرنا معناه.
أما قوله {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (البقرة : 25) وفي قوله {يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } وجهان الأول : أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية ، فإذا قيل : إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني : أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر وحمزة {ءَانٍ} بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها ، أما الكسر فعلى إرادة القول ، أو لأن النداء نوع من القول ، وأما الفتح فتقديره : فنادته الملائكة بأن الله يبشرك.
المسألة الثالثة : قرأ حمزة والكسائي {يُبَشِّرُكِ} بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، وقرأ الباقون {يُبَشِّرُكِ} وقرىء أيضاً {يُبَشِّرُكِ} قال أبو زيد يقال : بشر يبشر بشراً ، وبشر يبشر تبشيراً ، وأبشر يبشر ثلاث لغات.
المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي {يَحْيَى } بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم ، وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم ، واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع :
الصفة الأولى : قوله {مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي قوله {مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} نصب على الحال لأنه نكرة ، ويحيى معرفة.
المسألة الثانية : في المراد {بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} قولان الأول : وهو قول أبي عبيدة : أنها كتاب من الله ، واستشهد بقولهم : أنشد فلان كلمة ، والمراد به القصيدة الطويلة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
(1/1138)
والقول الثاني : وهو اختيار الجمهور : أن المراد من قوله {بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} هو عيسى عليه السلام ، قال السدي : لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام ، وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى ، فقالت : يا مريم أشعرت أني حبلى ؟
فقالت مريم : وأنا أيضاً حبلى ، قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله {مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وقال ابن عباس : إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر ، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام ، فإن قيل : لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية ، وفي قوله {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُه } (النساء : 171) قلنا : فيه وجوه الأول : أنه خلق بكلمة الله ، وهو قوله {كُنَّ} /من غير واسطة الأب ، فلما كان تكوينه بمحض قول الله {كُنَّ} وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر ، لا جرم سمى : كلمة ، كما يسمى المخلوق خلقاً ، والمقدور قدرة ، والمرجو رجاء ، والمشتهي شهوة ، وهذا باب مشهور في اللغة والثاني : أنه تكلم في الطفولية ، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية ، فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً ، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال : فلان جود وإقبال إذا كان كاملاً فيهما والثالث : أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق ، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية ، فسمى : كلمة ، بهذا التأويل ، وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح ، وقد سمى الله القرآن روحاً فقال : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى : 52) والرابع : أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة ، فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا : ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال : قد جاء قولي وجاء كلامي ، أي ما كنت أقول وأتكلم به ، ونظيره قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ} (غافر : 6) وقال : {وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ} (الزمر : 71)الخامس : أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله ، فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم : كلمة الله ، وروح الله ، واعلم أن كلمة الله هي كلامه ، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته ، وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة ، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : أنها هي ذات عيسى عليه السلام ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
الصفة الثانية : ليحيى عليه السلام قوله {وَسَيِّدًا} والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول : قال ابن عباس : السيد الحليم ، وقال الجبائي : إنه كان سيداً للمؤمنين ، رئيساً لهم في الدين ، أعني في العلم والحلم والعبادة والورع ، وقال مجاهد : الكريم على الله ، وقال ابن المسيب : الفقيه العالم ، وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب ، قال القاضي : السيد هو المتقدم المرجوع إليه ، فلما كان سيداً في الدين كان مرجوعاً إليه في الدين وقدوة في الدين ، فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع.
الصفة الثالثة : قوله {وَحَصُورًا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس ، يقال حصره يحصره حصراً وحصر الرجل : أي اعتقل بطنه ، والحصور الذي يكتم السر ويحبسه ، والحصور الضيق البخيل ، وأما المفسرون : فلهم قولان أحدهما : أنه كان عاجزاً عن إتيان النساء ، ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة ، ومنهم من قال : كان ذلك لتعذر الإنزال ، ومنهم من قال : كان ذلك لعدم القدرة ، /فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول ، كأنه قال محصور عنهن ، أي محبوس ، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب ، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز ، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.
والقول الثاني : وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد ، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب ، والظلوم ، والغشوم ، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً ، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين ، وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلاً عن أن يكون حصوراً ، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة ، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل.
(1/1139)
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح ، وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة ، وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل ، وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول ، أما النص فقوله تعالى : { أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام : 90) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
الصفة الرابعة : قوله {وَنَبِيًّا} واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما : قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني : ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك ، لأنه ليس بعدهما إلا النبوة.
الصفة الخامسة : قوله {مِّنَ الصَّـالِحِينَ} وفيه ثلاثة أوجه الأول : معناه أنه من أولاد الصالحين والثاني : أنه خير كما يقال في الرجل الخير (أنه من الصالحين) والثالث : أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : "ما من نبي إلا وقد عصى ، أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم".
فإن قيل : لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح ؟
قلنا : أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال : {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ} (النمل : 19) وتحقيق القول فيه : أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، وكل من كان أكثر نصيباً منه كان أعلى قدراً والله أعلم.
/قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} في الآية سؤالات :
السؤال الأول : قوله {رَبِّ} خطاب مع الله أو مع الملائكة ، لأنه جائز أن يكون خطاباً مع الله ، لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة ، وهذا الكلام لا بد أن يكون خطاباً مع ذلك المنادي لا مع غيره ، ولا جائز أن يكون خطاباً مع الملك ، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك : يا رب.
والجواب : للمفسرين فيه قولان الأول : أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى والثاني : أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي ، ويجوز وصف المخلوق به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويحسن إلي.
السؤال الثاني : لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد ، ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده ؟
الجواب : لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان الأول : أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق ، ولا خلق إلا من نطفة ، لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال ، فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
(1/1140)
والوجه الثاني : أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى ، فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لما طلبه من الله تعالى ، فثبت بهذين الوجهين أن قوله {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} ليس للاستبعاد ، بل ذكر العلماء فيه وجوهاً الأول : أنه قوله {إِنِّى } معناه : من أين. ويحتمل أن يكون معناه : كيف تعطي ولداً على القسم الأول أم على القسم الثاني ، وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين أحدهما : أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته ، فقوله {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} معناه : كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني ؟
فقيل له كذلك ، أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء ، وهذا القول ذكره الحسن والأصم والثاني : أن من كان آيساً من الشيء مستبعداً لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول : كيف حصل هذا ، ومن أين وقع هذا كمن يرى إنساناً وهبه أموالاً عظيمة ، يقول كيف وهبت هذه الأموال ، ومن أين سمحت نفسك بهبتها ؟
فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعداً لذلك ، ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه ، صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام الثالث : أن الملائكة لما بشّروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه ، فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد ، ثم إن /السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك ، فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام ، فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب الخامس : نقل سفيان بن عيينة أنه قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى فقال ما قال السادس : نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان ، وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال : {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء الشيطان قال القاضي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال : لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه ، أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
أما قوله تعالى : {وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن ، قال ابن عباس : كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان.
المسألة الثانية : قال أهل المعاني : كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك ، وكلما جاز أن يقول : بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب : لقيت الحائط ، وتلقاني الحائط.
فإن قيل : يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد ، قلنا : هذا لا يجوز ، والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه ، والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرق.
أما قوله {وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } .
اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد ، يقال : عقر يعقر عقراً ، ويقال أيضاً عقر الرجل ، وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له ، ورمل عاقر : لا ينبت شيئاً ، واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقراً لتأكيد حال الاستبعاد.
أما قوله {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} ففيه بحثان الأول : أن قوله {قَالَ} عائد إلى مذكور /سابق ، وهو الرب المذكور في قوله {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ} وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو الله تعالى ، وأن يكون هو جبريل.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" {كَذَالِكِ اللَّهُ} مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
0
واعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشّر به وثقته بكرم ربه ، وإنعامه عليه أحب أن يجعل له علامة تدل على حصول العلوق ، وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال : {رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً } فقال الله تعالى : {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُر} وفيه مسائل :
(1/1141)
المسألة الأولى : ذكره ههنا ثلاثة أيام ، وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أحدها : أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً ، وفيه فائدتان إحداهما : أن يكون ذلك آية على علوق الولد والثانية : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ، ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله تعالى ، وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود ، وأداء لشكر تلك النعمة ، فيكون جامعاً لكل المقاصد.
ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه أحدها : أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات وثانيها : أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات وثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات.
القول الثاني في تفسير هذه الآية : وهو قول أبي مسلم : أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق ، قال آيتك أن لا تكلم ، أي تصير مأموراً بأن /لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق ، أي تكون مشتغلاً بالذكر والتسبيح والتهليل معرضاً عن الخلق والدنيا شاكراً لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب ، وهذا القول عندي حسن معقول ، وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف.
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
القول الثالث : روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام.
أما قوله {إِلا رَمْزًا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : أصل الرمز الحركة ، يقال : ارتمز إذا تحرك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال أحدها : أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد ، أو الرأس ، أو الحاجب ، أو العين ، أو الشفة والثاني : أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا : وحمل الرمز على هذا المعنى أولى ، لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل والثالث : وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي ، وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعاً منه.
فإن قيل : الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه ؟
.
قلنا : لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاماً ، ويجوز أيضاً أن يكون استثناءً منقطعاً فأما إن حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل.
المسألة الثانية : قرأ يحيى بن وثاب {إِلا رَمْزًا } بضمتين جمع رموز/ كرسول ورسل ، وقرىء {رَمْزًا } بفتح الراء والميم جمع رامز ، كخادم وخدم ، وهو حال منه ومن الناس ، ومعنى {إِلا رَمْزًا } إلا مترامزين ، كما يتكلم الناس مع الأخرس بالإشارة ويكلمهم.
ثم قال الله تعالى : {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا} وفيه قولان أحدهما : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا {إِلا رَمْزًا } فأما في الذكر والتسبيح ، فقد كان لسانه جيداً ، وكان ذلك من المعجزات الباهرة والثاني : إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب ، ولذلك قالوا : من عرف الله كل لسانه ، فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها.
{وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ} وفيه مسألتان :
/المسألة الأولى : من حين نزول الشمس إلى أن تغيب ، قال الشاعر :
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشى تذوق
والفيء إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها ، وأما الإبكار فهو مصدر بكرر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار ، ومثله بكر وابتكر وبكر ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، هذا هو أصل اللغة ، ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى : إبكاراً ، كما سمي إصباحاً ، وقرأ بعضهم {بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ} بفتح الهمزة ، جمع بكر كسحر وأسحار ، ويقال : أتيته بكراً بفتحتين.
(1/1142)
المسألة الثانية : في قوله {وَسَبِّحْ} قولان أحدهما : المراد منه : وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح ، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح ، وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول : أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله {وَاذْكُر رَّبَّكَ} فرق ، وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني : وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ} وثانيهما : أن قوله {وَاذْكُر رَّبَّكَ} محمول على الذكر باللسان.
القصة الثالثة
وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها
جزء : 8 رقم الصفحة : 210
217
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : عامل الإعراب ههنا في {إِذْ} هو ما ذكرناه في قوله {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} (آل عمران : 35) من قوله {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم عطف عليه {إِذْ قَالَتِ الْمَلَـا اـاِكَةُ} وقيل : تقديره واذكر إذ قالت الملائكة.
المسألة الثانية : قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده ، وهذا كقوله {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه } (النحل : 2) يعني جبريل ، وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه ، لأن /سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام ، وهو قوله {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم : 17).
المسألةالثالثة : اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ا } (يوسف : 109) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها ، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام ، وذلك جائز عندنا ، وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكرياء عليه السلام ، وهو قول جمهور المعتزلة ، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب ، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى } (القصص : 7).
المسألة الرابعة : اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً : هو الاصطفاء ، وثانياً : التطهير ، وثالثاً : الاصطفاء على نساء العالمين ، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني ، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق ، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها ، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 217
النوع الأول من الاصطفاء : فهو أمور أحدها : أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته ، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها : أنه كفاها أمر معيشتها ، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى : {أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه } وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها ، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول ، وأما التطهير ففيه وجوه أحدها : أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية ، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب : 33) وثانيها : أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها : طهرها عن الحيض ، قالوا : كانت مريم لا تحيض ورابعها : وطهرك من الأفعال الذميمة ، والعادات القبيحة وخامسها : وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني : فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب ، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة.
المسألة الخامسة : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "حسبك من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة عليهن السلام" فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء ، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل ، وقول من /قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها ، فهذا ترك الظاهر.
ثم قال تعالى : {الْعَـالَمِينَ * يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى} وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} (البقرة : 238) وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات ، شكراً لتلك النعم السنية ، وفي الآية سؤالات :
(1/1143)
السؤال الأول : لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع ؟
.
والجواب من وجوه الأول : أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني : أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام : "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد" فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 217
ثم قال : {وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة ، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات ، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث : قال ابن الأنباري : قوله تعالى : {اقْنُتِى} أمر بالعبادة على العموم ، ثم قال بعد ذلك {وَاسْجُدِى وَارْكَعِى} يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، واستعملي الركوع في وقته اللائق به ، وليس المراد أن يجمع بينهما ، ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله {وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ} (ق : 40) وفي الحديث "إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين" وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة ، وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز.
إذا ثبت هذا فنقول قوله {الْعَـالَمِينَ * يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى} معناه : يا مريم قومي ، وقوله {وَاسْجُدِى} أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة ، ثم قال : {وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله {وَاسْجُدِى} أمراً بالصلاة حال الانفراد ، وقوله {وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} أمراً بالصلاة في الجماعة ، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله {وَاسْجُدِى} أمراً ظاهراً بالصلاة ، وقوله {وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب.
الوجه الخامس في الجواب : لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع.
السؤال الثاني : اما المراد من قوله {وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ} .
والجواب : قيل معناه : افعلي كفعلهم ، وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه ، وإن كانت لا تختلط بهم.
السؤال الثالث : لم لم يقل واركعي مع الراكعات ؟
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء.
واعلم أن المفسرين قالوا : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها ، /قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها.
جزء : 8 رقم الصفحة : 217
219
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {ذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم ، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم ، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي.
فإن قيل : لم نفيت هذه المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم ؟
.
قلنا : كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة ، ونظيره {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} (القصص : 44) ، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} (القصص : 46) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف : 102) (يوسف : 102) {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـاذَا } (هود : 49).
المسألة الثانية : الأنباء : الإخبار عما غاب عنك ، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة ، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما ، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى : {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (النحل : 68) وقال في الشياطين {لَيُوحُونَ إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِهِمْ} (الأنعام : 121) وقال : {فَأَوْحَى ا إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مريم : 11) فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً.
أما قوله تعالى : {إِذْ يُلْقُون أَقْلَـامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ففيه مسائل :
(1/1144)
المسألة الأولى : ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً الأول : المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى ، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني : أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم ، هذا قول الربيع والثالث : قال أبو مسلم : معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (الصافات : 141) وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور ، وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 219
قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق ، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به ، فوجب حمل لفظ القلم عليه.
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء ، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام ، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم.
المسألة الثالثة : اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة/ فقال بعضهم : إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم ، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها ، وقال بعضهم : إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها ، وقال آخرون : بل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلاً فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا ؟
فمنهم من قال : كانوا هم خدمة البيت ، ومنهم من قال : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق.
أما قوله : {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ففيه حذف والتقدير : يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً.
أما قوله {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ، ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع ، وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها ، والقيام بإصلاح مهماتها ، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت {فَتَقَبَّلْ مِنِّى ا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (آل عمران : 35) وقالت {وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران : 36).
جزء : 8 رقم الصفحة : 219
220
اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام ، في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام ، فقال : {إِذْ قَالَتِ الْمَلَـا اـاِكَةُ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا في العامل في {إِذْ} قيل : العامل فيه. وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة ، وقيل : يختصمون إذ قالت الملائكة ، وقيل : إنه معطوف على {إِذْ} الأولى في قوله {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} وقيل التقدير : إن ما وصفته من أمور زكريا ، وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك ، وأما أبو عبيدة : فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف ، وهو أن {إِذْ} صلة في الكلام وزيادة ، واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام ، إلا قول الحسن : فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر ، فإن ذلك كان من كراماتها ، فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة ، وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل ، ومنهم من تكلف الجواب ، فقال : يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع ، كما تقول لقيته في سنة كذا ، وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث ، والرابع ، أما قول أبي عبيدة : فقد عرفت ضعفه ، والله أعلم.
المسألة الثانية : ظاهر قوله {إِذْ قَالَتِ الْمَلَـا اـاِكَةُ} يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام ، وقد قررناه فيما تقدم ، وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله {وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} (البقرة : 25).
(1/1145)
وأما قوله تعالى : {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول : أن كل علوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله {كُنَّ} إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب ، فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ، ومحض الكرم ، وصريح الإقبال ، فكذا ههنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
والوجه الثاني : أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه ، وبأنه نور الله لما /أنه سبب لظهور ظل العدل ، ونور الإحسان ، فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل.
فإن قيل : ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا : أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول : أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم ، والنطق أمر ممكن ، وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها ، وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيجاد الشخص ، لا من نطفة الأب ، وإذا ثبت الإمكان ، ثم إن المعجز قام على صدق النبي ، فوجب أن يكون صادقاً ، ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن ، والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك ، فثبت صحة ما ذكرناه الثاني : ما ذكره الله تعالى في قوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } (آل عمران : 59) فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة ، وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول : أن الفلاسفة اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا : لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن ، وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة ، فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع ، فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجباً ، وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجباً ، فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن ، وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان.
الوجه الثاني : وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد ، كتولد الفأر عن المدر ، والحيات عن الشعر ، والعقارب عن الباذروج ، وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعاً.
الوجه الثالث : وهو أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب ، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه ، بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط ، وقد ذكروا في "كتب الفلسفة" أمثلة كثيرة لهذا الباب ، وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات ، فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها. وإذا كان كل هذه الوجوه ممكناً محتملاً كان القول /بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولاً غير ممتنع ، ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلاً إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة ، وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلاً عن العلم ، فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته.
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
أما قوله تعالى : {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} فلفظة {مِنْ} ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئاً متبعضاً متحملاً للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه ، بل المراد من كلمة {مِنْ} ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة {اللَّهِ} مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية.
وأما قوله تعالى : {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : المسيح : هل هو اسم مشتق ، أو موضوع ؟
.
(1/1146)
والجواب : فيه قولان الأول : قال أبو عبيدة والليث : أصله بالعبرانية مشيحا ، فعربته العرب وغيروا لفظه ، وعيسى : أصله يشوع كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا بالعبرانية ، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق.
والقول الثاني : أنه مشتق وعليه الأكثرون ، ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول : قال ابن عباس : إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً ، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة ، إلا برىء من مرضه الثاني : قال أحمد بن يحيى : سمي مسيحاً لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ، ومنه مساحة أقسام الأرض ، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال : لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث : أنه كان مسيحاً ، لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى ، فعلى هذه الأقوال : هو فعيل بمعنى : فاعل ، كرحيم بمعنى : راحم الرابع : أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس : سمي مسيحاً لأنه ما كان في قدمه خمص ، فكان ممسوح القدمين والسادس : سمي مسيحاً لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ، ولا يمسح به غيرهم ، ثم قالوا : وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبياً السابع : سمي مسيحاً لأنه مسحه جبريل صلى الله عليه وسلّم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان الثامن : سمي مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ، وعلى هذه الأقوال يكون المسيح ، بمعنى : الممسوح ، فعيل بمعنى : مفعول. قال أبو عمرو بن العلاء المسيح : الملك. وقال النخعي : المسيح الصديق والله أعلم. ولعلّهما قالا ذلك من جهة كونه مدحاً /لا لدلالة اللغة عليه ، وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحاً لأحد وجهين أحدهما : لأنه ممسوح أحد العينين والثاني : أنه يمسح الأرض أي : يقطعها في المدة القليلة ، قالوا : ولهذا قيل له : دجال لضربه في الأرض ، وقطعه أكثر نواحيها ، يقال : قد دجل الدجال إذا فعل ذلك ، وقيل : سمي دجالاً من قوله : دجل الرجل إذا موه ولبس.
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
السؤال الثاني : المسيح كان كاللقب له ، وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم ؟
.
الجواب : أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفاً رفيع الدرجة ، مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولاً بلقبه ليفيد علو درجته ، ثم ذكره باسمه الخاص.
السؤال الثالث : لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم ؟
.
الجواب : لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات ، فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب ، كان ذلك إعلاماً لها بأنه محدث بغير الأب ، فكان ذلك سبباً لزيادة فضله وعلو درجته.
السؤال الرابع : الضمير في قوله : اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير ؟
.
الجواب : لأن المسمى بها مذكر.
السؤال الخامس : لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم ؟
والاسم ليس إلا عيسى ، وأما المسيح فهو لقب ، وأما ابن مريم فهو صفة.
الجواب : الاسم علامة المسمى ومعرف له ، فكأنه قيل : الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة.
أما قوله تعالى : {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : معنى الوجيه : ذو الجاه والشرف والقدر ، يقال : وجه الرجل ، يوجه وجاهة هو وجيه ، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان ، وقال بعض أهل اللغة : الوجيه : هو الكريم ، لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال.
واعلم أن الله تعالى وصف موسى صلى الله عليه وسلّم بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى : {كَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} (الأحزاب : 69) ثم للمفسرين أقوال : الأول : قال الحسن : كان وجيهاً في الدنيا بسبب النبوة ، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى والثاني : أنه وجيه عند الله تعالى ، وأما عيسى عليه السلام ، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص بسبب دعائه ، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث : أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها ، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عن الله تعالى.
/فإن قيل : كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه ، قلنا : قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه ، وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا ، وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام ، فكذا ههنا.
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
المسألة الثانية : قال الزجاج {وَجِيهًا} منصوب على الحال ، المعنى : أن الله يبشرك بهذا الولد وجيهاً في الدنيا والآخرة ، والفراء يسمي هذا قطعاً كأنه قال : عيسى بن مريم الوجيه فقطع منه التعريف.
(1/1147)
أما قوله {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ففيه وجوه أحدها : أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها : أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها : أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرباً لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ، ولذلك قال تعالى : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} (الواقعة : 7) إلى قوله {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أولئك الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة : 10).
أما قوله تعالى : {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الواو للعطف على قوله {وَجِيهًا} والتقدير كأنه قال : وجيهاً ومكلماً للناس وهذا عندي ضعيف ، لأن عطف الجملة الفعلية على الإسمية غير جائز إلا للضرورة ، أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} فقوله {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} عطف على قوله {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} .
المسألة الثانية : في المهد قولان أحدهما : أنه حجر أمه والثاني : هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع ، وكيف كان المراد منه : فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه وكان في المهد.
المسألة الثالثة : قوله {وَكَهْلا } عطف على الظرف من قوله {فِى الْمَهْدِ} كأنه قيل : يكلم الناس صغيراً وكهلاً وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الكهل ؟
.
الجواب : الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه ، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى :
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بجميم النبت مكتهل
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال.
السؤال الثاني : أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات ، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره ؟
.
/والجواب : من وجوه الأول : أن المراد منه بيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال ، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم : إن عيسى كان إلهاً والثاني : المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث : قال أبو مسلم : معناه أنه يكلم حال كونه في المهد ، وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع : قال الأصم : المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة.
السؤال الثالث : نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثاً وثلاثين سنة وستة أشهر ، وعلى هذا التقدير : فهو ما بلغ الكهولة.
والجواب : من وجهين الأول : بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين/ فصح وصفه بكونه كهلاً في هذا الوقت والثاني : هو قول الحسين بن الفضل البجلي : أن المراد بقوله {وَكَهْلا } أن يكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ، ويقتل الدجال ، قال الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض.
المسألة الرابعة : أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد ، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والإثنين لا يجوز ، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جداً عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغاً حد التواتر ، وإخفاء ما يكون بالغاً إلى حد التواتر ممتنع ، وأيضاً فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعاً لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلهاً ، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفاً فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى ، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجوداً ألبتة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
(1/1148)
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة ، وقالوا : إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة ، وكان الحاضرون جمعاً قليلين ، فالسامعون لذلك الكلام ، كان جمعاً قليلاً ، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء ، وبتقدير : أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت ، فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بذلك ، وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك ، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب : لما قرأ على النجاشي /سورة مريم ، قال النجاشي : لا تفاوت بين واقعة عيسى ، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة.
ثم قال تعالى : {وَمِنَ الصَّـالِحِينَ} .
فإن قيل : كون عيسى كلمة من الله تعالى ، وكونه {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ} وكونه من المقربين عند الله تعالى ، وكونه مكلماً للناس في المهد ، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله {وَمِنَ الصَّـالِحِينَ} ؟
.
قلنا : إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح ، والطريق الأكمل ، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب ، وفي أفعال الجوارح ، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات.
جزء : 8 رقم الصفحة : 220
226
قال المفسرون : إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام ، وقوله {إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} (غافر : 68) تقدم تفسيره في سورة البقرة.
أما قوله تعالى : {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع ، وعاصم {وَيُعَلِّمُهُ} بالياء والباقون بالنون ، أما الياء فعطف على قوله {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة ، وكذا وكذا {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ} ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها : قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها الله {كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُا إِذَا قَضَى ا أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ} فهذا وإن كان إخباراً على وجه المغايبة ، فقال لأن معنى قوله {قَالَ كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } معناه : كذلك نحن نخلق ما نشاء {إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ} والله أعلم.
/المسألة الثانية : في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف ، والأقرب عندي أن يقال : المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة ، ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ، ثم بعد أن صار عالماً بالخط والكتابة ، ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية ، يعلمه التوراة ، وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة ، لأن التوراة كتاب إلهي ، وفيه أسرار عظيمة ، والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلهية ، ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل ، وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط ، ثم تعلم علوم الحق ، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى ، والمرتبة العليا في العلم ، والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية ، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية ، فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوه الأول : تقدير الآية : ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل ، قائلاً {أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني : قال الزجاج : الاختيار عندي أن تقديره : ويكلم الناس رسولاً ، وإنما أضمرنا ذلك لقوله {أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم} والمعنى : ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم ، الثالث : قال الأخفش : إن شئت جعلت الواو زائدة ، والتقدير : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة ، والإنجيل رسولاً إلى بني إسرائيل ، قائلاً : أني قد جئتكم بآية.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم.
(1/1149)
المسألة الثالثة : المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات ، وهي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله {قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } الجنس لا الفرد.
ثم قال : {أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّه } .
/اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام :
النوع الأول
ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة {إِنِّى } بفتح الهمزة ، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح {إِنِّى } فقد جعلها بدلاً من آية كأنه قال : وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين ، ومن كسر فله وجهان أحدهما : الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني : أنه فسّر الآية بقوله {أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم} ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } (الفتح : 29) ثم فسّر الموعود بقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} وقال : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } (آل عمران : 59) ثم فسّر المثل بقوله. {خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح {إِنِّى } على جعله بدلاً من آية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
المسألة الثانية : {أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ} أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى : {قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ} (البقرة : 21) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد ، أما القرآن فآيات أحدها : قوله تعالى : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} (المؤمنون : 14) أي المقدرين ، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية وثانيها : أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء {إِنْ هَـاذَآ إِلا خُلُقُ الاوَّلِينَ} (الشعراء : 137) وفي العنكبوت {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } (العنكبوت : 17) وفي سورة ص {إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ} (ص : 7) والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها : هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله {أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ} أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} (المائدة : 110) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها : قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} (البقرة : 29) وقوله {خُلِقَ} إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله {خُلِقَ} على الإيجاد والإبداع ، لكان المعنى : أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك باطل بالاتفاق ، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض ، وأما الشعر فقوله :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ
ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله :
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد : فهو أنه يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي له هذا المقدار من الاستحقاق ، والصخرة الخلقاء الملساء ، لأن الملاسة استواء ، وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في لفظ {الْخَلْقِ } قال أبو عبد الله البصري : إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة ، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال ، وقال أصحابنا : الخالق ، ليس إلا الله ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} (الرعد : 16) ومنهم من احتج بقوله {هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم} (فاطر : 3) وهذا ضعيف ، لأنه تعالى قال : {هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ} (فاطر : 3) فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه ، ليس إلا الله ، صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله.
وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالاً في حق الله تعالى فالعلم ثابت.
إذا عرفت هذا فنقول : {أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ} معناه : أصور وأقدر وقوله {كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ} فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله {فَأَنفُخُ فِيهِ} أي في ذلك الطين المصور وقوله {فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّه } ففيه مسائل :
(1/1150)
المسألة الأولى : قرأ نافع {فَيَكُونُ} بالألف على الواحد ، والباقون {عَلَيْهِمْ طَيْرًا} على الجمع ، وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع.
يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة ، وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش ، فأخذ طيناً وصوره ، ثم نفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ، ثم اختلف الناس فقال قوم : إنه لم يخلق غير الخفاش ، وكانت قراءة نافع عليه. وقال آخرون : إنه خلق أنواعاً من الطير وكانت قراءة الباقين عليه.
المسألة الثانية : قال بعض المتكلمين : الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح ، ولذلك وصفها بالفتح ، ثم ههنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية ، بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً/ أو يقال : ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ} (البقرة : 258) فلو حصل لغيره ، هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
المسألة الثالثة : القرآن دلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل صلى الله عليه وسلّم روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى /عليه السلام للحياة والروح.
المسألة الرابعة : قوله {بِإِذْنِ اللَّه } معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران : 145) أي إلا بأن يوجد الله الموت ، وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة ، وتنبيهاً على إني أعمل هذا التصوير ، فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.
واما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات
فهو قوله : {وَرَسُولا إِلَى بَنِى إسرائيل أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم} .
ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى ، وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيراً ، وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل ، ويقال : إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب "التفسير" ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام ، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده ، قال الكلبي : كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر ، وكان صديقاً له ، ودعا سام بن نوح من قبره ، فخرج حياً ، ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله ، فنزل عن سريره حياً ، ورجع إلى أهله وولد له ، وقوله {بِإِذْنِ اللَّه } رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلهية.
وأما النوع الخامس
من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان أحدهما : أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب ، روى السدي : أنه كان يلعب مع الصبيان ، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم ، وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، وجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم ، /فقالوا له ، ليسوا في البيت ، فقال : فمن في هذا البيت ، قالوا : خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
والقول الثاني : إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة ، وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار ، فكانوا يخزنون ويدخرون ، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك.
المسألة الثانية : الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة ، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً ، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى.
ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله {إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .
والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل المعجزة في الحمل على الصدق/ بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي ، وهم البراهمة ، فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات ، أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة.
(1/1151)
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
اعلم أنه عليه السلام لما بيّن بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولاً من عند الله تعالى ، بيّن بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران أحدهما : قوله {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاـاةِ} .
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في قوله {وَرَسُولا إِلَى بَنِى إسرائيل أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ} (آل عمران : 49) أن تقديره وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً {أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ} فقوله {وَمُصَدِّقًا} معطوف عليه والتقدير : /وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً {أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ} ، وإني بعثت {مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاـاةِ} وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها.
المسألةالثانية : إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام ، لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة ، فكل من حصل له المعجز ، وجب الاعتراف بنبوته ، فلهذا قلنا : بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة ، ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين.
وأما المقصود الثاني : من بعثة عيسى عليه السلام قوله {وَلاحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } .
وفيه سؤال : وهو أنه يقال : هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرماً عليه في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاـاةِ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
والجواب : إنه لا تناقض بين الكلام ، وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب ، وإذا لم يكن الثاني مذكوراً في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرماً فيها ، مناقضاً لكونه مصدقاً بالتوراة ، وأيضاً إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضاً للتوراة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : إنه عليه السلام ما غير شيئاً من أحكام التوراة ، قال وهب بن منبه : إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ، ثم إنه فسّر قوله {وَلاحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } بأمرين أحدهما : إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام والثاني : أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء : 160) ثم بقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم ، وقال آخرون : إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة ، ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدقاً بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائماً مقامه وكان محقاً في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق.
ثم قال : {وَجِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعاً في قلوبهم ومؤثراً في طباعهم ، ثم خوفهم فقال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي ، ثم إنه ختم كلامه بقوله {إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ} /ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون : إنه إله وابن إله لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه ، ثم قال : {فَاعْبُدُوه } والمعنى : أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه ، ثم أكد ذلك بقوله {هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته ، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء ، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات ، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى : {فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ} وفي الآية مسائل :
(1/1152)
المسألة الأولى : الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أنهم تكلموا بالكفر ، فأحس ذلك بإذنه والثاني : أن نحمله على التأويل ، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر ، وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم علماً لا شبهة/ فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس ، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس.
المسألة الثانية : اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول : قال السدي : أنه تعالى لما بعثه رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلّم وهو بمكة فكان مستضعفاً ، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلى الله عليه وسلّم في الغار ، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه /نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً ، فسأله عيسى عن السبب فقال : ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده ، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي ، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك ، قالت : يا بني ادع الله ليكفي ذلك ، فقال : يا أماه إن فعلت ذلك كان شر ، فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً ، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر ؟
فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب ، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام ، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك ، فقال عيسى : لا تفعل ، فإنه إن عاش كان شراً ، فقال : ما أبالي ما كان إذا رأيته ، وإن أحييته تركتك على ما تفعل ، فدعا الله عيسى ، فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا ، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق ، وقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه والكفر به.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
والقول الثاني : إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله.
والقول الثالث : إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } فما أجابه إلا الحواريون/ فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله.
أما قوله تعالى : {قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية أقوال الأول : أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين ، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك ، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام : الآن تصيد السمك ، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد ، فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى ، وملؤا السفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام.
/والقول الثاني : أن قوله {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّه } إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله ، ثم ههنا احتمالات الأول : أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟
.
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم : أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه ، فقال له عيسى : حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها ، فصارت كما كانت ، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه.
والاحتمال الثاني : أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـانَ مَنْ أَنصَارِى } (الصف : 14).
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
(1/1153)
المسألة الثانية : قوله {إِلَى اللَّه } فيه وجوه الأول : التقدير : من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني : التقدير : من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى ، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمر الله تعالى الثالث : قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى ا أَمْوَالِكُمْ } (النساء : 2) أي معها ، وقال صلى الله عليه وسلّم : "الذود إلى الذود إبل" أي مع الذود.
قال الزجاج : كلمة {إِلَى } ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول : ذهب زيد مع عمرو لأن {إِلَى } تفيد الغاية و{مَّعَ} تفيد ضم الشيء إلى الشيء ، بل المراد من قولنا أن {إِلَى } ههنا بمعنى {مَّعَ} هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى ا أَمْوَالِكُمْ } (النساء : 2) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، وكذلك قوله عليه السلام : "الذود إلى الذود إبل" معناه : الذود مضموماً إلى الذود إبل والرابع : أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا ضحى "اللّهم منك وإليك" أي تقرباً إليك ، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته {إِلَى } أي انضم إلى ، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس : أن يكون {إِلَى } بمعنى اللام كأنه قال : من أنصاري لله نظيره قوله تعالى : {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآا ِكُم مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّا قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ } (يونس : 35) والسادس : تقدير الآية : من أنصاري في سبيل الله. و(إلى) بمعنى (في) جائز ، وهذا قول الحسن.
أما قوله تعالى : {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في لفظ وجوهاً الأول : أن الحواري اسم موضوع /لخاصة الرجل ، وخالصته ، ومنه يقال للدقيق حواري ، لأنه هو الخالص منه ، وقال صلى الله عليه وسلّم للزبير : "إنه ابن عمتي ، وحواري من أمتي" والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود ، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
القول الثاني : الحواري أصله من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه قيل للدقيق حواري ، ومنه الأحور ، والحور نقاء بياض العين ، وحورت الثياب : بيضتها ، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم ؟
فقال سعيد بن جبير : لبياض ثيابهم ، وقيل كانوا قصارين ، يبيضون الثياب ، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم ، وإشارة إلى نقاء قلوبهم ، كالثوب الأبيض ، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب ، طاهر الذيل ، إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة ، وفلان دنس الثياب : إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي.
القول الثالث : قال الضحاك : مرّ عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب ، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري ، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري ، وقال مقاتل بن سليمان : الحواريون : هم القصارون ، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلاً على خواص الرجل وبطانته.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا ؟
.
فالقول الأول : إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم "تعالوا نصطاد الناس" قالوا : من أنت ؟
قال : "أنا عيسى بن مريم ، عبد الله ورسوله" فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به ، فهم الحواريون.
القول الثاني : قالوا : سلمته أمه إلى صباغ ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته ، فقال له : ههنا ثياب مختلفة ، وقد علمت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان ، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً ، وجعل الجميع فيه وقال : "كوني بإذن الله كما أريد" فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت علي الثياب ، قال : "قم فانظر" فكان يخرج ثوباً أحمر ، وثوباً أخضر ، وثوباً أصفر كما كان يريد ، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه ، وآمنوا به فهم الحواريون.
القول الثالث : كانوا الحواريون إثنى عشر رجلاً اتبعوا عيسى عليه السلام ، وكانوا إذا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله : عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج الماء فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك فقال : "أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من /كسبه" فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسموا حواريين.
(1/1154)
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
القول الرابع : أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : تعرفونه ، قالوا : نعم ، فذهبوا بعيسى عليه السلام ، قال : من أنت ؟
قال : أنا عيسى بن مريم ، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون قال القفال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السمك ، وبعضهم من القصارين ، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام/ وأعوانه ، والمخلصين في محبته ، وطاعته ، وخدمته.
المسألة الثالثة : المراد من قوله {الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه ، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال ، فالمراد منه ما ذكرناه.
أما قوله {بِاللَّهِ فَإِذَآ} فهذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله ، لأجل أنا آمنا بالله ، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذب عن أوليائه ، والمحاربة مع أعدائه.
ثم قالوا : {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم ، إشهاد لله تعالى أيضاً ، ثم فيه قولان الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك ، والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم.
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم ، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى ، وقالوا : {رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا : في الآية المتقدمة {بِاللَّهِ فَإِذَآ} ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا {بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا} وآمنوا برسول الله حيث ، قالوا {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ، فقالوا {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ، ويفضل على درجته ، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة : 143) الثاني : وهو منقول أيضاً عن ابن عباس {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى : {فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف : 6).
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً ، فأحيوا الموتى ، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام.
/والقول الثالث : {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق ، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم ، حيث قالوا {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر ، وتقوية له ، وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة.
القول الرابع : إن قوله {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السموات مع الملائكة قال الله تعالى : {كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين.
القول الخامس : إنه تعالى قال : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} (آل عمران : 18) فجعل أولو العلم من الشاهدين ، وقرن ذكرهم بذكر نفسه ، وذلك درجة عظيمة ، ومرتبة عالية ، فقالوا {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك.
والقول السادس : إن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً صلى الله عليه وسلّم عن الإحسان فقال : "أن تعبد الله كأنك تراه" وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية ، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود ، لا في مقام الغيبة/ فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال ، إلى مقام الشهود والمكاشفة ، فقالوا {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} .
(1/1155)
القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام ، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ، ذابين عنه ، قالوا {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك ، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك.
ثم قال تعالى : {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} وفيه مسائل :
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
المسألة الأولى : أصل المكر في اللغة ، السعي بالفساد في خفية ومداجاة ، قال الزجاج : يقال مكر الليل ، وأمكر إذا أظلم ، وقال الله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الأنفال : 30) وقال : {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف : 102) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} (يونس : 71) فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور ، لا جرم سمي مكراً.
المسألة الثانية : أما مكرهم بعيسى عليه السلام ، فهو أنهم هموا بقتله ، وأما مكر الله تعالى بهم ، ففيه وجوه الأول : مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، وذلك أن يهودا ملك اليهود ، أراد قتل عيسى عليه السلام ، وكان جبريل عليه السلام ، لا يفارقه ساعة ، وهو معنى قوله /{وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } (البقرة : 87) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة ، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة ، وكان قد ألقى شبهه على غيره ، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق ، فرقة قالت : كان الله فينا فذهب ، وأخرى قالت : كان ابن الله ، والأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله ، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء ، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم ، وفي الجملة ، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه.
الوجه الثاني : أن الحواريين كانوا إثنى عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ، ودل اليهود عليه ، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم ، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، فكان ذلك هو مكر الله بهمه
الوجه الثالث : ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام ، فشمسوهم وعذبوهم ، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل ، فقال : لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ، ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام ، فأخبروه فتابعهم على دينهم ، وأنزل المصلوب فغيبه ، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ، وكان اسم هذا الملك طباريس ، وهو صار نصرانياً ، إلا أنه ما أظهر ذلك ، ثم إنه جاء بعده ملك آخر ، يقال له : مطليس ، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
القول الرابع : أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم ، وهو قوله تعالى : {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} (الإسراء : 5) فهذا هو مكر الله تعالى بهم.
القول الخامس : يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم.
المسألة الثالثة : المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر ، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها : أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر ، كقوله {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة ، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني : أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث : أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات ، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال /الشر إلى الغير ، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
في الآية مسائل :
(1/1156)
المسألة الأولى : العامل في {إِذْ} قوله {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ} أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول ، وقيل التقدير : ذاك إذ قال الله.
المسألة الثانية : اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات :
الصفة الأولى : {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } (المائدة : 117) واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما : إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ، ولا تأخير فيها والثاني : فرض التقديم والتأخير فيها ، أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول : معنى قوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي متمم عمرك ، فحينئذ أتوفاك ، فلا أتركهم حتى يقتلوك ، بل أنا رافعك إلى سمائي ، ومقربك بملائكتي ، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني : {مُتَوَفِّيكَ} أي مميتك ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومحمد بن إسحاق قالوا : والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها : قال وهب : توفي ثلاثة ساعات ، ثم رفع وثانيها : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه الثالث : قال الربيع بن أنس : أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء ، قال تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } (الزمر : 42).
الوجه الرابع : في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال ، فأما كيف يفعل ، ومتى يفعل ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أنه سينزل ويقتل الدجال" ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
الوجه الخامس : في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي ، وهو أن المراد {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك ، ثم قال : {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله ، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة ، والغضب والأخلاق الذميمة.
والوجه السادس : إن التوفي أخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ } (النساء : 113).
والوجه السابع : {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن : إن التوفي هو القبض يقال : وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه ، كما يقال : سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه ، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً.
قلنا : قوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء ، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً.
الوجه التاسع : أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير : متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي ، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر : 10) والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله ، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه ، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني : وهو قول من قال : لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير ، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي أنه رفعه حياً ، والواو لا تقتضي الترتيب ، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم.
والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء ، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ /على التأويل ، وهو من وجوه :
(1/1157)
الوجه الأول : أن المراد إلى محل كرامتي ، وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله {إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} (الصافات : 99) وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلّم من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان : ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي ، وقد يسمي الحجاج زوار الله ، ويسمى المجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.
الوجه الثاني : في التأويل أن يكون قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله.
الوجه الثالث : إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان ، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى.
الصفة الثالثة : من صفات عيسى قوله تعالى : {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم ، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
الصفة الرابعة : قوله {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } وجهان الأول : أن المعنى : الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به ، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة ، فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة ، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون ، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال/ ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني : أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} هو الرفعة بالدرجة والمنقبة ، لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة.
أما قوله {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فالمعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة ، والدرجات الرفيعة العالية ، وأما في القيامة /فإنه يحكم بين المؤمنين به ، وبين الجاحدين برسالته ، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال : {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبِّهَ لَهُمْ } (النساء : 157) والأخبار أيضاً واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه ، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :
الإشكال الأول : إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة ، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات ، وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً صلى الله عليه وسلّم يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع ، وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.
(1/1158)
والإشكال الثاني : وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (المائدة : 110) ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه ؟
وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له ؟
.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
والإشكال الثالث : إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره ، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه ؟
.
والإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس ، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.
والإشكال الخامس : أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام ، وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً ، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ونبوّة عيسى ، بل في وجودهما ، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل.
/والإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً ، فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ، ولقال : إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره ، ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم ، فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات :
والجواب عن الأول : أن كل من أثبت القادر المختار ، سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً ، ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم :
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز.
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث : فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء.
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم.
والجواب عن السادس : إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة ، وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد صلى الله عليه وسلّم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع ، والله ولي الهداية.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
اعلم أنه تعالى لما ذكر {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بيّن بعد ذلك مفصلاً ما في ذلك الاختلاف ، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون ، وأما الحكم فيمن كفر فهو /أن يعذبه عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات ، فهو أن يوفيهم أجورهم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما : القتل والسبي وما شاكله ، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به ، فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني : ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب ، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا ؟
قال بعضهم : إنه عقاب في حق الكافر ، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً ، وقال الحسن : إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقاباً بل يكون أيضاً ابتلاءً وامتحاناً ، ويكون جارياً مجرى الحدود التي تقام على النائب ، فإنها لا تكون عقاباً بل امتحاناً ، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقاباً.
(1/1159)
فإن قيل : فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره ، وهذا على خلاف قوله تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (النحل : 61) وكلمة {لَوْ} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا ، وأيضاً قال تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } (غافر : 17) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم ، لا في الدنيا ، قلنا : الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة ، والآيات التي ذكرتموها عامة ، والخاص مقدم على العام.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة ، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ، ولسنا نجد الأمرر كذلك ، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين ، ولا نجد بين الناس تفاوتاً.
قلنا : بل التفاوت موجود في الدنيا ، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام ، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم ، فزال الإشكال.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
المسألة الثالثة : وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.
فإن قيل : أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة.
قلنا : المانع هو العهد ، ولذلك إذا زال العهد حل قتله.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
فيه مسائل :
/المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم {فَيُوَفِّيهِمْ} بالياء ، يعني فيوفيهم الله ، والباقون بالنون حملاً على ما تقدم من قوله {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وهو الأولى لأنه نسق الكلام.
المسألة الثانية : ذكر الذين آمنوا ، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات ، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان ، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً.
المسألة الثالثة : احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر ، والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم.
المسألة الرابعة : المعتزلة احتجوا بقوله {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، قالوا : لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له ، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فقد يقال : أحب زيداً ، ولا يقال : أريده ، وأما إذا علقتا بالأفعال : فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة ، فصار قوله {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} بمنزلة قوله (لا يريد ظلم الظالمين) هكذا قرره القاضي ، وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه ، وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
فيه مسائل :
المسألة الأولى : {ذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما ، وهو مبتدأ ، خبره {نَتْلُوهُ} و{مِّنَ الايَاتِ} خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي ، و{نَتْلُوهُ} صلته ، و{مِّنَ الايَاتِ} الخبر.
المسألة الثانية : التلاوة والقصص واحد في المعنى ، فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض ، ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية ، وفي قوله {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى } (القصص : 3) وأضاف القصص إلى نفسه فقال : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف : 3) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى ، وهذا تشريف عظيم للملك ، وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل صلى الله عليه وسلّم لما كان بأمره من غير تفاوت أصلاً أُضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى.
المسألة الثالثة : قوله {مِّنَ الايَاتِ} يحتمل أن يكون المراد منه ، أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك ، لأنها أخبار لا يعلمها إلا /قارىء من كتاب أو من يوحى إليه ، فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ ، فبقي أن ذلك من الوحي.
المسألة الرابعة : {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} فيه قولان الأول : المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه الأول : إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم ، والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني : معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث : أنه بمعنى المحكم ، فعيل بمعنى مفعل ، قال الأزهري : وهو شائع في اللغة ، لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى ، فرد إلى الأصل ، ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى : {الارا كِتَابٌ} (هود : 1) والرابع : أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة ، فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل.
(1/1160)
القول الثاني : أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن ، وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام ، أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك ، والله أعلم بالصواب.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
0
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وكان من جملة شبههم أن قالوا : يا محمد ، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى ، فقال : إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى ، فكذا القول في عيسى عليه السلام ، هذا حاصل الكلام ، وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم ؟
بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس ، هذا تلخيص الكلام.
ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : {مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى : {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } (الرعد : 35) أي صفة الجنة.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {خَلَقَه مِن تُرَابٍ} ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم ، قال الزجاج : هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد ، تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ، ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا.
/
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
المسألة الثالثة : اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية ، وقال : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء : 1) وقال : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف : 189) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة أحدها : أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَه نَسَبًا وَصِهْرًا } (الفرقان : 54) والثالث : أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَه ا وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَه مِن سُلَـالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} (السجدة : 7 ، 8) والرابع : أنه مخلوق من سلالة من طين قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون : 11 ، 13) الخامس : أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّن طِينٍ لازِب } (الصافات : 11) السادس : إنه مخلوق من صلصال قال تعالى : {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر : 28) السابع : أنه مخلوق من عجل ، قال تعالى : {خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } (الأنبياء : 37) الثامن : قال تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ} (البلد : 4) أما الحكماء فقالوا : إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه : الأول : ليكون متواضعاً الثاني : ليكون ستاراً الثالث : ليكون أشد التصاقاً بالأرض ، وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض ، قال تعالى : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً } (البقرة : 30) الرابع : أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام/ ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلاً ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج ، والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس : خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة ، والغضب ، والحرص ، فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء ، ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله {إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ} ثم إنه في المرتبة الرابعة قال : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ} والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين ، ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع :
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
(1/1161)
أحدها : أنه من صلصال والصلصال : اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت. والثاني : الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة ، وتغير لونه إلى السواد. والثالث : تغير رائحته قال تعالى : {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } (البقرة : 259) أي لم يتغير.
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام.
/المسألة الرابعة : في الآية إشكال ، وهو أنه تعالى قال : {خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ} فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له {كُنَّ} وذلك غير جائز.
وأجاب عنه من وجوه الأول : قال أبو مسلم : قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد ، وأما قوله {كُنَّ} فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله {كُنَّ} .
والجواب الثاني : وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له {كُنَّ} أي أحياه كما قال : {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً.
أجاب القاضي وقال : بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته ، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص ، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي : إما المزاج المعتدل ، أو النفس ، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي ، ولا شك أنها من أغمض المسائل.
الجواب : الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك ، تسمية لما سيقع بالواقع.
والجواب الثالث : أن قوله {ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ} يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17) ويقول القائل : أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين ، ومراده : أعطيته اليوم ألفاً ، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله {خَلَقَه مِن تُرَابٍ} أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له {كُنَّ} .
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
المسألة الخامسة : في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال : ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال : {كُن فَيَكُونُ} .
والجواب : تأويل الكلام ، ثم قال له {كُن فَيَكُونُ} فكان.
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك {كُنَّ} فإنه يكون لا محالة.
جزء : 8 رقم الصفحة : 226
244
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الفرّاء ، والزجاج قوله {الْحَقِّ } خبر مبتدأ محذوف ، والمعنى : الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام ، أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام {الْحَقِّ } فحذف لكونه /معلوماً ، وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام ، وخبره قوله {مِن رَّبِّكَ} وهذا كما تقول الحق من الله ، والباطل من الشيطان ، وقال آخرون : الحق ، رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق.
وقيل : أيضاً إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير ، تقديره : من ربك الحق فلا تكن.
المسألة الثانية : الامتراء الشك ، قال ابن الأنباري : هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب ، يقال قد مارى فلان فلاناً إذا جادله ، كأنه يستخرج غضبه ، ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه.
المسألة الثالثة : في الحق تأويلان الأول : قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود ، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلهاً ، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار ، فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه ، ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك.
والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} خطاب في الظاهر مع النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه ، وذلك غير جائز ، واختلف الناس في الجواب عنه ، فمنهم من قال : الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى : {الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} والثاني : أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : فدم على يقينك ، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء.
جزء : 8 رقم الصفحة : 244
245
(1/1162)