الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
المسألة الأولى : احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد ، أو الاستسلام والانقياد ، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة : وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما ، فإن الجعل عبارة عن الخلق ، قال الله تعالى : {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1) فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى ، فإن قيل : هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين ، إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل وإنه باطل ، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ، ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا / مسلمين ، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد ، بل له معانٍ أخر سوى الخلق. أحدها : جعل بمعنى صير ، قال الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (الفرقان : 47). وثانيها : جعل بمعنى وهب ، نقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس. وثالثها : جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى : {وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا } (الزخرف : 19) ، وقال : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ} (الأنعام : 10). ورابعها : جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى : {وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً} (الأنبياء : 73) يعني أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال : {إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } (البقرة : 124) فهو بالأمر. وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتباً وشاعراً إذا علمته ذلك. وسادسها : البيان والدلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك ، إذا ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصاً وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك ، سلمنا أن المراد من الجعل الخلق ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلماً له ، ومثاله : من يؤدب ابنه حتى يصير أديباً فيجوز أن يقال : صيرتك أديباً وجعلتك أديباً ، وفي خلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصاً محتالاً ، سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام ، لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به ، وإنما قلنا : أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذماً ، ولا ثواباً ولا عقاباً ، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد. والجواب : قوله : الآية متروكة الظاهر ، قلنا : لا نسلم وبيانه من وجوه. الأول : أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
{وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائماً ، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال. الثاني : أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله : {لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ } (الفتح : 4) ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد : 17) وقال إبراهيم : {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } (البقرة : 26) فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق ، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال. الثالث : أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد ، فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله : {مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته ، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال ، فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر ، قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك ، قلنا : هذا مدفوع من وجوه :
(1/603)
أحدها : أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة ، وإذا لم يكن المطلوب / بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة ، ولا يقال : وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه ، قلنا : نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به ، فكان حمله على الأول أولى. وثانيها : أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب ، فكان ذلك الوصف حاصلاً وأي فائدة في طلبه بالدعاء. وثالثها : أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال جعله مسلماً ، أما قوله : يحمل ذلك على فعل الألطاف ، قلنا : هذا أيضاً مدفوع من وجوه. أحدها : أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر. وثانيها : أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة ، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز. وثالثها : أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون ، فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول : متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع ، فإن وجب فهو المطلوب ، وإن امتنع فهو مانع لا مرجح ، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً وقد فرضناه كذلك هذا خلف ، وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال ، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول ، قوله : الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم ، قلنا : إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم تقريره مراراً وأطواراً والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
واعلم أن السؤال المشهور في هذه الآية من أنهما لما كانا مسلمين فكيف طلبا الاسلام ؟
قد أدرجناه في هذه المسألة وذكرنا عنه أجوبة شافية كافية والحمد لله على ذلك ، ثم إن الذي يدل من جهة العقل على أن صيرورتهما مسلمين له سبحانه لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى ما ذكرنا أن القدرة الصالحة للإسلام هل هي صالحة لتركه أم لا ؟
فإن لم تكن صالحة لتركه فتلك القدرة موجبة فخلق تلك القدرة الموجبة فيهما جعلهما مسلمين ، وإن كانت صالحة لتركه فهو باطل ومع تسليم إمكانه فالمقصود حاصل أما بطلانه فلان الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصل والعدم نفي محض فيستحيل أن يكون للقدرة فيه أثر ولأنه عدم باق والباقي لا يكون متعلق القدرة فثبت بهذا أنه لا قدرة على ذلك العدم المستمر ، فإذن لا قدرة إلا على الوجود ، فالقدرة غير صالحة إلا للوجود ، وأما أن بتقدير تسليم كون القدرة صالحة للوجود والعدم فالمقصود حاصل ، فلأن تلك القدرة الصالحة لا تختص بطرف الوجود إلا لمرجح ، ويجب انتهاء المرجحات إلى فعل الله تعالى قطعاً للتسلسل ، وعند حصول / المرجح من الله تعالى يجب وقوع الفعل ، فثبت أن قوله : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} هو الذي يصح على قوانين الدلائل العقلية.
المسألة الثانية : قوله : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلماً لاحكام الله تعالى وقضائه وقدره ، وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه ، وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 77) ثم ههنا قولان : أحدهما : : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك. والثاني : قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه.
المسألة الثالثة : أما إن العبد لا يخاطب الله تعالى وقت الدعاء إلا بقوله : ربنا فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) في شرائط الدعاء.
أما قوله تعالى : {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} فالمعنى : واجعل من أولادنا و(من) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 124) ومن الناس من قال : أراد به العرب لأنهم من ذريتهما ، و(أمة) قيل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم بدليل قوله : {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} وههنا سؤالات :
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
(1/604)
السؤال الأول : قد بينا أن قوله : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالماً فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالماً ، فاذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى ؟
الجواب : تلك الدلالة ما كانت قاطعة ، والشفيق بسوء الظن مولع.
السؤال الثاني : لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء ؟
والجواب : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى : {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم : 6) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات ، ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم.
السؤال الثالث : الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه ، وحينئذ يتوجه الإشكال ، فإن في زمان أجداد محمد صلى الله عليه وسلّم لم يكن أحد من العرب مسلماً ، ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
والجواب : قال القفال : أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ، ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم ، وقد كان في الجاهلية : زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة ، والثواب والعقاب ، ويوحدون الله تعالى ، ولا يأكلون الميتة ، ولا يعبدون الأوثان.
/ أما قوله تعالى : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في {أَرِنَا} قولان ، الأول : معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا الناس إلى حجه ، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم ، قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان : 45) ، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ} (الفيل : 1). الثاني : أظهرها لأعيننا حتى نراها. قال الحسن : إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها ، حتى بلغ عرفات ، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك ؟
قال : نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل ، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معاً. وهو قول القاضي لأن الحج لايتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز ، فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان ، فمن قال بالقول الثاني قال : إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها ، ومن قال بالأول قال : إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف.
المسألة الثانية : النسك هو التعبد ، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة ، وسمي أعمال الحج مناسك. قال عليه السلام : "خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى : مناسك أيضاً ، ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل ، وبكسر السين بمعنى المواضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب ، قال الله تعالى : {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوه } (الحج : 67) قرىء بالفتح والكسر ، وظاهر الكلام يدل على الفعل ، وكذلك قوله عليه السلام : "خذوا عني مناسككم" أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد : خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول : إن حملنا المناسك على مناسك الحج ، فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال ، وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط ، وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد ، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً ، وهو كونه عملاً من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال ، فوجب دخول الكل فيه وأن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي علمنا كيف نعبدك ، وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه.
(1/605)
/ المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات {أَرِنَا} بإسكان الراء في كل القرآن ، ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد ، في حم السجدة {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا} (فصلت : 29) وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن ، والباقون بالكسرة مشبعة ، وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة ، نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ، ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة ، وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم : فخذ وكبد ، وأما الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
أما قوله : {وَتُبْ عَلَيْنَآ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال : لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلباً للمحال ، وأما المعتزلة فقالوا : إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة ، ولقائل أن يقول : إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال ، لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها ، وهي من وجوه. أولها : يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدداً في الإنصراف عن المعصية ، لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد ، كان أقرب إلى ترك المعاصي ، فيكون ذلك لطفاً داعياً إلى ترك المعاصي ، وثانيها : أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لاينفك عن التقصير من بعض الوجوه : إما على سبيل السهو ، أو على سبيل ترك الأولى ، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك. وثالثها : أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً ، لا جرم سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة ، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال : {وَتُبْ عَلَيْنَآ } أي على المذنبين من ذريتنا ، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول : أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده : إن ولدي أذنب فاقبل عذره ، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه ، والذي يقوي هذا التأويل وجوه. الأول : ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال : {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِا فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم : 35 ، 36) فيحتمل أن يكون المعنى : ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب ، وتغفر له ما سلف من ذنوبه. الثاني : ذكر أن في قراءة عبد الله : وأرهم مناسكهم وتب عليهم. الثالث : أنه قال عطفاً على هذا : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} . الرابع : تأولوا قوله تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـاكُمْ} (الأعراف : 11) بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذ كانوا منه ، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي أر ذريتنا.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
(1/606)
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بقوله : {وَتُبْ عَلَيْنَآ } على أن فعل العبد خلق لله تعالى ، قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه ، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد ، لكان طلبها من الله تعالى محالاً وجهلاً ، قالت المعتزلة : هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا. فقال : {تَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} (التحريم : 8) ولو كانت فعلاً لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً ، وإذا ثبت ذلك حمل قوله : {وَتُبْ عَلَيْنَآ } على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد ، قال الأصحاب : الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه. أولها : أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة ، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة. وثانيها : أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله : عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة : علم وحال وعمل ، فالعلم أول والحال ثانٍ وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال ، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب ، يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة ، وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى : إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل ، أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابساً له ، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر ، وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين ، فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب ، ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان ، أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول : إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضاً ضروري ، فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لا بد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم على العلم بكون ذلك الشيء جالباً للمضار ، ودفعاً للمنافع أيضاً أمر ضروري ، فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
بقي أن يقال : الداخل تحت التكليف هو العلم ، إلا أن فيه أيضاً إشكالاً ، لأن ذلك العلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً ، فإن كان ضرورياً لم يكن داخلاً تحت الاختبار والتكليف أيضاً ، وإن كان نظرياً فهو مستنتج عن العلوم الضرورية. فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول ، إما أن يكون كافياً في ذلك الانتاج أو غير كاف ، فإن كان كافياً كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولاً على تلك العلوم الضرورية واجباً/ والذي يجب ترتبه على ما يكون / خارجاً عن الاختيار ، كان أيضاً خارجاً عن الاختيار ، وإن لم يكن كافياً فلا بد من شيء آخر ، فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلاً فالذي فرضناه غير كاف ، وقد كان كافياً ، هذا خلف ، وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولاً للعلوم النظرية ، وهذا خلف. ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال ، فثبت بما ذكرنا آخراً أن قوله تعالى : {وَتُبْ عَلَيْنَآ } محمول على ظاهره ، وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل.
أما قوله : {إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فقد تقدم ذكره.
(1/607)
النوع الثالث : قوله : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} واعلم أنه لا شبهة في أن قوله : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا} يريد من أراد بقوله : {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فعطف عليه بقوله تعالى : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين. أحدهما : أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام. والثاني : أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه. أحدها : ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم ، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته ، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها. وثانيها : أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته. وثالثها : أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم ، إذا ثبت هذا فنقول : إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل ، وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين ، وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة. وأما إن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلّم فيدل عليه وجوه. أحدها : إجماع المفسرين وهو حجة. وثانيها : ما روي عنه عليه السلام أنه قال : "أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى" وأراد بالدعوة هذه الآية ، وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله : {وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ } (الصف : 6). وثالثها : أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
وههنا سؤال وهو أنه يقال : ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد صلى الله عليه وسلّم في باب الصلاة حيث يقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ؟
وأجابوا عنه من وجوه ، أولها : أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ} فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له / قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة. وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله : {وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ} (الشعراء : 84) يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته. وثالثها : أن إبراهيم كان أب الملة لقوله : {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } (الحج : 78) ومحمد كان أب الرحمة ، وفي قراءة ابن مسعود : (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال في قصته : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 128) وقال عليه السلام : "إنما أنا لكم مثل الوالد" ، يعني في الرأفة والرحمة ، فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة. ورابعها : أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج : {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ} (الحج : 27) وكان محمد عليه السلام منادي الدين : {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ} (آل عمران : 193) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
(1/608)
واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم ، ذكر لذلك الرسول صفات. أولها : قوله : {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ} وفيه وجهان. الأول : أنها الفرقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك ، فوجب حمله عليه. الثاني : يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى ، ومعنى تلاوته إياها عليهم : أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها. وثانيها : قوله : {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ} والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه ، وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه : منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف ، ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة ، ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة ، فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام ، فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونوراً لما فيه من المعاني والحكم والأسرار ، فلما ذكر الله تعالى أولاً أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال : {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ} . الصفة الثالثة : من صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم قوله : (والحكمة) أي ويعلمهم الحكمة. واعلم أن الحكمة هي : الإصابة في القول والعمل ، ولا يسمى حكيماً إلا من اجتمع له الأمران وقيل : أصلها من أحكمت الشيء أي رددته ، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل ، ووضع كل شيء موضعه. قال القفال : وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية. واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه. أحدها : قال ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة ؟
قال : معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له. وثانيها : قال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وهو قول قتادة ، قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه : والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة / فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب ، وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام. فإن قيل : لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة ؟
قلنا : لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى. وثالثها : الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل ، وهو مصدر بمعنى الحكم ، كالقعدة والجلسة. والمعنى : يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم ، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها ، ومثال هذا : الخبر والخبرة ، والعذر والعذرة ، والغل والغلة ، والذل والذلة. ورابعها : ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة. (والحكمة) أراد بها الآيات المتشابهات. وخامسها :
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
(1/609)
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ} أي يعلمهم ما فيه من الأحكام. (والحكمة) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع ، ومن الناس من قال : الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات ، وبأنه كتاب ، وبأنه حكمة. الصفة الرابعة : من صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم : قوله : "ويزكيهم" واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين. أحدهما : أن يعرف الحق لذاته. والثاني : أن يعرف الخير لأجل العمل به ، فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهراً عن الرذائل والنقائص ، ولم يكن زكياً عنها ، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص ، فقال : (ويزكيهم) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين ، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلاً فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار ، فإذن هذه التزكية لها تفسيران. الأول : ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة ، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم ، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد ، والوعظ والتذكير ، وتكرير ذلك عليهم ، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا ، فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم ، وأنه أوتي مكارم الأخلاق. الثاني : يزكيهم ، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت ، كتزكية المزكي الشهود ، والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء ، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة ، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة ، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية ، هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية ، وللمفسرين فيه عبارات. أحدها : قال الحسن : يزكيهم : يطهرهم من شركهم ، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب ، وأن الشرك ينجسهم ، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولاً منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم. وثانيها : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس. وثالثها : ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس ، كقوله : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـا ئِثَ} (الأعراف : 57) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
{إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والعزيز : / هو القادر الذي لا يغلب ، والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئاً ، وإذا كان عالماً قادراً كان ما يفعله صواباً ومبرأ عن العبث والسفه ، ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل ، ولا إنزال الكتاب ، واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة ، لأنه إذا كان منزهاً عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج ، ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام ، فهو عزيز لا محالة ، وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات ، فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه ، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه. أحدها : أن صفات الذات أزلية ، وصفات الفعل ليست كذلك. وثانيها : أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات ، وصفات الفعل ليست كذلك. وثالثها : أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل ، وصفات الذات ليست كذلك ، واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال : الإله يجب أن يكون حكيماً لذاته ، وإذا كان حكيماً لذاته لم يكن القبيح مقدوراً/ والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح ، فالإله يستحيل منه فعل القبيح ، وما كان محال لم يكن مقدوراً ، إنما قلنا : الإله يجب أن يكون حكيماً لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه ، فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلهاً مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال ، وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضاً معلوم بالبديهة ، وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة ، فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه ، وأما أن المحال غير مقدور فبين ، فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح.
والجواب عنه : أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفهاً منه فزال السؤال والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 50
60
(1/610)
اعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعة التي ابتلاه بها ، ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم ، وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس فقال : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ} والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه / من نسب إسرائيل ، والنصارى فافتخارهم ليس بعيسى وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل ، وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله ، وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة ، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام ، ولما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود ، فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام ، ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه.
أما قوله : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال : رغبت من الأمر إذا كرهته ، ورغبت فيه إذا أردته. (ومن) الأول استفهام بمعنى الإنكار ، والثانية بمعنى الذي ، قال صاحب الكشاف : (من سفه) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك : هل جاءك أحد إلا زيد.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول ههنا سؤال وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد عليه السلام لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال : إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع ، أو يقال : هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق ، ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
أما الأول : فباطل لأنه عليه السلام كان يدعي أن شرعه نسخ كل الشرائع ، فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع.
وأما الثاني : فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب.
وسؤال آخر وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ ، ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع ، فيلزم أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام راغباً أيضاً عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم.
وجوابه : أنه تعالى لما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته ، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقاً في مقاله ، وجب عليهم الاعتراف بنبوة / هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام.
قال السائل : إن القول ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى ، وإنما محمد عليه الصلاة والسلام روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام/ فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية ، ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته ، فيفضي إلى الدور وهو ساقط ، سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولاً من ذريته وذرية إسماعيل ، فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص ؟
فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك ، وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة ، وهو الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام ، فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصاً آخر سوى هذا الشخص المعين ؟
والجواب عن السؤال الأول : لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية ، ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى. وعن الثاني : أن المعتمد في إثبات نبوته عليه السلام : ظهور المعجز على يده ، وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات ، ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
(1/611)
المسألة الثالثة : في انتصاب (نفسه) قولان. الأول : لأنه مفعول ، قال المبرد : سفه لازم ، وسفه متعد ، وعلى هذا القول وجوه. الأول : امتهنها واستخف بها ، وأصل السفه الخفة ، ومنه زمام سفيه ، والدليل عليه ما جاء في الحديث : "الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس" وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها ، حيث خالف بها كل نفس عاقلة. والثاني : قال الحسن : إلا من جهل نفسه وخسر نفسه ، وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها ، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته ، فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم. والثالث : أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة. والرابع : أضل نفسه. القول الثاني : أن نفسه ليست مفعولاً وذكروا على هذا القول وجوهاً. الأول : أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه. والثاني : أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفساً ثم أضاف وتقديره إلا السفيه ، وذكر النفس تأكيد كما يقال : هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه. الثالث : قرىء : {إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه } بتشديد الفاء ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب فقال : {مَتَـاعٌ فِى الدُّنْيَا} والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة ، وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والأمامة الباقية إلى قيام الساعة ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله / بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه ، ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة ، وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره : ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين ، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى ، قال الحسن : من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 60
62
اعلم أن هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام وفيه مسائل :
المسألة الأولى : موضع (إذ) نصب وفي عامله وجهان. الوجه الأول : أنه نصب باصطفيناه ، أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم ، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء ، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة ، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب ، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة ، فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به ، فإن قيل قوله : {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ} إخبار عن النفس وقوله : {إِذْ قَالَ لَه رَبُّه ا أَسْلِمْ } إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحداً ؟
قلنا : هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مراراً. الثاني : أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفي الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم ؟
ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له : أسلم في زمان لا يكون مسلماً فيه ، فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم ؟
فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه قال له تعالى : {أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضاً أن يكون قوله : {أَسْلِمْ } كان قبل الاستدلال ، فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
(1/612)
وأصدق دلالة منه قوله تعالى : {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِه يُشْرِكُونَ} (الروم : 35) فجعل دلالة البرهان كلاماً ، ومن الناس من قال : هذا الأمر كان بعد النبوة ، وقوله : {أَسْلِمْ } ليس المراد / منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر. أحدها : الانقياد لأوامر الله تعالى ، والمسارعة إلى تلقيها بالقبول ، وترك الإعراض بالقلب واللسان ، وهو المراد من قوله : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة : 128). وثانيها : قال الأصم : (أسلم) أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار. وثالثها : استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ} (محمد : 19). ورابعها : أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح ، وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله : (أسلم).
جزء : 4 رقم الصفحة : 62
63
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر (وأوصى) بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في (وصى) دليل مبالغة وتكثير.
المسألة الثانية : الضمير في (بها) إلى أي شيء يعود ؟
فيه قولان : الأول : أنه عائد إلى قوله : {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (البقرة : 131) على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : {وَجَعَلَهَا كَلِمَةَا بَاقِيَةً} (الزخرف : 28) إلى قوله : {إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى} (الزخرف : 26) وقوله : {كَلِمَةَا بَاقِيَةً} دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة. القول الثاني : أنه عائد إلى الملة في قوله : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ} (البقرة : 130) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين. الأول : أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم. الثاني : أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة ، والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك.
المسألة الثالثة : اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين. أحدها : أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال : وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر ، لأن الوصية عند الخوف من الموت ، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم ، فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتماً بهذا الأمر متشدداً فيه ، كان القول إلى قبوله أقرب. وثانيها : أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك ، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم ، فلما خصهم بذلك في آخر عمره ، علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره. وثالثها : أنه / عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحداً منهم بهذه الوصية ، وذلك أيضاً يدل على شدة الاهتمام. ورابعها : أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين ، ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين ، وذلك يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر. وخامسها : أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى ، وهذا يدل أيضاً على شدة الاهتمال بهذا الأمر ، ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة ، ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر ، عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام ، وأجراها بالرعاية ، فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية ، وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
أما قوله : {وَيَعْقُوبَ} ففيه قولان : الأول : وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم ، والمعنى أنه وصى كوصية إبراهيم. والثاني : قرىء {وَيَعْقُوبَ} بالنصب عطفاً على بنيه ، ومعناه : وصى إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب ، أما قوله : {أَوْ بَنِى } فهو على إضمار القول عند البصريين ، وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول ، وفي قراءة أبي وابن مسعود ، أن يا بني.
أما قوله : {اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره.
أما قوله : {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} فالمراد بعثهم على الإسلام/ وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين ، ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأموراً به في كل حال ، لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلاً نفسه في الخطر والغرور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
64
(1/613)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام ، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى ، ومبالغة في البيان وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن (أم) معناها حرف الاستفهام ، أو حرف العطف ، وهي تشبه من حروف العطف "أو" وهي تأتي على وجهين : متصلة بما قبلها ومنقطعة منه ، أما المتصلة فاعلم أنك إذا قلت : أزيد عندك أم عمرو ؟
فأنت لا تعلم كون أحدهماعنده فتسأل هل أحد هذين عندك فلا جرم كان جوابه لا أو نعم ، أما إذا علمت كون أحد هذين الرجلين عنده لكنك لا تعلم أن الكائن عنده زيد أو عمرو فسألته عن التعيين قلت : أزيد عندك أم عمرو ؟
أي اعلم أن أحدهما عندك لكن من هذا أو ذاك ؟
وأما المنقطعة فقالوا : إنها بمعنى "بل" مع همزة الاستفهام ، مثاله : إذا قال إنها لا بل أم شاء ، فكأن قائل هذا الكلام سبق بصره إلى الأشخاص فقدر أنها إبل فأخبر على مقتضى ظنه أنها الإبل ، ثم جاءه الشك وأراد أن يضرب عن ذلك الخبر وأن يستفهم أنها هل هي شاء أم لا ، فالإضراب عن الأول هو معنى "بل" والاستفهام عن أنها شاء هو المراد بهمزة الاستفهام ، فقولك : إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك : إنها لا بل أهي شاء فقولك : أي شاء كلام مستأنف غير متصل بقوله : إنها لا بل ، وكيف وذلك قد وقع الإضراب عنه بخلاف المتصلة فإن قولك : أزيد عندك أم عمرو ؟
بمعنى أيهما عندك ولم يكن "ما" بعد "أم" منقطعاً عما قبله بدليل أن عمراً قرين زيد وكفى دليلاً على ذلك أنك تعبر عن ذلك باسم مفرد فتقول : أيهما عندك ؟
وقد جاء في كتاب الله تعالى من النوعين كثير ، أما المتصلة فقوله تعالى : {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا} (النازعات : 27) أي أيكما أشد ، وأما المنقطعة فقوله تعالى : {الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه } (السجدة : 1 ـ 3) والله أعلم بل يقولون افتراه ، فدل على الإضراب عن الأول والاستفهام عما بعده ، إذ ليس في الكلام معنى ، أي كما كان في قولك : أزيد عندك أم عمرو ؟
ومن لا يحقق من المفسرين يقولون إن "أم" ههنا بمنزلة الهمزة وذلك غير صحيح لما ذكرنا أن "أم" هذه المنقطعة : تتضمن معنى بل ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول "أم" في هذه الآية منفصلة أم متصلة ؟
"والشهداء" جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين عندما حضر يعقوب الموت ، والخطاب مع أهل الكتاب ، كأنه تعالى قال لهم فيما كانوا يزعمون من أن الدين الذي هم عليه دين الرسل : كيف تقولون ذلك وأنتم تشهدون وصايا الأنبياء بالدين ولو شهدتم ذلك لتركتم ما أنتم عليه من الدين ولرغبتم في دين محمد صلى الله عليه وسلّم الذي هو نفس ما كان عليه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
فإن قيل : الاستفهام على سبيل الإنكار إنما يتوجه على كلام باطل ، والمحكى عن يعقوب / في هذه الآية ليس كلاًما باطلاً بل حقاً ، فكيف يمكن صرف الاستفهام على سبيل الإنكار إليه ؟
قلنا : الاستفهام على سبيل الإنكار متعلق بمجرد ادعائهم الحضور عند وفاته هذا هو الذي أنكره الله تعالى. فأما ذكره بعد ذلك من قول يعقوب عليه السلام : {مَا تَعْبُدُونَ مِنا بَعْدِى} فهو كلام مفصل بل كأنه تعالى لما أنكر حضورهم في ذلك الوقت شرح بعد ذلك كيفية تلك الوصية.
القول الثاني : في أن (أم) في هذه الآية متصلة ، وطريق ذلك أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية ، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؛ يعني إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ دعا بنيه إلى ملة الإسلام والتوحيد ، وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء.
أما قوله : {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال القفال قوله : {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} أن (إذ) الأولى وقت الشهداء ، والثانية وقت الحضور.
المسألة الثانية : الآية دالة على أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره.
أما قوله : {مَا تَعْبُدُونَ مِنا بَعْدِى} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : لفظة (ما) لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق ؟
وجوابه من وجهين : الأول : أن (ما) عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون. والثاني : قوله : {مَا تَعْبُدُونَ} كقولك عند طلب الحد والرسم : ما الإنسان ؟
المسألة الثانية ؛ قوله : {مِنا بَعْدِى} أما قوله : {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} ففيه مسائل :
(1/614)
المسألة الأولى : هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل. الأول : المقلدة قالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف. الثاني : التعليمية. قالوا : لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، بل قالوا : نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
والجواب : كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي ، فليس فيها أيضاً دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم ، ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلاً على سبيل الاستدلال ، أقصى ما في الباب أن يقال : فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال.
والجواب عنه من وجوه ، أولها : أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى / بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله. وثانيها : أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له. وثالثها : لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله : {قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 21) وههنا مرادهم بقولهم : {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ} أي : نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد.
المسألة الثانية : قال القفال : وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته ، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسك بعبادة الله تعالى. وحكى القاضي عن ابن عباس : أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة ، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران ، فقال : يا بني ما تعبدون من بعدي ؟
قالوا : نعبد إهلك وإله آبائك ثم قال القاضي : هذا بعيد لوجهين. الأول : أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين. الثاني : أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوماً صالحين وذلك لا يليق بحالهم.
المسألة الثالثة : قوله : {إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} عطف بيان لآبائك. قال القفال : وقيل أنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه : الأخوة والأخوات للأب والأم أو للأب لا يسقطون بالجد وهو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وزيد رضي الله عنهم وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة : إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بكر الصديق وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، ومن التابعين قول الحسن وطاوس وعطاء ، أما الأولون وهم الذين يقولون : إنهم لا يسقطون بالجد فلهم قولان. أحدهما : أن الجد خير الأمرين : إما المقاسمة معهم أو ثلث جميع المال ، ثم الباقي بين الأخوة والأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مذهب زيد ابن ثابت وقول الشافعي رضي الله عنه. والثاني : أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة من السدس أعطى السدس ولم ينقص منه شيء واحتج أبو حنيفة على قوله بأن الجد أب والأب يحجب الأخوات والأخوة فيلزم أن يحجبهم الجد ، وإنما قلنا : إن الجد أب للآية والأثر. أما الآية فاثنان هذه الآية وهي قوله تعالى : {نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ} فأطلق لفظ الأب على الجد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
فإن قيل : فقد أطلقه في العم وهو إسماعيل مع أنه بالاتفاق ليس بأب.
قلنا : الاستعمال دليل الحقيقة ظاهراً ترك العمل به في حق العم لدليل قام فيه فيبقى في الباقي حجة الآية الثانية قوله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام : {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ } (يوسف : 38).
(1/615)
/ وأما الأثر فما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال : من شاء لاعنته عند الحجر الأسود ، إن الجد أب ، وقال أيضاً : ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً ، وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى : {وَوَرِثَه ا أَبَوَاهُ فَلامِّهِ الثُّلُثُ } (النساء : 11) في استحقاق الجد الثلثين دون الأخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقياً ، قال الشافعي رضي الله عنه : لا نسلم أن الجد أب ، والدليل عليه وجوه. أحدها : أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب ، فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى : {وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاه مُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (البقرة : 132) فإن الله تعالى ما أدخل يعقوب في بنيه لأنه ميزه عنهم ، فلو كان الصاعد في الأبوة أباً لكان النازل في البنوة ابناً في الحقيقة ، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب. وثانيها : لو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفي أن له أباً ، كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.
فإن قيل : اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي.
قلنا : لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه ، وثالثها : لو كان الجد أباً على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أماً وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير. ورابعها : لو كان الجد أباً ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ، ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أماً ، ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه/ فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب. وخامسها : قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } (النساء : 11) فلو كان الجد أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب ، فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه. أولها : أنه قرأ أبي : {وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ} بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع القراءة المتواترة ، بل الجواب أن يقال : إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم وقال عليه الصلاة والسلام في العباس : "هذا بقية آبائي" وقال : "ردوا على أبي" فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل المجاز ، والدليل عليه ما قدمناه أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد ، ولو كان حقيقة لما كان كذلك ، وأما قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
أما قوله تعالى : {إِلَـاهًا وَاحِدًا } فهو بدل {وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ} كقوله : {بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ} (العلق : 15 ، 16) أو على الاختصاص ، أي تريد بإله آبائك إلهاً واحداً ، أما قوله : {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} ففيه وجوه. أحدها : / أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في (له). وثانيها : يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد. وثالثها : أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون.
أما قوله تعالى : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة ، وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون. و(الأمة) الصنف. (خلت) سلفت ومضت وانقرضت ، والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه ، فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم ، والآية دالة على مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على بطلان التقليد ، لأن قوله : {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره ، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع ، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم ، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق.
المسألة الثانية : الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان ، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام ، وتحذيرهم من مخالفته.
(1/616)
المسألة الثالثة : الآية دالة على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم ، وتحقيقه ما روي عنه عليه السلام أنه قال : "يا صفية عمة محمد ، يا فاطمة بنت محمد ، ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً". وقال : "ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه". وقال الله تعالى : {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ} (المؤمنون : 101) وقال تعالى : {لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِا مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِه } (النساء : 123) وكذلك قوله تعالى : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (الأنعام : 164) وقال : {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } (النور : 54).
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
المسألة الرابعة : الآية تدل على بطلان قول من يقول : الأبناء يعذبون بكفر آبائهم ، وكان اليهود يقولون : إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل. وهو قوله تعالى : {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } (البقرة : 80) وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك.
المسألة الخامسة : الآية دالة على أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب. أما أهل السنة فقد اتفقوا على أنه ليس معنى كون العبد مكتسباً دخول شيء من الأعراض بقدرته من العدم إلى الوجود ، ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ذكروا لهذا الكسب ثلاث تفسيرات. أحدها : وهو قول الأشعري رضي الله عنه أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير القدرة في المقدور ، بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله تعالى ، كما أن العلم والمعلوم حصلا بخلق الله تعالى ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله تعالى وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب. وثانيها : / أن ذات الفعل توجد بقدرة الله تعالى ، ثم يحصل لذلك الفعل وصف كونه طاعة أو معصية وهذه الصفة حاصلة بالقدرة الحادثة. وهو قول أبي بكر الباقلاني. وثالثها : أن القدرة الحادثة والقدرة القديمة ، إذا تعلقتا بمقدور واحد وقع المقدور بهما ، وكأنه فعل العبد وقع بإعانة الله ، فهذا هو الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لأنه يروى عنه أنه قال الكسب والفعل الواقع بالمعين.
أما القائلون بأن القدرة الحادثة مؤثرة ، فهم فريقان. الأول : الذين يقولون بأن القدرة مع الداعي توجب الفعل ، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة ، والداعية القائمتان به ، وهذا مذهب إمام الحرمين رحمه الله تعالى اختاره في الكتاب الذي سماه بالنظامية ويقرب قول أبي الحسين البصري منه وإن كان لا يصرح به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
(1/617)
الفريق الثاني من المعتزلة : وهم الذين يقولون : القدرة مع الداعي لا توجب الفعل ، بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما ، إن شاء فعل وإن شاء ترك ، وهذا الفعل والكسب ، قالت المعتزلة للأشعري : إذا كان مقدور العبد واقعاً بخلق الله تعالى ، فإذا خلقه فيه : استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل ، وإذا لم يخلقه فيه : استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به. وإذا كان كذلك لم يكن ألبتة متمكناً من الفعل والترك ، ولا معنى للقادر إلا ذلك ، فالعبد ألبتة غير قادر ، وأيضاً فهذا الذي هو مكتسب العبد. إما أن يكون واقعاً بقدرة الله ، أو لم يقع ألبتة بقدرة الله ، أو وقع بالقدرتين معاً ، فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثراً فكيف يكون مكتسباً له ؟
وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب. وإن وقع بالقدرتين معاً فهذا محال ، لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع ، فعند تعلق قدرة الله تعالى به ، فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر ، وأما قول الباقلاني فضعيف ، لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز ، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه ، وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق ، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب ، وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير ، فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر ألبتة ، قال أهل السنة : كون العبد مستقلاً بالإيجاد والخلق محال لوجوه. أولها : أن العبد لو كان موجداً لأفعاله ، لكان عالماً بتفاصيل فعله ، وهو غير عالم بتلك التفاصيل ، فهو غير موجد لها. وثانيها : لو كان العبد موجداً لفعل نفسه ؛ لما وقع إلا ما أراده العبد ، وليس كذلك ، لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل. وثانيها : لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لكان كونه موجداً لذلك الفعل زائداً على ذات ذلك الفعل ، وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع الذهول عن كون العبد موجداً له ، والمعقول غير المغفول عنه ، ثم تلك الموجدية حادثة ، فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى ، ولزم التسلسل وهو محال ، وإن كان الله / تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى ، ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم ، فكانت موجديته قديمة ، فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى.
هذا ملخص الكلام من الجانبين والمنازعات بين الفريقن في الألفاظ والمعاني كثيرة والله الهادي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 64
70
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعاً من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام.
الشبهة الأولى : حكى عنهم أنهم قالوا : {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى تَهْتَدُوا } ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة ، بل أصروا على التقليد ، فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه. الأول : ذكر جواباً إلزامياً وهو قوله : {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاه مَ حَنِيفًا } وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم ، لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد ، فكأنه سبحانه قال : إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر ، فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى.
فإن قيل : أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام.
قلنا : لما ثبت أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد ، وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث ، واليهود يقولون بالتشبيه ، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام ، وأن محمداً عليه السلام لما دعا إلى التوحيد ، كان هو على دين إبراهيم.
(1/618)
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ : أما قوله : {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } فلا يجوز أن يكون المراد به التخيير ، إذ المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوز اختيار النصرانية على اليهودية ، بل تزعم أنه كفر. والمعلوم من حال النصارى أيضاً ذلك بل المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية والنصارى إلى النصرانية ، فكل فريق يدعو إلى دينه ، ويزعم أنه الهدي فهذا معنى قوله : {تَهْتَدُوا } أي أنكم إذا فعلتم ذلك اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة. أما قوله : {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاه مَ} ففي اتنصاب ملة أربعة أقوال. الأول : لأنه عطف في المعنى على قوله : {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } وتقديره قالوا : اتبعوا / اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم. الثاني : على الحذف تقديره : بل نتبع ملة إبراهيم. الثالث : تقديره : بل نكون أهل ملة إبراهيم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 92) أي أهلها. الرابع : التقدير : بل اتبعوا ملة إبراهيم ، وقرأ الأعرج : (ملة إبراهيم) بالرفع أي ملته ملتنا ، أو ديننا ملة إبراهيم ، وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبراً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 70
أما قوله : {حَنِيفًا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : لأهل اللغة في الحنيف قولان. الأول : أن الحنيف هو المستقيم ، ومنه قيل للأعرج : أحنف ، تفاؤلاً بالسلامة ، كما قالوا للديغ : سليم ، والمهلكة : مفازة ، قالوا : فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف ، وهو مروي عن محمد بن كعب القرطي. الثاني : أن الحنيف المائل ، لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها ، وتحنف إذا مال ، فالمعنى أن إبراهيم عليه السلام حنف إلى دين الله ، أي مال إليه ، فقوله : {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاه مَ حَنِيفًا } أي مخالفاً لليهود والنصارى منحرفاً عنهما ، وأما المفسرون فذكروا عبارات ، أحدها : قول ابن عباس والحسن ومجاهد : أن الحنيفية حج البيت. وثانيها : أنها اتباع الحق ، عن مجاهد. وثالثها : اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام. ورابعها : إخلاص العمل وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد عن الأصم قال القفال : وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات ، وأصله من إبراهيم عليه السلام.
المسألة الثانية : في نصب حنيفاً قولان ، أحدهما : قول الزجاج أنه نصب على الحال من إبراهيم كقولك : رأيت وجه هند قائمة. الثاني : أنه نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب ، قاله نحاة الكوفة.
أما قوله : {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ففيه وجوه ، أحدها : أنه تنبيه على أن في مذهب اليهود والنصارى شركاء على ما بيناه ، لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله وذلك شرك. وثانيها : أن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة ، من حج البيت والختان وغيرهما ، فمن دان بذلك فهو حنيف ، وكان العرب تدين بهذه الأشياء. ثم كانت تشرك ، فقيل من أجل هذا : {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونظيره قوله : {حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه } (الحج : 31) ، وقوله : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف : 106) قال القاضي : الآية تدل على أن للواحد منا أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله : إفحاً ماله وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه لأن من المعلوم أنه عليه السلام لم يكن يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة التي ظهرت عليه لكنه عليه السلام لما كان قد أقام الحجة بها وأزاح العلة ثم وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم ، فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس / ما كانوا عليه فقال : إن كان الدين بالاتباع فالمتفق عليه وهو ملة إبراهيم عليه السلام أولى بالاتباع ، ولقائل أن يقول : اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم ، ومقرين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث ، امتنع أن يقولوا بذلك ، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ، ومتى كانوا قائلين بذلك لم يكن في دعوتهم إليه فائدة ، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم أو كانوا مقرين به ، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه فكان الأخذ به أولى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 70
والجواب : أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عليه السلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه السلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 70
71
(1/619)
اعلم أنه تعالى لما أجاب بالجواب الجدلي أولاً ، ذكر بعده جواباً برهانياً في هذه الآية وهو : أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم ، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلّم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته ، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلاً ، فهذا هو المراد من قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} إلى آخر الآية ، وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية. فإن قيل : كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة ، قلنا : نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة ، أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه ، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم مع قيام المعجز على يده ، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق ، ثم نقول في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن الله تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا : {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } (البقرة : 135) ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام : {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاه مَ} (البقرة : 135) ثم قال لأمته : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} وهذا قول الحسن وقال القاضي قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} يتناول جميع المكلفين ، أعني النبي عليه السلام وأمته ، والدليل عليه وجهان : / أحدهما : أن قوله : {قُولُوا } خطاب عام فيتناول الكل. الثاني : أن قوله : {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} لا يليق إلا به صلى الله عليه وسلّم ، فلا أقل من أن يكون هو داخلاً فيه ، واحتج الحسن على قوله بوجهين. الأول : أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله : {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاه مَ} . الثاني : أنه في نهاية الشرف ، والظاهر إفراده بالخطاب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 71
والجواب : أن هذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} أما قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} فإنما قدمه لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع ، فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً ، وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى : الكتاب والسنة.
أما قوله : {وَالاسْبَاطَ} قال الخليل : السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب ، وقال صاحب "الكشاف" السبط ، الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والأسباط : الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الإثني عشر.
أما قوله : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} ففيه وجهان. الأول : أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز. الثاني : لا نفرق بين أحد منهم ، أي لا نقول : إنهم متفرقون في أصول الديانات ، بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام ، كما قال الله تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه } . الوجه الأول : أليق بسياق الآية.
أما قوله : {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} فالمعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى ، وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به. فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول ، والبعض بالرد ، فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له ، بل اتباع الهوى والميل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 71
والجواب : أن هذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} أما قوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} فإنما قدمه لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع ، فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً ، وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى : الكتاب والسنة.
أما قوله : {وَالاسْبَاطَ} قال الخليل : السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب ، وقال صاحب "الكشاف" السبط ، الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والأسباط : الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الإثني عشر.
(1/620)
أما قوله : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} ففيه وجهان. الأول : أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز. الثاني : لا نفرق بين أحد منهم ، أي لا نقول : إنهم متفرقون في أصول الديانات ، بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام ، كما قال الله تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ا أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه } . الوجه الأول : أليق بسياق الآية.
أما قوله : {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} فالمعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى ، وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به. فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول ، والبعض بالرد ، فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له ، بل اتباع الهوى والميل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 71
73
اعلم أنه تعالى لما بين الطريق الواضح في الدين ، وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته ، وأن يحترز في ذلك عن المناقضة : رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال : {فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِه فَقَدِ اهْتَدَوا } .
/ من وجوه : أحدها : أن المقصود منه التثبيت والمعنى : إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا ، لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه : هذا هو الرأي والصواب فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تثبيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه ، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد لأن هذا الدين مبناه على أن كل من ظهر عليه المعجز وجب الاعتراف بنبوته ، وكل ما غاير هذا الدين لا بد وأن يشتمل على المناقضة ، والمتناقض يستحيل أن يكون مساوياً لغير المتناقض في السداد والصحة. وثانيها : أن المثل صلة في الكلام قال الله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) أي ليس كهو شيء ، وقال الشاعر : وصاليات ككما يؤثفين ، وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول :
والله لولا حنف برجله
ودقة في ساقه من هزله
ما كان منكم أحد كمثله
وثالثها : أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتصلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم. ورابعها : أن يكون قوله : {فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِه } أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا ، فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين ، وروى محمد بن جرير الطبري أن ابن عباس قال : لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فليس لله مثل ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، قال القاضي : لا وجه لترك القراءة المتواترة من حيث يشكل المعنى ويلبس لأن ذلك إن جعله المرء مذهباً لزمه أن يغير تلاوة كل الآيات المتشابهات وذلك محظور والوجه الأول في الجواب هو المعتمد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 73
أما قوله : {فَقَدِ اهْتَدَوا } فالمراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه ، ومن هذا حاله يكون ولياً لله داخلاً في أهل رضوانه ، فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء ، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها ، ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال : {وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } وفي الشقاق بحثان :
البحث الأول : قال بعض أهل اللغة : الشقاق مأخذو من الشق ، كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة وقد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وفارقها ، ونظيره : المحادة وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر ، والتعادي مثله لأن هذا يكون في عدوة وذاك في عدوة ، والمجانبة أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر وقال آخرون : إنه من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه قال الله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي فراق بينهما في الاختلاف حتى يشق أحدهما على الآخر.
(1/621)
البحث الثاني : قوله : {وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين / والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة ثم للمفسرين عبارات. أولها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : {فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } في خلاف مذ فارقوا الحق وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله. وثانيها : قال أبو عبيدة ومقاتل في شقاتل. أي في ضلال. وثالثها : قال ابن زيد في منازعة ومحاربة. ورابعها : قال الحسن في عداوة قال القاضي : ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلاً على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن ، فعند هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه } تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به قال المتكلمون : هذا أخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالاً على صدقة وإنما قلنا إنه إخبار عن الغيب وذلك لأنا وجدنا مخبر هذا القول على ما أخبر به لأنه تعالى كفاه شر اليهود والنصارى ونصره عليهم حتى غلبهم المسلمون وأخذوا ديارهم وأموالهم فصاروا أذلاء في أيديهم يؤدون إليهم الخراج والجزية أو لا يقدرون ألبتة على التخلص من أيديهم وإنما قلنا : إنه معجز لأنه المتخرص لا يصيب في مثل ذلك على التفصيل ، قال الملحدون : لا نسلم أن هذا معجز وذلك لأن المعجز هو الذي يكون ناقضاً للعادة ، وقد جرت العادة بأن كل من كان مبتلى بإيذاء غيره فإنه يقال له : اصبر فإن الله يكفيك شره ، ثم قد يقع ذلك تارة ولا يقع أخرى ، وإذا كان هذا معتاداً فكيف يقال : إنه معجز وأيضاً لعله توصل إلى ذلك برؤيا رآها ، وذلك مما لاسبيل إلى دفعه ، فإن المنجمين يقولون : من كان سهم الغيب في طالعه فإنه يأتي بمثل هذه الأخبار وإن لم يكن نبياً. والجواب : أنه ليس غرضنا من قولنا أنه معجز أن هذا الإخبار وحده معجز ، بل غرضنا أن القرآن يشتمل على كثير من هذا النوع ، والإخبار عن الأشياء الكثيرة على سبيل التفصيل مما لا يتأتى من المتخرص الكاذب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 73
ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفيه وجهان. الأول : أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه. الثاني : أنه وعد للرسول عليه السلام يعني : يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرداك ، واحتج الأصحاب بقوله : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله : {عَلِيمٌ} بناء مبالغة فيتناول كونه عالماً بجميع المعلومات ، فلو كان كونه سميعاً عبارة عن علمه بالمسموعات لزم التكرار وأنه غير جائز ، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عليماً والله أعلم بالصواب.
أما قوله : {بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِه } ففيه إشكال وهو أن الذي آمن به المؤمنون ليس له مثل ، وجوابه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 73
74
اعلم أنه تعالى لما ذكر الجواب الثاني وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين ذكر بعده ما يدل على أن دلائل هذا الدين واضحة جلية فقال : {صِبْغَةَ اللَّه } ثم في الآية مسائل :
(1/622)
المسألة الأولى : الصبغ ما يلون به الثياب ويقال : صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها لغتان. (والصبغة) فعلة من صبغ كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ، ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال. الأول : أنه دين الله وذكروا في أنه لم سمي دين الله بصبغة الله وجوهً. أحدها : أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون : هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً. فقال الله تعالى : اطلبوا صبغة الله وهي الدين ، والإسلام لا صبغتهم ، والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم : اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً مواظباً على الكرم ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة : 14 ، 15) ، {يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النساء : 142) ، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه } (آل عمران : 54) ، {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) ، {إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} (هود : 38). وثانيها : اليهود تصبغ أولادها يهودا والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم ، عن قتادة قال ابن الأنباري : يقال : فلان يصبغ فلاناً في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثواب وأنشد ثعلب :
جزء : 4 رقم الصفحة : 74
دع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا
إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وثالثها : سمي الدين صبغة لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة ، قال الله تعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (الفتح : 29). ورابعها : قال القاضي قوله : {صِبْغَةَ اللَّه } متعلق بقوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} (البقرة : 136) إلى قوله : {وَنَحْنُ لَه مُسْلِمُونَ} (العنكبوت : 46) فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله ، وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية ، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم. القول الثاني : أن صبغة الله فطرته وهو كقوله : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه } (الروم : 30) ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة ، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة. قال القاضي : من حمل قوله : {صِبْغَةَ اللَّه } على الفطرة فهو مقارب في المعنى ، لقول من يقول : هو دين الله لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع ، وهو الدين أيضاً ، لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله / {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ} فكأنه تعالى قال في ذلك : إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر ديناً ودنيا كظهور حسن الصبغة ، وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول : إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى/ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه ولنذكر الآن بقية أقوال المفسرين :
القول الثالث : أن صبغة الله هي الختان ، الذي هو تطهير ، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم فكذلك الختان تطهير للمسلمين عن أبي العالية.
القول الرابع : إنه حجة الله ، عن الأصم ، وقيل : إنه سنة الله ، عن أبي عبيدة ، والقول الجيد هو الأول ، والله أعلم.
المسألة الثانية : في نصب صبغة أقوال. أحدها : أنه بدل من ملة وتفسير لها. الثاني : اتبعوا صبغة الله. الثالث : قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد فينتصب عن قوله : {بِاللَّهِ فَإِذَآ} كما انتصب وعد الله عما تقدمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 74
أما قوله : {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } فالمراد أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر ، فلا صبغة أحسن من صبغته.
أما قوله تعالى : {وَنَحْنُ لَه عَـابِدُونَ} فقال صاحب "الكشاف" : إنه عطف على : {بِاللَّهِ فَإِذَآ} وهذا يرد قول من يزعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 74
76
اعلم أن في الآية مسائل :
(1/623)
المسألة الأولى : اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوهاً. أحدها : أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى : أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم ، وترونكم أحق بالنبوة منا. وثانيها : قولهم : نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان. وثالثها : قولهم ؛ {نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُه } وقولهم : {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى } (البقرة : 111) وقولهم : {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى تَهْتَدُوا } (البقرة : 135) عن الحسن. ورابعها : {أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ} أي : أتحاجوننا في دين الله.
المسألة الثانية : هذه المحاجة كانت مع من ؟
ذكروا فيه وجوهاً. أحدها : أنه خطاب لليهود / والنصارى. وثانيها : أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا : {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) والعرب كانوا مقرين بالخالق. وثالثها : أنه خطاب مع الكل ، والقول الأول أليق بنظم الآية.
أما قوله : {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} ففيه وجهان. الأول : أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها ، فلا تعترضوا على ربكم ، فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه ، بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له. الثاني : أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية ، وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم ، فلم ترجحون أنفسكم علينا ، بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية ، ولستم كذلك ، وهو المراد بقوله : {وَنَحْنُ لَه } وهذا التأويل أقرب.
أما قوله تعالى : {وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ} فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه : قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة ، أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح ، وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خالياً عن الأغراض الدنيوية ، فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق ، وأما معنى الإخلاص فقد تقدم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 76
77
اعلم أن في الآية مسألتين :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم : {أَمْ تَقُولُونَ} بالتاء على المخاطبة كأنه قال : أتحاجوننا أم تقولون ، والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى فعلى الأول يحتمل أن تكون (أم) متصلة وتقديره : بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا ، أبالتوحيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون ؟
وأن تكون منقطعة بمعنى : بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضاً ، وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول ، كأنه قيل : أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى.
/ المسألة الثانية : إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه. أحدها : لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم ثبتت نبوته بسائر المعجزات ، وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه. وثانيها : شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية. وثالثها : أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم. ورابعها : أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون.
أما قوله تعالى : {قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه } فمعناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية. فإن قيل : إنما يقال هذا فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام ؟
قلنا : من قال : إنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر ومن قال : علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم.
(1/624)
أما قوله : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـادَةً عِندَه مِنَ اللَّه } ففيه ثلاثة أوجه. أحدها : أن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير : ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك : ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى. لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب ، علمنا أنه ليس الأمر كذلك. وثانيها : ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله : {مِّنَ اللَّه } تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال : ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها. وثالثها : أن يكون : {مِّنْ} في قوله : {مِّنَ اللَّه } صلة الشهادة والمعنى : ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك ، أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 77
أما قوله : {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فهو الكلام الجامع لكل وعيد ، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا يخفى عليه خافية أنه من وراء مجازاته إن خيراً فخير وإن شراً فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر/ فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول.
جزء : 4 رقم الصفحة : 77
78
اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء بهذه الآية لوجوه. أحدها : ليكون وعظاً لهم وزجراً حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله. وثانيها : أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد صلى الله عليه وسلّم من ملة إلى ملة أخرى. وثالثها : أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله ، ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم ، لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد ، فإن قيل لم كررت الآية ؟
قلنا فيه قولان ، أحدهما : أنه عني بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه ، والثانية أسلاف اليهود. قال الجبائي قال القاضي : هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هوداً فكأنهم قالوا : إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه فقوله : {تِلْكَ أُمَّةٌ} يجب أن يكون عائداً إليهم ، والقول الثاني : أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرار عبثاً فكأنه تعالى قال : ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلّم ، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
78
(1/625)
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعناً في الإسلام فقالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل ، وكلاهما لا يليق بالحكيم ، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القيد ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام ، وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام ، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً وإن كان مقيداً بقيد اللا دوام فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له ، وإن كان مقيداً بقيد الدوام فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً ثم إنه رفعه بعد ذلك ، فههنا كان جاهلاً ثم بدا له ذلك ، وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه / ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وهما محالان على الله تعالى ، فكان النسخ منه محالاً ، فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن يكون مبطلاً فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح وههنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثاً والعبث لا يليق بالحكيم ، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى ، فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام ، ولنتكلم الآن في تفسير الألفاظ ثم لنذكر الجواب عن هذه الشبهة على الوجه الذي قرره الله تعالى في كتابه الكريم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
أما قوله : {سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ} ففيه قولان. الأول : وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً ، كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت ، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد ، فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى ، فصح على هذا التأويل أن يقال : سيقول السفهاء من الناس ذلك ، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية. القول الثاني : إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد. أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه ، كان هذا اخباراً عن الغيب فيكون معجزاً. وثانيها : أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم ، فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً. وثالثها : أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضراً ، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً ، وأما السفه في أصل اللغة فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ } (البقرة : 13) وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه ، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره ، يوصف بالخفة والسفه ، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً ، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود ، وعلى المشركين وعلى المنافقين ، وعلى جملتهم ، ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين. فأولها : قال ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة ، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية ، فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه ، واشتاق إلى دينهم ، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة ، فقالوا : ما حكى الله عنهم في هذه الآية. وثالثها : قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم ، إنهم مشركو العرب ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجهاً إلى / بيت المقدس حين كان بمكة ، والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا : أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا ، ولو ثبت عليه لكان أولى به. وثالثها : أنهم المنافقون وهو قول السدي ، وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها ، فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة ، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم ، قال الله تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
(1/626)
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـاكِن لا يَعْلَمُونَ} (البقرة : 13). ورابعها : أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام ، وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضاً يدل عليه وهو قوله : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه } (البقرة : 130) فوجب أن يتناول الكل. قال القاضي : المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً قلنا : هذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً ألبتة.
أما قوله تعالى : {مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه ومنه قوله : {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه } (الأنفال : 16) وقوله : {مَا وَلَّـاهُمْ} استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب.
المسألة الثانية : في هذا التولي وجهان. الأول : وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فالضمير في قوله : {مَا وَلَّـاهُمْ} للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس ، واختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام متى حول القبلة بعد ذهابه إلى المدينة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، وعن معاذ بعد ثلاثة عشر شهراً وعن قتادة بعد ستة عشر شهراً وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً ، وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً من مقدمه. قال الواقدي : صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً ، وقال آخرون : بل سنتان. الوجه الثاني : قول أب مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به ، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها ، أي السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى ، فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق ، وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم متوجهاً نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكراً ، فقالوا : كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين ، فقال الله تعالى راداً عليهم ؛ {قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
المسألة الثالثة : قال القفال : القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان ، وهي من المقابلة ، وإنما سميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله ، وقال قطرب : يقولون في كلامهم ليس لفلان قبلة ، أي ليس له جهة يأوي إليها ، وهو أيضاً مأخوذ من الإستقبال ، وقال غيره : إذ تقابل الرجلان فكل واحد منهما قبلة للآخر ، وقال بعض المحدثين :
جعلت مأواك لي قرارا
وقبلة حيثما لجأت
(1/627)
أما قوله تعالى : {قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } فاعلم أن هذا هو الجواب الأول عن تلك الشبهة ، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً وملكاً ، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة ، وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى ، فإن قيل : ما الحكمة أولاً في تعيين القبلة ؟
ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة ؟
قلنا : أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة ، أما أهل السنة فإنهم يقولون : لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة ، واحتجوا عليه بوجوه. أحدها : أن كل من فعل فعلاً لغرض ، فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان ، فإن كان الأول ، كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره ، وذلك على الله محال ، وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضاً ومقصوداً ومرجحاً فإن قيل : إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه ، فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا : عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه ، هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء ، أو ليس الأمر كذلك ، وحينئذ يعود التقسيم. وثانيها : أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون قادراً على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة ، أو لا يكون قادراً عليه. فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثاً ، وإن كان الثاني كان عجزاً وهو على الله محال. وثالثها : أنه تعالى إن فعل فعلاً لغرض فذلك الغرض وإن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال ، وإن كان محدثاً توقف إحداثه على غرض آخر ، ولزم الدور أو التسلسل وهو محال. ورابعها : أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات ، فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر ، وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض. وخامسها : ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر ، والكفر والإيمان ، والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته ، وذلك يبطل القول بالغرض ، لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد. وسادسها : أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في / الأزل ، إما أن يكون جائزاً أو وجباً ، فإن كان جائزاً افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل ، ولأنه يلزم صحة العدم على القديم ، وإن كان واجباً فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال ، وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء ، وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
{قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكاً للمشرق والمغرب ، والملك يرجع حاصله إلى القدرة/ ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة ، فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا ، أما المعتزلة فقد قالوا : لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم ، والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض ، علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكماً وأغراضاً ، ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا ، وتارة مستورة خفية عنا ، وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا ، وإذا كان الأمر كذلك : استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام.
(1/628)
المسألة الرابعة : في الكلام في تلك الحكم على سبيل التفصيل ، واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية ، بل غايتها أن تكون أموراً احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكماً. أحدها : أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات ، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد ، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها ، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ، ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير ، وضع له صورة معينة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي ، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم ، فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه ، وأن لا يكون معرضاً عنه ، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ، ويبالغ في الخدمة والتضرع له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً عنه ، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة. وثانيها : أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة ، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين ، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام ، كان استقبال تلك الجهة أولى. وثالثها : أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين ، وقد ذكر المنة بها عليهم ، حيث قال : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ} (المائدة : 7) إلى قوله : {إِخْوَانًا}
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
ولو توجه كل واحد في صلاته إلى ناحية أخرى ، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً ، فعين الله تعالى لهم جهة معلومة ، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك ، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحب الموافقة بين عباده في أعمال الخير. ورابعها : أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله : {بَيْتِىَ} وخص المؤمنين باضافتهم بصفة العبودية إليه ، وكلتا / الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال : يا مؤمن أنت عبدي ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي ، وبقلبك إلي. وخامسها : قال بعض المشايخ : إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه ، وذلك قوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} (القصص : 44) الآية ، والنصارى استقبلوا المغرب ، لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق ، لقوله تعالى : {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (مريم : 16) والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله ، ومولد حبيب الله ، وهي موضع حرم الله ، وكان بعضهم يقول : استقبلت النصارى مطلع الأنوار ، وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار ، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ، فمن نوره خلقت الأنوار جميعاً. وسادسها : قالوا : الكعبة سرة الأرض ووسطها ، فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم/ وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء ، ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق. وسابعها : أنه تعالى أظهر حبه لمحمد عليه الصلاة والسلام بواسطة أمره باستقبال الكعبة ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود ، فأنزل الله تعالى : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } (البقرة : 144) الآية ، وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا : فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل ، فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق ، وقال : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } (البقرة : 144) ولم يقل قبلة أرضاها ، والإشارة فيه كأنه تعالى قال : يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين ، أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
(1/629)
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى : 5) وفيه إشارة أيضاً إلى شرف الفقراء : {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ} (الأنعام : 52) وقال في الإعراض عن القبلة : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِا إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ} فكأنه تعالى قال : الكعبة قبلة وجهك ، والفقراء قبلة رحمتي ، فإعراضك عن قبلة وجهك ، يوجب كونك ظالماً ، فالأعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون. وثامنها : العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين من المؤمنين ، قال الله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } (البقرة : 115) وثبت أن العرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : من طور سينا ، وطور زيتا ، والجودي ، ولبنان ، وحراء ، والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول : إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجاً أو توجهت نحوها مصلياً كفرتها عنك وغفرتها لك فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب ، والتحقيق هو الأول.
المسألة الخامسة : في حكمة تحويل القبلة من جهة إلى جهة ، قد ذكرنا شبهة القوم في إنكار هذا التحويل ، وهي أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث ، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم.
/ والجواب عنه : أما على قول أهل السنة : إنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر ، وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان. الأول : أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات ، وبيانه من وجوه. أحدها : أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه ، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً ، وذلك مصلحة مطلوبة. وثانيها : أنه لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد. وثالثها : أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة ، فصار ذلك سبباً لتشويش الخواطر ، وذلك مخل بالخضوع والخشوع ، فهذا يناسب الصرف عن تلك القبلة. ورابعها : أن الكعبة منشأ محمد صلى الله عليه وسلّم ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام ، وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه ، كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل ، والمفضي إلى المطلوب مطلوب ، فكان تحويل القبلة مناسباً. وخامسها : أن الله تعالى بين ذلك في قوله : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه } (البقرة : 143) فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين ، فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود ، أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود.
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
أما قوله : {يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فالهداية قد تقدم القول فيها ، قالت المعتزلة : إنما هي الدلالة الموصلة ، والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح ، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة ، قال أصحابنا : هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه ، والأولان باطلان ، لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 78
83
قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
(1/630)
المسألة الأولى : الكاف في {كَذَالِكَ} كاف التشبيه ، والمشبه به أي شيء هو ؟
وفيه وجوه. أحدها : أنه راجع إلى معنى يهدي ، أي كما أنعمنا عليكم بالهداية ، كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطاً. وثانيها : قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم / أمة وسطاً. وثالثها : أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام : {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِي الدُّنْيَا } (البقرة : 130) أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً. ورابعها : يحتمل عندي أن يكون التقدير : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } (البقرة : 115) فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكاً لله وملكاً له ، خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلاً منه وإحساناً فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً. وخامسها : أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً كقوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ} أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً.
المسألة الثانية : اعلم أنه إذا كان الوسط اسماً حركت الوسط كقوله : {أُمَّةً وَسَطًا} والظرف مخفف تقول : جلست وسط القوم ، واختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمور. أحدها : أن الوسط هو العدل والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى ، أما الآية فقوله تعالى : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (القلم : 28) أي أعدلهم ، وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أمة وسطاً قال عدلاً" وقال عليه الصلاة والسلام : "خير الأمور أوسطها" أي أعدلها ، وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلّم أوسط قريش نسباً ، وقال عليه الصلاة والسلام : "عليكم بالنمط الأوسط" وأما الشعر فقول زهير :
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وأما النقل فقال الجوهري في "الصحاح" : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي عدلاً وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب ، وأما المعنى فمن وجوه. أحدها : أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلاً. وثانيها : إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين ، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين. وثالثها : لا شك أن المراد بقوله : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله : (وسطاً) ما يتعلق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً ، فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة. ورابعها : أن أعدل بقاع الشيء وسطه ، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال ، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
/ القول الثاني : أن الوسط من كل شيء خياره قالوا : وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه : الأول : أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب "الكشاف" : اكتريت جملاً من أعرابي بمكة للحج فقال : أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى. الثاني : أنه مطابق لقوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران : 110).
القول الثالث : أن الرجل إذا قال : فلان أوسطنا نسباً فالمعنى أنه أكثر فضلاً وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة ، وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى.
القول الرابع : يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه.
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
(1/631)
المسألة الثالثة : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيريتهم بجعل الله وخلقه وهذا صريح في المذهب ، قالت المعتزلة : المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل ، أجاب الأصحاب عنه من وجوه. الأول : أن هذا ترك للظاهر وذلك مما لا يصار إليه إلا عند قيام الدلائل على أنه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها ، لكنا قد بينا أن الدلائل العقلية الباهرة ليست إلا معنا ، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب ، وقد بينا مراراً كثيرة أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي ، والكلام المنقوض لا التفات إليه ألبتة. الوجه الثاني : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة : 142) وقد بينا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه تعالى يخص البعض بالهداية دون البعض ، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى. الوجه الثالث : أن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف في حق الكل فقد فعله ، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة. الوجه الرابع : وهو أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة وفعل اللطف واجب والواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
المسألة الرابعة : احتج جمهور الأصحاب وجمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا : أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ، لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد / منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهرة لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين. الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله تعالى/ وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال. الثاني : أن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلال الأصل ، سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ، ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة ، سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل ، وذلك لا نزاع فيه ، لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك ؟
سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم ، فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلّم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
(1/632)
والجواب عن قوله الآية متروكة الظاهر قلنا : لا نسلم فإن قوله : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة ، وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع ، لأن قوله : {جَعَلْنَـاكُمْ} خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده ، على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلاً لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة ، فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل ، لكي يدخل المعتبرون في جملتهم ، مثاله : أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال إن واحداً / من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيباً في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقاً لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق ، فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقاً لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف ، ولهذا قال كثير من العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة بقول المخطىء قوله : لو كان المراد من كونهم وسطاً هو المراد من عدالتهم ، لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى قلنا : هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه ، قوله : لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر ؟
قلنا : خبر الله تعالى صدق ، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه ، وفعل الصغيرة ليس بخير ، فالجمع بينهما متناقض ، ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور ، أو في بعض الأمور ، ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال : الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور ، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فمن كان خيراً من بعض الوجوه دون البعض ، يصدق عليه أنه خير ، فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر ، وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها ، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
{وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها ، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة ، كما أن قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) يتناول الكل ، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت ، وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة ، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم ؟
قلنا : لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس ، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه ، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر ، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة ، فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة ، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال : {أُمَّةً وَسَطًا} فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر.
المسألة الخامسة : اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى : {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} تحصل في الآخرة أو في الدنيا. فالقول الأول : إنها تقع في الآخرة ، والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان. الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم ، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على / أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلّم الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه :
(1/633)
أولها : أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون ، وهذا باطل عند القاضي ، إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ } (الأنعام : 23/24).
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
وثانيها : أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء ؟
وجوابه : الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى الله عليه وسلّم في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ولا يقبل شهادة الأمم عليهم إظهاراً لعدالتهم وكشفاً عن فضيلتهم ومنقبتهم.
وثالثها : أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : "إذا علمت مثل الشمس فاشهد" والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه.
الوجه الثاني : قالوا معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها قال ابن زيد : الأشهاد أربعة. أولها : الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد. قال تعالى : {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق : 21) وقال : {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق : 18) وقال : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الإنفطار : 10 ـ 12). وثانيها : شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه السلام : {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة : 117) وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته في هذه الآية : {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وقال : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41). وثالثها : شهادة أمة محمد خاصة. قال تعالى : {وَجِا ى ءَ بِالنَّبِيِّـانَ وَالشُّهَدَآءِ} (الز"مر : 69) وقال تعالى : {وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ} (غافر : 51). ورابعها : شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه قال تعالى : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} (
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
(1/634)
النور : 24) الآية ، وقال : {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى ا أَفْوَاهِهِمْ} (يس : 65) الآية. القول الثاني : أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا وتقريره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب : مشاهدة وشهوداً ، والعارف بالشيء : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك / المخبر أيضاً شاهداً ، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة ، لأن الله تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا ، إنما قلنا : إنه تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأنه تعالى قال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً} وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما قلنا : إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا لأنه تعالى قال : {وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط ، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ، فإن قيل : تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة ، هي الأداء لا التحمل ، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا الإجماع حجة إلا هذا/ فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضاً ، واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهوداً في الدنيا وهذا لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به ، فالحاصل أن قوله تعالى : {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث أن قولهم : عند الإجماع يبين للناس الحق ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } يعني مؤدياً ومبيناً ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
المسألة السادسة : دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة والخوارج والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ، ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل ، ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل.
المسألة السابعة : إنما قال : {شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} ولم يقل : شهداء للناس لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل وذلك عليه لا له في الحال ، فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً ؟
قلنا ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيداً عليهم.
قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا} .
(1/635)
اعلم أن قوله : {وَمَا جَعَلْنَا} معناه ما شرعنا وما حكمنا كقوله : {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنا بَحِيرَةٍ} (المائدة : 103) أي ما شرعها ولا جعلها ديناً ، وقوله : {كُنتَ عَلَيْهَآ} أي كنت معتقداً لاستقبالها ، كقول القائل : كان لفلان على فلان دين ، وقوله : {كُنتَ عَلَيْهَآ} ليس بصفة للقبلة ، إنما هو ثاني مفعولي جعل يريد : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} الجهة التي كنت عليها. ثم ههنا وجهان. الأول : أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل القبلة ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ، ثم حول إلى الكعبة فنقول : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} الجهة : {الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ} أولاً : يعني وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء. الثاني : يجوز أن يكون قوله : {الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ} لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني إن أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ، وهي بيت المقدس ، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه. وههنا وجه ثالث ذكره أبو مسلم فقال : لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها ، لأنه قد يقال : كنت بمعنى صرت كقوله تعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران : 110) وقد يقال : كان في معنى لم يزل كقوله تعالى : {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء : 158) فلا يمتنع أن يراد بقوله : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ} أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
أما قوله : {إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اللام في قوله : {إِلا لِنَعْلَمَ} لام الغرض والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم.
المسألة الثانية : وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلاً فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها ، ونظيره في الإشكال قوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ} (محمد : 31) وقوله : {الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } (الأنفال : 66) وقوله : {لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) وقوله : {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (العنكبوت : 3) وقوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} (آل عمران : 142) وقوله : {وَمَا كَانَ لَه عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاخِرَةِ} (سبأ : 21) والكلام في هذه المسألة أمر مستقصى في قوله : {وَإِذِ ابْتَلَى } والمفسرون أجابوا عنه من وجوه. أحدها : أن قوله : {إِلا لِنَعْلَمَ} معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا ، ومنه يقال : فتح عمر السواد ، ومنه قول عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه : "استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وادهراه وأنا الدهر" وفي الحديث : "من أهان لي ولياً فقد أهانني". وثانيها : معناه ليحصل المعدوم فيصير موجوداً ، فقوله : {إِلا لِنَعْلَمَ} معناه : إلا لنعلمه موجوداً ، فإن قيل : فهذا يقتضي حدوث العلم ، قلنا : اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور. وثالثها : إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق ، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون ، فسمي التمييز علماً ، لأنه أحد فوائد العلم وثمراته. ورابعها :
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
(1/636)
{إِلا لِنَعْلَمَ} معناه : إلا لنرى ، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم كقوله : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} (الفجر : 6) (الفيل : 1) (إبراهيم : 19) ورأيت ، وعلمت ، وشهدت ، ألفاظ متعاقبة. وخامسها : ما ذهب إليه الفراء : وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، ومثاله أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا ، فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار ، ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه : لنعلم أينا الجاهل ، فكذلك قوله : {إِلا لِنَعْلَمَ} إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام : الاستمالة والرفق في الخطاب ، كقوله : {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى} (سبأ : 24) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ورفقاً بالمخاطب ، فكذا قوله : {إِلا لِنَعْلَمَ} . وسادسها : نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم ، إذ العدل يوجب ذلك. وسابعها : أن العلم صلة زائدة ، فقوله ؛ {إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه } معناه : إلا ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين ، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها ، فمن الناس من قال : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة/ فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم ، وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا : هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلّم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه ، روى القفال عن ابن جريح أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم ، وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا ، وقال السدي : لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام / نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها ، وقال المسلمون : لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، وقال المشركون : تحير في دينه ، واعلم أن هذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة ، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال : {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه } فكان حمله عليه أولى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
المسألة الرابعة : قوله : {مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه } استعارة ومعناه : من يكفر بالله ورسوله ، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى : {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (المدثر : 23) وكما قال : {كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (طه : 48) وكل ذلك تشبيه.
أما قوله تعالى : {وَإِن كَانَتْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : (إن) المكسورة الخفيفة ، معناها على أربعة أوجه : جزاء ، ومخففة من الثقيلة ، وجحد ، وزائدة ، أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك : إن جئتني أكرمتك ، وأما الثانية : وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة {ءَانٍ} المشددة كقولك : إن زيداً لقائم ، قال الله تعالى : {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطارق : 4) وقال : {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} (الإسراء : 108) ومثله في القرآن كثير ، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل ، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها ، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى : {إِنِ الْكَـافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ} (الملك : 20) وقوله : {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى ا إِلَىَّ } (الأحقاف : 9) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الإسم والفعل جميعاً كما وصفنا ، وأما الثالثة : وهي التي للجحد ، كقوله : {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّه } (الأنعام : 57) وقال : {إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} (الأنعام : 148) وقال : {وَلَـاـاِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا} (فاطر : 41) أي ما يمسكهما ، وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك : ما إن رأيت زيداً.
إذا عرفت هذا فنقول : {ءَانٍ} في قوله : {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} (البقرة : 143) هي المخففة التي تلزمها اللام ، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {كَانَتْ} إلى أي شيء يعود ؟
فيه وجهان :
(1/637)
الأول : أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ} (البقرة : 143). الثاني : أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية لأنه قال : {مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } ثم قال عطفاً على هذا : {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي وإن كانت التولية لأن قوله : {وَمَا لَهُم} يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ } (الأنعام : 121) ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة ، نظيره قوله فيها ونعمت ، واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان / والابتلاء حصل بنفس القبلة ، أو بتحويل القبلة ، وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات ، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله : {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} .
أما قوله تعالى : {لَكَبِيرَةٌ} فالمعنى : لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله : {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } (الكهف : 5) أي : عظمت الفرية بذلك ، وقال الله تعالى : {سُبْحَـانَكَ هَـاذَا بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ} (النور : 16) وقال : {إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (الأحزاب : 53) ثم إنا إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة ، قلنا : إن تركها ثقيل عليهم ، لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة ، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا : الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا : إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات ، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر ، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره ، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
أما قوله : {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه } فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال فقالوا : المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة ، والوجهان الأولان ههنا باطلان ، وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله فوجب أن يقال : إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه ، والهداية بمعنى الدعوة ، ووضع الدلائل عامة في حق الكل ، فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار ، فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية ههنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب ، قالت المعتزلة : الجواب عنه من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك. وثانيها : أراد به الاهتداء. وثالثها : أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم.
والجواب عن الكل : أنه ترك للظاهر فيكون على خلاف الأصل والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد بن زرارة ، والبراء بن عازب ، والبراء بن معرور ، وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم : يا رسول الله توفى إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلاً فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة ، ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة / ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين ، وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جُنَاحٌ} (المائدة : 93) فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى ، فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟
قلنا : الجواب من وجوه. أحدها : أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق. وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك ، فذكر الله تعالى هذا الكلام جواباً عن ذلك. وثالثها : لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خطر ببالهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
(1/638)
القول الثاني : وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك.
القول الثالث : أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن.
القول الرابع : كأنه تعالى قال : وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } خطاب مع من ؟
على قولين : الأول : أنه مع المؤمنين ، وذكر القفال على هذا القول وجوهاً أربعة. الأول : أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ ، وذلك جواب عما سألوه من قبل. الثاني : أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ. الثالث : يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلّم : {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} (البقرة : 72) ، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} (البقرة : 50). الرابع : يجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً ، فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم.
/ القول الثاني : قول أبي مسلم ، وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ ، وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
المسألة الثالثة : استدلت المعتزلة بقوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة. والجواب : لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ، بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال : أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الإستعارة من هذه الجهة.
المسألة الرابعة : قوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى : {أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران : 195).
أما قوله : {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله : {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ} (النور : 2) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما ، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام ، وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } (الأعراف : 57) لأنه إفضال من الله وإنعام ، فذكر الله تعالى الرأفة أولاً بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم ، ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل ، ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً.
المسألة الثانية : ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً. أحدها : أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال : {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحج : 65) والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة. وثانيها : أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا. وثالثها : قال : {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه } فكأنه تعالى قال : وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
(1/639)
المسألة الثالثة : قرأ عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} مهموزاً غير مشبع على وزن رعف والباقون مثقلاً مهموزاً مشبعاً على وزن رعوف وفيه أربع لغات رئف أيضاً كحزر ، ورأف على وزن فعل.
المسألة الرابعة : استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤف رحيم ، والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤفاً رحيماً بهم ، / وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي ، ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفاً رحيماً فلعى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤفاً رحيماً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 83
94
اعلم أن قوله : {رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } فيه قولان :
القول الأول : وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة ، والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً. أحدها : أنه كان يكره التوجه إلى بيت المقدس ، ويحب التوجه إلى الكعبة ، إلا أنه ما كان يتكلم بذلك فكان يقلب وجهه في السماء لهذا المعنى ، روى عن ابن عباس أنه قال : "يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها" فقال له جبريل : "أنا عبد مثلك فاسأل ربك ذلك" فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أموراً. الأول : أن اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل ، فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم. الثاني : أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم. الثالث : أنه عليه السلام كان يقدر أن يصير ذلك سبباً لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام. الرابع : أنه عليه السلام أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر ، واعترض القاضي على هذا الوجه وقال : أنه لا يليق به عليه السلام أن يكره قبلة أمر أن يصلي إليها ، وأن يحب أن يحوله ربه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه ، ويميل إليها بحسب شهوته لأنه عليه السلام علم وعلم أن الصلاح في خلاف الطبع والميل : واعلم أن هذا التأويل قليل التحصيل ، لأن المستنكر من الرسول أن يعرض عما أمره الله تعالى به ، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه ، فأما أن يميل قلبه إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، فذلك مما لا إنكار عليه ، لا سيما إذا لم ينطق به ، أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، وهذا مما / لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه.
الوجه الثاني : أنه عليه السلام قد استأذن جبريل عليه السلام في أن يدعو الله تعالى بذلك فأخبره جبريل بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء ، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لا صلاح فيه فلا يجابوا إليه فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم ، فلما أذن الله تعالى له في الإجابة علم أنه يستجاب إليه فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في الإجابة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
الوجه الثالث : قال الحسن : إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره أن الله تعالى سيحول القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ، ولم يبين له إلى أي موضع يحولها ، ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الكعبة فكان رسول الله يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي ، لأنه عليه السلام علم أن الله تعالى لا يتركه بغير صلاة ، فأتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يصل نحو الكعبة والقائلون بهذا الوجه اختلفوا فمنهم من قال : إنه عليه السلام منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة ، فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ولم تظهر القبلة فتتأخر صلاته فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم ، وقال آخرون : بل وعد بذلك وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها/ لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن بيت المقدس إلى الكعبة وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية ، نحو : رغبة العرب في الإسلام ، والمباينة عن اليهود ، وتمييز الموافق من المنافق ، فلهذا كان يقلب وجهه ، وهذا الوجه أولى ، وإلا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى ، بل كانت مبتدأة ، والمفسرة أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه. الرابع : أن تقلب وجهه في السماء هو الدعاء.
(1/640)
القول الثاني : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني ، قالوا : لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر ، وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة ، فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
المسألة الثانية : اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس ، فقال قوم : كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً ، وقال قوم : بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس ، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها : وقال قوم : بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وبالمدينة أولاً سبعة عشر شهراً ، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
المسألة الثالثة : اختلفوا في توجه النبي صلى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس هل كان فرضاً / لا يجوز غيره ، أو كان النبي صلى الله عليه وسلّم مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره ، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيراً في ذلك وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضاً محققاً بلا تخيير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صار منسوخاً ، واحتج الذاهبون إلى القول الأول بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } (البقرة : 115) وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء ، وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن" : أن نفراً قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة ، وكان فيهم البراء بن معرور ، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه ، وأبى الآخرون وقالوا : إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس ، فلما قدموا مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال له : قد كنت على قبلة ـ يعني بيت المقدس ـ لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين ، واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأنه تعالى قال : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } فدل على أنه عليه السلام ما كان يرتضي القبلة الأولى ، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة.
المسألة الرابعة : المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخاً بالأمر بالتوجه إلى الكعبة ، ومن الناس من قال : التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } واحتجوا عليه بالقرآن والأثر ، أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } ثم ذكر بعد : {سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } (البقرة : 142) ثم ذكر بعده : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فلزم أن يكون قوله تعالى : {سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ} متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل ، فثبت ما قلناه ، وأما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن ، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن ، إنما المذكور في القرآن : {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه } فوجب أن يكون قوله : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ناسخاً لذلك ، لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
أما قوله : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا ، إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سميت بيت المقدس.
(1/641)
المسألة الثانية : قوله : {تَرْضَـاهَا } فيه وجوه. أحدها : ترضاها تحبها وتميل إليها ، لأن الكعبة / كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع ، قال القاضي : هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى : فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها ، لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف ، ويقدح في حال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يريده في حال التكليف ، وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى : أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال : أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه وقال عليه الصلاة والسلام : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك. وثانيها : {قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية. وثالثها : قال الأصم : أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط ، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا. ورابعها : {تَرْضَـاهَا } أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام ، فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه.
أما قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض ، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه.
المسألة الثانية : قال أهل اللغة : الشطر اسم مشترك يقع على معنيين. أحدهما : النصف يقال : شطرت الشيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه. والثاني : نحوه وتلقاءه وجهته ، واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب "الرسالة" على هذا بأبيات أربعة : قال خقاف بن ندبة :
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
ألا من مبلغ عمراً رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال ساعدة بن جؤبة :
أقول لأم زنباع : أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط الأيادي :
وقد أظلكم من شطر شعركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر :
إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها بصر العينين مسحور
قال الشافعي رضي الله عنه : يريد تلقاءها بصر العينين مسحور ، إذا عرفت هذا فنقول : في الآية قولان :
الأول : وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين ، واختيار الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة : أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه ، قرأ أبي بن كعب / تلقاء المسجد الحرام.
القول الثاني : وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر ههنا : وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف ، والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب ، فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة ، قال القاضي : ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان. الأول : أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ، ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته. الثاني : أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة ، أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة ، فإنه لو قيل : فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة ، فلما قيل : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } حصلت هذه الفائدة الزائدة ، فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى فإن قيل : لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة ، وهي أنه لو قال : فول وجهك المسجد الحرام ، لزم تكليف ما لا يطاق ، لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد ، أما إذا قال : فول وجهك شطر المسجد الحرام ، أي جانب المسجد ، دخل فيه الحاضرون والغائبون قلنا : هذه الفائدة مستفادة من قوله : {مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه }
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
(1/642)
فلا يبقى لقوله : شطر المسجد الحرام زيادة فائدة هذا تقرير هذا الوجه وفيه إشكال لأنه يصير التقدير فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف ، وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني ، إلا أن اللفظ لا يدل عليه ، وقد اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام أي شيء هو ؟
فحكي في كتاب "شرح السنة" عن ابن عباس أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك. وقال آخرون : القبلة هي الكعبة والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلّم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة ، قال القفال : وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة ، وفي خبر البراء بن عازب : ثم صرف إلى الكعبة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء : فأتاهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حول إلى الكعبة وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس : جاء منادي رسول الله فنادى : أن القبلة حولت إلى الكعبة وهكذا عامة الروايات وقال آخرون : بل المراد المسجد الحرام كله ، قالوا : لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع ، وقال / آخرون : المراد من المسجد الحرام الحرم كله والدليل عليه قوله تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الإسراء : 1) وهو عليه الصلاة والسلام إنما أسرى به خارج المسجد ، فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام.
المسألة الثالثة : قال صاحب التهذيب : الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام والقوم يقفون مستديرين بالبيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة ، وعند أبي حنيفة تصح ، لأن عنده الجهة كافية وهذا اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء ، حجة الشافعي رضي الله عنه : القرآن والخبر والقياس ، أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له وواقعاً في سمته والدليل عليه أنه إنما يقال : إن زيداً ولى وجهه إلى جانب عمرو ولو قابل بوجهه وجهه وجعله محاذياً له ، حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخر ، لا يقال : إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
(1/643)
وأما الخبر فما روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال : هذه القبلة وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة ، وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلّم في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر والصلاة من أعظم شعائر الدين وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة فوجب أن يكون مشورعاً ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر مكشوك ، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة ، واحتج أبو حنيفة بأمور. الأول : ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلاً للكعبة أم لا فوجب أن يخرج عن العهدة ، وأما الخبر فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : "ما بين المشرق والمغرب قبلة" ، قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى : ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة : لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك وهو بالاتفاق ليس بقبلة بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والذي بينهما هو سمت مكة قالوا : فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم أما فعل / الصحابة فمن وجهين. الأول : أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين للكعبة ، لأن المدينة بينهما فقيل لهم : ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلّم عليهم ، وسمي مسجدهم بذي القبلتين ، ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل. الثاني : أن الناس من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
(1/644)
وأما القياس فمن وجوه. الأول : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً إما علماً أو ظناً/ وجب أن لا تصح صلاة أحد قط ، لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير ، ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة فإن قيل : الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها ، بل نرى كل قطعة منها شبيهاً بالخط المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت ، والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة ، قلنا : هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها ، لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطأ مستقيماً وكل ذلك محال ، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم ، بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس البتة ، لا يمكن أن يكون في محل التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلاً بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكل ، والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكاً في صحة صلاته ، وذلك يقتضي / أن لا يخرج عن العهدة البتة ، وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظناً ، وهذا كلام بين. الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل أحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظناً لا يقيناً ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظناً ، قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة واجب. الثالث : لو كان استقبال العين واجباً إما علماً أو ظناً ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الإمارات ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الامارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
المسألة الرابعة : في دلائل القبلة : اعلم أن الدلائل إما أرضية وهي الاستدلال بالجبال ، والقرى ، والأنهار ، أو هوائية وهي الاستدلال بالرياح ، أو سماوية وهي النجوم.
أما الأرضية والهوائية غير مضبوطة ضبطاً كلياً/ فرب طريق فيه جبل مرتفع لا يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه ، فكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد ولسنا نقدر على استقصاء ذلك ، إذ كل بلد بحكم آخر في ذلك.
(1/645)
أما السماوية فأدلتها منها تقريبية ومنها تحقيقية ، أما التقريبية فقد قالوا : هذه الأدلة إما أن تكون نهارية أو ليلية ، أما النهارية فالشمس فلا بد وأن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أهي بين الحاجبين ، أم هي على العين اليمنى أم اليسرى ، أو تميل إلى الجبين ميلاً أكثر من ذلك ، فإن الشمس لا تعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع ، وكذلك يراعى موقع الشمس وقت العصر ، وأما وقت المغرب فإنما يعرف ذلك بموضع الغروب ، وهو أن يعرف بأن الشمس تغرب عن يمين المستقبل ، أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه ، وكذلك يعرف وقت العشاء الآخرة بموضع الشفق ، ويعرف وقت الصبح بمشرق الشمس ، فكان الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس ، ولكن يختلف حكم ذلك بالشتاء والصيف ، فإن المشارق والمغارب كثيرة ، وكذلك يختلف الحكم في هذا الباب بحسب اختلاف البلاد ، وأما الليليلة فهو أن يستدل على القبلة بالكوكب الذي يقال له الجدي ، فإنه كوكب كالثابت لا تظهر حركته من موضعه ، وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل أو منكبه الأيمن من ظهره ، أو منكبه الأيسر في البلاد الشمالية من مكة ، وفي البلاد الجنوبية منها ، كاليمن وما وراءها يقع في مقابلة المستقبل فليعلم ذلك وما عرفه ببلده فليعول عليه في الطريق كله ، إلا إذا طال السفر فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس ، وموقع القطر ، / وموقع المشارق والمغارب إلى أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلد ، فينبغي أن يسأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك فمهما تعلم هذه الأدلة فله أن يعول عليها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
وأما الطريقة اليقينية وهي الوجوه المذكورة في كتب الهيئة قالوا : سمت القبلة نقطة التقاطع بين دائرة الأفق ، وبين دائرة عظيمة تمر بسمت رؤسنا ورؤوس أهل مكة ، وانحراف القبلة قوس من دائرة الأفق ما بين سمت القبلة دائرة نصف النهار في بلدنا ، وما بين سمت القبلة ومغرب الاعتدال تمام الانحراف قالوا : ويحتاج في معرفة سمت القبلة إلى معرفة طول مكة وعرضها ، فإن كان طول البلد مساوياً لطول مكة وعرضها مخالف لعرض مكة ، كان سمت قبلتها على خط نصف النهار فإن كان البلد شمالياً فإلى الجنوب وإن كان جنوبياً فإلى الشمالي ، وأما إذا كان عرض البلد مساوياً لعرض مكة وطوله مخالفاً لطولها فقد يظن أن سمت قبلة ذلك البلد على خط الاعتدال وهو ظن خطأ وقد يمكن أيضاً في البلاد التي أطوالها وعروضها مخالفة لطول مكة وعرضها ، أن يكون سمت قبلتها مطلع الاعتدال ومعربه وإذا كان كذلك فلا بد من استخراج قدر الانحراف ولذلك طرق أسهلها أن يعرف الجزء الذي يسامت رؤس أهل مكة من فلك البروج وهو (زيح) من الجوزاء (وكج ح) من السرطان فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الاسطرلاب المعمول لعرض البلد ، ويعلم على المرئي علامة ، ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقياً عن مكة كما في بلاد خراسان والعراق بقدر ما بين الطولين من أجزاء الخجرة ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت ذلك الجزء رؤوس أهل مكة ، ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء فإذا انتهى ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع فقد سامتت الشمس رؤس أهل مكة فينصب مقياساً ويخط على ظل المقياس خطاً من مركز العمود إلى طرف الظل فذلك الخط خط الظل فيبني عليه المحراب فهذا هو الكلام في دلائل القبلة.
المسألة الخامسة : معرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية ففيه وجهان أصحهما فرض على العين/ لأن كل مكلف فهو مأمور بالاستقبال ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب.
المسألة السادسة : اعلم أن قوله تعالى : {مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } عام في الأشخاص والأحوال ، إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب ، بل أنه طاعة لقوله عليه السلام : "خير المجالس ما استقبل به القبلة" فيبقى أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة ، ثم نقول : الرجل إما أن يكون معايناً للقبلة أو غائباً عنها ، أما المعاين فقد أجمعوا على أنه يجب عليه الاستقبال ، وأما الغائب فإما أن يكون قادر على تحصيل اليقين أو لا يقدر عليه ، لكنه يقدر على تحصيل الظن أو لا يقدر على تحصيل اليقين ولا على تحصيل الظن فهذه أقسام ثلاثة :
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
القسم الأول : القادر على تحصيل العلم وفيه بحثان :
البحث الأول : قد عرفت أن الغائب عن القبلة لا سبيل له إلى تحصيل اليقين بجهة القبلة إلا بالدلائل الهندسية ، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب ، فيلزم من هذا أن يكون تعلم الدلائل الهندسية فرض عين على كل أحد إلا أن الفقهاء قالوا : إن تعلمها غير واجب بل ربما قالوا : إن تعلمها مكروه أو محرم ولا أدري ما عذرهم فيه هذا ؟
(1/646)
البحث الثاني : المصلي إذا كان بأرض مكة وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه فهل له أن يجتهد ؟
قال صاحب "التهذيب" نظر إن كان الحائل أصلياً كالجبال فله الاجتهاد ، وإن لم يكن أصلياً كالأبنية فعلى وجهين. أحدهما : له الاجتهاد لأن بينه وبينها حائلاً يمنع المشاهدة كما في الحائل الأصلي. والثاني : ليس له الاجتهاد لأن فرضه الرجوع إلى اليقين ، وهو قادر على تحصيل اليقين فوجب أن لا يكتفي فيه بالظن ، وهذا الوجه هو اللائق بمساق الآية ، لأنها لما دلت على وجوب التوجه إلى الكعبة والمكلف إذا كان قادراً على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، فوجب عليه طلب اليقين.
القسم الثاني : القادر على تحصيل الظن دون اليقين. واعلم أن لتحصيل هذا الظن طرقاً :
الطريق الأول : الاجتهاد وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه يقتضي أن الاجتهاد يقدم على الرجوع إلى قول الغير وهو الحق ، والذي يدل عليه وجوه. أحدها : قوله تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) أمر بالاعتبار ، والرجل قادر على الاعتبار في هذه الصورة ، فوجب أن يتناوله الأمر. وثانيها : أن ذلك الغير إنما وصل إلى جهة القبلة بالاجتهاد ، لأنه لو عرف القبلة بالتقليد أيضاً لزم إما التسلسل أو الدور وهما باطلان ، فلا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى الاجتهاد فيرجع حاصل الكلام إلى أن الاجتهاد أولى أم تقليد صاحب الاجتهاد ؟
ولا شك أن الأول أولى لأنه إذا أتى بالاجتهاد فلا يتطرق إليه احتمال الخطأ من جهة واحدة ، فإذا قلد صاحب الاجتهاد فقد تطرق إلى عمله احتمال الخطأ من وجهين ، ولا شك أنه متى وقع التعارض بين طريقين فأقلهما خطأ أولى بالرعاية. وثالثها : قوله عليه السلام : "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فههنا أمر بالاستقبال وهو قادر على الاجتهاد في الطلب فوجب أن يجب عليه ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
فإن قيل : أليس أن صاحب "التهذيب" ذكر أنه إذا كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة واحدة أو وجد محراباً أو علامة للقبلة في طريق هي جادة للمسلمين يجب عليه أن يتوجه إليها ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة ، قال : لأن هذه العلامات كاليقين ، أما في الانحراف يمنة أو يسرة فيجوز أن يجتهد مع هذه العلامات وكان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه من الحج : تياسروا يا أهل مرو وكذلك لو أخبره مسلم بأن قال ، رأيت غالب المسلمين أو جماعة المسلمين اتفقوا على هذه الجهة فعليه قبوله وليس هذا بتقليد/ بل هو قبول الخبر من أهله كما في الوقت ، وهو ما إذا / أخبره عدل : إني رأيت الفجر قد طلع أو الشمس قد زالت يجب قبول قوله ، هذا كله لفظ صاحب "التهذيب" ، واعلم أن هذا الكلام مشكل من وجوه. أحدها : أنه لا معنى للتقليد إلا قبول قول الغير من غير حجة ولا شبهة ، فإذا قبلنا قول الغير أو فعله في تعيين القبلة من غير حجة ولا شبهة كان هذا تقليداً ، ونحن قد ذكرنا الدليل على أن القادر على الاجتهاد لا بد وأن يكون مأموراً بالاجتهاد. وثانيها : أنه جوز المخالفة في اليمين واليسار بناء على الاجتهاد فنقول : هو قادر على تحصيل الظن بناء على الاجتهاد الذي يتولاه بنفسه ، فوجب أن تجوز له المخالفة كما في اليمين واليسار. وثالثها : إما أن يكون ممنوعاً من الاجتهاد ، أو من العمل بمقتضى الاجتهاد ، والأول باطل ، لأن معاذاً لما قال : اجتهد برأي مدحه الرسول عليه السلام على ذلك ، فدل على أن الاجتهاد غير ممنوع عنه ، والثاني أيضاً باطل لأنه لما علم أو ظن أن القبلة ليست في الجهة التي فيها المحاريب فلو وجب عليه التوجه إلى ذلك المحراب لكان ذلك ترجيحاً للتقليد على الاستدلال وأنه خطأ. ورابعها : أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يجوز للمجتهد تقليد المجتهد ، فالقادر على تحصيل جهة القبلة بالامارات كيف يجوز له تقليد محاريب البلاد ؟
واحتج القائلون بترجيح محاريب الأمصار على البلاد من وجوه. الأول : أنها كالتواتر مع الاجتهاد ، فوجب رجحانه عليه. والثاني : أن الرجل إذا رأى المؤذن فرغ من الأذان والإقامة وقد تقدم الإمام ، فههنا لا يحتاج إلى تعرف الوقت فكذا ههنا. الثالث : أن أهل البلد رضوا به ، والظاهر أنه لو كان خطأ لتنبهوا له ، ولو تنبهوا له لما رضوا به ، فهذا ما يمكن أن يقال في الجانبين.
(1/647)
الطريق الثاني : الرجوع إلى قول الغير ، مثل ما إذا أخبره عدل عن كون القبلة في هذه الجهة فهذا يفيد ظن أن القبلة هناك ، واتفقوا على أنه لا بد من شرطين : الإسلام والعقل ، فلا عبرة في هذا الباب بقول الكافر والمجنون ولا بعلمهما ، واختلفوا في شرائط ثلاثة. أولها : البلوغ. حكى الخيضري نصاً عن الشافعي أنه لا يقبل قول الصبي ، وحكى أبو زيد أيضاً عن الشافعي أنه يقبل. وثانيها : العدالة قالوا : لا يقبل خبر الفاسق لأنه كالشهادة ، وقيل : يقبل. وثالثها : العدد ، فمنهم من اعتبره كما في الشهادة لاسيما الذين اعتبروا العدد في الرواية أيضاً ، ومنهم من لم يعتبر العدد ويتفرع على ما قلناه أحكام. أولها : أن كل من كان الأخذ بقوله يفيد ظناً أقوى كان الأخذ بقوله مقدماً على الأخذ بقول من يفيد ظناً أضعف مثاله أن تقليد المتيقن راجح على تقليد الظان بالاجتهاد ، وتقليد المجتهد الظان أولى من تقليد من قلد غيره وهلم جرا. وثانيها : أنه إذا علم أن الاجتهاد لا يتم إلا بعد انقضاء الوقت ، فالأولى له تحصيل الاجتهاد حتى تصير الصلاة قضاء أو تقليد الغير حتى تبقى الصلاة أداء فيه تردد. وثالثها : أن من لا يعرف دلائل القبلة فله الرجوع إلى قول الغير حين الصلاة بل يجب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
الطريق الثالث : إن شاهد في دار الإسلام محراباً منصوباً جاز له التوجه إليه على التفصيل / الذي تقدم ، أما إذا رأى القبلة منصوبة في طريق يقل فيه مرور الناس أو في طريق يمر فيه المسلمون والمشركون ولا يدري من نصبها أو رأى محراباً في قرية ولا يدري بناه المسلمون أو المشركون أو كانت قرية صغيرة للمسلمين لا يغلب على الظن كون أهلها مطلعين على دلائل القبلة وجب عليه الاجتهاد.
الطريق الرابع : ما يتركب من الاجتهاد وقول الغير ، وهو أن يخبره إنسان بمواقع الكواكب وكان هو عالماً بالاستدلال بها على القبلة ، فههنا يجب عليه الاستدلال بما يسمع إذا كان عاجزاً عن رؤيتها بنفسه.
القسم الثالث : الذي عجز عن تحصيل العلم والظن ، وهو الكائن في الظلمة التي خفيت الأمارات بأسرها عليه أو الأعمى الذي لا يجد من يخبره ، أو تعارضت الأمارات لديه وعجز عن الترجيح ، وفيه أبحاث :
البحث الأول : أن هذا الشخص يستحيل أن يكون مأموراً بالاجتهاد ، لأن الاجتهاد من غير دلالة ولا أمارة تكليف ما لا يطاق وهو منفي ، فلم يبق إلا أحد أمور ثلاثة : إما أن يقال التكاليف بالصلاة مشروط بالاستقبال ، وتعذر الشرط يوجب سقوط التكليف بالمشروط ، فههنا لا تجب عليه الصلاة ، أو يقال : شرط الاستقبال قد سقط عن المكلف بعذر أقل من هذا ، وهو حال المسابقة فيسقط ههنا أيضاً ، فيجب عليه أن يأتي بالصلاة إلى أي جهة شاء ، ويسقط عنه شرط الاستقبال ، أو يقال : إنه يأتي بتلك الصلاة إلى جميع الجهات ليخرج عن العهدة بيقين ، فهذه هي الوجوه الممكنة ، أما سقوط الصلاة عنه فذلك باطل بالإجماع ، وأيضاً فلأنا رأينا في الشرع في الجملة أن الصلاة صحت بدون الاستقبال كما في حال المسايفة وفي النافلة ، وأما إيجاب الصلاة إلى جميع الجهات فهو أيضاً باطل لقيام الدلالة على أن الواجب عليه صلاة واحدة ، ولقائل أن يقول : أليس أن من نسي صلاة من صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يجب عليها قضاء تلك الصلوات بأسرها ليخرج عن العهدة باليقين ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك ؟
قالوا : ولما بطل القسمان تعين الثالث وهو التخيير في جميع الجهات.
البحث الثاني : أنه إذا مال قلبه إلى أن هذه الجهة أولى بأن تكون قبلة من سائر الجهات ، من غير أن يكون ذلك الترجيح مبنياً على استدلال ، بل يحصل ذلك بمجرد التشهي وميل القلب إليه فهل يعد هذا اجتهاداً ، وهل المكلف مكلف بأن يعول عليه أم لا ؟
الأولى أن يكون ذلك معتبراً لقوله عليه السلام : "المؤمن ينظر بنور الله" ولأن سائر وجوه الترجيح لما انسدت وجب الاكتفاء بهذا القدر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
البحث الثالث : إذا أدى هذه الصلاة فالظاهر يقتضي أن لا يجب القضاء ، لأنه أدى وظيفة الوقت وقد صحت منه ، فوجب أن لا تجب عليه الإعادة ، وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه أنه تجب الإعادة سواء بأن صوابه أو خطؤه.
(1/648)
/ المسألة السابعة ؛ تجوز الصلاة في جوف الكعبة عند عامة أهل العلم ، ويتوجه إلى أي جانب شاء وقال مالك : يكره أن يصلى في الكعبة المكتوبة لأن من كان داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إلى كل الكعبة ، بل يكون متوجهاً إلى بعض أجزائها ، ومستدبراً عن بعض أجزائها ، وإذا كان كذلك لم يكن مستقبلاً لكل الكعبة فوجب أن لا تصح صلاته لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت قال : وأما النافلة فجائزة ، لأن استقبال القبلة فيها غير واجب ، حجة الجمهور ما أخرجه الشيخان في الصحيحين ، ورواه الشافعي رضي الله عنه أيضاً عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، أنه عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد ، وعثمان بن أبي طلحة وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها ، قال عبد الله بن عمر : فسألت بلالاً حين خرج : ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ؟
فقال : جعل عموداً عن يساره ، وعمودين عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ، ثم صلى ، واعلم أن الاستدلال بهذا الخبر ضعيف من وجوه. أحدها : أن خبر الواحد لا يعارض ظاهر القرآن. وثانيها : لعل تلك الصلاة كانت نافلة ، وذلك عند مالك جائز. وثالثها : أن مالكاً خالف هذا الخبر ومخالفة الراوي وإن كانت لا توجب الطعن في الخبر إلا أنها تفيد نوع مرجوحية بالنسبة إلى خبر واحد حلى عن هذا الطعن ، فكيف بالنسبة إلى القرآن. ورابعها : أن الشيخين أوردا في الصحيحين عن ابن جريح عن عطاء : سمعت ابن عباس قال : لما دخل النبي صلى الله عليه وسلّم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه/ فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : "هذه القبلة" والتعارض حاصل من وجهين. الأول : أن النفي والإثبات يتعارضان. والثاني : قوله صلى الله عليه وسلّم : "هذه القبلة" يدل على أنه لا بد من توجه ذلك الموضع ومن جوز الصلاة داخل البيت لا يوجب عليه استقبال ذلك الموضع بل جوز استدباره. والجواب : عن استدلال مالك رحمه الله أن نقول قوله : (وحيثما كنتم) إما أن يكون صيغة عموم أو لا يكون فإن كان صيغة عموم فقد تناول الإنسان الذي يكون في البيت فكأنه تعالى أمر من كان في البيت أن يتوجه إليه ، فالآتي به يكون خارجاً عن العهدة ، وإن لم يكن صيغة عموم لم تكن الآية متناولة لهذه المسألة ألبتة ، فلا تدل على حكمها لا بالنفي ولا بالأثبات ، ثم المعتمد في المسألة أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يتوجه إلى كل البيت ، بل إنما يمكنه أن يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت والذي في البيت يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت فقد كان آتياً بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
المسألة الثامنة : اعلم أن الكعبة عبارة عن أجسام مخصوصة هي السقف والحيطان والبناء ، ولا شك أن تلك الأجسام حاصلة في أحياز مخصوصة ، فالقبلة إما أن تكون تلك الأحياز فقط ، أو تلك الأجسام فقط ، أو تلك الأجسام بشرط حصولها في تلك الأحياز لا جائز أن يقال أنها تلك الأجسام فقط ، لأنا أجمعنا على أنه لو نقل تراب الكعبة وما في بنائها من الأحجار والخشب إلى موضع آخر وبني به بناء وتوجه إليه أحد في الصلاة لم يجز ذلك ، ولا جائز أن يقال : / إنها تلك الأجسام بشرط كونها في تلك الأحياز لأن الكعبة لو انهدمت والعياذ بالله ، وأزيل عن تلك الأحياز تلك الأحجار والخشب ، وبقيت العرصة خالية ، فإن أهل المشرق والمغرب إذا توجهوا إلى ذلك الجانب صحت صلاتهم وكانوا مستقبلين للقبلة ، فلم يبق إلا أن يقال : القبلة هو ذلك الخلاء الذي حصل فيه تلك الأجسام ، وهذا المعنى كما ثبت بالدليل العقلي الذي ذكرناه ، فهو أيضاً مطابق للآية لأن المسجد الحرام اسم لذلك البناء المركب من السقف والحيطان والمقدار وجهة المسجد الحرام هو الأحياز التي حصلت فيها تلك الأجسام ، فإذا أمر الله تعالى بالتوجه إلى جهة المسجد الحرام ، كانت القبلة هو ذلك القدر من الخلاء والفضاء ، إذا ثبت هذا فنقول : قال أصحابنا : لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله ، فالواقف في عرصتها لا تصح صلاته لأنه لا يعد مستقبلاً للقبلة ، وذكر ابن سريج أنه يصح ، وهو قول أبي حنيفة ، والاختيار عندي والدليل عليه ما بينا أن القبلة هي ذلك القدر المعين من الخلاء ، والواقف في العرصة مستقبل لجزء من أجزاء ذلك الخلاء فيكون مستقبلاً للقبلة ، فوجب أن تصح صلاته ، وقالوا أيضاً : الواقف على سطح الكعبة من غير أن يكون في قبالته جدار لا تصح صلاته إلا على قول ابن سريج وهو الاختيار عندي ، لأنه مستقبل لذلك الخلاء والفضاء الذي هو القبلة فوجب أن تصح صلاته.
(1/649)
المسألة التاسعة : لما دلت الآية على وجوب الاستقبال ، وثبت بالعقل أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد ، وثبت بالعقل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لزم القطع بوجوب الاجتهاد والاجهاد لا بد وأن يكون مبنياً على الظن ، فكانت الآية دالة على التكليف بالظن ، فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بذلك على أن القياس حجة في الشرع وهو ضعيف لأنه إثبات للقياس بالقياس وذلك لا سبيل إليه والله أعلم.
المسألة العاشرة : الظاهر أنه لا يجب نية استقبال القبلة لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال والآتي به آت بما دلت الآية عليه ، فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى ، كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
المسألة الحادية عشرة : استقبال القبلة ساقط عند قيام العذر كما في حال المسايفة ، ويلحق به الخوف على النفس من العدو ، أو من السبع ، أو من الجمل الصائل ، أو عند الخطأ في القبلة بسبب التيامن والتياسر ، أو في أداء النوافل ، وهذا يقتضي أن العاجز عن تحصيل العلم والظن إذا أدى الصلاة أن يسقط عنه القضاء ، وكذا المجتهد إذا بان له تعين الخطأ.
المسألة الثانية عشرة : إذا توجه إلى جهة ثم تغير اجتهاده وهو في الصلاة فعليه أن ينحرف ويتحول ويبني لأن عارض الاجتهاد لا يبطل السابق ، فكذلك فيمن صدق مخبراً ، ثم جاء آخر نفسه إليه أسكن فأخبره بخلافه ، فهذا ما يتعلق بالمسائل المستنبطة من هذه الآية في حكم الاستقبال والله أعلم.
/ قوله تعالى : {مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } فيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا ليس بتكرار ، وبيانه من وجهين. أحدهما : أن قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } خطاب مع الرسول عليه السلام لا مع الأمة ، وقوله : {مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } خطاب مع الكل. وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة ، فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.
المسألة الثانية : قوله : {مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } يعني : وأينما كنتم وموضع (كنتم) من الإعراب جزم بالشرط كأنه قيل : حيثما تكونوا ، والفاء جواب.
أما قوله تعالى : {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِم وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد بقوله : {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} اليهود خاصة ، والكتاب هو التوراة عن السدي ، وقيل : بل المراد أحبار اليهود وعلماء النصارى وهو الصحيح لعموم اللفظ والكتاب المتقدم هو التوراة والإنجيل ، ولا بد أن يكونوا عدداً قليلاً لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {أَنَّهُ الْحَقُّ} راجع إلى مذكور سابق ، وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة ، فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة ، وأنهم يعلمون أنه الحق ، وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنه أليق بالكلام إذ المقصود بالآية ذلك دون غيره ، ثم اختلفوا في أنهم كيف عرفوا ذلك ؟
وذكروا فيه وجوهاً. أحدها : أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وخبر القبلة وأنه يصلي إلى القبلتين. وثانيها : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وثالثها : أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق فكان هذا التحويل حقاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
وأما قوله : {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عمار وحمزة والكسائي : {تَعْمَلُونَ} بالتاء على الخطاب للمسلمين ، والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود.
المسألة الثانية : إنا إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين ، فلا أخل بثوابكم ، وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم ، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يعجلها لهم كقوله تعالى : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَا إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} (إبراهيم : 42).
جزء : 4 رقم الصفحة : 94
107
(1/650)
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق ، بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في قوله : {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} فقال الأصم : المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله : {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } (البقرة : 144) واحتج عليه بوجوه. أحدها : قوله : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى ، ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعاً لهوى النفس ، بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم ، ثم ينكرون بألسنتهم ، فهم المتبعون للهوى. وثانيها : أن ما قبل هذه الآية وهو قوله : {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء ، وما بعدها وهو قوله : {الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يَعْرِفُونَه كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ } (الأنعام : 20) مختص بالعلماء أيضاً إذ لو كان عاماً في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان ، وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصاً فكذا هذه الآية المتوسطة. وثالثها : أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم ، ومستمرون على باطلهم ، وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات ، وهذا شأن المعاند اللجوج ، لا شأن المعاند المتحير. ورابعها : أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم وتبع قبلته.
وقال آخرون : بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واحتجوا عليه بأن قوله : {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ} صيغة عموم فيتناول الكل ، ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة ، لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق ، فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى ، وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم ، وفي الآية الثانية كلهم ، وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات ، والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان / الإصرار حاصلاً في الكل ، وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون ، وقولنا : كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحداً منهم لا يؤمن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
المسألة الثانية : احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم ، قال : لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف ، لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون ، فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع.
المسألة الثالثة : احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون ، فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه ، واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته ، فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلاً وهو محال/ ومستلزم المحال محال ، فكان ذلك محالاً وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6).
المسألة الرابعة : إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان ، وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة ، بل هو محض المكابرة والعناد والحسد ، وذلك لا يزول بإيراد الدلائل.
المسألة الخامسة : اختلفوا في قوله : {مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } قال الحسن والجبائي : أراد جميعهم ، كأنه قال : لا يجتمعون على اتباع قبلتك ، على نحو قوله : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } (الأنعام : 35) وقال الأصم وغيره : بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن ، قال القاضي : إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن ، وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضاً ذلك التأويل ، وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم ، لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله : {مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } وبين قوله : ما تبع أحد منهم قبلتك.
(1/651)
المسألة السادسة : { لئن } بمعنى {لَوْ} وأجيب بجواب لو وللعلماء فيه خلاف فقيل : إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر ، وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى : {وَ لئن أَرْسَلْنَا رِيحًا} (الروم : 51) ثم قال : {لَّظَلُّوا } على جواب : {لَوْ} وقال : {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا} (البقرة : 103) ثم قال : {لَمَثُوبَةٌ} على جواب : { لئن } وذلك أن أصل {لَوْ} للماضي {وَلَئِنِ} للمستقبل هذا قول الأخفش وقال سيبويه : إن كل واحدة منهما على موضعها ، وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم ، فجاء الجواب كجواب القسم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
المسألة السابعة : الآية : وزنها فعلة أصلها : أية ، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها ، والآية الحجة والعلامة ، وآية الرجل : شخصه ، وخرج القوم / بآيتهم جماعتهم ، وسميت آية القرآن بذلك لأنها جماعة حروف. وقيل : لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها. وقيل : لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين ، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى.
المسألة الثامنة : روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم : أئتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة.
أما قوله تعالى : {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } ففيه أقوال. الأول : أنه دفع لتجويز النسخ ، وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة. والثاني : حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره ، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. الثالث : المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك. الرابع : أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم ، لأن ذلك معصية. الخامس : وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى ، فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق ، فالزم قبلتك ودع أقوالهم.
أما قوله : {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } قال القفال : هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال ، أما على الحال فمن وجوه. الأول : أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها. الثاني : أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون. الثالث : أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث ، وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم ، وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
أما قوله : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف.
(1/652)
المسألة الثانية : اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب ، قال بعضهم : الرسول وقال بعضهم : الرسول وغيره. وقال آخرون : بل غيره ، لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب ، وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح ، والالجاء عنه مرتفع ، فهو منهى عنه ، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ، ويدل عليه وجوه. أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه ، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره / به ، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأموراً بشيء ولا منهياً عن شيء وأنه بالاتفاق باطل. وثانيها : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي صلى الله عليه وسلّم عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير. وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا. ورابعاً : قوله تعالى في حق الملائكة : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه فَذاَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } (الأنبياء : 29) مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله : {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النمل : 50) وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلّم : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه ، وقال : { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } وقال تعالى : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم : 9) وقال : {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَا وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه } (المائدة : 67) وقوله : {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام : 14) فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك ، وأن غيره أيضاً منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره ؟
فنقول فيه وجوه ، أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص. وثانيها : أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير. وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيهاً للغير أو توكيداً ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
القول الثاني : أن قوله : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم} ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام ، طمعاً منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم ، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية على ما قال : {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا} (الإسراء : 74).
القول الثالث : إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً ، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة.
أما قوله تعالى : {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } فيه مسألتان :
المسألة الأولى : أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك ، بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات ، لأن ذلك من طرق العلم ، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر ، واعلم / أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم ، وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة.
المسألة الثانية : دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله : {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } يدل على ذلك.
أما قوله تعلاى : {إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ} فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم ، والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 107
110
اعلم أن في الآية مسائل :
(1/653)
المسألة الأولى : قوله : {الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ} وإن كان عاماً بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم ، والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، والجمع العظيم الذي علموا شيئاً استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة ، ألا ترى أن واحداً لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان ، بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل ، والله أعلم.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : {يَعْرِفُونَه } إلى ماذا يرجع ؟
ذكروا فيه وجوهاً. أحدها : أنه عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم ، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم. عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : أنا أعلم به مني بإبني ، قال : ولم ؟
قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه ، وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة.
السؤال الأول : أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة.
الجواب : أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد صلى الله عليه وسلّم عن اتباع اليهود / والنصارى بقوله : {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِا إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 145) أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال : اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني : هذه الآية نظيرها قوله تعالى : {يَجِدُونَه مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ} (الأعراف : 157) وقال : {وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ } (الصف : 6) إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام ، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبيلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
وأما القسم الثاني : فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنا نقول : هب أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبياً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حد اليقين ، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم.
والجواب : عن هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ونحن لا نقول به بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً فهذا برهان والبرهان يفيد اليقين/ فلا جرم كان العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأبناء وأبوة الآباء.
السؤال الثالث : فعلى هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم علماً برهانياً غير محتمل للغلط ، أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علماً يقينياً بل ظن ومحتمل للغلط ، فلم شبه اليقين بالظن ؟
والجواب : ليس المراد أن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم يشبه العلم بنبوة الأبناء ، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره ، فكذا ههنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.
السؤال الرابع : لم خص الأبناء الذكور ؟
الجواب : لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.
القول الثاني : الضمير في قوله : {يَعْرِفُونَه } راجع إلى أمر القبلة : أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
(1/654)
/ واعلم أن القول الأول أولى من وجوه. أحدها : أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق ، وأقرب المذكورات العلم في قوله : {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } (البقرة : 145) والمراد من ذلك العلم : النبوة ، فكأنه تعالى قال : إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم ، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة. وثانيها : أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل ، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم مذكورة في التوراة والإنجيل ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى. وثالثها : أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام ، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
أما قوله تعالى : {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ، ومنهم من بقي على كفره ، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق ، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره ، لا جرم قال الله تعالى : {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فوصف البعض بذلك ، ودل بقوله : {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} على سبيل الذم ، على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره ، واختلفوا في المكتوم فقيل : أمر محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقيل : أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة.
أما قوله : {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون (الحق) خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق ، وقوله : {مِن رَّبِّكَ } يجوز أن يكون خبراً بغير خبر ، وأن يكون حالاً ، ويجوز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره : {مِن رَّبِّكَ } وقرأ علي رضي الله عنه : (الحق من ربك) على الإبدال من الأول ، أي يكتمون الحق من ربك.
المسألة الثانية : الألف واللام في قوله : {الْحَقِّ} فيه وجهان : الأول : أن يكون للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو إلى الحق الذي في قوله : {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن يكون للجنس على معنى : الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل.
أما قوله : {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} في ماذا اختلفوا فيه على أقوال. أحدها : فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك ، وأن بعضهم عاند وكتم ، قاله الحسن. وثانيها : بل يرجع إلى أمر القبلة. وثالثها : إلى صحة نبوته وشرعه ، وهذا هو الأقرب لأن أقرب المذكورات إليه قوله : {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من / قرآن ووحي وشريعة ، فقوله : {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وجب أن يكون راجعاً إليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
المسألة الثانية : أنه تعالى وإن نهاه عن الامتراء فلا يدل ذلك على أنه كان شاكاً فيه ، وقد تقدم القول في بيان هذه المسألة والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
113
اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله : {وَلِكُلٍّ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما قال : {وَلِكُلٍّ} ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (المائدة : 48).
(1/655)
المسألة الثانية : ذكروا فيه أربعة أوجه. أحدها : أنه يتناول جميع الفرق ، أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين ، وهو قول الاصم ، قال : لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله : {هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه } (يونس : 18). وثانيها : وهو قول أكثر علماء التابعين ، أن المراد أهل الكتاب وهم : المسلمون واليهود والنصارى ، والمشركون غير داخلين فيه. وثالثها : قال بعضهم : المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها : جنوبية أو شمالية ، أو شرقية أو غربية ، واحتجوا على هذا القول بوجهين. الأول : قوله تعالى : {هُوَ مُوَلِّيهَا } يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة ، لأن ما عداها تولية الشيطان. الثاني : أن الله تعالى عقبه بقوله : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة ، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة. ورابعها : قال آخرون : ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة ، فقبلة المقربين : العرش ، وقبلة الروحانيين : الكرسي ، وقبلة الكروبيين : البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة.
أما قوله تعالى : {وِجْهَةٌ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرىء : {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} على الإضافة والمعنى : وكل وجهة هو موليها فزيدت لالام لتقدم المفعول كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضارب.
المسألة الثانية : قال الفاء : وجهة ، وجهة ، ووجه بمعنى واحد ، واختلفوا في المراد فقال الحسن : المراد المنهاج والشرع ، وهو كقوله تعالى : {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} (الحج : 67) ، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ} (المائدة : 48) / {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } (المائدة : 48) والمراد منه أن للشرائع مصالح ، فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص ، وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضاً اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد ، فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير ، وقال الباقون : المراد منه أمر القبلة ، لأنه تقدم قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (البقرة : 144) فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
أما قوله : {هُوَ مُوَلِّيهَا } ففيه وجهان. الأول : أنه عائد إلى الكل ، أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه إليها. الثاني : أنه عائد إلى اسم الله تعالى ، أي الله تعالى يوليها إياه ، وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول : أن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها ، أي هو مستقبلها. ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه ، فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، مع لزوم الأديان المختلفة : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم/ وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعاً في صعيد القيامة ، فيفصل بين المحق منكم والمبطل ، حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي ، ومن المصيب منكم ومن المخطىء ، إنه على ذلك قادر ، ومن قال بهذا التأويل قال : المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها ، إما بشريعة وإما بهوى ، فلستم تؤخذون بفعل غيركم ، فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ، وإما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله : {هُوَ مُوَلِّيهَا } عائداً إلى الله تعالى فههنا وجهان. الأول : أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده ، إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحاً فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما ، فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين ، فإن انقيادكم خيرات لكم ، ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون : {مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ} (البقرة : 142) فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعاً في عرصة القيامة ، فيفصل بينكم. الثاني : أنا إذا فسرنا قوله : {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} بجهات الكعبة ونواحيها ، كان المعنى : ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة ، أي ناحية من الكعبة : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } بالتوجه إليها من جميع النواحي ، فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
(1/656)
أما قوله تعالى : {هُوَ مُوَلِّيهَا } أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه ، قال الفراء : أي مستقبلها وقال أبو معاذ : موليها على معنى متوليها يقال : قد تولاها ورضيها وأتبعها ، وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي : {هُوَ} وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي الباقر وفي قراءة الباقين : {هُوَ مُوَلِّيهَا } ولقراءة ابن عامر معنيان. أحدهما : أن ما وليته فقد ولاك ، لأن معنى وليته أي جعلته / بحيث تليه وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضاً ، يلي هذا ، فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى : {فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ} (البقرة : 37) و{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ} (البقرة : 124) والظالمون ، وهذا قول الفراء. والثاني : {هُوَ مُوَلِّيهَا } أي وقد زينت له تلك الجهة وحببت إليه ، أي صارت بحيث يحبها ويرضاها.
أما قوله : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها ، واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل ، خلافاً لأبي حنيفة ، واحتج الشافعي بوجوه : أولها : أن الصلاة خير لقوله صلى الله عليه وسلّم : "الصلاة خير موضوع" وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وظاهر الأمر للوجوب ، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب. وثانيها : قوله : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (الحديد : 21) ومعناه إلى ما يوجب المغفرة والصلاة مما يوجب المغفرة فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة. وثالثها : قوله تعالى : {وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ * أولئك الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة : 10 ، 11) ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات ، ولا شك أن الصلاة من الطاعات ، وقوله تعالى : { أولئك الْمُقَرَّبُونَ} يفيد الحصر ، فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة. ورابعها : قوله تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (آل عمران : 133) والمعنى : وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة ، ولا شك أن الصلاة كذلك ، فكانت المسارعة بها مأمورة. وخامسها : أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى :
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء : 90) ولا شك أن الصلاة من الخيرات ، لقوله عليه السلام : "خير أعمالكم الصلاة". وسادسها : أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال : {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } (الأعراف : 12) وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم. وسابعها : قوله تعالى : {حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (البقرة : 238) والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل ، ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال. وثامنها : قوله تعالى : حكاية عن موسى عليه السلام : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (طه : 84) فثبت أن الاستعجال أولى. وتاسعها : قوله تعالى : {لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَا أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا } (الحديد : 10) فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة فكذا في هذه الصورة. وعاشرها : ما روى عمر وجرير بن عبد الله وأنس وأبو محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله" قال الصديق رضي الله عنه : رضوان الله أحب إلينا من عفوه. قال الشافعي رضي الله عنه : رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير ، وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة ، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله ، فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان ، والتقديم موجباً للرضوان دون العفو فكان التأخير أولى قلنا : هذا ضعيف من وجوه. الأول : أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون / تأخير المغرب أفضل وذلك لم يقله أحد. الثاني : أنه عدم المسارعة الامتثال يشبه عدم الالتفات ، وذلك يقتضي العقاب ، إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء. الثالث : أن تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه يبطل هذا التأويل الذي ذكروه.
الحادي عشر : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤا".
الثاني عشر : عن ابن مسعود أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال : أي الأعمال أفضل ؟
فقال : الصلاة لميقاتها الأول.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
الثالث عشر : روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله".
(1/657)
الرابع عشر : قال عليه السلام : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر.
الخامس عشر : إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم علياً ، وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل وذلك يدل على قولنا.
السادس عشر : قوله عليه السلام في خطبة له : "وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلو" ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة.
السابع عشر : أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها ، فوجب أن يكون الحال في أداء الله تعالى كذلك ، والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم.
الثامن عشر : أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة ، والولوع بها ، والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها ، فيكون الأول أولى.
التاسع عشر : أن الاحتياط في تعجيل الصلاة لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته/ فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته ، فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى.
العشرون : أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم ، ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال ، ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } (البقرة : 184) فوجب أيضاً أن يكون التعجيل في الصلاة أولى فإن قيل : تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر ، أو بما إذا حصل له رجاء إدراك / الجماعة أو وجود الماء قلنا : التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة ، وكلامنا في مقتضى الأصل.
الحادي والعشرون : المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة ، فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام : "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".
الثاني والعشرون : صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت ، كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر ، لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع ، أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل ، وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضاً ، وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء ، وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة ، فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل ، ولنذكر كل واحد من الصلوات :
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
(1/658)
أما صلاة الفجر فقال محمد : المستحب أن يدخل فيها بالتغليس ، ويخرج منها بالإسفار ، فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل ، وقال الشافعي رضي الله عنه : التغليس أفضل ، وهو مذهب أبي بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد ، واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه. أحدها : ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس" قال محيي السنة في كتاب "شرح السنة" : متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن ، والتلفع بالثوب الاشتمال ، والمروط : الأردية الواسعة ، واحدها مرط ، والغلس : ظلمة آخر الليل ، فإن قيل : كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات ، فكان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي بالغلس كيلا يعرفن ، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس ، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا : الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ ، ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية. وثالثها : ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قمنا إلى الصلاة ، قال قلت : كم كان قدر ذلك ، قال : قدر خمسين آية ، وهذا يدل أيضاً على التغليس. وثالثها : ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غلس بالصبح ، ثم أسفر مرة ، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى. ورابعها : أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} (آل عمران : 17) ومدح التاركين للنوم فقال : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (السجدة : 16) وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله : "لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم" وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل. وخامسها : أن النوم في ذلك الوقت أطيب ، فيكون تركه أشق ، / فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لقوله عليه السلام : "أفضل العبادات أحمزها" أي أشقها ، واحتج أبو حنيفة بوجوه. أحدها : قوله عليه السلام : "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". وثانيها : روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس ، ثم قال ابن مسعود : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر ، فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها. وثالثها : عن ابن مسعود قال : ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر. ورابعها : عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران ، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع ، فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين ، وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين. وخامسها : أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الإنتظار ، وقال عليه السلام : "المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة" فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً ثم بها ثانياً ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار. وسادسها : أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلاً لفضل الجماعة. وسابعها : أن التغليس يضيق على الناس ، لأنه إذا كان الصلاة في وقت الغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر ، والحرج منفى شرعاً.وثامنها : أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة ، وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
والجواب عن الأول : أن الفجر اسم للنور الذي ينفي به ظلام المشرق ، فالفجر إنما يكون فجراً لو كانت الظلمة باقية في الهواء ، فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً ، وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه ، إذا ثبت هذا فنقول : ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء ، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد ، فقوله : "أسفروا بالفجر" يجب أن يكون محمولاً على التغليس ، أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثواباً ، وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر ، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه ، والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثواباً ، وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل ، فكيف يمكن أن يقول الشارع : إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة.
(1/659)
والجواب عن الثاني : وهو قول ابن مسعود : حافظوا على التنوير بالفجر ، فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت ، فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجراً ، وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم.
أما قوله تعالى : {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } فهو وعد لأهل الطاعة ، ووعيد لأهل المعصية ، كأنه تعالى قال : استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها / المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى ، ثم إنه سبحانه حقق بقوله : {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات ، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة ، وأما المسائل المستبنطة من هذه الآية ، فقد ذكرناها في قوله تعالى : {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة : 20).
جزء : 4 رقم الصفحة : 113
118
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِا فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (البقرة : 144) وذكر ههنا ثانياً قوله تعالى : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَا وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وذكر ثالثاً قوله : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} فهل في هذا التكرار فائدة أم لا ؟
وللعلماء فيه أقوال. أحدها : أن الأحوال ثلاثة ، أولها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام. وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد. وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.
والجواب الثاني : أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما / في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وأمر هذه القبلة حق ، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق ، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً ، وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِه ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ} .
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
والجواب الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه قال : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل ، ثم أنه تعالى قال ثالثاً : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات/ ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم ، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة ، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة.
(1/660)
والجواب الرابع : أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى : {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } (البقرة : 148) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِا وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } . والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال : ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : ألزم هذه القبلة فإنها الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : {وَإِنَّه لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ثم يقال : ألزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : {فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن : 12) وكذلك ما كرر في قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةًا وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} (الشعراء : 174).
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
والجواب الخامس : أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت / الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات.
أما قوله تعالى : {وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة : 74) يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم : {مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } (البقرة : 142) وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه.
أما قوله : {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة ، وفي كيفية تلك الحجة روايات. أحدها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا. وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة ، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام ، إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين ، لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة ، وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه ، فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول بعض العرب : إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر/ وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) فلا جرم قال الله تعالى : {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
المسألة الثانية : قرأ نافع : {لَيْلا} يترك الهمزة وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء والباقون بالهمزة وهو الأصل.
المسألة الثالثة : (لئلا) موضعه نصب ، والعامل فيه (ولوا) أي ولوا لئلا ، وقال الزجاج التقدير : عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة.
المسألة الرابعة : قيل : الناس هم أهل الكتاب عن قتادة والربيع وقيل : هو على العموم.
المسألة الخامسة : ههنا سؤال ، وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة ، فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال. الأول : أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه :
(1/661)
الوجه الأول : أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة ، قد تكون أيضاً باطلة ، قال الله تعالى / {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (الشورى : 16) وقال تعالى : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (آل عمران : 61) والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة ، وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجة الطريق ، فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة ، وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلاً.
الوجه الثاني : في تقرير أنه استثناء متصل : أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه عليه الصلاة والسلام يحول القبلة فلما حولت ، بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق.
الوجه الثالث : أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله. (حجة) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها (حجة) تهكماً بهم.
الوجه الرابع : أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال : {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فإنهم يحاجونكم بالباطل.
القول الثاني : أنه استثناء منقطع ، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة ، وهو كقوله تعالى : {مَا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } (النساء : 157) وقال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه : لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم ، ونظيره أيضاً قوله تعالى : {إِنِّى لا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَن ظَلَمَ} (النمل : 10 ، 11) وقال : {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } (هود : 43) وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
القول الثالث : زعم أبو عبيدة أن (إلا) بمعنى الواو كأنه تعالى قال : لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد :
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني : والفرقدان.
القول الرابع : قال قطرب : موضع {الَّذِينَ} خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل : لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار ، قال علي ابن عيسى : هذان الوجهان بعيدان.
أما قوله تعالى : {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى} فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج/ ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضررنكم واخشوني ، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم ، وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه : خشية عقاب الله ، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة ، وأن / لا يكون مشتغل القلب بهم ، ولا ملتفت الخاطر إليهم.
أما قوله تعالى : {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه. أحدها : أنه راجع إلى قوله تعالى : {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين. إحداهما : لانقطاع حجتهم عنه. والثانية : لتمام النعمة ، وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول صلى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلّم يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة. وثانيها : أن متعلق اللام محذوف ، معناه : ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك. وثالثها : أن يعطف على علة مقدرة ، كأنه قيل : واحشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم ، والقول الأول أقرب إلى الصواب فإن قيل : إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} (المائدة : 3) فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية : {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} قلنا : تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به ، وفي الحديث : "تمام النعمة دخول الجنة" وعن علي رضي الله عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
(1/662)
واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم رحمه الله من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس ، فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب ، لأن شيئاً من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه ، وإن أراد به إنكاره أصلاً ، فبعيد ، لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر ، ولأبي مسلم رحمه الله أن يمنع التواتر ، وعند ذلك يقول : لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 118
122
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه ، بعضها إلزامية ، وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله ، وهو المراد بقوله : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاه مَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَه } (البقرة : 130) وبعضها برهانية وقوله : {قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى ا إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ} (البقرة : 136) ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الإستدلال بحكاية / شبهتين لهم. إحداهما : قوله : {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى تَهْتَدُوا } (البقرة : 135). والثانية : استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة ، وهو قول : {سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } (البقرة : 142) وأطنب الله تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك ، لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ ، فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة ، وختم ذلك الجواب بقوله : {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى ، ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا ، والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه ، وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب.
أما قوله : {كَمَآ أَرْسَلْنَا} ففيه مسائل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 122
المسألة الأولى : هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده ، فإن قلنا : إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه. الأول : أنه راجع إلى قوله : {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} (البقرة : 150) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف ، وفي الآخرة بالفوز بالثواب ، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول. الثاني : أن إبراهيم عليه السلام قال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } (البقرة : 129) وقال أيضاً : {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} (البقرة : 128) فكأنه تعالى قال : ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع ، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم ، كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابة لدعوته عن ابن جرير. الثالث : قول أبي مسلم الأصفهاني ، وهو أن التقدير : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً ، أي كما أرسلنا فيكم رسولاً من شأنه وصفته كذا وكذا ، فكذلك جعلناكم أمة وسطاً ، وأما إن قلنا : أنّه متعلق بما بعده ، فالتقدير : كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعلمكم الدين والشرع ، فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً ، ولا تعلمون رسولاً ، ومحمد صلى الله عليه وسلّم رجل منكم ليس بصاحب كتاب ، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء ، وفيه الخبر عن أحوالهم ، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة ، والنهي عن أخلاق السفهاء ، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال : كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً ، فاذكروني بالشكر عليها ، أذكركم برحمتي وثوابي ، والذي يؤكده قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} (آل عمران : 164) فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة ، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل : (كما) هل يجوز أن يكون جواباً ؟
قلنا : جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين. أحدهما : {كَمَآ} . والثاني : {أَذْكُرْكُمْ} ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ، ولما سلف من نعمته ، قال القاضي : والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 122
المسألة الثانية : في وجه التشبيه قولان : إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى / أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح ، وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى : دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة.
(1/663)
المسألة الثالثة : {فِى مَا} في قوله : {كَمَآ أَرْسَلْنَا} مصدرية كأنه قيل : كإرسالنا فيكم ، ويحتمل أن تكون كافة.
أما قوله تعالى : {فِيكُمْ} فالمراد به العرب وكذلك قوله : {مِّنكُم} وفي إرساله فيهم ومنهم ، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب.
أما قوله تعالى : {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِنَا} فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة ، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة.
أما قوله : {وَيُزَكِّيكُمْ} ففيه أقوال. أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن. وثانيها : يزكيهم بالثناء والمدح ، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به ، كما يقال : إن المزكي زكي الشاهد ، أي وصفه بالزكاء. وثالثها : أن التزكية عبارة عن التنمية ، كأنه قال يكثركم ، كما قال : {إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } (الأعراف : 86) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا ، عن أبي مسلم ، قال القاضي : وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك.
أما قوله تعالى : {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـابَ} فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم ، وأما (الحكمة) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه (الحكمة) هي سنة الرسول عليه السلام.
أما قوله : {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمداً بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 122
123
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين : الذكر ، والشكر ، أما الذكر فقد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح ، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه ، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع. أحدها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل. وثانيها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا / كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد ، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم. وثالثها : أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس ، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له ، أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم ، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها ، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فصار الأمر بقوله : متضمناً جميع الطاعات ، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه ، أما قوله : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} فلا بد من حمله على ما يليق بالموضع ، والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح ، وإظهار الرضا والإكرام ، وإيجاب المنزلة ، وكل ذلك داخل تحت قوله : {أَذْكُرْكُمْ} ثم للناس في هذه الآية عبارات. الأولى : اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي. الثانية : اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) وهو قول أبي مسلم قال : أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين ، وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء ، فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة. الثالثة : اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة. الرابعة : اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة. الخامسة : اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات. السادسة : اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء. السابعة : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي. الثامنة : اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي. التاسعة : اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص. العاشرة : اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 123
124
(1/664)
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله : {فَاذْكُرُونِى } جميع العبادات ، وبقوله : {وَاشْكُرُوا لِي} ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال : {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات ، أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع ، ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات ، وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم ، ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده : {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 154) وأيضاً فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } (الأنفال : 45) وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال : {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ} (آل عمران : 147). / إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقييده ، والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له ، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات ولذلك قال : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} (العنكبوت : 45) ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
ثم قال : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} يعني في النصر لهم كما قال : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة : 137) فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقاً وتسديداً وألطافاً كما قال : {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى} (مريم : 76).
جزء : 4 رقم الصفحة : 124
125
اعلم أن هذه الآية نظيرة قوله في آل عمران : {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ووجه تعلق الآية بما قبلها كأنه قيل : استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني ، فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم ففعلتم ذلك فتلفت نفوسكم فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم بل اعلموا أن قتلاكم أحياء عندي وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، فمن المهاجرين : عبيدة بن الحرث ابن عبد المطلب ، وعمر بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وعمرو بن نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله. ومن الأنصار : سعيد بن خيثمة ، وقيس بن عبد المنذر ، وزيد بن الحرث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن المعلى ، وحارثة بن سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء ، وكانوا يقولون : مات فلان ومات فلان فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنهم ماتوا. وعن آخرين أن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : {أَمْوَاتُا } رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : لا تقولوا هم أموات.
المسألة الثالثة : في الآية أقوال :
القول الأول : أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور ، فإن قيل : نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور ، فكيف يصح ما ذهبتم إليه ؟
قلنا : أما عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة / إلى التركيب والتأليف ، وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بد منها في ماهية الحي ولا يعتبر بالأطراف ، ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا.
القول الثاني : قال الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى وقولوا لهم الشهداء الأحياء ويحتمل أن المشركين قالوا : هم أموات في الدين كما قال الله تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ} (الأنعام : 122) فقال : ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ، ولكن قولوا : هم أحياء في الدين ولكن لا يشعرون ، يعني المشركون لا يعلمون أن من قتل على دين محمد عليه الصلاة والسلام حي في الدين ، وعلى هدى من ربه ونور كما روي في بعض الحكايات أن رجلاً قال لرجل : ما مات رجل خلف مثلك ، وحكى عن بقراط أنه كان يقول لتلامذته : موتوا بالإرادة تحيوا بالطبيعة أي بالروح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 125
(1/665)
القول الثالث : أن المشركين كانوا يقولون : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم يقتلون أنفسهم ويخسرون حياتهم فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء ، وهؤلاء الذين قالوا ذلك ، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد ، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فلذلك قالوا هذا الكلام ، فقال الله تعالى : ولا تقولوا كما قال المشركون إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدنيا ، ولكن اعلموا أنهم أحياء ، أي سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة وتفسير قوله : {أَحْيَآءٌ} بأنهم سيحيون غير بعيد ، قال الله تعالى : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} (الإنفطار : 13 ، 14) وقال : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } (الكهف : 29) وقال : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145) وقال : {فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فِى جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} (الحج : 56) على معنى أنهم سيصيرون كذلك وهذا القول اختيار الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني واعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول ، والذي يدل عليه وجوه. أحدها : الآيات الدالة على عذاب القبر ، كقوله تعالى : {قَالُوا رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (غافر : 11) والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر ، وقال الله تعالى : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} (نوح : 25) والفاء للتعقيب ، وقال : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر : 46) وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى ، فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر ، كان ذلك في الثواب أولى. وثانيها : أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : {وَلَـاكِن لا تَشْعُرُونَ} معنى لأن الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة ، وأنهم ماتوا على هدى ونور ، فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم. وثالثها : أن قوله : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم} (آل عمران : 170) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث. ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران" والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر / صلاته : "وأعوذ بك من عذاب القبر". وخامسها : أنه لو كان المراد من قوله : أنهم أحياء أنهم سيحيون ، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة ، أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَ أولئك مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّانَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّـالِحِينَ } (النساء : 69) فأرادهم بالذكر تعظيماً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 125
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر. وسادسها : أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه ، واحتج أبو مسلم على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال : {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} (آل عمران : 169) وهذه العندية ليست بالمكان ، بل بالكون في الجنة ، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة. والجواب : لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة بل بإعلاء الدرجات وإيصال البشارات إليه وهو في القبر أو في موضع آخر ، واعلم أن في الآية قولاً آخر وهو : أن ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب ، وهذا القول بناء على معرفة الروح ، ولنشر إلى خلاصة حاصل قول هؤلاء فنقول : إنهم قالوا إن الإنسان لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل المحسوس ، أما إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن هذا الهيكل فلوجهين :
الوجه الأول : أن أجزاء هذا الهيكل أبداً في النمو والذبول والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول عمره ، والباقي غير ما هو غير باق ، والمشار إليه عند كل أحد بقوله : {أَنَا } وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل.
(1/666)
الوجه الثاني : أني أكون عالماً بأني أنا حال ما أكون غافلاً عن جميع أجزائي وأبعاضي ، والمعلوم غير ما هو غير معلوم ، فالذي أشير إليه بقولي (أنا) مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض ، وأما أن الإنسان غير محسوس فلأن المحسوس إنما هو السطح واللون ، ولا شك أن الإنسان ليس هو مجرد اللون والسطح ، ثم اختلفوا عند ذلك في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله (أنا) أي شيء هو ؟
والأقوال فيه كثيرة إلا أن أشدها تلخيصاً وتحصيلاً وجهان. أحدهما : أن أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورود والقائلون بهذا القول فريقان. أحدهما : الذين اعتقدوا تماثل الأجسام فقالوا : إن تلك الأجسام مماثلة لسائر الأجزاء التي منها يتألف هذا الهيكل إلا أن القادر المختار سبحانه يبقي بعض الأجزاء من أول العمر إلى آخره فتلك الأجزاء هي التي يشير إليها كل أحد بقوله (أنا) ثم أن تلك الأجزاء حية بحياة يخلقها الله تعالى فيها فإذا زالت الحياة ماتت وهذا قول أكثر المتكلفين. وثانيهما : الذين اعتقدوا اختلاف الأجسام وزعموا أن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخر العمر أجسام مخالفة بالماهية والحقيقة للأجسام التي يتألف منها هذا الهيكل وتلك الأجسام حية لذاتها مدركة لذاتها ، فإذا خالطت هذا البدن وصارت سارية في هذا الهيكل ، سريان النار في الفحم صار هذا الهيكل مستطيراً بنور ذلك الروح / متحركاً بتحركه ، ثم إن هذا الهيكل أبداً في الذوبان والتحلل والتبدل ، إلا أن تلك الأجزاء باقية بحالها ، وإنما لا يعرض لها التحلل لأنها مخالفة بالماهية لهذه الأجسام البالية ، فإذا فسد هذا القالب انفصلت تلك الأجسام اللطيفة النورانية إلى عالم السموات والقدس والطهار إن كانت من جملة السعداء ، وإلى الجحيم وعالم الآفات إن كانت من جملة الأشقياء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 125
(1/667)
والقول الثاني : أن الذي يشير إليه كل احد بقوله : (أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، وأنه ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا يلزم من كونه كذلك أن يكون مثل الله تعالى لأن الاشتراك في السلوك لا يقتضي الاشتراك في الماهية ، واحتجوا على ذلك بأن في المعلومات ما هو فرد حقاً فوجب أن يكون العلم به فرداً حقاً ، فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم فرداً حقاً ، وكل جسم وكل حال في الجسم فليس بفرد حقاً ، فذلك الذي يصدق عليه منا أنه يعلم هذه المفردات ، وجب أن لا يكون جسماً ولا جسمانياً أما أن في المعلومات ما هو فرد حقاً فلأنه لا شك في وجود شيء ، فهذا الموجود إن كان فرداً حقاً فهو المطلوب ، وإن كان مركباً فالمركب مركب على الفرد ، فلا بد من الفرد على كل الأحوال ، وأما أنه إذا كان في المعلومات ما هو فرد كان في المعلوم ما هو فرد لأن العلم المتعلق بذلك الفرد إن كان منقسماً فكل واحد من أجزائه أو بعض أجزائه إما أن يكون علماً بذلك المعلوم وهو محال ، لأنه يلزم أن يكون الجزء مساوياً للكل وهو محال ، وإما أن لا يكون شيء من أجزائه علماً بذلك المعلوم ، فعند اجتماع تلك الأجزاء إما أن يحدث زائد هو العلم بذلك المعلوم الفرد ، فحينئذ يكون العلم بذلك المعلوم هو هذه الكيفية الحادثة لا تلك الأشياء التي فرضناها قبل ذلك ثم هذه الكيفية إن كانت منقسمة عاد الحديث فيه وإن لم تكن منقسمة فهو المطلوب ، وأما إنه إذا كان في المعلوم علم لا يقبل القسمة كان الموصوف به أيضاً كذلك ، فلأن الموصوف به لو كان قبل القسمة ، لكان كل واحد من تلك الأجزاء أو شيء منها إن كان موصوفاً به بتمامه فحينئذ يكون العرض الواحد حالاً في أشياء كثيرة وهو محال ، أو يتوزع أجزاء الحال على أجزاء المحل ، فيقسم الحال وقد فرضنا أنه غير منقسم أو لا يتصف شيء من أجزاء المحل إلا بتمام الحال ولا شيء من أجزاء ذلك الحال/ فحينئذ يكون ذلك المحل خالياً عن ذلك الحال وقد فرضناه موصوفاً به هذا خلف ، وأما أن كل متحيز ينقسم فبالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد ، قالوا : فثبت أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله : (أنا موجود) ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ثم نقول : هذا الموجود لا بد أن يكون مدركاً للجزئيات لأنه لا يمكنني أن أحكم على هذا الشخص المشار إليه بأنه إنسان وليس بفرس ، والحاكم بشيء على شيء لا بد وأن يحضر المقضي عليهما فهذا الشيء مدرك لهذا الجزئي وللإنسان الكلي حتى يمكنه أن يحكم بهذا الكلي على هذا الجزئي والمدرك للكليات هو النفس والمدرك للجزئيات أيضاً هو النفس ، فكل من كان مدركاً للجزئيات فإنه لا يمتنع أن يلتذ ويتألم ، قالوا : إذا ثبت هذا فنقول : هذه الأرواح بعد المفارقة تتألم وتلتذ إلى أن يردها الله تعالى إلى الأبدان / يوم القيامة ، فهناك يحصل الإلتذاذ والتألم للأبدان ، فهذا قول قال به عالم من الناس قالوا : وهب أنه لم يقم برهان قاهر على القول به ولكن لم يقم دليل على فساده ، فإنه مما يؤيد الشرع وينصر ظاهر القرآن ويزيل الشكوك والشبهات عما ورد في كتاب الله من ثواب القبر وعذابه فوجب المصير إليه فهذا هو الإشارة المختصرة في توجيه هذا القول ، والله هو العالم بحقائق الأمور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 125
قالوا : ومما يؤكد هذا القول هو أن ثواب القبر وعذابه إما أن يصل إلى هذه البنية أو إلى جزء من أجزائها ، والأول مكابرة لأنا نجد هذه البنية متفرقة متمزقة فكيف يمكن القول بوصول الثواب والعقاب إليها ؟
فلم يبق إلا أن يقال : إن الله تعالى يحيي بعض تلك الأجزاء الصغيرة ويوصل الثواب والعقاب إليها ، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال : الإنسان هو الروح فإنه لا يعرض له التفرق والتمزق فلا جرم يصل إليه الألم واللذة ثم إنه سبحانه وتعالى يرد الروح إلى البدن يوم القيامة الكبرى ، حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 125
128
اعلم أن القفال رحمه الله قال : هذا متعلق بقوله : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } (البقرة : 45) أي استعينوا بالصبر والصلاة فإنا نبلوكم بالخوف وبكذا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فإن قيل إنه تعالى قال : {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة : 152) والشكر يوجب المزيد على ما قال : {لَـاـاِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ } فكيف أردفه بقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ} . والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة ، فكان ذلك موجباً للشكر ، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن ، فلا جرم أمر فيها بالصبر. الثاني : أنه تعالى أنعم أولاً فأمر بالشكر ، ثم ابتلى وأمر بالصبر ، لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معاً ، فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام : "الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر".
(1/668)
المسألة الثانية ؛ روي عن عطاء والربيع بن أنس أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بعد الهجرة.
المسألة الثالثة : أما أن الإبتلاء كيف يصح على الله تبارك وتعالى فقد تقدم في تفسير قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه } (البقرة : 124) وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الإبتلاء ففيها وجوه. أحدها : ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع ، وأسهل عليهم / بعد الورود. وثانيها : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن ، اشتد خوفهم ، فيصير ذلك الخوف تعجيلاً للابتلاء ، فيستحقون به مزيد الثواب. وثالثها : أن الكفار إذا شاهدوا محمداً وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع ، يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته ، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله ، ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب. ورابعها : أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً. وخامسها : أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الإختبار هذه الفائدة. وسادسها : أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه ، فكانت الحكمة في هذا الإبتلاء ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
المسألة الرابعة : إنما قال بشيء على الوحدان ، ولم يقل بأشياء على الجمع لوجهين. الأول : لئلا يوهم بأشياء من كل واحد ، فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيء من كذا وشيء من كذا. الثاني : معناه بشيء قليل من هذه الأشياء.
(1/669)
المسألة الخامسة : اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب ، فينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجوداً في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل ، فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمى ذكراً وتذكراً وإن كان موجوداً في الحال : يسمى ذوقاً ووجداً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك ، سمى انتظاراً وتوقعاً/ فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقا ، وإن كان محبوباً سمى ذلك ارتياحاً ، والإرتياح رجاء ، فالخوف هو تألم القلب لإنتظار ما هو مكروه عنده ، والرجاء هو ارتياح القلب لإنتظار ما هو محبوب عنده ، وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت : قال القفال رحمه الله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم ، وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان ، قال الله تعالى : {هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} (الأحزاب : 11) وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة لقلة أموالهم ، حتى أنه عليه السلام كان يشد الحجر على بطنه ، وروى أبو الهيثم بن التيهان أنه عليه السلام لما خرج التقى مع أبي بكر قال : ما أخرجك ؟
قال : الجوع. قال : أخرجني ما أخرجك : وأما النقص في الأموال والأنفس فقد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل ، فهناك يحصل / النقص في المال والنفس وقال الله تعالى : {وَجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} (التوبة : 41) وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى : {ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة : 120) وقد يكون النقص في النفس بموت بعض الإخوان والأقارب على ما هو التأويل في قوله : دولا تقتلوا أنفسكم} وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للإشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الوفود ، هذا آخر كلام القفال رحمه الله ، قال الشافعي رضي الله عنه : الخوف : خوف الله ، والجوع : صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات : موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى : وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للإشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الوفود ، هذا آخر كلام القفال رحمه الله ، قال الشافعي رضي الله عنه : الخوف : خوف الله ، والجوع : صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات : موت الأولاد ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى : {وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ} (البقرة : 155) وفيه مسائل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
المسألة الأولى : اعلم أن الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة ، فأما من لم يكن محققاً في الإيمان كان كمن قال فيه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍا فَإِنْ أَصَابَه خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِه ا وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِه خَسِرَ} . فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه مثاله : أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب ، ولو فعله به غيره ، لكان له أن يمانع بل يحارب ، وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ليس ذلك إلا حكمة وصواباً بخلاف ما يفعل العباد من الظلم.
المسألة الثانية : الخطاب في {وَبَشِّرِ} لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى منه البشارة.
(1/670)
المسألة الثالثة : قال الشيخ الغزالي رحمه الله : اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة/ أما في البهائم فلنقصانها ، وأما في الملائكة فلكمالها ، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات ، وليس لشهواتها عقل يعارضها ، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والإبتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها ، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر ، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة ، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ، ثم يظهر فيه شهوة اللعب ، ثم شهوة النكاح ، وليس له قوة الصبر ألبتة ، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر ، قام القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة ، والإعراض عن الدار الآخرة ، وعقلاً يدعوه إلى الإعراض عنها ، وطلب اللذات الروحانية الباقية ، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة ، عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية ، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل ، فيسمى ذلك الصد والمنع صبراً ، ثم اعلم أن الصبر ضربان. أحدهما : بدني ، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه ، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال / كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم. والثاني : هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع ، ثم هذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى : البطر. وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى : شجاعة ، ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى : حلماً ، ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي : سعة الصدر ، ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام يسمى : كتمان النفس ويسمى صاحبه : كتوماً ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً ، ويضاده الحرص وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمي الكل صبراً فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
{وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ} أي المصيبة. {وَالضَّرَّآءِ} أي الفقر : {وَحِينَ الْبَأْسِ } أي المحاربة : { أولئك الَّذِينَ صَدَقُوا ا وَ أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة : 177) قال القفال رحمه الله ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن ، إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابراً ، وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ، قال عليه السلام : "الصبر عند الصدمة الأولى" وهو كذلك ، لأن من ظهر منه في الإبتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر ، فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه قال الحسن : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم.
(1/671)
المسألة الرابعة : في فضيلة الصبر قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } (السجدة : 24) وقال : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إسرائيل بِمَا صَبَرُوا } (الأعراف : 137) وقال : {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل : 96) وقال : { أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } (القصص : 54) وقال : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر : 10) فما من طاعة إلا وأجرها مقدراً إلا الصبر ، ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى : {يَأْذَنَ لِى } فإضافة إلى نفسه ، ووعد الصابرين بأنه معهم فقال : {وَاصْبِرُوا ا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ} (الأنفال : 46) وعلق النصرة على الصبر فقال : {بَلَى ا إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الملائكة } (آل عمران : 125) وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم فقال : {أُوالَـا ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌا وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة : 157). وأما الأخبار فقال عليه الصلاة والسلام : "الصبر نصف الإيمان" وتقريره أن الإيمان لا يتم إلا بعد ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأعمال والعقائد ، وبحصول ما ينبغي ، فالاستمرار على ترك ما لا ينبغي هو الصبر وهو النصف الآخر ، فعلى مقتضى هذا الكلام يجب أن يكون الإيمان كله صبراً إلا أن ترك ما لا ينبغي وفعل / ما ينبغي قد يكون مطابقاً للشهوة ، فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، وقد يكون مخالفاً للشهوة فيحتاج فيه إلى الصبر ، فلا جرم جعل الصبر نصف الإيمان ، وقال عليه السلام : "من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار" وقال عليه السلام : "الإيمان هو الصبر" وهذا شبه قوله عليه السلام : "الحج عرفة".
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
المسألة الخامسة : في بيان أن الصبر أفضل أم الشكر ؟
قال الشيخ الغزالي رحمه الله : دلالة الأخبار على فضيلة الصبر أشد قال عليه السلام : "من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر" وقال : "يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ، ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له : أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر ؟
فيقول : نعم يا رب فيقول الله تعالى : لقد أنعمت عليك فشكرت ، وابتليتك فصبرت ، لأضعفن لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين" وأما قوله عليه السلام : "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" فهو دليل على فضل الصبر ، لأن هذا إنما يذكر في معرض المبالغة ، وهي لا تحصل إلا إذا كان المشبه به أعظم درجة من المشبه كقوله عليه السلام : "شارب الخمر كعابد الوثن" وأيضاً روي أن سليمان عليه السلام يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه ، وآخر الصحابة دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه ، وفي الخير أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء وأمامهم أيوب عليه السلام.
المسألة السادسة : دلت هذه الآية على أمور. أحدها : أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه. وثانيها : أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين. وثالثها : أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر ، وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها. ورابعها : أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع ، وشرب الماء لا يفيد الري ، بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب ، لأن قوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى وقول من قال : إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذا لقول ضعيف لأنه مجاز والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
132
اعلم أنه تعالى لما قال : {وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ} (البقرة : 155) بين في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون صابراً ، وأن تلك البشارة كيف هي ؟
ثم في الآية مسائل :
(1/672)
المسألة الأولى : اعلم أن هذه المصائب قد تكون من فعل الله تعالى وقد تكون من فعل العبد ، أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحرق والصاعقة وغيرها ، والذي من فعل العبد ، فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم ، وأما الجوع فلأجل الفقر ، وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم ، وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه ، ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوائح التي تصيب الأموال والثمرات ، ومن العدو إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لايتفرغون لعمارة الأراضي ، ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل.
المسألة الثانية : قال القاضي : إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال : {الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى ، وينالها من قبل العباد ، لأن في الوجهين جميعاً عليه تكليفاً ، وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركاً للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به ، لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى : {وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّا وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ } (غافر : 20) أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه ، ويدخل أيضاً تحت قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول ، إنا الله يدبر فينا كيف يشاء ، وفي الثاني يقول : إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
المسألة الثالثة : أمال الكسائي في بعض الروايات من {أَنَا } ولام {لِّلَّهِ} والباقون بالتفخيم وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال ، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة ، قال الفراء والكسائي : لا يجوز إمالة {أَنَا } مع غير اسم الله تعالى ، وإنما وجب ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة وكذلك لا يجوز إمالة {حَتَّى } و{لَـاكِنِ} .
أما قوله : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو بكر الوراق {إِنَّا لِلَّهِ} إقرار منا له بالملك : {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار على أنفسنا بالهلاك ، واعلم أن الرجوع إليه ليس عبارة عن الإنتقال إلى مكان أو جهة ، فإن ذلك على الله محال ، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه ، وذلك هو الدار الآخرة ، لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً ، وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر ، فجعل الله تعالى هذا رجوعاً إليه تعالى ، كما يقال : إن الملك والدولة يرجع إليه / لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة.
المسألة الثانية : هذا يدل على أن ذلك إقرار بالبعث والنشور ، والاعتراف بأنه سبحانه سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم/ ولا يضيع عنده أجر المحسنين.
المسألة الثالثة : قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} يدل على كونه راضياً بكل ما نزل به في الحال من أنواع البلاء وقوله : {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يدل على كونه في الحال راضياً بكل ما سينزل به بعد ذلك ، من إثابته على ما كان منه ، ومن تفويض الأمر إليه على ما نزل به ، ومن الإنتصاف ممن ظلمه ، فيكون مذللاً نفسه ، راضياً بما وعده الله به من الأجر في الآخرة.
(1/673)
المسألة الرابعة : الأخبار في هذا الباب كثيرة. أحدها : عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "من استرجع عند المصيبة : جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه". وثانيها : روي أنه طفيء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : "إنا لله وإنا إليه راجعون" فقيل أمصيبة هي ؟
قال : نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة. وثالثها : قالت أم سلمة : حدثني أبو سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال : "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيراً منها إلا آجره الله عليها وعوضه خيراً منها" قالت : فلما توفى أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت هذا القول : فعوضني الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام. ورابعها : قال ابن عباس : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله تعالى ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصلاة من الله ، والرحمة وتحقيق سبيل الهدى. وخامسها : عن عمر رضي الله عنه قال : نعم العدلان وهما : {أُوالَـا ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } ونعمت العلاوة وهي قوله : {وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وقال ابن مسعود : لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى : ليته لم يكن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
أما قوله : {أُوالَـا ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فاعلم أن الصلاة من الله هي : الثناء والمدح والتعظيم ، وأما رحمته فهي : النعم التي أنزلها به عاجلاً ثم آجلاً.
وأما قوله : {وَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ففيه وجوه. أحدها : أنهم المهتدون لهذه الطريقة الموصلة بصاحبها إلى كل خير. وثانيها : المهتدون إلى الجنة ، الفائزون بالثواب. وثالثها : المهتدون لسائر ما لزمهم ، والأقرب فيه ما يصير داخلاً في الوعد حتى يكون عطفه على ما ذكره من الصلوات والرحمة صحيحاً ، ولا يكون كذلك إلا والمراد به أنهم الفائزون بالثواب والجنة ، والطريق إليها لأن كل ذلك داخل في الاهتداء ، وإن كان لا يمتنع أن يراد بذلك أنهم المتأدبون بآدابه المتمسكون بما ألزم وأمر ، قال أبو بكر الرازي : اشتملت الآية على حكمين : فرض ونفل ، أما الفرض فهو التسليم لأمر الله تعالى ، والرضا بقضائه ، والصبر على أداء فرائضه ، لا يصرف عنها مصائب الدنيا وأما النفل فإظهاراً لقوله : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها أن غيره يقتدى / به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله والثبات عليه وعلى طاعته ، وحكي عن داود الطائي قال : الزهد في الدنيا أن لا يحب البقاء فيها ، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن لأنه يعلم أن لكل مصيبه ثواباً.
ولنختم تفسير هذه الآية ببيان الرضا بالقضاء فنقول : العبد إنما يصبر راضياً بقضاء الله تعالى بطريقن : إما بطريق التصرف ، أو بطريق الجذب ، أما طريق التصرف فمن وجوه. أحدها : أنه متى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إلى شيء جعل ذلك الشيء منشأ للآفات فحينئذ ينصرف وجه القلب عن عالم الحدوث إلى جانب القدس فإن آدم عليه السلام لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة/ فبقي آدم مع ذكر الله ، ولما استأنس يعقوب بيوسف عليهما السلام أوقع الفراق بينهما حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق ، ولما طمع محمد عليه السلام من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه حتى قال : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت". وثانيها : أن لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة فحينئذ يرجع العبد إلى الله تعالى. وثالثها : أن العبد متى توقع من جانب شيئاً أعطاه الله تعالى بلا واسطة خيراً من متوقعه فيستحي العبد فيرجع إلى باب رحمة الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
وأما طريق الجذب فهو كما قال عليه السلام : "جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين". ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب لا مغلوب ، وصفة الرب الربوبية ، وصفة العبد العبودية ، والربوبية غالبة على العبودية لا بالضد ، وصفة الحق حقيقة ، وصفة العبد مجاز ، والحقيقة غالبة على المجاز لا بالضد ، والغالب يقلب المغلوب من صفة إلى صفة تليق به ، والعبد إذا دخل على السلطان المهيب نسي نفسه وصار بكل قلبه وفكره وحسه مقبلاً عليه ومشتغلاً به وغافلاً عن غيره ، فكيف بمن لحظ نصره حضرة السلطان الذي كان من عداه حقير بالنسبة إليه ، فيصير العبد هنالك كالفاني عن نفسه وعن حظوظ نفسه فيصير هنالك راضياً بأقضية الحق سبحانه وتعالى وأحكامه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 132
134
وفي الآية مسائل :
(1/674)
المسألة الأولى : اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه. أحدها : أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته بإحياء شرائع إبراهيم / ودينه على ما قال : {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية. وثانيها : أنه تعالى لما قال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (البقرة : 155) إلى قوله : {وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ} قال : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّه } وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات. وثالثها : أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة. أحدها : ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولاً وهو قوله : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة : 152) فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول. وثانيها : ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه ، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به بين الحكمة فيه ، وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (البقرة : 155) فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً. وثالثها : الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه ، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة ، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
المسألة الثانية : اعلم أن الصفا والمروة علمان للجبلين المخصوصين إلا أن الناس تكلموا في أصل اشتقاقهما قال القفال رحمه الله : قيل إن الصفا واحد ويجمع على صفي وأصفاء كما يقال عصا وعصي ، ورحا وأرحاء قال الزاجر :
كأن متنيه من النفي
مواقع الطير من الصفي
وقد يكون بمعنى جمع واحدته صفاة قال جرير :
إنا إذا قرع العدو صفاتنا
لاقوا لنا حجراً أصم صلودا
وفي كتاب الخليل : الصفا الحجر الضخم الصلب الأملس ، وإذا نعتوا الصخرة قالوا : صفاة صفواء ، وإذا ذكروا قالوا : صفا صفوان. فجعل الصفا والصفاة كأنهما في معنى واحد وقال المبرد الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب متصل به ، واشتقاقه من صفا يصفوا إذا خلص وأما المروة فقال الخليل : من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة ، وقاله غير : هو الحجارة الصغيرة يجمع في القليل مروات وفي الكثير مرو قال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مروة
بصفا المشاعر كل يوم يقرع
وأما {شَعَـا اـاِرَ اللَّهِ} فهي أعلام طاعته/ وكل شيء جعل علماً من أعلام طاعة الله فهو من شعائر / الله ، قال الله تعالى : {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـاهَا لَكُم مِّن شَعَـا اـاِرِ اللَّهِ} (الحج : 36) أي علامة للقربة ، وقال : {ذَالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـا اـاِرَ اللَّهِ} (الحج : 32) وشعائر الحج : معالم نسكه ومنه المشعر الحرام ، ومنه إشعار السنام : وهو أن يعلم بالمدية فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها ، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله ، ومنه الشعائر في الحرب ، وهو العلامة التي يتبين بها إحدى الفئتين من الأخرى والشعائر جمع شعيرة ، وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومنه قولك : شعرت بكذا ، أي علمت.
المسألة الثالثة : الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك ، أو نحملها على مواضع العبادات والنسك ، فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف ، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك ، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى ، وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام ، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه ، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك ، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} (البقرة : 128) واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج ، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال : {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
(1/675)
المسألة الرابعة : الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل عليه السلام أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب فمن دعاه فإنه غياث المستغثيثن ، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما ، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة ، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين ، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
المسألة الخامسة : ذكر القفال في لفظ الحج أقوالاً. الأول : الحج في اللغة كثرة الاختلاف إلى شيء والتردد إليه ، فمن زار البيت للحج فإنه يأتيه أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر. الثاني : قال قطرب : الحج الحلق يقال : احجج شجتك ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشجة ليدخل المحجاج في الشجة ، فيكون المعنى : حج فلان أي حلق ، قال القفال وهذا محتمل لقوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح : 27) أي حجاجاً وعماراً ، فعبر عن ذلك بالحلق فلا يبعد أن يكون الحج مسمى بهذا الاسم لمعنى الحلق. الثالث : قال قوم الحج القصد ، يقال : رجل محجوج ، ومكان / محجوج إذا كان مقصوداً ، ومن ذلك محجة الطريق ، فكان البيت لما كان مقصوداً بهذا النوع من العبادة سمي ذلك الفعل حجاً ، قال القفال : والقول الأول أشبه بالصواب لأن قولهم رجل محجوج إنما هو فيمن يختلف إليه مرة بعد أخرى ، وكذلك محجة الطريق هو الذي كثر السير إليه.
وأما العمرة فقال أهل اللغة : الاعتمار هو القصد والزيارة ، قال الأعشى :
وجاشت النفس لما جاء جمعهم
وراكب جاء من تثليث معتمر
وقال قطرب : العمرة في كلام عبد القيس : المسجد ، والبيعة ، والكنيسة ، قال القفال : ولا شبهة في العمرة إذا أضيفت إلى البيت أن تكون بمعنى الزيارة ، لأن المعتمر يطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم ينصرف كالزائر ، وأما الجناح فهو من قولهم : جنح إلى كذا أي مال إليه ، قال الله تعالى : {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال : 61) وجنحت السفينة إذا لزمت الماء فلم تمض ، وجنح الرجل في الشيء يعلمه بيده إذا مال إليه بصدره وقيل للأضلاع : جوانح لاعوجاجها ، وجناح الطائر من هذا ، لأنه يميل في أحد شقيه ولا يطير على مستوى خلقته فثبت أن أصله من الميل ، ثم من الناس من قال إنه بقي في عرف القرآن كذلك أيضاً فمعنى : لا جناح عليه أينما ذكر في القرآن : لا ميل لأحد عليه بمطالبة شيء من الأشياء ، ومنهم من قال : بل هو مختص بالميل إلى الباطل وإلى ما يأثم به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
وقوله : {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء كما قال : {رَّحِيمُ * يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (المدثر : 1) ، {عَدَدَا * يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (المزمل : 1) أي المتدثر والمتزمل ، ويقال : طاف وأطاف بمعنى واحد.
(1/676)
المسألة السادسة : ظاهر قوله تعالى : {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} أنه لا إثم عليه ، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد ، فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب ، أو ليس بواجب ، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر ، إذا عرفت هذا فنقول : مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن ، ولا يقوم الدم مقامه ، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن ، ويقوم الدم مقامه ، وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه ، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه. أحدها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا" ، فإن قيل : هذا الحديث متروك الظاهر ، لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو ، ذلك غير واجب قلنا : لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة : 9) والعدو فيه غير واجب ، وقال الله تعالى : {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } (النجم : 39) وليس المراد منه العدو ، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية ، سلمنا أنه يدل على العدو ، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة ، فيبقى أصل المشي واجباً. وثانيها : ما ثبت أنه عليه السلام سعى لما دنا من الصفا في حجته ، وقال : "إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى / البيت ، وإذا ثبت أنه عليه السلام سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر ، أما القرآن : فقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} وقوله : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى} (آل عمران : 31) وقوله : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
الأحزاب : 21) وأما الخبر فقوله عليه السلام : "خذوا عني مناسككم" والأمر للوجوب. وثالثها : أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركناً كطواف الزيارة ، ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة ، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين. أحدهما : هذه الآية وهي قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وهذا لا يقال في الواجبات. ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فبين أنه تطوع وليس بواجب. وثانيهما : قوله : "الحج عرفة" ومن أدرك عرفة فقد تم حجه ، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ، ترك العمل به في بعض الأشياء ، فيبقى معمولاً به في السعي والجواب عن الأول من وجوه. الأول : ما بينا أن قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله ، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره ، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النساء : 101) والقصر عند أبي حنيفة واجب ، مع أنه قال فيه : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} فكذا ههنا. الثاني : أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما ، وعندنا الأول غير واجب ، وإنما الثاني هو الواجب. الثالث : قال ابن عباس : كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جناح عليك أن تصلي فيه ، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة. الرابع : روي عن عروة أنه قال لعائشة : إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما ، فقالت : بئس ما قلت لو كان كذلك لقال : أن لا يطوف بهما ، ثم حكى ما تقدم من الصنمين ، وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين ، فإن قالوا : قرأ ابن مسعود : (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) واللفظ أيضاً محتمل له كقوله : {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا } (النساء : 176) أي أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : {أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (الأعراف : 172) معناه : أن لا تقولوا ، قلنا : القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً. الخامس : كما أن قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب ، ولا شك في أن السعي مندوب ، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
(1/677)
وأما التمسك بقوله : {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فضعيف ، لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولاً ، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر قال الله تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } (البقرة : 184) ثم قال : {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّه } (البقرة : 184) فأوجب عليهم / الطعام ، ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى : فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيراً ، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفاً إلى شيء آخر وهو من وجهين. أحدهما : أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر. الثاني : أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعاً وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول : ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قراءة حمزة وعاصم والكسائي (يطوع) بالياء وجزم العين ، وتقديره : يتطوع ، إلا أن التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما ، وهذا أحسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء الأحسن فيهما الاستقبال ، وإن كان يجوز أن يقال من أتاني أكرمته فيوقع الماضي موقع المستقبل في الجزاء ، إلا أن اللفظ إذا كان يوافق المعنى كان أحسن/ وأما الباقون من القراء فقرؤا (تطوع) على وزن تفعل ماضياً وهذه القراءة تحتمل أمرين. أحدهما : أن يكون موضع (تطوع) جزماً. الثاني : أن لا يجعل (من) للجزاء ، ولكن يكون بمنزلة (الذي) ويكون مبتدأ والفاء مع ما بعدها في موضع رفع لكونها خبر المبتدأ الموصول والمعنى فيه معنى مبتدأ الخبر ، إلا أن هذه الفاء إذا دخلت في خبر الموصول أو النكرة الموصوفة ، أفادت أن الثاني إنما وجب لوجوب الأول كقوله : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه } (النحل : 53) فما مبتدأ موصول ، والفاء مع ما بعدها خبر له ، ونظيره قوله : {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} (النساء : 38) إلى قوله : {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} (البقرة : 274) وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} (البروج : 10) إلى قوله : {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} وقوله : {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْه } وقوله : {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُه قَلِيلا} وقوله : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه عَشْرُ أَمْثَالِهَا } وقوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ونذكر هذه المسألة إن شاء الله عند قوله : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} (البقرة : 274).
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
المسألة الثانية ؛ قال أبو مسلم : (تطوع) تفعل من الطاعة وسواء قول القائل : طاع وتطوع ، كما يقال : حال وتحول وقال وتقول وطاف وتطوف وتفعل بمعنى فعل كثيراً ، والطوع هو الانقياد ، والطوع ما ترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك.
المسألة الثالثة : الذين قالوا : السعي واجب ، فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن : المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ.
أما قوله تعالى : {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فالشاكر في حقه تعالى مجاز ، ومعناه المجازي على الطاعة : وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه. الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان / إليهم ، كما قال تعالى : {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (البقرة : 245) وهو تعالى لا يستقرض من عوض ، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم. الثاني : أن الشكر لما كان مقابلاً للأنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه. الثالث : كأنه يقول : أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
وأما قوله : {عَلِيمٌ} فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل ، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى : {عَلِيمٌ} تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد ، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه ، وتحذير من خلاف ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
139
(1/678)
المسألة الأولى : في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} قولان. أحدهما : أنه كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين. والثاني : أنه ليس يجري على ظاهره في العموم ثم من هؤلاء من زعم أنه في اليهود خاصة قال ابن عباس : إن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفات النبي عليه الصلاة والسلام ، ومن الأحكام ، فكتموا ، فنزلت الآية وقيل : نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والربيع والسدي والأصم. والأول أقرب إلى الصواب لوجوه. أحدها : أن اللفظ عام والعارض الموجود ، وهو نزوله عند سبب معين لايقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وثانيها : أنه ثبت أيضاً في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم ، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى ، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف. وثالثها : أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ وَالْهُدَى } فحملت الآية على العموم ، وعن / أبي هريرة رضي الله عنه قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة. وتلا : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ وَالْهُدَى } واحتج من خص الآية بأهل الكتاب ، أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فأما القرآن فإنه متواتر ، فلا يصح كتمانه ، قلنا : القرآن قبل صيرورته متواتراً يصح كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية.
المسألة الثانية : قال القاضي : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه ، وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً ، فلما كان ما أنزله الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان ، كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان ، إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها ، وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر ، لأن الكتمان مما يشق على النفس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه } (آل عمران : 187) وقريب منهما قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَيَشْتَرُونَ بِه ثَمَنًا قَلِيلا } (البقرة : 174) فهذه الآية كلها موجبة لإظهار علوم الدين تنبيهاً للناس وزاجرة عن كتمانها ، ونظيرها في بيان العلم وإن لم يكن فيها ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى : {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة : 122) وروى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار".
أما قوله تعالى : {مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ} فالمراد كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً وحياً دون أدلة العقول ، وقوله تعالى : {وَالْهُدَى } يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأنا بينا في تفسير قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) أن الهدى عبارة عن الدلائل فيعم الكل فإن قيل : فقد قال : {وَالْهُدَى مِنا بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } فعاد إلى الوجه الأول قلنا : الأول هو التنزيل والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
واعلم أن الكتاب لما دل على أن خبر الواحد والإجماع والقياس حجة فكل ما يدل عليه أحد هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب فكان كتمانه داخلاً تحت الآية فثبت أنه تعالى توعد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية وجمع بين الأمرين في الوعيد ، فهذه الآية تدل على أن من أمكنه بيان أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجاً إليها ثم تركها أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه فقد لحقه الوعيد العظيم.
المسألة الرابعة : هذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين وهذا لأنه إذا أظهر البعض / صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه فلم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقيين إظهاره مرة أخرى.
(1/679)
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
المسألة الخامسة : من الناس من يحتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد فقال : دلت هذه الآيات على أن إظهار هذه الأحكام واجب ، ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجباً وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } (البقرة : 160) فحكم بوقوع البيان بخبرهم فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان ومأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر ؟
قلنا : هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على الوضع والاقتراء فلا يكون خبرهم موجباً للعلم.
المسألة السادسة : احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم كان أخذ الأجرة عليه أخذاً للأجرة على أداء الواجب وأنه غير جائز ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَـابِ وَيَشْتَرُونَ بِه ثَمَنًا قَلِيلا } (البقرة : 174) وظاهر ذلك بمنع أخذ الأجرة على الإظهار وعلى الكتمان جميعاً لأن قوله : {وَيَشْتَرُونَ بِه ثَمَنًا قَلِيلا } (البقرة : 174) مانع أخذ البدل عليه من جميع الوجوه.
أما قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } قبل في التوراة والإنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ومن الأحكام ، وقيل : أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين ، والثاني : ما في القرآن.
أما قوله تعالى : { أولئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} فاللعنة في أصل اللغة هي الإبعاد وفي عرف الشرع الإبعاد من الثواب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
أما قوله تعالى : {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ} فيجب أن يحمل على من للعنة تأثير ، وقد اتفقوا على أن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك فهم داخلون تحت هذا العموم لا محالة ، ويؤكده قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (البقرة : 161) والناس ذكروا وجوهاً أخر. أحدها : أن اللاعنين هم دواب الأرض وهوامها/ فإنها تقول : منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن مجاهد وعكرمة وإنما قال : {اللَّـاعِنُونَ} ولم يقل اللاعنات لأنه تعالى وصفها بصفة من يعقل فجمعها جمع من يعقل كقوله : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ} . (يوسف : 4) و{نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ} (النمل : 18) و{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } (فصلت : 21) ، {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33). وثانيها : كل شيء سوى الثقلين الجن والإنس ، فإن قيل : كيف يصح اللعن من البهائم والجمادات ؟
قلنا : على وجهين : الأول : على سبيل المبالغة ، وهو أنها لو كانت عاقلة لكانت تلعنهم. الثاني : أنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه. وثالثها : أن أهل النار / يلعنونهم أيضاً حيث كتموهم الدين ، فهو على العموم. ورابعها : قال ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه وتعالى. وخامسها : عن ابن عباس : إن لهم لعنتين : لعنة الله. ولعنة الخلائق. قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل : ما دينك ؟
ومن نبيك ؟
ومن ربك ؟
فيقول : ما أدري فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن ، فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ، ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت ، كذلك كنت في الدنيا. وسادسها : قال أبو مسلم : (اللاعنون) هم الذين آمنوا به ، ومعنى اللعن منهم : مباعدة الملعون ومشاقته ومخالفته مع السخط عليه والبراءة منه. قال القاضي : دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر لأنه تعالى أوجب فيه اللعن ، ويدل على أن أحداً من الأنبياء لم يكتم ما حمل من الرسالة وإلا كان داخلاً في الآية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 139
142
(1/680)
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال ، فبين تعالى أنهم إذا تابوا تغير حكمهم ، ودخلوا في أهل الوعيد ، وقد ذكرنا أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لا لغرض سواه ، لأن من ترك رد الوديعة ثم ندم عليه لأن الناس ذموه ، أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائباً ، وكذلك لو عزم على رد كل وديعة ، والقيام بكل واجب ، لكي تقبل شهادته ، أو يمدح بالثناء عليه لم يكن تائباً ، وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بين تعالى أنه لا بد له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلاً لو أفسد على غيره دينه بإيراد شبهة عليه يلزمه إزالة تلك الشبهة ، ثم بين ثالثاً أنه بعد ذلك يجب عليه فعل ضد الكتمان ، وهو البيان وهو المراد بقوله : {وَبَيَّنُوا } فدلت هذه الآية على أن التوبة لا تحصل إلا بترك كل ما لا ينبغي وبفعل كل ما ينبغي ، قالت المعتزلة : الآية تدل على أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصح ، لأن قوله : {وَأَصْلَحُوا } عام في الكل. والجواب عنه : أن اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده. قال أصحابنا : تدل الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً ، لأنه تعالى ذكر ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ولو كان كذلك واجباً لما حسن هذا المدح ومعنى : {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أقبل توبتهم وقبول التوبة يتضمن إزالة عقاب ما تاب منها فإن قيل : هلا قلتم أن معنى {فَ أولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } هو قبول التوبة بمعنى المجازاة والثواب كما تقولون في قبول الطاعة قلنا : الطاعة إنما أفاد قبولها استحقاق الثواب ، لأنه لا يستحق بها سواه وهو الغرض بفعلها / وليس كذلك التوبة لأنها موضوعة لاسقاط العقاب ، وهو الغرض بفعلها ، وإن كان لا بد من أن يستحق بها الثواب إذا لم يكن مخطئاً ، ومعنى قوله : {وَأَنَا التَّوَّابُ} القابل لتوبة كل ذي توبة فهو مبالغة في هذا الباب ، ومعنى الرحيم عقيب ذلك : التنبيه على أنه لرحمته بالمكلفين من عباده ، يقبل توبتهم بعد التفريط العظيم منهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 142
142
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن ظاهر قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} عام في حق كل من كان كذلك فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك ، وقال أبو مسلم : يجب حمله على الذين تقدم ذكرهم ، وهم الذين يكتمون الآيات ، واحتج عليه بأنه تعالى لما ذكر حال الذين يكتمون ، ثم ذكر حال التائبين منهم ، ذكر أيضاً حال من يموت منهم من غير توبة ، وأيضاً أنه تعالى لما ذكر أن أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة ، بين في هذه الآية أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات. والجواب عنه : أن هذا إنما يصح متى كان الذين يموتون من غير توبة لا يكونون داخلين تحت الآية الأولى ، فأما إذا دخلوا تحت الأولى : استغنى عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف.
المسألة الثانية ؛ لما ذكر في الكلام أنه إذا مات على كفره صار الوعيد لازماً من غير شرط ولما كان المعلق على الشرط عدماً عند عدم الشرط ؛ علمنا أن الكافر إذا تاب قبل الموت لم يكن حاله كذلك.
المسألة الثالثة : إن قيل : كيف يلعنه الناس أجمعون ، وأهل دينه لا يلعنونه ؟
قلنا الجواب عنه من وجوه. أحدها : أن أهل دينه يلعنونه في الآخرة ، لقوله تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} (العنكبوت : 25). وثانيها : قال قتادة والربيع : أراد بالناس أجمعين المؤمنين ، كأنه لم يعتد بغيرهم وحكم بأن المؤمنين هم الناس لا غير. وثالثها : أن كل أحد يلعن الجاهل والظالم لأن قبح ذلك مقرر في العقول ، فإذا كان هو في نفسه جاهلاً أو ظالماً وإن كان لا يعلم هو من نفسه كونه كذلك ، كانت لعنته على الجاهل والظالم تتناول نفسه عن السدي. ورابعها : أن يحمل وقوع اللعن على استحقاق اللعن ، وحينئذ يعم ذلك.
المسألة الرابعة : قال أبو بكر الرازي في الآية دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافراً ، / وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنا لعنه والبراءة منه ، لأن قوله : {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لوجن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطاً للعنه والبراءة منه ، وكذلك السبيل فيما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح ، فإن موت من كان كذلك أو جنونه ، لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 142
(1/681)
المسألة الخامسة : القائلون بالموافاة احتجوا بهذه الآية فقالوا : علق تعالى وجوب لعنته بأن يموت على كفره فلو استحق ذلك قبل الموت لم يصح ذلك ، فعلمنا أن الكفر إنما يفيد استحقاق اللعن لو مات صاحبه عليه وكذا الإيمان إنما يفيد استحقاق المدح إذا مات صاحبه عليه. الجواب : الحكم المرتب على الذين ماتوا على الكفر مجموع أمور منها اللعن لو مات ، ومنها الخلود في النار ، وعندنا أن هذا المجموع وهو اللعن وحده ، لم قلتم : أنه لا يحصل إلا فيه.
المسألة السادسة : القائلون بأن الكفر من الأسماء الشرعية ، وما بقي على الوضع الأصلي وهم المعتزلة احتجوا بقوله تعالى : {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} والله تعالى وصفهم حال موتهم بأنهم كفار ومعلوم أن الكفر بمعنى الستر والتغطية ، لا يبقى فيهم حال الموت ، لأن التغطية لا تحصل إلا في حق الحي الفاهم.
المسألة السابعة ؛ الآية تدل على جواز التخصيص مع التوكيد ، لأنه تعالى قال : {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} مع أنه مخصوص على مذهب من قال : المراد بالناس بعضهم.
وأما قوله تعالى : {خَـالِدِينَ فِيهَا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الخلود اللزوم الطويل ، ومنه يقال : أخلد إلى كذا أي لزمه وركن إليه.
المسألة الثانية : العامل في (خالدين) الظرف من قوله (عليهم) لأن فيه معنى الإستقرار للعنة فهو حال من الهاء والميم في عليهم كقولك : عليهم المال صاغرين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 142
المسألة الثالثة : {خَـالِدِينَ فِيهَا } أي في اللعنة ، وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً كما في قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) والأول أولى لوجوه. الأول : أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر. الثاني : أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار ، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى. الثالث : أن قوله : {خَـالِدِينَ فِيهَا } إخبار عن الحال ، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلاً في الحال ، وفي حمله على النار لا يكون حاصلاً في الحال ، بل لا بد من التأويل ؛ فكان ذلك أولى ، واعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بأمور ثلاثة. أحدها : الخلود وهو المكث الطويل عندنا ، والمكث الدائم عند المعتزلة ، على ما تقدم القول فيه في تفسير قوله تعالى : {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه فَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (البقرة : 81). وثانيها : عدم التخفيف ، ومعناه أن الذي ينالهم من / عذاب الله فهو متشابه في الأوقات كلها ، لا يصير بعض الأوقات أقل من بعض ، فإن قيل : هذا التشابه ممتنع لوجوه. الأول : أنه إذا تصور حال غيره في شدة كالعقاب ، كان ذلك كالتخفيف منه. الثاني : أنه تعالى يوفر عليهم ما فات وقته من العذاب ثم تنقطع تلك الزيادة فيكون ذلك تخفيفاً الثالث : أنهم حيثما يخاطبون بقوله : {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} لا شك أنه يزداد غمهم في ذلك الوقت. (أجابوا عنه) بأن التفاوت في هذه الأمور القليلة ، فالمستغرق بالعذاب الشديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التفاوت ، قالوا : ولما دلت الآية على أن هذا العقاب متشابه ، وجب أن يكون دائماً لأنهم لو جوزوا انقطاع ذلك مما يخفف عنهم إذا تصوروه ، وبيان ذلك أن الواقع في محنة عظيمة في الدنيا إذا بشر بالخلاص بعد أيام فإنه يفرح ويسر ويسهل عليه موقع محنته وكلما كانت محنته أعظم ، كان ما يلحقه من الروح والتخفيف بتصور الإنقطاع أكثر.
الصفة الثالثة : من صفات ذلك العقاب : قوله : {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى : {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (البقرة : 280) والمعنى : إن عذابهم لا يؤجل ، بل يكون حاضراً متصلاً بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى ، وفي الآخرة لا مهلة البتة فإذا استمهلوا لا يمهلون ، وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون ، وقيل لهم ؛ {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون : 108) نعوذ بالله من ذلك والحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الإنقطاع والتخفيف والتأخير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 142
144
اعلم أن الكلام في تفسير لفظ الإله قد تقدم في تفسير : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} أما الواحد ففيه مسائل :
(1/682)
المسألة الأولى : قال أبو علي : قولهم واحد اسم جرى على وجهين في كلامهم. أحدهما : أن يكون اسماً والآخر أن يكون وصفاً ، فالإسم الذي ليس بصفة قولهم : واحد المستعمل في العدد نحو : واحد اثنان ثلاثة ، فهذا اسم ليس بوصف كما أن سائر أسماء العدد كذلك ، وأما كونه صفة فنحو قولك مررت برجل واحد وهذا شيء واحد فإذا أجرى هذا الإسم على الحق سبحانه وتعالى جاز أن يكون الذي هو الوصف كالعالم والقادر ، وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولنا شيء ويقوي الأول قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } وأقول : تحقيق هذا الكلام في العقل أن الأشياء التي يصدق عليها إنها واحد مشتركة في مفهوم الوحدانية ، ومختلفة في خصوصيات ماهياتها ، أعني كونها جوهراً ، أو عرضاً ، أو جسماً ، أو مجرداً ، ويصح أيضاً فعل كل واحد منهما ، أعني ماهيته ، / وكونه واحداً مع الذهول عن الآخر ، فإذن كون الجوهر جوهراً مثلاً غير ، وكونه واحداً غير ، والمركب منهما غير ، فلفظ الواحد تارة يفيد مجرد معنى أنه واحد ، وهذا هو الاسم ، وتارة يفيد معنى أنه واحد حين ما يحصل نعتاً لشيء آخر ، وهذا معنى كونه نعتاً.
المسألة الثانية : الواحدية هل هي صفة زائدة على الذات أم لا ؟
اختلفوا فيها فقال قوم : إنها صفة زائدة على الذات ، واحتجوا عليه بأنا إذا قلنا ؛ هذا الجوهر واحد ، فالمفهوم من كونه جوهراً ، غير المفهوم من كونه واحداً ، بدليل أن الجوهر يشاركه العرض في كونه واحداً ، ولا يشاركه في كونه جوهراً ، ولأنه يصح أن يعقل كونه جوهراً حال الذهول عن كونه واحداً والمعلوم مغايراً لغير المعلوم ، ولأنه لو كان كونه واحداً نفس كونه جوهراً ، لكان قولنا الجوهر واحد جارياً مجرى قولنا : الجوهر جوهر ، ولأن مقابل الجوهر هو العرض ، ومقابل الواحد هو الكثير ، فثبت أن المفهوم من كونه واحداً ، إما أن يكون سلبياً أو ثبوتياً لا جائز أن يكون سلبياً لأنه لو كان سلبياً لكان سلباً للكثرة والكثرة إما أن تكون سلبية أو ثبوتية ، فإن كانت الكثرة سلبية ، والوحدة سلب الكثرة ، كانت الوحدة سلباً للسلب وسلب السلب ثبوت ، فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فلو كانت الوحدة سلبية مع الكثرة كان مجموع المعدومات أمراً موجوداً وهو محال ، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية ، ثم هذه الصفة الزائدة إما أن يقال إنه لا تحقق لها إلا في الذهن أولها تحقق خارج الذهن والأول باطل وإلا لم يكن الذهني مطابقاً لما في الخارج ، فيلزم أن لا يكون الشيء الواحد في نفسه واحداً وهو محال لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحداً في نفسه قبل أن وجد ذهنياً وفرضياً واعتبارياً ، فثبت أن كون الشيء واحداً صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات ، واحتج من أبى كون الوحدة صفة ثبوتية بأن قال : لو كانت الوحدة صفة زائدة على الذات ، كانت الوحدات متساوية في ماهية كونها واحدة ومتباينة بتعيناتها ، فيلزم أن يكون للوحدة وحدة أخرى ، وينجر ذلك إلى ما لا نهاية له وهو محال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
المسألة الثالثة : الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم من جهة ما قيل له إنه واحد ، فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان إلى إنسانين بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد فإن العشرة الواحدة من حيث إنها عشرة واحدة قد عرضت الوحدة لها فإن قلت : عشرتان فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت الوحدة لها من هذه الجهة ، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة ولأجل هذا اشتبه على بعضهم الوحدة بالموجود فظن أن كل موجود لما صدق عليه أنه واحد كان وجوده نفس وحدته والحق أنه ليس كذلك ، لأن الوجود ينقسم إلى الواحد والكثير والمنقسم إلى شيء مغاير لما به الانقسام.
(1/683)
/ المسألة الرابعة : الحق سبحانه وتعالى {وَاحِدٍ} باعتبارين. أحدهما : أنه ليست ذاته مركبة من اجتماع أمور كثيرة. والثاني : أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب الوجود وفي كونه مبدأ لوجود جميع الممكنات ، فالجوهر الفرد عند من يثبته واحد بالتفسير الأول ، وليس واحد بالتفسير الثاني. والبرهان على ثبوت الوحدة بالتفسير الأول أنه لو كان مركباً لافتقر تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته واجب لغيره فهو مركب مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فما لا يكون كذلك استحال أن يكون مركباً ، فإذن حقيقته سبحانه حقيقة أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه ، لا كثرة مقدارية ، كما تكون للأجسام ، ولا كثرة معنوية كما تكون للنوع المتركب من الفصل والجنس أو الشخص المتركب من الماهية والتشخص إلا أنه قد صعب ذلك على أقوام وذلك لأنه سبحانه عالم قادر حي مريد ، فالمفهوم من هذه الصفات إما هو نفس المفهوم من ذاته أو ليس كذلك والأول باطل لوجوه. أحدها : أنه يمكننا أن نتعقل ذاته مع الذهول عن كل واحد من هذه الصفات ، وإن لم يمكن ذلك فلا شك أنه يمكننا تعقل كل واحد من هذه الصفات مع الذهول عن أن نتعقل ذاته المخصوصة بل هذا هو الواجب عند من يقول : إن ذاته المخصوصة غير معلومة ، وصفاته معلومة والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فإذن هذه الصفات أمور زائدة على الذات. وثانيها : أن هذه الصفات لو كانت هي نفس الذات لكان قولنا في الذات : إنها عالمة أو ليست عالمة جارياً مجرى قولنا الذات ذات أو لا ذات ، ولا استحال أن يكون ذلك في البحث يحتمل أن يقام البرهان على نفيه وإثباته فإن من قال : الذات ذات علم كل أحد بالضرورة صدقه ومن قال : الذات ليست بذات علم كل أحد بالضرورة كذبه ، ولما كان قولنا : الذات عالمة أو ليست عالمة ليس بمثابة قولنا لذات ذات الذات ليست بذات علمنا أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات. وثالثها : أنه لو كان المرجع بهذه الصفات إلى ذاته فقط وذاته ليست إلا شيئاً واحداً لكان المرجع بهذه الصفات إلى شيء واحد ، فكان ينبغي أن تكون إقامة الدلالة على كونه قادراً تغني عن إقامة الدلالة على كونه عالماً ، وعلى كونه حياً ، فلما لم يكن كذلك بل افتقرنا في كل صفة إلى دليل خاص ، علمنا أنه ليس المرجع بها إلى الذات ، إذا ثبت أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات ، فنقول : هذه الصفات إما أن تكون سلبية أو ثبوتية ، لا جائز أن تكون سلبية ، لأن السلب نفي محض ، والنفي المحض لا تخصص فيه ، ولأنا جعلنا كونه عالماً قادراً عبارة عن نفي الجهل والعجز ، فالجهل والعجز إما أن يكون المرجع بهما إلى العدم وأنه ليس بعالم ولا قادر ، أو يكون المرجع إلى أمر ثبوتي : وهو أن الجهل عبارة عن اعتقاد غير مطابق ، والعجز عبارة عن إخلال حال القدرة ، فإن كان الأول كان العلم والقدرة عبارة عن سلب السلب ، فيكون ثبوتياً ، وإن كان الثاني لم يلزم من انتفاء الجهل والعجز بهذا المعنى تحقق العلم والقدرة ، فإن الجماد قد انتفى عنه الجهل والعجز بهذا المعنى مع / أنه غير موصوف بالعلم والقدرة ، فثبت أن صفات الله تعالى أمور زائدة على ذاته قائمة بذاته ، والإله عبارة عن مجموع الذات والصفات ، فقد عاد القول إلى أن حقيقة الإله تعالى مركبة من أمور كثيرة/ فكيف القول فيه ؟
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
وإشكال آخر : وهو أنا قد دللنا على أن الوحدة صفة زائدة على الذات قائمة بالذات ، فإذا كانت حقيقة الحق واحدة ، فهناك أمور ثلاثة : تلك الحقيقة ، وتلك الواحدية وموصوفية تلك الحقيقة بتلك الواحدية ، فذلك ثالث ثلاثة ، فأين التوحيد ؟
وإشكال ثالث : وهو أن تلك الحقيقة هل هي موجودة وواجبة الوجود أم لا ؟
فإن كانت موجودة فهي بوجودها تشارك سائر الموجودات وبماهياتها تمتاز عن سائر الموجودات ، فهناك كثرة حاصلة بسبب الوجود والماهية ، وإن لم تكن موجودة فهذا إشارة إلى العدم وكذا القول في الوجوب ، فإنها إن كانت واجبة الوجود لذاتها ، فوجوب وجودها يستحيل أن يكون عين الذات لأن الوجوب صفة لانتساب الموضوع إلى المحمول بالموصوفية والانتساب مغاير بين الشيئين مغاير لكل واحد منهما من حيث هو فلأن تكون صفة ذلك الإنتساب مغايرة لهما أولى ، وأيضاً فالذات قائمة بنفسها ويستحيل أن يكون مسمى الواجب أمراً قائماً بالنفس ولأنا نصف الذات بالوجوب ووصف الشيء بنفسه محال ، فثبت أنه لو وجب موجود واجب الوجود لكان وجوب وجوده زائداً على ذاته ، فهناك أمران تلك الذات مع ذلك الوجوب ومع الموصوفية بذلك الوجوب فقد عاد التثليث.
(1/684)
وإشكال رابع : وهو أن هذه الحقيقة البسيطة هل يمكن الإخبار عنها وهل يمكن التعبير عنها أم لا. والأول محال لأن الإخبار إنما يكون بشيء عن شيء ، فالمخبر عنه غير المخبر به فهما أمران لا واحد ، وإن لم يكن التعبير عنه فهو معلوم ألبتة لا بالنفي ولا بالإثبات فهو مغفول عنه ، فهذا جملة ما في هذا المقام من السؤال :
والجواب عن الأول : أنه سبحانه ذات موصوفة بهذه الصفات ولا شك أن المجموع مفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه إلا أن الذات قائمة بنفسها واجبة لذاتها ، ثم إنها بعد وجوبها بعدية بالرتبة مستلزمة لتلك النعوت والصفات فهذا مما لا امتناع فيه عند العقل.
وأما الإشكال الثاني : وهو أن الوحدة صفة زائدة على الذات فإذا نظرت إليها من حيث أنها واحدة فهناك أمور ثلاثة لا أمر واحد ، فالجواب أن الذي ذكرته حق ولكن فرق بين النظر إليه من حيث أنه هو وبين النظر إليه من حيث أنه محكوم عليه بأنه واحد ، فإذا نظرت إليه من حيث أنه هو مع ترك الإلتفات إلى أنه واحد فهناك تتحقق الوحدة وههنا حالة عجيبة فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة ، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة فاعتبر هذه الحالة بذهنك اللطيف لعلك تصل إلى سره وهذا أيضاً هو الجواب عن إشكال الوجود وإشكال الوجوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
أما الإشكال الرابع : وهو أنه هل يمكن التعبير عنه ؟
فالحق أنه لا يمكن التعبير عنه لأنك متى عبرت عنه فقد أخبرت عنه بأمر آخر ، والمخبر عنه مغاير للمخبر به لا محالة ، فليس هناك توحيد ، ولو أخبرت عنه بأنه لا يمكن الإخبار عنه ، فهناك ذات مع سلب خاص ، فلا يكون هناك توحيد فأما إذا نظرت إليه من حيث أنه هو من غير أن تخبر عنه لا بالنفي ولا بالإثبات ، فهناك تحقق الوصول إلى مبادىء عالم التوحيد ، ثم الإلتفات المذكور لا يمكن التعبير عنه إلا بقوله (هو) فلذلك عظم وقع هذه الكلمة عند الخائضين في بحار التوحيد ، وسنذكر شمة من حقائقها في تفسير هذه الآية بعون الله تعالى ، أما الوحدة بالمعنى الثاني ، وهي أنه ليس في الوجود شيء يشاركه في وجوب الوجود ، فكأن هذه الوحدة هي الوحدة الخاصة بذات الحق سبحانه وتعالى ، وبراهين ذلك مذكورة في تفسير قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22) أم الوحدة بالتفسير الأول ، فليست من خواص ذات الحق سبحانه وتعالى لأنه لا شك في وجود موجودات توهذه الموجودات إما مفردات أو مركبات ، فالمركب لا بد فيه من المفردات فثبت أنه لا بد من إثبات المفردات في عالم الممكنات/ فالواحدية بالمعنى الأول ليست من الأمور التي توحد الحق سبحانه بها ، أما الواحدية بالمعنى الثاني فالحق سبحانه وتعالى متوحد بها ومتفرد بها ، ولا يشاركه في ذلك النعت شيء سواه ، فهذه تلخيص الكلام في هذا المقام بحسب ما يليق بعقل البشر وفكره القاصر ، مع الاعتراف بأنه سبحانه منزه عن تصرفات الأفكار والأوهام ، وعلائق العقول والأفهام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/685)
المسألة الخامسة ؛ قال الجبائي : يوصف الله تعالى بأنه واحد من وجوه أربعة : لأنه ليس بذي أبعاض ، ولا بذي أجزاء ، ولأنه منفرد بالقدم ، ولأنه منفرد بالإلهية ، ولأنه منفرد بصفات ذاته نحو كونه عالماً بنفسه ، وقادراً بنفسه ، وأبو هاشم يقتصر على ثلاثة أوجه : فجعل تفرده بالقدم ، وبصفات الذات وجهاً واحداً ، قال القاضي : وفي هذه الآية المراد تفرده بالإلهية فقط ، لأنه أضاف التوحيد إلى ذلك ، ولذلك عقبه بقوله {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} وقال أصحابنا : إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له ، أما أنه واحد في ذاته فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشارإليها بقولنا هو الحق سبحانه وتعالى إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه ، أو لا تكون ، فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعنى الآخر ، لا بد وأن يكون بقيد زائد ، فيكون هو في نفسه مركباً بما به الإشتراك وما به الإمتياز ، فيكون ممكناً معلولاً مفتقراً وذلك محال ، وإن لم يكن فقد ثبت أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وأما أنه واحد في صفاته فلأن موصوفيته سبحانه بصفات متميزة عن موصوفية غيره بصفات من وجوه. أحدها : أن كل ما عداه فانٍ ، لأن حصول صفاته له لا تكون من نفسه بل من غيره وهو سبحانه يستحق حصول صفاته لنفسه لا لغيره. وثانيها : أن صفات غيره مختصة بزمان دون زمان لأنها حادثة ، وصفات الحق ليست كذلك. وثالثها : أن صفات الحق غير متناهية بحسب / المتعلقات ، فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات ، بل له في كل واحد من المعلومات الغير المتناهية معلومات غير متناهية لأنه يعلم في ذلك الجوهر الفرد أنه كيف كان ويكون حاله بحسب كل واحد من الأحياز المتناهية وبحسب كل واحد من الصفات المتناهية فهو سبحانه واحد في صفاته من هذه الجهة. ورابعها : أنه سبحانه ليست موصوفية ذاته بتلك الصفات بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذاته محلاً لها ، ولا أيضاً بحسب كون ذاته مستكملة بها لأنا بينا أن الذات كالمبدأ لتلك الصفات فلو كانت الذات مستكملة بالصفات لكان المبدأ ناقصاً لذاته مستكملاً بالممكن لذاته وهو محال ، بل ذاته مستكملة لذاته ومن لوازم ذلك الإستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال معه إلا أن التقسيم يعود في نفس الإستكمال فينتهي إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به. خامسها : أنه لا خبر عند العقول من كنه صفاته كما لا خبر عندها من كنه ذاته ، وذلك لأنا لا نعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي لأجله ظهر الإحكام والإتقان في عالم المخلوقات ، فالمعلوم من علمه أنه أمر ما لا ندري أنه ما هو ولكن نعلم منه أنه يلزمه هذا الأثر المحسوس ، وكذا القول في كونه قادراً وحياً ، فسبحان من ردع بنور عزته أنوار العقول والأفهام ، وأما إنه سبحانه وتعالى واحد في أفعاله فالأمر ظاهر لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، فالواجب هو هو ، والممكن ما عداه وكل ما كان ممكناً فإنه يجوز أن لا يوجد ما لم يتصل بالواجب ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات سواء كان ملكاً أو ملكاً أو كان فعلاً للعباد أو كان غير ذلك فثبت أن كل ما عداه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته واستيلائه ، وعند هذا تدرك شمة من روائح أسرار قضائه وقدره ، ويلوح لك شيء من حقائق قوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
{إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ} (القمر : 49) وتعرف أن الموجود ليس البتة إلا ما هو هو ، وما هو له وإذا وقعت سفينة الفكرة في هذه اللجة ، فلو سارت إلى الأبد لم تقف ، لأن السير إنما يكون من شيء إلى شيء ، فالشيء الأول متروك ، والشيء الثاني مطلوب وهما متغايران ، فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية والوحدانية ، فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث والقدم ، فهناك تنقطع الحركات ، وتضمحل العلامات والأمارات ، ولم يبق في العقول والألباب إلا مجرد أنه هو ، فيا هو ويا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف ، فإن عبدك بفنائك ومسكينك ببابك.
المسألة السادسة : إن قيل : ما معنى إضافته بقوله : {وَإِلَـاهُكُمْ} وهل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف ؟
قلنا : لما كان الإله هو يستحق أن يكون معبوداً والذي يليق به أن يكون معبوداً بهذا الوصف ، إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة الله تعالى ، فإن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين ، وإلى جميع من تصح صيرورته مكلفاً تقديراً.
المسألة السابعة : قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ} يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى وقادركم قادر واحد ومعلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/686)
المسألة الثامنة : قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } معناه أنه واحد في الإلهية ، لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها ، فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد ، وبأنه عالم واحد ، ولما قال : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق ، فقال : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} وذلك لأن قولنا : لا رجل يقتضي نفي هذه الماهية ، ومتى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها ، إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد ، فقد حصلت الماهية ، وذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية : فثبت أن قولنا : لا رجل يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قيل بعد : إلا زيداً ، أفاد التوحيد التام المحقق وفي هذه الكلمة أبحاث. أحدها : أن جماعة من النحويين قالوا : الكلام فيه حذف وإضمار والتقدير : لا إله لنا ، أو لا إله في الوجود إلا الله ، واعلم أن هذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق وذلك لأنك لو قلت : التقدير أنه لا إله لنا إلا لله ، لكان هذا توحيداً لألهنا لا توحيد للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } وبين قوله : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} فرق ، فيكون ذلك تكراراً محضاً ، وأنه غير جائز ، وأما لو قلنا : التقدير لا إله في الوجود ، فذلك الإشكال زائل ، إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر ، وذلك لأنك إذا قلت : لا إله في الوجود لا إله إلا هو ؛ كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني ، أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك : لا إله إلا الله نفياً لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى ، فإن قيل : نفي الماهية كيف يعقل ؟
فإنك إذا قلت السواد ليس بسواد ، كان ذلك حكماً بأن السواد ليس بسواد ، وهو غير معقول ، أما إذا قلت : السواد ليس بموجود ، فهذا معقول منتظم مستقيم ، قلنا : بنفي الماهية أمر لا بد منه ، فإنك إذا قلت : السواد ليس بموجود ، فقد نفيت الوجود ، والوجود من حيث هو وجود ماهية ، فإذا نفيته فقد نفيت هذه الماهية المسماة بالوجود ، فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي ، فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضاً/ فإذا عقل ذلك صح اجراء قولنا : لا إله إلا الله على ظاهره ، من غير حاجة إلى الإضمار ، فإن قلت : إنا إذا قلنا السواد ليس بموجود ، فما نفيت الماهية وما نفيت الوجود ، ولكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود ، قلت : فموصوفية الماهية بالوجود ، هل هي أمر منفصل عن الماهية وعن الوجود أم لا ، فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفياً لتلك الماهية ، فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها ، وحينئذ يعود التقريب المذكور ، وإن لم تكن تلك الموصوفية أمراً منفصلاً عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي ، إما إلى الماهية وإما إلى الوجود ، وحينئذ يعود التقريب المذكور فثبت أن قولنا ، لا إله إلا هو حق وصدق من غير حاجة إلى الإضمار البتة.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
البحث الثاني : فيما يتعلق بهذه الكلمة أن تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات ، فإنك ما لم تتصور الوجود أولاً ، استحال أن تتصور العدم ، فأنت لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود. فتصور الوجود غني عن تصور العدم ، وتصور العدم مسبوق بتصور الوجود ، فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي وأخرنا الإثبات.
والجواب : أن الأمر في العقل على ما ذكرت ، إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد.
(1/687)
البحث الثالث : في كلمة {هُوَ} أعلم أن المباحث اللفظية المتعلقة بهو قد تقدمت في {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـن ِ الرَّحِيمِ} أما الأسرار المعنوية فنقول ، اعلم أن الألفاظ على نوعين : مظهرة ومضمرة : أما المظهرة فهي الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة من حيث هي هي ، كالسواد ، والبياض ، والحجر ، والإنسان ، وأما المضمرات فهي الألفاظ الدالة على شيء ما ، هو المتكلم ، والمخاطب ، والغائب ، من غير دلالة على ماهية ذلك المعين ، وهي ثلاثة : أنا ، وأنت ، وهو ، وأعرفها أنا ، ثم أنت ، ثم هو ، والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصوري لنفسي من حيث أني أنا مما لا يتطرق إليه الاشتباه ، فإنه من المستحيل أن أصير مشتبهاً بغيري ، أو يشتبه بي غيري ، بخلاف أنت ، فإنك قد تشتبه بغيرك ، وغيرك يشتبه بك في عقلي وظني ، وأيضاً فأنت أعرف من هو ، فالحاصل أن أشد المضمرات عرفاناً {أَنَا } وأشدها بعداً عن العرفان. (هو) وأما (أنت) فكالمتوسط بينهما ، والتأمل التام يكشف عن صدق هذه القضية ، ومما يدل على أن أعرف الضمائر قولاً قولي (أنا) أن المتكلم حصل له عند الإنفراد لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث من غير فصل ، لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الإلتباس ، وههنا لا يمكن الإلتباس ، فلا حاجة إلى الفصل ، وأما عند التثنية والجمع فاللفظ واحد ، أما في المتصل فكقولك : شربنا ، وأما المنفصل فقولك : نحن ، وإنما كان كذلك للأمن من اللبس ، وأما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه ومذكره ، ويثني ويجمع ، لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث ومذكر وهو مقبل عليهما ، فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة : وتثنية المخاطب وجمعه إنما حسن لهذه العلة ، وأما إن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري ، إذا عرفت هذا فنقول : ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره سواء كان حاضراً أو غائباً ؛ فالعرفان التام بالله ليس إلا الله : لأنه هو الذي يقول لنفسه (أنا) ولفظ (أنا) أعرف الأقسام الثلاثة ، فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر وهو قول (أنا) إلا له سبحانه علمنا أن العرفان التام به سبحانه وتعالى ليس الإله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
بقي أن هناك قوماً يجوزون الاتحاد : الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول وعند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول : أنا الله إلا أن القول بالاتحاد غير معقول/ لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما ، فذاك ليس باتحاد ، وإن بقيا فهما اثنان لا واحد ، / ولما انسد هذا الطريق الذي هو أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران ، وهو (أنت) و(هو) أما (أنت) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات والمشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فنى عن ظلمات عالم الحدوث وعن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال : {فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ أَن لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ} (الأنبياء : 87) وهذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة والمخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه وقال محمد صلى الله عليه وسلّم : "لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وأما (هو) فللغائبين ، ثم ههنا بحث وهو : أن (هو) في حقه أشرف الأسماء ، ويدل عليه وجوه :
(1/688)
أحدها : أن الإسم إما كلي أو جزئي ، وأعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة ، وأعني بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعاً من الشركة ، وهو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين ، فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه ، لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمراً لا يمنع الشركة وذاته المعينة سبحانه وتعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه ، فإذن جميع الأسماء المشتقة : كالرحمن ، والرحيم ، والحكيم ، والعليم ، والقادر ، لا يتناول ذاته المخصوصة ولا يدل عليها بوجه البتة ، وإن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم والعلم قائم مقام الإشارة فلا فرق بين قولك : يا زيد وبين قولك : يا أنت ويا هو. وإذا كان العلم قائماً مقام الإشارة فالعلم فرع واسم الإشارة أصل والأصل أشرف من الفرع ، فقولنا : يا أنت ، يا هو أشرف من سائر الأسماء بالكلية إلا أن الفرق أن (أنت) لفظ يتناول الحاضر و(هو) يتناول الغائب وفيه سر آخر وهو أن (هو) إنما يصح التعبير عنه إذا حصل في العقل صورة ذلك الشيء وقولك (هو) يتناول تلك الصورة وهي حاضرة ، فقد عاد القول إلى أن (هو) أيضاً لا يتناول إلا الحاضر. وثانيها : أنا قد دللنا على أن حقيقة الحق منزهة عن جميع أنحاء التراكيب ، والفرد المطلق لا يمكن نعته ، لأن النعت يقتضي المغايرة بين الموصوف والصفة وعند حصول الغيرية لا تبقى الفردانية ، وأيضاً لا يمكن الإخبار عنه لأن الإخبار يقتضي مخبراً عنه ومخبراً به وذلك ينافي الفردانية ، فثبت أن جميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الوصول إلى كنه حقيقة الحق وأما لفظ (هو) فإنه يصل إلى كنه تلك الحقيقة المفردة المبرأة عن جميع جهات الكثرة فهذه اللفظة لوصولها إلى كنة الحقيقة وجب أن تكون أشرف من سائر الألفاظ التي يمتنع وصولها إلى كنه تلك الحقيقة. وثالثها : أن الألفاظ المشتقة دالة على حصول صفة للذات ثم ماهيات صفة الحق أيضاً غير معلومة إلا بآثارها الظاهرة في عالم الحدوث ، فلا يعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي باعتباره صح منه الإحكام والإتقان ، ومن قدرته إلا أنها الأمر الذي باعتباره صح منه صدور الفعل والترك ، فإذن هذه الصفات لا يمكننا تعقلها إلا عند الالتفات إلى الأحوال المختلفة في عالم الحدوث ، فالألفاظ المشتقة لا تشير إلى الحق سبحانه وحده ، بل تشير إليه وإلى عالم الحدوث معاً / والناظر إلى شيئين لا يكون مستكملاً في كل واحد منهما بل يكون ناقصاً قاصراً ، فإذن جميع الأسماء المشتقة لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تصير حجاباً بين العبد وبين الاستغراق في معرفة الرب ، وأما (هو) فإنه لفظ يدل عليه من حيث هو هو لا من حيث عرضت له إضافة أو نسبة بالقياس إلى عالم الحدوث ، فكان لفظ (هو) يوصلك إلى الحق ويقطعك عما سواه/ وما عداه من الأسماء فإنه لا يقطعك عما سواه ، فكان لفظ (هو) أشرف. ورابعها : أن البراهين السالفة قد دلت على أن منبع الجلال والعزة هو الذات ، وأن ذاته ما كملت بالصفات بل ذاته لكمالها استلزمت صفات الكمال ، ولفظ (هو) يوصلك إلى ينبوع الرحمة والعزة والعلو وهو الذات وسائر الألفاظ لا توقفك إلا في مقامات النعوت والصفات ، فكان لفظ (هو) أشرف ، فهذا ما خطر بالبال في الكشف عن أسرار لفظ (هو) وإليه الرغبة سبحانه في أن ينور بدرة من لمعات أنوارها صدورنا وأسرارنا ، ويروح بها عقولنا وأرواحنا حتى نتخلص من ضيق عالم الحدوث إلى فسحة معارج القدم ، ونرقى من حضيض ظلمة البشرية إلى سموات الأنوار وما ذلك عليه بعزيز.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
المسألة التاسعة : قال النحويون في قوله تعالى : {لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} ارتفع (هو) لأنه بدل من موضع (لا) مع الاسم ولنتكلم في قوله : ما جاءني رجل إلا زيد فقوله : إلا زيد مرفوع على البدلية لأن البدلية هي الإعراض عن الأول والأخذ بالثاني فكأنك قلت : ما جاءني إلا زيد وهذا معقول لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل إلا عن زيد ، أما قوله : جاءني إلا زيداً فههنا البدلية غير ممكنة لأنه يصير في التقدير : جاءني خلق إلا زيداً ، وذلك يقتضي أنه جاء كل أحد إلا زيداً وذلك محال فظهر الفرق والله أعلم.
أما (الرحمن الرحيم) فقد تقدم القول في تفسيرهما وبينا أن الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة وفاعلها هو الراحم فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا (رحيم) وإذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا {الرَّحْمَـانُ} .
واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية ، وعزة الفردانية وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
0
(1/689)
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بالفردانية والوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولاً وعلى توحيده وبراءته على الأضداد والأنداد ثانياً ، وقبل الخوض في شرح تلكم الدلائل لا بد من بيان مسائل :
المسألة الأولى : وهي أن الناس اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره ؟
فقال عالم من الناس : الخلق هو المخلوق. واحتجوا عليه بالآية والمعقول ، أما الآية فهي هذه الآية ، وذلك لأنه تعالى قال : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قول : {لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ومعلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق ، وأما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور. أحدها : أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، فهذا الإخراج لو كان أمراً مغايراً للقدرة والأثر فهو إما أن يكون قديماً أو حديثاً ، فإن كان قديماً فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم والأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين وهو محال ، وإن كان محدثاً فلا بد له أيضاً من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر والكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل. وثانيها : أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجاً للأشياء من عدمها إلى وجودها ، ثم في الأزل هل أحدث أمراً أو لم يحدث ؟
فإن أحدث أمراً فذلك الأمر الحادث هو المخلوق ، وإن لم يحدث أمراً فالله تعالى قط لم يخلق شيئاً. وثالثها : أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر وذات الأثر والنسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل وإن كانت قديمة كانت من لوازم ذات الله تعالى ، وحصول الأثر إما في الحال أو في الإستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة ولازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات الله تعالى فلا يكون الله تعالى قادراً مختاراً بل ملجأ مضطراً إلى ذلك التأثير فيكون علة موجبة وذلك كفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
واحتج القائلون بأن الخلق غير المخلوق بوجوه. أولها : أن قالوا : لا نزاع في أن الله تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء ، والخالق هو الموصوف بالخلق ، فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى موصوفاً بالمخلوقات التي منها الشياطين والأبالسة والقاذورات ، وذلك / لا يقوله عاقل. وثانيها : أنا إذا رأينا حادثاً حدث بعد أن لم يكن قلنا : لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن الله تعالى خلقه وأوجده قبلنا ذلك وقلنا : إن حق وصواب ، ولو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ وكفر ومتناقض ، فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن الله تعالى خلقه ولم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه ، علمنا أن خلق الله تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه ، فالخلق غير المخلوق. وثالثها : أنا نعرف أفعال العباد ونعرف الله تعالى وقدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة الله أم هو قدرة العبد والمعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة ولنفس ذلك المقدور/ ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية ، فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر وذات الأثر وهو المطلوب. ورابعها : أن النحاة قالوا : إذ قلنا خلق الله العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به ، وذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم. وخامسها : أنه يصح أن يقال : خلق السواد وخلق البياض وخلق الجوهر وخلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر وخالقية العرض ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام ، فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة.
المسألة الثانية : قال أبو مسلم رحمه الله : أصل الخلق في كلام العرب التقدير وصار ذلك اسماً لأفعال الله تعالى لما كان جميعها صواباً قال تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا} (الفرقان : 2) ويقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية وأن التقليد ليس طريقاً ألبتة إلى تحصيل هذا الغرض.
(1/690)
المسألة الرابعة : ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية : عن عطاء أنه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (البقرة : 163) فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد ؟
فأنزل الله تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} وعن سعيد بن مسروق اقل : سألت قريش اليهود فقالوا حدثونا عما جاءكم به موسى من الأيات فحدثوهم بالعصا وباليد البيضاء وسألوا النصارى عن ذلك فحدثوهم بإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى فقالت قريش عند ذلك للنبي عليه السلام ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنزداد يقيناً وقوة على عدونا ، فسأل ربه ذلك فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ولكن إن كذبوا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين فقال عليه السلام : "ذرني وقومي أدعوهم يوماً فيوماً" فأنزل الله تعالى هذه الآية مبيناً لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهباً ليزدادوا يقيناً فخلق السموات والأرض وسائر ما ذكر أعظم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
واعلم أن الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام :
القسم الأول : في تفصيل القول في كل واحد منها ، فالنوع الأول من الدلائل : الاستدلال / بأحوال السموات وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في تفسير قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} (البقرة : 22) ولنذكر ههنا نمطاً آخر من الكلام :
روي أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري ، فقال بعض الفقهاء يوماً : ما الذي تقرؤنه فقال : أفسر آية من القرآن ، وهي قوله تعالى : {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ} (ق : 6) فأنا أفسر كيفية بنيانها ، ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته فنقول : الكلام في أحوال السموات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول :
الفصل الأول
في ترتيب الأفلاك
قالوا : أقر بها إلينا كرة القمر ، وفوقها كرة عطارد ، ثم كرة الزهرة ، ثم كرة الشمس ، ثم كرة المريخ ، ثم كرة المشتري ، ثم كرة زحل ، ثم كرة الثوابت ، ثم الفلك الأعظم.
واعلم أن في هذا الموضوع أبحاثاً :
البحث الأول : ذكروا في طريق معرفة هذا الترتيب ثلاثة أوجه. الأول : السير ، وذلك أن الكوكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكوكب الأعلى فإنهما يبصران ككوكب واحد ، . ويتميز السائر عن المستور بلونه الغالب/ كصفرة عطارد ، وبياض الزهرة وحمرة المريخ ، ودرية المشتري ، وكمودة زحل ، ثم إن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة ، وكثيراً من الثوابت في طريقه في ممر البروج ، وكوكب عطارد يكسف الزهرة ، والزهرة تكسف المريخ وعلى هذا الترتيب فهذا الطريق يدل على كون القمر تحت الشمس لانكسافها به ، لكن لا يدل على كون الشمس فوق سائر الكواكب أو تحتها ، لأن الشمس لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال أضوائها في ضوء الشمس ، فسقط هذا الطريق بالنسبة إلى الشمس. الثاني : اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر وعطارد والزهرة ، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل ، وأما في حق الشمس فقليل جداً ، فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين ، وهذا الطريق بين جداً لمن اعتبر اختلاف منظر الكواكب ، وشاهده على الوجه الذي حكيناه ، فأما من لم يمارسه ، فإنه يكون مقلداً فيه ، لا سيما وأن أبا الريحان وهو أستاذ هذه الصناعة ذكر في تلخيصه لفصول الفرغاني أن اختلاف المنظر لا يحس به إلا في القمر. الثالث : قال بطليموس : إن زحل والمشتري والمريخ تبعد عن الشمس في جميع الأبعاد ، وأما عطارد والزهرة فإنهما لا يبعدان عن الشمس بعد التسديس فضلاً عن سائر الأبعاد ، فوجب كون الشمس متوسطة بين القسمين ، وهذا الدليل ضعيف ، فإنه منقوض بالقمر ، فإنه يبعد عن الشمس كل الأبعاد ، مع أنه تحت الكل.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
البحث الثاني : في أعداد الأفلاك ، قالوا إنها تسعة فقط ، والحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها ، فأما ما عداها ، فلما لم يدل الرصد عليه ، لا جرم ما جزمنا بثبوتها ولا بانتفائها ، وذكر ابن سينا في الشفاء : أنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة ، أو كرات منطبق بعضها على بعض ، وأقول : هذا الإحتمال واقع ، لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال : إن حركاتها متساوية ، وإذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة ، والمقدمتان ضعيفتان.
(1/691)
أما المقدمة الأولى : فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة ، لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك ، لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة ، والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة ، إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة ، لا شك أن حصة كل يوم ، بل كل سنة ، بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً ، وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت.
وأما المقدمة الثانية : وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية ، فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد ، بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات ، لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه ، فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا ، وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل.
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت ، وتحت الفلك الأعظم ، واحتجوا من وجوه. الأول : أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار ، وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم ، فإن بطليموس وجده. (كج نا) ثم وجد في زمان المأمون (كج له) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة ، وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى ، وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل ، وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ، ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً ، وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج/ وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب. وثانيها : أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات ، حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين. أحدهما : قول من يجعل أوج الشمس / متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج ، فيختلف زمان سير الشمس من أجله. وثانيهما : قول أهل الهند والصين وبابل ، وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام : أن السبب فيه انتقال فلك البروج ، وارتفاع قطبيه وانحطاطه ، وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي ، وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً ، وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات ، وقالوا : إن ابتداء الحركة من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها : أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً ، وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء ، فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه ، وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه.
البحث الثالث : احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة ، فقالوا : شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت ، وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك ، وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة ، ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة ، يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ، ثم قالوا : إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة ، لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت ، والكاسف تحت المكسوف ، فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت.
(1/692)
وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه. أحدها : أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية ، وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك ، ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك. وثانيها : سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة ، ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت ، فلم لا يجوز أن يقال : هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة ، فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز ، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت. وثالثها : هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل ، والأخرى دون كرة القمر ، وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات ، فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها ، فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل ، أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
البحث الرابع : زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة ، وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب.
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس ، وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة ، وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى ، واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية.
واعلم أن هذا أيضاً ضعيف ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة ، والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى ، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية ، فهذا الاحتمال واقع ، وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله ، ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان. الأول : وهو برهاني ، أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه ، فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين ، والحركة إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال ، وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية ، وهم لا يرضون بذلك. الثاني : أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم ، ونهاية السكون حاصلة للأرض ، والأقرب إلى العقول أن يقال : كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة ، وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة ، ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه ، فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل ، وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة ، ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور ، وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة ، فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة ، فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة ، فلا جرم يتمم دوره في كل شهر ، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك ، فلا جرم كانت في نهاية السكون ، فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك
(1/693)
القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين. أحداهما : أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة ، وأنها لا تبطىء مرة وتسرع أخرى ، وليس لها رجوع عن متوجهاتها. والثانية : أن الكواكب لا تتحرك بذاتها بل بتحرك الفلك ، ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا : الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون ، فإن كان مركزه مركز الأرض ، فإما أن يكون الكوكب مركوزاً في ثخنه أو مركوزاً في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك ، فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض ، وأن يختلف قطعه للقسى من ذلك الفلك والأعراض الإختلاف في حركة الفلك ، أو حركة الكوكب ، وقد فرضنا أنهما لا يوجدان ألبتة ، فبقي القسمان الآخران. أحدهما : أن يكون الكوكب مركوزاً في جرم كري مستدير الحركة ، مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض ، وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير ، فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والإستقامة ، وتارة بالصغر والكبر في المنظر وإما أن يكون الفلك الميحط بالأرض ليس مركزه موافقاً لمركز الأرض ، فهو الفلك الخارج المركز ، ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف ، وفي نصفه الآخر أقل من النصف ، فلا جرم يحصل بسببه : القرب والبعد من الأرض ، وأن يقطع أحد نصفي فلك البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر ، فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها/ وسرعتها وبطئها ، وقربها وبعدها ، من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين ، أعني التدوير ، والفلك الخارج المركز.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل قولهم في الأفلاك ، فقالوا : هذه الأفلاك التسعة ، منها ما هو كرة واحدة ، وهو الفلك الأعظم ، وفلك الثوابت ، ومنها ما ينقسم إلى كرتين ، وهو فلك الشمس ، وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم ، بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج ، وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل ، ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض ، وهو البعد الأقرب منه ، وهما في الحقيقة فلك واحد ، منفصل عنه فلك آخر ، إلا أنه يقال : فلكان ، توسعا ، ويسمى المنفصل عنه : الفلك الممثل ، والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج ، وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه ، ومنها ما ينقسم إلى ثلاث أكر ، وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة ، فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس ، وفلكاً آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى : فلك / التدوير والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ويسمى الخارج المركز : الفلك الحامل ، ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر وهو فلك عطارد والقمر ، أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجاً عن المركزين وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير والمنفصل الفلك الحامل ، ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة ، وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الفلك المثل والصغرى الفلك المائل وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة ، وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس ، فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان متممين لذلك الفلك المنفصل وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها.
الفصل الثالث
في مقادير الحركات
(1/694)
قال الجمهور : إن جميع الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق سوى الفلك الأعظم ، والمدير لعطارد والفلك الممثل والمائل والمدير للقمر فالحركة الشرقية تسمى : الحركة إلى التوالي والغربية إلى خلاف التوالي ، والفلك الأعظم يتحرك حركة سريعة في كل يوم بليلته دورة واحدة على قطبين يسميان قطبي العالم ويحرك جميع الأفلاك والكواكب ، وبهذه الحركة يقع للكواكب الطلوع والغروب وتسمى الحركة الأولى ، وفلك الثوابت يتحرك حركة بطيئة في كل ست وستين سنة عند المتأخرين درجة واحدة على قطبين يسميان قطبي فلك البروج ، وهما يدوران حول قطبي العالم بالحركة الأولى وتتحرك على وفق هذه الحركة جميع الأفلاك المتحركة ، وبهذه الحركة تنتقل الأوجات عن موضعها من فلك البروج وتسمى الحركة الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت والثوابت إنما سميت ثوابت لأسباب. أحدها : كونها بطيئة لأنها بإزاء السيارة تشبه الساكنة. وثانيها : السيارة تتحرك إليها وهي لا تتحرك إلى السيارة فكأن الثوابت ثابتة لانتظارها. وثالثها : عروضها ثابتة على مقدار واحد لا يتغير. ورابعها : أبعاد ما بينها ثابتة على حال واحد لا تتغير الصورة المتوهمة عليها من الصور الثماني والأربعين. وخامسها : الأزمنة عند أكثر عوام الأمم منوطة بطلوعها وأفولها بحيث لا يتفاوت إلا في القرون والأحقاب.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
وأما الأفلاك الخارجة المركز فإنها تتحرك في كل يوم هكذا : زحل (ب أ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزهرة (نط ج) عطارد (نط ح) والقمر (يج يج مو) وتسمى حركة المركز ، وحركة الوسط ، وهي حركات مراكز أفلاك التداوير ومركز الشمس والأفلاك التداوير تتحرك بهذا المقدار زحل (نرح) المشتري (ند ط) المريخ (كرمب) الزهرة (لونط) عطارد (ج وكد) القمر (يج ج ند) وتسمى : الحركة الخاصة ، وحركة الاختلاف وهي حركات مراكز الكواكب. واعلم أن بسبب هذه الحركات المختلفة يعرض لهذه الكواكب أحوال مختلفة. أحدها : أنه يحصل للقمر مثلاً أبعاد مختلفة غير مضبوطة بالنسبة إلى هذا العالم والأنواع المضبوطة منها أربعة. الأول : أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز ويقال له البعد الأقرب ، وهو الثلاث وثلاثون مرة مثل نصف قطر الأرض بالتقريب. الثاني : أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأقرب للأبعد وهو ثلاث وأربعون مرة مثل نصف قطر الأرض. الثالث : أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد للأقرب وهو أربعة وخمسون مرة مثل نصف قطر الأرض. الرابع : أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد وهو أربعة وستون مرة مثل نصف قطر الأرض ، ثم إن ما بين هذه النقط الأربعة الأحوال مختلفة على ما أتى على شرحها أبو الريحان. وثانيها : أن جميع الكواكب مرتبطة بالشمس ارتباطاً ما ، فأما العلوية فإن بعد مراكزها عن ذرى أفلاك تداويرها أبداً تكون بمقدار بعد مركز الشمس عن مراكز تداويرها وحينئذ تكون محترقة ومتى كانت في الحضيض كانت في مقابلتها وحينئذ تكون مقابلة للشمس وذلك يقارن الشمس في منتصف الاستقامة ويقابلها في منتصف الرجوع وقيل : إن نصف قطر فلك تدوير المريخ أعظم من نصف قطر فلك ممثل الشمس فيلزم أنه إذا كان مقارناً للشمس يكون بعد مركزه عن مركز الشمس أعظم منه إذا كان مقابلاً لها ، وأما السلفيات فإن مراكز أفلاك تدويرها أبداً يكون مقارناً للشمس فيلزم أن تقارن الشمس الذروة والحضيض في منتصفي الاستقامة ، والرجوع غاية بعد كل واحد منهما عن الشمس بمقدار نصف قطر فلك تدويرهما ، وهو للزهرة (مه) ولعطارد (كه) بالتقريب وأما القمر فإن مركز الشمس أبداً يكون متوسطاً بين بعده الأبعد وبين مركز تدويره ولذلك يقال لبعدمركز تدويره عن البعد الأبعد البعد المضاعف لأنه ضعف بعد مركز تدويره من الشمس فلزم أنه متى كان مركز تدويره في البعد الأبعد ، فإما أن يكون مقابلاً للشمس أو مقارناً لها ، ومتى كان في البعد الأقرب تكون الشمس في تربيعه فلذلك يكون اجتماعه واستقباله في البعد الأبعد وتربيعه مع الشمس في الأقرب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
أما المقدمة الأولى : فلأن حركاتها وإن كانت في حواسنا متشابهة ، لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك ، لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة وثلاثين ألف سنة ، والآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة ، إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة وثلاثين ألف سنة ، لا شك أن حصة كل يوم ، بل كل سنة ، بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوساً ، وإذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت.
(1/695)
وأما المقدمة الثانية : وهي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة وهي أيضاً ليست يقينية ، فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد ، بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات ، لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه وزيفناه/ فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فلعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جداً لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا ، وكذلك القول في جميع الممثلات والحوامل.
ومن الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت ، وتحت الفلك الأعظم ، واحتجوا من وجوه. الأول : أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار ، وكل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم ، فإن بطليموس وجده. (كج نا) ثم وجد في زمان المأمون (كج له) ثم وجد بعد المأمون وقد تناقص بدقيقة ، وذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة ويكثر أخرى ، وهذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل ، وكرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل ، ويكون كرة الثوابت يدور أيضاً قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضاً ، وتارة إلى جانب الجنوب مرتفعاً فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج ، وأن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب. وثانيها : أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطراباً شديداً في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات ، حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكاً في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة.
ثم إن الناس ذكروا في سبب اختلافه قولين. أحدهما : قول من يجعل أوج الشمس / متحركاً فإنه زعم أن الاختلاف الذي يلحق حركة الشمس من هذه الجهة يختلف عند نقطتي الإعتدالين لاختلاف بعدهما من الأوج ، فيختلف زمان سير الشمس من أجله. وثانيهما : قول أهل الهند والصين وبابل ، وأكثر قدماء علماء الروم ومصر والشام : أن السبب فيه انتقال فلك البروج ، وارتفاع قطبيه وانحطاطه ، وحكى أبرخس أنه كان يعتقد هذا الرأي ، وذكر باربا الإسكنداني أن أصحاب الطلسمات كانوا يعتقدون ذلك أيضاً ، وأن قطب فلك البروج يتقدم عن موضعه ويتأخر ثمان درجات ، وقالوا : إن ابتداء الحركة من (كب) درجة من الحوت إلى أول الحمل. وثالثها : أن بطليموس رصد الثوابت فوجدها تقطع في كل مائة سنة درجة واحدة والمتأخرون رصدوها فوجدوها تقطع في كل مائة سنة درجة ونصفاً ، وهذا تفاوت عظيم يبعد حمله على التفاوت في الآلات التي تتخذها المهرة في الصناعة على سبيل الإستقصاء ، فلا بد من حمله على ازدياد الميل ونقصانه ، وذلك يوجب القول بثبوت الفلك الذي ذكرناه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
البحث الثالث : احتجوا على أن الكواكب الثابتة مركوزة في فلك فوق أفلاك هذه الكواكب السبعة ، فقالوا : شاهدنا لهذه الأفلاك السبعة حركات أسرع من حركات هذه الثوابت ، وثبت أن الكواكب لا تتحرك إلا بحركة الفلك ، وهذا يقتضي كون هذه الثوابت مركوزة في كرة سوى هذه السبعة ، ولا يجوز أن تكون مركوزة في الفلك الأعظم لأنه سريع الحركة ، يدور في كل يوم وليلة دورة واحدة بالتقريب ، ثم قالوا : إنها مركوزة في كرة فوق كرات هذه السبعة ، لأن هذه الكواكب السبعة قد تكسف تلك الثوابت ، والكاسف تحت المكسوف ، فكرات هذه السبعة وجب أن تكون دون كرات الثوابت.
وهذا الطريق أيضاً ضعيف من وجوه. أحدها : أنا لا نسلم أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة فلكية ، وهم إنما بنوا على امتناع الخرق على الأفلاك ، ونحن قد بينا ضعف دلائلهم على ذلك. وثانيها : سلمنا أنه لا بد لهذه الثوابت من كرات أخرى إلا أن مذهبكم أن كل كرة من هذه الكرات السبعة تنقسم إلى أقسام كثيرة ، ومجموعها هو الفلك الممثل وأن هذه الممثلة بطيئة الحركة على وفق حركة كرة الثوابت ، فلم لا يجوز أن يقال : هذه الثوابت مركوزة في هذه الممثلات البطيئة الحركة ، فأما السيارات فإنها مركوزة في الحوامل التي هي أفلاك خارجة المركز ، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات كرة الثوابت. وثالثها : هب أنه لا بد من كرة أخرى فلم لا يجوز أن يكون هناك كرتان إحداهما فوق كرة زحل/ والأخرى دون كرة القمر ، وذلك لأن هذه السيارات لا تمر إلا بالثوابت الواقعة في ممر تلك السيارات ، فأما الثوابت المقاربة للقطبين فإن السيارات لا تمر بشيء منها ولا تكسفها ، فالثوابت التي تنكسف بهذه السيارات هب أنا حكمنا بكونها مركوزة في كرة فوق كرة زحل ، أما التي لا تنكسف بهذه السيارات فكيف نعلم أنها ليست دون السيارات فثبت أن الذي قالوه غير برهاني بل احتمالي.
/ البحث الرابع : زعموا أن الفلك الأعظم حركته أسرع الحركات فإنه يتحرك في اليوم والليلة قريباً من دورة تامة ، وأنه يتحرك من المشرق إلى المغرب.
(1/696)
وأما الفلك الثامن الذي تحته فإنه في نهاية البطء حتى إنه يتحرك في كل مائة سنة درجة عند بطليموس ، وعند المتأخرين في كل ستة وستين سنة درجة ، وأنه يتحرك من المغرب إلى المشرق على عكس الحركة الأولى ، واحتجوا عليه بأنا لما رصدنا هذه الثوابت وجدنا لها حركة على خلاف الحركة اليومية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
واعلم أن هذا أيضاً ضعيف ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الفلك الأعظم يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة تامة ، والفلك الثامن أيضاً يتحرك من المشرق إلى المغرب كل يوم وليلة دورة إلا بمقدار نحو عشر ثانية فلا جرم نرى حركة الكواكب في الحس مختلفة عن الحركة الأولى بذلك القدر القليل في خلاف جهة الحركة الأولى ، فإذا اجتمعت تلك المقادير أحس كأن الكوكب الثابت يرجع بحركة بطيئة إلى خلاف جهة الحركة اليومية ، فهذا الاحتمال واقع ، وهم ما أقاموا الدلالة على إبطاله ، ثم الذي يدل على أنه هو الحق وجهان. الأول : وهو برهاني ، أن حركة الفلك الثامن لو كانت إلا خلاف حركة الفلك الأعظم لكان حينما يتحرك بحركة الفلك الأعظم إلى جهة إما أن يتحرك بحركة نفسه إلى خلاف تلك الجهة أو لا يتحرك في ذلك الوقت بمقتضى حركة نفسه ، فإن كان الأول لزم كون الشيء الواحد دفعة واحدة متحركاً إلى جهتين ، والحركة إلى جهتين تقتضي الحصول في الجهتين دفعة وذلك محال ، وإن كان القسم الثاني لزم انقطاع الحركات الفلكية ، وهم لا يرضون بذلك. الثاني : أن نهاية الحركة حاصلة للفلك الأعظم ، ونهاية السكون حاصلة للأرض ، والأقرب إلى العقول أن يقال : كل ما كان أقرب من الفلك الأعظم كان أسرع حركة ، وكل ما كان أبعد كان أبطأ حركة ، ففلك الثوابت أقرب الأفلاك إليه ، فلا جرم لا تفاوت بين الحركتين إلا بقدر قليل ، وهو الذي يحصل من اجتماع مقادير التفاوت في كل مائة سنة درجة واحدة ، ويليه فلك زحل فإنه أبطأ من فلك الثوابت فلا جرم كان تخلفه عن الفلك الأعظم أكثر حتى إن مقادير التفاوت إذا اجتمعت بلغت في كل ثلاثين سنة إلى تمام الدور ، وعلى هذا القول كل ما كان أبعد عن الفلك الأعظم كان أبطأ حركة ، فكان تفاوته أكثر حتى يبلغ إلى فلك القمر الذي هو أبطأ الأفلاك حركة ، فهو في كل يوم يتخلف عن الفلك الأعظم ثلاث عشرة درجة ، فلا جرم يتمم دوره في كل شهر ، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى الأرض التي هي أبعد الأشياء عن الفلك ، فلا جرم كانت في نهاية السكون ، فثبت أن كلامهم في هذه الأصول مختل ضعيف والعقل لا سبيل له إلى الوصول إليها.
/ الفصل الثاني
في معرفة الأفلاك
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين. أحداهما : أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة ، وأنها لا تبطىء مرة وتسرع أخرى ، وليس لها رجوع عن متوجهاتها. والثانية : أن الكواكب لا تتحرك بذاتها بل بتحرك الفلك ، ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا : الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون ، فإن كان مركزه مركز الأرض ، فإما أن يكون الكوكب مركوزاً في ثخنه أو مركوزاً في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك/ فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض ، وأن يختلف قطعه للقسى من ذلك الفلك والأعراض الإختلاف في حركة الفلك ، أو حركة الكوكب ، وقد فرضنا أنهما لا يوجدان ألبتة ، فبقي القسمان الآخران. أحدهما : أن يكون الكوكب مركوزاً في جرم كري مستدير الحركة ، مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض ، وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير ، فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والإستقامة ، وتارة بالصغر والكبر في المنظر وإما أن يكون الفلك الميحط بالأرض ليس مركزه موافقاً لمركز الأرض ، فهو الفلك الخارج المركز ، ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف ، وفي نصفه الآخر أقل من النصف ، فلا جرم يحصل بسببه : القرب والبعد من الأرض ، وأن يقطع أحد نصفي فلك البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر ، فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها ، وسرعتها وبطئها ، وقربها وبعدها ، من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين ، أعني التدوير ، والفلك الخارج المركز.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/697)
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل قولهم في الأفلاك ، فقالوا : هذه الأفلاك التسعة ، منها ما هو كرة واحدة ، وهو الفلك الأعظم ، وفلك الثوابت ، ومنها ما ينقسم إلى كرتين ، وهو فلك الشمس ، وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم ، بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج ، وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل ، ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض ، وهو البعد الأقرب منه ، وهما في الحقيقة فلك واحد ، منفصل عنه فلك آخر ، إلا أنه يقال : فلكان ، توسعا ، ويسمى المنفصل عنه : الفلك الممثل ، والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج ، وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه ، ومنها ما ينقسم إلى ثلاث أكر ، وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة ، فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس ، وفلكاً آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى : فلك / التدوير والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ويسمى الخارج المركز : الفلك الحامل ، ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر وهو فلك عطارد والقمر ، أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجاً عن المركزين وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير والمنفصل الفلك الحامل ، ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة ، وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين والعظمى تسمى الفلك المثل والصغرى الفلك المائل وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة ، وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس ، فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان متممين لذلك الفلك المنفصل وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها.
الفصل الثالث
في مقادير الحركات
قال الجمهور : إن جميع الأفلاك تتحرك من المغرب إلى المشرق سوى الفلك الأعظم ، والمدير لعطارد والفلك الممثل والمائل والمدير للقمر فالحركة الشرقية تسمى : الحركة إلى التوالي والغربية إلى خلاف التوالي ، والفلك الأعظم يتحرك حركة سريعة في كل يوم بليلته دورة واحدة على قطبين يسميان قطبي العالم ويحرك جميع الأفلاك والكواكب ، وبهذه الحركة يقع للكواكب الطلوع والغروب وتسمى الحركة الأولى/ وفلك الثوابت يتحرك حركة بطيئة في كل ست وستين سنة عند المتأخرين درجة واحدة على قطبين يسميان قطبي فلك البروج ، وهما يدوران حول قطبي العالم بالحركة الأولى وتتحرك على وفق هذه الحركة جميع الأفلاك المتحركة ، وبهذه الحركة تنتقل الأوجات عن موضعها من فلك البروج وتسمى الحركة الثانية وحركة الأوج وهي حركة الثوابت والثوابت إنما سميت ثوابت لأسباب. أحدها : كونها بطيئة لأنها بإزاء السيارة تشبه الساكنة. وثانيها : السيارة تتحرك إليها وهي لا تتحرك إلى السيارة فكأن الثوابت ثابتة لانتظارها. وثالثها : عروضها ثابتة على مقدار واحد لا يتغير. ورابعها : أبعاد ما بينها ثابتة على حال واحد لا تتغير الصورة المتوهمة عليها من الصور الثماني والأربعين. وخامسها : الأزمنة عند أكثر عوام الأمم منوطة بطلوعها وأفولها بحيث لا يتفاوت إلا في القرون والأحقاب.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/698)
وأما الأفلاك الخارجة المركز فإنها تتحرك في كل يوم هكذا : زحل (ب أ) المشتري (دنط) المريخ بدلالة الشمس (لاكر) الزهرة (نط ج) عطارد (نط ح) والقمر (يج يج مو) وتسمى حركة المركز ، وحركة الوسط ، وهي حركات مراكز أفلاك التداوير ومركز الشمس والأفلاك التداوير تتحرك بهذا المقدار زحل (نرح) المشتري (ند ط) المريخ (كرمب) الزهرة (لونط) عطارد (ج وكد) القمر (يج ج ند) وتسمى : الحركة الخاصة ، وحركة الاختلاف وهي حركات مراكز الكواكب. واعلم أن بسبب هذه الحركات المختلفة يعرض لهذه الكواكب أحوال مختلفة. أحدها : أنه يحصل للقمر مثلاً أبعاد مختلفة غير مضبوطة بالنسبة إلى هذا العالم والأنواع المضبوطة منها أربعة. الأول : أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز ويقال له البعد الأقرب ، وهو الثلاث وثلاثون مرة مثل نصف قطر الأرض بالتقريب. الثاني : أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأقرب من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأقرب للأبعد وهو ثلاث وأربعون مرة مثل نصف قطر الأرض. الثالث : أن يكون القمر على البعد الأقرب من فلك التدوير ومركز فلك التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد للأقرب وهو أربعة وخمسون مرة مثل نصف قطر الأرض. الرابع : أن يكون القمر على البعد الأبعد من فلك التدوير ومركز التدوير على البعد الأبعد من الفلك الخارج المركز وهو البعد الأبعد وهو أربعة وستون مرة مثل نصف قطر الأرض ، ثم إن ما بين هذه النقط الأربعة الأحوال مختلفة على ما أتى على شرحها أبو الريحان. وثانيها : أن جميع الكواكب مرتبطة بالشمس ارتباطاً ما ، فأما العلوية فإن بعد مراكزها عن ذرى أفلاك تداويرها أبداً تكون بمقدار بعد مركز الشمس عن مراكز تداويرها وحينئذ تكون محترقة ومتى كانت في الحضيض كانت في مقابلتها وحينئذ تكون مقابلة للشمس وذلك يقارن الشمس في منتصف الاستقامة ويقابلها في منتصف الرجوع وقيل : إن نصف قطر فلك تدوير المريخ أعظم من نصف قطر فلك ممثل الشمس فيلزم أنه إذا كان مقارناً للشمس يكون بعد مركزه عن مركز الشمس أعظم منه إذا كان مقابلاً لها ، وأما السلفيات فإن مراكز أفلاك تدويرها أبداً يكون مقارناً للشمس فيلزم أن تقارن الشمس الذروة والحضيض في منتصفي الاستقامة ، والرجوع غاية بعد كل واحد منهما عن الشمس بمقدار نصف قطر فلك تدويرهما ، وهو للزهرة (مه) ولعطارد (كه) بالتقريب وأما القمر فإن مركز الشمس أبداً يكون متوسطاً بين بعده الأبعد وبين مركز تدويره ولذلك يقال لبعدمركز تدويره عن البعد الأبعد البعد المضاعف لأنه ضعف بعد مركز تدويره من الشمس فلزم أنه متى كان مركز تدويره في البعد الأبعد ، فإما أن يكون مقابلاً للشمس أو مقارناً لها/ ومتى كان في البعد الأقرب تكون الشمس في تربيعه فلذلك يكون اجتماعه واستقباله في البعد الأبعد وتربيعه مع الشمس في الأقرب.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
الفصل الرابع
في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود الصانع
(1/699)
وهي من وجوه. أحدها : النظر إلى مقادير هذه الأفلاك ، فإنها مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية ، اختص كل واحد منها بمقدار خاص ، مع أنه لا يمتنع في العقل وقوعها على أزيد من ذلك المقدار أو أنقص منه بذرة ، فلما قضى صريح العقل بأن المقادير بأسرها على السوية ، قضى بافتقارها في مقاديرها إلى مخصص مدبر. وثانيها : النظر إلى أحيازها ، فإن كل فلك مماس بمحدبه فلكاً آخر فوقه وبمقعره فلكاً آخر تحته ، ثم ذلك الفلك إما أن يكون متشابه الأجزاء أو ينتهي بالآخرة إلى جسم متشابه الأجزاء ، وذلك الجسم المتشابه الأجزاء لا بد وأن تكون طبيعة كل واحد من طرفيه مساوية لطبيعة طرفه الآخر ، فكما صح على محدبه أن يلقى جسماً وجب أن يصح على مقعره أن يلقى ذلك الجسم ، ومتى كان كذلك صح أن العالي يمكن وقوعه سافلاً ، والسافل يمكن وقوعه عالياً ، ومتى كان كذلك كان اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين أمراً جائزاً يقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى. وثالثها : أن كل كوكب حصل في مقعره اختص به أحد جوانب ذلك الفلك دون سائر الجوانب ، ثم إن ذلك الموضع المنتفي من ذلك الفلك مساو لسائر جوانبه ، لأن الفلك عنده جسم متشابه الأجزاء ، فاختصاص ذلك المقعر بذلك الكوكب دون سائر الجوانب يكون أمراً ممكناً جائزاً فيقضي العقل بافتقاره إلى المخصص. ورابعها : أن كل كرة فإنها تدور على قطبين معينين ، وإذا كان الفلك متشابه الأجزاء كان جميع النقط المفترضة عليه متساوية ، وجميع الدوائر المفترضة عليه أيضاً متساوية ، فاختصاص نقطتين معينتين بالقطبية دون سائر النقط مع استوائها في الطبيعة يكون أمراً جائراً ، فيقضي العقل بافتقاره إلى المقتضى ، وهكذا القول في تعين كل دائرة معينة من دوائرها بأن تكون منطقة. وخامسها : أن الأجرام الفلكية مع تشابهها في الطبيعة الفلكية كل واحد منها مختص بنوع معين من الحركة في البطء والسرعة ، فانظر إلى الفلك الأعظم مع نهاية اتساعه وعظمه ثم إنه يدور دورة تامة في اليوم والليلة ، والفلك الثامن الذي هو أصغر منه لا يدور الدورة التامة إلا في ستة وثلاثين سنة على ما هو قول الجمهور ، ثم إن الفلك السابع الذي تحته يدور في ثلاثين سنة ، فاختصاص الأعظم بمزيد السرعة ، والأصغر بمزيد البطء مع أنه على خلاف حكم العقل فإنه كان ينبغي أن يكون الأوسع أبطأ حركة لعظم مداره ، والأصغر أسرع استدارة لصغر مداره ليس إلا لمخصص ، والعقل يقضي بأن كل واحد منها إنما اختص بما هو عليه بتقدير العزيز العليم. وسادسها : أن الفلك الممثل إذا انفصل عنه الفلك الخارج المركز بقي متممان : أحدهما : من الخارج ، والآخر : من الداخل ، وأنه جرم متشابه الطبيعة ، ثم اختص أحد جوانبهما بغاية / الثخن ، والآخر بغاية الرقة بالنسبة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون نسبة ذلك الثخن والرقة إلى طبيعته على السوية ، فاختصاص أحد جانبيه بالرقة والآخر بالثخن ، لا بد وأن يكون بتخصيص المخصص المختار. وسابعها : أنها مختلف في جهات الحركات ، فبعضها من المشرق إلى المغرب ، وبعضها من المغرب إلى المشرق ، وبعضها شمالية ، وبعضها جنوبية ، مع أن جميع الجهات بالنسبة إليها على السوية ، فلا بد من الإفتقار إلى المدبر. وثامنها : أنا نراها الآن متحركة ومحال أن يقال إنها كانت أزلاً متحركة ، أو ما كانت متحركة ، ثم ابتدأت بالحركة ، ومحال أن يقال : إنها كانت أزلاً متحركة لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة والأزل ينافي المسبوقية بالغير/ فالجمع بين الحركة والأزلية محال ، وإن قلنا إنها ما كانت متحركة أزلاً سواء قلنا إنها كانت قبل تلك الحركة موجودة أو كانت ساكنة ، أو قلنا : إنها كانت قبل تلك الحركة معدومة أصلاً ، فالإبتداء بالحركة بعد عدم الحركة يقتضي الإفتقار إلى مدبر قديم سبحانه وتعالى ليحركها بعد أن كانت معدومة ، أو بعد أن كانت ساكنة ، وهذا المأخذ أحسن المآخذ وأقواها. وتاسعها : أن يقال : إن حركاتها إما أن تكون من لوازم جسمانيتها المعينة ، لكنا نرى جسمانياتها المعينة منفكة عن كل واحد من أجزاء تلك الحركة ، فإذن كل واحد من أجزاء حركته ليس من لوازمه ، فافتقرت الأفلاك في حركاتها إلى محرك من خارج ، وذلك هو محرك المتحركات ، ومدبر الثوابت والسيارات ، وهو الحق سبحانه وتعالى. وعاشرها : أن هذا الترتيب العجيب في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركاتها أترى أنها مبنية على حكمة ، أم هي واقعة بالجزاف والعبث ؟
أما القسم الثاني : فباطل وبعيد عن العقل ، فإن جوز في بناء رفيع ، وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ، ثم تولد منهما لبنات ، ثم تركبها قصر مشيد وبناء عال ، فإنه يقضي عليه بالجنون ، ونحن نعلم أن تركيب هذه الأفلاك وما فيها من الكوكب ، وما لها من الحركات ليس أقل من ذلك البناء ، فثبت أنه لا بد فيها من رعاية حكمة ، ثم لا يخلو إما أن يقال : إنها أحياء ناطقة فهي تتحرك بأنفسها أو يقال : إنه يحركها مدبر قاهر ، والأول باطل لأن حركتها إما أن تكون لطلب استكمالها أو لا لهذا
(1/700)
الغرض ، فإن كانت طالبة بحركتها لتحصيل كمال فهي ناقصة في ذواتها ، طالبة للاستكمال أو لا لهذا الغرض ، والناقص بذاته لا بد له من مكمل ، فهي مفتقرة محتاجة ، وإن لم تكن طالبة بحركتها للاستكمال ، فهي عابثة في أفعالها ، فيعود الأمر إلى أنه يبعد في العقول أن يكون مدار هذه الأجرام المستعظمة ، والحركات الدائمة ، على العبث والسفه ، فلم يبق في العقول قسم هو الأليق بالذهاب إليه إلا أن مدبراً قاهراً غالباً على الدهر والزمان يحركها لأسرار مخفية ، ولحكم لطيفة هو المستأثر بها ، والمطلع عليها ، وليس عندنا إلا الإيمان بها على الإجمال على ما قال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
{جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا} (آل عمران : 191).
والحادي عشر : أنا نراها مختلفة في الألوان ، مثل صفرة عطارد ، وبياض الزهرة وضوء / الشمس وحمرة المريخ ودرية المشتري ، وكمودة زحل واختلاف كل واحد من الكواكب الثابتة بعظم خاص ولون خاص وتركيب خاص ، ونراها أيضاً مختلفة بالسعادة والنحوسة ، ونرى أعلى الكواكب السيارة أنحسها ونرى ما دونها أسعدها ، ونرى سلطان الكواكب سعيداً في بعض الاتصالات تحسساً في بعض ونراها مختلفة في الوجوه والخدود واللثات والذكورة والأنوثة وكون بعضها نهارياً وليلياً وسائراً وراجعاً ومستقيماً وصاعداً وهابطاً مع اشتراكها بأسرها في الشفافية والصفاء والنقاء في الجوهر فيقضي العقل بأن اختصاص كل واحد منها بما اختص به لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص.
والثاني عشر : وهو أن هذه الكواكب وكان لها تأثير في هذا العالم فهي إما أن تكون متدافعة أو متعاونة ، أو لا متدافعة ولا متعاونة ، فإن كانت متدافعة فإما أن يكون بعضها أقوى من بعض أو تكون متساوية في القوة وإن كان بعضها أقوى من بعض كان القوي غالباً أبداً والضعيف مغلوباً أبداً ، فوجب أن تستمر أحوال العالم على طبيعة ذلك الكوكب لكنه ليس الأمر كذلك وإن كانت متساوية في القوة وهي متدافعة وجب تعذر الفعل عليها بأسرها فتكون الأفعال الظاهرة في العالم صادرة عن غيرها فلا يكون مدبر العالم هو هذه الكواكب ، بل غيرها وإن كانت متعاونة لزم بقاء العالم على حالة واحدة من غير تغير أصلاً وإن كانت تارة متعاونة وتارة متدافعة كان انتقالها من المحبة إلى البغضة وبالعكس تغيراً لها في صفاتها فتكون هي مفتقرة في تلك التغيرات إلى الصانع المستولي عليها بالقهر والتسخير.
والثالث عشر : أنها أجسام وكل جسم مركب وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل جسم هو مفتقر إلى غيره ممكن وكل ممكن مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فله مؤثر وكل ماله مؤثر فافتقاره إلى مؤثره إما أن يكون حال بقائه ، أو حال حدوثه أو حال عدمه ، والأول باطل لأنه يقتضي إيجاد الموجود وهو محال ، فبقي القسمان الآخران وهما يقتضيان الحدوث الدال على وجود الصانع.
والرابع عشر : أن الأجسام متساوية في الجسمية لأنه يصح تقسيم الجسم إلى الفلكي والعنصري والكثيف واللطيف ، والحار والبارد ، والرطب واليابس ، ومورد التقسيم مشترك بين كل الأجسام. فالجسمية قدر مشترك بين هذه الصفات ، والأمور المتساوية في الماهية يجب أن تكون متساوية في قالمية الصفات ، فإذن كل ما صح على جسم صح على غيره ، فإذن اختصاص كل جسم بما اختص به من المقدار ، والوضع ، والشكل ، والطبع ، والصفة ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، وذلك يقضي بالافتقار إلى الصانع القديم جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ولا إله غيره ، فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المستنبطة من أجسام السموات والأرض ، على إثبات الصانع : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّه } (لقمان : 27).
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
النوع الثاني : من الدلائل أحوال الأرض وفيه فصلان :
الفصل الأول
في بيان أحوال الأرض
اعلم أن لاختلاف أحوال الأرض أسباباً :
السبب الأول : اختلاف أحوالها بسبب حركة الفلك ، وهي أقسام :
القسم الأول : المواضع العديمة العرض ، وهي التي على خط الاستواء بموافقتها قطبي العالم ، تقاطع معدل النهار على زوايا قائمة ، وتقطع جميع المدارات اليومية بنصفين ، وتكون حركة الفلك دولابية ، ولم يختلف هناك ليل كوكب مع نهاره ، ولم يتصور كوكب أبدي الظهور ، ولا أبدي الخفاء ، بل يكون لكل نقطة سوى القطبين : طلوع وغروب ، ويمر فلك البروج بسمت الرأس في الدورة مرتين ، وذلك عند بلوغ قطبية دائرة الأفق ، وتمر الشمس بسمت الرأس مرتين في السنة ، وذلك عند بلوغها نقطتي الإعتدالين.
(1/701)
القسم الثاني : المواضع التي لها عرض ، فإن قطب الشمال يرتفع فيها من الأفق ، وقطب الجنوب ينحط عنه ويقطع الأفق معدل النهار فقط على نصفين ، فأما سائر المدارات فيقطعها بقسمين مختلفين ، الظاهر منهما في الشمالية أعظم من الخافي وفي الجنوبية بخلاف ذلك ، ولهذا يكون النهار في الشمالية أطول من الليل ، وفي الجنوبية بالخلاف ، وتصير الحركة ههنا حمائلية ، ولم يتفق ليل كوكب مع نهاره ، إلا ما كان في معدل النهار ، وتصير الكواكب التي بالقرب من قطب الشمال أبدية الظهور ، والتي بالقرب من قطب الجنوب أبدية الخفاء ، وتمر الشمس بسمت الرأس في نقطتين بعدهما عن معدل النهار إلى الشمال مثل عرض الموضع.
القسم الثالث : وهو الموضع الذي يصير ارتفاع القطب فيه مثل الميل الأعظم ، وههنا يبطل طلوع قطبي فلك البروج وغروبهما إلا أنهما يماسان الأفق ، وحينئذ يمر فلك البروج بسمت الرأس ، ولم تمر الشمس بسمت الرأس إلا في الإنقلاب الصيفي.
القسم الرابع : وهو أن يزداد العرض على ذلك ، وههنا يبطل مرور فلك البروج والشمس بسمت الرأس ، ويصير القطب الشمالي من فلك البروج أبدي الظهور ، والآخر أبدي الخفاء.
القسم الخامس : أن يصير العرض مثل تمام الميل ، وههنا ينعدم غروب المنقلب الصيفي وطلوع الشتوي لكنهما يماسان الأفق ، وعند بلوغ الاعتدال الربيعي أفق المشرق ، والخريفي أفق المغرب يكون المنقلب الصيفي في جهة الشمال والشتوي في جهة الجنوب وحينئذ ينطبق فلك البروج على الأفق/ ثم يطلع من أول الجدي ، إلى أول السرطان دفعة ، ويغرب مقابله كذلك ثم تأخذ / البروج الطالعة في الغروب ، والغاربة في الطلوع ، إلى أن تعود الحالة المتقدمة ، وينعدم الليل هناك في الإنقلاب الصيفي ، والنهار في الشتوي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
القسم السادس : أن يزداد العرض على ذلك ، فحينئذ يصير قوس من فلك البروج أبدي الظهور مما يلي المنقلب الصيفي ، بحيث يكون المنقلب في وسطها ، ومدة قطع الشمس إياها يكون نهاراً ، ويصير مثلها مما يلي المنقلب الشتوي أبدي الخفاء ، ومدة قطع الشمس إياها يكون ليلاً ، ويعرض هناك لبعض البروج نكوس ، فإذا وافى الجدي نصف النهار من ناحية الجنوب ، كان أول السرطان عليه من ناحية الشمال ، ونقطة الإعتدال الربيعي على أفق المشرق ، فإذن قد طلع السرطان قبل الجوزاء ، والجوزاء قبل الثور ، والثور قبل الحمل ، ثم إذا تحرك الفلك يطلع بالضرورة آخر الحوت وأوله تحت الأرض ، وكل جزء يطلع فإنه يغيب نظيره ، فالبروج التي تطلع منكوسة يغيب نظيرها كذلك.
القسم السابع : أن يصير ارتفاع القطب تسعين درجة ، فيكون هناك معدل النهار منطبقاً على الأفق ، وتصير الحركة رحوية ، ويبطل الطلوع والغروب أصلاً ، ويكون النصف الشمالي في فلك البروج أبدي الظهور ، والنصف الجنوبي أبدي الخفاء ، ويصير نصف السنة ليلاً ونصفها نهاراً.
السبب الثاني : لاختلاف أحوال الأرض اختلاف أحوالها بسبب العمارة : اعلم أن خط الاستواء يقطع الأرض نصفين : شمالي وجنوبي ، فإذا فرضت دائرة أخرى عظيمة مقاطعة لها على زوايا قائمة ، انقسمت كرة الأرض بهما أرباعاً ، والذي وجد معموراً من الأرض أحد الربعين الشماليين مع ما فيه من الجبال والبحار والمفاوز ، ويقال والله أعلم أن ثلاثة الأرباع ماء ، فالموضع الذي طوله تسعون درجة على خط الإستواء ، يسمى : قبة الأرض ، ويحكى عن الهند أن هناك قلعة شامخة في جزيرة هي مستقر الشياطين ، فتسمى لأجلها : قبة ، ثم وجد طول العمارة قريباً من نصف الدور ، وهو كالمجمع عليه ، واتفقوا على أن جعلوا ابتداءها من المغرب ، إلا أنهم اختلفوا في التعيين ، فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانوس ، وبعضهم يأخذه من جزائر وغلة فيه تسمى : جزائر الخالدات ، زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر ، وبعدها عن الساحل عشرة أجزاء ، فيلزم من هذا وقوع الاختلاف في الإنتهاء أيضاً ، ولم يوجد عرض العمارة إلا إلى بعد ست وستين درجة من خط الإستواء ، إلا أن بطليموس زعم أن وراء خط الإستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة ، فيكون عرض العمارة قريباً من اثنتين وثمانين درجة ، ثم قسموا هذا القدر المعمور سبع قطع مستطيلة على موازاة خط الإستواء ، وهي التي تسمى : الأقاليم وابتداؤه من خط الإستواء ، وبعضهم يأخذ أول الأقاليم من عند قريب من ثلاث عشرة درجة من خط الإستواء ، وآخر الأقليم السابع إلى بعد خمسين درجة ولا يعد ما وراءها من الأقاليم ، لقلة ما وجدوا فيه من العمارة.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/702)
السبب الثالث : لاختلاف أحوال الأرض ، كون بعضها برياً وبحرياً ، وسهلياً وجبلياً ، وصخرياً ورملياً وفي غور وعلى نجد ويتركب بعض هذه الأقسام ببعض فتختلف أحوالها اختلافاً شديداً ، وما يتعلق بهذا النوع فقد استقصيناه في تفسير قوله تعالى : {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} (البقرة : 22) ومما يتعلق بأحوال الأرض أنها كرة وقد عرفت أن امتداد الأرض فيما بين المشرق والمغرب يسمى طولاً وامتدادها بين الشمال والجنوب يسمى عرضاً فنقول : طول الأرض إما أن يكون مستقيماً أو مقعراً أو محدباً والأول باطل وإلا لصار جميع وجه الأرض مضيئاً دفعة واحدة عند طلوع الشمس ولصار جميعه مظلماً دفعة واحدة عند غيبتها ، لكن ليس الأمر كذلك لأنا لما اعتبرنا من القمر خسوفاً واحداً بعينه/ واعتبرنا معه حالاً مضبوطاً من أحواله الأربعة التي هي أول الكسوف وتمامه ، وأول انجلائه وتمامه لم يوجد ذلك في البلاد المختلفة الطول في وقت واحد ووجد الماضي من الليل في البلد الشرقي منها أكثر مما في البلد الغربي والثاني أيضاً باطل وإلا لوجد الماضي من الليل في البلد الغربي أكثر منه في البلد الشرقي لأن الأول يحصل في غرب المقعر أولاً ثم في شرقه ثانياً ولما بطل القسمان ثبت أن طول الأرض محدب ، ثم هذا المحدب إما أن يكون كرياً أو عدسياً ، والثاني باطل لأنا نجد التفاوت بين أزمنة الخسوف الواحد بحسب التفاوت في أجزاء الدائرة حتى أن الخسوف الذي يتفق في أقصى عمارة المشرق في أول الليل ، يوجد في أقصى عمارة المغرب في أول النهار فثبت أنها كرة في الطول ، فأما عرض الأرض فإما أن يكون مسطحاً أو مقعراً أو محدباً ، والأول : باطل وإلا لكان السالك من الجنوب على سمت القطب لا يزداد ارتفاع القطب عليه ، ولا يظهر له من الكواكب الأبدية الظهور ما لم يكن كذلك ، لكنا بينا أن أحوالها مختلفة بحسب اختلاف عروضها ، والثاني : أيضاً باطل وإلا لصارت الأبدية الظهور خفية عنه على دوام توغله في ذلك المقعر ، ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا في بيان المراتب السبعة الحاصلة بحسب اختلاف عروض البلدان وهذه الحجة على حسن تقريرها إقناعية.
الحجة الثانية : ظل الأرض مستدير فوجب كون الأرض مستديرة.
بيان الأول : أن انخساف القمر نفس ظل الأرض ، لأنه لا معنى لانخسافه إلا زوال النور عن جوهره عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ثم نقول : وانخساف القمر مستدير لأنا نحس بالمقدار المنخسف منه مستديراً ، وإذا ثبت ذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة لأن امتداد الظل يكون على شكل الفصل المشترك بين القطعة المستضيئة بإشراق الشمس عليها ، وبين القطعة المظلمة منها فإذا كان الظل مستديراً وجب أن يكون ذلك الفصل المشترك الذي شكل كل الظل مثل شكله مستديراً فثبت أن الأرض مستديرة ثم إن هذا الكلام غير مختص بجانب واحد من جوانب الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تتفق في جميع أجزاء فلك البروج مع أن شكل الخسوف أبداً على الاستدارة فإذن الأرض مستديرة الشكل من كل الجوانب.
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
الحجة الثالثة : أن الأرض طالبة للبعد من الفلك ومتى كان حال جميع أجزائها كذلك وجب أن تكون الأرض مستديرة ، لأن امتداد الظل كرة ، واحتج من قدح في كرية الأرض بأمرين ، أحدهما : أن الأرض لو كانت كرة لكان مركزها متطبقاً على مركز العالم ، ولو كان كذلك لكان الماء محيطاً بها من كل الجوانب ، لأن طبيعة الماء تقتضي طلب المركز فيلزم كون الماء محيطاً بكل الأرض. الثاني : ما نشاهد في الأرض من التلال والجبال العظيمة والأغوار المقعرة جداً.
أجابوا عن الأول بأن العناية الإلهية اقتضت إخراج جانب من الأرض عن الماء بمنزلة جزيرة في البحر لتكون مستقراً للحيوانات ، وأيضاً لا يبعد سيلان الماء من بعض جوانب الأرض إلى المواضع الغائرة منها وحينئذ يخرج بعض جوانب الأرض من الماء.
وعن الثاني أن هذه التضاريس لا تخرج الأرض عن كونها كرة ، قالوا : لو اتخذنا كرة من خشب قطرها ذراع مثلاً ، ثم أثبتنا فيها أشياء بمنزلة جاروسات أو شعيرات ، وقورنا فيها كأمثالها فإنها لا تخرجها عن الكرية ونسبة الجبال والغيران إلى الأرض دون نسبة تلك الثابتات إلى الكرة الصغيرة.
الفصل الثاني
في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع
(1/703)
اعلم أن الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع أسهل من الاستدلال بأحوال السموات على ذلك وذلك لأن الخصم يدعى أن اتصاف السموات بمقاديرها وأحيازها وأوضاعها أمر واجب لذاته/ ممتنع التغير فيستغني عن المؤثر ، فيحتاج في إبطال ذلك إلى إقامة الدلالة على تماثل الأجسام الأرضية فإنا نشاهد تغيرها في جميع صفاتها أعني حصولها في أحيازها وألوانها وطعومها وطباعها ونشاهد أن كل واحد من أجزاء الجبال والصخور الصم يمكن كسرها وإزالتها عن مواضعها وجعل العالي سافلاً والسافل عالياً وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن اختصاص كل واحد من أجزاء الأرض بما هو عليه من المكان والحيز والمماسة والقرب من بعض الأجسام والبعد من بعضها يمكن التغير والتبدل وإذا ثبت أن اتصاف تلك الأجرام بصفاتها أمر جائز وجب افتقارها في ذلك الاختصاص إلى مدبر قديم عليم سبحانه وتعالى عن قول الظالمين ، وإذا عرفت مأخذ الكلام سهل عليك التفريع.
النوع الثالث : من الدلائل اختلاف الليل والنهار وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا للاختلاف تفسيرين. أحدها : أنه افتعال من قولهم : خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني ، فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء ، ومنه يقال : / فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده فذهابه يخلف مجيئه ومجيئه يخلف ذهابه وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه ، وبهذا فسر قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} (الفرقان : 62). والثاني : أراد اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان قال الكسائي : يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
وعندي فيه وجه ثالث ، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة ، فهما يختلفان بالأمكنة ، فإن عند من يقول : الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك لساعة في موضع من الأرض صبح ، وفي موضع آخر ظهر ، وفي موضع ثالث عصر ، وفي رابع مغرب ، وفي خامس عشاء وهلم جرا هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال ، أما البلاد المختلفة بالعرض ، فكل بلد تكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ولياليه الصيفية أقصر وأيامه الشتوية بالضد من ذلك فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب ، ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع فقال في بيان كونه مالك الملك : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} (الحديد : 6) وقال في القصص : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍا أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيه أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِه جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (القصص : 71 ـ 73) وفي الروم : {وَمِنْ ءَايَـاتِه مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُم مِّن فَضْلِه ا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (الروم : 23) وفي لقمان : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى ا أَجَلٍ} (لقمان : 29) وفي الملائكة : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} (فاطر : 13) وفي يس : {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} (يس : 37) وفي الزمر :
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/704)
{يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَا كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } (غافر : 5) وفي حم غافر : {اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } (غافر : 62) وفي عم : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ : 10 ـ 11) والآيات من هذا الجنس كثيرة وتحقيق الكلام أن يقال : إن اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه. الأول : أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس ، وهي من الأيات العظام. الثاني : ما يحصل بسبب طول الأيام تارة ، وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول ، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء ، وهو من الآيات العظام. الثالث : أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام. الرابع : أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام ، فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح. الخامس : أن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولاً عند النفخة الأولى في الصور / وتقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية ، وهذا أيضاً من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام. السادس : أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي ، وهو المراد بقوله تعالى : {فَالِقُ الاصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} (الأنعام : 96). السابع : أن تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهاراً وستة أشهر ليلاً وهناك لا يتم النضج ولايصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة. الثامن : أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس ، من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام وإن قلنا الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة ، يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المحرك لأجرام السموات ملك عظيم الجثة والقوة ، وحينئذ لا يكون اختلاف الليل والنهار دليلاً على أنه الصانع قلنا : أما على قولنا فلما دل الدليل على أن قدرة العبد غير صالحة للإيجاد ، فقد زال السؤال ، وأما على قول المعتزلة فقد نفى أبو هاشم هذا الاحتمال بالسمع.
النوع الرابع من الدلائل : قوله تعالى : {وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} (البقرة : 164) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الفلك أصله من الدوران وكل مستدير فلك ، وفلك السماء اسم لا طواق سبعة تجري فيها النجوم ، وفلكت الجارية إذا استدار ثديها وفلكة المغزل من هذا والسفينة سميت فلكاً لأنها تدور بالماء أسهل دوران قال : والفلك واحد وجمع فإذا أراد بها الواحد ذكر ، وإذا أريد به الجمع أنث ومثاله قولهم : ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص ودروع دلاص قال سيبويه : الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة باء برد وخاء خرج ، وإذا أريد به الجمع فضمة الفاء فيه بمنزلة الحاء من حمر والصاد من صفر فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فهما مختلفتان في المعنى.
المسألة الثانية : قال الليث سمي البحر بحراً لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ويقال استبحر فلان في العلم إذا اتسع فيه والراعي وتبحر فلان في المال وقال غيره سمي البحر بحراً لأنه شق في الأرض والبحر الشق ومنه البحيرة.
المسألة الثالثة : ذكر الجبائي وغيره من العلماء بمواضع البحور أن البحور المعروفة خمسة / أحدها : بحر الهند ، وهو الذي يقال له أيضاً بحر الصين. والثاني : بحر المغرب. والثالث : بحر الشام والروم ومصر. والرابع : بحر نيطش. والخامس : بحر جرجان.
(1/705)
فأما بحر الهند فإنه يمتد طوله من المغرب إلى المشرق ، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند والصين ، يكون مقدار ذلك ثمانمائة ألف ميل ، وعرضه ألفي وسبعمائة ميل ويجاوز خط الإستواء ألفاً وسبعمائة ميل ، وخلجان هذا البحر. الأول ؛ خليج عند أرض الحبشة ، ويمتد إلى ناحية البربر ، ويسمى الخليج البربري ، طول مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل. والثاني : خليج بحر أيلة وهو بحر القلزم ، طوله ألف وأربعمائة ميل ، وعرضه سبعمائة ميل ، ومنتهاه إلى البحر الذي يسمى البحر الأخضر ، وعلى طرفه القلزم ، فلذلك سمي به ، وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن ، وعلى غربيه أرض الحبشة. الثالث : خليج بحر أرض فارس ، ويسمى : الخليج الفارسي ، وهو بحر البصرة وفارس ، الذي على شرقيه تيز ومكران ، وعلى غربيه عمان طوله ألف وأربعمائة ميل ، وعرضه خمسماية ميل ، وبين هذين الخليجين أعني خليج أيلة وخليج فارس أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب ، فيما بين مسافة ألف وخمسائة ميل. الرابع : يخرج منه خليج آخر إلى أقصى بلاد الهند ويسمى الخليج الأخضر طوله ألف وخمسمائة ميل قالوا : وفي جزيرة بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة : ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها جزيرة ضخمة في أقصى البحر مقابل أرض الهند في ناحية المشرق عند بلاد الصين وهي : سرنديب ، يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر ، وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة ، فيها مدائن عامرة وقرى كثيرة ومن جزائر هذا البحر جزيرة كله ، التي يجلب منها الرصاص القلعي ، وجزيرة سريرة التي يجلب منها الكافور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
وأما بحر المغرب : فهو الذي يسمى بالمحيط وتسميه اليونانيون : أوقيانوس ، ويتصل به بحر الهند ولا يعرف طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال ، عند محاذاة أرض الروس والصقالبة فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب ، محاذياً لأرض السودان ، ماراً على حدود السوس الأقصى وطنجة ، وتاهرت ، ثم الأندلس ، والجلالقة والصقالبة ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق وهذا البحر لا تجري فيه السفن وإنما تسلك بالقرب من سواحله وفيه ست جزائر مقابل أرض الحبشة تسمى : جزائر الخالدات ، ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالبة ، ويمتد هذا الخليج إلى أرض بلغار المسلمين ، طوله من المشرق إلى المغرب ثلثمائة ميل وعرضه مائة ميل.
وأما بحر الروم وأفريقية ومصر والشام : فطوله مقدار خمسة آلاف ميل ، وعرضه ستمائة ميل ، ويخرج منه خليج إلى ناحية الشمال قريب من الرومية ، طوله خمسمائة ميل ، وعرضه ستمائة ، ويخرج منه خليج آخر إلى أرض سرين ، طوله مائتا ميل ، وفي هذا البحر مائة واثنتان / وستون جزيرة عامرة ، منها خمسون جزيرة عظام.
وأما بحر نيطش فإنه يمتد من اللاذقية إلى خلف قسطنطينية ، في أرض الروس والصقالبة طوله ألف وثلثمائة ميل ، وعرضه ثلثمائة ميل.
وأما بحر جرجان فطوله من المغرب إلى المشرق ثلثمائة ميل ، وعرضه ستمائة ميل ، وفيه جزيرتان كانتا عامرتين فيمن مضى من الزمان ويعرف هذا البحر ببحر آبسكون ، لأنها على فرضته ثم يمتد إلى طبرستان ، والديلم ، والنهروان ، وباب الأبواب/ وناحية أران ، وليس يتصل ببحر آخر ، فهذه هي البحور العظام ، وأما غيرها فبحيرات وبطائح ، كبحيرة خوارزم ، وبحيرة طبرية.
وحكي عن أرسطاطاليس : أن بحر أوقيانوس ميحط بالأرض بمنزلة المنطقة لها ، فهذا هو الكلام المختصر في أمر البحور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/706)
المسألة الرابعة : في كيفية الإستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع تعالى وتقدس ، وهي من وجوه. أحدها : أن السفن وإن كانت من تركيب الناس إلا أنه تعالى هو الذي خلق الآلات التي بها يمكن تركيب هذه السفن ، فلولا خلقه لها لما أمكن ذلك. وثانيها : لولا الرياح المعينة على تحريكها لما تكامل النفع بها. وثالثها : لولا هذه الرياح وعدم عصفها لما بقيت ولما سلمت. ورابعها : لولا تقوية قلوب من يركب هذه السفن لما تم الغرض فصيرها الله تعالى من هذه الوجوه مصلحة للعباد ، وطريقاً لمنافعهم وتجاراتهم. وخامسها : أنه خص كل طرف من أطراف العالم بشيء معين ، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك داعياً يدعوهم إلى اقتحامهم هذه الأخطار في هذه الأسفار ولولا أنه تعالى خص كل طرف بشيء وأحوج الكل إليه لما ارتكبوا هذه السفن ، فالحامل ينتفع به لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. وسادسها : تسخير الله البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان البحر إذا هاج ، وعظم الهول فيه إذا أرسل الله الرياح فاضطربت أمواجه وتقلبت مياهه. وسابعها : أن الأودية العظام ، مثل : جيحون ، وسيحون ، تنصب أبداً إلى بحيرة خوارزم على صغرها ، ثم إن بحيرة خوارزم لا تزداد ألبتة ولا تمتد ، فالحق سبحانه وتعالى هو العالم بكيفية حال هذه المياه العظيمة التي تنصب فيها. وثامنها : ما في البحار من الحيوانات العظيمة ثم إن الله تعالى يخلص السفن عنها ، ويوصلها إلى سواحل السلامة. وتاسعها : ما في البحار من هذا الأمر العجيب ، وهو قوله تعالى : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} (الرحمن : 19 ـ 20) وقال : {هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآاـاِغٌ شَرَابُه وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } (فاطر : 12) ثم إنه تعالى بقدرته يحفظ البعض عن الإختلاط بالبعض ، وكل ذلك مما يرشد العقول والألباب إلى افتقارها إلى مدبر يدبرها ومقدر يحفظها.
المسألة الخامسة : دل قوله على صفة الفلك : {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} على إباحة ركوبها ، وعلى إباحة الاكتساب والتجارة وعلى الانتفاع باللذات.
النوع الخامس : قوله تعالى : {وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة : 164).
/
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
واعلم أن دلالته على الصانع من وجوه. أحدها : أن تلك الأجسام ، وما قام بها من صفات الرقة ، والرطوبة ، والعذوبة ، ولا يقدر أحد على خلقها إلا الله تعالى ، قال سبحانه : {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعِين } (الملك : 30). وثانيها : أنه تعالى جعله سبباً لحياة الإنسان ، ولأكثر منافعه قال تعالى : {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} (الواقعة : 68 ، 69) وقال : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّا أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء : 30). وثالثها : أنه تعالى كما جعله سبباً لحياة الإنسان ، جعله سبباً لرزقه قال تعالى : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات : 22). ورابعها : أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة ، التي تسيل منها الأودية العظام تبقى معلقة في جو السماء وذلك من الآيات العظام. وخامسها : أن نزولها عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدراً بمقدار النفع من الآيات العظام ، قال تعالى حكاية عن نوح : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} (نوح : 10 ، 11). وسادسها : ما قال : {فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} (فاطر : 9) وقال : {وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنابَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجا بَهِيجٍ} (الحج : 5) فإن قيل : أفتقولون : إن الماء ينزل من السماء على الحقيقة أو من السحاب أو تجوزون ما قاله بعضهم من أن الشمس تؤثر في الأرض فيخرج منها أبخرة متصاعدة فإذا وصلت إلى الجو البارد بردت فثقلت فنزلت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز ، فاتصلت فتولدت من اتصال بعض تلك الذرات بالبعض قطرات هي قطرات المطر.
قلنا : بل نقول إنه ينزل من السماء كما ذكره الله تعالى وهو الصادق في خبره ، وإذا كان قادراً على إمساك الماء في السحاب ، فأي بعد في أن يمسكه في السماء ، فأما قول من يقول : إنه من بحار الأرض فهذا ممكن في نفسه ، لكن القطع به لا يمكن إلا بعد القول بنفي الفاعل المختار ، وقدم العالم ، وذلك كفر ، لأنا متى جوزنا الفاعل المختار القادر على خلق الجسم ، فكيف يمكننا مع إمكان هذا القسم أن نقطع بما قالوه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/707)
أما قوله : {فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الجاثية : 5) فاعلم أن هذه الحياة من جهات. أحدها : ظهور النبات الذي هو الكلأ والعشب وما شاكلهما ، مما لولاه لما عاشت دواب الأرض. وثانيها : أنه لولاه لما حصلت الأقوات للعباد. وثالثها : أنه تعالى ينبت كل شيء بقدر الحاجة ، لأنه تعالى ضمن أرزاق الحيوانات ، بقوله : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6). ورابعها : أنه يوجد فيه من الألوان والطعوم والروائح وما يصلح للملابس ، لأن ذلك كله مما لا يقدر عليه إلا الله. وخامسها : يحصل للأرض بسبب النبات حسن ونضرة ورواء ورونق فذلك هو الحياة.
واعلم أن وصفه تعالى ذلك بالإحياء بعد الموت مجاز ، لأن الحياة لا تصح إلى على من يدرك ويصح أن يعلم ، وكذلك الموت ، إلا أن الجسم إذا صار حياً حصل فيه أنواع من الحسن والنضرة والبهاء ، والنشور والنماء ، فأطلق لفظ الحياة على حصول هذه الأشياء ، وهذا من فصيح الكلام الذي على اختصاره يجمع المعاني الكثيرة.
/ واعلم أن إحياء الأرض بعد موتها يدل على الصانع من وجوه. أحدها : نفس الزرع ، لأن ذلك ليس في مقدور أحد على الحد الذي يخرج عليه. وثانيها : اختلاف ألوانها على وجه لا يكاد يحد ويحصى. وثالثها : اختلاف طعوم ما يظهر على الزرع والشجر. ورابعها : استمرار العادات بظهور ذلك في أوقاتها المخصوصة.
النوع السادس من الآيات : قوله تعالى : {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} (البقرة : 164) ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان ، وسائر الحيوانات ، كقوله : {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً } (النساء : 1).
واعلم أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد ، وقد يكون بالتوالد ، وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم فلنبين ذلك في الناس ثم في سائر الحيوانات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
أما الإنسان فالذي يدل على فتقاره في حدوثه إلى الصانع وجوه. أحدها : يروي أن واحداً قال عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أتعجب من أمر الشطرنج ، فإن رقعته ذراع في ذراع ، ولو لعب الإنسان ألف ألف مرة ، فإنه لا يتفق مرتان على وجه واحد فقال عمر بن الخطاب ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيها كالحاجبين والعينين والأنف والفم ، لا يتغير البتة ثم إنك لا ترى شخصين في الشرق والغرب يشتبهان ، فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها. وثانيها : أن الإنسان متولد من النطفة ، فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها فإن كانت القوة المصورة فيها/ فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب ، وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك ، بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية ، والأول ظاهر الفساد لأن الإنسان حال استكماله أكثر علماً وقدرة ، ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفتها لا يقدر على ذلك ، فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك ، وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع ، فهذا المعنى إما أن يكون جسماً متشابه الأجزاء في نفسه ، أو يكون مختلف الأجزاء ، فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة ، لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه ، وهذا هو الكرة فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة ، وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع ، وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات ، فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحماً ودماً وإنساناً من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها ، وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى. وثالثها : الإستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها ، وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها ، واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن. ورابعها : ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم ، ومن عجائب الأمر / في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا : أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار ، لأنها حارة يابسة ، وأدون منها في اللطافة الهواء ، ثم الماء والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها ، ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان ، لأن أعلى الأعضاء منه عظم القحف والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض ، وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء ، وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلب ، وهو حار يابس على طبع النار ، فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء ، ويركبها كيف أراد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/708)
ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب كي لا يكدره وعن الماء كي لا يمحوه ، وعن الهواء كي لا يزيل طرواته ولطافته ، وعن النار كيلا تحرقه ، ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء ، فقال : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَا خَلَقَه مِن تُرَابٍ} (آل عمران : 59) وقال : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } (الأنبياء : 30) وقال في الهواء : {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (التحريم : 12) وقال أيضاً : {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا} (المائدة : 110) وقال : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} (الحجر : 29) وقال في النار : {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن : 15) وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد. وخامسها : انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم ، فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً يقطع نفسه لمات في الحال ، ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة ، مع تعذر النفس هناك ولم يمت ، ثم إنه بعد الإنفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم ، بحيث لا يميز بين الماء والنار ، وبين المؤذي والملذ ، وبين الأم وبين غيرها ، ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم ، فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم ، فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة ، كان أكثر فهماً وقت الإستكمال ، فلما لم يكن الأمر كذلك ، بل كان على الضد منه ، علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم. وسادسها : اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم ، واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ونرى الحيوانات البرية والجبلية ، شديدة المشابهة بعضها بالبعض ، ونرى الناس مختلفين جداً في الصورة ، ولولا ذلك لاختلت المعيشة ، ولاشتبه كل أحد بأحد ، فما كان يتميز البعض عن البعض ، وفيه فساد المعيشة ، واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه لأنه بحر لا ساحل له.
النوع السابع من الدلائل : تصريف الرياح ، وفيه مسائل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
المسألة الأولى : وجه الإستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف ، وهو الرقة واللطافة ، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات ، وذلك من وجوه. أحدها : أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات ، وقيل فيه إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد ، كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات / حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء ، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضاً شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضاً وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل. لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء ، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبداً ، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء ، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء ، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين ، والأدوية النادرة قليلة ، فلا جرم عزت هذه الأشياء ، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جداً ، فلا جرم كانت في نهاية العزة ، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد ، كان وجدانه أسهل وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات فنرجوا أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال :
سبحان من خص القليل بعزه
والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس لمحتاج إلى أنفاسه
وثانيها : لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله فلو أراد كل من في العالم يقلب الريح من الشمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكناً أن يحركه لتعذر.
المسألة الثانية ؛ قال الواحدي : (وتصريف الرياح) أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير.
المسألة الثالثة : الرياح جمع الريح قال أبو علي الريح اسم على فعل والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء فإنه في الجمع القليل أرواح وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الاعلال ، كالواو في قوم وقول ، وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو ديمة وديم وحيلة وحيل قال ابن الأنباري : إنما سميت الريح ريحاً لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم فهي مأخوذة من الروح والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
(1/709)
المسألة الرابعة : قالوا : الرياح أربع ، الشمال والجنوب والصبا والدبور ، فالشمال من نقطة الشمال ، والجنوب من نقطة الجنوب ، والصبا مشرقية ، والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولاً لأنها استقبلت الدبور وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء.
المسألة الخامسة ؛ اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو ، وعاصم وابن عامر (الرياح) على الجمع في عشرة مواضع البقرة ، والأعراف ، والحجر/ والكهف ، والفرقان والنمل والروم في موضعين ، والجاثية وفاطر ، وقرأ نافع في اثني عشر موضعاً هذه العشرة وفي إبراهيم : {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (ابراهيم : 18) وفي حم عسق : {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} (الشورى : 33) وقرأ ابن كثير : (الرياح) في خمسة مواضع / البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع : في الحجر والفرقان والروم الأول منها.
واعلم أن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية ، وأما من وحد فإنه يريد به الجنس ، كقولهم : أهلك الناس الدينار والدرهم ، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع ، فأما ما روي في الحديث من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال : "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى ، قال تعالى : {وَمِنْ ءَايَـاتِه أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (الروم : 46) وإنما يبشر بالرحمة ، وقال في موضع الإفراد : {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات : 41) وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له ، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى : 17) وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة : 3/10).
النوع الثامن من الدلائل : قوله تعالى : {الرِّيَـاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ} (البقرة : 164) سمي السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء ، ومعنى التسخير التذليل ، وإنما سماه مسخراً لوجوه. أحدها : أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف الطبع ، فلا بد من قاسر قاهر يقهره على ذلك فلذلك سماه بالمسخر. الثاني : أن هذا السحاب لو دام لعظم ضرره من حيث أنه يستر ضوء الشمس ، ويكثر الأمطار والابتلال ، ولو انقطع لعظم ضرره لأنه يقتضي القحط وعدم العشب والزراعة ، فكان تقديره بالمقدار المعلوم هو المصلحة فهو كالمسخر لله سبحانه يأتي به في وقت الحاجة ويرده عند زوال الحاجة. الثالث : أن السحاب لا يقف في موضع معين بل يسوقه الله تعالى بواسطة تحريك الرياح إلى حيث أراد وشاء فذلك هو التسخير فهذا هو الإشارة إلى وجوه الاستدلال بهذه الدلائل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
وأما قوله تعالى : {لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الروم : 24) ففيه مسائل :
(1/710)
المسألة الأولى : قوله : {لايَـاتٍ} لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الكل ، أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد مما تقدم ذكره ، فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه. أحدها : أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة. وثانيها : أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادراً ، لأنه لو كان المؤثر موجباً لدام الأثر بدوامه ، فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والاتقان دلت على علم الصانع ، ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع ، ومن حيث أنها وقعت على وجه الأتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع ، على ما قال تعالى / {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الأنبياء : 22). وثالثها : أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلاً لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر. ورابعها : أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل ، فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث ، فكان حدوثه لا محالة مختصاً بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصاً بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور ، وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة ، وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهداً على وجود الصانع ، لا جرم قال : إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث ، أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى ، وأما المحدث فكل ما عداه ، وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهداً على وجوده مقراً بوحدانيته معترفاً بلسان الحال بإلهيته ، وهذا هو المراد من قوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (الإسراء : 44).
أما قوله تعالى : {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه ، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره ، وما يلزم عبادته وطاعته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية ، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر ، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعماً دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال : {لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قال القاضي عبد الجبار : الآية تدل على أمور. أحدها : أنه لو كان الحق يدرك بالتقليد واتباع الآباء والجري على الألف والعادة لما صح ذلك. وثانيها : لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات. وثالثها : أن سائر الأجسام والأعراض وإن كانت تدل على الصانع فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 144
174
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر التوحيد بالدلائل القاهرة القاطعة أردف ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء ولذلك قال الشاعر : وبضدها تتبين الأشياء ، وقالوا أيضاً النعمة مجهولة ، فإذا فقدت عرفت ، والناس لا يعرفون قدر الصحة ، فإذا مرضوا ثم عادت الصحة إليهم عرفوا قدرها ، وكذا القول في جميع النعم ، فلهذا السبب أردف الله تعالى الآية الدالة على التوحيد بهذه الآية ، وهنا مسائل :
(1/711)
المسألة الأولى : أما الند فهو المثل المنازع ، وقد بينا تحقيقه في قوله تعالى في أول هذه السورة : {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة : 22) واختلفوا في المراد بالأنداد على أقوال. أحدها : أنها هي الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى ، ورجوا من عندها النفع والضر ، وقصدوها بالمسائل ، ونذروا لها النذور ، وقربوا لها القرابين ، وهو قول أكثر المفسرين ، وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض ، أي أمثال ليس إنها أنداداً لله ، أو المعنى : إنها أنداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة. وثانيها : إنهم السادة الذين كانوا يطيعونهم فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل الله ، عن السدي ، والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه. الأول : أن قوله : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه } الهاء والميم فيه ضمير العقلاء. الثاني : أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع. الثالث : أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } (البقرة : 166) وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالاً لله تعالى ، يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ، ما يلتزمه المؤمنون من الإنقياد لله تعالى.
القول الثالث : في تفسير الأنداد قول الصوفية والعارفين ، وهو أن كل شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى ، فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى وهو المراد من قوله : {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ} (الفرقان : 43).
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
أما قوله تعالى : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه } فاعلم أنه ليس المراد محبة ذاتهم فلا بد من محذوف ، والمراد يحبون عادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم ، أو جميع ذلك ، وقوله : {كَحُبِّ اللَّه } فيه ثلاثة أقوال : قيل فيه كحبهم لله ، وقيل فيه : كالحب اللازم عليهم لله ، وقيل فيه : كحب المؤمنين لله ، وإنما اختلفوا هذا الإختلاف من حيث إنهم اختلفوا في أنهم هل كانوا يعرفون الله أم لا ؟
فمن قال : كانوا يعرفون مع اتخاذهم الأنداد تأول على أن المراد كحبهم لله ومن قال إنهم ما كانوا عارفين بربهم حمل الآية على أحد الوجهين الباقيين إما كالحب اللازم لهم أو كحب المؤمنين لله والقول الأول أقرب لأن قوله : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه } راجع إلى الناس الذين تقدم ذكرهم ، وظاهر قوله : {كَحُبِّ اللَّه } يقتضي حباً لله ثابتاً فيهم ، فكأنه تعالى بين في الآية السالفة أن الإله واحد ، ونبه على دلائله ، ثم حكى قول من يشرك معه ، وذلك يقتضي كونهم مقرين بالله تعالى.
فإن قيل : العاقل يستحيل أن يكون حبه للأوثان كحبه لله ، وذلك لأنه بضرورة والعقل يعلم أن هذه الأوثان أحجار لا تنفع/ ولا تضر ، ولا تسمع ، ولا تبصر ولا تعقل ، وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعاً مدبراً حكيماً ولهذا قال تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } (الزمر : 38) ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل أن يكون حبهم لتلك الأوثان كحبهم لله تعالى ، وأيضاً فإن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) وإذا كان كذلك ، كان المقصود الأصلي طلب مرضات الله تعالى ، فكيف يعقل الإستواء في الحب مع هذا القول ، قلنا قوله : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه } أي في الطاعة لها ، والتعظيم لها ، فالإستواء على هذا القول في المحبة لا ينافي ما ذكرتموه.
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه } ففيه مسائل :
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
(1/712)
المسألة الأولى : في البحث عن ماهية محبة العبد لله تعالى ، اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة ، وهي أن العبد قد يحب الله تعالى ، والقرآن ناطق به ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه } (المائدة : 54) وكذا الأخبار ، روي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت عليه السلام وقد جاءه لقبض روحه : هل رأيت خليلاً يميت خليله ؟
فأوحى الله تعالى إليه : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله ؟
فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض ، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : "يا رسول الله متى الساعة ؟
فقال ما أعددت لها ؟
فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام ، إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال عليه الصلاة والسلام : المرء مع من أحب". فقال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك ، وروي أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر ، وقد نحلت أبدانهم ، وتغيرت ألوانهم ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى ؟
فقالوا : الخوف من النار ، فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ، ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام ؟
قالوا ؛ الشوق إلى الجنة ، فقال : حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً ، كأن وجوههم المرايا من النور ، فقال : كيف بلغتم إلى هذه الدرجة ، قالوا : بحب الله فقال عليه الصلاة والسلام : "أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة" ، وعند السدي قال : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها ، فيقال : يا أمة موسى ، ويا أمة عيسى ، ويا أمة محمد ، غير المحبين منهم ، فإنهم ينادون : يا أولياء الله ، وفي بعض الكتب : "عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً".
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
(1/713)
واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة ، لكنهم اختلفوا في معناها ، فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل / تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته ، فإذا قلنا : نحب الله ، فمعناه نحب طاعة الله وخدمته ، أو نحب ثوابه وإحسانه ، وأما العارفون فقد قالوا : العبد قد يحب الله تعالى لذاته ، وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة ، واحتجوا بأن قالوا إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها ، والكمال أيضاً محبوب لذاته ، أما اللذة فإنه إذا قيل لنا : لم تكتسبون ؟
قلنا : لنجد المال ، فإن قيل : ولم تطلبون المال ؟
قلنا : لنجد به المأكول والمشروب ، فإن قالوا : لم تطلبون المأكول والمشروب ؟
قلنا : لتحصل اللذة ويندفع الألم ، فإن قيل لنا : ولما تطلبون اللذة وتكرهون الألم ؟
قلنا : هذا غير معلل ، فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوباً لأجل شيء آخر ، لزم إما التسلسل ، وإما الدور ، وهما محالان ، فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوباً لذاته ، وإذا ثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها/ والألم مطلوب الدفع لذاته ، لا لسبب آخر ، وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء والأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال ، وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم ، واستفنديار ، واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم ، حتى أنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه ، وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح ، وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوباً لذاته ، إذا ثبت هذا فنقول : الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته ، أو على محبة ثوابه ، فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها ، ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته ، أما العارفون الذين قالوا : إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته ، فهم الذين انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته ، وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى ، فإنه لوجوب وجوده : غنى عن كل ما عداه ، وكمال كل شيء فهو مستفاد منه وأنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه والرجل الشجاع لكماله في شجاعته والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال ، فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه كالعدم ، وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم ، فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى ، وأنه محبوب في ذاته ولذاته ، سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره ، واعلم أنك لما وقفت على النكتة في هذا الباب ، فنقول : العبد لا سبيل له إلى الإطلاع على الله سبحانه ابتداء ، بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى ذلك المقام ، فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم ، كان علمه بكماله أتم ، فكان له حبه أتم ، ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى ، فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى ، ثم تحدث هناك حالة أخرى ، وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى ، كثر ترقيه في مقام محبة الله ، فإذا كثر ذلك صار ذلك سبباً لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد ، وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف / القلب بكيفيتها ، واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الإلتفات إلى ما عداه يشغله عن الإلتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله ، ونفرته عما سواه على القلب ، ويشتد كل واحد منهما بالآخر ، إلى أن يصير القلب نفوراً عما سوى الله تعالى ، والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله ، والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيراً بأنوار القدس ، مستضيئاً بأضواء عالم العصمة فانياً عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث وهذا المقام أعلى الدرجات ، وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
(1/714)
المسألة الثانية : في معنى الشوق إلى الله تعالى ، اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ، ولم يدرك من وجه فأما الذي لم يدرك أصلاً ، فلا يشتاق إليه ، فإن لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه ، لم يتصور أن يشتاق إليه ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه ، ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين. أحدهما : أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية. والثاني : أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره ، ولا سائر محاسنه/ فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط ، والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى ، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين ، فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح ، مشوب بشوائب الخيالات ، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات ، وهي مدركات للمعارف الروحانية ، ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة ، وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فبما اتضح اتضاحاً. والثاني : أن الأمور الإلهية لا نهاية لها ، وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها ، وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة ، فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقاً إلى معرفتها ، والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ، ولا يتصور أن يكون في الدنيا ، وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية ، إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته ، وحكمته في أفعاله ، وهي غير متناهية ، والإطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال ، وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى ، واعلم أن ذلك الشوق لذيذ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان ، والحرمان ، والوصول ، والصد آلاماً مخلوطة بلذات ، واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان ، كانت أقوى ، فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر ، فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل ، والبهائم لا تستعد لها أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو.
المسألة الثالثة : في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حباً لله ، أما المتكلمون فقالوا : إن حبهم لله / يكون من وجهين. أحدهما : أنه ما يصدر منهم من التعظيم ، والمدح ، والثناء والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ومحبة غيرهم ليست كذلك. والثاني : أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه ، ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد ، وأما العارفون فقالوا : المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية ، وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد ، فإن قيل : كيف يمكن أن يقال محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ولا يأتون بها إلا لله تعالى ثم يقتلون أنفسهم حباً لله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
والجواب من وجوه. أحدها : أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة ، وعند زوال الحاجة ، يرجعون إلى الأنداد ، قال تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (العنكبوت : 6) إلى آخره والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء ، والكافر قد يعرض عن ربه ، فكان حب المؤمن أقوى. وثانيها : أن من أحب غيره رضي بقضائه ، فلا يتصرف في ملكه ، فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه ، أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه ، وذلك في الجهاد. وثالثها : أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب ، فالذي فعلوه باطل. ورابعها : قال ابن عباس : إن المشركين كانوا يعبدون صنماً ، فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن. وخامسها : أن المؤمنين يوحدون ربهم ، والكفار يعبدون مع الصنم أصناماً فتنقص محبة الواحد ، أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه.
أما قوله تعالى : {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قراءة هذه الآية أبحاثاً :
البحث الأول : قرأ نافع وابن عمر : (ولو ترى) بالتاء المنقوطة من فوق خطاباً للنبي عليه السلام ، كأنه قال : لو ترى يا محمد الذين ظلموا ، والباقون بالياء المنقوطة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال : ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد ، ثم قال بعضهم : هذه القراءة أولى ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ، ويعاينون من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم.
(1/715)
البحث الثاني : اختلفوا في (يرون) فقرأ ابن عامر : (يرون) بضم الياء على التعدية وحجته قوله تعالى : {كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } والباقون (يرون) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.
البحث الثاني : اختلفوا في (أن) فقرأ بعض القراء (إن) بكسر الألف على الاستئناف وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها.
/ البحث الرابع : لما عرفت أن {يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قرىء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت ، وقوله : {أَنَّ الْقُوَّةَ} قرىء تارة بفتح الهمزة من (أن) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
الاحتمال الأول : أن يقرأ {وَلَوْ يَرَى} بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من (أن) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير : ولو يرون أن القوة لله : ومعناه ، ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أنداداً فعلى هذا جواب (لو) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله : {وَلَوْ تَرَى ا إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (الأنعام : 27) ، {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الظَّـالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} (الأنعام : 93) ، {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (الرعد : 31) ويقولون : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذ منه ، قالوا : وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد.
الاحتمال الثاني : أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من (إن) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا : إن القوة لله.
الاحتمال الثالث : أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق ، مع فتح الهمزة من (أن) وهي قراءة نافع وابن عامر قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعاً.
الاحتمال الرابع : أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق ، مع كسر الهمزة ، وتقديره : ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعاً ، وهذا أيضاً تأويل ظاهر جيد.
المسألة الثانية : إن قيل : كيف جاء قوله : {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } وهو مستقبل مع قوله : {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} و(إذ) للماضي ؟
قلنا : إنما جاء على لفظ المضي لأن وقوع الساعة قريب. قال تعالى : {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } (النحل : 77) وقال : {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى : 17) وكل ما كان قريب الوقوع فإنه يجري مجرى ما وقع وحصل وعلى هذا التأويل قال تعالى : {وَنَادَى ا أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ} (الأعراف : 44) وقول المقيم : قد قامت الصلاة يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم للصلاة لقرب ذلك وقد جاء كثير في التنزيل من هذا الباب قال تعالى : {وَلَوْ تَرَى ا إِذْ وُقِفُوا } (الأنعام : 27) ، {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الظَّـالِمُونَ} (سبأ : 31) ، {وَلَوْ تَرَى ا إِذْ فَزِعُوا } (سبأ : 51) ، {وَلَوْ تَرَى ا إِذْ يَتَوَفَّى} (الأنفال : 50).
جزء : 4 رقم الصفحة : 174
179
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتخذ من دون الله أنداداً بقوله : {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} (البقرة : 165) على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرأون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى : {يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} (العنكبوت : 25) وقال أيضاً : {الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف : 67) وقال : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } (الأعراف : 38) وحكى عن إبليس أنه قال : {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {إِذْ تَبَرَّأَ} قولان ، الأول : أنه بدل من : {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} (البقرة : 165). الثاني : أن عامل الإعراب في (إذ) معنى شديد كأنه قال : هو شديد العذاب إذ تبرأ يعني في وقت التبرؤ.
(1/716)
المسألة الثانية : معنى الآية أن المتبوعين يتبرؤن من الأتباع ذلك اليوم فبين تعالى ما لأجله يتبرؤن منهم وهو عجزهم عن تخليصهم من العذاب الذي رأوه لأن قوله : {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ} يدخل في معناه أنهم لم يجدوا إلى تخليص أنفسهم وأتباعهم سبباً ، والآيس من كل وجه يرجو به الخلاص مما نزل به وبأوليائه من البلاء يوصف بأنه تقطعت به الأسباب واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه. أحدها : أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس ، عن قتادة والربيع وعطاء. وثانيها : أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدي. وثالثها : أنهم شياطين الجن والإنس. ورابعها : الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة والأقرب هو الأول لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام ، ويجب أيضاً حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى : {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب : 67) ، وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل ، والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير التبرؤ وجوهاً. أحدها : أن يقع منهم ذلك بالقول. وثانيها : أن يكون نزول العذاب بهم ، وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا. وثالثها : أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول ، لأنه هو الحقيقة في اللفظ.
/ أما قوله تعالى : {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} الواو للحال ، أي يتبرؤون في حال رؤيتهم العذاب وهذا أولى من سائر الأقوال ، لأن في تلك الحالة يزداد الهول والخوف.
أما قوله تعالى : {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه عطف على (تبرأ) وذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال. الأول : أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها/ عن مجاهد وقتادة والربيع. الثاني : الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج. الثالث : الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي. والرابع : العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها ، عن ابن عباس. الخامس : ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم. السادس : المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس. السابع : أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه ، لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال : وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد ، وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر.
المسألة الثانية : الباء في قوله تعالى : {بِهِمُ الاسْبَابُ} بمعنى (عن) كقوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ} أي عنه قال علقمة بن عبدة :
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء.
المسألة الثالثة : أصل السبب في اللغة الحبل قالوا : ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به ، ومنه قوله تعالى : {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ} (الحج : 15) ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب. يقال : ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة ، وقيل للطريق : سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده ، قال تعالى : {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (الكهف : 85) أي طريقاً ، وأسباب السموات : أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها ، قال تعالى مخبراً عن فرعون : {لَّعَلِّى أَبْلُغُ الاسْبَـابَ} (غافر : 36 ، 37) قال زهير :
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
ومن هاب أسباب المنايا تناله
ولو رام أسباب السماء بسلم
والمودة بين القوم تسمى سبباً لأنهم بها يتواصلون.
أما قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة ، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره : فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة.
/ أما قوله : {كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {كَذَالِكَ يُرِيهِمُ} وجهان. الأول : كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات وذلك لانقطاع الرجاء من كل أحد. الثاني : كما أراهم العذاب يريهم الله أعمالهم حسرات ، لأنهم أيقنوا بالهلاك.
(1/717)
المسألة الثانية : في المراد بالأعمال أقوال. الأول : الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي. الثاني : المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها. الثالث : ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم. الرابع : أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم ، والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة ، وهو كفرهم ومعاصيهم ، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم ، وأيقنوا بالجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها ، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به.
المسألة الثالثة : حسرات ثالث مفاعيل : رأى.
المسألة الرابعة : قال الزجاج : الحسرة شدة الندامة حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب ، وهو الذي لا منفعة فيه ، يقال : حسر فلان يحسر حسرة وحسراً إذا اشتد ندمه على أمر فاته ، وأصل الحسر الكشف ، يقال : حسر عن ذراعيه أي كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة ، والحسور : الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر ، قال تعالى : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الأنبياء : 19) والمحسرة المكنسة لأنها تكشف عن الأرض ، والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
أما قوله تعالى : {وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ} فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار فقالوا : إن قوله {وَمَا هُم} تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصاً بهم ، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله : {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} (الانفطار : 14 ـ 16) وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 179
185
اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله ، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أنداداً ، ويتبع رؤساء الكفر أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم ، فقال : {النَّارِ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الارْضِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب ، الوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج.
المسأل الثانية : الحلال المباح الذي انحلت عقدة الخطر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه : حل بالمكان إذا نزل به ، لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة ، وحل من إحرامه ، لأنه حل عقدة الإحرام ، وحلت عليه العقوبة ، أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء ، لأنه يحل عن الطي للبس ، ومن هذا تحلة اليمين ، لأنه عقدة اليمين تنحل به ، واعلم أن الحرام قد يكون حراماً لخبثه كالميتة والدم والخمر ، وقد يكون حراماً لا لخبثه ، كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين.
المسألة الثالثة : قوله (حلالاً طيباً) إن شئت نصبته على الحال مما في الأرض وإن شئت فصبته على أنه مفعول.
/ المسألة الرابعة : الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب ، لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى : {قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} (المائدة : 100) والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويستطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ، لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذه والحرام غير مستلذ ، لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان الأول : أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيباً إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراماً وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة والثاني : المرادمنه المباح وقوله يلزم التكرار قلنا : لا نسلم فإن قوله : {حَلَـالا} المراد منه ما يكون جنسه حلالاً وقوله {طَيِّبًا} المراد منه لا يكون متعلقاً به حق الغير فإن أكل الحرام وإن اسطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطاباً ، كما قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } (النساء : 10).
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
أما قوله تعالى : {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } ففيه مسائل :
(1/718)
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر والكسائي ، وهي إحدى الروايتين عن ابن كثير وحفص عن عاصم {خُطُوَاتِ} بضم الخاء والطاء والباقون بسكون الطاء ، أما من ضم العين فلأن الواحدة خطوة فإذا جمعت حركت العين للجمع ، كما فعل بالإسماء التي على هذا الوزن نحو غرفة وغرفات ، وتحريك العين للجمع كما فعل في نحو هذا الجمع للفصل بين الإسم والصفة ، وذلك أن ما كان اسماً جمعته بتحريك العين نحو تمرة وتمرات وغرفة وغرفات وشهوة وشهوات ، وما كان نعتاً جمع بسكون العين نحو ضخمة وضخمات وعبلة وعبلات ، والخطوة من الأسماء لا من الصفات فيجمع بتحريك العين ، وأما من خفف العين فبقاه على الأصل وطلب الخفة.
المسألة الثانية : قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكى عن الفراء : خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال : حثوت حثوة ، والحثوة اسم لما تحثيت ، وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت ، وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى : لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان ، وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فانهما قالا : خطوات الشيطان طرفه وإن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير : لا تأتموا به ولا تقفوا أثره والمعنيان مقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة ، وأما المعنى فليس مراد الله ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك ، ثم بين العلة في هذا / التحذير ، وهو كونه عدواً مبيناً أي متظاهر بالعداوة ، وذلك لأن الشيطان التزم أموراً سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى : {وَلاضِلَّنَّهُمْ وَلامَنِّيَنَّهُمْ وَلامُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الانْعَـامِ وَلامُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه } (النساء : 119) وثلاثة منها في قوله تعالى : {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَآاـاِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ} (الأعراف : 16 ـ 17) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدواً متظاهراً بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
وأما قوله تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّواءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فهذا كالتفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها : السوء ، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب وثانيها : الفحشاء وهي نوع من السوء ، لأنها أقبح أنواعه ، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي وثالثها : {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وكأنه أقبح أنواع الفحشاء ، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا ، وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه أحدها : اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم إنها حروف وأصوات خفية ، وقال الفلاسفة : إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا ، فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه ، وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
(1/719)
ولقائل أن يقول : صور هذه الحروف وتخيلاتها هل تشبه هذه الحروف في كونها حروفاً أولاً تشبهها ؟
فإن كان الأول فصور الحروف حروف ، فعاد القول إلى أن هذه الخواطر أصوات وحروف خفية ، وإن كان الثاني لم تكن تصورات هذه الحروف حروفاً ، لكني أجد من نفسي هذه الحروف والأصوات مترتبة منتظمة على حسب انتظامها في الخارج ، والعربي لا يتكلم في قلبه إلا بالعربية ، وكذا العجمي ، وتصورات هذه الحروف وتعاقبها وتواليها لا يكون إلا على مطابقة تعاقبها وتواليها في الخارج ، فثبت أنها في أنفسها حروف وأصوات خفية وثانيها : أن فاعل هذه الخواطر من هو ؟
أما على أصلنا وهو أن خالف الحوادث بأسرها هو الله تعالى ، فالأمر ظاهر وأما على أصل المعتزلة فهم لا يقولون بذلك ، وأيضاً فلأن المتكلم عندهم من فعل الكلام فلو كان فاعل هذه الخواطر هو الله تعالى ، وفيها ما يكون كذباً وسخفاً ، لزم كون الله موصوفاً بذلك تعالى الله عنه ، ولا يمكن أن يقال : إن فاعلها هو العبد ، لأن العبد قد يكره حصول تلك الخواطر ، ويحتال في دفعها عن نفسه مع أنها ألبتة لا تندفع ، بل ينجر البعض إلى البعض على سبيل الاتصال ، / فإذن لا بد ههنا من شيء آخر ، وهو إما المك وإما الشيطان ، فلعلهما يتكلمان بهذا الكلام في أقصى الدماغ ، وفي أقصى القلب ، حتى إن الإنسان وإن كان في غاية الصمم ، فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات ثم إن قلنا بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها ، غير متحيزة ألبتة ، لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال ، وإن قلنا بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضاً أن يقال : إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر ، ولا بعد أيضاً أن يقال إنها لغاية لطافتها تقدر على النفوذ في مضايق باطن البشر ومخارق جسمه وتوصل الكلام إلى أقصى قلبه ودماغه ، ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب ، بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالاً لا ينفصل ، فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضايق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى ، ومما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى : {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا } (الأنفال : 12) أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم ، ويدل عليه من الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة" وفي الحديث أيضاً "إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً ، فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر ، والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه" ومن صوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية ، وفسر الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة والشهوانية والغضبية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
المسألة الثاني : دلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة {إِنَّمَا} وهي للحصر ، وقال بعض العارفين : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر وذلك يدل على أنواع : إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر ، وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الاشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} يتناول جميع المذاهب الفاسدة بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلداً للحق لكنه قال ما لا يعلمه فصار مستحقاً للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.
المسألة الرابعة : تمسك نفاة القياس بقوله : {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} والجواب عنه : أنه متى قامت الدلالة على أن العمل بالقياس واجب كان العمل بالقياس قولا على الله بما يعلم لا بما لا يعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 185
188
اعلم أنهم اختلفوا في الضمير في قوله : {لَهُمْ} على ثلاثة أقوال أحدها : أنه عائد على {مِّنْ} في قوله : {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} (البقرة : 165) وهم مشركو العرب ، وقد سبق ذكرهم وثانيها : يعود على {النَّاسُ} في قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} (البقرة : 21) فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة على طريق الإلتفات مبالغة في بيان ضلالهم ، كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون وثالثها : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام ، فقالوا : نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا خير منا ، وأعلم منا ، فعلى هذا الآية مستأنفة ، والكناية في {لَهُمْ} تعود إلى غير مذكور ، إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم ، كما يعود على المذكور ، ثم حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا : {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } وفيه مسائل :
(1/720)
المسألة الأولى : الكسائي يدغم لام {هَلْ} و{بَلْ} في ثمانية أحرف : التاء كقوله {بَلْ تُؤْثِرُونَ} (الأعلى : 16) والنون {بَلْ نَتَّبِعُ} والثاء {هَلْ ثُوِّبَ} (المصطفين : 36) والسين {بَلْ سَوَّلَتْ} (يوسف : 18) والزاي {بَلْ زُيِّنَ} (الرعدة : 33) والضاد {بَلْ ضَلُّوا } (الأحقاف : 28) والظاء {بَلْ ظَنَنتُمْ} والطاء {بَلْ طَبَعَ} (النساء : 155) وأكثر القراء على الإظهار ، ومنهم من يوافقه في البعض ، والإظهار هو الأصل.
المسألة الثانية : {أَلْفَيْنَا} بمعنى وجدنا ، بدليل قوله تعالى في آية أخرى {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } (لقمان : 21) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ } (يوسف : 25) وقوله : {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} (الصافات : 69).
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
المسألة الثالثة : معنى الآية : أن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة فهم قالوا لا نتبع ذلك ، وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا ، فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد ، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله : {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الواو في {أَوَلَوْ} واو العطف ، دخلت عليها همزة الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع ، وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ ، لأنها تقتضي الإقرار بشيء يكون الإقرار به فضيحة ، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.
الثانية : تقرير هذا الجواب من وجوه أحدها : أن يقال للمقلد : هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا ؟
فإن اعترفت بذلك لم نعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً ، فكيف عرفت أنه محق ؟
وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل فذاك كاف ، فلا حاجة إلى التقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم / كونه محقاً ، فاذن قد جوزت تقليده ، وإن كان مبطلاً فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل وثانيها : هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه ألبتة مذهباً ، فأنت ماذا كنت تعمل ؟
فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا وثالثها : أنك إذا قلدت من قبلك ، فذلك المتقدم كيف عرفته ؟
أعرفته بتقليد أم لا بتقليد ؟
فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل ، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل ، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل ، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له ، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً.
المسألة الثالثة : إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان ، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان ، وبين متابع التقليد ، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والإستدلال ، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
المسألة الرابعة : قوله : {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} لفظ عام ، ومعناه الخصوص ، لأنهم كانوا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا ، فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به الخاص.
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
المسألة الخامسة : قوله : {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} المراد أنهم لا يعلمون شيئاً من الدين وقوله تعالى : {وَلا يَهْتَدُونَ} المراد أنهم لا يهتدون إلى كيفية اكتسابه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 188
189
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر ، وأخلدوا إلى التقليد ، وقالو : {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } (البقرة : 170) ضرب لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الإهتمام بالدين ، فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام ، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسراً لقلبه ، وتضييقاً لصدره ، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد ، وههنا مسائل :
/ المسألة الأولى : نعق الراعي بالغنم إذا صاح بها وأما نعق الغراب فبالغين المعجمة.
(1/721)
المسألة الثانية : للعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان أحدهما : تصحيح المعنى بالإضمار في الآية والثاني : إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار ، أما الذين أضمروا فذكروا وجوها الأول : وهو قول الأخفش والزجاج وابن قتيبة ، كأنه قال : ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق ، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزل الداعي إلى الحق ، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر الدعاة إلى الحق وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد ، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول وألفاظه ، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها لا جرم حصل وجه التشبيه الثاني : مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم ، وما يجرى مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم : فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم ، فإذا كان لا شك أن ههنا المحذوف هو المدعو ، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي ، وفيه سؤال ، وهو أن قوله : {إِلا دُعَآءً وَنِدَآءً } لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً الثالث : قال ابن زيد : مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل ، فإنه لا يسمع إلا صدى صوته فإذا قال : يا زيد يسمع من الصدى : يا زيد. فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعو هذه الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 189
الطريق الثاني : في الآية وهو إجراؤها على ظاهرها من غير إضمار وفيه وجهان أحدهما : أن يقول : مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم لهذه الأوثان ، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل ، فكذا ههنا الثاني : مثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم ، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائد ، فكذا التقليد عبث عديم الفائدة.
أما قوله تعالى : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} فاعلم أنه تعالى لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم ، فقال : {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ} لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه وبمنزلة العمى من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها ، قال النحريون {صُمُّ } أي هم صم وهو رفع على الذم ، أما قوله : {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم قال : العقل عقلان مطبوع ومسموع.
ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الإستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل : من فقد حساً فقد علماً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 189
190
اعلم أن هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله : {كُلُوا مِمَّا فِى الارْضِ حَلَـالا طَيِّبًا} (البقرة : 168) ثم نقول : إن الله سبحانه وتعالى تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى ، ومن هنا شرع في بيان الأحكام ، اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الأكل قد يكون واجباً ، وذلك عند دفع الضرر عن النفس ، وقد يكون مندوباً ، وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوب ، وقد يكون مباحاً إذا خلا عن هذه العوارض ، والأصل في الشيء أن يكون خالياً عن العوارض ، فلا جرم كان مسمى الأكل مباحاً وإذا كان الأمر كذلك كان قوله {كُلُوا } في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب على أن الرزق قد يكون حراماً بقوله تعالى : {مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالاً لكان قوله : {مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ} معناه من محللات ما أحللنا لكم ، فيكون تكراراً وهو خلاف الأصل ، أجابوا عنه بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب ، ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه. فأباح الله تعالى ذلك بقوله : كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى.
(1/722)
المسألة الثالثة : قوله : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} أمر : وليس بإباحة فإن قيل : الشكر إما أن يكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح ، أما بالقلب فهو إما العلم بصدور النعمة عن ذلك المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان وبالجوارح ، أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك فإذا كان ذلك العلم ضرورياً فكيف يمكن إيجابه ، وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح فذلك العزم القلبي مع الإقرار بالسان والعمل بالجوارح ، فإذا بينا أنهما لا يجيبان كان العزم بأن لا يجب أولى ، وأما الشكر باللسان فهو إما أن يقر بالاعتراف له بكونه منعما أو بالثناء عليه فهذا غير واجب بالاتفاق بل هو من باب المندوبات ، وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضاً غير واجب ، وإذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لا يمكن القول بوجوب الشكر / قلنا الذي تلخص في هذا الباب أنه يجب عليه اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم وإظهار ذلك باللسان أو بسائر الأفعال إن وجدت هناك تهمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
أما قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوها أحدها : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} إن كنتم عارفين بالله وبنعمه ، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته ، إطلاقاً لإسم الأثر على المؤثر وثانيها : معناه : إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه ، فإن الشكر رأس العبادات وثالثها : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الذي رزقكم هذه النعم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ، وأزرق ويشكر غيري".
المسألة الثانية : احتج من قال : إن المعلق بلفظ : أن ، لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية ، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة {ءَانٍ} على فعل العباد ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
أما قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوها أحدها : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} إن كنتم عارفين بالله وبنعمه ، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته ، إطلاقاً لإسم الأثر على المؤثر وثانيها : معناه : إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه ، فإن الشكر رأس العبادات وثالثها : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الذي رزقكم هذه النعم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ، وأزرق ويشكر غيري".
المسألة الثانية : احتج من قال : إن المعلق بلفظ : أن ، لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية ، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة {ءَانٍ} على فعل العباد ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
أما قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في هذه الآية وجوها أحدها : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} إن كنتم عارفين بالله وبنعمه ، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته ، إطلاقاً لإسم الأثر على المؤثر وثانيها : معناه : إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه ، فإن الشكر رأس العبادات وثالثها : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الذي رزقكم هذه النعم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ، وأزرق ويشكر غيري".
المسألة الثانية : احتج من قال : إن المعلق بلفظ : أن ، لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية ، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة {ءَانٍ} على فعل العباد ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 190
191
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمرنا في الآية السالفة بتناول الحلال فصل في هذه الآية أنواع الحرام ، والكلام فيها على نوعين النوع الأول : ما يتعلق بالتفسير والنوع الثاني : ما يتعلق بالأحكام التي استنبطها العلماء من هذه الآية "فالنوع الأول" فيه مسائل :
(1/723)
المسألة الأولى : اعلم أن كلمة {إِنَّمَا} على وجهين أحدهما : أن تكون حرفاً واحداً ، كقولك : إنما داري دارك ، وإنما مالي مالك الثاني : أن تكون {مَّآ} منفصلة من : إن ، وتكون {مَّآ} بمعنى الذي ، كقولك : إن ما أخذت مالك ، وإن ما ركبت دابتك ، وجاء في التنزيل على الوجهين ، أما على الأول فقوله : {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } وأما على الثاني فقوله : {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَـاحِرٍ } (طه : 69) ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل {إِنَّمَا} حرفاً واحداً كان صواباً ، وقوله : {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} (العنكبوت : 25) تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين ، واختلفوا في حكمها على الوجه الأول ، فمنهم من قال {إِنَّمَا} تفيد الحصر واحتجو عليه بالقرآن والشعر / والقياس ، أما القرآن فقوله تعالى : {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } (النساء : 171) أي ما هو إلا إله واحد ، وقال : {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ} (التوبة : 60) أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد : {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف : 110) أي ما أنا إلا بشر مثلكم ، وكذا هذه الآية فإنه تعالى قال في آية أخرى {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه ا إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} (الأنعام : 145) فصارت الآيتان واحدة فقوله : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} في هذه الآية مفسر لقوله : {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إلا كذا في تلك الآية ، وأما الشعر فقوله الأعشى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقول الفرزق :
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابه أنا أو مثلى
وأما القياس ، فهو أن كلمة {ءَانٍ} للإثبات وكلمة {مَّآ} للنفي فإذا اجتمعا فلا بد وأن يبقيا على أصليهما ؛ فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور ، ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق ، أو ثبوت المذكور ، ونفي غير المذكور وهو المطلوب ، واحتج من قال : إنه لا يفيد الحصر بقوله تعالى : {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } ولقد كان غيره نذيراً ، وجوابه معناه : ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر ، ولا ينفي وجود نذير آخر.
المسألة الثانية : قرىء {حَرَّمَ} على البناء للفاعل و{حَرَّمَ} للبناء للمفعول و{حَرَّمَ} بوزن كرم.
المسألة الثالثة : قال الواحدي : الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح ، وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها ، فحرم الله الدم وقوله : {لَحْمَ خِنزِيرٍ} أراد الخنزير بجميع أجزائه ، لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل وقوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه } قال الأصمعي : الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل ، وقال ابن أحمر :
يهل بالفدفد ركبانها
كما يهل الراكب المعتمر
هذا معنى الإهلال في اللغة ، ثم قيل للمحرم مهل لرفعه الصوت بالتلبية عند الإحرام ، هذا معنى الإهلال ، يقال : أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها ، وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام ، والذابح مهل ، لأن العرب كانوا يسمون الأوثان عند الذبح ، ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه : استهل الصبي ، فمعنى قوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه } يعني ما ذبح للاصنام ، وهو قول مجاهد ، والضحاك وقتادة ، وقال الربيع بن أنس وابن زيد : يعني ما ذكر عليه غير اسم الله ، وهذا القول أولى ، لأنه أشد مطابقة للفظ ، قال العلماء : لو أن مسلماً ذبح ذبيحة ، وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله. صار مرتداً وذبيحته ذبيح مرتد ، وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب ، أما ذبائح / أهل الكتاب ، فتحل لنا لقوله تعالى : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة : 5).
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
أما قوله تعالى : {فَمَنِ اضْطُرَّ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر والكسائي : {فَمَنِ اضْطُرَّ} بضم النون والباقون بالكسر ، فالضم للاتباع ، والكسر على أصل الحركة لإلتقاء الساكنين.
المسألة الثانية : اضطر : أحوج وألجىء ، وهو افتعل من الضرورة ، وأصله من الضرر ، وهو الضيق.
المسألة الثالثة : لما حرم الله تعالى تلك الأشياء ، استثنى عنها حال الضرورة ، وهذه الضرورة لها سببان أحدهما : الجوع الشديد ، وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق ، فعند ذلك يكون مضطراً الثاني : إذا أكرهه على تناوله مكره ، فيحل له تناوله.
(1/724)
المسألة الرابعة : أن الاضطرار ليس من أفعال المكلف ، حتى يقال إنه {فَلا إِثْمَ عَلَيْه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإذن لا بد ههنا من إضمار وهو الأكل والتقدير : فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف ههنا كالحذف في قوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (البقرة : 184) أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِه أَذًى مِّن رَّأْسِه فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} (البقرة : 196) ومعناه فحلق ففدية ، وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف ، ولدلالة الخطاب عليه.
أما قوله تعالى : {غَيْرَ بَاغٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء {غَيْرَ} ههنا لا تصلح أن تكون بمعنى الاستثناء ، لأن غير ههنا بمعنى النفي ، ولذلك عطف عليها لا لأنها في معنى : لا ، وهي ههنا حال للمضطر ، كأنك قلت : فمن اضطر باغياً ، ولا عادياً فهو له حلال.
المسألة الثاني : أصل البغي في اللغة الفساد ، وتجاوز الحد قال الليث : البغي في عدو الفرس اختيال ومروح ، وأنه يبغي في عدوه ولا يقال : فرس باغ ، والبغي الظلم والخروج عن الإنصاف ومنه قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} (الشورى : 39) وقال الأصمعي : بغي الجرح يبغي بغيا ، إذا بدأ بالفساد ، وبغت السماء ، إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحد ، وبغي الجرح والبحر والسحاب إذا طغى.
أما قوله تعالى : {وَلا عَادٍ} فالعدو هو التعدي في الأمور ، وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه ، يقال عدا عليه عدوا ، وعدوانا ، واعتداء وتعديا ، إذا ظلمه ظلماً مجاوزاً للحد ، وعدا طوره : جاوز قدره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
المسألة الثالثة : لأهل التأويل في قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} قولان أحدهما : أن يكون قوله {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} مختصاً بالأكل والثاني : أن يكون عاما في الأكل وغيره ، أما على القول الأول / ففيه وجوه الأول : {غَيْرَ بَاغٍ} وذلك بأن يجد حلالاً تكرهه النفس ، فعدل إلى أكل الحرام اللذيذ {وَلا عَادٍ} أي متجاوز قدر الرخصة الثاني : غير باغ للذة أي طالب لها ، ولا عاد متجاوز سد الجوعة ، عن الحسن ، وقتاد ، والربيع ، ومجاهد ، وابن زيد الثالث : غير باغ على مضطر آخر بالاستيلاء عليه ، ولا عاد في سد الجوعة.
القول الثاني : أن يكون المعنى غير باغ على إمام المسلمين في السفر من البغي ، ولا عاد بالمعصية أي مجاوز طريقة المحقين ، والكلام في ترجيح أحد هذين التأويلين على الآخر سيجيء إن شاء الله تعالى.
أما قوله : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } ففيه سؤالان أحدهما : أن الأكل في تلك الحالة واجب وقوله : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } يفيد الإباحة الثاني : أن المضطر كالملجأ إلى الفعل والملجأ لا يوصف بأنه لا إثم عليه ، قلنا : قد بينا في تفسير قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (البقرة : 158) أن نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح ، وأيضاً فقوله تعالى : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } معناه رفع الحرج والضيق ، واعلم أن هذا الجائع إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل فيه النفرة الشديدة فإنه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرمق كما يصير ملجأ إلى الهرب من السبع إذا أمكنه ذلك ، أما إذا حصلت النفرة الشديدة فإنه بسبب تلك النفرة يخرج عن أن يكون ملجأ ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النفار ، وههنا يتحقق معنى الوجوب.
أما قوله تعالى : في آخر الآية : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ففيه إشكال وهو أنه لما قال : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } فكيف يليق أن يقول بعده : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم.
والجواب : من وجوه أحدهما : أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم ، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض ، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر بعده أنه رحيم ، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك وثانيها : لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة ، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة ، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة وثالثها : أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفوراً رحيماً لأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
النوع الثاني : من الكلام في هذه الآية المسائل الفقهية التي استنبطها العلماء منها وهي مرتبة على فصول :
الفصل الأول
فيما يتعلق بالميتة
والكلام فيه مرتب على مقدمة ومقاصد :
/ أما المقدمة : ففيها ثلاث مسائل :
(1/725)
المسألة الأولى : اختلفوا في أن التحريم المضاف إلى الأعيان ، هل يقتضي الإجمال ؟
فقال الكرخي : إنه يقتضي الإجمال ، لأن الأعيان لا يمكن وصفها بالحل والحرمة ، فلا بد من صرفهما إلى فعل من أفعالنا فيها ، وليست جميع أفعالنا فيها محرمة لأن تبعيدها عن النفس وعما يجاوز المكان فعل من الأفعال فيها ، وهو غير محرم ، فإذن لا بد من صرف هذا التحريم إلى فعل خاص ، وليس بعض الأفعال أولى من بعض فوجب صيرورة الآية مجملة ، وأما أكثر العلماء فإنهم أصروا على أنه ليس من المجملات بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما أن الذوات لا تملك وإنما يملك التصرفات فيها ، فإذا قيل فلان يملك جارية فهم كل أحد أنه يملك التصرف فيها فكذا هنا ، وقد استقصينا الكلام فيه من كتاب المحصول في علم الأصول.
المسألة الثانية : لما ثبت الأصل الذي قدمناه وجب أن تدل الآية على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص/ فإن قيل : لم لا يجوز تخصيص هذا التحريم بالأكل ، والذي يدل عليه وجوه أحدها : أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وثانيها : أنه ورد عقيب قوله : {كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ } (البقرة : 57) وثالثها : ما روي عن الرسول عليه السلام في خبر شاة ميمونة ، إنما حرم من الميتة أكلها.
والجواب عن الأول : لا نسلم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم أكلها وعن الثاني : أن هذه الآية مستقلة بنفسها فلا يجب قصرها على ما تقدم ، بل يجب إجراؤها على ظاهرها وعن الثالث : أن ظاهر القرآن مقدم على خبر الواحد ، لكن هذا إنما يستقيم إذا لم يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد ، ويمكن أن يجاب عنه بأن المسلمين إنما رجعوا في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية ، فدل إنعقاد اجماعهم على أنها غير مخصوصة ببيان حرمة الأكل ، وللسائل أن يمنع هذا الإجماع.
المسألة الثالثة : الميتة من حيث اللغة هو الذي خرج من أن يكون حيا من دون نقض بنية ولذلك فرقوا بين المقتول والميت ، وأما من جهة الشرع فهو غير المذكي إما لأنه لم يذبح أو أنه ذبح ولكن لم يكن ذبحه ذكاة وسنذكر حد الزكاة في موضعه ، فإن قيل : كيف يصح ذلك وقد قال تعالى في سورة المائدة : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} (المائدة : 3) ثم ذكر من بعده المنخنقة والموقوذة والمتردي فدل هذا على أن غير المذكى منه ما هو ميتة ومنه ما ليس كذلك ، قلنا لعل الأمر كان في ابتداء الشرع على أصل اللغة ، وأما بعد استقرار الشرع فالميتة ما ذكرناه والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
أما المقاصد فاعلم أن الخطأ في المسائل المستنبطة من هذه الآية من وجهين أحدهما : ما أخرجوه عن الآية وهو داخل فيها والثاني : ما أدخلوه فيها وهو خارج عنها.
أما القسم الأول ففيه مسائل :
/ المسألة الأولى : ذهب الشافعي رضي الله عنه في أظهر أقواله إلى أنه يحرم الانتفاع بصوف الميتة وشعرها وعظمها وقال مالك : يحرم الانتفاع بعظمها خاصة وجل الفقهاء اتفقوا على تحريم الانتفاع بشعر الخنزير ، واحتج هؤلاء بأن هذه الأشياء ميتة فوجب أن يحرم الانتفاع بها ، إنما قلنا إنها ميتة لقوله عليه السلام : "ما أبين من حي فهو ميت" وهذا الخبر يعم الشعر والعظم والكل وأما الذي يدل على أن العظم ميتة خاصة فقوله تعالى : {مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} (يس : 78) فثبت أنها كانت حية فعند الموت تصير ميتة وإذا ثبت أنها ميتة وجب أن يحرم الانتفاع بها لقوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} اعترض المخالف عليه بأن الشعر والصوف لا حياة فيه ، لأن حكم الحياة الإدراك والشعور وذلك مفقود في الشعر ولأجل هذا الكلام ذهب مالك إلى تنجيس العظام دون الشعور.
(1/726)
والجواب : أن الحياة ليست عبارة عن المعنى المقتضى للإدراك والشعور بدليل الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى : {كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } (الروم : 50) وأما الخبر فقوله عليه السلام : "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فعلمنا أن الحياة في أصل اللغة ليست عبارة عما ذكرتموه ، بل عن كون الحيوان أو النبات صحيحا في مزاجه معتدلا في حاله غير معترض للفساد والتعفن والتفرق ، وإذا ثبت ذلك ظهر اندراجه تحت الآية ، واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر والإجماع والقياس ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَـاثًا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ} (النحل : 80) حيث ذكرها في معرض المنة ، والامتنان لا يقع بالنجس الذي لا يحل الانتفاع به ، وأما الخبر فقوله عليه السلام في شاة ميمونة "إنما حرم من الميتة أكلها" وأما الإجماع ، فهو أنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ، ويجعلون منها القلانس/ وعن النخعي : كانوا لا يرون بجلود السباع وجلود الميتة إذا دبغت بأساً ، وما خصوا حال الشعر وعدمه وقول الشافعي : كانوا إشارة إلى الصحابة وليس لأحد أن يقول الثعلب عند الشافعي رضي الله عنه حلال ، فلهذا يقول بإباحته لأن الزكاة شرط بالاتفاق وهو غير حاصل في هذه الثعالب ، وأما القياس فلأن هذه الشعور والعظام أجسام منتفع بها غير متعرضة للتعفن والفساد ، فوجب أن يقضي بطهارتها كالجلود المدبوغة ، وأما النفع بشعر الخنزير : ففي الفقهاء من منع نجاسته وهو الأسلم ، ثم قالوا : هب أن عموم قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} يقتضي حرمة الانتفاع بالصوف والعظم وغيرهما إلا أن هذه الدلائل تنتج الانتفاع بها ، والخاص مقدم على العام فكان هذا الجانب أولى بالرعاية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : إذا مات في الماء دابة ليس لها نفس سائلة لم يفسد الماء قل أو كثر ، وللشافعي رضي الله عنه قولان في الماء القليل ، واحتجوا للشافعي ، بأنها يحوانات فإذا ماتت صارت ميتة فيحرم استعمالها بمقتضى الآية ، وإذا حرم استعمالها بمقتضى الآية وجب الحكم بنجاستها ، وإذا ثبت الحكم بنجاستها ، وجب الحكم بنجاسة الماء القليل الذي / وقعت هي فيه ، وأجابوا عنه بأنه ميتة ، ويحرم الانتفاع بها ولكن لم قلتم إنها متى كانت كذلك كانت نجسة ، ثم لم يلزم من نجاستها تنجس الماء بها ، واحتجوا على القول الثاني للشافعي رضي الله عنه بقوله عليه السلام : "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء" وأمر بالمقل فربما كان الطعام حارآ فيموت الذباب فيه فلو كان ذلك سبباً للتنجيس لما أمر النبي عليه السلام به.
المسألة الثالثة : للفقهاء مذاهب سبعة في أمر الدباغ ، فأوسع الناس فيه قولا الزهري ، فإنه يجوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ، ويليه داود فإنه قال تطهر كلها بالدباغ ، ويليه مالك فإنه قال يطهر ظاهرها دون باطنها ، ويليه أبو حنيفة فإنه قال يطهر كلها إلا جلد الخنزير ، ويليه الشافعي فإنه قال يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير ، ويليه الأوزاعي وأبو ثور فإنهما يقولان : يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ، ويليه أحمد بن حنبل رضي الله عنهم فإنه قال : لا يطهر منها شيء بالدباغ ، واحتج أحمد بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (المائدة : 3) أطلق التحريم وما قيده بحال دون حال ، وأما الخبر فقول عبد الله بن حكيم : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل وفاته أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ، أجابوا عن التمسك بالآية ، بأن تخصيص العموم بخبر الواحد وبالقياس جائز ، وقد وجدا ههنا خبر الواحد فقوله عليه الصلاة والسلام : أيما إهاب دبغ فقد طهر" وأما القياس : فهو أن الدباغ يعود الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة وكما كان حال الحياة طاهراً كذلك بعد الدباغ وهذا القياس والخبر هما معتمد الشافعي رحمه الله.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة ، بإطعام البازي والبهيمة ، فمنهم من منع منه لأنه إذا أطعم البازي ذلك فقد انتفع بتلك الميتة والآية دالة على تحريم الانتفاع بالميتة فاما إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة فهل يجب علينا منعه أم لا فيه احتمالان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
(1/727)
المسألة الخامسة : اختلفوا في دهن الميتة وودكها هل يجوز الاستصباح به أم لا ، وهذا ينظر فيه فإن كان ذلك مما حلته الحياة ، أو في جملته ما هو هذا حاله ، فالظاهر يقتضي المنع منه وإن لم يكن كذلك فهو خارج من جملة الميتة ، وإنما يحرم ذلك الدليل سوى الظاهر ، وعن عطاء بن جابر قال لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلّم مكة أتاه الذين يجمعون الأوداك/ فقالوا يا رسول الله إنا نجمع الأوداك وهي من الميتة وغيرها وإنما هي للأديم والسفن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" فنهاهم عن ذلك وأخبرهم بأن تحريمه إياها على الإطلاق أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها.
المسألة السادسة : الظاهر يقتضي حرمة السمك والجراد إلا أنهما خصا بالخبر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : "أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالجراد والنون / وأما الدمان فالطحال والكبد" وعن جابر في قصة طويلة : أن البحر ألقى إليهم حوتاً فأكلوا منه نصف شهر ، فلما رجعوا أخبروا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فقال : هل عندكم منه شيء تطعموني ، وقال عليه الصلاة والسلام في صفة البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وأيضاً فإنه ثبت بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام : حل السمك ، واختلفوا في السمك الظافي وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه ، فقال مالك والشافعي رضي الله عنهما لا بأس به ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح إنه مكروه واختلف الصحابة في هذه المسألة فعن علي رضي الله عنه أنه قال : ما طفا من صيد البحر فلا نأكله ، وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبي أيوب إباحته ، وروى أبو بكر الرازي روايات مختلفة عن جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال : "ما ألقى البحر أو جرد عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه" وأما الشافعي رضي الله عنه فقد احتج بالآية والخبر والمعقول ، أما الآية فقوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه } (المائدة : 96) وهذا السمك الطافي من طعام البحر فوجب حله ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : "أحلت لنا ميتتنان السم والجراد" وهذا مطلق ، وقوله في البحر : "هو الطهور ماؤه الحل ميتتة" وهذا عام وروي عن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : "كل ما طفا على البحر".
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
المسألة السابعة : قال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما : لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ، وروي عن مالك رضي الله عنه أن ما وجد ميتاً لا يحل ، وأما ما أخذ حيا ثم قطع رأسه وشوي أكل ، وما أخذ حيا فغفل عنه حتى يموت لم يؤكل حجة مالك ظاهر الآية ، وحجة الشافعي وأبي حنيفة قوله عليه السلام : "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد" فوجب حملهما على الإطلاق فتبين بذلك أن قطع رأسه إن جعل له ذكاة فهو كالشاة المذكاة في أنه لا يكون ميتة ، فلا يكون لقوله عليه السلام "أحلت لنا ميتتان" فائدة وقال عبد الله بن أبي أوفي : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره ، فلم يفرق بين ميتة وبين مقتولة.
المسألة الثامنة : اختلفوا في الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذبح الأم ، فقال أبو حنيفة ، لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح ، وهو قول حماد ، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : أنه يؤكل وهذا هو المروى عن علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وقال مالك : إن تم خلقه ونبت شعره أكل ، وإلا لم يؤكل ، وهو قول سعيد بن المسيب ، واحتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية وهو أنه ميتة ، فوجب أن يحرم ، قال الشافعي ، أخصص هذا العموم بالخبر والقياس ، أما الخبر فهو أنا أجمعنا على أن المذكى مباح وهذا مذكى ، لما روى أبو سعيد الخدري ، وأبو الدرداء ، وأبو أمامة ، وكعب بن مالك ، وابن عمر وأبو أيوب ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : / "ذكاه الجنين ذكاة أمه" وتقريره أن كون الذكاة سبباً للإباحة حكم شرعي ، فجاز أن تكون ذكاة الجنين حاصلة شرعاً بتحصيل ذكاة أمه/ أجاب الحنفيون بأن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه ، يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له ، ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكي أمه ، وأنه لا يؤكل بغير ذكاة ، كقوله تعالى : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ} (آل عمران : 133) ومعناه كعرض السموات والأرض ، وكقول القائل : قولي قولك ، ومذهبي مذهبك ، وإنما المعنى : قولي كقولك ، ومذهبي كمذهبك ، وقال الشاعر :
فعيناك عيناها
وجيدك جيدها
(1/728)
وإذا ثبت ما ذكرنا كان أحد ، الإحتمالين إيجاب تذكيته ، وأنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه ، والآخر أن ذكاة أمه تبيح أكله ، وإذا كان كذلك لم يجز تخصيص الأمر بل يجب حمله على المعنى الموافق للآية ، أجاب الشافعي رضي الله عنه من وجوه أحدها : أن على الإحتمال الذي ذكرتموه لا بد فيه من إضمار وهو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه ، والإضمار خلاف الأصل وثانيها : أنه لا يسمى جنيناً إلا حال كونه في بطن أمه ، ومتى ولد لا يسمى جنيناً ، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أثبت له الذكاة حال كونه جنيناً ، فوجب أن يكون في تلك الحالة مذكي بذكاتها وثالثها : أن حمل الخبر على ما ذكرت من إيجاب ذكاته إذا خرج حياً تسقط فائدته ، لأن ذلك معلوم قبل وروده ورابعها : ما روي عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الجنين يخرج ميتاً ، قال : إن شئتم فكلوه ، فإن ذكاته ذكاة أمه ، وأما القياس فمن وجوه أحدهما : أنا أجمعنا على أن من ضرب بطن امرأته فماتت وألقيت جنيناً ميتاً ، لم ينفرد الجنين بحكم نفسه ، ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة ، فكذلك جنين الحيوان إذا مات عن ذبح أمه وخرج ميتاً ، كان تبعاً للأم في الذكاة ، وإذا خرج حياً لم يؤكل حتى يذكى وثانيها : أن الجنين حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها فوجب أن يحل بذكاتها كسائل الأعضاء وثالثها : الواحب في الولد أن يتبع الأم في الذكاة ، كما يتبع الولد الأم في العتاق والإستيلاد والكتابة ونحوها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
المسألة التاسعة : ما قطع من الحي من الأبعاض فهو محرم لأنه ميتة ، فوجب أن يكون حراماً إنما قلنا : إنه ميتة ، للنص والمعقول ، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام : "ما أبين من حي فهو ميت" وأما المعقول فهو أن ذلك البعض كان حياً لأنه يدرك الألم واللذة ، وبالقطع زال ذلك الوصف فصار ميتاً ، فوجب أن يحرم لقوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (المائدة : 3).
المسألة العاشرة : اختلفوا في أن ذبح ما لا يؤكل لحمه هل يستعقب طهارة الجلد ، فعند الشافعي رضي الله عنه ، لا يستعقبه ، لأن هذا الذبح لا يستعقب حل الأكل فوجب أن لا يستعقب الطهارة كذبح المجوسي ، وعند أبي حنيفة يستعقبه.
/ القسم الثاني : مما دخل في الآية وليس منها ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله تعالى : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} و{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} لا يقتضي تحريم ما مات فيه من المائعات ، وإنما يقتضي تحريم عين الميتة ، وما جاور الميتة فلا يسمى ميتة ، فلا يتناوله لفظ التحريم ، كالسمن إذا وقعت فيه فأرة وماتت فإنه لا يتناولها ، هذا الظاهر وجملة الكلام في هذا الباب تدور على فصلين أحدهما : أما الذي ينجس بمجاورته الميتة فيحرم ، وأما الذي لا ينجس فلا يحرم والثاني : أن الذي ينجس كيف الطريق إلى تطهيره ؟
المسألة الثانية : سأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات ، فقال أبو حنيفة لأصحابه : ما ترون فيها ؟
فذكروا له عن ابن عباس : أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل ويراق المرق ، فقال أبو حنيفة بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها كما في هذه الرواية وإن كان وقع في حال غليانها : لم يؤكل اللحم ولا المرق ، قال ابن المبارك : ولم ذاك ؟
قال : لأنه إذا سقط فيها في غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم ، وإذا وقع فيها حال سكونها فمات فإنما رشحت الميتة اللحم ، قال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين : هذا زرين ، بالفارسية يعني المذهب ، وروى ابن المبارك مثل هذا عن الحسن.
المسألة الثالثة : قال أبو حنيفة لبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهرتان ، وقال الشافعي ومالك : لا يحل هذا اللبن والأنفحة ، وقال الليث : لا تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة ، واعلم أن الشافعي رضي الله عنه لا يتمسك في هذه المسألة بظاهر قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} لأن اللبن لا يوصف بأنه ميتة ، فوجب الرجوع فيه نفياً وإثباتاً إلى دليل آخر ، ومعتمد الشافعي أن اللبن لو كان مجموعاً في إناء فسقط فيه شيء من الميتة ينجس فكذلك إذا ماتت وهو في ضرعها ، وهكذا الخلاف في الأنفحة ، أما البيض إذا أخرج من جوف الدجاج فهو طاهر إذا غسل ، ويحل أكله لأن القشرة إذا صلبت حجزت بين المأكول وبين الميتة فتحل ، ولذلك لو كانت البيضة غير منعقدة لحرمت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
ولنختم هذا الفصل بمسائل مشتركة بين القسمين.
المسألة الأولى : اختلف المتكلمون في أن الميتة هل تكون ميتة بمعنى الموت ، فمنهم من أثبت الموت بمعنى مضاد للحياة ، على ما قال تعالى : {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ} (الملك : 2) ومنهم من قال : إنه عدم الحياة عما من شأنه أن يقبل الحياة وهذا أقرب.
(1/729)
المسألة الثانية : اختلفوا في أن حرمة الميتة هل تقتضي نجاستها ، والحق أن حرمة الانتفاع لا تقتضي النجاسة ، لأن لا يمتنع في العقل أن يحرم الانتفاع بها ، ويحل الانتفاع بما جاورها ، إلا أنه قد ثبت بالإجماع أن الميتة نجسة.
الفصل الثاني
في تحريم الدم ، وفيه مسألتان
المسألة الأولى : الشافعي رضي الله عنه حرم جميع الدماء سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بمحرم ، أما الشافعي فإنه تمسك بظاهر هذه الآية ، وهو قوله : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} وهذا دم فوجب أن يحرم ، وأبو حنيفة تمسك بقوله تعالى : {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه ا إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} (الأنعام : 145) فصرح بأنه لم يجد شيئاً من المحرمات إلا هذه الأمور ، فالدم الذي لا يكون مسفوحاً وجب أن لا يكون محرماً بمقتضى هذه الآية فإذن هذه الآية خاصة وقوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} عام والخاص مقدم على العام ، أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قوله : {قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية ، بل على أنه تعالى ما بين له إلا تحريم هذه الأشياء ، وهذا لا ينافي أن يبين له بعد ذلك تحريم ما عداها ، فلعل قوله تعالى : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} نزلت بعد ذلك ، فكان ذلك بياناً لتحريم الدم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح ، إذا ثبت هذا وجب الحكم بحرمة جيمع الدماء ونجاستها فتجب إزالة الدم عن اللحم ما أمكن ، وكذا في السمك ، وأي دم وقع في الماء والثوب فإنه ينجس ذلك المورود.
المسألة الثانية : اختلفوا في قوله عليه الصلاة والسلام : "أحلت لنا ميتتان ودمان الطحال والكبد" هل يطلق اسم الدم عليهما فيكون استثناء صحيحاً أم لا ؟
فمنهم من منع ذلك لأن الكبد يجري مجرى اللحم وكذا الطحال وإنما يوصفان بذلك تشبيهاً ، ومنهم من يقول هو كالدم الجامد ويستدل عليه بالحديث.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
الفصل الثالث
في الخنزير/ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن معظم الإنتفاع متعلق به ، وهو كقوله : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ} (الجمعه : 9) فخص البيع بالنهي لما كان هو أعظم المهمات عندهم ، أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمة وتنجيسه ، واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز ، فقال أبو حنيفة ومحمد : يجوز ، وقال الشافعي رحمه الله : لا يجوز ، وقال أبو يوسف : أكره الخرز به ، وروى عنه الإباحة ، حجة أبي حنيفة ومحمد أنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من / غير نكير ظهر منهم ، ولأن الحاجة ماسة إليه ، وإذا قال الشافعي في دم البراغيث ، أنه لا ينجس الثوب لمشقة الإحتراز فهلا جاز مثله في شعر الخنزير إذا خرز به ؟
.
المسألة الثانية : اختلفوا في خنزير الماء ، قال ابن أبي ليلى ومالك والشافعي والأوزاعي : لا بأس يأكل شيء يكون في البحر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل ، حجة الشافعي قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه } (المائدة : 96) وحجة أبي حنيفة أن هذا خنزيرفيحرم لقوله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} (المائدة : 13) وقال الشافعي : الخنزير إذا أطلق فإنه يتبادر إلى الفهم خنزير البر لا خنزير البحر ، كما أن اللحم إذا أطلق يتبادر إلى الفهم لحم غير السمك لا لحم السمك بالاتفاق ولأن خنزير الماء لا يسمى خنزيراً على الإطلاق بل يسمى خنزير الماء.
المسألة الثالثة : للشافعي رضي الله عنه قولان : في أنه هل يغسل الإناء من ولغ الخنزير سبعاً ؟
أحدها : نعم تشبيها له بالكلب والثاني : لا لأن ذلك التشديد إنما كان فطما لهم عن مخالطة الكلاب وهم ما كانوا يخالطون الخنزير فظهر الفرق.
الفصل الرابع
في تحريم ما أهل به لغير الله
(1/730)
من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم ، كقوله تعالى : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى} (المائدة : 3) وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله ، فوجب أن يحرم وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فقلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون ، واحتج المخالف بوجوه الأول : إنه تعالى قال : {الطَّيِّبَـاتُا وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة : 5) وهذا عام ، الثاني : أنه تعالى قال : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فدل على أن المراد بقوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه } هو المراد بقوله : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} الثالث : أن النصراني إذا سمى الله تعالى وإنما يريد به المسيح فإذا كانت إرادته لذلك لم تمنع حل ذبيحته مع أنه يهل به لغير الله فكذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله وإرادته المسيح.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
والجواب عن الأول : أن قوله : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ} عام وقوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه } خاص والخاص مقدم على العام وعن الثاني : أن قوله : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} لا يقتضي تخصيص قوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه } لأنهما آيتان متباينتان ولا مساواة بينهما وعن / الثالث : أنا إنما كلفنا بالظاهر لا بالباطن ، فإذا ذبحه على اسم الله وجب أن يحل ، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
الفصل الخامس
القائلون بأن كلمة {إِنَّمَا} للحصر اتفقوا على أن ظاهر الآية يقتضي أن لا يحرم سوى هذه الأشياء لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات فتصير كلمة {إِنَّمَا} متروكة الظاهر في العمل ومن قال إنها لا تفيد الحصر فالإشكال زائل.
الفصل السادس
في "المضطر" وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الشافعي رضي الله عنه : قوله تعالى : {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} معناه أن من كان مضطرًّ ولا يكون موصوفاً بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان ألبتة فأكل ، فلا إثم عليه وقال أبو حنيفة معناه فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل ويتفرع على هذا الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا ؟
فقال الشافعي رضي الله عنه لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان فلا يندرج تحت الآية وقال أبو حنيفة بل يترخص لأنه مضطر غير باغ ولا عاد في الأكل فيندرج تحت الآية ، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وبالمعقول ، أما الآية فهي أنه سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء على الكل بقوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} (المائدة : 3) ثم أباحها للمضطر الذي يكون موصوفاً بإنه غير باغ ولا عاد ، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة لأن قولنا : فلان ليس بمتعد نقيض لقولنا : فلان متعد ويكفي في صدقة كونه متعدياً في أمر ما من الأمور سواء كان في السفر ، أو في الأكل ، أو في غيرهما ، وإذا كان اسم المتعدي يصدق بكونه متعدياً في أمر ما أي أمر كان وجب أن يكون قولنا : فلان غير معتدلا يصدق إلا إذا لم يكن متعدياً في شيء من الأشياء ألبتة ، فاذن قولنا : غير باغ ولا عاد لا يصدق إلا إذا انتفى عنه صفة التعدي من جميع الوجوه ، والعاصي بسفره متعد بسفره ، فلا يصدق عليه كونه غير عاد ، وإذا لم يصدق عليه ذلك وجب بقاؤه تحت الآية وهو قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} أقصى ما في الباب أن يقال : هذا يشكل بالعاصي في سفره ، فإنه يترخص مع أنه موصوف بالعدوان لكنا نقول : إنه عام دخله التخصيص في هذه الصورة ، والفرق بين الصورتين أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية ، أما إذا لم يكن السفر في نفسه معصية لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية فظهر الفرق ، واعلم أن القاضي وأبا بكر / الرازي نقلاً عن الشافعي أنه قال في تفسير قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي باغ على إمام المسلمين ، ولا عاد بأن لا يكون سفره في معصية ، ثم قالا. تفسير الآية غير باغ ولا عاد في الأكل أولى مما ذكره الشافعي رضي الله عنه ، وذلك لأن قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} شرط والشرط بمنزلة الاستثناء في أنه لا يستقل بنفسه فلا بد من تعلقه بمذكور وقد علمنا أنه لا مذكور إلا الأكل لأنا بينا أن معنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وإذا كان كذلك وجب أن يكون متعلقاً بالأكل الذي هو في حكم المذكور دون السفر الذي هو ألبتة غير مذكور.
(1/731)
واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، وذلك لأنا بينا أن قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} لا يصدق إلا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسفر ضمنا ، ولا نقول : اللفظ يدل على التعيين وأما تخصيصه بالأكل فهو تخصيص من غير ضرورة ، فكان على خلاف الأصل ، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوه أحدها : أن قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} حال من الاضطرار ، فلا بد وأن يكون وصف الاضطرار باقيا مع بقاء كونه غير باغ ولا عاد فلو كان المراد بكونه غير باغ ولا عاد كونه كذلك في الأكل لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه لأن حال الأكل لا يبق وصف الاضطرار وثانيها : أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وما كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي عنه فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة وثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية وكذا العدوان في السفر فرد آخر من أفرادها فاذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات فكان تخصيصه بالأكل غير جائز ، وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه لا يخصصه بنفي العدوان في السفر بل يحمله على ظاهره ، وهو نفي العدوان من جميع الوجوه ، ويستلزم نفي العدوان في السفر وحينئذ يتحقق مقصوده ورابعها : أن الاحتمال الذي ذكرناه متأيد بآية أخرى وهي قوله تعالى :
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } (المائدة : 3) وهو الذي قلناه من أن الآية تقتضي أن لا يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور ، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجوه أحدها : قوله تعالى في آية أخرى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه } (الأنعام : 119) وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص وثانيها : قوله تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء : 29) وقال : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } (البقرة : 195) والامتناع من الأكل سعى في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة ، فوجب أن يحرم وثالثها : روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوماً وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع ورابعها : أن العاصي بسفره إذا كان نائماً فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق فلأن / يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى وخامسها : أن يدفع أسباب الهلاك ، كالفيل ، والجمل الصؤل ، والحية ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا وسادسها : أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه فكذا ههنا والجامع دفع الضرر عن النفس وسابعها : أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه ، فكذلك يدفع ضررالهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصياً ، وثامنها : أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة والخاص مقدم على العام ، وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه ، ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال لأن المعصية ممنوع منها والإعانة سعي في تحصيلها والجمع بينهما متناقص والله أعلم.
المسألة الثانية : قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه ، وقال عبد الله بن الحسن العنبري : يأكل منها ما يسد جوعه ، وعن مالك : يأكل منها حتى يشبع ويتزود ، فإن وجد غني عنها طرحها ، والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة ، كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال ، فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم ، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري ، لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه/ فكذا ههنا ، ويدل عليه أيضاً أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة ، فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة ، فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن يحرم عليه الأكل بعد ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
(1/732)
المسألة الثالثة : اختلفوا في المضطر إذا وجد كل ما يعد من المحرمات ، فالأكثرون من العلماء خيروه بين الكل لأن الميتة والدم ولحم الخنزير سواء في التحريم والاضطرار ، فوجب أن يكون مخيراً في الكل وهذا هو الأليق بظاهر هذه الآية وهو أولى من قول من أوجب أن يتناول الميتة دون لحم الخنزير أعظم شأناً في التحريم.
المسألة الرابعة : اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمراً ، أو من غص بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر ، فمنهم من أباحه بالقياس على هذه الصورة ، فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعاً للهلاك عنها ، فكذلك في هذه الصورة وهذا هو الأقرب إلى الظاهر ، / والقياس وهو قول سعيد بن جبير وأبي حنيفة ، وقال الشافعي رضي الله عنه : لا يشرب لأنه يزيده عطشاً وجوعاً ويذهب عقله ، وأجيب عنه بأن قوله : لا يزيده إلا عطشاً وجوعاً مكابرة ، وقوله : يزيل العقل فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك.
المسألة الخامسة : اختلفوا إذا كانت الميتة يحتاج إلى تناولها للعلاج إما بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة ، فأباحه بعضهم للنص والمعنى ، أما النص فهو أنه أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي ، وأما المعنى فمن وجوه الأول : أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي مستطاب فوجب أن يحل لقوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ } (المائدة : 4) غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص ولكن لا يقدح في كونه حجة الثاني : أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة ، والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة للحاجة الثالث : أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا ههنا ، ومن الناس من حرمه واحتج بقوله عليه السلام : "إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم" وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه تناوله ، والنزاع ليس إلا فيه.
المسألة السادسة : اختلفوا في التداوي بالخمر ، واعلم أن الحاجة إلى ذلك التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة ، فإن لم تنته إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة :
الحكم الثاني
جزء : 5 رقم الصفحة : 191
204
اعلم أن في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود ؛ كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبي ياسر بن أخطب ، كانوا يأخذون / من أتباعهم الهدايا ، فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع ، فكتموا أمر محمد عليه السلام وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : اختلفوا في أنهم أي شيء كانوا يكتمون ؟
فقيل : كانوا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ونعته والبشارة به ، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي مسلم ، وقال الحسن : كتموا الأحكام وهو قوله تعالى : {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الاحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْواَلَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّه } (التوبة : 34).
المسألة الثالثة : اختلفوا في كيفية الكتمان ، فالمروى عن ابن عباس : أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل ، وعند المتكلمين هذا ممتنع ، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما ، بل كانوا يكتمون التأويل ، لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام ، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد عليه السلام ، فهذا هو المراد من الكتمان ، فيصير المعنى : إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب.
أما قوله تعالى : {وَيَشْتَرُونَ بِه ثَمَنًا قَلِيلا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الكناية في : به ، يجوز أن تعود إلى الكتمان والفعل يدل على المصدر ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى ما أنزل الله ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى المكتوم.
المسألة الثانية : معنى قوله : {وَيَشْتَرُونَ بِه ثَمَنًا قَلِيلا } كقوله : {وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى ثَمَنًا قَلِيلا} (البقرة : 41) وقد مر ذلك وبالجملة فكان غرضهم من ذلك الكتمان : أخذ الأموال بسبب ذلك ، فهذا هو المراد من اشترائهم بذلك ثمناً قليلاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 204
المسألة الثالثة : إنما سماه قليلاً إما لأنه في نفسه قليل ، وإما لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل.
(1/733)
المسألة الرابعة : من الناس من قال : كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم ، وقال آخرون : بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب ، وليس في الظاهر أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل ، وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه ، فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل ، وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه فهذا هو معلوم بالعادة ، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الحكاية عنهم ذكر الوعيد على ذلك من وجوه أولها : قوله تعالى : { أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : قال بعضهم : ذكر البطن ههنا زيادة بيان لأنه يقال أكل فلان المال إذا بدره وأفسده وقال آخرون : بل فيه فائدة فقوله : {فِي بُطُونِهِمْ} أي ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 204
المسألة الثانية : قيل : إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيباً في الحال فعاقبته النار فوصف بذلك كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } (النساء : 10) عن الحسن والربيع وجماعة من أهل العلم ، وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار ، كما روي في حديث آخر "الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وقوله : {إِنِّى أَرَاـانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } (يوسف : 36) أي عنباً فسماه بإسم ما يؤول إليه وقيل : إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثالثها : قوله تعالى : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} فظاهره : أنه لا يكلمهم أصلا لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم ، وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول : أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم ، وذلك قوله : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر : 92 ـ 93) وقوله : {فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف : 6) فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين ، والسؤال لا يكون إلا بكلام فقالوا : وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة وبقوله : {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون : 108) الثاني : أنه تعالى لا يكلمهم وأما قوله تعالى : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر : 92) فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكوراً في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه ، وضده في أعدائه ، ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد الثالث : أن قوله : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ} استعارة عن الغضب لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث وثالثها : قوله : {وَلا يُزَكِّيهِمْ} وفيه وجوه الأول : لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم الثاني : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء الثالث : لا ينزلهم منازل الأزكياء ورابعها : قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} واعلم أن الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم ، وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول ، وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم واعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 204
المسألة الأولى : أن علماء الأصول قالوا : العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} إشارة إلى الإهانة والاستخفاف ، وقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيهاً على أن الإهانة أشق وأصعب.
/ المسألة الثانية : دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره.
المسألة الثالثة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله اعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 204
(1/734)
المسألة الأولى : أن علماء الأصول قالوا : العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} إشارة إلى الإهانة والاستخفاف ، وقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيهاً على أن الإهانة أشق وأصعب.
/ المسألة الثانية : دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره.
المسألة الثالثة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله اعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 204
206
اعلم أنه تعالى لما وصف علماء اليهود بكتمان الحق وعظم في الوعيد عليه ، وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم ، واعلم أن الفعل إما أن يعتبر حاله في الدنيا أو في الآخرة ، أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضلال والجهل فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا ، ورضوا بالضلال والجهل ، فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا ، وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة ، وأخسرها العذاب ، فلما تركوا المغفرة ورضوا بالعذاب ، فلا شك أنهم في نهاية الخسارة في الآخرة وإذا كانت صفتهم على ما ذكرناه ، كانوا لا محالة أعظم الناس خساراً في الدنيا وفي الآخرة ، وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم استروا العذاب بالمغفرة ، لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق ، وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب ، وفي إخفائه وإلقاء الشبهة فيه أعظم العقاب ، فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة.
أما قوله : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في هذه اللفظة قولان أحدهما : أن {مَّآ} في هذه الآية استفهام التوبيخ معناه : ما الذي أصبرهم وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وهذا قول عطاء وابن زيد وقال ابن الأنباري : وقد يكون أصبر بمعنى صبر وكثيراً ما يكون أفعل بمعنى فعل نحو أكرم وكرم ، وأخبر وخبر الثاني : أنه بمعنى التعجب وتقريره أن الراضي بموجب الشيء لا بد وأن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم فلما أقدموا على ما يوجب النار ويقتضي عذاب الله مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بعذاب الله تعالى ، والصابرين عليه ، فلهذا قال تعالى : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} وهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان ما أصبرك على التقيد والسجن إذا عرفت هذا ظهر أنه يجب حمل قوله : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} على حالهم في الدنيا لأن / ذلك وصف لهم في حال التكليف ، وفي حال اشترائهم الضلالة بالهدى ، وقال الأصم : المراد أنه إذا قيل لهم {اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون : 108) فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص ، وهذا ضعيف لوجوه أحدها : أن الله تعالى وصفهم بذلك في الحال فصرفه إلى أنهم سيصيرون كذلك خلاف الظاهر وثانيها : أن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
المسألة الثانية : في حقيقة التعجب وفي الألفاظ الدالة عليه في اللغة وههنا بحثان :
البحث الأول : في التعجب : وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل ، ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خقاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول ، ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} (الصافات : 12) بضم التاء من عجبت ، فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال قال النخعي : معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام ، وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى ، لا بالمعني الذي يضاف إلى العباد.
البحث الثاني : اعلم أن للتعجب صيغتين أحدهما : ما أفعله كقوله تعالى : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} والثاني : أفعل به كقوله : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم : 38).
أما العبارة الأولى : وهي قولهم ؛ ما أصبره ففيها مذاهب.
القول الأول : وهو اختيار البصريين أن {مَّآ} اسم مبهم يرتفع بالابتداء ، وأحسن فعل وهو خبر المبتدأ وزيداً مفعول وتقديره : شيء حسن زيدا أي صيره حسناً.
(1/735)
واعلم أن هذا القول عند الكوفيين فاسداً واحتجوا عليه بوجوه الأول : أنه يصح أن يقال ما أكرم الله ، وما أعظمه وما أعلمه ، وكذا القول في سائر صفاته ويستحيل أن يقال : شيء جعل الله كريما وعظيماً وعالماً ، لأن صفات الله سبحانه وتعالى واجبة لذاته فإن قيل. هذه اللفظة إذا أطلقت فيما يجوز عليه الحدوث كان المراد منه الاستعظام مع خفاء سببه وإذا أطلقت على الله تعالى كان المراد منه أحد شطريه وهو الاستعظام فحسب ، قلنا : إذا قلنا ما أعظم الله فكلمة {مَّآ} ههنا ليست بمعنى شيء فلا تكون مبتدأ ، ولا يكون أعظم خبراً عنه ، فلا بد من صرفه إلى وجه آخر ، وإذا كان كذلك ثبت أن تفسير هذه الآية بهذه الأشياء في مقام التعجب غير صحيح.
الحجة الثانية : أنه لو كان معنى قولنا. ما أحسن زيداً شيء حسن زيداً ، لوجب أن يبقى معنى التعجب إذا صرحنا بهذا الكلام ، ومعلوم أنا إذا قلنا : شيء حسن زيداً فإنه لا يبقى فيه معنى التعجب ألبتة ، بل كان ذلك كالهذيان ، فعلمنا أنه لا يجوز تفسير قولنا : ما أحسن زيداً بقولنا شيء حسن زيداً.
/
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
الحجة الثالثة : أن الذي حسن زيداً والشمس والقمر والعالم هو الله سبحانه وتعالى ولا يجوز التعبير عنه بما وإن جاز ذلك لكن التعبير عنه سبحانه بمن أولى ، فكان ينبغي أنا لو قلنا من أحسن زيداً أن يبقى معنى التعجب ، ولما لم يبق علمنا فساد ما قالوه.
الحجة الرابعة : أن على التفسير الذي قالوا لا فرق بين قوله : ما أحسن زيداً وبين قوله زيداً ضرب عمرا فكما أن هذا ليس بتعجب وجب أن يكون الأول كذلك.
الحجة الخامسة : أن كل صفة ثبتت للشيء فثبوتها له إما أن يكون له من نفسه أو من غيره فإذا كان المؤثر في تلك الصفة نفسه أو غيره وعلى التقديرين فشيء صيره حسناً ، إما أن يكون ذلك الشيء هو نفسه أو غيره ، فإذن العلم بأن شيئاً صيره حسناً علم ضروري والعلم بكونه متعجباً منه غير ضروري ، فاذن لا يجوز تفسير قولنا : ما أحسن زيداً بقولنا شيء حسن زيداً.
الحجة السادسة : أنهم قالوا : المبتدأ لا يجوز أن يكون نكرة فكيف جعلوا ههنا أشد الأشياء تنكيراً مبتدأ ؟
وقالوا : لا يجوز أن يقال : رجل كاتب لأن كل أحد يعلم أن في الدنيا رجلاً كاتباً فلا يكون هذا الكلام مفيداً : وكذا كل أحد يعلم أن شيئاً ما هو الذي حسن زيداً فأي فائدة في هذا الإخبار ؟
الحجة السابعة : دخول التصغير الذي هو من خاصية الأسماء في قولك : ما أحسن زيداً ، فإن قيل : جواز دخول التصغير إنما كان لأن هذا الفعل قد لزم طريقة واحدة ، فصار مشابهاً للاسم فأخذ خاصيته وهو التصغير قلنا : لا شك أن للفعل ماهية وللتصغير ماهية فهاتان الماهيتان : إما أن يكونا متنافيتين ، أو لا يكون متنافيتين فإن كانتا متنافيتين استحال اجتماعهما في كل المواضع فحيث اجتماعهما ههنا علمنا أن هذا ليس بفعل ، وإن لم يكونا متنافيتين وجب صحة تطرق التصغير إلى كل الأفعال ، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم.
الحجة الثامنة : تصحيح هذه اللفظة وإبطال إعلاله فإنك تقول في التعجب : ما أقوم زيداً بتصحيح الواو كما تقول : زيد أقوم من عمرو ، ولو كانت فعلا لكانت واوه ألفاً لفتحة ما قبلها ، ألا تراهم يقولون : أقام يقيم فإن قيل : هذه اللفظة لما لزمت طريقة واحدة صارت بمنزلة الاسم ، وتمام التقرير أن الإعلال في الأفعال ما كان لعلة كونها فعلا ولا التصحيح في الأسماء لعلة الإسمية ، بل كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة عند وجوب كثرة التصرف/ وعدم الإعلال في الأسماء لعدم التصرف وهذا الفعل بمنزلة الاسم في علة التصحيح والإمتناع من الإعلال قلنا : لما كان الإعلال في الأفعال لطلب الخفة ، فكان ينبغي أن يجعل خفيفاً ثم يترك على خفته فإن هذا أقرب إلى العقل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
الحجة التاسعة : أن قولك : أحسن لو كان فعلاً ، وقولك : زيداً مفعولا لجاز الفصل بينهما / يا لظرف ، فيقال : ما أحسن عندك زيداً ، وما أجمل اليوم عبد الله ، والرواية الظاهرة أن ذلك غير جائز ، فبطل ما ذهبتم إليه.
الحجة العاشرة : أن الأمر لو كان على ما ذكرتم لكان ينبغي أن يجوز التعجب بكل فعل متعد مجرداً كان أو مزيداً ، ثلاثياً كان أو رباعياً ، وحيث لم يجز إلا من الثلاثي المجرد دل على فساد هذا القول ، واحتج البصريون على أن أحسن في قولنا ، ما أحسن زيداً فعل بوجوه أولها : بأن أحسن فعل بالاتفاق فنحن على فعليته إلى قيام الدليل الصارف عنه وثانيها : أن أحسن مفتوح الآخر ، ولو كان اسماً لوجب أن يرتفع إذا كان خبراً لمبتدأ وثالثها : الدليل على كونه فعلاً اتصال الضمير المنصوب به ، وهو قولك : ما أحسنه.
والجواب عن الأول : أن أحسن كما أنه قد يكون فعلاً ، فهو أيضاً قد يكون اسماً ، حين ما يكون كلمة تفضيل ، وأيضاً فقد دللنا بالوجوه الكثيرة على أنه لا يجوز أن يكون فعلاً وأنتم ماطلبتمونا إلا بالدلالة.
والجواب عن الثاني : أنا سنذكر العلة في لزوم الفتحة لآخر هذه الكلمة.
(1/736)
والجواب عن الثالث : أنه منتقض بقولك : لعلي وليتني ، والعجب أن الاستدلال بالتصغير على الإسمية أقوى من الإستدلال بهذا الضمير على الفعلية ، فإذا تركتم ذلك الدليل القوي ، فبأن تتركوا هذا الضعيف أولى ، فهذا جملة الكلام في هذا القول.
القول الثاني : وهو اختيار الأخفش قال : القياس أن يجعل المذكور بعد كلمة {مَّآ} وهو قولك : أحسن صلة لما ، ويكون خبر {مَّآ} مضمراً ، وهذا أيضاً ضعيف لأكثر الوجوه المذكورة منها أنك لو قلت : الذي أحسن زيداً ليس هو بكلام منتظم ، وقولك : ما أحسن زيداً كلام منتظم وكذا القول في بقية الوجوه.
القول الثالث : وهو اختيار الفراء : أن كلمة {مَّآ} للاستفهام وأفعل اسم ، وهو للتفضيل ، كقولك : زيد أحسن من عمرو ، ومعناه أي شيء أحسن من زيد فهو استفهام تحته إنكار أنه وجد شيء أحسن منه ، كما يقول من أخبر عن علم إنسان فأنكره غيره فيقول هذا المخبر : ومن أعلم من فلان ؟
إظهاراً منه ما يدعيه منازعه على خلاف الحق ، وأن لا يمكنه إقامة الدليل عليه ويظهر عجزه في ذلك عند مطالبتي إياه بالدليل ، ثم قولك أحسن وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعاً كما في قولك : ما أحسن زيد إذا استفهمت عن أحسن عضو من أعضائه ، إلا أنه نصب ليقع الفرق بين ذلك الاستفهام وبين هذا ، فإن هناك معنى قولك : ما أحسن زيد أي عضو من زيد أحسن ، وفي هذا معناه أي شيء من الموجودات في العالم أحسن من زيد ، وبينهما فرق كما ترى ، واختلاف الحركات موضوع للدلالة على اختلاف المعاني والنصب قولنا زيداً أيضاً للفرق لأنه هناك خفض / لأنه أضيف أحسن إليه ، ونصب هنا للفرق ، وأيضاً ففي كل تفضيل معنى الفعل ، وفي كل ما فضل عليه غيره معنى المفعول ، فإن معنى قولك : زيد أعلم من عمرو ، أن زيداً جاوز عمراً في العلم ، فجعل هذا المعنى معتبراً عند الحاجة إلى الفرق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
القول الرابع : وهو أيضاً قول بعض الكوفيين قال إن {مَّآ} للاستفهام وأحسن فعل كما يقوله البصريون ، معناه : أي شيء حسن زيداً ، كأنك تستدل بكمال هذا الحسن على كمال فاعل هذا الحسن ، ثم تقول : إن عقلي لا يحيط بكنه كماله ، فتسأل غيرك أن يشرح لك كماله ، فهذا جملة ما قيل في هذا الباب.
وأما تحقيق الكلام في أفعل به فسنذكره إن شاء الله في قوله : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم : 38).
جزء : 5 رقم الصفحة : 206
209
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى ماذا ؟
فذكروا وجهين :
الأول : أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، لأنه تعلى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد ، بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه ، فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد ، ثم قد تقدم في وعيدهم أمور : أحدها : أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة وثانيها : اشتروا الضلالة بالهدى وثالثها : أن لهم عذاباً أليماً ورابعها : أن الله لا يزكيهم وخامسها : أن الله لا يكلمهم فقوله : {ذَالِكَ} يصلح أن يكون إشارة إلى كل واحد من هذه الأشياء ، وأن يكون إشارة إلى مجموعها.
الثاني : أن {ذَالِكَ} إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله ، وكتمانهم ما أنزل الله تعالى ، فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق ، وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون ، ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر ، كما قال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة : 6).
المسألة الثانية : قوله : {ذَالِكَ} يحتمل أن يكون في محل الرفع أو في محل النصب ، أما في محل الرفع بأن يكون مبتدأ ، ولا محالة له خبر ، وذلك الخبر وجهان الأول : التقدير ذلك الوعيد / معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق ، فبين فيه وعيد من فعل هذه الأشياء فكان هذا الوعيد معلوماً لهم لا محالة الثاني : التقدير : ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب وكفروا به فيكون الباء في محل الرفع بالخبرية ، وأما في محل النصب فلأن التقدير : فعلنا ذلك بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق وهم قد حرفوه.
المسألة الثالثة : المراد من الكتاب يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد صلى الله عليه وسلّم ، ويحتمل أن يكون هو القرآن ، فإن كان الأول كان المعنى : وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد ، وإن كان الثاني كان المعنى وإن الذين اختلفوا في كونه حقاً منزلاً من عند الله لفي شقاق بعيد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 209
المسألة الرابعة : قوله : {بِالْحَقِّ} أي بالصدق ، وقيل ببيان الحق.
وقوله تعالى : {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا } فيه مسألتان :
(1/737)
المسألة الأولى : إن الذين اختلفوا قيل : هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن ، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلّم فيهما ، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله ، فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم ، أما قوله : {بِالْحَقِّ} فقيل : بالصدق ، وقيل : ببيان الحق ، وأما قوله : {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِى الْكِتَـابِ} فاعلم أنا وإن قلنا : المراد من الكتاب هو القرآن ، كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال : إنه كهانة ، وآخرون قالوا : إنه سحر ، وثالث قال : رجز ، ورابع قال : إنه أساطير الأولين وخامس قال : إنه كلام منقول مختلق ، وإن قلنا : المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاً أحدها : أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح/ فاليهود قالوا : إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته وثانيها : أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم فذكر كل واحد منهم له تأويلاً آخر فاسداً لأن الشيء إذا لم يكن حقاً واجب القبول بل كان متكلفاً كان كل أحد يذكر شيئاً آخر على خلاف قول صاحبه ، فكان هذا هو الإختلاف وثالثها : ما ذكره أبو مسلم فقال : قوله : {اخْتَلَفُوا } من باب افتعل الذي يكون مكان فعل ، كما يقال : كسب واكتسب ، وعمل واعتمل ، وكتب واكتتب ، وفعل وافتعل ، ويكون معنى قوله : {الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِى الْكِتَـابِ} الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله : {فَخَلَفَ مِنا بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} (الأعراف : 169) وقوله : {إِنَّ فِى اخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (يونس : 6) أي كل واحد يأتي خلف الآخر ، وقوله : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} (الفرقان : 62) أي كل واحد منهما يخلف الآخر ، وفي الآية تأويل ثالث ، وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس / ما أنزل الله والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب ، فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن.
جزء : 5 رقم الصفحة : 209
أما قوله : {لَفِى شِقَاقا بَعِيدٍ} ففيه وجوه أحدها : أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة وثانيها : كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد وثالثها : أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه ، وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحاً فيك ألبتة ، والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 209
211
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص فقال بعضهم : أراد بقوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ} أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى : ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله وقال بعضهم : بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام ، وقال بعضهم بل هو خطاب للكل لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الإغتباط بهذه القبلة وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر كيت وكيت ، وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
(1/738)
المسألة الثانية : الأكثرون على أن {لَّيْسَ} فعل ومنهم من أنكره وزعم أنه حرف ، حجة من قال : إنها فعل اتصال الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال كقولك : لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين ، وهذه الحجة منقوضة بقوله : إنني وليتني ولعل وحجة المنكرين أولها : أنها لو كانت فعلاً لكانت ماضياً ولا يجوز أن تكون فعلاً ماضياً ، فلا يجوز أن تكون فعلاً ، بيان الملازمة أن كل من قال إنه فعل قال : إنه فعل ماض وبيان أنه لا يجوز أن يكون فعلاً ماضياً اتفاق الجمهور على أنه لنفي الحال ، ولو كان ماضياً لكان لنفي الماضي لا لنفي الحال وثانيها : أنه يدخل على الفعل ، فنقول : ليس يخرج زيد ، والفعل لا يدخل على الفعل عقلاً ونقلاً ، وقول من قال إن {لَّيْسَ} داخل على ضمير القصة والشأن وهذه الجملة تفسير لذلك الضمير ضعيف ، فإنه لو جاز ذلك جاز مثله في {مَّآ} وثالثها : أن الحرف {مَّآ} يظهر معناه في غيره ، وهذه الكملة كذلك فإنك لو قلت : ليس زيد لم يتم الكلام ، بل لا بد وأن تقول ليس زيد قائماً ورابعها : أن {لَّيْسَ} لو كان فعلاً لكان {مَّآ} فعلاً وهذا باطل ، فذاك باطل بيان الملازمة أن {لَّيْسَ} لو كان فعلاً لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السلب مقروناً بزمان مخصوص وهو الحال ، وهذا المعنى قائم في {مَّآ} فوجب أن يكون {مَّآ} فعلاً فلما لم يكن هذا فعلاً فكذا القول ذلك ، أو نذكر هذا المعنى بعبارة أخرى فنقول : {لَّيْسَ} كلمة جامدة وضعت لنفي الحال فأشبهت {مَّآ} في نفي الفعلية وخامسها : إنك تصل {مَّآ} بالأفعال الماضية فتقول : ما أحسن زيد ولا يجوز أن تصل {مَّآ} بليس فلا تقول ما ليس زيد يذكرك سادسها : أنه على غير أوزان الفعل لأن فعل غير موجود في أبنية الفعل ، فكان في القول بأنه فعل إثبات ما ليس من أوزان الفعل.
فإن قيل : أصله ليس مثل صيد البعير إلا أنهم خفوه وألزموه التخفيف لأنه لا يتصرف / للزومه حالة واحدة ، وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدل عليها/ وجعلوا للبناء الذي خصوه به ماضياً ، لأنه أخف الأبنية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
قلنا : هذا كله خلاف الأصل ، فالأصل عدمه ولأن الأصل في الفعل التصرف ، فلما منعوه التصرف كان من الواجب أن يبقوه على بنائه الأصلي لئلا يتوالى عليه النقصانات ، فأما أن يجعل منع التصرف الذي هو خلاف الأصل علة لتغير البناء الذي هو أيضاً خلاف الأصل فذاك فاسد جداً وسابعها : ذكر القتيبي أنها كلمة مركبة من الحروف النافي الذي هو لا ، و: أيس ، أي موجود قال ولذلك يقولون : أخرجه من الليسية إلى الأيسية أي من العدم إلى الوجود ، وأيسته أي وجدته وهذا نص في الباب ، قال وذكر الخليل أن {لَّيْسَ} كلمة جحود معناها : لا أيس ، فطرحت الهمزة استخفافاً لكثرة ما يجري في الكلام ، والدليل عليه قول العرب : ائتني به من حيث أيس وليس ، ومعناه : من حيث هو ولا هو وثامنها : الإستقراء دل على أن الفعل إنما يوضع لإثبات المصدر ، وهذا إنما يفيد السلب أو لا يكون فعلاً ، فإن قيل : ينتقض قولكم بقوله : نفى زيداً وأعدمه ، قلنا : قولك نفى زيداً مشتق من النفي فقولك نفي دل على حصول معنى النفي فكانت الصيغة الفعلية دالة تحقق مصدرها ، فلم يكن السؤال وارداً ، وأما القائلون بأن {لَّيْسَ} فعل فقد تكلفوا في الجواب عن الكلام الأول بأن {لَّيْسَ} قد يجيء لنفي الماضي كقولهم : جاءني القوم ليس زيداً ، {وَعَنِ} أنه منقوض بقولهم : أخذ يفعل كذا وعن الثالث : أنه منقوض بسائر الأفعال الناقصة وعن الرابع : أن المشابهة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة وعن الخامس : أن لك إنما امتنع من قبل أن : ما ، للحال {وَالْحَجِّا وَلَيْسَ} للماضي ، فلا يكون الجمع بينهما وعن السادس : أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه ضرورة العمل بما ذكرنا من الدليل وعن السابع : } أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم ، وأما قوله : من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً ، وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن : أن أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم ، وأما قوله : من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً ، وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن الثامن : أن {لَّيْسَ} مشتق من الليسية فهي دالة على تقرير معنى الليسية ، فهذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة وإن كانت هذه الجوابات مختلفة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
(1/739)
المسألة الثالثة : قرأ حمزة وحفص عن عاصم {لَّيْسَ الْبِرَّ} بنصب الراء ، والباقون بالرفع ، قال الواحدي : وكلا القراءتين حسن لأن اسم {لَّيْسَ} وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسماً ، والآخر خبراً ، وحجة من رفع {الْبِرَّ} أن اسم {لَّيْسَ} مشبه بالفاعل ، وخبرها بالمفعول ، والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول ، ومن نصب {الْبِرَّ} ذهب إلى أن بعض النحويين قال : {ءَانٍ} مع صلتها أولى أن تكون اسم {لَّيْسَ} لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر ، فكان ههنا اجتمع مضمر ومظهر ، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر / الإسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر ، وعلى هذا قرىء في التنزيل قوله : {فَكَانَ عَـاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ} وقوله : {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا } (الأعراف : 82) {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَن قَالُوا } (الجاثية : 25) والاختيار رفع البر لأنه روي عن ابن مسعور أنه قرأ : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن} والباء تدخل في خبر ليس.
المسألة الرابعة : البر اسم جامع للطاعات ، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى ، ومن هذا بر الوالدين ، قال تعالى : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} (الإنفطار : 13 ـ 14) فجعل البر ضد الفجور وقال : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ا وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (المائدة : 2) فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
المسألة الخامسة : قال القفال : قد قيل في نزول هذه الآية أقوال ، والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب ، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فقال الله تعالى : إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب ، بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور أحدها : الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أما اليهود فقولهم : بالتجسيم ولقولهم : بأن عزيراً ابن الله ، وأما النصارى ، فقولهم : المسيح ابن الله ، ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل ، على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } (آل عمران : 181) وثانيها : الإيمان باليوم الآخر واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا : {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى } (البقرة : 111) وقالوا : {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } (البقرة : 80) والنصارى أنكروا المعاد الجسماني ، وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر وثالثها : الإيمان بالملائكة ، واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبرل عليه السلام ورابعها : الإيمان بكتب الله ، واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك ، لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى : {وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـارَى تُفَـادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُم أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (البقرة : 85) وخامسها : الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء ، على ما قال تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (البقرة : 61) وحيث طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وسادسها : بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال {وَاشْتَرَوْا بِه ثَمَنًا قَلِيلا } (البقرة : 187) وسابعها : إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها وثامنها : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوا العهد حيث قال : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) وههنا سؤال : وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال الأول : أن قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
(1/740)
{لَّيْسَ الْبِرَّ} نفي لكمال البر وليس نفياً لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا ، البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها ، فلا يكون ذلك / تمام البر الثاني : أن يكون هذا نفياً لأصل كونه براً ، لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك ، بل كان ذلك إثماً وفجوراً لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه ، وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر الثالث : أن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم يقارنه معرفة الله ، وإنما يكون براً إذا أتي به مع الإيمان ، وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر ، إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله ، فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط ، فإنها لا تكون من أفعال البر ، روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعي بطاعة الله إلا الإستقبال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين.
المسألة السادسة : قوله : {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} فيه حذف وفي كفيته وجوه أحدها : ولكن البر بر من آمن بالله ، فحذف المضاف وهو كثير في الكلام كقوله : {وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (البقرة : 93) أي حب العجل ، ويقولون : الجود حاتم والشعر زهير ، والشجاعة عنترة ، وهذا اختيار الفراء ، والزجاج ، وقطرب ، قال أبو علي : ومثل هذه الآية قوله : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ} (التوبة : 19) ثم قال {كَمَنْ ءَامَنَ} (التوبة : 19) وتقديره ، أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ليقع التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين ، إذا لا يقع التمثيل بين مصدر وفاعل وثانيها : قال أبو عبيدة البر ههنا بمعنى الباء كقوله : {وَالْعَـاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (طه : 132) أي للمتقين ومنه قوله : {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا} (الملك : 30) أي غائراً ، وقالت الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
أي مقبلة ومدبرة معاً وثالثها : أن معناه ولكن ذا البر فحذف كقولهم : هم درجات عند الله أي ذووا درجات عن الزجاج ورابعها : التقدير ولكن البر يحصل بالإيمان وكذا وكذا عن المفصل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى مقصود الكلام فيكون معناه : ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب العظيم بر من آمن بالله ، وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن بقراءته لقرأت {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ} بفتح الباء ، وقرأ نافع وابن عامر {وَلَـاكِنِ} مخففة {الْبِرَّ} بالرفع ، والباقون {لَـاكِنِ} مشددة {الْبِرَّ} بالنصب.
المسألة السابعة : اعلم أن الله تعالى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراً الأول : الإيمان بأمور خمسة أولها : الإيمان بالله ، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها فيدخل فيه العلم بحدوث العالم ، والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ، ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه ، وكونه عالماً بكل المعلومات ، قادراً على كل الممكنات / حياً مريداً سمعياً بصيراً متكلماً ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، وهذا الإيمان مفرع على الأول ، لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر وثالثها : الإيمان بالملائكة ورابعها : الإيمان بالكتب وخامسها : الإيمان بالرسل ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب إلا بواسطة صدق الرسل ، فإذا كانت قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل ؟
.
الجواب : أن الأمل وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا ، إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك ، لأن الملك يوجد أولاً ، ثم يحصل بواسطة تبليغة نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فالمراعي في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي ، لا ترتيب الاعتبار الذهني.
السؤال الثاني : لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة ؟
(1/741)
الجواب : لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن صدق به ، فقد دخل تحت الإيمان بالله : معرفته بتوحيده وعدله وحكمته ، ودخل تحت اليوم الآخر : المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد ، إلى سائر ما يتصل بذلك/ ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الكتاب القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم ، وصحة شرائعهم ، فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية ، وتقرير آخر : وهو أن للمكلف مبدأ ووسطاً ونهاية ، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب ، والموحي إليه وهي الرسول ؟
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
السؤال الثالث : لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو إيتاء المال ، والصلاة ، والزكاة.
الجواب : للتنبيه على أن أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح ، الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : {عَلَى حُبِّه } إلى ماذا يرجع ؟
وذكروا فيه وجوهاً الأول : وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال ، والتقدير : وآتى المال على حب المال ، قال ابن عباس وابن مسعود : وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغني ، وتخشى / الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت ، والعقل يدل على ذلك أيضاً من وجوه أحدها : أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال ، وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) وثانيها : أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت وثالثها : أن إعطاءه حال الصحة أشق ، فيكون أكثر ثواباً قياساً على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني ورابعها : أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفاً من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعاً وراغباً فكذا ههنا وخامسها : أنه متأيد بقوله تعالى : {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) وقوله : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه } (الإنسان : 80) أي على حب الطعام ، وعن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعدما شبع".
القول الثاني : أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل : يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله.
القول الثالث : أن الضمير عائد على اسم الله تعالى ، يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته.
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم : إنها الزكاة وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا ، فثبت أن المراد به غير الزكاة ، ثم إنه لا يخلوا إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات ، لا جائز أن يكون من التطوعات لأنه تعالى قال في آخر الآية : { أولئك الَّذِينَ صَدَقُوا ا وَ أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقف التقوى عليه ، ولو كان ذلك ندباً لما وقف التقوى عليه ، فثبت أن هذا الإيتاء ، وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات ثم فيه قولان :
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
القول الأول : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر/ ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول ، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام "لايؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره طاو إلى جنبه" وروي عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقاً سوى الزكاة ، ثم تلت {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه ؟
فقال : نعم يصل القرابة ، ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية ، وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة ، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة / وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً ، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب ، واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن الزكاة نسخت كل حق.
(1/742)
والجواب : من وجوه الأول : أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "في المال حقوق سوى الزكاة" وقول الرسول أولى من قول علي الثاني : أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر ، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال الثالث : المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة ، أما الذي لا يكون مقدراً فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة ، ويلزم النفقة على الأقارب ، وعلى المملوك ، وذلك غير مقدر ، فإن قيل : هب أنه صح هذا التأويل لكن ما الحكمة في هذا الترتيب ؟
قلنا فيه وجوه أحدها : أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريباً فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعاً بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية ، حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث ، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (آل عمران : 180) الآية ، وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم ، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى ، ثم أتبعه تعالى باليتامى ، لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله ، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره وثانيها : أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف ، فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ، ثم على هذا النسق وثالثها : أن ذا القربى مسكين ، وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه ، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير ، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ، ثم باليتامى ، وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما فأما ابن السبيل فقد يكون غنياً ، وقد تشتد حاجته في الوقت ، والسائل قد يكون غنياً ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
القول الثاني : أن المراد بإيتاء الماء ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره للإبل قال : "إن فيها حقاً" هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها ، وهذا بعيد لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب.
القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً ، ثم إنه صار منسوخاً بالزكاة ، وهذا / أيضاً ضعيف لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.
المسألة الثالثة : أما ذوو القربى فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين/ وهو الصحيح لأنهم به أخص ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِى الْقُرْبَى } (النور : 22).
(1/743)
واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين ، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد ، أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئاً بل إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه ، هذا كله على قول من قال : اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر ، وعند أصحابنا هذا الإسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى : {وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ } (النساء : 20) ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسمى : يتيم أبي طالب بعد بلوغه ، فعلى هذا إن كان اليتيم بالغاً دفع المال إليه ، وإلا فيدفع إلى وليه ، وأما المساكين ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في سورة التوبة والذي نقوله هنا : إن المساكين أهل الحاجة ، ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ، ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله : {وَالسَّآئِلِينَ} وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله ، وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته ، وأما ابن السبيل فروي عن مجاهد أنه المسافر ، وعن قتادة أنه الضيف لأنه إنما وصل إليك من السبيل ، والأول أشبه لأن السبيل اسم للطريق وجعل المسافر ابناً له للزومه إياه كما يقال لطير الماء : ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون : ابن الأيام. وللشجعان : بنو الحرب. وللناس : بنو الزمان. قال ذو الرمة :
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
وردت عشاء والثريا كأنها
على قمة الرأس ابن ماء محلق
وأما قوله : {وَالسَّآئِلِينَ} فعني به الطالبين ، ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : "للسائل حتى ولو جاء على فرس" وقال تعالى : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآاـاِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج : 24).
أما قوله : {وَفِي الرِّقَابِ} ففيه مسألتان.
المسألة الأولى : {الرِّقَابِ} جمع الرقبة وهي مؤخر أصل العنق ، واشتقاقها من المراقبة ، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ، ولهذا المعنى يقال : أعتق الله رقبته / ولا يقال أعتق الله عنقه ، لأنه لما سميت رقبة كأنها تراقب العذاب ، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها : رقوب ، لأجل مراعاتها موت ولدها.
المسألة الثانية : معنى الآية : ويؤتي المال في عتق الرقاب ، قال القفال : واختلف الناس في الرقاب المذكورين في آية الصدقات ، فقال قائلون : إنه يدخل فيه من يشتريه فيعتقه ، ومن يكون مكاتبها فيعينه على أداء كتابته ، فهؤلاء أجازوا شراء الرقاب من الزكاة المفروضة ، وقال قائلون : لا يجوز صرف الزكاة إلا في اعانة المكاتبين ، فمن تأول هذه الآية على الزكاة المفروضة فحينئذ يبقى فيه ذلك الاختلاف ، ومن حمل هذه الآية على غير الزكاة أجاز الأمرين فيها قطعاً ، ومن الناس من حمل الآية على وجه ثالث وهو فداء الأسارى.
واعلم أن تمام الكلام في تفسير هذه الأصناف سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة التوبة في تفسير الصدقات.
الأمر الثالث : من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } وذلك قد تقدم ذكره.
الأمر الرابع : قوله تعالى : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في رفع والموفون قولان أحدها : أنه عطف على محل {مَنْ ءَامَنَ} تقديره لكن البر المؤمنون والموفون ، عن الفراء والأخفش الثاني : رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وهم الموفون.
(1/744)
المسألة الثانية : في المراد بهذا العهد قولان الأول : أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم ، وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده ، والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب ، وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال : {يَـابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) فكان المعنى في هذه الأية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله ، لا كما نقض أهل الكتاب ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه ، واعترض القاضي على هذا القول وقال : إن قوله تعالى : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} صريح في إضافة هذا العهد إليهم ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {إِذَا عَـاهَدُوا } فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
الجواب عنه : أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه ، فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم.
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه. واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله ، أو بينه وبين رسول الله ، أو بينه وبين سار الناس / أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان ، وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم ، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن ، وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة ، فقوله تعالى : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا } يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض ، وهذا الذي قلناه هو الذي عبر المفسرون فقالوا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدوا ، ومنهم من حمله على قوله تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه } (التوبة : 75) الآية.
الأمر الخامس : من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله تعالى : {وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } (البقرة : 177) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في نصب الصابرين أقوال الأول : قال الكسائي هو معطوف على {ذَوِى الْقُرْبَى } كأنه قال : وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين : قال النحويون : إن تقدير الآية يصير هكذا : ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين ، فعلى هذا قوله : {وَالصَّـابِرِينَ} من صلة من قوله : {وَالْمُوفُونَ} متقدم على قوله : {وَالصَّـابِرِينَ} فهو عطف على {مِّنْ} فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئاً ، وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد ، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه/ أما إن جعلت قوله : {وَالْمُوفُونَ} رفعاً على المدح ، وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز ، بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل : إن زيداً فافهم ما أقول رجل عالم ، وكقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} (الكهف : 30) ثم قال : {أُوالَـا ئِكَ} ففصل بين المتبدأ والخبر بقوله : {إِنَّا لا نُضِيعُ} قلنا : الموصول مع الصلة كالشيء الواحد فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر ، فلا يلزم من جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بين الموصول والصلة.
القول الثاني : قول الفراء : إنه نصب على المدح ، وإن كان من صفة من ، وإنما رفع الموفون ونصب الصابرين لطول الكلام بالمدح ، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد ، وأنشد الفراء :
/ إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
(1/745)
{حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وقالوا فيمن قرأ : بنصب {حَمَّالَةَ} أنه نصب على الذم ، قال أبو علي الفارسي : وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ، لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً. ، وجملة واحدة. ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لم صارا علتين لاختلاف الحركة ؟
فقال الفراء : أصل المدح والذم من كلام السامع ، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له : قام زيد فربما أثنى السامع على زيد ، وقال ذكرت والله الظريف ، ذكرت العاقل ، أي هو والله الظريف هو العاقل ، فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع ، فجرى الإعراب على ذلك ، وقال الخليل : المدح والذم ينصبان على معنى أعني الظريف ، وأنكر الفراء ذلك لوجهين الأول : أن أعني إنما يقع تفسيراً للاسم المجهول ، والمدح يأتي بعد المعروف الثاني : أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول : قام زيد أخاك ، على معنى : أعني أخاك ، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً.
واعلم أن من الناس من قرأ {قُلُوبُهُمْ وَالصَّـابِرِينَ} ومنهم من قرأ {وَالْمُوفُونَ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
أما قوله : {وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ} قال ابن عباس : يريد الفقر ، وهو اسم من البؤس {وَالضَّرَّآءِ} قال : يريد به المرض ، وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما ، لأنهما ليسا بنعتين {وَحِينَ الْبَأْسِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد القتال في سبيل الله والجهاد ، ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي لا شدة {بِعَذَابا بَئِيس } (الأعراف : 165) شديد ثم تسمى الحرب بأساً لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأساً لشدته قال تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غافر : 84) {فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ} (الأنبياء : 12) {فَمَن يَنصُرُنَا مِنا بَأْسِ اللَّهِ} (غافر : 29).
ثم قال تعالى : { أولئك الَّذِينَ صَدَقُوا } أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم ، وذكر الواحدي رحمه الله في آخر هذه الآية مسألة وهي أنه قال هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع ، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر/ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائماً بالبر ، إلا عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم : هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام ، لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقال آخرون : هذه عامة في جميع المؤمنين ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 211
220
الحكم الرابع
قبل الشروع في التفسير لا بد من ذكر سبب النزول وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام ، وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل ، وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين ، أما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى ، فالأشراف كانوا يقولون : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحداً قتل إنساناً من الأشراف ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، وقالوا : ماذا تريد ؟
فقال إحدى ثلاث قالوا : وما هي ؟
قال : إما تحيون ولدي ، أو تملأون داري من نجوم السماء ، أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.
وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس ، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية.
والرواية الثانية : في هذا المعنى وهو قول السدي : إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي.
/ والرواية الثالثة : أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه.
(1/746)
والرواية الرابعة : ما نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص ويكفي ذلك فقط ، فأما إذا كان القاتل للعبد حراً ، أو للحر عبداً فإنه يجب مع القصاص التراجع ، وأما حر قتل عبداً فهو قوده ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ، ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن قتل عبداً حراً فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر ، وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن شاؤا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد ، وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية ، وإن قتلت المرأة رجلاً فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاؤا أعطوا كل الدية وتركوها ، قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والانثيين والذكرين فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع فيه إذا عرفنا سبب النزول فلنرجع إلى التفسير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
أما قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فمعناه : فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين : أحدهما : أن قوله تعالى : {كَتَبَ} يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقال : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (البقرة : 180) وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات/ وقال عليه السلام : "ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم" والثاني : لفظة {عَلَيْكُمْ} مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آل عمران : 97) وأما القصاص فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ، من قولك : اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله ، قال تعالى {فَارْتَدَّا عَلَى ا ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف : 64) وقال تعالى : {وَقَالَتْ لاخْتِه قُصِّيه } (القصص : 11) أي اتبعي أثره ، وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي ، وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس ، ويسمى المقص مقصاً لتعادل جانبيه.
أما قوله تعالى : {فِي الْقَتْلَى } أي بسبب قتل القتلى ، لأن كلمة {فِى } قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام : "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" إذا عرفت هذا فصار تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى ، فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى ، إلا أنهم جمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كثيرة ، وهي إذا قتل الوالد ولده ، والسيد عبده وفيما إذا قتل المسلم حربياً أو معاهداً ، وفيما إذا قتل مسلم خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص / يبقى حجة فيما عداه.
فإن قيل : قولكم هذه الآية تقتضي وجوب القصاص فيه إشكالان الأول : أن القصاص لو وجب لوجب إما على القاتل ، أو على ولي الدم ، أو على ثالث ، والأقسام الثلاثة باطلة ، وإنما قلنا : إنه لا يجب على القاتل لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وإنما قلنا : إنه غير واجب على ولي الدم لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك بقوله : {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (البقرة : 237) والثالث أيضاً باطل لأنه يكون أجنبياً عن ذلك القتل والأجنبي عن الشي لا تعلق له به.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
السؤال الثاني : إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل ألبتة ، بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية التسوية في القتل الذي يكون مشروعاً وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الآية على كون القتل مشرعاً بسبب القتل.
والجواب عن السؤال الأول : من وجهين الأول : أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجرى مجراه ، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود لأنه من جملة المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه والثاني : أنه خطاب مع القاتل والتقدير : يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحد ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله ولا يقرأ ، والفرق أن ذلك حق الآدمي.
وأما الجواب عن السؤال الثاني : فهو أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل والتسوية في القتل صفة القتل وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات ، فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه ويتفرع على ما ذكرنا مسائل :
(1/747)
المسألة الأولى : ذهب أبو حنيفة إلى موجب العمد هو القصاص ، وذهب الشافعي في أحد قوليه إن أن موجب العمد إما القصاص وإما الدية ، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية ، ووجه الاستدلال بها في غاية الضعف ، لأنه سواء كان المخاطب بهذا الخطاب هو الإمام أو ولي الدم فهو بالاتفاق مشروط بما إذا كان ولي الدم يريد القتل على التعيين ، وعندنا أنه متى كان الأمر كذلك كان القصاص متعيناً ، إنما النزاع في أن ولي الدم هل يتمكن من العدول إلى الدية وليس في الآية دلالة على أنه إذا أراد الدية ليس له ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
المسألة الثانية : اختلفوا في كيفية المماثلة التي دلت هذه الآية على إيجابها فقال الشافعي : يراعي جهة القتل الأول فإن كان الأول قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل فإن مات منه في تلك المرأة وإلا / حزت رقبته ، وكذلك لو أحرق الأول بالنار أحرق الثاني ، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : المراد بالمثل تناول النفس بأرجى ما يمكن فعلى هذا لا اقتصاص إلا بالسيف بحز الرقبة ، حجة الشافعي رحمه الله أن الله تعالى أوجب التسوية بين الفعلين وذلك يقتضي حصول التسوية من جميع الوجوه الممكنة ، ويدل عليه وجوه أحدها : أنه يجوز أن يقال كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فدخل هذا على أن كيفية القتل داخلة تحت النص وثانيها : أنا لو لم نحكم بدلالة هذه الآية على التسوية في كل الأمور لصارت الآية مجملة ولو حكمنا فيها بالعموم كانت الآية مفيدة ، لكنها بما صارت مخصوصة في بعض الصور والتخصيص أهون من الإجمال وثالثها : أن الآية لو لم تفد إلا الإيجاب للتسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور ، فحينئذ لا يستفاد من هذه الآية شيء ألبتة ، وهذا الوجه قريب من الثاني فثبت أن هذه الآية تفيد وجود التسوية من كل الوجوه ثم تأكد هذا النص بسائر النصوص المقتضية لوجوب المماثلة ، كقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة : 194) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها} (غافر : 40) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله : "من حرق حرقناه ، ومن غرق غرقناه" ومما يروى أن يهودياً رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة ، وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ، ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغاً قوياً ، واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام : "لا قود إلا بالسيف" وبقوله عليه السلام : "لا يعذب بالنار إلا ربها" والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة ؛ فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى : (غافر : 40) ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله : "من حرق حرقناه ، ومن غرق غرقناه" ومما يروى أن يهودياً رضخ رأس صبيه بالحجارة فقتلها ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة ، وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ، ومع هذه الأحاديث على قول الشافعي مبلغاً قوياً ، واحتج أبو حنيفة بقوله عليه السلام : "لا قود إلا بالسيف" وبقوله عليه السلام : "لا يعذب بالنار إلا ربها" والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة ؛ فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ} (الشورى : 25) وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقاً لعقاب ، ولأنه عليه السلام قال : "التوبة تمحو الحوبة" فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة ثم عند هذا اختلفوا فقال أصحابنا : يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء وقالت المعتزلة إنما شرع ليكون لطفاً به ثم سألوا أنفسهم فقالوا : إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفاً به ؟
وأجابوا عنه بأن هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل ، ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أن لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد.
(1/748)
/ أما قوله تعالى : {عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالانثَى بِالانثَى } ففيه قولان :
القول الأول : إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن الألف واللام في قوله : {الْحُرُّ} تفيد العموم فقوله : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} يفيد أن يقتل كل حر بالحر ، فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولاً بالحر الثاني : أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقاً لا محالة بفعل ، فيكون التقدير : الحر يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر ، بل إما أن يكون مساوياً له أو أخص منه ، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولاً بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولاً بالعبد الثالث : وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } فلما ذكر عقيبة قوله : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة ، لأن قوله : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} خرج مخرج التفسير لقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى ، فوجب أن لا يكون مشروعاً فإن احتج الخصم بقوله تعالى : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (المائدة : 45) فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين أحدهما : أن قوله : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} شرع لمن قبلنا ، والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا وثانيهما : أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام ، ثم قال أصحاب هذا القول مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ، وأن لا تقتل الأثنى إلا بالأنثى ، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع ، وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية ، وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد ، فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ ، أما الإجماع فظاهر ، وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى ، بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه ، وكذا القول في قتل الأثنى بالذكر ، فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
القول الثاني : أن قوله تعالى : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} لا يفيد الحصر ألبتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أن قوله : {وَالانثَى بِالانثَى } يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} مانعاً من ذلك لوقع التناقض الثاني : أن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } جملة تامة مستقلة بنفسها وقوله : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وإذا تقدم / ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور/ ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل ، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك/
واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد لأن القصاص عبارة عن المساواة ، وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة فوجب أن لا يكون مشروعاً ، أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس ، إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل ، ثم إن سلمنا أن قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يوجب قتل الحر بالعبد ، إلا أنا بينا أن قوله : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} يمنع من جواز قتل الحرب بالعبد ؛ هذا خاص وما قبله عام والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلاً بالعام في اللفظ فإنه يكون جارياً مجرى الاستثناء ولا شك في وجوب تقديمه على العام.
(1/749)
الوجه الثاني : في بيان فائدة التخصيص ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري ، أن هذه الصور هي التي يكتفي فيها بالقصاص ، أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد ، وبين الذكر والأنثى ، فهناك لا يكتفي بالقصاص بل لا بد فيه من التراجع ، وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية ، إلا أن كثيراً من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن علي بن أبي طالب وهو أيضاً ضعيف عند النظر لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع ، فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع ، ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
أما قوله تعالى : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } فاعلم أن الذين قالوا : موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية تمسكوا بهذه الآية وقالوا الآية تدل على أن في هذه القصة عافياً ومعفواً عنه ، وليس ههنا إلى ولي الدم والقاتل ، فيكون العافي أحدهما ولا يجوز أن يكون هو القاتل لأن ظاهر العفو هو إسقاط الحق وذلك إنما يتأتى من الولي الذي له الحق على القتل ، فصار تقدير الآية : فإذا عفي ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف ، وقوله : {شَىْءٍ} مبهم فلا بد من حمله على المذكور السابق وهو وجوب القصاص إزالة للإبهام ، فصار تقدير الآية إذا حصل العفو للقاتل عن وجوب القصاص ، فليتبع القاتل العافي بالمعروف ، وليؤد إليه مالاً بإحسان ، وبالإجماع لا يجب أداء غير الدية ، فوجب أن يكون / ذلك الواجب هو الدية ، وهذا يدل على أن موجب العمد هو القود أو المال ، ولو لم يكن كذلك لما كان المال واجباً عند العفو عن القود ، ومما يؤكد هذا الوجه قوله تعالى : {ذَالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية ، وفي القصاص رحمة من الله عليكم ، لأن الحكم في اليهود حتم القصاص والحكم في النصارى حتم العفو فخف عن هذه الأمة وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية ، وذلك تخفيف من الله ورحمة في حق هذه الأمة لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إدا كان محتاجاً إلى المال ، وقد يكون القود آثر إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه ، فجعل الخيرة له فيما أحبه رحمة من الله في حقه.
فإن قيل : لا نسلم أن العافي هو ولي الدم وقوله العفو إسقاط الحق وذلك لا يليق إلا بولي الدم.
قلنا : لا نسلم أن العفو هو إسقاط الحق ، بل المراد من قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} أي فمن سهل له من أخيه شيء ، يقال : أتاني هذا المال عفواً صفواً ، أي سهلاً ، ويقال : خذ ما عفا ، أي ما سهل ، قال الله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ} فيكون تقدير الآية : فمن كان من أولياء الدم وسهل له من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فليتبع ولي الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال وليؤد القاتل إلى ولي الدم ذلك المال بالإحسان من غير مطل ولا مدافعة ، فيكون معنى الآية على هذا التقدير : إن الله تعالى حث الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفوا عن القود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
سلمنا أن العافي هو ولي الدم ، لكن لم لا يجوز أن يقال : المراد هو أن يكون القصاص مشتركاً بين شريكين فيعفو أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر مالاً فالله تعالى أمر الشريك الساكت باتباع القاتل بالمعروف ، وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان.
سلمنا أن العافي هو ولي الدم سواء كان له شريك أو لم يكن ، لكن لم لا يجوز أن يقال : إن هذا مشروط برضا القاتل ، إلا أنه تعالى لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتاً لا محالة لأن الظاهر من كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه لأنه إذا قتل لا يبقى له لا النفس ولا المال أما بذل المال ففيه إحياء النفس ، فلما كان هذا الرضا حاصلاً في الأعم الأغلب لا جرم ترك ذكره وإن كان معتبراً في النفس الأمر.
(1/750)
والجواب : حمل لفظ العفو في هذه الآية على إسقاط حق القصاص أولى من حمله على أن يبعث القاتل المال إلى ولي الدم ، وبيانه من وجهين الأول : أن حقيقة العفو إسقاط الحق ، فيجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك ، وحمل اللفظ في هذه الآية على إسقاط الحق أولى من حمله على ما ذكرتم ، لأنه لما تقدم قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } كان حمل قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} على إسقاط حق القصاص أولى ، لأن قوله : {شَىْءٍ} لفظ مبهم / وحمل هذا المبهم على ذلك المعنى الذي هو المذكور السابق أولى الثاني : أنه لو كان المراد بالعفو ما ذكرتم ، لكان قوله : {فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } عبثاً لأن بعد وصول المال إليه بالسهولة واليسر لا حاجة به إلى اتباعه ، ولا حاجة بذلك المعطي إلى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان.
وأما السؤال الثاني فمدفوع من وجهين الأول : أن ذلك الكلام إنما يتمشى بفرض صورة مخصوصة ، وهي ما إذا كان حق القصاص مشتركاً بين شخصين ثم عفا أحدهما وسكت الآخر ، والآية دالة على شرعية هذا الحكم على الإطلاق ، فحمل اللفظ المطلق على الصورة الخاصة المفيدة خلاف الظاهر والثاني : أن الهاء في قوله : {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } ضمير عائد إلى مذكور سابق ، والمذكور السابق هو العافي ، فوجب أداء هذا المال إلى العافي ، وعلى قولكم : يجب أداؤه إلى غير العافي فكان قولكم باطلاً.
وأما السؤال الثالث أن شرط الرضا إما أن يكون ممتنع الزوال ، أو كان ممكن الزوال ، فإن كان ممتنع الزوال ، فوجب أن يكون مكنة أخذ الدية ثابتة لولي الدم على الإطلاق ، وإن كان ممكن الزوال كان تقييد اللفظ بهذا الشرط الذي ما دلت الآية على اعتباره مخالفة للظاهر وأنه غير جائز ولما تلخص هذا البحث فنقول : الآية بقيت فيها أبحاث لفظية نذكرها في معرض السؤال والجواب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
البحث الأول : كيف تركيب قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} .
الجواب : تقديره : فمن له من أخيه شيء من العفو ، وهو كقوله : سير بزيد بعض السير وطائفة من السير.
البحث الثاني : أن {عُفِىَ} يتعدى بعن لا باللام/ فما وجه قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَه } .
الجواب : أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى : {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} (التوبة : 43) فإذا تعدى إلى الذنب قيل : عفوت عن فلان عما جنتى ، كما تقول : عفوت له عن ذنبه ، وتجاوزت له عنه ، وعليه هذه الآية ، كأنه قيل : فمن عفى له من جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية.
البحث الثالث : لم قيل شيء من العفو ؟
.
والجواب : من وجهين أحدهما : أن هذا إنمايشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط ، فحينئذ يقال : القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله : {شَىْءٍ} فائدة ، أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضاً لأن له أن يعفو عن القود دون المال ، وله أن يعفو عن الكل ، فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} .
والجواب الثاني : أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة ، لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر / في سقوط القود ، إلا أن يكون عفواً عن جميعه ، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود ، وعفو بعض الأولياء عن حقه ، كعفو جميعهم عن خلقهم ، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك ، فلما نكره صار هذا المعنى مفهوماً منه ، فلذلك قال تعالى : {فَمَنْ عُفِىَ لَه مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} .
البحث الرابع : بأي معنى أثبت الله وصف الأخوة.
والجواب : قيل : إن ابن عباس تمسك بهذه الآية في بيان كون الفاسق مؤمناً من ثلاثة أوجه : الأول : أنه تعالى سماه مؤمناً حال ما وجب القصاص عليه ، وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر ، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن والثاني : أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الذم ، ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين ، لقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فلولا أن الإيمان باقٍ مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان الثالث : أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن ، أجابت المعتزلة عن الوجه الأول فقالوا : إن قلنا المخاطب بقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } هم الأئمة فالسؤال زائل ، وإن قلنا : إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين أحدهما : أن القتال قبل إقدامه على القاتل كان مؤمناً ، فسماه الله تعالى مؤمناً بهذا التأويل والثاني : أن القتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً ، ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
(1/751)
وأما الوجه الثاني : وهو ذكر الأخوة ، فأجابوا عنه من وجوه الأول : أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً ، ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل والثاني : الظاهر أن الفاسق يتوب ، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له والثالث : يجوز أن يكون جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } والرابع : أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص ، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة ، كم تقول للرجل ، قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق والخامس : ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد.
والجواب : أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان ، وبصفة دون صفة ، والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق.
وأما قوله تعالى : {فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } ففيه أبحاث :
البحث الأول : قوله : {فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ} رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره : فحكمه اتباع ، أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره : فعليه اتباع بالمعروف.
البحث الثاني : قيل : على العافي الاتباع بالمعروف ، وعلى المعفو عنه أداء بإحسان ، عن ابن / عباس والحسن وقتادة ومجاهد ، وقيل : هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ، ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان.
البحث الثالث : الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة ، بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسراً فالنظرة ، وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق ، وإن كان واجداً لغير المال الواجب ، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل ، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات ، فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل.
أما قوله تعالى : {ذَالِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ففيه وجوه أحدها : أن المراد بقوله : {ذَالِكَ} أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم ، لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم ألبتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً ، وهذا قول ابن عباس ، وثانيها : أن قوله : {ذَالِكَ} راجع إلى قوله : {فَاتِّبَاعُا بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } .
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
أما قوله : {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَالِكَ} التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه قال ابن عباس والحسن : المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية ، وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية ، ثم ظفوا بعد ذلك بالقاتل قتلوه ، فنهى الله عن ذلك وقيل المراد : أن يقتل غير قاتله ، أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ (فله عذاب أليم) وفيه قولان أحدهما : وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة والثاني : روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله عليه السلام : "لا أعافي أحداً قتل بعد أن أخذ الدية" وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها : أن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة وثانيها : أنا بينا أن القود تارة يكون عذاباً وتارة يكون امتحاناً ، كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه وثالثها : أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياساً على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 220
228
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أوجب في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف ؟
فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه حكمة شرع القصاص فقال : {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} وفي الآية مسائل :
(1/752)
المسألة الأولى : في الآية وجوه الأول : أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء ، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً ، وفي حق من يراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهما أيضاً ، أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً ، وأما في حق من يراد جعله مقتولاً فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول ، وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل ، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما ، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعاً زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.
الوجه الثاني : في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ، فكان القصاص نفسه سبباً للحياة من هذا الوجه ، واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مخص بالقصاص الذي هو القتل ، يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سبباً لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضاً فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود ، فخوف القصاص حاصل في النفس.
الوجه الثالث : أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي.
والوجه الرابع : قرأ أبو الجوزاء {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل : {الْقِصَاصِ} القرآن ، أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله : {رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
المسألة الثانية : اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات ، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقل القتل ، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل ، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا ، وبيان التفاوت من وجوه : أحدها : أن قوله : {وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} أخصر من الكل ، لأن قوله : {وَلَكُمْ} لا يدخل في / هذا الباب ، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ، لأن قول القائل : قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله ، وكذلك في قولهم : القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله : {فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} أشد اختصاراً من قولهم : القتل أنفى للقتل وثانيها : أن قولهم : القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وقوله : {فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} ليس كذلك ، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سبباً لمطلق الحاية لأنه ذكر الحياة منكرة/ بل جعله سبباً لنوع من أنواع اللحياة وثالثها : أن قولهم القتل أنفى للقتل ، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله : {فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} كذلك ورابعها : أن قول القائل : القتل أنفى للقتل. لا يفيد إلا الردع عن القتل ، وقوله : {فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ} يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها : أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي ، فكان هذا أولى وسادسها : أن القتل ظلماً قتل ، مع أنه لا يكون نافياً للقتل بل هو سبب لزيادة القتل ، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً ، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.
المسألة الثانية : احتجت المعتزلة بهذه الآية على فساد قول أهل السنة في قولهم : إن المقتول لو لم يقتل لوجب أن يموت. فقالوا إذا كان الذي يقتل يجب أن يموت لو لم يقتل ، فهب أن شرع القصاص يزجر من يريد أن يكون قاتلاً عن الإقدام على القتل ، لكن ذلك الإنسان يموت سواء قتله هذا القاتل أو لم يقتله ، فحينئذ لا يكون شرع القصاص مفضياً إلى حصول الحياة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
(1/753)
فإن قيل : أنا إنما نقول فيمن قتل لو لم يقتل كان يموت لا فيمن أريد قتله ولم يقتل فلا يلزم ما قلتم ، قلنا أليس إنما يقال فيمن قتل لو لم يقتل كيف يكون حاله ؟
فإذا قلتم : كان يموت فقد حكمتم في أن من حق كل وقت صح وقوع قتله أن يكون موته كقتله ، وذلك يصحح ما ألزمناكم لأنه لا بد من أن يكون على قولكم المعلوم أنه لو لم يقتله إما لأن منعه مانع عن القتل ، أو بأن خاف قتله أنه كان يموت وفي ذلك صحة ما ألزمناكم ، هذا كله ألفاظ القاضي.
أما قوله تعالى : {وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ} فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم ، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع ، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف ، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب.
/ وأما قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظة {لَعَلَّ} للترجي ، وذلك إنما يصح في حق من لم يكن عالماً بجميع المعلومات ، وجوابه ما سبق في قوله تعالى : {قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 21).
المسألة الثانية : قال الجبائي : هذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل التقوى ، سواء كان في المعلوم أنهم يتقون أو لا يتقون بخلاف قول المجبرة ، وقد سبق جوابه أيضاً في تلك الآية.
المسألة الثالثة : في تفسير الآية قولان أحدهما : قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني : أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى ، فحمله على الكل أولى : ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها ، فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه.
الحكم الخامس
جزء : 5 رقم الصفحة : 228
231
اعلم أن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} يقتضي الوجوب على ما بيناه ، أما قوله : {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} فليس المراد منه معاينة الموت ، لأن في ذلك الوقت يكون عاجزاً عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره وجهين الأول : وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت ، وهو المرض المخوف وذلك ظاهر في اللغة ، يقال فيمن يخاف عليه الموت : إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل والثاني : قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا : إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي : والقول الأول أولى لوجهين أحدهما : أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز والثاني : أن ما ذكرناه هو الظاهر ، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره.
أما قوله {إِن تَرَكَ خَيْرًا} (العايات : 8) فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن / كقوله : {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} (البقرة : 272) {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ} (العاديات : 8) {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قولان : أحدهما : أنه لا فرق بين القليل والكثير ، وهو قول الزهري ، فالوصية واجبة في الكل ، واحتج عليه بوجهين : {الاوَّلِ } أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيراً ، والمال القليل خير ، يدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } (الزلزلة : 7 ـ 8) وأيضاً قوله تعالى : {لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك فيكون خيراً.
الحجة الثانية : أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر ، بدليل قوله تعالى : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَا نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (النساء : 7) فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
(1/754)
والقول الثاني : وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن من ترك درهماً لا يقال : إنه ترك خيراً ، كما يقال : فلان ذو مال ، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة ، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير ، وكذلك إذا قيل : فلان في نعمة ، وفي رفاهية من العيش. فإنما يراد به تكثير النعمة ، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله ، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه ، كما قد روي من قوله : "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وقوله : "ليس بمؤمن من باب شبعاناً وجاره جائع" ونحو هذا.
الحجة الثالثة : لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك ، سواء كان قليلاً ، أو كثيراً ، لما كان التقييد بقوله : {إِن تَرَكَ خَيْرًا} كلاماً مفيداً ، لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئاً ما ، قليلاً كان أو كثيراً ، أما الذي يموت عرياناً ولا يبقى معه كسرة خبر ، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته ، فذاك في غاية الندرة ، فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير ، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان :
القول الأول : أنه مقدر بمقدار معين ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا/ فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أولا أوصي ، قال لها : لا إنما قال الله تعالى : {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وليس لك كثير مال ، وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال : إني أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك ؟
قال ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك ؟
قال أربعة قالت : قال الله {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ، وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم ، وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم.
والقول الثاني : أنه غير مقدر بمقدار معين. بل يختلف دلك باختلاف حال الرجال ، لأن / بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني ، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغني لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة ، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقاً بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد ، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها.
أما قوله : {الْوَصِيَّةُ} ففيه مسألتان :
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
المسألة الأولى : إنما قال : {كَتَبَ} لأنه أراد بالوصية الإيصاء ، ولذلك ذكر الضمير في قوله : {فَمَنا بَدَّلَه بَعْدَمَا سَمِعَه } (البقرة : 181) وأيضاً إنما ذكر للفصل بين الفعل والوصية ، لأن الكلام لما طال كان الفاصل بين المؤنث والفعل ، كالعوض من تاء التأنيث ، والعرب تقول حضر القاضي امرأة ، فيذكرون لأن القاضي بين الفعل وبين المرأة.
المسألة الثانية : رفع الوصية من وجهين أحدهما : على ما لم يسم فاعله والثاني : على أن يكون مبتدأ وللوالدين الخبر ، وتكون الجملة في موضع رفع بكتب ، كما تقول قيل عبد الله قائم ، فقولك عبد الله قائم جملة مركبة من تبدأ وخبر ، والجملة في موضع رفع بقيل.
أما قوله : {لِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الله تعالى لما بين أن الوصية واجبة ، بين بعد ذلك أنها واجبة لمن فقال : للوالدين والأقربين ، وفيه وجهان : الأول : قال الأصم : إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشرف ، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة ، فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعاً للقوم عما كانوا اعتادوه وهذا بين الثاني : قال آخرون إن إيجاب هذه الوصية لما كان قبل آية المواريث ، جعل الله الخيار إلى الموصي في ماله وألزمه أن لا يتعدى في إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان والأقربين فيكون واصلاً إليهم بتمليكه واختياره ، ولذلك لما نزلت آية المواريث قال عليه الصلاة والسلام : "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فبين أن ما تقدم كان واصلاً إليهم بعطية الموصي ، فأما الآن فالله تعالى قدر لكل ذي حق حقه ، وأن عطية الله أولى من عطية الموصي ، وإذا كان كذلك فلا وصية لوارث ألبتة ، فعلى هذا الوجه كانت الوصية من قبل واجبة للوالدين والأقربين.
المسألة الثانية : اختلفوا في قوله : {وَالاقْرَبِينَ} من هم ؟
فقال قائلون : هم الأولاد فعلى هذا أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأولاد وهو قول عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
والقول الثاني : وهو قول ابن عباس ومجاهد أن المراد من الأقربين من عدا الوالدين.
والقول الثالث : أنهم جميع القرابات من يرث منهم ومن لا يرث وهذا معنى قول من أوجب الوصية للقرابة ، ثم رآها منسوخة.
(1/755)
/ والقول الرابع : هم من لا يرثون من الرجل من أقاربه ، فأما الوارثون فهم خارجون عن اللفظ ، أما قوله : {بِالْمَعْرُوفِ } فيحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ، ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصى له من الأقربين ممن لا يوصى/ لأن كلا الوجهين يدخل في المعروف ، فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك الطريق الجميلة ، فإذا فاضل بينهم ، فبالمعروف وإذا سوى فكمثل ، وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفاً ، ولو سوى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفاً ، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول : لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط ، الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
أما قوله تعالى : {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} فزيادة في توكيد وجوبه ، فقوله : {حَقًّا} مصدر مؤكد ، أي حق ذلك حقا ، فإن قيل : ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم.
فالجواب : من وجهين الأول : أن المراد بقوله : {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أنه لازم لمن آثر التقوى ، وتحراه وجعله طريقة له ومذهباً فيدخل الكل فيه الثاني : أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين ، وغيرهم ، فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف ؛ فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الأية.
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه الوصية ، منهم من قال : كانت واجبة ومنهم من قال : كانت ندباً واحتج الأولون بقوله : {كَتَبَ} وبقوله : {عَلَيْكُمْ} وكلا اللفظين ينبىء عن الوجوب ، ثم إنه تعالى أكد ذلك الإيجاب بقوله : {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وهؤلاء اختلفوا منهم من قال هذه الآية صارت منسوخة ، ومنهم من قال إنها ما صارت منسوخة ، وهذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني ، وتقرير قوله من وجوه أحدها : أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث ومعناها كتب عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ } (النساء : 11) أو كتب على المختصر أن يوصيكم للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصباتهم وثانيها : أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للاقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت ، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين وثالثها : لو قدرنا حصول المنافاة لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين ، ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية ، وذلك لأن من الوالدين من يرث ، ومنهم من لا يرث ، وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجبة ومنهم من يسقط / في حال ويثبت في حال ، إذا كان في الواقعة من هو أولى بالميراث منهم ، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم فكل من كان من هؤلاء وارثاً لم يجز الوصية له ، ومن لم يكن وارثاً جازت الوصية له لأجل صلة الرحم ، فقد أكد الله تعالى ذلك بقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } (النساء : 1) وبقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاحْسَانِ وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى } (النحل : 90) فهذا تقرير مذهب أبي مسلم في هذا الباب. أما القائلون بأن الآية منسوخة فيتوجه تفريعاً على هذا المذهب أبحاث :
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
البحث الأول : اختلفوا في أنها بأي دليل صارت منسوخة ؟
وذكروا وجوهاً أحدهما : أنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه فقط وهذا بعيد لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ بأن يقول قائل : إنه لا بد وأن تكون منسوخة فيمن لم يختلف إلا الوالدين من حيث يصير كل المال حقاً لهما بسبب الإرث فلا يبقى للوصية شيء إلا أن هذا تخصيص لا نسخ وثانيها : أنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام : "ألا لا وصية لوارث" وهذا أقرب إلا أن الإشكال فيه أن هذا خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به ، وأجيب عن هذا السؤال بأن هذا الخبر وإن كان خبر واحد إلا أن الأئمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر.
(1/756)
ولقائل أن يقول : يدعى أن الأئمة تلقته بالقبول على وجه الظن أو على وجه القطع ، والأول مسلم إلا أن ذلك يكون إجماعاً منهم على أنه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من باب الآحاد لكانوا قد أجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز وثالثها أنها صارت منسوخة بالإجماع والإجماع لا يجوز أن ينسخ به القرآن. لأن الإجماع يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجوداً إلا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل ، ولقائل أن يقول : لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ فكيف يدعى انعقاد الإجماع على حصول النسخ ؟
ورابعها : أنها صارت منسوخة بدليل قياسي وهو أن نقول : هذه الوصية لو كانت واجبة لكان عندما لم توجد هذه الوصية وجب أن لا يسقط حق هؤلاء الأقربين قياساً على الديون التي لا توجد الوصية بها لكن عندما لم توجد الوصية لهؤلاء الأقربين لا يستحقون شيئاً ، بدليل قوله تعالى في آية المواريث : {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} (النساء : 11) وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية ولا دين ، فالمال أجمع مصروف إلى أهل الميراث ، ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائز والله أعلم.
البحث الثاني : القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة اختلفوا على قولين منهم من قال : إنها صارت منسوخة في حق من يرث وفي حق من لا يرث وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ، ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس / والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية ، وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب ، فعند هؤلاء أن هذه الآية بقيت دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً ، وحجة هؤلاء من وجهين :
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
الحجة الأولى : أن هذه الآية دالة على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق الوارث القريب ، إما بآية المواريث وإما بقوله عليه الصلاة والسلام : "ألا لا وصية لوارث" أو بالإجماع على أنه لا وصية للوارث ، وههنا الإجماع غير موجود مع ظهور الخلاف فيه قديماً وحديثاً ، فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً.
الحجة الثانية : قوله عليه الصلاة والسلام : "ما حق أمرىء مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" وأجمعنا على أن الوصية لغير الأقارب غير واجبة ، فوجب أن تكون هذه الوصية الواجبة مختصة بالأقارب ، وصارت السنة مؤكدة للقرآن في وجوب هذه الوصية.
وأما الجمهور القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً فأجود ما لهم التمسك بقوله تعالى : {مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} وقد ذكرنا تقريره فيما قبل.
البحث الثالث : القائلون بأن هذه الآية ما صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً ، اختلفوا في موضعين الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء ، وقال الحسن البصري : هم الأغنياء سواء الثاني : روي عن الحسن وخالد بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصي له وعن طاوس أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزعت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 231
235
اعلم أنه تعالى لما ذكر أمر الوصية ووجوبها ، وعظم أمرها ، أتبعه بما يجري مجرى الوعيد في تغييرها.
أما قوله تعالى : {فَمَنا بَدَّلَه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا المبدل من هو ؟
فيه قولان أحدهما : وهو المشهور أنه هو الوصي / أو الشاهد أو سائر الناس ، أما الوصي فبأن يغير الوصي الوصية إما في الكتابة وإما في قسمة الحقوق وأما الشاهد فبأن يغير شهادة أو يكتمها ، وأما غير الوصي والشاهد فبأن يمنعوا من وصل ذلك المال إلى مستحقه ، فهؤلاء كلهم داخلوا تحت قوله تعالى : {فَمَنا بَدَّلَه } .
والقول الثاني : أن المنهى عن التغيير هو الموصي نهى عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها وذلك لأنا بينا أنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأجانب ويتركون الأقارب في الجوع والضر ، فالله تعالى أمرهم بالوصية للأقربين ، ثم زجر بقوله : {فَمَنا بَدَّلَه بَعْدَمَا سَمِعَه } من أعرض عن هذا التكليف.
(1/757)
المسألة الثانية : الكناية في قوله : {فَمَنا بَدَّلَه } عائد إلى الوصية ، مع أن الكناية المذكورة مذكرة والوصية مؤنثة ، وذكروا فيه وجوها أحدها : أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه ، كقوله تعالى : {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ} (البقرة : 275) أي وعظ ، والتقدير : فمن بدل ما قاله الميت ، أو ما أوصى به أو سمعه عنه وثانيها : قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض والتقدير فمن بدل الأمر المقدم ذكره وثالثها : أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره ، وإن كانت الوصية مؤنثة ورابعها : أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل وخامسها : أن تأنيث الوصية ليس بالحقيقي فيجوز أن يكنى عنها بكناية المذكر.
أما قوله : {بَعْدَمَا سَمِعَه } فهو يدل على أن الإثم إنما يثبت أو يعظم بشرط أن يكون المبدل قد علم ذلك ، لأنه لا معنى للسماع لو لم يقع العلم به ، فصار إثبات سماعه كإثبات علمه.
أما قوله : {فَإِنَّمَآ إِثْمُه عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَه ا } فاعلم أن كلمة {إِنَّمَا} للحصر والضمير في قوله : {إِثْمُه } عائد إلى التبديل ، والمعنى : أن إثم ذلك التبديل لا يعود إلا إلى المبدل ، وقد تقدم بيان أن المبدل من هو.
جزء : 5 رقم الصفحة : 235
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أحكام أحدها : أن الطفل لا يعذب على كفر أبيه وثانيها : أن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه ، ثم إن الوارث قصر فيه بأن لا يقضي دينه فإن الإنسان الميت لا يعذب بسبب تقصير ذلك الوارث خلافاً لبعض الجهال وثالثها : أن الميت لا يعذب ببكاء غيره عليه ، وذلك لأن هذه الآية دالة على أن إثم التبديل لا يعود إلا إلى المبدل ، فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره وتتأكد دلالة هذه الآية بقوله تعالى : {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (البقرة : 164) {مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِه ا وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } ( الجاثية : 15 ، فصلت : 46) {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (البقرة : 286).
المسألة الثالثة : إذا أوصى للأجانب ، وفي الأقارب من تشتد حاجته هل يجوز للوصي تغيير الوصية أما من يقول بوجوب الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين اختلفوا فيه ، / فمنهم من قال : كانت الوصية للأقارب واجبة عليه ، فإذا لم يفعل وصرف الوصية إلى الأجانب كان ذلك الأجنبي أحق به ، ومنهم من قال : ينقض ذلك ويرد إلى الأقربين وقد ذكرنا تفصيل قول هؤلاء/ أما من لا يوجب الوصية للقريب الذي لا يرث ، فإما أن يكون ذلك بالثلث أو بأكثر من الثلث ، فإن كان بالثلث فهو جائز ولا يجوز تغييره ، ثم اختلفوا في المستحب ، فكان الحسن يقول : المستحب هو النقصان من الثلث ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال : "الثلث والثلث كثير" فندب إلى النقصان ، ومنهم من قال : بل الثلث مستحب ، لأنه حقه والثواب فيه أكثر ، ومنهم من يعتبر حال الميت وحال الورثة وقدر التركة ، وهذا هو الأولى ، فأما إن كانت الوصية بأكثر من الثلث فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : لا يجوز ذلك إلا بأمر الورثة ، والتماس الرضا منهم ، وقال آخرون : لا تأثير لقول الورثة إلا بعد الموت ، ثم إذا أوصى بأكثر من الثلث اختلفوا فمنهم من قال : يجوز إن أجازه الوارث ويكون عطية من الميت ، ومنهم من يقول : بل يكون كابتداء عطية من الوارث.
أما قوله : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فمعناه أنه تعالى سميع للوصية على حدها ، ويعلمها على صفتها ، فلا يخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 235
236
اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية ، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل ، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن ، وهو المراد من قوله : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} لأن الإصلاح يقتضي ضرباً من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين ، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {مُّوصٍ} بالتشديد ، والباقون بالتخفيف وهما لغتان : وصى وأوصى بمعنى واحد.
المسألة الثانية : الجنف : الميل في الأمور ، وأصله العدول عن الاستواء ، يقال : جنف يجنف بكسر النون في الماضي ، وفتحها في المستقبل ، جنفاً ، وكذلك : تجانف ، ومنه قوله تعالى : / {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } (المائدة : 3) والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد.
المسألة الثالثة : في قوله تعالى : {فَمَنْ خَافَ} قولان : أحدهما : أن المراد منه هو الخوف والخشية.
فإن قيل : الخوف إنما يصح في أمر منتظر ، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف.
(1/758)
والجواب من وجوه أحدها : أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمداً بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق حقه ، أو يعدل عن المستحق ، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح ، لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارت فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل ، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم ، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة ، أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلاناً مع أنه لا يكون مستحقاً للزيادة ، أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفاً من حنث وإثم لا قاطعاً عليه ، ولذلك قال تعالى : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
الوجه الثاني : في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين ، لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعاً عليه ، فلذلك علقه بالخوف.
الوجه الثالث : في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي ، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ ، فلما كان ذلك منتظراً لم يكن حكم الجنف والإثم ماضياً مستقراً ، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين ، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى.
القول الثاني : في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ خَافَ} أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر ، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته/ وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
المسألة الرابعة : قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق / الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك ، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين.
أما قوله تعالى : {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا المصلح من هو ؟
الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية وقد يدخل تحته الشاهد ، وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي ، أو من يأمر بالمعروف. فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية ، أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب ، بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الضمير في قوله : {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فما ذلك المذكور السابق ؟
وجوابه : أن لا شبهة أن المراد بين أهل الوصايا ، لأن قوله : {مِن مُّوصٍ} دل على من له الوصية فصار كأنهم ذكروا فصلح أن يقول تعالى فأصلح بينهم كأنه قال : فأصلح بين أهل الوصية وقال القائلون : المراد فأصلح بين أهل الوصية والميراث ، وذلك هو أن يزيد الموصي في الوصية على قدر الثلث ، فالمصلح يصلح بين أهل الوصايا والورثة في ذلك ، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها : أن لفظ الموصي إنما يدل على أهل الوصية لا على الورثة وثانيها : أن الجنف والإثم لا يدخل في أن يوصي بأكثر من الثلث لأن ذلك لما لم يجز إلا بالرضا صار ذكره كلا ذكر ، ولا يحتاج في إبطاله إلى إصلاح لأنه ظاهر البطلان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
المسألة الثالثة : في بيان كيفية هذا الإصلاح وههنا بحثان :
البحث الأول : في بيان كيفية هذا الإصلاح قبل أن صارت هذه الآية منسوخة ، فنقول بينا أن ذلك الجنف والإثم كان إما بزيادة أو نقصان أو بعدول فاصلاحها إنما يكون بإزالة هذه الأمور الثلاثة ورد كل حق إلى مستحقه.
البحث الثاني : في كيفية هذا الإصلاح بعد أن صارت هذه الآية المنسوخة فنقول الجنف والإثم ههنا يقع على وجوه منها أن يظهر من المريض ما يدل على أنه يحاول منع وصول المال إلى الوارث ، إما بذكر إقرار ، أو بالتزام عقد ، فههنا يمنع منه ومنها أن يوصي بأكثر من الثلث ومنها أن يوصي للأباعد وفي الأقارب شدة حاجة ، ومنها أن يوصي مع قلة المال وكثرة العيال إلى غير ذلك من الوجوه.
أما قوله تعالى : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } ففيه مسألتان :
(1/759)
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو / يستحق الثواب عليه ، فكيف يليق به أن يقال : فلا إثم عليه. وجوابه من وجوه الأول : أنه تعالى لما ذكر إثم المبدل في أول الآية ، وهذا أيضاً من التبديل بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه لأنه رد الوصية إلى العدل والثاني : لما كان المصلح ينقص الوصايا وذلك يصعب على الموصي له ويوهم فيه إثماً أزال الشبهة وقال : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } والثالث : بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك ، وأنه متى غير إلى الحق وإن كان خالف الوصية فلا إثم عليه ، وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي وصرف لماله عمن أحب إلى من كره ، لأن ذلك يوهم القبح ، فبين الله عز وجل أن ذلك حسن لقوله : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } والرابع : أن الإصلاح بين الجماعة يحتاج فيه إلى الإكثار من القول ويخاف فيه أن يتخلله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل ، فبين تعالى أنه لا إثم على المصلح في هذا الجنس إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً.
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع.
أما قوله : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ففيه أيضاً سؤال : وهو أن هذا الكلام إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز ، أما هذا الإصلاح فهو من جملة الطاعات فكيف به هذا الكلام وجوابه من وجوه أحدها : أن هذا من باب تنبيه الأدنى على الأعلى كأنه قال أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك مع أنك تحملت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهم كان أولى ، وثانيها : يحتمل أن يكون المراد أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم متى أصلحت وصيته فإن الله غفور رحيم يغفر له ويرجحه بفضله وثالثها : أن المصلح ربما احتاج في إيتاء الإصلاح إلى أقوال وأفعال كان الأولى تركها فإذا علم تعالى منه أن غرضه ليس إلا الإصلاح فإنه لا يؤاخذه بها لأنه غفور رحيم.
الحكم السادس
جزء : 5 رقم الصفحة : 236
239
اعلم أن الصيام مصدر صام كالقيام ، وأصله في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له ، ومنه قيل / للصمت : صوم لأنه إمساك عن الكلام ، قال الله تعالى : {إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ صَوْمًا} (مريم : 26) وصوم النهار إذا اعتدل وقام قائماً الظهيرة قال امرؤ القيس :
فدعها وسل الهم عنها بحسرة
ذمول إذا صام النهار وهجراً
وقال آخر :
حتى إذا صام النهار واعتدل
وصامت الريح إذا ركدت ، وصام الفرس إذا قام على غير اعتلاف وقال النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ويقال : بكرة صائمة إذا قامت فلم تدر قال الراجز :
والبكرات شرهن الصائمة
ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار ، وكذلك مصام النجم قال امرؤ القيس :
كأن الثريا علقت في فصامها
بأمراس كتان إلى صم جندل
هذا هو معنى الصوم في اللغة ، وفي الشريعة هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات حال العلم بكونه صائماً مع اقتران النية.
أما قوله تعالى : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في هذا التشبيه قولان أحدهما : أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم ، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم ، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة ، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
(1/760)
والقول الثاني : أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره ، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فاما أن يقال : إنه يقتضي الإستواء في كل الأمور فلا ، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها : أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى ، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوماف من السنة ، زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون ، وكذبوا في ذلك أيضاً ، لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير ، ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشراً ، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعاً فزادوه ، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال : ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوماً ، وهذا معنى قوله تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا} (التوبة : 31) وهذا مروي عن الحسن وثانيها : أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً ، ولهذا كره صوم يوم الشك ، وهو مروي عن الشعبي وثالثها : أن وجه التشبيه أنه / يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } (البقرة : 187) يفيد نسخ هذا الحكم/ فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلاً على ثبوت هذا المعنى ، قال أصحاب القول الأول : قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصاً برمضان ، وأن يكون صومهم مقدراً بثلاثين يوماً ، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
المسألة الثانية : في موضع {كَمَآ} ثلاثة أقول الأول : قال الزجاج موضع {كَمَآ} نصب على المصدر لأن المعنى : فرض عليكم فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم الثاني : قال ابن الأنباري يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها : كتب عليكم الصيام مشبهاً وممثلاً بما كتب على الذين من قبلكم الثالث : قال أبو علي : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : كتابة كما كتب عليهم ، فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال : ومثله في الإتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق : أنت واحدة ، ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة ، فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
أما قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فاعلم أن تفسير {لَعَلَّ} في حق الله تعالى قد تقدم ، وأما أن هذا الكلام كيف يليق بهذا الموضع ففيه وجوه أحدها : أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين ، كما قيل في المثل السائر : المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه ؛ فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش ، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي ، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} منها بذلك على وجه وجوبه لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجباً وثانيها : المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى وجاؤكم في التقوى وهذا معنى {لَعَلَّ} وثانيها : المعنى : لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح ، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف ورابعها : المراد {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إهمالها وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها واصالتها وخامسها : لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين لأن الصوم شعارهم والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 239
241
اعلم أن في قوله تعالى : {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } مسائل :
(1/761)
المسألة الأولى : في انتصاب {أَيَّامًا} أقوال الأول : نصب على الظرف ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في أيام ، ونظيره قولك : نويت الخروج يوم الجمعة والثاني : وهو قول الفراء أنه خبر ما لم يسم فاعله ، كقولهم : أعطى زيد مالاً والثالث : على التفسير والرابع : بإضمار أي فصوموا أياماً.
المسألة الثانية : اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان ، وهو قول معاذ وقتادة وعطاء ، ورواه عن ابن عباس ، ثم اختلف هؤلاء فقيل : ثلاثة أيام من كل شهر ، عن عطاء ، وقيل : ثلاثة أيام من كل شهر ، وصوم يوم عاشوراء ، عن قتادة ، ثم اختلفوا أيضاً فقال بعضهم : إنه كان تطوعاً ثم فرض ، وقيل : بل كان واجباً واتفق هؤلاء على أنه منسوخ بصوم رمضان ، واحتج القائلون بأن المراد بهذه الأيام غير صوم رمضان بوجوه الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن صوم رمضان نسخ كل صوم ، فدل هذا على أن قبل وجوب رمضان كان صوماً آخر واجباً الثاني : أنه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية ، ثم ذكر حكمهما أيضاً في الآية التي بعد هذه الآية الدالة على صوم رمضان ، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان ، لكان ذلك تكريراً محضاً من غير فائدة أنه لا يجوز الثالث : أن قوله تعالى في هذا الموضع : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ} يدل على أن الصوم واجب على التخيير ، يعني : إن شاء صام ، وإن شاء أعطى الفدية ، وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين ، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني : وهو اختيار أكثر المحققين ، كابن عباس والحسن وأبي مسلم أن المراد بهذه / الأيام المعدودات : شهر رمضان قالوا ، وتقريره أنه تعالى قال أولاً : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183) وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى : {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } فزال بعض الإحتمال ثم بينه بقوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (البقرة : 185) فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان ، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النسخ فيه ، لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يجوز القول به.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
أما تمسكهم أولاً بقوله عليه السلام : "إن صوم رمضان نسخ كل صوم".
فالجواب : أنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يكون المراد أنه نسخ كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة ، لأنه كما يصح أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض ، فيصح أن يكون شرعه ناسخاً لشرع غيره.
سلمنا أن هذا الخبر يقتضي أن يكون صوم رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه ، ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية فمن أين لنا أن المراد بهذه الآية غير شهر رمضان.
وأما حجتهم الثانية : وهي أن هذه الأيام لو كانت هي شهر رمضان ، لكان حكم المريض والمسافر مكرراً.
فالجواب : أن في الابتداء كان صوم شهر رمضان ليس بواجب معين ، بل كان التخيير ثابتاً بينه وبين الفدية ، فلما كان كذلك ورخص للمسافر الفطر كان من الجائز أن يظن أن الواجب عليه الفدية دون القضاء ، ويجوز أيضاً أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان المشقة التي يفارق بها المقيم/ فلما لم يكن ذلك بعيداً بين تعالى أن إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف التخيير في حكم المقيم ، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر ، فلما نسخ الله تعالى ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتماً ، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل عن التخيير إلى التضييق حكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم الصحيح من حيث تغير حكم الله في الصوم ، فبين تعالى أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً ، فهذا هو الفائدة في إعادة ذكر حكم المسافر والمريض ، لا لأن الأيام المعدودات سوى شهر رمضان.
وأما حجتهم الثالثة : وهي قولهم صوم هذه الأيام واجب مخير ، وصوم شهر رمضان واجب معين.
فجوابه ما ذكرنا من أن صوم شهر رمضان كان واجباً مخيراً ، ثم صار معيناً ، فهذا تقرير هذا القول ، واعلم أن على كلا القولين لا بد من تطرق النسخ إلى هذه الآية ، أما على القول الأول فظاهر ، وأما على القول الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان / واجباً مخيراً والآية التي بعدها تدل على التعيين ، فكانت الآية الثانية ناسخة لحكم هذه الآية ، وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } (البقرة : 185) ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصح.
(1/762)
وجوابه : أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول وهذا كما قاله الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم في التلاوة وهو الناسخ والمنسوخ متأخر وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ فقالوا : إن ذلك في التلاوة أن في الإنزال فكان الاعتداد بالحول هو المتقدم والآية الدالة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخرة فصح كونها ناسخة وكذلك نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
المسألة الثالثة : في قوله : {مَّعْدُودَاتٍ } وجهان أحدهما : مقدرات بعدد معلوم وثانيهما : قلائل كقوله تعالى : {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف : 20) وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويحتاط في معرفة تقديره ، وأما الكثير فإنه يصب صباً ويحثى حثياً والمقصود من هذا الكلام كأنه سبحانه يقول : إني رحمتكم وخففت عنكم حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله ، ولا صيام أكثره ، ولو شئت لفعلت ذلك ولكني رحمتكم وما أوجبت الصوم عليكم إلا في أيام قليلة ، وقال بعض المحققين : يجوز أن يكون قوله : {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } من صلة قوله : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 183) وتكون المماثلة واقعة بين الفرضين من هذا الوجه ، وهو تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان في الطول والقصر ، ويكون المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه أياناً أن فرض الصوم علينا وعلى من قبلنا ما كان إلا مدة قليلة لا تشتد مشقتها ، فكان هذا بياناً لكونه تعالى رحيماً بجميع الأمم ، ومسهلاً أمر التكاليف على كل الأمم.
أما قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضاً أو مسافراً فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر قال القفال رحمه الله : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت ، ثم ثانياً بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم ، وهو أنه سبب لحصول التقوى ، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ، ثم ثالثاً : بين أنه مختص بأيام معدودة/ فإن لو جعله أبداً أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعاً : أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة ، ثم بين خامساً : إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون ، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه / الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيراً ، إذا عرفت هذا فنقول في الآية مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
المسألة الأولى : قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} إلى قوله : {ءَاخَرَ } فيه معنى الشرط والجزاء أي من يكن منكم مريضاً أو مسافراً فأفطر فليقض ، وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله كان الإستقبال لا الماضي ، كما تقول : من أتاني أتيته.
المسألة الثانية : المرض عبارة عن عدم اختصاص جميع أعضاء الحي بالحالة المقتضية لصدور أفعاله سليمة سلامة تليق به ، واختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال أحدها : أن أي مريض كان ، وأي مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلاً للفظه المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين ، يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل ، فاعتل بوجع أصبعه وثانيها : أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد ، وبالمسافر الذي يكون كذلك ، وهذا قول الأصم ، وحاصله تنزيل اللفظ المطلق على أكمل الأحوال وثالثها : وهو قول أكثر الفقهاء : أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر النفس أو زيادة في العلة ، إذ لا فرق في الفعل بين ما يخاف منه وبني ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحوم إذا خاف أنه لو صام تشتد حماه ، وصاحب وجع العين يخاف إن صام أن يشتد وجع عينه ، قالوا : وكيف يمكن أن يقال كل مرض مرخص مع علمنا أن في الأمراض ما ينقصه الصوم ، فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته ، ثم تأثيره في الأمر اليسير لا عبرة به ، لأن ذل قد يحصل فيمن ليس بمريض أيضاً ، فإذن يجب في تأثيره ما ذكرناه.
(1/763)
المسألة الثالثة : أصل السفر من الكشف وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم والمسفرة المكنسة ، لأنها تسفر التراب عن الأرض ، والسفير الداخل بين اثنين للصلح ، لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما ، والمسفر المضيء ، لأنه قد انكشف وظهر ومنه أسفر الصبح والسفر الكتاب ، لأنه يكشف عن المعان ببيانه ، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب ، قال الأزهري : وسمي المسافر مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء ، وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ، ويظهر ما كان خافياً منهم ، واختلف الفقهاء في قدر السفر المبيح للرخص ، فقال داود : الرخص حاصلة في كل سفر ولو كان السفر فرسخاً ، وتمسك فيه بأن الحكم لما كان معلقاً على كونه مسافراً ، فحيث تحقق هذا المعنى حصل هذا الحكم أقصى ما في الباب أنه يروي خبر واحد في تخصيص هذا العموم ، لكن تخيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز ، وقال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم : وذلك لأن أقل من هذا القدر قد يتفق للمقيم ، وأما الأكثر فليس عدد أولى من عدد ، فوجب الاقتصار على الواحد ، ومذهب الشافعي أنه مقدر بستة عشر فرسخاً ، ولا يحسب منه مسافرة الإياب ، كل فرسخ ثلاثة / أميال بأميال هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة ، فإن كل ثلاث أقدام خطوة ، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحق وقال أبو حنيفة والثوري : رخص السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرين فرسخاً ، حجة الشافعي وجهان الأول : قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مقتضاه أن يترخص المسافر مطلقاً ترك العمل به فيما إذا كان السفر مرحلة واحدة لأن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله/ أما إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة تحصيلاً لهذا التخفيف.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
الحجة الثانية : من الخبر : وهو ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان ، قال أهل اللغة : وكل بريد أربعة فراسخ فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً ، وروي عن الشافعي أيضاً أن عطاء قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة ؟
فقال : لا. فقال إلى مر الظهران ؟
فقال : لا. ولكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف ، قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد ، وحجة أبي حنيفة أيضاً من وجهين الأول : أن قوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } (البقرة : 185) يقتضي وجوب الصوم عدلنا عنه في ثلاثة أيام بسبب الإجماع على أن هذا القدر مرخص ، والأقل منه مختلف فيه ، فوجب أن يبقى وجوب الصوم.
الحجة الثانية : من الخبر وهو قوله عليه السلام : "يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن" دل الخبر على أن لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ، ولا يكون كذلك حتى تتقدر مدة السفر ثلاثة أيام ، لأنه عليه الصلاة والسلام جعل السفر علة المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وجعل هذا المسح معلولاً والمعلول لا يزيد على العلة.
والجواب عن الأول : أنه معارض بما ذكرناه من الآية فإن رجحوا جانبهم بأن الاحتياط في العبادات أولى ، رجحنا جانبنا بأن التخفيف في رخص السفر مطلوب الشرع ، بدليل قوله عليه السلام : "هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقتبلوا منه صدقته" والترجيح لهذا الجانب ، لأن الدليل الدال على أن رخص السفر مطلوبة للشرع أخص من الدليل الدال على وجوب رعاية الاحتياط والجواب عن الثاني : أنه عليه السلام قال : "يمسح المقيم يوماً وليلة" وهذا لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة صار مقيماً فكذا قوله : "والمسافر ثلاثة أيام" لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضاً أو مسافراً ولم يقل هكذا بل قال : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} .
/ وجوابه : أن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات : فإن حصلت حصلت وإلا فلا وأما السفر فليس كذلك لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفراً وإن عدم السفر كان هو في ذلك الكون مسافراً فإذن كونه مسافراً أمر يتعلق بقصده واختياره ، فقوله : {عَلَى سَفَرٍ} معناه كونه على قصد السفر والله أعلم بمراده.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
المسألة الخامسة : {الْعِدَّةَ} فعلة من العد ، وهو بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة وعدة المرأة من هذا.
فإن قيل : كيف قال : {فَعِدَّةٌ} على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات.
(1/764)
قلنا : لأنا بينا أن العدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياماً معدودة مكانها والظاهر أنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.
المسألة السادسة : {عِدَّةَ} قرئت مرفوعة ومنصوبة ، أما الرفع فعلى معنى فعليه صوم عدة فيكون هذا من باب حذف المضاف ، وأما إضمار {عَلَيْهِ} فيدل عليه حرف الفاء. وأما النصب فعلى معنى : فليصم عدة.
المسألة السابعة : ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، ونقل الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال لو صام في السفر قضي في الحضر ، وهذا اختيار داود بن علي الأصفاني ، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام حجة الأولين من القرآن والخبر أما القرآن فمن وجهين الأول : أنا إن قرأنا {عِدَّةَ} بالنصب كان التقدير : فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب ، ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير : فعليه عدة من أيام ، وكلمة {عَلَى} للوجوب فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر ، فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجباً ضرورة أنه لا قائل بالجمع.
الحجة الثانية : أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية ، ثم قال عقيبها {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئاً تقدم ذكرهما ، وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر ، وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين فكان قوله : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم فذلك تقرير قولنا ، وأما الخبر فإثنان الأول : قوله عليه السلام : "ليس من البر الصيام في السفر" لا يقال هذا الخبر وارد عن سبب خاص ، وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على رجل جالس تحت مظلة فسأل عنه فقيل هذا صائم أجهده العطش ، فقال : "ليس من البر الصيام في السفر" لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : "الصائم في / السفر كالمفطر في الحضر".
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
أما حجة الجمهور : فهي أن في الآية إضماراً لأن التقدير : فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة وقد دل الدليل على وقوعه ههنا أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى : {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَا فَانفَجَرَتْ} (البقرة : 60) والتقدير فضرب فانفجرت وكذلك قوله تعالى : {وَلا تَحْلِقُوا } إلى قوله : {مَّرِيضًا أَوْ بِه أَذًى مِّن رَّأْسِه فَفِدْيَةٌ} (البقرة : 96) أي فحلق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز ، أما أن الدليل دل على وقوعه ففي تقريره وجوه الأول : قال القفال : قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } (البقرة : 185) يدل على وجوب الصوم ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين الأول : أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } (البقرة : 185) على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى والثاني وهو أن ظاهر قوله تعالى : {فَلْيَصُمْه } يقتضي الوجوب عيناً ، ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر ، فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات سواء أجرينا قوله تعالى فعليه : {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } على ظاهره أو لم نفعل ذلك وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار.
الوجه الثاني : ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط ، فقال : القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر ، فلما أوجب الله القضاء والقضاء مسبوق بالفطر ، دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار وهذا في غاية السقوط لأن الله تعالى لم يقل : فعليه قضاء ما مضى بل قال : فعليه صوم عدة من أيام أخر وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقاً بالإفطار.
الوجه الثالث : ما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "صم إن شئت وأفطر إن شئت" ولقائل أن يقول : هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام ، فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه ، فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
المسألة الثامنة : لمذهب القائلين بأن الصوم جائز فرعان :
(1/765)
الفرع الأول : اختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر ؟
فقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي أوفى الصوم أفضل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد ، وقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وقالت فرقة ثالثة : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء.
/حجة الأولين : قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } وقوله تعالى : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } .
حجة الفرقة الثانية : أن القصر في الصلاة أفضل ، فوجب أن يكون الإفطار أفضل.
والجواب : أن من أصحابنا من قال : الإتمام أفضل إلا أنه ضعيف ، والفرق من وجهين : أحدهما : أن الذمة تبقى مشغولة بقضاء الصوم دون الصلاة إذا قصرها والثاني : أن فضيلة الوقت تفوت بالفطر ولا تفوت بالقصر.
حجة الفرقة الثالثة : قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) فهذا يقتضي أنه إن كان الصوم أيسر عليه صام وإن كان الفطر أيسر أفطر.
الفرع الثاني : أنه إذا أفطر كيف يقضي ؟
فمذهب علي وابن عمر والشعبي أنه يقضيه متتابعاً وقال الباقون : التتابع مستحب وإن فرق جاز حجة الأولين وجهان الأول : أن قراءة أبي {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ} والثاني : أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعاً ، فكذا القضاء.
حجة الفرقة الثانية : أن قوله : {سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } نكرة في سياق الإثبات ، فيكون ذلك أمراً بصوم أيام على عدد تلك الأيام مطلقاً ، فيكون التقييد بالتتابع مخالفاً لهذا التعميم ، وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواتر وإن شئت ففرق والله أعلم.
وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلّم على أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقاً فقال له : "أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك ؟
فقال : نعم. قال : فالله أحق أن يعفو ويصفح".
المسألة التاسعة : {ءَاخَرَ } لا ينصرف لأنه حصل فيه سببان الجمع والعدل أما الجمع فلأنها جمع أخرى ، وأما العدل فلأنها جمع أخرى ، وأخرى تأنيث آخر ، وآخر على وزن أفعل ، وما كان على وزن أفعل فإنه إما أن يستعمل مع {مِّنْ} أو مع الألف واللام ، يقال : زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل ، وكان القياس أن يقال رجل آخر من زيد كما تقول قدم أمن عمرو ، إلا أنهم حذفوا لفظ {مِّنْ} لأن لفظه اقتضى معنى {مِّنْ} فأسقطوا {مِّنْ} إكتفاء بدلالة اللفظ عليه ، والألف واللام منافيان {مِّنْ} فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر وآخر وأخرى معدولة عن حكم نظائرها ، لأن الألف واللام استعملتا فيها ثم حذف.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
أما قوله تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القراءة المشهورة المتواترة {يُطِيقُونَه } وقرأ عكرمة وأيوب السختياني وعطاء {يُطِيقُونَه } ومن الناس من قال : هذه القراءة مروية عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد قال : / ابن جني : أما عين الطاقة فواو كقولهم : لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يفعلونه فهو كقولك : يجشمونه. أي يكلفونه.
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } على ثلاثة أقوال الأول : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم.
وأما القسم الأول : فقد ذكر الله حكمه في قوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وأما القسم الثاني : وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم ، فإليهما الإشارة بقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ} فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام والثانية : أن يكون مطيقاً للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيراً بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية.
القول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولاً بين هذين ، ثم نصخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقاً معيناً.
القول الثالث : أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم قالوا : وتقريره من وجهين أحدهما : أن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة.
الوجه الثاني : في تقرير هذا القول القراءة الشاذة {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه ، ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشي مع ضرب من المشقة.
(1/766)
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين أحدهما : وهو قول السدي : أنه هو الشيخ الهرم ، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ، يروى أن أنساً كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم ويطعم لكل يوم مسكيناً وقال آخرون : إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما وعلى ولديهما فقال : فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي.
واعلم أنهم أجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية ، أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فهل عليهما الفدية ؟
فقال الشافعي رضي الله عنه : عليهما الفدية ، فقال أبو حنيفة : لا تجب حجة الشافعي أن قوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ} يتناول الحامل والمرض ، وأيضاً المدية واجبة / على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضاً عليهما ، وأبو حنيفة فرق فقال : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية ، أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما ، فو أوجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل ، فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } .
أما القول الأول : وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه أحدها : أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الغاية ، وهو الذي لا يمكن تحمله ، أو المراد كل ما يسمى مرضاً ، أو المراد منه ما يكون متوسطاً بين هاتين الدرجتين ، والقسم الثاني باطل بالإتفاق ، والقسم الثالث أيضاً باطل ، لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة ، وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إلى ما تحتها قوية ، فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل ، ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول ، وذلك لأنه مضبوط ، فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة.
إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية دل على إيجاب الصوم ، وهو قوله : كتب عليكم الصيام أياماً معدودات ثم بين أحوال المعذورين ، ولما كان المعذورون على قسمين : منهم من لا يطيق الصوم أصلاً/ ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة ، فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
الحجة الثانية : في تقرير هذا القول أنه لا يقال في العرف للقادر القوي : إنه يطيق هذا الفعل لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة.
الحجة الثالثة : أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب ، ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى فكان المصير إلى إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه غير جائز.
الحجة الرابعة : أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر ، وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لائقاً بهذا الموضع ، لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق ، ورفع وجوبه على سبيل التخيير ، فكان ذلك رفعاً لليسر وإثباتاً للعسر فكيف يليق به أن يقول : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال : إن قوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } معطوف على المسافر والمريض ، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم.
/ والجواب : أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم ألبتة ، والمراد من قوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم ، فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره الأصم ليس بضعيف ، أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران ، وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني ، واختاره الشافعي واحتج على فساد القول الثالث ، وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال : لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } لأنه لا يطيقه ، ولقائل أن يقول : هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له : لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيراً لك فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثواباً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
أما قوله تعالى : {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ففيه مسألتان :
(1/767)
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر {فِدْيَةٌ} بغير تنوين {طَعَامُ} بالكسر مضافاً إليه {مِسْكِينٍ } جمعا ، والباقون {فِدْيَةٌ} منونة {طَعَامُ} بالرفع {مِسْكِينٍ } مخفوض ، أما القراءة الأولى ففيها بحثان الأول : أنه ما معنى إضافة فدية إلى طعام ؟
فنقول فيه وجهان : أحدهما : أن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام ، فهذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع وبقله الحمقاء والثاني : قال الواحدي : الفدية اسم للقدر الواجب ، والطعام اسم يعم الفدية وغيرها ، فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى {مِّنْ} كقولك : ثوب خز وخاتم حديد ، والمعنى : ثوب من خز وخاتم من حديد ، فكذا ههنا التقدير : فدية من طعام فأضيفت الفدية إلى الطعام مع أنك تطلق على الفدية اسم الطعام.
البحث الثاني : أن في هذه القراءة جمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه جماعة ، وكل واحد منهم يلزمه مسكين ، وأما القراءة الثانية وهي {فِدْيَةٌ} بالتنوين فجعلوا ما بعده مفسراً له ووحدوا المسكين لأن المعنى على كل واحد لكل يوم طعام مسكين.
المسألة الثانية : الفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم على الشيء وعند أبي حنيفة أنه نصف صاع من بر أو صاع من غيره/ وهو مدان وعند الشافعي مد.
المسألة الثالثة : احتج الجبائي بقوله تعالى : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِدْيَةٌ} على أن الاستطاعة قبل الفعل فقال : الضمير في قوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } عائد إلى الصوم فأثبت القدرة على الصوم حال عدم الصوم ، لأنه أوجب عليه الفدية ، وإنما يجب عليه الفدية إذا لم يصم ، فدل هذا على أن القدرة على الصوم حاصلة قبل حصول الصوم.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الضمير عائد إلى الفدية ؟
/ قلنا لوجهين أحدهما : أن الفدية غير مذكورة من قبل فكيف يرجع الضمير إليها والثاني : أن الضمير مذكر والفدية مؤنثة ، فإن قيل : هذه الآية منسوخة فكيف يجوز الاستدلال بها قلنا : كانت قبل أن صارت منسوخة دالة على أن القدرة حاصلة قبل الفعل ، والحقائق لا تتغير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
أما قوله تعالى : {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّه } ففيه ثلاثة أوجه أحدها : أن يطعم مسكيناً أو أكثر والثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب والثالث : قال الزهري : من صام مع الفدية فهو خير له.
أما قوله : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } ففيه وجوه أحدها : أن يكون هذا خطاباً مع الذين يطيقونه فقط ، فيكون التقدير : وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية والثاني : أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم ، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه ، وهذا أولى لأن اللفظ عام ، ولا يلزم من اتصاله بقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه } أن يكون حكمه مختصاً بهم ، لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل ، فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وأن التقدير : فأفطر فعدة من أيام أخر الثالث : أن يكون قوله : {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } عطفاً عليه على أول الآية فالتقدير : كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم.
أما قوله : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم الثاني : أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية الثالثة : أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) فذكر العلم والمراد الخشية ، وصاحب الخشية يراعي الإحتياط والاحتياط في فعل الصوم ، فكأنه قيل : إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيراً لكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 241
250
فيه مسائل :
المسألة الأولى : الشهر مأخوذ من الشهرة يقال ، شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر ، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم ، وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم ، والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهراً لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهراً باسم الهلال.
المسألة الثانية : اختلفوا في رمضان على وجوه أحدها : قال مجاهد : إنه اسم الله تعالى ، ومعنى قول القائل : شهر رمضان أي شهر الله وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا : جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى".
(1/768)
القول الثاني : أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان ، ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه الأول : ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم ، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم الثاني : أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس ، والإسم الرمضاء ، فسمي هذا الشهر بهذا الإسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته ، كما سموه تابعاً لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم ، وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر ، وقيل : سمي بهذا الإسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها ، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله" الثالث : أن هذا الإسم مأخوذ من قولهم : رمضت النصل أرمضه رمضاً إذا دفعته بين حجرين ليرق ، ونصل رميض ومرموض ، فسمي هذا الشهر : رمضان ، لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم ، وهذا القول يحكى عن الأزهري الرابع : لو صح قولهم : إن رمضان اسم الله تعالى ، وهذا الشهر أيضاً سمي بهذا الإسم ، فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت ، وهذا الشهر أيضاً رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
المسألة الثالثة : قرىء {شَهْرُ} بالرفع وبالنصب ، أما الرفع ففيه وجوه أحدها : وهو قول الكسائي أنه ارتفع على البدل من الصيام ، والمعنى : كتب عليكم شهر رمضان والثاني : وهو قول الفراء والأخفش أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من قوله : {أَيَّامًا} كأنه قيل : هي شهر رمضان ، لأن / قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ} تفسير للأيام المعدودات وتبيين لها الثالث : قال أبو علي : إن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر ، كأنه لما تقدم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} قيل فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان أي صيامه الرابع : قال بعضهم : يجوز أن يكون بمبتدأ وخبره {الَّذِى} مع صلته كقوله زيد الذي في الدار ، قال أبو علي : والأشبه أن يكون {الَّذِى} وصفاً ليكون لفظ القرآن نصاً في الأمر بصوم الشهر ، لأنك إن جعلته خبراً لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ ، إنما يكون مخبراً عنه بإنزال القرآن فيه ، وإيضاً إذا جعلت {الَّذِى} وصفاً كان حق النظم أن يكنى عن الشهر لا أن يظهر كقولك. شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه وأما قراءة النصب ففيها وجوه أحدها : التقدير : صوموا شهر رمضان وثانيها : على الإبدال من أيام معدودات وثالثها : أنه مفعول {وَأَن تَصُومُوا } وهذا الوجه ذكره صاحب "الكشاف" واعترض عليه بأن قيل : فعلى هذا التقدير يصير النظم : وأن تصوموا رمضان الذين أنزل فيه القرأن خير لكم ، وهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير وهو غير جائز لأن المبتدأ والخبر جاريان مجرى الشيء الواحد وإيقاع الفصل بين الشيء وبين نفسه غير جائز.
أما قوله : {أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص ، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية ، وهو أنه أنزل فيه القرآن ، فلا يبعد أيضاً تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم ، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبداً يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصاً بنزول القرآن ، وجب أن يكون مختصاً بالصوم ، وفي هذا الموضع أسرار كثيرة والقدر الذي أشرنا إليه كاف ههنا ، ثم ههنا مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
المسألة الأولى : قوله تعالى : {أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} في تفسيره قولان الأول : وهو اختيار الجمهور : أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "نزل صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين" وههنا سؤلات :
السؤال الأول : أن القرآن ما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام دفعة ، وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا ، وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور ، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان.
(1/769)
/ والجواب عنه من وجهين الأول : أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى الأرض نجوماً ، وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول عليه السلام في توقع الوحي من أقرب الجهات ، أو كان فبه مصلحة لجبريل عليه السلام ، لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته ، أما الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجماً مفرقا فقد شرحناها في سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةًا كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } (الفرقان : 32).
الجواب الثاني عن هذا السؤال : أن المراد منه أنه ابتدىء إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان وهو قول محمد بن إسحاق وذلك لأن مبادىء الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة.
واعلم أن الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز وههنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه.
السؤال الثاني : كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول ، وبين قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) وبين قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } (الدخان : 3).
والجواب : روي أن ابن عمر استدل بهذه الآية وبقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان ، وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان ، وهذا كمن يقول : لقيت فلاناً في هذا الشهر فيقال له. في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيراً للكلام الأول فكذا ههنا.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
السؤال الثالث : أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلّم منجماً إلى آخر عمره ، ويحتمل أيضاً أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمداً عليه السلام وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة ثم كذلك أبداً ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب.
الجواب : كلاهما محتمل ، وذلك لأن قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} يحتمل أن يكون المراد منه الشخص ، وهو رمضان معين ، وأن يكون المراد منه النوع ، وإذا كان كل واحد منهما محتملاً صالحا وجب التوقف.
القول الثاني : في تفسير قوله : {أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} قال سفيان بن عيينة : أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل قال : ومثله أن يقال : أنزل في الصديق كذا / آية : يريدون في فضله قال ابن الأنباري : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كام يقول : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها.
المسألة الثانية : القرآن اسم لما بين الدفتين من كلام الله ، واختلفوا في اشتقاقه ، فروى الواحدي في "البسيط" عن محمد بن عبد الله بن الحكم أن الشافعي رضي الله عنه كان يقول : إن القرآن اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل ، قال ويهمز قراءة ولا يهمز القرآن كما يقول : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} (الآراء : 45) قال الواحدي : وقول الشافعي أنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتق ، وذهب آخرون إلى أنه مشتق ، واعلم أن القائلين بهذا القول منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه ، أما الأولون فلهم فيه اشتقاقان أحدهما : أنه مأخوذ من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر ، فهو مشتق من قرن والإسم قران غير مهموز ، فسمي القرآن قرآناً إما لأن ما فيه من السور والآيات والحروف يقترن بعضها ببعض ، أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع مقترن بعضها ببعض ، أو لأن ما فيه من الدلائل الدالة على كونه من عبد الله مقترن بعضها ببعض ، أعني اشتماله على جهات الفصاحة وعلى الأسلوب الغريب ، وعلى الأخبار عن المغيبات ، وعلى العلوم الكثيرة ، فعلى هذا التقدير هو مشتق من قرن والإسم قران غير مهموز وثانيهما : قال الفراء : أظن أن القرآن سمي من القرائن ، وذلك لأن الآيات يصدق بعضها بعضاً على ما قال تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا} (النساء : 82) فهي قرائن ، وأما الذين همزوا فلهم وجوه أحدها : أنه مصدر القراءة يقال : قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وقراءة وقرآنا ، فهو مصدر ، ومثل القرآن من المصادر : الرجحان والنقصان والخسران والغفران ، قال الشاعر :
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
(1/770)
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي قراءة ، وقال الله سبحانه وتعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى } (الإسراء : 78) هذا هو الأصل ، ثم إن المقروء يسمى قرآناً ، لأن المفعول يسمى بالمصدر كما قالوا للمشرب : شراب وللمكتوب كتاب ، واشتهر هذا الإسم في العرف حتى جعلوه اسماً لكلام الله تعالى وثانيها : قال الزجاج وأبو عبيدة : إنه مأخوذ من القرء وهو الجمع ، قال عمرو :
هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمع في رحمها ولدا ، ومن هذا الأصل : قرء المرأة وهو أيام اجتماع الدم في رحمها ، فسمي القرآن قرآناً ، لأنه يجمع السور ويضمها وثالثها : قول قطرب وهو أنه سمي قرآنا ، لأن القارىء يكتبه ، وعند القراءة كأنه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب : ما قرأت الناقة سلى قط ، أي ما رمت بولد وما أسقطت ولداً قط وما طرحت ، وسمي الحيض ، قرأ لهذا التأويل ، فالقرآن / يلفظه القارىء من فيه ويلقيه فسمي قرآناً.
المسألة الثالثة : قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة : 23) أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج ، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ، ولهذا قال الله تعالى : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلَ} إذا ثبت هذا فنقول : لما كان المراد ههنا من قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل ، وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال. أما قوله : {هُدًى لِّلنَّاسِ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : بينا تفسير الهدى في قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2).
والسؤال أنه تعالى جعل القرآن في تلك الآية هدى للمتقين ، وههنا جعله هدى للناس ، فكيف وجه الجمع ؟
وجوابه ما ذكرناه هناك.
المسألة الثانية : {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ} نصب على الحال ، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
أما قوله تعالى : {وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } ففيه إشكال وهو أن يقال : ما معنى قوله : {وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى } بعد قوله : {هُدَى} .
وجوابه من وجوه الأول : أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى ، ثم الهدى على قسمين : تارة يكون كونه هدى للناس بينا جلياً ، وتارة لا يكون كذلك ، والقسم الأول لا شك أنه أفضل فكأنه قيل : هو هدى لأنه هو البين من الهدى ، والفارق بين الحق والباطل ، فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه ، لكونه أشرف أنواعه ، والتقدير كأنه قيل : هذا هدى ، وهذا بين من الهدى ، وهذا بينات من الهدى ، ولا شك أن هذا غاية المبالغات الثاني : أن يقال : القرآن هدى في نفسه ، ومع كونه كذلك فهو أيضاً بينات من الهدى والفرقان ، والمراد بالهدى والفرقان : التوراة والإنجيل قال الله تعالى : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } (آل عمران : 3 ـ 4) وقال : {وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة : 53) وقال {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَـارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} (الأنبياء : 480) فبين تعالى وتقدس أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان الثالث : أن يحمل الأول على أصول الدين ، والهدي الثاني على فروع الدين ، فحينئذ يزول التكرار والله أعلم.
وأما قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : نقل الواحدي رحمه الله في "البسيط" عن الأخفش والمازني أنهما قالا : الفاء في قوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } زائدة ، قالا : وذلك لأن الفاء قد تدخل للعطف أو للجزاء / أو تكون زائدة ، وليس للعطف والجزاء ههنا وجه ، ومن زيادة الفاء قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّه مُلَـاقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ} (الجمعه : 8).
(1/771)
وأقول : يمكن أن يقال الفاء ههنا للجزاء فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها ، فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة ، ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة ههنا وجه كأنه قيل : لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة ، أما قوله تعالى : {فَإِنَّه مُلَـاقِيكُمْ } الفاء فيه غير زائدة وأيضاً بل هذا من باب مقابلة الضد بالضد كأنه قيل : لما فروا من الموت فجزائهم أن يقرب الموت منهم ليعلموا أنه لا يغني الحذر عن القدر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
المسألة الثانية : {شَهِدَ} أي حضر والشهود الحضور ، ثم ههنا قولان : أحدهما : أن مفعول شهد محذوف لأن المعنى : فمن شهد منكم البلد أو بيته بمعنى لم يكن مسافراً وقوله : {الشَّهْرُ} انتصابه على الظرف وكذلك الهاء في قوله : {فَلْيَصُمْه } .
والقول الثاني : مفعول {شَهِدَ} هو {الشَّهْرُ} والتقدير : من شاهد الشهر بعقله ومعرفته فليصمه وهو كما يقال : شهدت عصر فلان ، وأدركت زمان فلان ، واعلم أن كلا القولين لا يتم إلا بمخالفة الظاهر ، أما القول الأول فإنما يتم بإضمار أمر زائد ، وأما القول الثاني فيوجب دخول التخصيص في الآية ، وذلك لأن شهود الشهر حاصل في حق الصبي والمجنون والمريض والمسافر مع أنه لم يجب على واحد منهم الصوم إلا أنا بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار فالتخصيص أولى ، وأيضاً فلاناً على القول الأول لما التزمنا الإضمار لا بد أيضاً من التزام التخصيص لأن الصبي والمجنون والمريض كل واحد منهم شهد الشهر مع أنه لا يجب عليهم الصوم بل المسافر لا يدخل فلا يحتاج إلى تخصيص هذه الصورة فيه فالقول الأول لا يتمشى إلا مع التزام الإضمار والتخصيص والقول الثاني يتمشى بمجرد التزام التخصيص فكان القول الثاني أولى هذا ما عندي فيه مع أن أكثر المحققين كالواحدي وصاحب "الكشاف" ذهبوا إلى الأول.
المسألة الثالثة : الألف واللام في قوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} للمعهود السابق وهو شهر رمضان ، ونظيره قوله تعالى : {لَّوْلا جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ} (النور : 13) أي فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة.
المسألة الرابعة : اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أن قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } جملة مركبة من شرط وجزاء فالشرط هو شهود الشهر والجزاء هو الأمر بالصوم وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره ، فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر / يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال ، لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع فلهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل ، وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط فيصير تقريره : من شهد جزأ من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر ، فعلى هذا : من شهد هلال رمضان فقد شهد جزأ من أجزاء الشهر/ وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء ، وهو الأمر بصوم كل الشهر ، وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
واعلم أن المنقول عن علي أن المراد من هذه الآية ، فمن شهد منكم أول الشهر فليصم جميعه وقد عرفت بما ذكرنا من الدليل أنه لا يصح ألبتة إلا هذا القول ، ثم يتفرع على هذا الأصل فرعان أحدهما : أنه إذا شهد أول الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر والثاني : أنه إذا شهد آخر الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر.
أما الأول : فهو أنه نقل عن علي رضي الله عنه أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر ، أن الواجب أن يصوم الكل ، لأنا بينا أن الآية تدل على أن من شهد أول الشهر وجب عليه صوم كل الشهر ، وأما سائر المجتهدين فيقولون : إن قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } وإن كان معناه : أن من شهد أول الشهر فليصمه كله إلا أنه عام يدخل فيه الحاضر والمسافر ، وقوله بعد ذلك : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } خاص والخاص مقدم على العام. فثبت أنه وإن سافر بعد شهوة الشهر فإنه يحل له الإفطار.
وأما الثاني : وهو أن أبا حنيفة زعم أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى ، قال : لأنا قد دللنا على أن المفهوم من هذه الآية أن من أدرك جزأ من رمضان لزمه صوم كل رمضان والمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فقد شهد جزأ من رمضان فوجب أن يلزمه صوم كل رمضان ، فإذا لم يمكن صيام ما تقدم فالقضاء واجب.
(1/772)
المسألة الخامسة : اعلم أن قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه } يستدعي بحثين :
البحث الأول : أن شهود الشهر بماذا يحصل ؟
فنقول : إما بالرؤية وإما بالسماع ، أما الرؤية فنقول : إذا رأى إنسان هلال رمضان فأما أن يكون منفرداً بتلك الرؤية أو لا يكون ، فإن كان منفرداً بها فأما أن يرد الإمام شهادته أو لا يردها ، فإن تفرد بالرؤية ورد الإمام شهادته ، لزمه أن يصوم ، لأن الله تعالى جعل شهود الشهر سبباً لوجوب الصوم عليه ، وقد حصل شهود الشهر في حقه ، فوجب أن يجب عليه الصوم ، وأما إن انفرد بالرؤية وقبل الإمام شهادته أو لم ينفرد بالرؤية فلا كلام في وجوب الصوم ، وأما السماع فنقول إذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعاً ، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به وإذا شهد على هلال رمضان / يحكم به احتياطاً لأمر الصوم والفرق بينه وبين هلال شوال أن هلال رمضان للدخول في العبادة وهلال شوال للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا على قول الإثنين ، وعلى أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً فكذلك لا يقبل قول الواحد في هلال شوال لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
البحث الثاني في الصوم : نفقول : إن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أول طلوع الفجر الصادق إلى حين غروب الشمس مع النية وفي الحد قيود :
القيد الأول : الإمساك وهو احتراز عن شيئين أحدهما : لو طارت ذبابة إلى حلقه ، أو وصل غبار الطريق إلى بطنه لا يبطل صومه ، لأن الاحتراز عنه شاق ، والله تعالى يقول في آية الصوم {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} والثاني : لوصب الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً أو حال نوم لا يبطل صومه ، لأن المعتبر هو الإمساك والامتناع والإكراه لا ينافي ذلك.
القيد الثاني : قولنا عن المفطرات وهي ثلاثة : دخول داخل ، وخروج خارج ، والجماع ، وحد الدخول كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن إما الدماغ أو البطن وما فيه من الأمعاء والمثانة/ أما الدماغ فيحصل الفطر بالسعوط وأما البطن فيحصل الفطر بالحقنة وأما الخروج فالقىء بالاختيار والاستمناء يبطلان الصوم ، وأما الجماع فالإيلاج يبطل الصوم.
القيد الثالث : قولنا مع العلم بكونه صائماً فلو أكل أو شرب ناسياً للصوم لا يبطل صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يبطل.
القيد الرابع : قولنا من أول طلوع الفجر الصادق والدليل عليه قوله تعالى : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } (البقرة : 187) وكلمة {حَتَّى } لانتهاء الغاية ، وكان الأعمش يقول : أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ، ويحتج بأن انتهاء اليوم من وقت غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون من عند طلوعها ، وهذا باطل بالنص الذي ذكرناه ، وحكي عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده ، فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك ، فكيف إذا زرتني فسكت عنه أبو حنيفة فلما خرج من عنده قيل له : لم سكت عنه ؟
فقال : وماذا أقول في رجل ما صام وما صلى في دهره عني به أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل الشمس فلا صوم له وكان لا يغتسل من الإنزال فلا صلاة له.
القيد الخامس : قولنا إلى غروب الشمس ، ودليله قوله عليه السلام : "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم" ومن الناس من يقول وقت الإفطار عند غروب ضوء / الشمس ، قاس هذا الطرف على الطرف الأول من النهار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
القيد السادس : قولنا مع النية ، ومن الناس من يقول : لا حاجة لصوم رمضان إلى النية لأن الله تعالى أمر بالصوم في قوله : {فَلْيَصُمْه } والصوم هو الإمساك وقد وجد فيخرج عن العهدة لكنا نقول : لا بد من النية لأن الصوم عمل بدليل قوله عليه السلام : "أفضل الأعمال الصوم" والعمل لا بد فيه من النية لقوله عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات".
المسألة السادسة : القائلون بأن الآية المتقدمة تدل على أن المقيم الصحيح مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية قالوا : هذه الآية ناسخة لها وأبو مسلم الأصفاني والأصم ينكرون ذلك ، وقد تقدم شرح هذه المسألة ثم بتقدير صحة القول بهذا النسخ فهذا يدل على أن نسخ الأخف بالأثقل جائز ، لأن إيجاب الصوم على التعيين أثقل من إيجابه على التخيير بينه وبين الفدية.
أما قوله تعالى : {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فقد تقدم تفسير هذه الآية ، وقد تقدم بيان السبب في التكرير.
(1/773)
أما قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فاعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره ههنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر ههنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة وههنا مسائل :
المسألة الأولى : اليسر في اللغة معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار لأنه يسهل به الأمور واليد اليسرى قيل تلي الفعال باليسر ، وقيل إنه يتسهل الأمر بمعونتها اليمنى.
المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بهذه الآية في أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ، قالوا لأنه تعالى لما بين أنه يريد بهم ما تيسر دون ما تعسر فكيف يكلفهم ما لا يقدرون عليه من الإيمان وجوابه أن اليسر والعسر لا يفيدان العموم لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم ، وأيضاً فلو سلمنا ذلك لكنه قد ينصرف إلى المعهود السابق فنصرفه إلى المعهود السابق في هذا الموضع.
المسألة الثالثة : المعتزلة تمكسوا بهذه الآية في إثبات أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله وذلك لأن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده ، لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله منه إذا كان لا يريد العسر الجواب : يحتمل اللفظ على أنه تعالى لا يريد أن يأمره بما فيه عسر ، وإن كان قد يريد منه العسر وذلك لأن عندنا الأمر قد يثبت بدون الإرادة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
المسألة الرابعة : قالوا : هذه الآية دالة على رحمته سبحانه لعباده فلو أراد بهم أن يكفروا فيصيروا إلى النار ، وخلق فيهم ذلك الكفر لم يكن لائقاً به أن يقول : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} والجواب أنه معارض بالعلم.
أما قوله تعالى : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو بكر عن عاصم {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان : أكملت وكملت.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} على ماذا علق ؟
.
جوابنا : أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف ، ثم فيه وجهان أحدهما : ما قاله الفراء وهو أن التقدير : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون ، فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة ، وتعليم كيفية القضاء ، والرخصة في إباحة الفطر ، وذلك لأنه تعالى ما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظاً ثلاثة ، فقوله : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} علة للأمر بمراعاة العدة {وَلِتُكَبِّرُوا } علة ما علمتم من كيفية القضاء {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخص والتسهيل ، ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى : {وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام : 75) أي أريناه.
الوجه الثاني : ما قاله الزجاج ، وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة ، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء ، فلا يكون عسراً ، فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيراً ، بل يكون سهلاً يسيراً ، والفرق بين الوجهين أن في الأول إضماراً وقع بعد قوله : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وفي الثاني قبله :
المسألة الثالثة : إنما قال : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ولم يقل : ولتكملوا الشهر ، لأنه لما قال : ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعاً ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المقضي ، ولو قال تعالى : ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
(1/774)
أما قوله : {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا} ففيه وجهان الأول : أن المراد منه التكبير ليلة الفطر قال ابن عباس : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا ، وقال الشافعي : وأحب إظهار التكبير في العيدين ، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد ، وقال أبو حنيفة : يكره ذلك غداة الفطر ، واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى : {الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وقال : معناه ولتكملوا عدة شهر رمضان لتكبروا الله عند انقضائه على ما هداكم إلى هذه الطاعة ، ثم يتفرع على هذا ثلاث مسائل : إحداها : اختلف قوله في أن أي العيدين أوكد في التكبير ؟
فقال في القديم : ليلة النحر أوكد لإجماع السلف عليها ، وقال في الجديد : ليلة الفطر أوكد لورود النص / فيها وثانيها : أن وقت التكبير بعد غروب الشمس من ليلة الفطر ، وقال مالك : لا يكبر في ليلة الفطر ولكنه يكبر في يومه ، وروي هذا عن أحمد ، وقال إسحق : إذا غدا إلى المصلى حجة الشافعي أن قوله تعالى : {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} يدل على أن الأمر بهذا يوجب أن يكون التكبير وقع معللاً بحصول هذه الهداية ، لكن بعد غروب الشمس تحصل هذه الهداية ، فوجب أن يكون التكبير من ذلك الوقت وثالثها : مذهب الشافعي أن وقت هذا التكبير ممتد إلى أن يحرم الإمام بالصلاة ، وقيل فيه قولان آخران أحدهما : إلى خروج الإمام والثاني : إلى انصراف الإمام والصحيح هو الأول ، وقال أبو حنيفة : إذا بلغ إلى أدنى المصلى ترك التكبير.
القول الثاني : في تفسير قوله : {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} أن المراد منه التعظيم لله شكراً على ما وفق على هذه الطاعة ، واعلم أن تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل أما القول : فالإقرار بصفاته العلي ، وأسمائه الحسنى ، وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق ، وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب وأما العمل : فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام ، والحج واعلم أن القول الأول أقرب ، وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات ، ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات.
أما قوله تعالى : {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فإنه يتضمن الإنعام العظيم في الدنيا بالأدلة والتعريف والتوفيق والعصمة ، وعند أصحابنا بخلق الطاعة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
وأما قوله تعالى : {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ففيه بحثان أحدهما : أن كلمة {لَعَلَّ} للترجي ، والترجي لا يجوز في حق الله والثاني : البحث عن حقيقة الشكر ، وهذان بحثان قد مر تقريرهما.
بقي ههنا بحث ثالث ، وهو أنه ما الفائدة في ذكر هذا اللفظ في هذا الموضع فنقول : إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته ، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء ، وأوصاف الواصفين ، وذكر الذاكرين ، ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات ، فضلاً عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره ، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال : {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
جزء : 5 رقم الصفحة : 250
260
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول : أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه : {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة : 185) فأمر بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر ، بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه ، ويجيب دعاءه ، ولا يخيب رجاءه والثاني : أن أمر بالتكبير أولاً ثم رغبه في الدعاء ثانياً ، تنبيهاً على أن الدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل ، ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء ، فقال أولاً : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعرا : 78) إلى قوله : {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء : 82) وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83) فكذا ههنا أمر بالتكبير أولاً ثم شرع بعده في الدعاء ثانياً الثالث : إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم ، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم ، فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن توبتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم ، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم.
(1/775)
المسألة الثانية : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً أحدها : ما روي عن كعب أنه قال ، قال موسى عليه السلام : يا رب أقريب أنت فأناجيك ، أم بعيد فأناديك ؟
فقال : يا موسى أنا جليس من ذكرني ، قال : يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط ، قال : يا موسى اذكرني على كل حال ، فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وثانيها : أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها : أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء ، فقال عليه السلام : "إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً" ورابعها : ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا : كيف ندعو ربنا يا نبي الله ؟
فأنزل هذه الآية وخامسها : قال عطاء وغيره : إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية وسادسها : ما ذكره ابن عباس ، وهو أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا ؟
فنزلت هذه الآية وسابعها : قال الحسن : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فقالوا : أين ربنا ؟
فأنزل الله هذه الآية وثامنها : ما ذكرنا أن قوله : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 183) لما اقتضى تحريم الأكل بعد / النوم ، ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلّم أنه تعالى هل يقبل توبتنا ؟
فأنزل الله هذه الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
واعلم أن قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى ، فذلك السؤال إما أنه كان سؤالاً عن ذات الله تعالى ، أو عن صفاته ، أو عن أفعاله ، أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه/ فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات ، وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعاً على كونه تعالى سميعاً ، أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء ، وهل أذن في الدعاء ، وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة ، وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا ، أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين ، كما قال تعالى : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء : 110) وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا ، وهل يفعله ما نسأله عنه فقوله سبحانه : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} يحتمل كل هذه الوجوه ، إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول : أن ظاهر قوله : {عَنِّي} يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله أن السؤال متى كان مبهماً والجواب مفصلاً ، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين ، فلما قال في الجواب : {عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ، ولقائل أيضاً أن يقول بل السؤال كان على الفعل ، وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم ، وهل يحصل مقصود ، بدليل أنه لما قال : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } قال : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فهذا هو شرح هذا المقام.
أما قوله تعالى : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان ، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ ، فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين :
المطلوب الأول : في بيان أن هذا القريب ليس قرباً بحسب المكان ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه لو كان في المكان مشاراً إليه بالحس لكان منقسماً ، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد. ولو كان منقسماً لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره ، فلو كان في مكان لكان مفتقراً إلى غيره ، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق ، وذلك في حق الخالق القديم محال ، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني : أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات ، أو غير متناه عن جهة دون جهة ، أو كان متناهياً من كل الجوانب والأول : محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني : محال أيضاً / لهذا الوجه ، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهياً والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه ، فيلزم منه كونه تعالى مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
(1/776)
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون متناهياً من كل الجوانب ، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا ، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة الثالث : وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بالجهة ، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش وبعيداً من غيرهم ، ولكان إذا كان قريباً من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيداً من عمرو الذي هو بالمغرب ، فلما دلت الآية على كونه تعالى قريباً من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بحسب الجهة ، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم ، أو المراد من هذا القرب : العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } (الحديد : 4) وقال : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق : 16) وقال : {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادله : 7) والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتشبيه ، فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا : أين ربنا ؟
صح أن يكون الجواب : فإني قريب ، وكذلك إن سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا : هل يسمع ربنا دعاءنا ؟
صح أن يقول في جوابه : فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه ، وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بأخفائه ؟
صح أن يجيب بقوله : فإني قريب ، وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء ؟
صلح هذا الجواب أيضاً ، وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا ؟
صلح أن يجيب بقوله : فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم ، فثبت أن هذا الجواب مطابق للسؤال على جميع التقديرات.
المسألة الثانية : الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم يسمع دعاءه ولم يخيب رجاءه وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت.
واعلم أن قوله تعالى : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } فيه سر عقلي وذلك لأن اتصاف ماهيات الممكنات بوجوداتها إنما كان بإيجاد الصانع ، فكان إيجاد الصانع كالمتوسط بين ماهيات الممكنات وبين وجوداتها فكان الصانع أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها ، بل ههنا كلام أعلى من ذلك وهو أن الصانع هو الذي لأجله صارت ماهيات الممكنات موجودة فهو أيضاً لأجله كان الجوهر جوهراً / والسواد سواداً والعقل عقلاً والنفس نفساً ، فكما أن بتأثيره وتكوينه صارت الماهيات موجودة فكذلك بتأثيره وتكوينه صارت كل ماهية تلك الماهية ، فعلى قياس ما سبق كان الصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهية إلى نفسها ، فإن قيل : تكوين الماهية ممتنع لأنه لا يعقل جعل السواد سواداً فنقول ؛ فكذلك أيضاً لا يمكن جعل الوجود وجوداً لأنه ماهية ، ولا يمكن جعل الموصوفية دالة للماهية فإذن الماهية ليست بالفاعل ، والوجود ماهية أيضاً فلا يكون بالفاعل ، وموصوفية الماهية بالوجود هو أيضاً ماهية فلا تكون بالفاعل ، فإذن لم يقع شيء ألبتة بالفاعل ، وذلك باطل ظاهر البطلان ، فإذن وجب الحكم بأن الكل بالفاعل ، وعند ذلك يظهر الكلام الذي قررناه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
أما قوله تعالى : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وقالون عن نافع {الدَّاعِ إِذَا} بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفها فالأولى على الوصل والثانية على التخفيف.
(1/777)
المسألة الثانية : قال أبو سليمان الخطابي : الدعاء مصدر من قولك : دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول : سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتاً وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم : رجل عدل. وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة. وأقول : اختلف الناس في الدعاء ، فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة ، واحتجوا عليه من وجوه أحدها : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع ، فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ، فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء وثانيها : أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته ، وإلا لزم إما التسلسل ، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم/ فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان واجب الوقوع ، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان ممتنع الوقوع ، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر ، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئاً منها ، فأي فائدة في الدعاء ، وقال عليه الصلاة والسلام قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاماً وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "جف القلم بما هو كائن" وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "أربع قد فرغ منها : العمر والرزق والخلق والخلق" وثالثها : أنه سبحانه علام الغيوب : {يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} (غافر : 19)فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ؟
ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه / السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها : أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها : ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها : أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء : إن الدعاء أهم مقامات العبودية ، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل ، أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية ، أما الأصولية فقوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } (الإسراء : 85) {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (طه : 105) {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (النازعات : 42) وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي {يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } (البقرة : 219) {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (البقرة : 217) {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } (البقرة : 219) {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى } (البقرة : 220) {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } (البقرة : 222) وقال أيضاً : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } (الأنفال : 1) {وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ } (الكهف : 83) {وَيَسْتَنابِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } (يونس : 53) {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ } (النساء : 176).
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
(1/778)
إذا عرفت هذا : فنقول هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد : قل وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله : فقل مع فاء التعقيب ، والسبب فيه أن قوله تعالى : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى : {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} (طه : 105) كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكناً في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه ، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب ، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } ولم ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول : كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك الثاني : أن قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} يدل على أن العبد له وقوله : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } يدل على أن الرب للعبد وثالثها : لم يقل : فالعبد مني قريب ، بل قال : أنا منه قريب ، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء ، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد ، والقرب من الحق إلى العبد / لا من العبد إلا الحق فلهذا قال : {فَإِنِّي قَرِيبٌ } والرابع : أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله فإنه لا يكون داعياً له فإذا فني عن الكل صار مستغرقاً في معرفة الأحد الحق ، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظاً لحقه وطالباً لنصيبه ، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية ، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتاً إلى غرض نفسه لم يكن قريباً من الله تعالى ، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله ، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله ، فكان الدعاء أفضل العبادات.
الحجة الثانية في فضل الدعاء : قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60).
الحجة الثالثة : أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال : {فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 43) وقال عليه السلام : "لا ينبغي أن يقول أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول : اللهم اغفر لي" وقال عليه السلام : "الدعاء مخ العبادة" وعن النعمان بن بشير أنه عليه السلام قال : "الدعاء هو العبادة" وقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } فقوله : "الدعاء هو العبادة" معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة ، كقوله عليه السلام "الحج عرفة" أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } (الأعراف : 55) وقال : {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ } (الفرقان : 77) والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن.
والجواب عن الشبهة الأولى : أنها متناقضة ، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء ، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة ، ثم نقول : كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تنم العبودية ، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه ؟
فقال : بل شيء قد فرغ منه. فقالوا : ففيم العمل إذن ؟
قال : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد ، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال : "كل ميسر لما خلق له" يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوه ، إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك.
/ والجواب عن الشبهة الثانية : أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام ، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية.
(1/779)
وعن الثالثة : أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.
وعن الرابعة : أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه ، فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب.
المسألة الثالثة : في الآية سؤال مشكل مشهور ، وهو أنه تعالى قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر : 60) وقال في هذه الآية : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وكذلك {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (النمل : 62) ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
والجواب : أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة ، وهو قوله تعالى : {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ} (الأنعام : 41) ولا شك أن المطلق محمول على المقيد ، ثم تقرير المعنى فيه وجوه أحدها : أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضاً ، إما إسعافاً بطلبته التي لأجلها دعا وذلك إذا وافق القضاء ، فإذا لم يساعده القضاء فإنه يعطي سكينة في نفسه ، وإنشراحاً في صدره ، وصبراً يسهل معه احتمال البلاء الحاضر ، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة ، وهو نوع من الاستجابة وثانيها : ما روى القفال في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاثة : ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، إما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا".
وهذا الخبر تمام البيان في الكشف عن هذا السؤال ، لأنه تعالى قال : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ولم يقل : أستجب لكم في الحال فإذا استجاب له ولو في الآخرة كان الوعد صدقاً وثالثها : أن قوله : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } يقتضي أن يكون الداعي عارفاً بربه وإلا لم يكن داعياً له ، بل لشيء متخيل لا وجود له ألبتة ، فثبت أن الشرط الداعي أن يكون عارفاً بربه ومن صفات الرب سبحانه أن لا يفعل إلا ما وافق قضاءه وقدره وعلمه وحكمته فإذا علم أن صفة الرب هكذا استحال مه أن يقول بقلبه وبعقله : يا رب افعل الفعل الفلاني لا محالة ، بل لا بد وأن يقول : افعل هذا الفعل إن كان موافقاً لقضائك وقدرك وحكمتك ، وعند هذا يصير الدعاء الذي دلت الآية على ترتيب الإجابة عليه مشروطاً بهذه الشرائط وعلى هذا التقدير زال السؤال الرابع أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله كقول العبد : يا ألله الذي لا إله إلا أنت ، وهذا إنما سمي دعاء لإنك عرفت الله تعالى ثم وحدته وأثنيت عليه ، فهذا يسمى دعاء بهذا التأويل ولما سمي هذا المعنى دعاء سمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ومثله كثير وقال ابن الأنباري : {أُجِيبُ} ههنا بمعنى أسمع لأن بين السماع وبين الإجابة نوع ملازمة ، فلهذا السبب يقام كل واحد / منهما مقام الآخر ، فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله فكذا ههنا قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} أي أسمع تلك الدعوة ، فإذا حملنا قوله تعالى : {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } على هذا الوجه زال الإشكال وثانيها : أن يكون المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب ، وذلك لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة ، وإجابة الدعاء بهذا التفسير عبارة عن قبول التوبة ، وعلى هذا الوجه أيضاً لا إشكال ، وثالثها : أن يكون المراد من الدعاء العبادة ، قال عليه الصلاة والسلام : "الدعاء هو العبادة" ومما يدل عليه قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر : 60) فظهر أن الدعاء ههنا هو العبادة ، وإذا ثبت هذا فإجابة الله تعالى للدعاء بهذا التفسير عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كما قال : {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِه } (الشورى : 26) وعلى هذا الوجه الإشكال زائل ورابعها : أن يفسر الدعاء بطلب العبد من ربه حوائجه فالسؤال المذكور إن كان متوجهاً على هذا التفسير لم يكن متوجهاً على التفسيرات الثلاثة المتقدمة ، فثبت أن الإشكال زائل.
(1/780)
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } مختص بالمؤمنين {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام : 82) وذلك لأن وصفنا الإنسان بأن الله تعالى قد أجاب دعوته ، صفة مدح وتعظيم ، ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا إنه مستجاب الدعوة وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين ، والفاسق واجب الإهانة في الدين ، ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق ، بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة.
أما قوله تعالى : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه الناظم أن يقال : إنه تعالى قال : أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقاً ، فكن أنت أيضاً مجيباً لدعائي مع أنك محتاج إلى من كل الوجوه ، فما أعظم هذا الكرم ، وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد : أجب دعائي حتى أجيب دعاءك ، لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي ، وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء ، وأنه غير معلل بطاعة العبد ، وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب ، وهذا يدل على فساد ما نقلناه عن المعتزلة في المسألة الرابعة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
المسألة الثانية : قال الواحدي : أجاب واستجاب بمعنى واحد : قال كعب الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أهل المعنى : الإجابة من العبد لله الطاعة ، وإجابة الله لعبده إعطاؤه إياه مطلوبه ، لأن إجابة كل شيء على وفق ما يليق به.
/ المسألة الثالثة : إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان ، فذاك هو الإيمان ، وعلى هذا التقدير يكون قوله : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى} تكراراً محضاً ، وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدماً على الطاعات ، وكان حق النظم أن يقول : فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي ، فلم جاء على العكس منه ؟
.
وجوابه : أن الإستجابة عبارة عن الإنقياد والإستسلام ، والإيمان عبارة عن صفة القلب ، وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات.
أما قوله تعالى : {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فقال صاحب "الكشاف" : قرىء {يَرْشُدُونَ} بفتح الشين وكسرها ، ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي : اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم ، لأن الرشيد هو من كان كذلك ، يقال : فلان رشيد ، قال تعالى : {وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا} (النساء : 6) وقال : { أولئك هُمُ الراَّشِدُونَ} (الحجرات : 7).
جزء : 5 رقم الصفحة : 260
267
فيه مسائل :
/ المسألة الأولى : أنه ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية ، وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة ، بل كانت ثابتة في شرع النصارى ، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم ، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة ، واحتج الجمهور على قولهم بوجوه.
الحجة الأولى : أن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة : 183) يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم ، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضاً في صومنا ، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتاً في شرعنا.
الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله {أُحِلَّ لَكُمْ} فائدة.
الحجة الثالثة : التمسك بقوله تعالى : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} ولو كان ذلك حلالاً لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم.
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ } ولولا أن ذلك كان محرماً عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل ، لما صح قوله : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ } .
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
الحجة الخامسة : قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ} ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله : {أُحِلَّ لَكُمْ} فائدة.
الحجة السادسة : هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ ، أجاب أبو مسلم عن هذه الدلائل فقال :
(1/781)
أما الحجة الأولى : فضعيفة لأنا بينا أن تشبيه الصوم بالصوم يكفي في صدقه مشابهتهما في أصل الوجوب.
وأما الحجة الثانية : فضعيفة أيضاً لأنا نسلم أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرع من قبلنا ، فقوله : {أُحِلَّ لَكُمْ} معناه أن الذي كان محرماً على غيركم فقد أحل لكم.
وأما الحجة الثالثة : فضعيف أيضاً ، وذلك لأن تلك الحرمة كانت ثابتة في شرع عيسى عليه السلام ، وأن الله تعالى أوجب علينا الصوم ، ولم يبين في ذلك الإيجاب زوال تلك الحرمة فكان يخطر ببالهم أن تلك الحرمة كانت ثابتة في الشرع المتقدم ، ولم يوجد في شرعنا ما دل على زوالها فوجب القول ببقائها ، ثم تأكد هذا الوهم بقوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} فإن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور ، فلما كانت هذه الحرمة ثابتة في الشرع المتقدم وجب أن تكون ثابتة في هذا الشرع ، وإن لم تكن حجة قوية إلا أنها لا أقل من أن تكون شبهة موهمة فلأجل هذه الأسباب كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فلا جرم شددوا وأمسكوا عن هذه الأمور فقال الله تعالى : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} وأراد به تعالى النظر للمؤمنين بالتخفيف لهم بما لو لم تتبين الرخصة فيه لشددوا وأمسكوا عن هذه الأمور ونقصوا أنفسهم من الشهوة ، ومنعوها من المراد ، وأصل الخيانة النقص ، وخان واختان وتخون بمعنى واحد كقولهم : كسب واكتسب وتكسب ، فالمراد من الآية : علم الله أنه لو لم يتبين لكم إحلال الأكل والشرب والمباشرة طول الليل أنكم كنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذاتها ومصلحتها بالإمساك عن ذلك بعد النوم كسنة النصارى.
وأما الحجة الرابعة : فضعيفة لأن التوبة من العباد الرجوع إلى الله تعالى بالعبادة ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز فبين الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما جعله ثقيلاً على من قبلنا كقوله : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف : 157).
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
وأما الحجة الخامسة : فضعيفة لأنهم كانوا بسبب تلك الشبهة ممتنعين عن المباشرة ، فلما بين الله تعالى ذلك وأزال الشبهة فيه لا جرم قال : {أُحِلَّ لَكُمْ} .
وأما الحجة السادسة : فضعيفة لأن قولنا : هذه الآية ناسخة لحكم كان مشروعاً لا تعلق له بباب العمل ولا يكون خبر الواحد حجة فيه ، وأيضاً ففي الآية ما يدل على ضعف هذه الروايات لأن المذكور في تلك الروايات أن القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول ، وذلك على خلاف قول الله تعالى : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} لأن ظاهره هو المباشرة ، لأنه افتعال من الخيانة ، فهذا حاصل الكلام في هذه المسألة.
المسألة الثانية : القائلون بأن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، ثم إنها نسخت ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الشريعة يحل الأكل والشرب والجماع ، ما لم يرقد الرجل أو يصل العشاء الآخرة ، فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء إلى الليلة الآتية ، فجاء رجل من الأنصار عشية وقد أجهده الصوم ، واختلفوا في اسمه ، فقال معاذ : اسمه أبو صرمة ، وقال البراء : قيس بن صرمة ، وقال الكلبي : أبو قيس بن صرمة ، وقيل : صرمة بن أنس ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سبب ضعفه فقال : يا رسول الله عملت في النخل نهاري أجمع حتى أمسيت فأتيت أهلي لتطعمني شيئاً فأبطأت فنمت فأيقظوني ، وقد حرم الأكل فقام عمر فقال : يا رسول الله أعتذر إليك من مثله. رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء الآخرة ، فأتيت امرأتي ، فقال عليه الصلاة والسلام : لم تكن جديراً بذلك يا عمر ثم قام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا فنزل قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } .
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} أي أحل الله وقرأ عبد الله .
المسألة الرابعة : قال الواحدي : ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة ، ومنه قول العباس بن مرادس :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم
فقد برئت من الأحن الصدور
وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من {لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة.
المسألة الخامسة : قال الليث : الرفث أصله قول الفحش ، وأنشد الزجاج :
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
ورب أسراب حجيج كقلم
عن اللغا ورفث التكلم
يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} (البقرة : 197) وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم :
وهن يمشين بنا هميسا
أن يصدق الطير ننك لميسا
(1/782)
فقيل له : أترفث ؟
فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء ، ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه.
فإن قيل : لم كنى ههنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (النساء : 21) {فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا} (الأعراف : 189) {أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ} (النساء : 43) {دَخَلْتُم بِهِنَّ} (النساء : 23) {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} (البقرة : 223) {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} (البقرة : 236) {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِه مِنْهُنَّ} (النساء : 24) {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} (البقرة : 222).
جوابه : السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم ، والله اعلم.
المسألة السادسة : قال الأخفش : إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله : {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (النساء : 21).
المسألة السابعة : قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن {لَيْلَةَ} نصب على الظرف ، وإنما يكون الليل ظرفاً للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث ، وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لاكله ، فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ ، وأما الذي بعده في قوله : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ} فذاك يكون كالتأكيد لهذا النسخ ، وأما الذي يقول : إن قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} يفيد حل الرفث في الليل ، فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله : {كُلُوا وَاشْرَبُوا } .
/
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
أما قوله تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها أحدها : أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، سمي كل واحد منهما لباساً ، قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن ، وقال ابن زيد : عن لباس لكن وأنتم لباس لهن ، يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس وثانيها : إنما سمي الزوجان لباساً ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل ، كما جاء في الخبر "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه" وثالثها : أنه تعالى جعلها لباساً للرجل ، من حيث إنه يخصها بنفسه ، كما يخص لباسه بنفسه ، ويراها أهلاً لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس ورابعها : يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت ، لو لم تكن المرأة حاضرة ، كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار وخامسها : ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه ، وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا ، فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور.
المسألة الثانية : قال الواحدي : إنما وحد اللباس بعد قوله {هُنَّ} لأنه يجري مجرى المصدر ، وفعال من مصادر فاعل ، وتأويله : هن ملابسات لكم.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت : ما موقع قوله : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} فنقول : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن ، وضعف عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن.
أما قوله تعالى : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال : خانه يخونه خوناً وخيانة إذا لم يف له ، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك ، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر ، وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة ، وناقض العهد خائن ، لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر ، ومنه قوله تعالى : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} (الأنفال : 58) أي نقضاً للعهد ، ويقال للرجل المدين : إنه خائن ، لأنه لم يف بما يليق بدينه ، ومنه قوله تعالى : {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ} (الأنفال : 27) وقال : {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ} (الأنفال : 71) ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة ، وإذا علمت معنى الخيانة ، فقال صاحب "الكشاف" : الاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
(1/783)
المسألة الثانية : أن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم ، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت فيماذا ؟
فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر ، والذي تقدم هو ذكر الجماع ، والذي تأخر قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ} فيجب أن يكون المراد بهذه / الخيانة الجماع ، ثم ههنا وجهان : أحدهما : علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله ، لأنه جلب إليها العقاب ، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم ، لأن قوله : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم ، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار ، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم ، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم ، ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى ، لأن الله تعالى لم يقل : علم الله أنكم كنتم تختانون الله ، كما قال : {لا تَخُونُوا اللَّهَ} (الأنفال : 27) ما قال : {كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ.
القول الثاني : أن المراد : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ومعناه : أن الله يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال بل الثاني أولى ، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف ، وعلى التقدير الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سبباً لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة.
أما قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ } فمعناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالاذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره : تبتم فتاب عليكم فيه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
أما قوله تعالى : {وَعَفَا عَنكُمْ } فعلى قول أبي مسلم معناه وسع عليكم أن أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف قال عليه السلام : "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" وقال "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ويقال : أتاني هذا المال عفوا ، أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم ، وأما على قول مثبتي النسخ فقوله : {عَفَا عَنكُمْ } لا بد وأن يكون تقديره : عفا عن ذنوبكم ، وهذا مما يقوي أيضاً قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار.
أما قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا أمر وارد عقب الخطر فالذين قالوا : الأمر الوارد عقيب الخطر / ليس إلا للإباحة ، كلامهم ظاهر وأما الذين قالوا : مطلق الأمر للوجوب قالوا إنما تركنا الظاهر وعرفنا كون هذا الأمر للاباحة بالإجماع.
المسألة الثانية : المباشرة فيها قولن : أحدهما : وهو قول الجمهور أنها الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وإنضمامهما ، ومنها ما روي أنه عليه السلام نهى أن يباشر الرجل الرجل ، والمرأة المرأة الثانية : وهو قول الأصم : أنه الجماع فما دونه وعلى هذا الوجه اختلف المفسرين في معنى قوله : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع والأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقاً من تلاصق البشرتين لم يكن مختصاً بالجماع بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج ، وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه ، فصح ههنا حمل الكلام على الجماع فقط ، ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه ، فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه ، على ما لخصه القاضي.
أما قوله : {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ففيه مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
(1/784)
المسألة الأولى : ذكروا في الآية وجوها أحدها : وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل قال عليه السلام : "تناكحوا تناسلوا تكثروا" وثانيها : أنه نهى عن العزل ، وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره العزل ، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى أن يعزل عن الحرة إلا باذنها وثالثها : أن يكون المعنى : ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه } ورابعها : أن هذا التأكيد تقديره : فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم وخامسها : وهو على قول أبي مسلم : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم وسادسها : أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله : {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن وسابعها : أن قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ} إذن في المباشرة وقوله : {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي / كتب الله لكم بقوله : {إِلا عَلَى ا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ} (المؤمنون : 6) وثامنها : قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها ، وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه ، وعندي أنه لا بأس به ، وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة ، لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور ، أما إذا قضى وطره وصار فارغاً من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية ، فتقدير الآية : فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية ، وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الاخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر ، ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
المسألة الثانية : {كَتَبَ} فيه وجوه أحدها : أن {كَتَبَ} في هذا الموضوع بمعنى جعل ، كقوله : {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} (المجادله : 22) أي جعل ، وقوله : {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ} (آل عمران : 53) {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } (الأعراف : 156) أي اجعلها وثانيها : معناه قضى الله لكم كقوله : {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (التوبة : 51) أي قضاه ، وقوله : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } وقوله : {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي قضى ، وثالثها : أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن ، وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ ورابعها : هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال.
المسألة الثالثة : قرأ ابن عباس {وَابْتَغُوا } وقرأ الأعمش .
أما قوله : {لَكُم وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } فالفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالليل بعد النوم ، لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم ، فلو اقتصر تعالى على قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ} لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب ، فقرن إلى ذلك قوله : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } لتتم الدلالة على الإباحة.
أما قوله تعالى : {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : روي أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم أخذت عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما ، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته فضحك ، وقال إنك لعريض القفا ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل ، وإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إنك لعريض القفا لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل ، ونقول : يدل قطعا على أنه تعالى كني بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل ، وفيه إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب ، لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط ، فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب / وبالإجماع أنه ليس كذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
(1/785)
وجوابه : أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية : {مِنَ الْفَجْرِ } لكان السؤال لازماً ، وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجراً لأنه ينفجر منه النور ، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول/ فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر ، علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق ، فإن قيل : فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط ، مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل.
وجوابه : أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق ، وأول الصبح الصادق لا يكون منتشراً بل يكون صغيراً دقيقاً ، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقاً ، والصادق يبدو دقيقاً ، ويرتفع مستطيلاً فزال السؤال ، فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد ، لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الإستعارة مع قوله تعالى : {مِنَ الْفَجْرِ } .
المسألة الثانية : لا شك أن كلمة {حَتَّى } لانتهاء الغاية ، فدلت هذه الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح ، ووزعم أبو مسلم الأصفهاني لا شيء من المفطرات إلا أحد هذه الثلاثة ، فأما الأمور التي تذكرها الفقهاء من تكلف القيء والحقنة والسعوط فليس شيء منها بمفطر ، قال لأن كل هذه الأشياء كانت مباحة ثم دلت هذه الآية على حرمة هذه الثلاثة على الصائم بعد الصبح ، فبقي ما عداها على الحل الأصلي ، فلا يكون شيء منها مفطراً والفقهاء قالوا إن الله تعالى خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لأن النفس تميل إليها ، وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما ، والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها.
المسألة الثالثة : مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم ، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح.
المسألة الرابعة : زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره ، فكما أن آخره بغروب القرص ، وجب أن يكون أوله بطلوع القرص ، وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل ، ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد ، فإما أن يكون التشبيه في الشكل مراداً فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة ، فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله : {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك ، فيكون قبل طلوع الشمس ليلاً ، وأن لا يوجد / النهار إلا عند طلوع القرص ، فهذا تقرير قول الأعمش ، ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار ، ومنهم من قال : لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة ، ومنهم من زاد عليه وقال : بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب ، وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
المسألة الخامسة : {الْفَجْرِ } مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً ، وفجرته تفجيراً. قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعل هذا الفجر في آخر الليل هو إنشقاق ظلمة الليل بنور الصبح ، وأما قوله تعالى : {مِنَ الْفَجْرِ } فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله ، وقيل للتبيين كأنه قيل : الخيط الأبيض الذي هو الفجر.
المسألة السادسة : أن الله تعالى لما أحل الجماع والأكل والشرب إلى غاية تبين الصبح ، وجب أن يعرف أن تبين الصبح ما هو ؟
فنقول : الطريق إلى معرفة تبين الصبح إما أن يكون قطيعاً أو ظنياً ، أما القطعي فبأن يرى طلوع الصبح أو يتيقن أنه مضى من الزمان ما يجب طلوع الصبح عنده وأما الظني فنقول : إما أن يحصل ظن أن الصبح طلع فيحرم الأكل والشرب والوقاع فإن حصل ظن أنه ما طلع كان الأكل والشرب والوقاع مباحاً ، فإن أكل ثم تبين بعد ذلك أن ذلك الظن خطأ وأن الصبح كان قد طلع عند ذلك الأكل فقد اختلفوا ، وكذلك إن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم تبين أنها ما كانت غاربة فقال الحسن : لا قضاء في الصورتين قياساً على ما لو أكل ناسياً ، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في رواية المزني عنه : يجب القضاء لأنه أمر بالصوم من الصبح إلى الغروب ولم يأت به وأما الناسي فعند مالك يجب عليه القضاء ، وأما الباقون الذين سلموا أنه لا قضاء قالوا : مقتضى الدليل وجوب القضاء عليه أيضاً ، إلا أنا أسقطناه عنه للنص ، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن رجلاً قال : أكلت وشربت وأنا صائم فقال عليه الصلاة والسلام : أطعمك الله وسقاك فأنت ضيف الله فتم صومك.
(1/786)
والقول الثالث : أنه إذا أخطأ في طلوع الصبح لا يجب القضاء ، وإذا أخطأ في غروب الشمس يجب القضاء ، والفرق أن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان ، والثابت في الليل حل الأكل ، وفي النهار حرمته ، أما إذا لم يغلب على ظنه لا بقاء الليل ولا طلوع الصبح ، بل بقي متوقفاً في الأمرين ، فههنا يكره له الأكل والشرب والجماع ، فإن فعل جاز ، لأن الأصل بقاء الليل والله أعلم.
أما قوله تعالى : {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } ففيه مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
المسألة الأولى : أن كلمة {إِلَى } لانتهاء الغاية ، فظاهر الآية أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه ، وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك ، وقد تجيء / هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى : {إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة : 6) إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار ، فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلاً فيه ، وقال أحمد بن يحيى : سبيل إلى الدخول والخروج ، وكلا الأمرين جائز ، تقول : أكلت السمكة إلى رأسها ، وجائز أن يكون الرأس داخلاً في الأكل وخارجاً منه ، إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل خارج عن الصوم ، إذ لو كان داخلاً فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذاً بالأوثق ، ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل ، فقد ورد الحديث الصحيح فيه ، وهو ما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم" فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت. فأما أنه يجب على المكلف أن يتناول عند هذا الوقت شيئاً ، فالدليل عليه ما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن الوصال ، قيل : يا رسول الله تواصل ، أي كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله ؟
فقال : إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ، وقيل فيه معان أحدها : أنه كان يطعم ويسقى من طعام الجنة والثاني : أن عليه الصلاة والسلام قال : إني على ثقة من أني لو احتجت إلى الطعام أطعمني مواصلاً ، وحكى محمد بن جرير الطبري عن ابن الزبير ، أنه كان يواصل سبعة أيام ، فلما كبر جعلها خمساً ، فلما كبر جداً جعلها ثلاثاً ، فظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه يدل على أن هذا النهي نهي تحريم ، وقيل : هو نهي تنزيه ، لأنه ترك للمباح ، وعلى هذا التأويل صح فعل ابن الزبير ، إذا عرفت هذا فنقول : إذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء ، فعلى ذلك هو بالخيار في الإستيفاء إلا أن يخاف المرء من التقصير في صوم المستأنف ، أو في سائر العبادات ، فيلزم حينئذ أن يتناول من الطعام قدراً يزول به هذا الخوف.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الليل ما هو ؟
فمن الناس من قال : آخر النهار على أوله ، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشمس ، كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور آثار الشمس ثم هؤلاء منهم من اكتفي بزوال الحمرة ، ومنهم من اعتبر ظهور الظلام التام وظهور الكواكب ، إلا أن الحديث الذي رواه عمر يبطل ذلك وعليه عمل الفقهاء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
المسألة الثالثة : الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن التبييت والتعيين غير معتبر في صحة الصوم ، قالوا : الصوم في اللغة هو الإمساك ، وقد وجد ههنا فيكون صائماً ، فيجب عليه إتمامه ، لقوله تعالى : {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } فوجب القول بصحته ، لأن الإمساك حرج ومشقة وعسر وهو منفي بقوله تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78) وقوله : {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة : 185) ترك العمل به في الصوم الصحيح فيبقى غير الصحيح على الأصل ، ثم نقول : مقتضى هذا الدليل ، أن يصح صوم / الفرض بنية بعد الزوال إلا أنا قلنا : الأقل يلحق بالأغلب فلا جرم أبطلنا الصوم بنية بعد الزوال وصححنا نيته قبل الزوال.
المسألة الرابعة : الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه قالوا : لأن قوله تعالى : {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } أمر وهو للوجوب ، وهو يتناول كل الصيامات ، والشافعية قالوا : هذا إنما ورد لبيان أحكام صوم الفرض ، فكان المراد منه صوم الفرض.
الحكم السابع
من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف
قوله تعالى : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } .
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم ، وبين أن من حكمه تحريم المباشرة ، كان يجوز أن يظن في الإعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهاراً لا ليلاً ، فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهاراً وليلاً ، فقال : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } ثم في الآية مسائل :
(1/787)
المسألة الأولى : قال الشافعي رضي الله عنه : الإعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه ، براً كان أو إثماً ، قال تعالى : {يَعْكُفُونَ عَلَى ا أَصْنَامٍ لَّهُمْ } (الأعراف : 138) والإعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تقرباً إليه ، وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف ، وهو من الشرائع القديمة ، قال الله تعالى : {طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَـاكِفِينَ} (البقرة : 125) وقال تعالى : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } .
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
المسألة الثانية : لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز ، لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو معتكف ، أما إذا لمسها بشهوة ، أو قبلها ، أو باشرها فيما دون الفرج ، فهو حرام على المعتكف ، وهو يبطل بها اعتكافه ؟
للشافعي رحمه الله فيه قولان : الأصح أنه يبطل ، وقال أبو حنيفة ، لا يفسد الإعتكاف إذا لم ينزل ، احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين ، فقوله : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ} منع من هذه الحقيقة ، فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور ، لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها.
فإن قيل : لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع ؟
قلنا : لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع ، وهو قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع ، ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذناً فيما دون الجماع بطريق الأولى ، أما ههنا فلم يوجد شيء من هذه القرائن ، فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال : إنها لا تبطل الإعتكاف ، أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج ، / فوجب أن لا تفسد الإعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب : أن النص مقدم على القياس.
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن شرط الإعتكاف ليس الجلوس في المسجد وذلك لأن المسجد مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بني لإقامة الطاعات فيه ، ثم اختلفوا فيه فنقل عن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام والحجة فيه قوله تعالى : {أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَـاكِفِينَ} (البقرة : 125) فبين ذلك البيت لجميع العاكفين ، ولو جاز الإعتكاف في غيره لما صح ذلك العموم وقال عطاء : لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة ، لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي" وقال حذيفة : يجوز في هذين المسجدين وفي مسجد بيت المقدس لقوله عليه الصلاة والسلام : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا" وقال الزهري : لا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب ، وقال الشافعي رضي الله عنه : يجوز في جميع المساجد ، إلا أن المسجد الجامع أفضل حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة ، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية لأن قوله : {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } عام يتناول كل المساجد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
المسألة الرابعة : يجوز الإعتكاف بغير صوم والأفضل أن يصوم معه ، وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا بالصوم ، حجة الشافعي رضي الله عنه هذه الآية ، لأنه بغير الصوم عاكف والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة ولو كان إعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً ترك العمل بظاهر اللفظ إذا ترك النية فيبقى فيما عداه على الأصل واحتج المزني بصحة قول الشافعي رضي الله عنهما بأمور ثلاثة الأول : لو كان الإعتكاف يوجب الصوم لما صح في رمضان ، لأن الصوم الذي هو موجبه إما صوم رمضان وهو باطل لأنه واجب بسبب الشهر لا بسبب الاعتكاف ، أو صوم آخر سوى صوم رمضان ، وذلك ممتنع وحيث أجمعوا على أنه يصح في رمضان ، علمنا أن الصوم لا يوجبه الإعتكاف والثاني : أنه لو كان الإعتكاف لا يجوز إلا مقارناً بالصوم لخرج الصائم بالليل عن الإعتكاف لخروجه فيه عن الصوم ، ولما كان الأمر بخلاف ذلك ، علمنا أن الإعتكاف يجوز مفرداً أبداً بدون الصوم والثالث : ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف الله ليلة فقال عليه الصلاة والسلام : أوف بنذرك ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليل.
(1/788)
المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله عنه : لا تقدير لزمان الإعتكاف فلو نذر اعتكاف / ساعة ينعقد ولو نذر أن يعتكف مطلقاً يخرج عن نذره باعتكافه ساعة ، كما لو نذر أن يتصدق مطلقاً تصدق بما شاء من قليل أو كثير ، ثم قال الشافعي رضي الله عنه : وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف ، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجوز اعتكاف أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ، ويخرج بعد غروب الشمس ، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ليس تقدير الإعتكاف بمقدار معين من الزمان أولى من بعض ، فوجب ترك التقدير والرجوع إلى أقل ما لا بد منه ، وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الإعتكاف هو حبس النفس عليه ، وذلك لا يحصل في اللحظة الواحدة ، ولأن على هذا التقدير لا يتميز المعتكف عمن ينتظر الصلاة.
أما قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {تِلْكَ} لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الإعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الإعتكاف إلا حداً واحداً ، وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى ههنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل.
المسألة الثانية : قال الليث : حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري : ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب : حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها ، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع : حداً ، وسمي الحديد : حديداً لما فيه من المنع ، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الإشتقاق فنقول : المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
أما قوله تعالى : {فَلا تَقْرَبُوهَا } ففيه إشكالان الأول : أن قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إشارة إلى كل ما تقدم ، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل {فَلا تَقْرَبُوهَا } والثاني : أنه تعالى قال في آية أخرى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا } (البقرة : 229) وقال في آية المواريث {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَتَعَدَّ حُدُودَه } (تلك وقال ههنا : {فَلا تَقْرَبُوهَا } فكيف الجمع بينهما ؟
والجواب عن السؤالين من وجوه : الأول : وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق ، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل ، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيداً عن الطرف فضلاً أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام : "إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله : {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} (الإسراء : 34) الثالث : أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله : / {وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } وقبل هذه الآية قوله : {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار ، وقبل هذه الآية قوله : {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة ، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل ، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات ، لا جرم غلب جانب التحريم فقال : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا } أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها.
أما قوله تعالى : {كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِه لِلنَّاسِ} ففيه وجوه أحدها : المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع ، كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه وثانيها : قال أبو مسلم : المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال : {سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا وَفَرَضْنَـاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَـاتا بَيِّنَـاتٍ} (النور : 1) ثم فسر الآيات بقوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى} (النور : 2) إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم وثالثها : يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً سافياً وافياً ، قال بعده : {كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِه لِلنَّاسِ} أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يذكر للناس/ والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان.
أما قوله تعالى : {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فقد مر شرحه غير مرة.
الحكم الثامن
(1/789)
من الأحكام المذكورة في هذه السورة : حكم الأموال
جزء : 5 رقم الصفحة : 267
278
اعلم أنهم مثلوا قوله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم} بقوله : {مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} (الحجرات : 11) وهذا مخالف لها ، لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره ، قال الشيخ أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء : المال إنما يحرم لمعنى في عينه أو لحال في جهة اكتسابه.
والقسم الأول : الحرام لصفة في عينه.
/ واعلم أن الأموال إما أن تكون من المعادن أو من النبات ، أو من الحيوانات ، أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منه إلا من حيث يضر بالأكل ، وهو ما يجري مجرى السم ، وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل الحياة والصحة أو العقل ، فمزيل الحياة السموم ، ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل الخمر والبنج وسائر المسكرات.
وأما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل ، وما يحل إنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ثم إذا ذبحت فلا تحل بجميع أجزائها بل يحرم منها الفرث والدم ، وكل ذلك مذكور في كتب الفقه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 278
القسم الثاني : ما يحرم لخلل من جهة إثبات اليد عليه ، فنقول : أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك ، أو بغير اختياره كالإرث ، والذي باختياره إما أن يكون مأخوذاً من المالك كأخذ المعادن ، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك ، وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي ، والمأخوذ قهراً إما أن لسقوط عصمة الملك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم ، والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا التقسيم أقسام ستة الأول : ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن ، وإحياء الموت ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء من الأنهار ، والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين الثاني : المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له ، وهو الفيء ، والغنيمة ، وسائر أموال الكفار المحاربين ، وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسموه بين المستحقين بالعدل ، ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهد والثالث : ما يؤخذ قهراً باسحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه ، وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق ، وتم وصف المستحق واقتصر على القدر المستحق الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين ؛ أعني الإيجاب والقبول مما يعتد الشرع به من اجتناب الشرط المفسد الخامس : ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه ، وشرط العاقدين ، وشرط العقد ، ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث ، وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل القسمة بين الورثة ، وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة ، فهذا مجامع مداخل الحلال ، وكتب الفقه مشتملة على تفاصيلها فكل ما كان كذلك كان مالاً حلالاً ، وكل ما كان بخلافه كان حراماً ، إذا عرفت هذا فنقول : المال إما أن يكون لغيره أو له ، فإن كان لغيره كانت حرمته لأجل الوجوه الستة المذكورة ، وإن كان له فأكله بالحرام أن يصرف إلى شرب الخمر والزنا واللواط والقمار أو إلى السرف المحرم ، وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله : / {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} واعلم أن سبحانه كرر هذا النهي في مواضع من كتابه فقال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً} (النساء : 29) وقال : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا} (النساء : 10) وقال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة : 278) ثم قال : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه } ثم قال : {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (البقرة : 279) ثم قال : [البقرة : 275-25]{وَمَنْ عَادَ فَ أولئك أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} (البقرة : 275) جعل آكل الربا في أول الأمر مؤذناً بمحاربة الله ، وفي آخره متعرضاً للنار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 278
المسألة الثانية : قوله : {وَلا تَأْكُلُوا } ليس المراد منه الأكل خاصة ، لأن غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا الباب لكنه لما كان المقصود الأعظم من المال إنما هو الأكل وقع التعارف فيمن ينفق ماله أن يقال أنه أكله فلهذا السبب عبر الله تعالى عنه بالأكل.
(1/790)
المسألة الثالثة : {الْبَـاطِلُ } في اللغة الزائل الذاهب ، يقال : بطل الشيء بطولاً فهو باطل ، وجمع الباطل بواطل ، وأباطيل جمع أبطولة ، ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو.
أما قوله تعالى : {وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الإدلاء مأخوذ من إدلاء الدلو ، وهو إرسالك إياها في البئر للإستقاء يقال. أدليت دلوي أدليها إدلاء فإذا استخرجتها قلت دلوتها قال تعالى : {فَأَدْلَى دَلْوَه } (يوسف : 19) ، ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل أدلاء ، ومنه يقال للمحتج : أدلى بحجته ، كأنه يرسلها ليصير إلى مراده كإدلاء المستقي الولد ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلان يدلى إلى الميت بقرابة أو رحم ، إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة ، طلب المستحق بالدلو الماء ، إذا عرفت هذا فنقول : أنه داخل في حكم النهي ، والتقدير : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولا تدلوا إلى الحكام ، أي لا ترشوها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالباطل ، وفي تشبيه الرشوة بالإدلاء وجهان أحدهما : أن الرشوة رشاء الحاجة ، فكما أن الدلو المملوء من الماء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالمقصود البعيد يصير قريباً بسبب الرشوة والثاني : أن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت كمضي الدلو في الإرسال ، ثم المفسرون ذكروا وجوهاً أحدها : قال ابن عباس والحسن وقتادة : المراد منه الودائع وما لا يقوم عليه بينة وثانيها : أن المراد هو مال اليتيم في ي الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ليبقى عليهم بعضه وثالثها : أن المراد من الحاكم شهادة الزور ، وهو قول الكلبي ورابعها : قال الحسن : المراد هو أن يحلف ليذهب حقه وخامسها : هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة ، وهو أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد أيضاً حمل اللفظ على الكل ، لأنها بأسره أكل بالباطل.
/ أما قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فالمعنى وأنتم تعلمون أنكم مبطلون ، ولا شك أن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح ، وصاحبه بالتوبيخ أحق ، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ، اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم : عالم بالخصومة وجاهل بها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم للعالم ، فقال من قضى عليه : يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق فقال : إن شئت أعاوده ، فعاوده فقضى للعالم ، فقال المقضى عليه مثل ما قال أولاً ثم عاوده ثالثاً ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : "من اقتطع حق امرىء مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار" فقال العالم المقضي له : يا رسول الله إن الحق حقه ، فقال عليه الصلاة والسلام : "من اقتطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار".
الحكم التاسع
جزء : 5 رقم الصفحة : 278
280
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : نقل عن ابن عباس أنه قال : ما كان قوم أقل سؤالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا.
(1/791)
وأقول : ثمانية منها في سورة البقرة أولها : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (البقرة : 186) وثانيها : هذه الآية ثم الستة الباقية بعد في سورة البقرة ، فالمجموع ثمانية في هذه السورة والتاسع : قوله تعالى في سورة المائدة : {يَسْـاَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } (المائدة : 4) والعاشر : في سورة الأنفال {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ } (الأنفال : 1) والحادي عشر : في بني إسرائيل {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } (الإسراء : 85) والثاني عشر : في الكهف {وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ } (الكهف : 83) والثالث عشر : في طه {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} (طه : 105) والرابع عشر : في النازعات {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (النازعات : 42) ولهذه الأسئلة ترتيب عجيب : اثنان منها في الأول في شرح المبدأ فالأول : قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} (البقرة : 186) وهذا سؤال عن الذات والثاني : قوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ } وهذا سؤال عن صفة الخلاقية والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه ، واثنان منها في الآخرة في شرح المعاد أحدهما : قوله : {وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} والثاني : قوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } (الأعراف : 187) ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} (البقرة : 21) أحدهما : في النصف الأول : وهي السورة الرابعة من سورة النصف الأول ، فإن أولاها الفاتحة وثانيتها البقرة وثالثها آل عمران ورابعتها النساء وثانيتهما : في النصف الثاني من القرآن وهي أيضاً السورة الرابعة من سور النصف الثاني أولاها مريم ، وثانيتها طه ، وثالثتها الأنبياء ، ورابعتها الحج ، ثم {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} التي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ فقال { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء : 1) و{يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} التي في النصف الثاني تشتمل على شرح المعاد فقال : {تَصِفُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} (الحج : 1) فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية ، وحكم مطوية لا يعرفها إلا الخواص من عبيده.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
المسألة الثانية : روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم وكل واحد منهما كان من الأنصار قالا يا رسول الله : ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس ، فنزلت هذه الآية ويروى أيضاً عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.
واعلم أن قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ } ليس فيه بيان إنهم عن أي شيء سألوا لكن الجواب كالدال على موضع السؤال ، لأن قوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } يدل على أن سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة ، فصار القرآن والخبر متطابقين في أن السؤال كان عن هذا المعنى.
المسألة الثالثة : الأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس ، يقال له : هلال ليلتين من أول الشهر ثم يكون قمراً بعد ذلك ، وقال أبو الهيثم : يسمى القمر ليلتين من أول الشهر هلالاً ، وكذلك ليلتين من آخر الشهر ، ثم يسمي ما بَين ذلك قمراً ، قال الزجاج : فعال يجمع في أقل العدد على أفعلة ، نحو مثال وأمثلة ، وحمار وأحمرة ، وفي أكثر العدد يجمع على فعل مثل حمر لأنهم كرهوا في التضعيف فعل ، نحو هلل وخلل ، فاقتصروا على جمع أدنى العدد.
أما قوله تعالى : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } مسألتان :
المسألة الأولى : المواقيت جمع الميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم الميقات منتهى الوقت ، قال الله تعالى : {فَتَمَّ مِيقَـاتُ رَبِّه } (الأعراف : 142) والهلال ميقات الشهر ، ومواضع الإحرام مواقيت الحج لأنها مواضع ينتهي إليها ، ولا تصرف مواقيت لأنها غاية الجموع ، فصار كأن الجمع يكرر فيها فإن قيل : لم صرفت قوارير ؟
قيل : لأنها فاصلة وقعت في رأس آية ، فنون ليجري على طريقة / الآيات ، كما تنون القوافي ، مثل قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
أقل اللوم عاذل والعتابن
(1/792)
المسألة الثانية : اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل الزمان مقدراً من أربعة أوجه : السنة والشهر واليوم والساعة ، أما السنة فهي عبارة عن الزمان الحاصل من حركة الشمس من نقطة معينة من الفلك بحركتها الحاصلة عن خلاف حركة الفلك إلى أن تعود إلى تلك النقطة بعينها ، إلا أن القوم اصطلحوا على أن تلك النقطة نقطة الإعتدال الربيعي وهو أول الحمل ، وأما الشهر فهو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به إلى أن يعود إلى تلك النقطة ، ولما كان أشهر أحوال القمر وضعه مع الشمس ، وأشهر أوضاعه من الشمس هو الهلال العربي ، مع أن القمر في هذا الوقت يشبه الموجود بعد العدم والمولود الخارج من الظلم لا جرم جعلوا هذا الوقت منتهى للشهر ، وأما اليوم بليلته فهو عبارة عن مفارقة نقطة من دائرة معدل النهار نقطة من دائرة الأفق ، أو نقطة من دائرة نصف النهار وعودها إليها ، فالزمان المقدر عبارة عن اليوم بليلتها ، ثم أن المنجمين اصطلحوا على تعيين دائرة نصف النهار مبتدأ لليوم بليلته ، أما أكثر الأمم فإنهم جعلوا مبادىء الأيام بلياليها من مفارقة الشمس أفق المشرق وعودها إليه من الغداة ، واحتج من نصر مذهبهم بأن الشمس عند طلوعها كالموجود بعد العدم فجعله أولا أولى ، فزمان النهار عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض ، وزمان الليل عبارة عن كونها تحت الأرض ، وفي شريعة الإسلام يفتتحون النهار من أول وقت طلوع الفجر في وجوب الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام ، وعند المنجمين مدة الصوم في الشرع هي زمان النهار كله مع زيادة من زمان الليل معلومة المقدار محدودة المبدأ ، وأما الساعة فهي على قسمين : مستوية جزء من أربعة وعشرين من يوم وليلة ، فهذا كلام مختصر في تعريف السنة والشهر واليوم والساعة.
فنقول : أما السنة فهي عبارة عن دورة الشمس فتحدث بسببها الفصول الأربعة ، وذلك لأن الشمس إذا حصلت في الحمل فإذا تركت من هذا الموضع إلى جانب الشمال ، أخذ الهواء في جانب الشمال شيئاً من السخونة لقربها من مسامتة الرؤوس ، ويتواتر الإسخان إلى أن تصل أول السرطان ، وتشتد الحرارة ويزداد الحر ما دامت في السرطان والأسد لقربها من سمت الرؤوس ، ويتواتر الإسخان ، ثم ينعكس إلى أن يصل الميزان : وحينئذ يطيب الهواء ويعتدل ، ثم يأخذ الحر في النقصان والبرد في الزيادة ، ولا يزال يزداد البرد إلى أن تصل الشمس إلى أول الجدي ، ويشتد البرد حينئذ لبعدها عن سمت الرؤوس ، ويتواتر البرد ثم إن الشمس تأخذ في الصعود إلى ناحية الشمال/ وما دامت في الجدي والدلو ، فالبرد أشد ما يكون إلى أن تنتهي إلى الحمل ، فحينئذ يطيب الهواء ويعتدل ، وعادت الشمس إلى مبدأ حركتها وانتهى زمان السنة نهايته ، وحصلت الفصول / الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء ، ومنافع الفصول الأربعة وتعاقباً ظاهرة مشهورة في الكتب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
وأما الشهر فهو عبارة عن دورة القمر في فلكه الخاص وزعموا أن نوره مستفاد من الشمس وأبداً يكون أحد نصفيه مضيئاً بالتمام إلا أنه عند الاجتماع يكون النصف المضيء هو النصف الفوقاني فلا جرم نحن لا نرى من نوره شيئاً وعند الاستقبال يكون نصفه المضيء مواجهاً لنا فلا جرم نراه مستنيراً بالتمام ، وكلما كان القمر أقرب إلى الشمس ، كان المرئي من نصفه المضيء أقل وكلما كان أبعد كان المرئي من نصفه المضيء أكثر ، ثم أنه من وقت الإجتماع إلى وقت الإنفصال يكون كل ليلة أبعد من الشمس ، ويرى كل ليلة ضوءه أكثر من وقت الإستقبال إلى وقت الاجتماع ، ويكون كل ليلة أقرب إلى الشمس ، فلا جرم يرى كل ليلة ضوءه أقل ، ولا يزال يقل ويقل : {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يس : 39) فهذا ما قاله أصحاب الطبائع والنجوم.
وأما الذي يقوله الأصوليون فهو أن القمر جسم ، والأجسام كلها متساوية في الجسمية ، والأشياء المتساوية في تمام الماهية يمتنع اختلافها في اللوازم ، وهذه مقدمة يقينية فإذن حصول الضوء في جرم الشمس والقمر أمر جائز أن يحصل ، وما كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه إلا بسبب الفاعل المختار ، وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار ، فإن ذلك يكون قادراً على إيجاده وعلى إعدامه ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إسناد هذه الإختلافات الحاصلة في نور القمر إلى قربها وبعدها من الشمس ، بل عندنا أن حصول النور في جرم الشمس إنما كان بسبب إيجاد القادر المختار ، وكذا الذي في جرم القمر.
(1/793)
بقي ههنا أن يقال الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الإختلافات ، فنقول لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان أحدهما : أن يقال : إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة ، ويدل عليه وجوه أحدها : أن من فعل فعلاً لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثاً ، وإن لم يقدر فهو عاجز وثانيها : أن كل من فعل فعلا لغرض ، فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته ، مستكمل بغيره ، وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا وثالثها : أنه لو كان فعله معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثاً افتقر إحداثه إلى غرض آخر ، وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال ، فلا جرم قالوا : كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه البتة {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ} (الأنبياء : 23).
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
والجواب الثاني : قول من قال : لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم ، والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار / حكم الله تعالى في ملكه وملكوته ، وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه وهو قوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهو قوله : {وَقَدَّرَه مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } (يونس : 5) وقال في آية ثالثة {فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } (الإسراء : 12) وتفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا/ أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة منها الصوم ، قال الله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (البقرة : 185) وثانيها : الحج ، قال الله تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } (البقرة : 197) وثالثها : عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة : 234) ورابعها : النذور التي تتعلق بالأوفات ، ولفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة.
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال {وَحَمْلُه وَفِصَـالُه ثَلَـاثُونَ شَهْرًا } (الأحقاف : 15) وغيرها فكل ذلك مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الإختلاف في شكل القمر.
فإن قيل : لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر ، وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة التي هي عبارة عن دورة الشمس وبإجرائها مثل أن يقال : كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة ، أو في سدسها ، أو نصفها ، وهكذا سائر الأجزاء ، ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال : كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوماً من أول السنة ، وأيضاً بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الإختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل ، ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم يحصل في نور الشمس اختلافا ، فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر ، وإن لم يحصل في نور القمر إختلاف ، وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
والجواب عن السؤال الأول : أن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام لأن الأهلة اثنا عشر شهراً ، والأيام كثيرة ، ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين ، ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور ، ثم تقسيم الشهور إلى الأيام ، ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات ، ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط ، ولهذا قال سبحانه : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (التوبة : 36) وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب ، ثم كل كتاب إلى الأبواب ، ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا ههنا الجواب عنه.
(1/794)
/ وأما السؤال الثاني : فجوابه ما ذكرتم ، إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل ، كان معرفة أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك ، وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته ، كما قال تعالى : {إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لايَـاتٍ لاوْلِى الالْبَـابِ} (آل عمران : 190) وقال تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} (الفرقان : 61) وأيضاً لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم : أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة ، وأظهر الإختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهداً على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر ، كما قال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } . إذا عرفت هذه الجملة فنقول : أنه لما ظهر أن الإختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهان التي ذكرناها نبه تعالى بقوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } على جميع هذه المنافع ، لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتاً فكان هذا الاقتصار دليلاً على الفصاحة العظيمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
أما قوله تعالى : {وَالْحَجِّ } ففيه إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَـادَكُمْ} أي لأوردكم ، واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا نعرف إلا بالأهلة ، قال تعالى : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } (البقرة : 197) وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة ، قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (البقرة : 185) وقال عليه السلام : "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته" وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله : وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها : قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشيء فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً ، وعلى هذا تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير ، لكن البر من يتقي الله ولم / يتق غيره ولم يخف شيئاً كان يتطير به ، بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده ، ثم قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق : 2 ـ 3) {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مِنْ أَمْرِه يُسْرًا} (الطلاق : 4) وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائباً يقال : ما أفلح وما أنجح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين وقد وردت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلّم بالنهي عن التطير ، وقال : "لا عدوى ولا طيرة" وقال من "رده عن سفره تطير فقد أشرك" أو كما قال وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن وقد عاب الله تعالى قوماً تطيروا بموسى ومن معه {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَا قَالَ طَـا اـاِرُكُمْ عِندَ اللَّه } (النمل : 47).
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
الوجه الثاني : في سبب نزول هذه الآية ، روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلماً يصعد منه سطح داره ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء ، فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب ، ولكن البر من اتقى.
(1/795)
الوجه الثالث : أن أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقباً منه يدخل ويخرج إلا الحمس ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية ، وهؤلاء سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، الحماسة الشدة ، وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون السمن والأقط/ ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كام محرماً ورجل آخر كان محرماً ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم حال كونه محرماً من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرماً فاتبعه ، فقال عليه السلام : تنح عني ، قال : ولم يا رسول الله ؟
قال : دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال : إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال : {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه الأول : وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول ، إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية ، فإن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الحكمة في تغيير نور القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصة ، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه أحدها : أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس / والحج ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه وثانيها : أنه تعالى إنما وصل قوله : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} بقوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ } لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر وثالثها : كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم : اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
القول الثاني : في تفسير الآية أن قوله تعالى : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} مثل ضربه الله تعالى لهم ، وليس المراد ظاهره ، وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق وإذا عرفت هذا فنقول : إنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، ومتى عرفنا ذلك ، وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة ، وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة ، لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول ، فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم ، فهذا الاستدلال باطل ، لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا فالمراد من قوله تعالى : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمونها ، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه وفي ضده يقال : إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه قال تعالى : {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران : 187) وقال : {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ} (هود : 92) فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ، ذكره الله تعالى ههنا ، وهذا تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه.
القول الثالث : في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم ، أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسيء ، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
(1/796)
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } تقديره : ولكن البر بر من اتقى فهو / كقوله : {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} (البقرة : 177) وقد تقدم تقريره.
المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وقالون عن نافع البيوت : بكسر الباء لأنهم استثقلوا الخروج من ضمة باء إلى ياء ، والباقون بالضم على الأصل وللقراء فيها وفي نظائرها نحو بيوت ، وعيون ، وجيوب : مذاهب واختلافات يطول تفصيلها.
أما قوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فقد بينا دخول كل واجب واجتناب كل محرم تحته {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي تفلحوا ، والفلاح هو الظفر بالبغية ، قالت المعتزلة : وهذا يدل على إرادته تعالى الفلاح من جميعهم ، لأنه لا تخصيص في الآية والله أعلم.
الحكم العاشر
ما يتعلق بالقتال
جزء : 5 رقم الصفحة : 280
287
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أمر بالإستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ا وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } (البقرة : 189) وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله ، وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبان فالإستقامة علم ، والتقوى عمل ، وليس التكليف إلا في هذين ، ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس ، وهو قتل أعداء الله فقال : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
المسألة الثانية : في سبب النزول قولان الأول : قال الربيع وابن زيد : هذه الآية أول آية نزلت في القتال ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل من قاتل ، ويكف عن قتال من تركه ، وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التوبة : 5).
والقول الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ، ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء ، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك وصالحهم عليه ، / ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة ، ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم ، وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها ، فقال : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
المسألة الثالثة : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعته وطلب رضوانه ، روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عمن يقاتل في سبيل الله ، فقال : هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا يقاتل رياء ولا سمعة.
المسألة الرابعة : اختلفوا في المراد بقوله : {الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} على وجوه أحدها : وهو قول ابن عباس ، المراد منه : قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج ، أو على وجه المقاتلة ابتداء ، وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية وثانيها : قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال وثالثها : قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم ، قال تعالى : {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال : 61) واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى : {الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} يقتضي كونهم فاعلين للقتال ، فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه ، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلاً إلا على سبيل المجاز.
جزء : 5 رقم الصفحة : 287
المسألة الخامسة : من الناس من قال : هذه الآية منسوخة ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين ، ونهى عن قتال غير المقاتلين ، بدليل أنه قال : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} ثم بعده : ولا تعتدوا هذا القدر ، ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين ، ثم قال تعالى بعد ذلك : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (البقرة : 191) فاقتضي هذا حصول الأول في قتال من لم يقاتل ، فدل على أن هذه الآية منسوخة/ ولقائل أن يقول : نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا ، لكن هذا الحكم ما صار منسوخاً.
(1/797)
أما قوله : إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا ، فهذا غير مسلم ، وأما قوله تعالى : {وَلا تَعْتَدُوا } فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم ، منها أن يكون المعنى : ولا تبدؤا في الحرم بقتال ، ومنها أن يكون المراد : ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد ، أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة ، أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني ، وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة.
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية ، ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل ، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا.
قلنا : لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين ، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة ، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع ، وأقام من أقام منهم على الشرك ، بعد ظهور المعجزات وتكررها / علهم حالا بعد حال ، حصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.
المسألة السادسة : المعتزلة احتجوا بقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قالوا : لو كان الإعتداء بإرادة الله تعالى وبتخليقه لما صح هذا الكلام ، وجوابه قد تقدم والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 287
288
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه ، قال :
فأما تثقفوني فاقتلوني
فمن أثقف فليس إلى خلود
ثم نقول قوله تعالى : الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلّم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن ، والضمير في قوله : عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة ، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم ، وفي الشهر الحرام ، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة ، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا ، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
المسألة الثانية : نقل عن مقاتل أنه قال : إن الآية المتقدمة على هذه الآية ، وهي قوله : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} (البقرة : 190) منسوخة بقوله تعالى : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى : {وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (البقرة : 193) وهذا الكلام ضعيف.
أما قوله : إن قوله تعالى : {وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ} منسوخ بهذه الآية ، فقد / تقدم إبطاله ، وأما قوله : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ ، وأما قوله : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} منسوخ بقوله : {وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو خطأ أيضاً لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باق فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 288
أما قوله تعالى : {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } ففيه بحثان :
البحث الأول : أن الإخراج يحتمل وجهين أحدهما : أنهم كلفوهم الخروج قهراً والثاني : أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم ، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج.
البحث الثاني : أن صيغة {حَيْثُ} تحتمل وجهين أحدهما : أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة والثاني : أخرجوهم من منازلكم ، إذا عرفت هذا فنقول : أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه ، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد ، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل مشرك من الحرم. ثم أجلاهم أيضاً من المدينة ، وقال عليه الصلاة والسلام : "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب".
(1/798)
أما قوله تعالى : {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } ففيه وجوه أحدها : وهو منقول عن ابن عباس : أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى ، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج ، وفيه الفتنة ، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل/ لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم ، والقتل ليس كذلك ، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة ، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل ، وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام ، فالمؤمنون عابوه على ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام ، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ، ثم صار إسماً لكل ما كان سبباً للامتحان تشبيهاً بهذا الأصل ، والمعنى : أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين ، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هرباً من إضلالهم في الدين ، وتخليصاً للنفس مما يخافون ويحذرون ، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها ، وقال بعض الحكماء : ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة.
الوجه الثالث : أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، / فكأنه قيل : اقتلوهم من حيث ثقفتموهم ، واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله : {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِه } (التوبة : 52) وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز ، وذلك من باب إطلاق اسم السبب على المسبب ، قال تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات : 13) ثم قال عقيبة : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} (الذاريات : 14) أي عذابكم ، وقال : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ} (البروج : 10) أي عذبوهم ، وقال : {فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت : 10) أي عذابهم كعذابه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 288
الوجه الرابع : أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم ، لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها.
الوجه الخامس : أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقاً والمعنى : وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم.
أما قوله : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة ، وقد كان من قبل شرطاً في كل القتال وفي الأشهر الحرم.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه فَإِن قَـاتَلُوكُمْ} كله بغير ألف ، والباقون جميع ذلك بالألف ، وهو في المصحف بغير ألف ، وإنما كتبت كذلك للإيجاز ، كما كتب : الرحمن بغير ألف ، وكذلك : صالح ، وما أشبه ذلك من حروف المد واللين ، قال القاضي رحمه الله : القراءتان المشهورتان إذا لم يتناف العمل وجب العمل بهما ، كما يعمل بالآيتين إذا لم يتناف العمل بهما ، وما يقتضيه هاتان القراءتان المشهورتان لا تنافي فيه ، فيجب العمل بهما ما لم يقع النسخ فيه ، يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولاً فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره ؟
فقال حمزة : إن العرب إذا قتل رجل منهم قالوا قتلنا ، وإذا ضرب رجل منهم قالوا ضربنا.
المسألة الثالثة : الحنفية تمسكوا بهذه الآية في مسألة الملتجيء إلى الحرم ، وقالوا : لما لم يجز القتل عند المسجد الحرام بسبب جناية الكفر فلأن لا يجوز القتل في المسجد الحرام بسبب الذنب الذي هو دون الكفر كان أولى/ وتمام الكلام فيه في كتب الخلاف.
أما قوله تعالى : {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره ، وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزال وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله ، فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم : {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم ، ونظيره قوله تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38) وفي الآية مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 288
المسألة الأولى : قال ابن عباس : فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن : فإن انتهوا عن الشرك.
(1/799)
حجة القول الأول : أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله : {فَإِنِ انتَهَوْا } محمولاً على ترك المقاتلة.
حجة القول الثاني : أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال ، بل بترك الكفر.
المسألة الثانية : الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما : التوبة والآخر التمسك بالإسلام ، وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين : إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط. أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التوبة من كل ذنب مقبولة ، وقول من قال : التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ ، لأن الشرك أشد من القتل ، فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى ، وأيضاً فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافراً كونه قاتلاً. فلما دلت الآية على قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلاً مقبولاً والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 288
291
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال القوم : هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه } (البقرة : 191) والصحيح أنه ليس كذلك لأن البداية بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته أقصى ما في الباب أن هذه الصفة عامة ولكن مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الصحيح أن العام سواء كان مقدماً على المخصص أو متأخراً عنه فإنه يصير مخصوصاً به والله أعلم.
المسألة الثانية : في المراد بالفتنة ههنا وجوه أحدهما : أنها الشرك والفكر ، قالوا : كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وثانيها : قال أبو مسلم : معنى الفتنة ههنا الجرم قال : لأن الله تعالى أمر / بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار. فإن قيل : كيف يقال : {وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقاً.
قلنا الجواب من وجهين الأول : أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك ، لأن من قتل فقد زال كفره ، ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك.
الجواب الثاني : أن المراد قاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا ، ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه.
أما قوله تعالى : {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه } فهذا يدل على حمل الفتنة على الشرك ، لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره ، فصار التقدير كأنه تعالى قال : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام ، وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب ويحصل ما يؤدي إلى الثواب ، ونظيره قوله تعالى : {تُقَـاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } (الفتح : 16) وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود.
جزء : 5 رقم الصفحة : 291
أما قوله تعالى : {فَإِنِ انتَهَوْا } فالمراد : فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم ، وهو إما كفرهم أو قتالهم ، فعند ذلك لا يجوز قتالهم ، وهو كقوله تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال : 38).
أما قوله تعالى : {فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّـالِمِينَ} ففيه وجهان الأول : فإن انتهوا فلا عدوان ، أي فلا قتل إلاعلى الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
فإن قيل : لم سمي ذلك القتل عدواناً مع أنه في نفسه حق وصواب ؟
.
قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) وقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ لُقْمَـانُ ابْنِه وَهُوَ يَعِظُه يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان : 13) والثاني : إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 291
292
(1/800)
اعلم أن الله تعالى لما أباح القتال وكان ذلك منكراً فيما بينهم ، ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك فقال : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} وفيه وجوه أحدها : روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العالم القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام ، والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وثانيها : ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم ، فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم ، وذلك قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌا وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة : 217) فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة ، فقال : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه وثالثها : ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم ، فالشهر الحرام من جانبنا ، مقابل بالشهر الحرام من جانبكم ، والحاصل في الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة ، فكيف جعلوه سبباً في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم.
أما قوله تعالى : {وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } فالحرمات جمع حرمة والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة وإذا عرفت هذا ففي هذه الآية تعود تلك الوجوه.
أما على الوجه الأول : فهو أن المراد بالحرمات : الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام فقوله : {وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع.
جزء : 5 رقم الصفحة : 292
وأما على الوجه الثاني : فهو أن المراد : إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضاً ، قال الزجاج : وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الإبتداء بل على سبيل القصاص ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية ، وهو قوله : {وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيه } (البقرة : 191) وبما بعدها وهو قوله : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } .
أما على القول الثالث : فقوله : {وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان ، والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال.
أما قوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } فالمراد منه : الأمر بما يقابل الإعتداء من الجزاء والتقدير : فمن اعتدى عليكم فقابلوه ، والسبب في تسميته اعتداء قد تقدم ثم قال : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وقد تقدم معنى التقوى ، ثم قال : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي بالمعونة والنصرة والحفظ والعلم ، وهذا من أقوى الدلائل على أنه ليس بجسم ولا في مكان إذا لو كان جسماً لكان في مكان معين ، فكان إما أن يكون مع أحد منهم ولم يكن مع الآخر أو يكون مع كل واحد من المؤمنين جزء من أجزائه وبعض من أبعاضه تعالى الله عنه علواً كبيراً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 292
293
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول : أنه تعالى لما أمر بالقتال والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال ، وربما كان ذو المال عاجزاً عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيراً عديم المال ، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال والثاني : يروي أنه لما نزل قوله تعالى : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } (البقرة : 94) قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا ، فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
(1/801)
واعلم أن الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح ، فلذلك لا يقال في المضيع : إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله ، فالمراد به في طريق الدين ، لا السبيل هو الطريق ، وسبيل الله هو دينه. فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقاً في حج / أو عمرة أو كان جهاداً بالنفس ، أو تجهيزاً للغير ، أو كان إنفاقاً في صلة الرحم ، أو في الصدقات أو علي العيال ، أو في الزكوات والكفارات ، أو عمارة السبيل وغير ذلك ، إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد ، بل قال : {وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} لوجهين الأول : أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق ، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال الثاني : أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكة لقضاء العمرة ، وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضى إلى القتال إن منعهم المشركون ، فكانت عمرة وجهاداً ، واجتمع فيه المعنيان ، فلما كان الأمر كذلك ، لا جرم قال تعالى : {وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقل : وأنفقوا في الجهاد والعمرة.
أما قوله تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } ففيه مسائل :
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
المسألة الأولى : قال أبو عبيدة والزجاج {التَّهْلُكَةِ } الهلاك يقال : هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة : قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة بضم العين إلا هذا ، قال أبو علي : قد حكى سيبويه : التنصرة والتسترة ، وقد جاء هذا المثال اسماً غير مصدر ، قال : ولا نعلمه جاء صفة قال صاحب "الكشاف" : ويجوز أن يقال أصله التهلكة ، كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة ، كما جاء الجوار في الجوار.
وأقول : إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به ، واتخذوه حجة قوية ، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة ، أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها.
المسألة الثانية : اتفقوا على أن الباء في قوله : {بِأَيْدِيكُمْ} تقتضي إما زيادة أو نقصاناً فقال قوم : الباء زائدة والتقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة. وهو كقوله : جذبت الثوب بالثوب ، وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان ، أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله : {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (الحج : 10) أو {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى : 30) فالتقدير : ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وقال آخرون : بل ههنا حذف. والتقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
(1/802)
المسألة الثالثة : قوله : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } اختلف المفسرون فيه ، فمنهم من قال : إنه راجع إلى نفس النفقة ، ومنهم من قال : إنه راجع إلى غيرها ، أما الأولون فذكروا فيه وجوه الأول : أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم ، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، وكأنه قيل : إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته ، وإن كنت من رجال الدنيا / فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك الوجه الثاني : أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله ، فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس فكان المراد منه ما ذكره في قوله : {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا} (الشورى : 67) وفي قوله : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء : 29) وأما الذين قالوا : المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوهاً أحدها : أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله : {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ} (الأنفال : 42) وثانيها : المراد من قوله : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل ، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه ، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب ، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقل بين الصفين ، ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال : هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه الأول : روي أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد والثاني : روى الشافعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكر الجنة ، فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابراً محتسباً ؟
قال عليه الصلاة والسلام : لك الجنة فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله ، وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه والثالث : روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه ، فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال فيه قولا حسناً الرابع : روي أن قوماً حاصروا حصناً ، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال : كذبوا أليس يقول الله تعالى
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّه } (البقرة : 207) ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول : إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم ، فإما إذا توقع فنحن نجوز ذلك/ فلم قلتم أنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع الوجه الثالث : في تأويل الآية أن يكون هذا متصلاً بقوله : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } (البقرة : 194) أي فإن / قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص ، فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة الوجه الرابع : في التأويل أن يكون المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلاناً هالكاً وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك الوجه الخامس : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط ، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَـالَكُمْ} (محمد : 33).
(1/803)
أما قوله تعالى : {وَأَحْسِنُوا ا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختفلوا في أن المحسن مشتق من ماذا وفيه وجوه الأول : أنه مشتق من فعل الحسن وأنه كثر استعماله فيمن ينفع غيره بنفع حسن من حيث أن الإحسان حسن في نفسه ، وعلى هذا التقدير فالضرب والقتل إذا حسناً كان فاعلهما محسناً الثاني : أنه مشتق من الإحسان ، ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً إلا إذا كان فعله حسناً وإحساناً معاً ، فالإشتقاق إنما يحصل من مجموع الأمرين.
المسألة الثانية : قوله : {وَأَحْسِنُوا } فيه وجوه أحدها : قال الأصم : أحسنوا في فرائض الله وثانيها : وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته ، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطاً فلا تسرفوا ولا تقتروا ، وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
وأما قوله : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فهو ظاهر وقد تقدم تفسيره مراراً.
في الآية مسائل :
/ المسألة الأولى : {الْحَجُّ} في اللغة عبارة عن القصد وإنما يقال : حج فلان الشيء إذا قصده مرة بعد أخرى ، وأدام الاختلاف إليه بكسر الحاء السنة ، وإنما قيل لها حجة لأن الناس يحجون في كل سنة ، وأما في الشرع فهو اسم لأفعال مخصوصة منها أركان ومنها أبعاض ومنها هيئات ، فالأركان ما لا يحصل التحلل حتى يأتي به والأبعاض هي الواجبات التي إذا ترك شيء يجبر بالدم ، والهيئات ما لا يجب الدم على تركها ، والأركان عندنا خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، وفي حلق الرأس أو تقصيره قولان : أصحهما أنه نسك لا يحصل التحلل إلا به ، وأما الأبعاض فهي الإحرام من الميقات والمقام بعرفة إلى المغرب في قول والبيتوتة بمزدلفة ليلة النحر في قول ورمي جمرة العقبة والبيتوتة بمنى ليالي التشريق في قول ورمي أيامها.
وأما سائر أعمال الحج فهي سنة.
وأما أركان العمرة فهي أربعة : الإحرام ، والطواف ، والسعي ، وفي الحلق قولان ، ثم المعتمر بعدما فرغ من السعي فإن كان معه هدي ذبحه ثم حلق أو قصر ، ولا يتوقف التحلل على ذبح الهدي.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّوا } أمر بالإتمام/ وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ، ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق ، والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : إن هذا الأمر مشروط ، والمعنى أن من شرع فيه فليتمه قالوا : ومن الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجباً إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجباً ، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا ، وغير واجبة عن أبي حنيفة رحمه الله حجة أصحابنا من وجوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
(1/804)
الحجة الأولى : قوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملاً تاماً ، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه ، وإذا ثبت الإحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك ، أما بيان الإحتمال فيدل عليه قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } (البقرة : 124) أي فعلهن على سبيل التمام والكمال ، وقوله تعالى : {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } (البقرة : 187) أي فافعلوا الصيام تاماً إلى الليل ، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال : المراد فأشرعوا في الصيام ثم أتموه ، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار ، وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه ، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ، ويدل عليه وجوه الأول : أن / حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطاً ، ويكون التقدير : أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما ، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط ، فكان ذلك أولى والثاني : أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه الثالث : قرأ بعضهم {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالإتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل الرابع : أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة ، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما ، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب ، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة ، فكان حمل كلام الله عليه أولى الخامس : أن الباب باب العبادة فكان الإحتياط فيه أولى ، والقول بإيجاب الحج والعمرة معاً أقرب إلى الاحتياط ، فوجب حمل اللفظ عليه السادس : هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام ، لكنا نقول : اللفظ دل على وجوب الاتمام جزماً ، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجباً جزماً والاتمام مسبوق بالشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب ، فيلزم أن يكون الشروع واجباً في الحج وفي العمرة السابع : روي عن ابن عباس أنه قال : والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله ، أي إن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله : {وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزَّكَواةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة : 43) فهذا تمام تقرير هذه الحجة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
فإن قيل : قرأ علي وابن مسعود والشعبي {وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب.
قلنا : هذا مدفوع من وجوه الأول : أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة ، الثاني : أن فيها ضعفاً في العربية ، لأنها تقتضي عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية الثالث : أن قوله : {وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } معناه أن العمرة عبادة الله ، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها/ وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين ، وهو غير جائز الرابع : أنه لما كان قوله : {وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } معناه : والعمرة عبادة الله ، وجب أن يكون العمرة مأموراً بها لقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} (البينه : 5) والأمر للوجوب ، وحينئذ يحصل المقصود.
الحجة الثانية : في وجوب العمرة أن قوله تعالى : {يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ} (التوبة : 3) يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل ، وما ذاك إلا العمرة بالإتفاق ، وإذا ثبت أن العمرة حج ، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} ولقوله : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آل عمران : 97)}.
(1/805)
الحجة الثالثة : في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإسلام ، فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله / وأن محمداً رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج وتعتمر ، وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال : إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، فقال عليه الصلاة والسلام : حج عن أبيك واعتمر ، فأمر بهما ، والأمر للوجوب ، ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال : "الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت" ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة.
الحجة الرابعة : في وجوب العمر ، قال الشافعي رضي الله عنه : اعتمر النبي صلى الله عليه وسلّم قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب ، وحجة من قال : العمرة ليست واجبة وجوه :
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
الحجة الأولى : قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، فقال الأعرابي : هل على غير هذا ؟
قال : لا إلا أن تطوع ، فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : أفلح الأعرابي إن صدق ، وقال عليه الصلاة والسلام : "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت" وقال عليه الصلاة والسلام : "صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم" فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها ، وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا ؟
فقال : لا وإن تعتمر خير لك ، وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "الحج جهاد والعمرة تطوع".
والجواب : من وجوه أحدها : أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها : لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها قوله : .
الحجة الثالثة : في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإسلام ، فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله / وأن محمداً رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج وتعتمر ، وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال : إن أبي شيخ كفي أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن/ فقال عليه الصلاة والسلام : حج عن أبيك واعتمر ، فأمر بهما ، والأمر للوجوب ، ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال : "الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت" ومنها ما روت عائشة رضي الله عنها بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة.
الحجة الرابعة : في وجوب العمر ، قال الشافعي رضي الله عنه : اعتمر النبي صلى الله عليه وسلّم قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب ، وحجة من قال : العمرة ليست واجبة وجوه :
الحجة الأولى : قصد الأعرابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، فقال الأعرابي : هل على غير هذا ؟
قال : لا إلا أن تطوع ، فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : أفلح الأعرابي إن صدق ، وقال عليه الصلاة والسلام : "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت" وقال عليه الصلاة والسلام : "صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم" فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها ، وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا ؟
فقال : لا وإن تعتمر خير لك ، وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "الحج جهاد والعمرة تطوع".
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
(1/806)
والجواب : من وجوه أحدها : أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن وثانيها : لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وهذا هو الأقرب ، لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة وثالثها : أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر ، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة ، وأما حديث محمد بن المنكدر فقالوا : رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف.
المسألة الثالثة : اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام : الإفراد ، والقران ، والتمتع ، فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر الحج ، ثم يحج في تلك السنة ، / والقران أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا ، والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة ، وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج.
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال الشافعي رضي الله عنه أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران وقال في اختلاف الحديث التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك رضي الله عنه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : القران أفضل ، ثم الإفراد ، ثم التمتع ، وهو قول المزني وأبي إسحق والمروزي من أصحابنا ، وقال أبو يوسف ومحمد : القران أفضل ، ثم التمتع ، ثم الإفراد ، حجة الشافعي رضي الله عنه في أن الإفراد أفضل من وجوه الأول : التمسك بقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } والإستدلال به من ثلاثة أوجه الأول : أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج ، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه/ والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد ، فأما عند القران فالموجود شيء واحد ، وهو حج وعمرة وذلك مانع من صحة العطف الثاني : قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } يقتضي الافراد ، بدليل أنه تعالى قال : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } والقارن يلزمه هديان عند الحصر ، وأيضاً أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة ، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر الثالث : هذه الآية تدل على وجوب الإتمام ، والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان الأول : أن السفر مقصود في الحج ، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه ، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت ، ويدل عليه أيضاً أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكباً يلزمه دم ، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر ، لأن بسببه يصير السفران سفراً واحداً ، فثبت أن الاتمام لا يحصل إلا بالافراد الثاني : أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة ، ومشاهد مشرفة ، والحاج زائر الله ، والله تعالى مزوره ، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم ، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة ، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الافراد ، وتصير واحدة عند القران ، فثبت أن الافراد أقرب إلى التمام ، فكان الافراد إن لم يكن واجباً عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
الحجة الثانية : في بيان أن الافراد أفضل : أن الافراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة ، ثم بالعمرة بعد ذلك ، فتكون الأعمال الشاقة في الأفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام : "أفضل الأعمال أحمزها" أي أشقها.
(1/807)
/ الحجة الثالثة : أنه عليه السلام كان مفرداً فوجب أن يكون الإفراد أفضل ، أما قولنا : إنه كان مفرداً فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى ، فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم أفرد بالحج ، وروى جابر وابن عمر أنه أفرد ، وأما أنس فقد روى عنه أنه قال : كنت واقفاً عند جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فكان لعابها يسيل على كتفي ، فسمعته يقول "لبيك بحج وعمرة معاً" ثم الشافعي رضي الله عنه رجح رواية عائشة رضي الله عنها وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه أحدها : بحال الرواة ، أما عائشة فلأنها كانت عالمة ، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأشد الناس وقوفاً على أحواله ، وأما جابر فانه كان أقدم صحبة للرسول صلى الله عليه وسلّم من أنس ، وإن أنساً كان صغيراً في ذلك الوقت قبل العلم ، وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غيره ، لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلّم والثاني : أن عدم القران متأكد بالاستصحاب والثالث : أن الافراد يقتضي تكثير العبادة ، والقران يقتضي تقليلها ، فكان إلحاق الإفراد بالنبي عليه الصلاة والسلام أولى ، وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان مفرداً وجب أن يكون الافراد أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختار الأفضل لنفسه ، ولأنه قال : "خذوا عني مناسككم" أي تعلموا مني.
الحجة الرابعة : أن الافراد يقتضي تكثير العبادة ، والقران يقتضي تقليلها ، فكان الأول أولى ، لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة ، وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه :
الحجة الأولى : التمسك بقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد أيجاب كل واحد منهما/ أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام ، فلو جملناه على الأول لا يفيد الثاني ، ولو حملناه على الثاني أفاد الأول ، فكان الثاني أكثر فائدة ، فوجب حمل اللفظ عليه ، لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
الحجة الثانية : أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد.
الحجة الثالثة : أن في القران مسارعة إلى التسكين وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد التسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله : {وَسَارِعُوا } (آل عمران : 133).
والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد ، وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن حيث قلتم : حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا.
والجواب عن الثاني والثالث : أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضاً ، إلا أن القران كان / حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصاً فيه فأما أن يكون أفضل فلا ، وبالجملة فالشافعي رضي الله عنه لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة لكنه يقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الاتيان بالحجة المقرونة.
(1/808)
المسألة الرابعة : في تفسير الإتمام في قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وفيه وجوه أحدها : روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله وثانيها : قال أبو مسلم : المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام ، قال : ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلّم في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع حتى يتم هذا الفرض ، ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الاتمام وثالثها : قال الأصم : إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة ، وذكر الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الاحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال : الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الاحرام ثمانية الأول : في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة ، ورد المظالم ، وقضاء الديون ، وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ، ويرد ما عنده من الودائع ، ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ، ويتصدق بشيء قبل خروجه ، ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها ، فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه الثاني : في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير ، معينا عليه ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر ساعده ، وإن جبن شجعه ، وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره ، وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم ، ويلتمس أدعيتهم ، فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً ، والسنة في الوداع أن يقول : أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الثالث : في الخروج من الدار ، فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
{قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} (الكافرون : 1) وفي الثانية وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالاخلاص ، الرابع : إذا حصل على باب الدار قال : بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى الخامس : في الركوب ، فإذا ركب الراحلة قال : بسم الله وبالله والله أكبر ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين/ وإنا إلى ربنا لمنقلبون السادس : في النزول ، والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ، ولا ينزل حتى يحمى النهار ، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً السابع : إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار ، فليقرأ آية الكرسي ، وشهد الله ، والاخلاص ، والمعوذتين ، ويقول : تحصنت بالله العظيم ، واستعنت بالحي الذي لا يموت ، / الثامنة : مهما علا شرفا من الأرض في الطريق ، فيستحب أن يكبر ثلاثاً التاسع : أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها العاشرة : أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ، ثم بعد الاتيان بهذه المقدمات ، يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ، فقوله : {الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني ، فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعاً ملة إبراهيم حيث قال تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } (البقرة : 124).
الوجه الرابع : في تفسير قوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } أن المراد : أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد ، وقد بيناه بالدليل ، وهذا التأويل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد يروى مرفوعاً عن أبي هريرة ، وكان عمر يترك القران والتمتع ، ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج ، فإن الله تعالى يقول : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } (البقرة : 197) وروى نافع عن ابن عمر أنه قال : فرقوا بين حجكم وعمرتكم.
المسألة الخامسة : قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم {الْحَجُّ} بفتح الحاء في كل القرآن وهي لغة الحجاز ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص ، عن عاصم بالكسر في آل عمران ، قال الكسائي : وهما لغتان بمعنى واحد ، كرطل ورطل ، وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
وقوله تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} قال أحمد بن يحيى : أصل الحصر والإحصار : الحبس ومنه يقال للذي لا يبوح بسره : حصر. لأنه حبس نفسه عن البوح والحصر احتباس الغائط والحصير الملك لأنه كالمحبوس بين الحجاب وفي شعر لبيد :
جن لدي باب الحصير قيام
والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض تشبيهاً باحتباس الشيء مع غيره.
(1/809)
إذا عرفت هذا فنقول : اتفقوا على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه ، أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول : وهو اختيار أبي عبيدة وابن الكسيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض ، قال ابن السكيت : يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر وقال ثعلب في فصيح الكلام : أحصر بالمرض وحصر بالعدو.
والقول الثاني : أن لفظ الاحصار يفيد الحبس والمنع ، سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء.
والقول الثالث : أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو ، وهو قول الشافعي رضي الله عنه وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر ، فانهما قالا : لا حصر إلا حصر العدو ، وأكثر أهل اللغة / يردون هذا القول على الشافعي رضي الله عنه ، وفائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية ، وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت ، وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع ؟
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : يثبت. وقال الشافعي : لا يثبت. وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان أحدهما : الذين قالوا : الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط ، وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصاً صريحاً في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم والثاني : الذين قالوا الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلاً بسبب المرض أو بسبب العدو ، وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضاً ، لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار ، فوجب أن يكون الحكم ثابتاً عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض وأما على القول الثالث : وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو ، فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو ظاهر قوي ، وأما تقرير مذهب الشافعي رضي الله عنه ، فهو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط ، والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر ، ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن ، ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
الحجة الأولى : أن الإحصار إفعال من الحصر والافعال تارة يجيء بمعنى التعدية نحو : ذهب زيد وأذهبته أنا ، ويجيء بمعنى صار ذا كذا نحو : أغد البعير إذا صار ذا غدة ، وأجرب الرجل إذا صار ذا أبل جربى ويجيء بمعنى وجدته بصفة كذا نحو : أحمدت الرجل أي وجدته محموداً والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية ، فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى : أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين ، ثم إن أهل اللغة أتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الاحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو ، أو وجدوا ممنوعين بالعدو ، وذلك يؤكد مذهبنا.
الحجة الثانية : أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده ، إذا كان قادراً عن ذلك الفعل متمكناً منه ، ثم إنه منعه مانع عنه ، والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر أالبتة على الفعل ، فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع ، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضى ، أما إذا كان ممنوعاً بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة ، إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو ، فصح ههنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل ، فثبت أن لفظة الاحصار حقيقة في العدو ، / ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض.
الحجة الثالثة : أن معنى قوله : {أُحْصِرْتُمْ} أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس ، والمنع لا بد له من مانع ، ويمتنع وصف المرض بكونه حابساً ومانعاً ، لأن الحبس والمنع فعل ، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلاً ، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلا وحابسا ومانعا ، أما وصف العدو بأنه حابس ومانع ، فوصف حقيقي ، وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه.
الحجة الرابعة : أن الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض ، فلفظ الإحصار وجب أن يكون خالياً عن الاشعار بالمرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة.
الحجة الخامسة : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِه أَذًى مِّن رَّأْسِه } فعطف عليه المريض ، فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلاً فيه ، لكان هذا عطفاً للشيء على نفسه.
فإن قيل : إنه خص هذا المرض بالذكر لأن له حكماً خاصاً ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم ، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
(1/810)
قلنا : هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض ، إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشيء على نفسه ، أما إذا لم يكن المحصر مفسراً بالمريض ، لم يلزم عطف الشيء على نفسه ، فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان ذلك أولى.
الحجة السادسة : قال تعالى في آخر الآية : {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض ، فإنه يقال في المرض : شفي وعفي ولا يقال أمن.
فإن قيل : لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف ، فإنه يقال : أمن المريض من الهلاك وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها.
قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو ، وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها.
قلنا : بل يوجب لأن قوله : {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا ، فلا بد وأن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدم ذكره ، والذي تقدم ذكره هو الاحصار ، فصار التقدير : فإذا أمنتم من ذلك الاحصار ، ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو ، وجب أن يكون المراد من هذا الاحصار منع العدو ، فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط ، أما قول من قال : إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل ، وفيه دليل آخر ، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي / صلى الله عليه وسلّم بالحديبية ، والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب ؟
إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه ، فلو كان الإحصار اسماً لمنع المرض ، لكان سبب نزول الآية خارجاً عنها ، وذلك باطل بالإجماع ، فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو ، وإذا ثبت هذا فنقول : لا يمكن قياس منع المرض عليه ، وبيانه من وجهين : الأول : أن كلمة : إن ، شرط عند أهل اللغة ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهراً ، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه ، فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياساً كان ذلك نسخا للنص بالقياس ، وهو غير جائز.
الوجه الثاني : أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا ، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه ، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو ، ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه ، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام ، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل ، فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
أما قوله : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : في الآية إضمار ، والتقدير : فحللتم فما استيسر ، وهو كقوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (البقرة : 184) أي فأفطر فعدة ، وفيها إضمار آخر ، وذلك لأن قوله : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } كلام غير تنام لا بد فيه من إضمار ، ثم فيه احتمالان : أحدهما : أن يقال : محل ، ما : رفع ، والتقدير : فواجب عليكم ما استيسر والثاني : قال الفراء : لو نصبت على معنى : اهدوا ما تيسر كان صواباً ، وأكثر ما جاء في القرآن من أشباهه مرفوع.
المسألة الثانية : {اسْتَيْسَرَ} بمعنى تيسر ، ومثله : استعظم ، أي تعظم واستكبر : أي تكبر ، واستصعب : أي تصعب.
المسألة الثالثة : {الْهَدْىِ } جمع هدية ، كما تقول : تمر وتمرة ، قال أحمد بن يحيى : أهل الحجاز يخففون {الْهَدْىِ } وتميم تثقله ، فيقولون : هدية ، وهدي ومطية ، ومطي ، قال الشاعر :
حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات
ومعنى الهدي : ما يهدى إلى بيت الله عز وجل تقرباً إليه ، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره تقرباً إليه/ ثم قال علي وابن عباس والحسن وقتادة : الهدي أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.
المسألة الرابعة : المحصر إذا كان عالما بالهدي ، هل له بدل ينتقل إليه ؟
للشافعي رضي الله عنه فيه قولان : أحدهما : لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، / والحجة في أنه تعالى أوجب على المحصر الهدي على التعيين ، وما أثبت له بدلاً والثاني : أن له بدلاً ينتقل إليه ، وهو قول أحمد فإذا قلنا بالقول الأول : هل له أن يتحلل في الحال أو يقيم على إحرامه فيه قولان أحدهما : أنه يقيم على إحرامة حتى يجده ، وهو قول أبي حنيفة ويدل عليه ظاهر الآية والثاني : أن يتحلل في الحال للمشقة ، وهو الأصح ، فإذا قلنا بالقول الثاني ففيه اختلافات كثيرة وأقربها أن يقال : يقوم الهدي بالدراهم ويشتري بها طعام ويؤدي ، وإنما قلنا ذلك لأنه أقرب إلى الهدي.
المسألة الخامسة : المحصر إذا أراد التحلل وذبح ، وجب أن ينوي التحلل عند الذبح ، ولا يتحلل البتة قبل الذبح.
(1/811)
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
المسألة السادسة : اختلفوا في العمرة فأكثر الفقهاء قالوا حكمها في الإحصار كحكم الحج وعن ابن سيرين أنه لا إحصار فيه لأنه غير مؤقت ، وهذا باطل لأن قوله تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} مذكور عقيب الحج والعمرة ، فكان عائداً إليهما.
أما قوله تعالى : {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر فتقدير الآية : حتى يبلغ الهدي محله وينحر فإذا نحر فاحلقوا.
المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : يجوز إراقة دم الإحصار لا في الحرم ، بل حيث حبس ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز ذلك إلا في الحرم ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية ، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل ، وقال أبو حنيفة : إنه اسم للمكان.
حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوه الأول : إنه عليه الصلاة والسلام أحصر بالحديبية ونحر بها ، والحديبية ليست من الحرم ، قال أصحاب أبي حنيفة إنه إنما أصحر في طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة ، وهو من الحرم ، قال الواقدي : الحديبية على طرف الحرم على تسعة أميال من مكة ، أجاب القفال رحمه الله في "تفسيره" عن هذا السؤال فقال الدليل على أن نحر ذلك الهدي ما وقع في الحرم قوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّه } (الفتح : 25) فبين تعالى أن الكفار منعوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن إبلاغ الهدي محله الذي كان يريده فدل هذا على أنهم نحروا ذلك الهدي في غير الحرم.
الحجة الثانية : أن المحصر سواء كان في الحل أو في الحرم فهو مأمور بنحر الهدي فوجب أن يتمكن في الحل والحرم من نحر الهدى.
بيان المقام الأول : أن قوله : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} يتناول كل من كان محصراً سواء كان في الحل / أو في الحرم ، وقوله بعد ذلك : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } معناه فما استيسر من الهدي نحوه واجب ، أو معناه فانحروا فانحروا ما استيسر من الهدي ، وعلى التقديرين ثبت أن هذه الآية دالة على أن نحر الهدي واجب على المحصر سواء كان محصراً في الحل أو في الحرم ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له الذبح في الحل والحرم ، لأن المكلف بالشيء أول درجاته أن يجوز له فعل المأمور به ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المحصر قادراً على إراقة الدم حيث أحصر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
الحجة الثالثة : أن الله سبحانه إنما مكن المحصر من التحلل بالذبح ليتمكن من تخليص النفس عن خوف العدو في الحال/ فلو لم يجز النحر إلا في الحرم وما لم يحصل النحر لا يحصل التحلل بدلالة الآية ، فعلى هذا التقدير وجب أن لا يحصل التحلل في الحال ، وذلك يناقض ما هو المقصود من شرع هذا الحكم ، ولأن الموصل للنحر إلى الحرم إن كان هو فقد نفى الخوف ، وكيف يؤمن بهذا الفعل من قيام الخوف وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل ؟
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه الأول : أن المحل بكسر عين الفعل عبارة عن المكان ، كالمسجد والمجلس فقوله : {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّه } يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى مكان الحل ، وهو عندكم بالغ محله في الحال/
جوابه : المحل عبارة عن الزمان وأن من المشهور إن محل الدين هو وقت وجوبه الثاني : هب أن لفظ المحل يحتمل المكان والزمان إلا أن الله تعالى أزال هذا الإحتمال بقوله {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج : 33) وفي قوله : {هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ} (المائدة : 95) ولا شك أن المراد منه الحرم فإن البيت عينه لا يراق فيه الدماء.
جوابه : قال الشافعي رضي الله عنه : كل ما وجب على المحرم في ماله من بدنة وجزاء هدي فلا يجزي إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في موضعين أحدهما : من ساق هديا فعطف في طريقه ذبحه وخلى بينه وبين المساكين والثاني : دم المحصر بالعدو فإنه ينحر حيث حبس ، فالآيات التي ذكرتموها في سائر الدماء فلم قلتم إنها تتناول هذه الصورة الثالث : قالوا : الهدي سمي هدياً لأنه جار مجرى الهدية التي يبعثها العبد إلى ربه ، والهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها المهدي إلى دار المهدى إليه وهذا المعنى لا يتصور إلا بجعل موضع الهدي هو الحرم.
جوابه : هذا التمسك بالاسم ثم هو محمول على الأفضل عند القدرة الرابع : أن سائر دماء الحج كلها قربة كانت أو كفارة لا تصح إلا في الحرم ، فكذا هذا.
جوابه : أن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر ، أما لو وجب إرساله إلى الحرم لا يحصل هذا المقصود ، وهذا المعنى غير موجود في سائر الدماء فظهر الفرق.
(1/812)
المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على أنه لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 293
296
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة ، قال كعب : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية ، وكان في شعر رأسي كثير من القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي ، فقال عليه الصلاة والسلام تؤذيك هوام رأسك ؟
قلت : نعم يا رسول الله ، قال أحلق رأسك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمقصود منها أن المحرم إذا تأذى بالمرض أو بهوام رأسه أبيح له المداواة والحلق بشرط الفدية والله أعلم.
المسألة الثانية : ففدية رفع لأنه مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : فعليه فدية ، وأيضاً ففيه إضمار آخر والتقدير : فحلق فعليه فدية.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : هذه الآية مختصة بالمحصر ، وذلك لأن قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله أذن له في ذلك بشرط بذل الفدية ، وقال آخرون بل الكلام مستأنف لكل محرم لحقه المرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو لحقه أذى في رأسه فاحتاج إلى الحلق ، فبين الله تعالى أن له ذلك ، وبين ما يجب عليه من الفدية.
إذا عرفت هذا فنقول : المرض قد يحوج إلى اللباس ، فتكون الرخصة في اللباس كالرخصة في الحلق ، وقد يكون ذلك بغير المرض من شدة البرد وما شاكله فأبيح له بشرط الفدية ، وقد يحتاج أيضاً إلى استعمال الطيب في كثير من الأمراض فيكون الحكم فيه ذاك ، وأما من يكون به أذى / من رأسه فقد يكون ذلك بسبب القمل والصئبان وقد يكون بسبب الصداع وقد يكون عند الخوف من حدوث مرض أو ألم ، وبالجملة فهذا الحكم عام في جميع محظورات الحج.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أنه هل يقدم الفدية ثم يترخص أو يؤخر الفدية عن الترخص والذي يقتضيه الظاهر أنه يؤخر الفدية عن الترخص لأن الإقدام على الترخص كالعلة في وجوب الفدية فكان مقدماً عليه ، وأيضاً فقد بينا أن تقدير الآية : فحلق فعليه فدية ، ولا ينتظم الكلام إلا على هذا الحد ، فإذن يجب تأخير الفدية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
أما قوله تعالى : {مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فالمراد أن تلك الفدية أحد هذه الأمور الثلاثة وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أصل النسك العبادة ، قال ابن الأعرابي النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلق نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث ، هذا أصل معنى النسك ، ثم قيل للذبيحة : نسك من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله.
المسألة الثانية : اتفقوا في النسك على أن أقله شاة ، لأن النسك لا يتأدى إلا بأحد الأمور الثلاثة : الجمل ، والبقرة ، والشاة ، ولما كان أقلها الشاة ، لا جرم كان أقل الواجب في النسك هو الشاة ، أما الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما ، وبماذا يحصل بيانه فيه قولان أحدهما : أنه حصل عن كعب بن عجرة ، وهو ما روى أبو داود في سننه أنه عليه الصلاة والسلام لما مر بكعب بن عجرة ورأى كثرة الهوام في رأسه/ قال له : احلق ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.
والقول الثاني : ما يروى عن ابن عباس والحسن أنهما قالا : الصيام للمتمتع عشرة أيام ، والإطعام مثل ذلك في العدة ، وحجتهما أن الصيام والإطعام لما كانا مجملين في هذا الموضع وجب حملهما على المفسر فيما جاء بعد ذلك ، وهو الذي يلزم المتمتع إذا لم يجد الهدي ، والقول الأول عليه أكثر الفقهاء.
المسألة الثالثة : الآية دلت على حكم من أقدم على شيء من محظورات الحج بعذر ، أم من حلق رأسه عامداً بغير عذر فعند الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة الواجب عليه الدم ، وقال مالك رضي الله عنه : حكمه حكم من فعل ذلك بعذر ، والآية حجة عليه ، لأن قوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِه أَذًى مِّن رَّأْسِه فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} يدل على اشتراط هذا الحكم بهذه الأعذار ، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط ، وقوله تعالى : {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} فاعلم أن تقديره : فإذا أمنتم من الإحصار ، وقوله : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فيه مسائل :
(1/813)
/ المسألة الأولى : معنى التمتع التلذذ ، يقال : تمتع بالشيء أي تلذذ به ، والمتاع : كل شيء يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع أي طويل ، وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به ، والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ، ثم يقيم بمكة حلالاً ينشىء منها الحج ، فيحج من عامه ذلك ، وإنما سمي متمتعاً لأنه يكون مستمتعاً بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج ، والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه ، وههنا نوع آخر من التمتع مكروه ، وهو الذي حذر عنه عمر رضي الله عنه وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ ، روي عن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة ، فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إبطال ذلك الإعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصاً بهم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
المسألة الثانية : قوله تعالى : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} أي فمن يتمتع بسبب العمرة فكأنه لا يتمتع بالعمرة ولكنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة ، وهذا هو معنى التمتع بالعمرة إلى الحج.
أما قوله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أصحابنا : لوجوب دم التمتع خمس شرائط أحدها : أن يقدم العمرة على الحج والثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فإن أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بشيء من الطواف وإن كان شرطاً واحداً ثم أكمل باقيه في أشهر الحج وحج في هذه السنة لم يلزمه دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج ، وإن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ، وأتى بأعمالها في أشهر الحج ، فيه قولان : قال في "الأم" وهو الأصح : لا يلزمه دم التمتع لأنه أتى بركن من أركان العمرة قبل أشهر الحج ، كما لو طاق قبله ، وقال في "القديم والإملاء" : يلزمه ذلك ويجعل استدامة الإحرام في أشهر الحج كابتدائه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إذا أتى ببعض الطواف قبل أشهر الحج فهو متمتع إذا لم يأت بأكثره الشرط الثالث : أن يحج في هذه السنة ، فإن حج في سنة أخرى لا يلزمه الدم ، لأنه لم يوجد مزاحمة الحج والعمرة في عام واحد الشرط الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى : {ذَالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُه حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وحاضر المسجد الحرام من كان أهله على مسافة أقل من مسافة القصر ، فإن كان على مسافة القصر فليس من الحاضرين ، وهذه المسافة تعتبر من مكة أو من الحرم ، وفيه وجهان الشرط الخامس : أن يحرم بالحج من / جوف مكة بعد الفراغ من العمرة فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع لأن لزوم الدم لترك الإحرام من الميقات ولم يوجد ، فهذه هي الشروط المعتبرة في لزوم دم التمتع.
المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله عنه : دم التمتع دم جبران الإساءة ، فلا يجوز له أن يأكل منه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إنه دم نسك ويأكل منه ، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : أن التمتع حصل فيه خلل فوجب أن يكون الدم دم جبران ، بيان حصول الخلل فيه من وجوه ثلاثة الأول : روي أن عثمان كان ينهي عن المتعة فقال له علي رضي الله عنهما : عمدت إلى رخصة بسبب الحاجة والغربة ، وذلك يدل على حصول نقص فيها الثاني : أنه تعالى سماه تمتعاً ، والتمتع عبارة عن التلذذ والإرتفاع ، ومبنى العبادة على المشقة ، فيدل على أنه حصل في كونه عبادة نوع خلل الثالث : وهو بيان الخلل على سبيل التفصيل : أن في التمتع صار السفر للعمرة ، وكان من حقه أن يكون للحج ، فإن الحج الأكبر هو الحج ، وأيضاً حصل الترفه وقت الإحلال بينهما وذلك خلل ، وأيضاً كان من حقه جعل الميقات للحج ، فإنه أعظم ، فلما جعل الميقات للعمرة كان ذلك نوع خلل ، وإذا ثبت كون الخلل في هذا الحج وجب جعل الدم دم جبران لا دم نسك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
الحجة الثانية : أن الدم ليس بنسك أصلي من مناسك الحج أو العمرة كما لو أفرد بهما ، وكما في حق المكي ، والجمع بين العبادتين لا يوجب الدم أيضاً بدليل أن من جمع بين الصلاة والصوم والإعتكاف لا يلزمه الدم ، فثبت بهذا أن هذا الدم ليس دم نسك فلا بد وأن يكون دم جبران.
الحجة الثالثة : أن الله تعالى أوجب الهدي على التمتع بلا توقيت ، وكونه غير مؤقت دليل على أنه دم جبران لأن المناسك كلها مؤقتة.
(1/814)
الحجة الرابعة : أن للصوم فيه مدخلاً ، ودم النسك لا يبدل بالصوم ، وإذا عرفت صحة ما ذكرنا فنقول : أن الله تعالى ألزم المكلف إتمام الحج في قوله : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وقد دللنا على أن حج التمتع غير تام ، فلهذا قال تعالى : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } وذلك لأن تمتعكم يوقع نقصاً في حجتكم فأجبروه بالهدي لتكمل به حجتكم فهذا معنى حسن مفهوم من سياق الآية وهو لا يتقرر إلا على مذهب الشافعي رضي الله عنه.
المسألة الثالثة : الدم الواجب بالتمتع : دم شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ، ولو تشارك ستة في بقرة أو بدنة جاز ، ووقت وجوبه بعدما أحرم بالحج ، لأن الفاء في قوله : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } يدل على أنه وجب عقيب التمتع ، ويستحب أن يذبح يوم النحر ، فلو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز ، وأصل هذا أن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات ، وعنده دم نسك كدم الأضحية فيختص / بيوم النحر.
أما قوله تعالى : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ} فالمعنى أن المتمتع إن وجد الهدي فلا كلام وإن لم يجد فقد بين الله تعالى بدله من الصيام ، فلهذا الهدي أفضل أم الصيام ؟
الظاهر أن يكون المبدل الذي هو الأصل أفضل ، لكنه تعالى بين في هذا البدل أنه في الكمال والثواب كالهدي وهو كقوله : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الآية نص فيما إذا لم يجد الهدي ، والفقهاء قاسوا عليه ما إذا وجد الهدي ولم يجد ثمنه ، أو كان ماله غائباً ، أو يباع بثمن غال فهنا أيضاً يعدل إلى الصوم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
المسألة الثانية : قوله : {فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي فعليه ثلاثة أيام وقت اشتغاله بالحج ويتفرع عليه مسألة فقهية ، وهي أن المتمتع إذا لم يجد الهدي لا يصح صومه بعد إحرام العمرة قبل إحرام الحج ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يصح حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه الأول : أنه صام قبل وقته فلا يجوز كمن صام رمضان قبله ، وكما إذا صام السبعة أيام قبل الرجوع وإنما قلنا : إنه صام قبل وقته ، لأن الله تعالى قال : {فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وأراد به إحرام الحج ، لأن سائر أفعال الحج لا تصلح طرفاً للصوم ، والإحرام يصلح فوجب حمله عليه الثاني : أن ما قبل الإحرام بالحج ليس بوقت للهدي الذي هو أفضل ، فكذا لا يكون وقتاً للصوم الذي هو بدله اعتبار بسائر الأصول والإبدال ، وتحقيقه أن البدل حال عدم الأصل يقوم مقامه فيصير في الحكم كأنه الأصل ، فلا يجوز أن يحصل في وقت لو وجد الأصل لم يجز إذا عرفت هذا فنقول : اتفقوا على أنه يجوز بعد الشروع في الحج إلى يوم النحر والأصح أنه لا يجوز يوم النحر ولا أيام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام : "ولا تصوموا في هذه الأيام" والمستحب أن يصوم في أيام الحج حيث يكون يوم عرفة مفطراً.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد من الرجوع في قوله : {إِذَا رَجَعْتُمْ } فقال الشافعي رضي الله عنه في "الجديد" : هو الرجوع إلى الأهل والوطن ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع ، ويتفرع عليه أنه إذا صام الأيام السبعة بعد الرجوع عن الحج ، وقبل الوصية إلى بيته ، لا يجزيه عند الشافعي رضي الله عنه ، ويجزيه عند أبي حنيفة رحمه الله ، حجة الشافعي وجوه الأول : قوله : {إِذَا رَجَعْتُمْ } معناه إلى الوطن ، فإن الله تعالى جعل الرجوع إلى الوطن شرطاً وما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط والرجوع إلى الوطن لا يحصل إلا عند الانتهاء إلى الوطن فقبله لم يوجد الشرط فوجب أن لا يوجد المشروط ويتأكد ما قلنا بأنه لو مات قبل الوصول إلى الوطن لم يكن عليه شيء الثاني : ما روي عن ابن عباس قال : لما قدمنا مكة قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي" فطفنا / بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فلما فرغنا قال : "عليكم الهدي فإن لم تجدوا فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى إمصاركم" الثالث : أن الله تعالى أسقط الصوم عن المسافر في رمضان. فصوم التمتع أخف شأناً منه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
المسألة الرابعة : قرأ ابن أبي عبلة {سَبْعَةُ} بالنصب عطفاً على محل ثلاثة أيام كأنه قيل : فصيام ثلاثة أيام ، كقوله : {أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا} (البلد : 14).
(1/815)
أما قوله تعالى : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما : أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني : أن قوله : {كَامِلَةٌ } يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال ، والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول : أن الواو في قوله : {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله : {مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } (النساء : 3) وكما في قولهم : جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا ، فالله تعالى ذكر قوله : {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } إزالة لهذا الوهم النوع الثاني : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله : {كَامِلَةٌ } كأنه لو قال : تلك كاملة ، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة ، أو السبعة المفردة عن الثلاثة ، فلا بد في هذا من ذكر العشرة ، ثم اعلم أن قوله : {كَامِلَةٌ } يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها : أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها : أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه وثالثها : أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً ، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.
النوع الثالث : أن الله تعالى إذا قال : أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام ، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف ، فلو قال : ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ، بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة ، فإذا قال بعده : تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة ، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
النوع الرابع : أن مراتب الأعداد أربعة : آحاد ، وعشرات ، ومئين ، وألوف ، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً ، وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف ، فصار تقدير الكلام : إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب.
/ النوع الخامس : أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب ، كقوله : {وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} (الحج : 46) وقال : {وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة ، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة ، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها ، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها ، وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة.
النوع السادس : في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب ، ولم يكونوا أهل حساب ، فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب ، وهذا كما روي أنه قال في الشهر : هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً ، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين ، وبالثانية على تسعة وعشرين.
النوع السابع : أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط ، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.
النوع الثامن : أن قوله : {فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام ، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة ، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين ، فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال ، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.
(1/816)
النوع التاسع : أن اللفظ وإن كان خبراً لكن المعنى أمر والتقدير : فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج ، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابراً للخلل الواقع في ذلك الحج ، الذي يجب أن يكون تاماً كاملاً ، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاماً ، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً جداً فالظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به ، ومبالغة الشرع في إيجابه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
النوع العاشر : أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج ، فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى ، فلما قال / بعده : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال ، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص على ما قال تعالى : {يَأْذَنَ لِى } والحج أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص ، على ما قال : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى ، فالعقل دل أيضاً على ذلك ، أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها ، وهو مع ذلك شاق على النفس جداً ، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى ، والحج أيضاً عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها ، وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن ، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات ، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته ، ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين شيئين شاقين جداً ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق ، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعلى صيام هذه الأيام العشرة ، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو ، فقال : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال ، فكأنه قال : عشرة وأية عشرة ، عشرة كاملة ، فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة ، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين.
أما قوله تعالى : {ذَالِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُه حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى ما تقدم ، وأقرب الأمور المذكورة ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله ، وأبعد منهم ذكر تمتعهم. فلهذا السبب اختلفوا ، فقال الشافعي رضي الله عنه ، إنه راجع إلى الأقرب ، وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع ، أي إنما يكون إذا لم يكن المتمتع من حاضري المسجد الحرام ، فأما إذا كان من أهل الحرم فإنه لا يلزمه الهدي ولا بدله ، وذلك لأن عند الشافعي رضي الله عنه هذا الهدي إنما لزم الآفاقي لأنه كان من الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات : فلما أحرم من الميقات عن العمرة ، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات ، فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبوراً بهذا الدم ، والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات ، فإقدامه على التمتع لا يوقع خللاً في حجه ، فلا جرم لا يجب عليه الهدي ولا بدل ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى الأبعد ، وهو ذكر التمتع ، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع أو قرن كان عليه دم هو دم جناية لا يأكل منه ، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
الحجة الأولى : قوله تعالى : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} عام يدخل فيه الحرمي.
الحجة الثانية : قوله : {ذَالِكَ} كناية فوجب عودها إلى المذكور الأقرب ، وهو وجوب / الهدي ، وإذا خص إيجاد الهدي بالمتمتع الذي يكون آفاقياً لزم القطع بأن غير الأفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً.
الحجة الثالثة : أن الله تعالى شرع القران والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج والنسخ يثبت في حق الناس كافة.
الحجة الرابعة : أن من كان من أهل الإفراد كان من أهل المتعة قياساً على المدني ، إلا أن المتمتع المكي لا دم عليه لما ذكرناه ، حجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن قوله : {ذَالِكَ} كناية فوجب عودها إلى كل ما تقدم ، لأنه ليس البعض أولى من البعض.
وجوابه : لم لا يجوز أن يقال عوده إلى الأقرب أولى لأن القرب سبب للرجحان أليس أن مذهبه أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختص بالجملة الأخيرة ، وإنما تميزت تلك الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب فكذا ههنا.
(1/817)
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بحاضري المسجد الحرام ، فقال مالك : هم أهل مكة وأهل ذي طوى قال : فلو أن أهل منى أحرموا بالعمرة من حيث يجوز لهم ، ثم أقاموا بمكة حتى حجوا كانوا متمتعين ، وسئل مالك رحمه الله عن أهل الحرم أيجب عليهم ما يجب على المتمتع ، قال : نعم وليس هم مثل أهل مكة فقيل له : فأهل منى فقال : لا أرى ذلك إلا لأهل مكة خاصة وقال طاوس حاضروا المسجد الحرام هم أهل الحرم ، وقال الشافعي رضي الله عنه : هم الذي يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة ، فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : حاضروا المسجد الحرام أهل المواقيت ، وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات العرق ، فكل من كان من أهل موضع من هذه المواضع ، أو من أهل ما وراءها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام ، هذا هو تفصيل مذاهب الناس ، ولفظ الآية موافق لمذهب مالك رحمه الله ، لأن أهل مكة هم الذي يشاهدون المسجد الحرام ويحضرونه ، فلفظ الآية لا يدل إلا عليهم ، إلا أن الشافعي قال : كثيراً ما ذكر الله المسجد الحرام ، والمراد منه الحرم ، قال تعالى : {سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الإسراء : 1) ورسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد الحرام ، وقال : {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج : 33) والمراد الحرم ، لأن الدماء لا تراق في البيت والمسجد ، إذا ثبت هذا فنقول : المراد من المسجد الحرام ههنا ما ذكرناه ويدل عليه وجهان الأول : الحاضر ضد المسافر ، وكل من لم يكن مسافراً كان حاضراً ، ولما كان حكم السفر إنما ثبت في مسافة القصر ، فكل من كان دون مسافة القصر لم يكن مسافراً وكان حاضراً الثاني : أن العرب تسمي أهل القرى : حاضرة وحاضرين ، وأهل البر : بادية وبادين ومشهور كلام الناس : أهل البدو والحضر يراد بهما أهل الوبر والمدر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
المسألة الثالثة : قال الفراء : اللام في قوله : {لِمَنِ} بمعنى على ، أي ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة ، كقوله عليه الصلاة والسلام : "واشترطي لهم الولاء" أي عليهم.
المسألة الرابعة : الله تعالى ذكر حضور الأهل والمراد حضور المحرم لا حضور الأهل ، لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون.
المسألة الخامسة : المسجد الحرام إنما وصف بهذا الوصف لأن أصل الحرام والمحروم الممنوع عن المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه ، والمسجد الحرام الممنوع من أن يفعل فيه ما منع عن فعله قال الفراء : ويقال حرام وحرم مثل زمان وزمن.
أما قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} قال ابن عباس : يريد فيما فرض عليكم : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن تهاون بحدوده قال أبو مسلم : العقاب والمعاقبة سيان ، وهو مجازاة المسيء على إساءته وهو مشتق من العاقبة : كأنه يراد عاقبة فعل المسيء ، كقول القائل : لتذوقن عاقبة فعلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 296
314
فيه مسائل :
المسألة الأولى : من المعلوم بالضرورة أن الحج ليس نفس الأشهر فلا بد ههنا من تأويل وفيه وجوه أحدها : التقدير : أشهر الحج أشهر معلومات ، فحذف المضاف وهو كقولهم : البرد شهران ، أي وقت البرد شهران والثاني : التقدير الحج حج أشهر معلومات ، أي لا حج إلا في هذه الأشهر ، ولا يجوز في غيرها كما كان أهل الجاهلية يستجيزونها في غيرها من الأشهر ، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر الثالث : يمكن تصحيح الآية من غير إضمار وهو أنه جعل الأشهر نفس الحج لما كان الحج فيها كقولهم : ليل قائم ، ونهار صائم.
المسألة الثانية : أجمع المفسرون على أن شوالاً وذا القعدة من أشهر الحج واختلفوا في ذي الحجة ، فقال عروة بن الزبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك رحمه الله تعالى ، / وقال أبو حنيفة رحمه الله : الشعر الأول من ذي الحجة من أشهر الحج ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والنخعي والشعبي ومجاهد والحسن ، وقال الشافعي رضي الله عنه : التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر من أشهر الحج ، حجة مالك رضي الله عنه من وجوه الأول : أن الله تعالى ذكر الأشهر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة.
(1/818)
الحجة الثانية : أن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج ، وهو رمي الجمار والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيام بعد العشر ، ومذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر والجواب عن الأول : من وجهين أحدهما : أن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (التحريم : 4) والثاني : أنه نزل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا إنما رآه في ساعة منها والجواب عن الثاني : أن رمي الجمار يفعله الإنسان وقد حج بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج ، والحائض إذا طافت بعده فكأنه في حكم القضاء لا في حكم الأداء ، وأما الذين قالوا إن عشرة أيام من أول ذي الحجة هي من أشهر الحج ، فقد تمسكوا فيه بوجهين الأول : أن من المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر والثاني : أن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج ، وهو طواف الزيارة ، وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه احتج على قوله بأن الحج يفوت بطلوع الفجر يوم النحر ، والعبادة لا تكون فائته مع بقاء وقتها ، فهذا تقرير هذه المذاهب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
بقي ههنا إشكالان الأول : أنه تعالى قال من قبل : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (البقرة : 189) فجعل كل الأهلة مواقيت للحج الثاني : أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله ، ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج ، وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص والجواب من الأول : أن تلك الآية عامة ، وهذه الآية وهي قوله : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } خاصة والخاص مقدم على العام وعن الثاني : أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {مَّعْلُومَـاتٌ } فيه وجوه أحدها : أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ، ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقرراً له الثاني : أن المراد بها معلومات ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث : المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، لا كما يفعله الذين نزل فيهم {إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ } (التوبة : 37).
المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي الله عنه : لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، / وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم : لا يجوز في جميع السنة حجة الشافعي رضي الله عنه قوله : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } وأشهر جمع تقليل على سبيل التنكير ، فلا يتناول الكل ، وإنما أكثره إلى عشرة وأدناه ثلاثة وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، فثبت أن المراد أن أشهر الحج ثلاثة ، والمفسرون اتفقوا على أن تلك الثلاثة : شوال ، وذو القعدة ، وبعض من ذي الحجة ، وإذا ثبت هذا فنقول : وجب أن لا يجوز الإحرام بالحج قبل الوقت ، ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول : أن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة الثاني : أن الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت ، لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر ، حكما فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى الثالث : أن الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول : قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (الحج : 189) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ، وهي ليست بمواقيت للحج فثبت إذن أنها مواقيت لصحة الإحرام ، ويجوز أن يسمى الإحرام حجا مجازاً كما سمي الوقت حجاً في قوله : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } بل هذا أولى لأن الإحرام إلى الحج أقرب من الوقت.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
والحجة الثانية : أن الإحرام التزام للحج ، فجاز تقديمه على الوقت كالنذر.
والجواب عن الأول : أن الآية التي ذكرناها أخص من الآية التي تمسكتم بها.
والجواب عن الثاني : أن الفرق بين النذر وبين الإحرام أن الوقت معتبر للأداء والاتصال للنذر بالاداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ وأما الإحرام فإنه مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه ، فلا جرم افتقر إلى الوقت.
وقوله تعالى : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فيه مسألتان :
(1/819)
المسألة الأولى : معنى {فَرَضَ} في اللغة ألزم وأوجب ، يقال : فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع ، قال ابن الأعرابي : الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره ، وفرضة القوس ، الحز الذي يقع فيه الوتر ، وفرضة الوتد الحز الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة وغيرها ، لأنها لازمة للعبد ، كلزوم الحز للقدح ، ففرض ههنا بمعنى أوجب ، وقد جاء في القرآن : فرض بمعنى أبان ، وهو قوله : {سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا وَفَرَضْنَـاهَا} (النور : 1) بالتخفيف ، وقوله : {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ } (التحريم : 2) وهذا أيضاً راجع إلى معنى القطع ، لأن من قطع شيئاً فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئاً أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى أوجب ، وفرض بمعنى أبان ، كلاهما يرجع إلى أصل واحد.
المسألة الثانية : اعلم أن في هذه الآية حذفا ، والتقدير : فمن ألزم نفسه فيهن الحج ، والمراد / بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرماً إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجاً إلا بفعل يفعله ، فيخرج عن أن يكون حلالاً ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرماً ، لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه ولهذا السبب أيضاً سميت البقعة حرماً لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجاً ومحرماً ، ثم اختلف الفقهاء في أن ذلك الفعل ما هو ؟
قال الشافي رضي الله عنه : أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى ، قال القفال رحمه الله في "تفسيره" : يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنه قال : إذا قلد أو أشعر فقد أحرم ، وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم ، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه :
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
الحجة الأولى : قوله تعالى : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق الهدي فإنه لا إشعار ألبتة في التلبية بكونه محرما لا بحقيقة ولا بمجاز فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية ، وفرض الحج موجب لانعقاد الحج ، بدليل قوله تعالى : {فَلا رَفَثَ} فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج.
الحجة الثانية : ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : "وإنما لكل امرىء ما نوى".
الحجة الثالثة : القياس وهو أن ابتداء الحج كف عن المحظورات ، فيصح الشروع فيه بالنية كالصوم ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه وجهان الأول : ما روى أبو منصور الماتريدي في "تفسيره" عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل أو لبى الثاني : أن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيه إلا بنفس النية كالصلاة.
وأما قوله تعالى : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} بالرفع والتنوين {وَلا جِدَالَ} بالنصب ، والباقون قرؤا الكل بالنصب.
واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمتين الأولى : أن كل شيء له اسم ، فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى ، وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى ، فقولك : رجل يفيد الماهية المخصوصة ، وحركات هذه اللفظة ، أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة ، دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية ، وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل ، والصفة بإزاء الصفة ، فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال : رحل جدار حجر ، وذلك لأن / تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خالياً عن الحركات ، فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب ، لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون.
المقدمة الثانية : إذا قلت : لا رجل بالنصب ، فقد نفيت الماهية ، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعاً ، أما إذا قلت : لا رجل بالرفع والتنوين ، فقد نفيت رجلاً منكراً مبهماً ، وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل ، فثبت أن قولك : لا رجل بالنصب أدل على عموم النفي من قولك : لا رجل بالرفع والتنوين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
(1/820)
إذا عرفت هاتين المقدمتين فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول : أما الذين قرؤا ثلاثة : بالنصب فلا إشكال وأما الذين قرؤا الأولين بالرفع مع التنوين ، والثالث بالنصب فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الإهتمام بنفي الرفث والفسوق وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك ، لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله/ والمجادل لا ينقاد للحق ، وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء فلما كان الجدال مشتملاً على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي ، أما المفسرون فإنهم قالوا : من قرأ الأولين بالرفث والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكون رفث ولا فسوق وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال ، هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي.
المسألة الثانية : أما الرفث فقد فسرناه في قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } (البقرة : 187) والمراد : الجماع ، وقال الحسن : المراد منه كل ما يتعلق بالجماع فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها ، والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع ، وهؤلاء قالوا : التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثاً ، واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير ننك لميسا
فقال له أبو العالية أترفث وأنت محرم ؟
قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، وقال آخرون : الرفث هو قول الخنا والفحش ، واحتج هؤلاء بالخبر واللغة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم" ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش ، وأما اللغة فهو أنه روى عن أبي عبيد أنه قال : الرفث الإفحاش في المنطق ، يقال أرفث الرجل إرفاثاً ، وقال أبو عبيدة : الرفث اللغو من الكلام.
أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق ، وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة ، واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي / قالوا : لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له ، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل ، وهذا متأكد بقوله تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه } (الكهف : 50) وبقوله : {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } (الحجرات : 7).
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها :
الأول : المراد منه السباب واحتجوا عليه بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَلا تَنَابَزُوا بِالالْقَـابِا بِئْسَ ا سْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ } (الحجرات : 11) وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" والثاني : المراد منه الإيذاء والإفحاش ، قال تعالى : {وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌا وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّه فُسُوقُا بِكُمْ } (البقرة : 282) والثالث : قال ابن زيد : هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج ، ولأجل الأصنام ، وقال تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّه لَفِسْقٌ } (الأنعام : 121) وقوله : {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه } (الأنعام : 145) والرابع : قال ابن عمر : إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه والخامس : أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة ، والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا والسادس : قال محمد بن الطبري : الفسوق ، هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته.
وأما الجدال فهو فعال من المجادلة ، وأصله من الجدل الذي من القتل ، يقال : زمام مجدول وجديل ، أي مفتول ، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولاً ، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه/ وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال.
فالأول : قال الحسن : هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل.
والثاني : قال محمد بن كعب القرظي : إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى ، قال بعضهم : حجنا أتم ، وقال آخرون : بل حجنا أتم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
(1/821)
والثالث : قال مالك في "الموطأ" الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، قال الله تعالى : {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوه فَلا يُنَـازِعُنَّكَ فِى الامْرِا وَادْعُ إِلَى رَبِّكَا إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَـادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} الحج : 67 ـ 68) قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
والرابع : قال القاسم بن محمد : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم ، وآخرون يقولون : بل غداً ، وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة ، وأخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول : هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول : بل غدا ، فالله تعالى نهاهم عن ذلك ، فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج ، / فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة.
الخامس : قال القفال رحمه الله تعالى : يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وتركوا الجدال حينئذ.
السادس : قال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
السابع : أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم : لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام ، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب.
وذكر القاضي كلاما حسناً في هذا المواضع فقال : قوله تعالى : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون نهياً كقوله : {لا رَيْبَا فِيه } آل عمران : 9) أي لا ترتابوا فيه ، وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى ، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج ، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج ، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفراً فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، فإن قيل : أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسداً ويجب على صاحبه المضي فيه ، وإذا كان الحج باقياً معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، قلنا : المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها ، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء ، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه/ أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهياً عن جميع أقسامها ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة ، والتمسك بالآداب الحسنة ، والاحتراز عما / يحبط ثواب الطاعات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
(1/822)
المسألة الثالثة : الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص ، وهو قوله : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة : قوة شهوانية بهيمية ، وقوة غضبية سبعية ، وقوة وهمية شيطانية ، وقوة عقلية ملكية ، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة ، أعني الشهوانية ، والغضبية ، والوهمية ، فقوله {فَلا رَفَثَ} إشارة إلى قهر الشهوانية ، وقوله : {وَلا فُسُوقَ} إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب ، وقوله : {وَلا جِدَالَ} إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلما كان منشأ الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله ، والانخراط في سلك الخواص من عباده ، فلا يكون فيه هذه الأمور ، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات ، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلاً عنها ، ومن الله التوفيق في كل الأمور.
المسألة الرابعة : من الناس من عاب الإستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها : أنه تعالى قال : {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلاً إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير كان الإشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه وثانيها : قوله تعالى : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف : 58) عابهم بكونهم من أهل الجدل ، وذلك يدل على أن الجدل مذموم ، وثالثها : قوله : {وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (الأنفال : 46) نهى عن المنازعة.
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِا وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } (النحل : 125) وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام : {قَالُوا يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (هود : 32) ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
إذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التوفيق بين هذه النصوص ، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال والجاه ، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذب عن دين الله تعالى.
(1/823)
أما قوله تعالى : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة : 197) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة ، فقال : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه } (البقرة : 196) وقال : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ونهى عما هو شر ومعصية فقال : {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ثم عقب الكل بقوله : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه } وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال : وما تفعلوا من شيء يعلمه الله ، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر ، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها : إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا ، فكيف في العقبى وثانيها : أن من المفسرين من قال في تفسير قوله : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (طه : 15) معناه : لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية ، كأنه قيل للعبد : ما تفعله من خير علمته ، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه ، كان هذا وعداً له بالثواب العظيم ، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعداً بالعقاب الشديد ، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب ، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب ورابعها : أن جبريل عليه السلام لما قال : ما الإحسان ؟
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة ، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذاً به وأقل نفرة عنه وخامسها : أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك ، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه } .
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
أما قوله تعالى : {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } ففيه قولان أحدهما : أن المراد : وتزودوا من التقوى ، والدليل عليه قوله بعد ذلك : {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران : سفر في الدنيا وسفر من الدنيا ، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد ، وهو الطعام والشراب والمركب والمال ، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد ، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه الأول : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن وثانيها : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وثالثها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات ، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة ، آمنة من الانقطاع والزوال ورابعها : أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول وخامسها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى / منصة الشهوة والنفس ، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية ، فكأنه تعالى قال : لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع ، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيث بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
(1/824)
والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم ، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال : وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد : أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت. وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي : وهذا بعيد لأن قوله : {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } راجع إلى قوله : {وَتَزَوَّدُوا } فكان تقديره : وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما : أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك ، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني : أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد : وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
أما قوله تعالى : {وَاتَّقُونِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : إن قوله : {وَاتَّقُونِ} فيه تنبيه على كمال عظمة الله وجلاله وهو كقول الشاعر :
أنا أبو النجم وشعري شعري
المسألة الثانية : أثبت أبو عمرو الياء في قوله : {وَاتَّقُونِ} على الأصل ، وحذفها الآخرون للتخفيف ودلالة الكسر عليه.
أما قوله تعالى : {وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ} فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه ، ثم اختلفوا بعد ذلك ، فقال بعضهم : إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان ، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة ، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين ، وشر الشرين ، وقال آخرون : أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل ، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَه قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق : 37) فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل ، فقوله : {وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ} معناه : يا أولي العقول ، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور ، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية : فلان له نفس ، ولمن ليس له حمية : فلان لا نفس له فكذا ههنا.
فإن قيل : إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله : {وَاتَّقُونِ يَـا أُوْلِي الالْبَـابِ} .
قلنا : معناه : إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح ، ولهذا قال الشاعر :
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
ولهذا قال تعالى : { أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } (الأعراف : 179) يعني الأنعام معذورة بسبب العجز ، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش ، فلا جرم كانوا أضل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 314
322
فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية حذف والتقدير : ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فضلاً والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أن الشبهة كان حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه :
أحدها : أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية ، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها ، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها : أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية ، فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى ، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها : أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج ، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سبباً لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سبباً لحرمة التجارة مه قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها : عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلاً عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج ، فلهذا السبب بين الله تعالى / ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة ، فإذا عرفت هذا فنقول : المفسرون ذكروا في تفسير قوله : {أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } وجهين الأول : أن المراد هو التجارة ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ} (المزمل : 20) وقوله : {جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه } ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول : ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ : {أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } والثاني : الروايات المذكورة في سبب النزول.
(1/825)
فالرواية الأولى : قال ابن عباس : كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية ، وكانوا يسمون التاجر في الحج : الداج ويقولون : هؤلاء الداج ، وليسوا بالحاج ، ومعنى الداج : المكتسب الملتقط ، وهو مشتق من الدجاجة ، وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال ، إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف ، وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع ، فأزال الله تعالى هذا الوهم ، وبين أنه لا جناح في التجارة ، ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج ، وما بعدها أيضاً في الحج ، وهو قوله : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج ، فلهذا السبب استغنى عن ذكره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
والرواية الثانية : ما روي عن ابن عمر أن رجلاً قال له إنا قوم نكري وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا ، فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فدعاه وقال : أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت رداً على من يقول : لا حج للتجار والأجراء والجمالين.
والرواية الثالثة : أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا بتجرون في أيام الموسم فيها ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية.
والرواية الرابعة : قال مجاهد : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولامنى ، فنزلت هذه الآية.
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول : أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج ، وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج ، قال والتقدير : فاتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } ونظيره قوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة : 10).
واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها : الفاء في قوله : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل ، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج / وثانيها : أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لاعلى موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج ، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه : أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض ، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجاً لا يقال : بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات ، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية ، لأنا نقول : هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطاً.
القول الثالث : أن المراد بقوله تعالى : {أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجاً أعمالاً أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف ، وإغاثة الملهوف ، وإطعام الجائع ، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام ، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب ، ولا يقال في مثله : لا جناح عليكم فيه ، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
والجواب : لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ} (النساء : 101) والقصر بالإتفاق من المندوبات ، وأيضاً فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللاً في الحج ونقصاً فيه ، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (الممتحنة).
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصاناً في الطاعة لم تكن مباحة ، أما إن لم توقع نقصاناً ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها ، لقوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البنيه : 5) والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة ، وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه" والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص.
قوله تعالى : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } فيه مسائل :
(1/826)
المسألة الأولى : الإفاضة الإندفاع في السير بكثرة ، ومنه يقال : أفاض البعير بجرته ، إذا وقع بها فألقاها منبثة ، وكذلك أفاض الأقداح في الميسر ، معناه جمعها ثم ألقاها متفرقة ، وإفاضة الماء من هذا لأنه إذا صب تفرق والإفاضة في الحديث إنما هي الإندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ، وعليه قوله تعالى : {إِذْ تُفِيضُونَ فِيه } (يونس : 61) ومنه يقال للناس : فوض ، وأيضاً جمعهم فوضى ويقال : أفاضت العين دمعها فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء حتى يتفرق. فقوله تعالى : {أَفَضْتُم} أي دفعتم بكثرة/ وأصله أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول ، كما ترك في قولهم : دفعوا من موضع كذا وصبوا ، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : ونزل في وادي قيروان وهو يخدش بعيره بمحجنه.
/ المسألة الثانية : {عَرَفَـاتٍ} جمع عرفة ، سميت بها بقعة واحدة ، كقولهم : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار ، وأرض سباسب ، والتقدير : كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمى مجموع تلك القطع بعرفات ، فإن قيل : هلا منعت من الصرف وفيها السببان : التعريف والتأنيث قلنا : هذه اللفظة في الأصل اسم لقطع كثيرة من الأرض كل واحدة منه مسماة بعرفة ، وعلى هذا التقدير لم يكن علماً ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
المسألة الثالثة : اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة ، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات ، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوهاً أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما : من روي يروي تروية ، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني : من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول : ففيه ثلاثة أقوال أحدها : أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت ، فلما بناه تفكر فقال : رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل ؟
قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك ، قال : يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به ، قال : زدني قال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك ، قال : حسبي يا رب حسبي وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكراً هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان ؟
فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها : أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات.
أما القول الثاني : وهو اشتقاقه من تروية الماء ، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني : أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث : أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا ، وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى : {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (الشفع : 3) عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر ، وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال : "صيام عشر الأضحى كل يوم منها كالشهر ، ولمن يصوم يوم التروية سنة ، ولمن يصوم يوم عرفة سنتان" وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال : "من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى بن مريم عليه السلام".
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء ، خمسة منها مختصة به ، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره ، أما الخمسة الأولى فأحدها : عرفة ، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مشتق من المعرفة ، وفيه ثمانية أقوالالأول : قول ابن عباس : إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى / اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب ، وحواء بجدة ، وإبليس بنيسان ، والحية بأصفهان ، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا وثانيها : أن آدم علمه جبريل مناسك الحج ، فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟
قال نعم ، فسمى عرفات وثالثها : قول علي وابن عباس وعطاء والسدي : سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة ورابعها : أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك ، وأوصله إلى عرفات ، وقال له : أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف ؟
قال نعم وخامسها : أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات وسادسها : ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام وسابعها : أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا وثامنها : أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
(1/827)
القول الثاني : في اشتقاق عرفة أنه من الإعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والإستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال : إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما.
والقول الثالث : أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى : {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (محمد : 6) أي طيبها لهم ، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب ، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة ، قال عليه الصلاة والسلام : "خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" الثاني : يوم إياس الكفار من دين الإسلام الثالث : يوم إكمال الدين الرابع : يوم إتمام النعمة الخامس : يوم الرضوان ، وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات ، في قوله : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ} (المائدة : 3) الآية ، قال عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية عرفة ، وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلّم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام ، وذلك في حجة الوداع ، وقد اضمحل الكفر ، وهدم بنيان الجاهلية ، فقال عليه الصلاة والسلام : "لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم" فقال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين ، كان يوم عرفة ويوم الجمعة فأما معنى : إياس المشركين : فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم ، فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع ، وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين ، لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار ، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة : 6) ولما جاء البشير وقدم / على يعقوب ، قال : على أي دين تركت يوسف ؟
قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة ، وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين ، وقيل : هذا اليوم يوم صلة الواصلين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} (المائدة : 3) ويوم قطيعة القاطعين {أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه } (التوبة : 3) ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف : 23) فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده {وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه } (الشورى : 25) وهو أيضاً يوم وفد الوافدين {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} (الحج : 27) وفي الخبر "الحاج وفد الله ، والحاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره".
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة فأحدها : يوم الحج الأكبر قال الله تعالى : {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ} (التوبة : 3) وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر ، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه/ فمنهم من قال : إنه عرفة ، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم ، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن : سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون ، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك ، وقال ابن سيرين : إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده ، ومنهم من قال : إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج ، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزىء في الليل وروى القولان جميعاً عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، وثانيها : الشفع وثالثها : الوتر ورابعها : الشاهد وخامسها : المشهود في قوله : {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} (البروج : 3) وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية.
واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل ، منها أنه تعالى خص صومه بكثرة الثواب قال عليه الصلاة والسلام : "صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين" وعن أنس كان يقال في أيام العشر : كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس.
(1/828)
المسألة الرابعة : اعلم أنه لا بد وأن نشير إشارة حقيقية إلى ترتيب أعمال الحج حتى يسهل الوقوف على معنى الآية ، فمن دخل مكة محرماً في ذي الحجة أو قبله ، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم ، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات ، وإن كان متمتعاً طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج وكذلك من أراد الحج من أهل مكة ، والسنة للإمام أن يخطب بمكة يوم السابع من ذي الحجة ، بعدما يصلي الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فبها بالذهاب غداً بعدما يصلون الصبح إلى منى ويعلمهم / تلك الأعمال ، ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بها ، ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير يتوجهون إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها ، بل يضرب فيه الإمام بنمرة وهي قريبة من عرفة ، فينزلون هناك حتى تزول الشمس ، فيخطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف ، إذا فرغ من الخطبة الأولى جلس ، ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ، ثم يقيمون في الحال ويصلي بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه ، ثم بعد الفرغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم وقف هناك ، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة يذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
واعلم أن الوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به فمن فاته الوقوف في وقته وموضوعه فقد فاته الحج ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس من يوم عرفة ، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار فقد كفى ، وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة ، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر فإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة.
وفي تسمية المزدلفة أقوال : أحدها : أنهم يقربون فيها من منى والإزدلاف القرب والثاني : أن الناس يجتمعون فيها والإجتماع الإزدلاف والثالث : أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف ويقال للمزدلفة : جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب/ وهذا قول قتادة ، وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء ، وازدلف إليها أي دنا منها ، ثم إذا أتى الإمام المزدلفة : جمع المغرب والعشاء بإقامتين ، ثم يبيتون بها ، فإن يبت بها فعليه دم شاة ، فإذا طلع الفجر صلوا صلاة الصبح بغلس والتغليس بالفجر ههنا أشد استحباباً منه في غيرها ، وهو متفق عليه ، فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي ، يأخذ كل إنسان منها سبعين حصاة ، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقال له قزح ، وهو المراد من قوله تعالى : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وهذا الجبل أقصى المزدلفة مما يلي منى ، فيرقى فوقه إن أمكنه ، أو وقف بالقرب منه إن لم يمكنه ، وبحمد الله تعالى يهلله ويكبره ، ولا يزال كذلك حتى يسفر جداً ، ثم يدفع قبل طلوع الشمس ويكفي المرور كما في عرفة ، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر فإذا بلغوا بطن محسر فيستحب لمن كان راكباً أن يحرك دابته ، ومن كان ماشياً أن يسعى سعياً شديداً قدر رمية حجر ، / فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا ابتدأ الرمي ، فإذا رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه ، لأنه ربما لا يكون معه هدي ، ثم بعدما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر والتقصير أن يقطع أطراف شعوره ، ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة ، ويصلي ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم بعد ذلك يعودون إلى منى في بقية يوم النحر وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي ، واتفقوا على أنه متى حصل الرمي والحلق والطواف فقد حصل التحلل ، والمراد من التحلل حل اللبس والتقليم والجماع ، فهذا هو الكلام في أعمال الحج والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
(1/829)
المسألة الخامسة : اعلم أن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام ، وذلك أن قريشاً وقوماً آخرين سموا أنفسهم بالحمس ، وهم أهل الشدة في دينهم ، والحماسة الشدة يقال : رجل أحمس وقوم حمس ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات ، ويقولون لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض ، وهو المنخفض منها ، وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض ، فأمر الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بمخالفة القوم في الدفعتين ، وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس ، وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، والآية لا دلالة فيها على ذلك ، بل السنة دلت على هذه الأحكام.
المسألة السادسة : الصحيح أن الآية تدل على أن الحصول بعرفة واجب في الحج ، وذلك أن الآية دالة على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام عند الإفاضة من عرفات ، والإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به فلم يكن آتياً بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً أقصى ما في الباب أن الحج يحصل عند ترك بعض المأمورات إلا أن الأصل ما ذكرناه ، وإنما يعدل عنه بدليل منفصل وذهب كثير من العلماء إلى أن الآية لا دلالة فيها على أن الوقوف شرط ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجب ، إلا أنه إن فاته ذلك قام الوقوف بجميع الحرم مقامه ، وسائر الفقهاء أنكروا ذلك واتفقوا على أن الحج لا يحصل إلا بالوقوف بعرفة.
المسألة السابعة : قوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } يدل أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ويكفي فيه المرور به كما في عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون ، وروي عن علقمة / والنخعي أنهما قالا : الوقوف بالمزدلفة ركن بمنزلة الوقوف بعرفة وحجتهما قوله تعالى : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وذلك لأن الوقوف بعرفة لا ذكر له صريحاً في الكتاب وإنما وجب بإشارة الآية أو بالسنة ، والمشعر الحرام فيه أمر جزم ، وقال جمهور الفقهاء : إنه ليس بركن ، واحتجوا بقوله عليه السلام : "الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه" وبقوله : "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج" قالوا : وفي الآية إشارة إلى ما قلنا لأن الله تعالى قال : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } أمر بالذكر لا بالوقوف ، فعلم أن الوقوف عند المشعر الحرام تبع للذكر ، وليس بأصل ، وأما الوقوف بعرفة فهو أصل لأنه قال : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} ولم يقل من الذكر بعرفات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
المسألة الثامنة : {الْمَشْعَرِ} المعلم وأصله من قولك : شعرت بالشيء إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلان ، أي ليس علمي بلغه وأحاط به ، وشعار الشيء أعلامه ، فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام ، لأنه معلم من معالم الحج ، ثم اختلفوا فقال قائلون : المشعر الحرام هو المزدلفة ، وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده ، هكذا قاله الواحدي في "البسيط" قال صاحب "الكشاف" : الأصح أنه قزح ، وهو آخر حد المزدلفة والأول أقرب لأن الفاء في قوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة.
المسألة التاسعة : اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام فقال بعضهم : المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك والصلاة تسمى ذكراً قال الله تعالى : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} (طه : 14) والدليل عليه أن قوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } أمر وهو للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلا هذا ، وأما الجمهور فقالوا : المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل ، وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال : كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون.
أما قوله تعالى : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لما قال : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } فلم قال مرة أخرى {وَاذْكُرُوهُ} وما الفائدة في هذا التكرير ؟
.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
(1/830)
والجواب من وجوه أحدها : أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولاً : {اذْكُرُوا اللَّهَ} أمر بالذكر ، وقوله ثانياً : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها ، لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس وثانيها : أنه تعالى أمر بالذكر أولاً ، ثم قال ثانياً : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام ، فكأنه تعالى قال : إنما أمرتكم بهذا الذكر / لتكونوا شاكرين لتلك النعمة ، ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان ، فقال : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة : 185) وقال في "الأضاحي" : {كَذَالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاـاكُمْ } وثالثها : أن قوله أولاً : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } أمر بالذكر باللسان وقوله ثانياً : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أمر بالذكر بالقلب ، وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان أحدهما : ذكر هو ضد النسيان والثاني : الذكر بالقول ، فما هو خلاف النسيان قوله : {وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ أَنْ أَذْكُرَه } (الكهف : 63) وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } (البقرة : 203) فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول : محمول على الذكر باللسان والثاني : على الذكر بالقلب ، فإن بهما يحصل تمام العبودية ورابعها : قال ابن الأنباري : معنى قوله : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته وخامسها : يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكراً بعد ذكر ، كما هداكم هداية بعد هداية ، ويرجع حاصله إلى قوله : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41) وسادسها : أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة ، ثم قال بعده :
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة ، فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة ، وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام ، بل عن من سواه فيصير مستغرقاً في نور جلاله وصمديته ، ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكراً له ومشتغلاً بالثناء عليه ، وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال ، ومن أراد أن يصل إليه ، فليكن من الواصلين إلى العين ، دون السامعين للأثر ورابعها : أن يكون المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى ، والمراد بالذكر الثاني : الاشتغال بشكر نعمائه ، والشكر مشتمل أيضاً على الذكر ، فصح أن يسمي الشكر ذكراً ، والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية ، فقال : {كَمَا هَدَاكُمْ} والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر وثامنها : أنه تعالى لما قال {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة ، يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} يعني اذكروه على كل حال ، وفي كل مكان ، لأن هذا الذكر إنما وجب شكراً على هدايته ، فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة ، فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمراً غير منقطع وتاسعها : أن قوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك ، ثم قوله : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} والمراد منه التهليل والتسبيح.
/ السؤال الثاني : ما المراد من الهداية في قوله : {كَمَا هَدَاكُمْ} ؟
.
الجواب : منهم من قال : إنها خاصة ، والمراد منه كما هداكم بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم عليه السلام ، ومنهم من قال لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.
السؤال الثالث : الضمير في قوله : {مِّن قَبْلِه } إلى ماذا يعود ؟
.
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
الجواب : يحتمل أن يكون راجعاً إلى {الْهَدْىِ } والتقدير : وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين ، وقال بعضهم : إنه راجع إلى القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بين لكم معالم دينه ، وإن كنتم من قبل إنزاله ذلك عليكم من الضالين.
(1/831)
أما قوله تعالى : {وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِه لَمِنَ الضَّآلِّينَ} فقال القفال رحمة الله عليه : فيه وجهان أحدهما : وما كنتم من قبله إلا الضالين والثاني : قد كنتم من قبله من الضالين ، وهو كقوله : {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطارق : 4) وقوله : {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـاذِبِينَ} (الشعراء 186).
جزء : 5 رقم الصفحة : 322
330
فيه قولان الأول : المراد به الإفاضة من عرفات ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس ، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها : أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها : أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون : نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها : أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم ، لكان ذلك يوهم نقصاً في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم ، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمراً لهم بأن يقفوا في عرفات ، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس ، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات ، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها ، وأمر سائر الناس بالوقوف بها ، وعلى هذا التأويل فقوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات ، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإضافة من عرفات من يقول قوله : {ثُمَّ أَفِيضُوا } أمر عام لكل الناس ، وقوله : / {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ، ويخالف الحمس ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدي به ، وهو كقوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} (آل عمران : 173) يعني نعيم بن مسعود {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران : 173) يعني أبا سفيان ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور ، ومنه قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله ، وهو أن يكون قوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال : هذا مما فعله الناس قديماً ، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال : المراد من هذه الإفاضة من عرفات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 330
القول الثاني : وهو اختيار الضحاك : أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ} المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما ، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس ، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالاً :
أما الإشكال على القول الأول : فهو أن قوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} (البقرة : 198) لمكان {ثُمَّ} فإنها توجب الترتيب ، ولو كان المراد من هذه الآية : الإفاضة من عرفات ، مع أنه معطوف على قوله {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} كان هذا عطفاً للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية : فإذا أفضتم من عرفات/ ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذه الآية متقدمة على ما قبلها ، والتقدير : فاتقون يا أولي الألباب ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله ، وعلى هذا التريتب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها.
قلنا : هذا وإن كان محتملاً إلا أن الأصل عدمه ، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه.
وأما الإشكال على القول الثاني : فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ {مِّنْ حَيْثُ} في قوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} على الزمان ، وذلك غير جائز ، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان.
(1/832)
أجاب القائلون بالقول الأول : عن ذلك السؤال بأن {ثُمَّ} ههنا على مثال ما في قوله تعالى : / {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد : 13) إلى قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17) أي كان مع هذا من المؤمنين ، ويقول الرجل لغيره : قد أعطيتك اليوم كذا وكذا ، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة {ثُمَّ} ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 330
وأجاب القائلون بالقول الثاني : بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جداً فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملاً في الآخر على سبيل المجاز.
أما قوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فقد ذكرنا أن المراد من {النَّاسُ} إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وأتباعهما ، وفيه قول ثالث وهو قول الزهري. أن المراد بالناس في هذه الآية : آدم عليه السلام ، واحتج بقراءة سعيد بن جبير {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وقال : هو آدم نسي ما عهد إليه ، ويروى أنه قرأ {النَّاسُ} بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء ، والمعنى : أن الإفاضة مع عرفات شرع قديم فلا تتركوه.
أما قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب ، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما ، وأما الإستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب.
فإن قيل : كيف أمر بالإستغفار مطلقاً ، وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار.
والجواب : أنه إن كان مذنباً فالإستغفار واجب ، وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات ، والاحتراز عن المحظورات ، وجب عليه الإستغفار أيضاً تداركاً لذلك الخلل المجوز ، وإن قطع بأنه لم يصدر عنه ألبتة خلل في شيء من الطاعات ، فهذا كالممتنع في حق البشر ، فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد ، فكيف في أعمال كل العمر ، إلا أن بتقدير إمكانه فالإستغفار أيضاً واجب ، وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق ، ولهذا قالت الملائكة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، فكان الإستغفار لازماً من هذه الجهة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة".
وأما قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قد علمت أن غفوراً يفيد المبالغة ، وكذا الرحيم ، ثم في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب ، لأنه تعالى لما أمر المذنب بالإستغفار ، ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة/ فهذا يدل قطعاً على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر ، ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه.
/
جزء : 5 رقم الصفحة : 330
المسألة الثانية : اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون : إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع ، وقال آخرون : إنها عند الدفع من الجمع إلى منى ، وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله : {ثُمَّ أَفِيضُوا } على أي الأمرين يحمل ؟
قال القفال رحمه الله : ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية يوم عرفة فقال : "يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله" فقال أصحابه : يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيباً حزيناً وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئاً لم يجد لي به : سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال : إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : التبعات ضمنت عوضها من عندي" اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين.
جزء : 5 رقم الصفحة : 330
333
فيه مسائل :
(1/833)
المسألة الأولى : روى ابن عباس أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ، ويتناشدون فيها الأشعار ، ويتكلمون بالمنثور من الكلام ، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه ، فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم ، وروى القفال في "تفسيره" عن ابن عمر قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على راحلته القصوى يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : "أما بعد أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وتفككها ، يا أيها الناس إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله أو فاجر شقي هين على الله ثم تلا { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } (الحجرات : 13) أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم" وعن السدي أن العرب بمنى بعد فراغهم من الحج كان أحدهم يقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، عظيم القدر ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المسألة الثانية : اعلم أن القضاء إذا علق بفعل النفس ، فالمراد به الإتمام والفراغ ، وإذا علق على فعل الغير فالمراد به الالزام ، نظير الأول قوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ} وقال عليه الصلاة والسلام : "وما فاتكم فاقضوا" ويقال في الحاكم عند فصل الخصومة قضي بينهما ، ونظير الثاني قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ} (الإسراء : 23) وإذا استعمل في الإعلام ، فالمراد أيضاً ذلك كقوله : {وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ} (الإسراء : 4) يعني أعلمناهم.
/ إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ} لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه خصوصاً وذكر كثير منه قد تقدم من قبل ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد : اذكروا الله عند المناسك ويكون المراد من هذا الذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات والمشعر الحرام والطواف والسعي ويكون قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} كقول القائل إذا حججت فطف وقف بعرفة ولا يعني به الفراغ من الحج بل الدخول فيه ، وهذا القول ضعيف لأنا بينا أن قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ} مشعر بالفراغ والاتمام من الكل ، وهذا مفارق لقول القائل : إذا حججت فقف بعرفات ، لأن مراده هناك الدخول في الحج لا الفراغ ، وأما هذه الآية فلا يجوز أن يكون المراد منها إلا الفراغ من الحج.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
المسألة الثالثة : "المناسك" جمع منسك الذي هو المصدر بمنزلة النسك ، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، وإن جعلنها جمع منسك الذي هو موضع العبادة ، كان التقدير : فإذا قضيتم أعمال مناسككم ، فيكون من باب حذف المضاف.
إذا عرفت هذا فنقول : قال بعض المفسرين : المراد من المناسك ههنا ما أمر الله تعالى به الناس في الحج من العبادات ، وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء.
المسألة الرابعة : الفاء في قوله : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} يدلى على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر ، فلهذا اختلفوا في أن هذا الذكر أي ذكر هو ؟
فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة ، ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشويق/ على حسب اختلافهم في وقته أولاً وآخراً ، لأن بعد الفراغ من الحج لا ذكر مخصوص إلا هذه التكبيرات ، ومنهم من قال : بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحج من ذكر التفاخر بأحوال الآباء لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة ، فكأنه تعالى قال : فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحج وحللتم فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء ، ومنهم من قال : بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء والاستغفار ، وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال ، والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والإنقطاع إلى الله تعالى ، وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة وفيه وجه خامس وهو أن المقصود من الاشتغال بهده العبادة : قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة ثم هذا العزم ليس مقصوداً بالذات بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلى فيه نور جلال الله ، والتقدير : فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية ، وأمطتم الأذى عن طريق السلوك فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله ، فالأول نفي والثاني إثبات والأول إزالة ما دون الحق من سنن الآثار والثاني استنارة / القلب بذكر الملك الجبار.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
(1/834)
أما قوله تعالى : {كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} ففيه وجوه أحدها : وهو قول جمهور المفسرين : أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء ، فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذباً فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقاً فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور ، وكل ذلك من أمهات المهلكات ، فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم ، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي وثانيها : قال الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم ، واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل : 81) قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه ، أمه أمه ، أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه وثالثها : قال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر ، والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله ورابعها : قال ابن الأنباري في هذه الآية : إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله وأبي وأبيكم وجدي وجدكم ، فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آبائكم وخامسها : قال بعض المذكورين : المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية ، بل المبالغة في التوحيد ههنا أولى من هناك ، وهذا هو المراد بقوله : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } وسادسها : أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكراً له بالتعظيم ، فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك وسابعها : يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكره إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل/ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أن يحلفوا بآبائهم فقال : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" إذا كان ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره وثامنها : روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد ، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه / في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه ، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين.
أما قوله تعالى : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : عامل الإعراب في {أَشَدِّ} قيل : الكاف ، فيكون موضعه جراً وقيل : {اذْكُرُوا } فيكون موضعه نصباً ، والتقدير : اذكروا الله مثل ذكركم آباءكم ، واذكروه {أَشَدَّ ذِكْرًا } من آبائكم.
المسألة الثانية : قوله : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } معناه : بل أشد ذكراً ، وذلك لأن مفاخر آبائهم كانت قليلة ، أما صفات الكمال لله عز وجل فهي غير متناهية ، فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حق الله تعالى أشد من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم ، قال القفال رحمه الله : ومجاز اللغة في مثل هذا معروف ، يقول الرجل لغيره : افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه ، لا يريد به التشكيك ، إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد ، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه / في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه ، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين.
أما قوله تعالى : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : عامل الإعراب في {أَشَدِّ} قيل : الكاف ، فيكون موضعه جراً وقيل : {اذْكُرُوا } فيكون موضعه نصباً ، والتقدير : اذكروا الله مثل ذكركم آباءكم ، واذكروه {أَشَدَّ ذِكْرًا } من آبائكم.
(1/835)
المسألة الثانية : قوله : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } معناه : بل أشد ذكراً ، وذلك لأن مفاخر آبائهم كانت قليلة ، أما صفات الكمال لله عز وجل فهي غير متناهية ، فيجب أن يكون اشتغالهم بذكر صفات الكمال في حق الله تعالى أشد من اشتغالهم بذكر مفاخر آبائهم ، قال القفال رحمه الله : ومجاز اللغة في مثل هذا معروف ، يقول الرجل لغيره : افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه ، لا يريد به التشكيك ، إنما يريد به النقل عن الأول إلى ما هو أقرب منه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 333
335
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج ، ثم أمر بعدها بالذكر ، فقال : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِا وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (البقرة : 198) ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره ، وأن يقتصر على ذكره فقال : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال : {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا} وما أحسن هذا الترتيب ، فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ، ثم بعد العبادة لا بد من الإشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله ، ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر / فقال : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) ثم قال : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} فقدم الذكر على الدعاء.
إذا عرفت هذا فنقول : بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما : أن يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب الدنيا والثاني : الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة ، وقد كان في التقسيم قسم ثالث ، وهو من يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة ، واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا ؟
والأكثرون على أنه غير مشروع ، وذلك أن الإنسان خلق محتاجاً ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة ، فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة ، روى القفال في "تفسيره" عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض ، فقال : ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال : كنت أقول. اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجل به في الدنيا ، فقال النبي عليه السلام : "سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} " قال فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشفي.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن ، أو على منبت شعرة واحدة ، لشوش الأمر على الإنسان وصار بسببه محروماً عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره ، فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه ، فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز ، وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين ، وأهمل هذا القسم الثالث.
(1/836)
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الذين حكى الله عنهم أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم ؟
فقال قوم : هم الكفار ، روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم أرزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماء ، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة ، وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد ، وعن أنس كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر ، فأخبر الله تعالى أن من كان من هذا الفريق فلا خلاق له في الآخرة ، أي لا نصيب له فيها من كرامة ونعيم وثواب ، نقل عن الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله في الدنيا ، طلباً للمأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة ، وقال آخرون : هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم ، لا لأخراهم ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف ، وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني ، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة ، وقد يقال لمن فعل ذلك إنه لا خلاق له في الآخرة ، وإن كان الفاعل مسلماً ، كما روى في قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَـانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أولئك لا خَلَـاقَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ} (آل عمران : 77) أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمين فاجرة ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، "إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم / ثم معنى ذلك على وجوه أحدها : أنه لا خلاق له في الآخرة إلا أن يتوب والثاني : لا خلاق له في الآخرة إلا أن يعفو الله عنه والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمين فاجرة كخلاق من تورع عن ذلك والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا} حذف مفعول {ءَاتِنَا} من الكلام لأنه كالمعلوم ، واعلم أن مراتب السعادات ثلاث : روحانية ، وبدنية ، وخارجية أما الروحانية فإثنان : تكميل القوة النظرية بالعلم ، وتكميل القوة العملية بالأخلاق الفاضلة ، وأما البدنية فإثنان : الصحة والجمال ، وأما الخارجية فإثنان : المال ، والجاه ، فقوله : {فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} يتناول كل هذه الأقسام فإن العلم إذا كان يراد للتزين به في الدنيا والترفع به على الأقران كان من الدنيا ، والأخلاق الفاضلة إذا كانت تراد للرياسة في الدنيا وضبط مصالحها كانت من الدنيا ، وكل من لا يؤمن بالبعث والمعاد فإنه لا يطلب فضيلة لا روحانية ولا جمسانية إلا لأجل الدنيا ، ثم قال تعالى في حق هذا الفريق {لَه فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ } أي ليس له نصيب في نعيم الآخرة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ا وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى} (الشورى : 20) ثم إنه تعالى لم يذكر في هذه الآية أن الذي طلبه في الدنيا هل أجيب له أم لا ؟
قال بعضهم : إن مثل هذا الإنسان ليس بأهل للإجابة لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح فلا تثبت إلا لمن كان ولياً لله تعالى مستحقاً للكرامة لكنه وإن لم يجب فإنه ما دام مكلفاً حيا فالله تعالى يعطيه رزقه على ما قال : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود : 6) وقال آخرون إن مثل هذا الإنسان قد يكون مجاباً ، لكن تلك الإجابة قد تكون مكراً واستدراجاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
(1/837)
أما قوله تعالى : {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فالمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها : أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة ، والأمن ، والكفاية والولد الصالح ، والزوجة الصالحة ، والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق ، وما أشبهه "حسنة" فقال : {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } (التوبة : 50) وقيل في قوله : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } (التوبة : 52) أنهما الظفر والنصرة والشهادة ، وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثوب ، والخلاص من العقاب ، وبالجملة فقوله : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة/ روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا ، فقال : "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قالوا : زدنا فأعادها قالوا زدنا قال ما تريدون ؟
قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه وثانيها : أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله / وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً دعا ربه فقال في دعائه : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فقال النبي عليه الصلاة والسلام : "ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئاً من أمر الدنيا ، فقال بعض الصحابة : بلى يا رسول الله إنه قال : "ربنا آتنا في الدنيا حسنة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، إنه يقول : آتنا في الدنيا عملا صالحاً وهذا متأكد بقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّـاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان : 74) وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية وثالثها : قال قتادة : الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين ، وعن الحسن : الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى ، وفي الآخرة الجنة ، واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل ، آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ، ولكنه قال : {فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا} وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة ، فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
فإن قيل : أليس أنه لو قيل : آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولاً لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير ؟
قلت : الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول : اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول : اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقاً لقضائك وقدرك فأعطني ذلك ، فلو قال : اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما ، وقد بينا أنه غير جائز ، أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين.
أما قوله تعالى : {أُوالَـا ئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {أُوالَـا ئِكَ} فيه قولان أحدهما : إنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين سألوا الدنيا والآخرة ، والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال : {وَمَا لَه فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ} .
والقول الثاني : أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه ، فمن أنكر البحث وحج التماساً لثواب الدنيا فذلك منه كفر وشرك والله مجازيه ، أو يكون المراد أن من عمل للدنيا أعطى نصيب مثله في دنياه كما قال : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِه ا وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَا لَه فِى} (الشورى : 20).
أما قوله تعالى : {لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا } ففيه سؤالات :
/ السؤال الأول : قوله : {لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا } يجري مجرى التحقير والتقليل فما المراد منه ؟
الجواب : المراد : لهم نصيب من الدنيا ومن الآخرة بسبب كسبهم وعملهم فقوله : {مِّنْ} في قوله : {مِّمَّا كَسَبُوا } لابتداء الغاية لا للتبعيض.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن الجزاء على العمل ؟
الجواب : نعم. ولكن بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق الذاتي.
السؤال الثالث : ما الكسب ؟
(1/838)
الجواب : الكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله فيكون كسبه ومكتسبه ، بشرط أن يكون ذلك جر منفعة أو دفع مضرة ، وعلى هذا الوجه يقال في الأرباح : إنها كسب فلان ، وأنه كثير الكسب أو قليل الكسب ، لأن لا يراد إلا الربح ، فأما الذي يقوله أصحابنا من أن الكسب واسطة بين الجبر والخلق فهو مذكور في الكتب القديمة في الكلام.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ففيه مسائل.
المسألة الأولى : {سَرِيعُ} فاعل من السرعة ، قال ابن السكيت : سرع يسرع سرعاً وسرعة فهو سريع {وَالْحِسَابَ } مصدر كالمحاسبة ، ومعنى الحساب في اللغة العد يقال : حسب يحسب حساباً وحسبة وحسبا إذا عد ذكره الليث وابن السكيت ، والحسب ما عد ومنه حسب الرجل وهو ما يعد من مآثره ومفاخره ، والاحتساب الاعتداد بالشيء ، وقال الزجاج : الحساب في اللغة مأخوذ من قولهم : حسبك كذا أي كفاك فسمى الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم به ما فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان.
المسألة الثانية : اختلف الناس في معنى كون الله تعالى محاسباً لخلقه على وجوه أحدها : أن معنى الحساب أنه تعالى يعلمهم ما لهم وعليهم ، بمعنى أنه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها ، وبمقادير ما لهم من الثواب والعقاب ، قالوا : ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له وعليه ، فاطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهذا مجاز مشهور ، ونقل عن ابن عباس أنه قال : إنه لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله تعالى ويعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ثم يعطون حسناتهم ويقال : هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم.
والقول الثاني : أن المحاسبة عبارة عن المجازاة قال تعالى : {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِه فَحَاسَبْنَـاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} (الطلاق : 8) ووجه المجاز فيه أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز ، فحسن إطلاق لفظ الحساب عن المجازاة.
والقول الثالث : أنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها من الثواب والعقاب / فمن قال إن كلامه ليس بحرف ولا بصوت قال إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما أنه يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال إنه صوت قال إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا تبلغ قوة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلف به ، فهذ هو المراد من كونه تعالى محاسباً لخلقه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
المسألة الثالثة : ذكروا في معنى كونه تعالى سريع الحساب وجوهاً أحدها : أن محاسبته ترجع إما إلى أنه يخلق علوماً ضرورية في قلب كل مكلف بمقادير أعماله ومقادير ثوابه وعقابه ، أو إلى أنه يوصل إلى كل مكلف ما هو حقه من الثواب أو إلى أنه يخلق سمعاً في أذن كل مكلف يسمع به الكلام القديم ، أو إلى أنه يخلق في أذن كل مكلف صوتاً دالاً على مقادير الثواب والعقاب وعلى الوجوه الأربعة فيرجع حاصل كونه تعالى محاسباً إلى أنه تعالى يخلق شيئاً ، ولما كانت قدرة الله تعالى متعلقة بجميع الممكنات ، ولا يتوقف تخليقه وإحداثه على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ولا يشتغله شأن عن شأن لا جرم كان قادراً على أن يخلق جميع الخلق في أقل من لمحة البصر وهذا كلام ظاهر/ ولذلك ورد في الخبر أن الله تعالى يحاسب الخلق في قدر حلب ناقة وثانيها : أن معنى كونه تعالى : {سَرِيعُ الْحِسَابِ} أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ، وذلك لأنه تعالى في الوقت الواحد يسأله السائلون كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك ولو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العد واتصل الحساب ، فأعلم الله تعالى أنه {سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي هو عالم بجملة سؤالات السائلين ، لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد ، ولا إلى فكرة وروية ، وهذا معنى الدعاء المأثور "يا من لا يشغله شأن عن شأن" وحاصل الكلام في هذا القول أن معنى كونه تعالى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} كونه تعالى عالماً بجميع أحوال الخلق وأعمالهم ووجه المجاز فيه أن المحاسب إنما يحاسب ليحصل له العلم بذلك الشيء فالحساب سبب لحصول العلم فأطلق اسم السبب على المسبب وثالثها : أن محاسبة الله سريعة بمعنى آتية لا محالة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 335
340
(1/839)
اعلم أنه لما ذكر ما يتعلق بالمشعر الحرام لم يذكر الرمي لوجهين أحدهما : أن ذلك كان أمراً مشهوراً فيما بينهم وما كانوا منكرين لذلك ، إلا أنه تعالى ذكر ما فيه من ذكر الله لأنهم كانوا لا يفعلونه والثاني : لعله إنما لم يذكر الرمي لأن في الأمر بذكر الله في هذه الآيام دليلاً عليه ، إذ كان من سننه التكبير على كل حصاة منها ثم قال : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات ، والأيام المعلومات فقال هنا : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } وقال في سورة الحج : {لِّيَشْهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ} (الحج : 28) فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر ، وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وهي أيام التشريق ، واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريع بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات ، والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة ، ثم قال بعده : {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه } وهذا يقتضي أن يكون المراد {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} من هذه الأيام المعدودات ، وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق ، فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، والقفال أكد هذا بما روى في "تفسيره" عن عبد الرحمن بن نعمان الذيلمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر منادياً فنادى : "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه" وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، قال الواحدي رحمة الله عليه : أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها : يوم النفر ، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى والثاني : يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى والثالث : يوم النفر الثاني ، وهذه الآيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر ، وأيام رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التبكير إدبار الصلوات على ما سنشرح مذاهب الناس فيه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
المسألة الثانية : المراد بالذكر في هذه الأيام : الذكر عند الجمرات ، فإنه يكبر مع كل حصاة والذكر إدبار الصلوات والناس أجمعوا على ذلك ، إلا أنهم اختلفوا في مواضع :
الموضع الأول : أجمعت الأمة على أن التكبيرات المقيدة بإدبار الصلوات مختصة بعيد الأضحى ، ثم في ابتدائها وانتهائها خلاف.
القول الأول : أنها تبتدأ من الظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق فتكون التكبيرات على هذا القول في خمس عشرة صلاة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما في أحد أقواله ، والحجة فيه أن الأمر بهذه التكبيرات إنما / ورد في حق الحاج ، قال تعالى : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} ثم قال : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍا فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وهذا إنما يحصل في حق الحاج ، فدل على أن الأمر بهذه التكبيرات إنما ورد في حق الحاج/ وسائر الناس تبع لهم في ذلك ، ثم إن صلاة الظهر هي أول صلاة يكبر الحاج فيها بمنى ، فإنهم يلبون قبل ذلك ، وآخر صلاة يصلونها بمنى هي صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، فوجب أن تكون هذه التكبيرات في حق غير الحاج مقيد بهذا الزمان.
القول الثاني : للشافعي رضي الله عنه أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر ، إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وعلى هذا القول تكون التكبيرات بعد ثماني عشرة صلاة.
والقول الثالث : للشافعي رضي الله عنه أن يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة ، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر فتكون التكبيرات بعد ثمان صلوات وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة.
(1/840)
والقول الرابع : أنه يبتدأ بها من صلاة الفجر يوم عرفة ، وينقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر من آخر أيام التشريق ، فتكون التكبيرات بعد ثلاث وعشرين صلاة ، وهو قول أكابر الصحابة ، كعلي وعمر وابن مسعود وابن عباس ، ومن الفقهاء قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق والمزني وابن شريح ، وعليه عمل الناس بالبلدان ، ويدل عليه وجوه الأول : ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلى الصبح يوم عرفة ، ثم أقبل علينا فقال : الله أكبر ، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق والثاني : أن الذي قاله أبو حنيفة أخذ بالأقل ، وهذا القول أخذ بالأكثر ، والتكثير في التكبير أولى لقوله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب : 41) الثالث : أن هذا هو الأحوط ، لأنه لو زاد في التكبيرات فهو خير من أن ينقص منها والرابع : أن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق ، فوجب أن يؤتى بها إلى آخر أيام التشريق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
فإن قيل : هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق ، فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة.
قلنا : فهذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع ، وأيضاً لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق ؛ صح أن يضاف التكبير إليها.
الموضع الثاني : قال الشافعي رضي الله عنه : المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثاً نسقاً أي متتابعاً ، وهو قول مالك ، وقال أبو حنيفة وأحمد : يكبر مرتين ، حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، قال : رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً ، ولأنه زيادة في التكبير ، فكان أولى لقوله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} ثم قال الشافعي رضي الله عنه : ويقول بعد الثلاث : "لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد" ثم قال : وما زاد من ذكر / الله فهو حسن ، وقال في التلبية : وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها ، وههنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت ، وأما التكبير على الجمار فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر مع كل حصاة ، فينبغي أن يفعل ذلك.
أما قوله تعالى : {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه لِمَنِ اتَّقَى } ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل ؟
.
الجواب : قال صاحب "الكشاف" : تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل ، يقال : تعجل في الأمر واستعجل ، ومتعديين يقال : تعجل الذهاب واستعجله.
السؤال الثاني : قوله : {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه } فيه إشكال ، وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج ، فما معنى قوله : {فَلا إِثْمَ عَلَيْه } فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
(1/841)
والجواب : من وجوه : أحدها : أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم ، ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول : القصر عزيمة ، والإتمام غير جائز ، فلما كان هذا الإحتمال قائماً ، لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين ، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة ، وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة ، ولا إثم عليه في الأمرين جميعاً وثانيها : قال بعض المفسرين : إن منهم من كان يتعجل ، ومنهم من كان يتأخر ، ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج ، وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج ، فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم ، فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل وثالثها : أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث ، فكأنه قيل : إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه ورابعها : أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق ، فالطبيب يقول له : الآن إن تناولت السم فلا ضرر ، وإن لم تتناول فلا ضرر ، مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار ، لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى وحد ، فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفراً لكل الذنوب ، لا بيان أن التعجل وتركه سيان ، ومما يدل على كونه الحج سبباً / قوياً في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام : "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وخامسها : أن كثيراً من العلماء قالوا : الجوار مكروه ، لأنه إذا جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه ، وإذا كان غائباً إزداد شوقه إليه ، وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل ، وأيضاً من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى ، ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الإستعجال في الطواف فهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر ؟
فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما وسادسها : قال الواحدي رحمه الله تعالى : إنما قال : {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه } لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية ، كقوله : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) وقوله : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة : 194) ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان ، فإذا حمل على موافقة اللفظ م لا يصح في المعنى ، فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ، لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
السؤال الثالث : هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة ؟
.
الجواب : نعم ، كما كان في قوله : {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـاتٍ} (البقرة : 198) دليل على وقوفهم بها.
واعلم أن الفقهاء قالوا : إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم ، وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث هذا مذهب الشافعي ، وقول كثير من فقهاء التابعين ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر/ لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد.
(1/842)
أما قوله تعالى : {لِمَنِ اتَّقَى } ففيه وجوه أحدها : أن الحاج يرجع مغفوراً له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب ، ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق. وثانيها : أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً قبل حجه ، كما قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة : 27) وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجة وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر وثالثها : أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام : "من حج فلم يرفث ولم يفسق" واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال والتحقيق أنه لا بد من الكل وقال بعض المفسرين المراد بقوله : {لِمَنِ اتَّقَى } ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره ، لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوماً ، وربما صار عمله محبطاً ، وهذا ضعيف من وجهين الأول : أنه تقييد للفظ المطلق / بغير دليل الثاني : أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام ، لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم ، لكن ذاك ليس للإحرام ، لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام ، فسقط هذا الوجه.
أما قوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فهو أمر في المستقبل ، وهو مخالف لقوله : {لِمَنِ اتَّقَى } الذي أريد به الماضي فليس ذلك بتكرار ، وقد علمت أن التقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
فأما قوله : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فهو تأكيد للأمر بالتقوى ، وبعث على التشديد فيه ، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة ، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى ، وأما الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف ، لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور ، والمراد بقوله : {إِلَيْهِ} أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه ، ولا يستطيع أحد دفعاً عن نفسه ، كما قال تعالى : {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْـاًا وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ} (الإنفطار : 19).
جزء : 5 رقم الصفحة : 340
343
اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان : كافر وهو الذي يقول : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا} ومسلم وهو الذي يقول : {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة : 201) بقي المنافق فذكره في هذه الآية ، وشرح صفاته وأفعاله ، فهذا ما يتعلق بنظم الآية ، والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح ، وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف المفسرون على قولين منهم من قال : هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال : إنها عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية ، أما / الأولون فقد اختلفوا على وجوه :
فالرواية الأولى : أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، وهو حليف لبني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأظهر الإسلام ، وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك ، وهذا هو المراد بقوله : {يُعْجِبُكَ قَوْلُه فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِه } غير أنه كان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن ، ثم خرج من عند النبي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، وهو المراد بقوله : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } وقال آخرون المراد بقوله تعالى : {يُعْجِبُكَ قَوْلُه } هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم : إن محمداً ابن أختكم ، فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس ، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به قالوا : نعم الرأي ما رأيت ، قال : فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فسمي لهذا السبب أخنس ، وكان اسمه : أبي بن شريق ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأعجبه ، وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم وقوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِه } مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه بل القول الأول هو الأصح.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
(1/843)
والرواية الثانية : في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس والضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك ، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع ، ووصل الخبر إلى الكفار ، فركب منهم سبعون راكباً وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم ، ففيهم نزلت هذه الآية ، ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبهاً بذلك على حال هؤلاء الشهداء.
القول الثاني : في الآية وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين ، أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة ، ونقل عن محمد بن كعب القرظي ، أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية ، فقال إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفاً بتلك الصفات/ والتحقيق في المسألة أن قوله : {وَمِنَ النَّاسِ} إشارة إلى بعضهم ، فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع ، وقوله : {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم ، بل نقول : فيها ما يدل على العموم ، وهو من وجوه أحدها : أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية ، فلما ذم الله تعالى قوماً ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم ، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات ، فيلزم أن كل من كان / موصوفاً بتلك الصفات أن يكون مستوجباً للذم وثانيها : أن الحمل على العموم أكثر فائدة ، وذلك لأنه يكون زجراً لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة وثالثها : أن هذا أقرب إلى الإحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص ، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى ، إذا عرفت هذا فنقول : اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه الصفات منافق أم لا ، والصحيح أنها لا تدل على ذلك ، لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة ، وشيء منها لا يدل على النفاق فأولها قوله : {يُعْجِبُكَ قَوْلُه فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} وهذا لا دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله : {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} لأن الإنسان إذا قيل : إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أوهم نوعاً من المذمة وثانيها : قوله :
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
{وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِه } وهذ لا دلالة فيه على حالة منكرة ، فإن أضمرنا فيه أن يشهد الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق ، لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد ، فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقاً ، بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائياً وثالثها : قوله : {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وهذا أيضاً لا يوجب النفاق ورابعها : قوله : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} والمسلم الذي يكون مفسداً قد يكون كذلك وخامسها : قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ } فهذا أيضاً لا يقتضي النفاق ، فعلمنا أن كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي ، فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقاً إلا أن المنافق داخل في الآية ، وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفاً بهذه الصفات الخمسة بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي ، وإذا عرفت هذه الجملة فنقول : الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة.
الصفة الأولى : قوله : {يُعْجِبُكَ قَوْلُه فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} والمعنى : يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس.
أما في قوله : {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} ففيه وجوه أحدهما : أنه نظير قول القائل : يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى : يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني : أن يكون التقدير : يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام ، وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والإحتباس خوفاً من هيبة الله وقهر كبريائه.
(1/844)
الصفة الثانية : قوله : {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِه } فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه / بالاستشهاد بالله/ ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين ، ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول : الله يشهد بأن الأمر كما قلت ، فهذا يكون استشهاداً بالله ولا يكون يميناً ، وعامة القراء يقرؤن {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} بضم الياء ، أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره ، وقرأ ابن محيصن {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِه } بفتح الياء ، والمعنى : أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
فالقراءة الأولى : تدل على كونه مرائياً وعلى أنه يشهد الله باطلاً على نفاقه وريائه.
وأما القراءة الثانية : فلا تدل إلا على كونه كاذباً ، فأما على كونه مستشهداً بالله على سبيل الكذب فلا ، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم.
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الألد : الشديد الخصومة ، يقال : رجل ألد ، وقوم لد ، وقال الله تعالى : {وَتُنذِرَ بِه قَوْمًا لُّدًّا} (مريم : 97) وهو كقوله : {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف : 58) يقال : منه لد يلد ، بفتح اللام في يفعل منه ، فهو ألد ، إذا كان خصماً ، ولددت الرجل ألده بضم اللام ، إذا غلبته بالخصومة ، قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه ، ولديدي الوادي ، وهما جانباه ، وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه.
وأما {الْخِصَامِ} ففيه قولان أحدهما : وهو قول خليل : إنه مصدر بمعنى المخاصمة ، كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة ، فيكون المعنى : وهو شديد المخاصمة ، ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما : أنه بمعنى {فِى } والتقدير : ألد في الخصام والثاني : أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة.
والقول الثاني : أن الخصام جمع خصم ، كصعاب وصعب ، وضخام وضخم ، والمعنى : وهو أشد الخصوم خصومة ، وهذا قول الزجاج ، قال المفسرون : هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه : وفيه نزل أيضاً قوله : {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ} (الهمزة : 1) وقوله : {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءا بِنَمِيمٍ} (القلم : 10 ـ 11) ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة ، قال مجاهد {أَلَدُّ الْخِصَامِ} معناه : طالب لا يستقيم ، وقال السدي : أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل ، شديد القصوة في معصية الله ، عالم اللسان جاهل العمل.
المسألة الثانية : تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية ، قالوا إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديداً في الجدل ، ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم ، وإلا لما جاز ذلك وجوابه ما تقدم في قوله : {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (البقرة : 197).
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام ، وأنه يقرر / صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام ، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَإِذَا تَوَلَّى } فيه قولان : أحدهما : معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد ، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما : ما كان من اتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب ، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم.
(1/845)
والوجه الثاني في تفسير الفساد : أنه كان بعد الإنصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين ، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر ، وهذا المعنى يسمى فساداً ، قال تعالى : حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَه لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ} (الأعراف : 127) أي يردوا قومك عن دينهم ، ويفسدوا عليهم شريعتهم ، وقال أيضاً : {إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ} (غافر : 26) وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ} (البقرة : 11) ما يقرب من هذا الوجه ، وإنا سمي هذا المعنى فساداً في الأرض لأنه يوقع الإختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض ، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء ، قال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد : 22) فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض ، وقطع الارحام ، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن ، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب ، لأنه تعالى قال : {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
القول الثاني : في تفسير قوله : {وَإِذَا تَوَلَّى } وإذا صار والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل ، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية ، لأن المقصود بيان نفاقه ، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة ، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.
المسألة الثانية : قوله : {سَعَى فِى الارْضِ} أي اجتهد في إيقاع القتال ، وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس ، ومنه يقال : فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (التوبة : 47).
المسألة الثالثة : من فسر الفساد بالتخريب قال : إنه تعالى ذكره أولاً على سبيل الإجمال ، وهو قوله : {لِيُفْسِدَ فِيهَا} ثم ذكره ثانياً على سبيل التفصيل فقال : {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } ومن فسر / الإفساد بإلقاء الشبهة قال : كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم ، وثانيهما العمل ، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشهبات ، وثانيهما فعل المنكرات ، فههنا ذكر تعالى أولاً من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات ، وهو المراد بقوله : {لِيُفْسِدَ فِيهَا} ثم ذكر ثانياً إقدامه على المنكرات ، وهو المراد بقوله : {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال : المراد بالحرث الزرع ، وبالنسل تلك الحمر ، والحرث هو ما يكون منه الزرع ، قال تعالى : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَه ا أَمْ} (الواقعة : 63) وهو يقع على كل ما يحرث ويرزع من أصناف النبات ، وقيل : إن الحرث هو شق الأرض ، ويقال لما يشق به : محرث ، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب ، والنسل في اللغة : الولد ، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم : نسل ينسله إذا خرج فسقط ، ومنه نسل ريش الطائر ، ووبر البعير ، وشعر الحمار ، إذا خرج فسقط ، والقطعة منها إذا سقطت نسالة ، ومنه قوله تعالى : {إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} (يس : 51) أي يسرعون ، لأنه أسرع الخروج بحدة ، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه/ والناس نسل آدم ، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج ، وأما من قال : إن سبب نزول الآية : أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً ، فالمراد بالحرث : إما النسوان لقوله تعالى : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} (البقرة : 223) أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض ، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد ، وأما النسل فالمراد منه الصبيان.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول. إهلاك النبات والحيوان ، وعلى التفسير الثاني : إهلاك الحيوان بأصله وفرعه ، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه ، فإذن قوله : {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } (الزخرف : 71) وقال : {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـاـاهَا} (النازعات : 31).
فإن قيل : أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل ، أو تدل على أنه أراد ذلك ؟
.
(1/846)
قلنا : إن قوله : {سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك ، ثم قوله : {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك ، فإن تقدير الآية هكذا : سعى في الأرض ليفسد فيها ، وسعى ليهلك الحرث والنسل ، وإن جعلناه كلاماً مبتدأ منقطعاً عن الأول ، دل على وقوع ذلك ، والأول أولى ، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود.
المسألة الرابعة : قرأ بعضهم {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } على أن الفعل للحرث والنسل ، وقرأ / الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو : أبى يأبى ، وروي عنه {وَيُهْلِكَ} على البناء للمفعول.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
المسألة الخامسة : استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} قالوا : والمحبة عبارة عن الإرادة ، والدليل عليه قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ} (النور : 19) والمراد بذلك أنهم يريدون ، وأيضاً نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال : "إن الله أحب لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً ، أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" فجعل الكراهة ضد المحبة ، ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضداً للإرادة ، وأيضاً لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه ، لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة ، قالوا : وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله : {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} (غافر : 31) بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقاً له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال والأصحاب أجابوا عنه بوجهين الأول : أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه والثاني : إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة ، ولكن قوله : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان الأول : أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجح الفساد على الصلاح ، إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع ، وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل ، فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال : إنه لا يريده والثاني : أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال : إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلاً وذلك محال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
الصفة الخامسة : قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم.
واعلم أن هذا التفسير ضعيف ، لأن قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة ، فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الكل إلى التقوى من غير تخصيص.
/ المسألة الثانية : أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها : اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها : استشهاده بالله كذباً وبهتاناً وثالثها : لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها : سعيه في الفساد وخامسها : سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض ، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل : اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد ، وفي اللجاج الباطل ، وفي الإستشهاد بالله كذلك ، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض.
(1/847)
المسألة الثالثة : قوله : {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ } فيه وجوه أحدها : أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلاناً بأن يعمل كذا ، أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه ، فتقدير الآية : أخذته العزة بأن يعمل الإثم ، وذلك الإثم هو ترك الإلتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها : {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} أي لزمته يقال : أخذته الحمى أي لزمته ، وأخذه الكبر ، أي اعتراه ذلك ، فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذين في قلبه ، فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل ، ونظيره قوله تعالى : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} (ص : 2) والباء ههنا في معنى اللام ، يقول الرجل : فعلت هذا بسببك ولسببك ، وعاقبته بجنايته ولجنايته.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
أما قوله تعالى : {فَحَسْبُه جَهَنَّمُ } قال المفسرون : كافيه جهنم جزاء له وعذاباً يقال : حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله ، أي كافينا الله ، وأما جهنم فقال يونس وأكثر النحويين : هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وقال آخرون. جهنم اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها ، حكى عن رؤبة أنه قال : ركية جهنام بريد بعيدة القعر.
أما قوله تعالى : {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ففيه وجهان الأول : أن المهاد والتمهيد : التوطئة ، وأصله من المهد ، قال تعالى : {وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ} (الذاريات : 48) أي الموطئون الممكنون ، أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى : {فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم : 44) أي يفرشون ويمكنون والثاني : أن يكون قوله : {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي لبئس المستقر كقوله : {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم : 29) وقال بعض العلماء : المهاد الفراش للنوم ، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك معاداً له وفراشاً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 343
349
اعلم أنه تعالى لما وصف في الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر في هذه الآية حال من يبذل دنياه ونفسه وماله لطلب الدين فقال : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّه } ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في سبب النزول روايات أحدها : روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان ، وفي عمار بن ياسر ، وفي سمية أمه ، وفي ياسر أبيه ، وفي بلال مولى أبي بكر ، وفي خباب بن الأرت ، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم ، فأما صهيب فقال لأهل مكة : إني شيخ كبير ، ولي مال ومتاع ، ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني ، فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله ، فانصرف راجعاً إلى المدينة ، فنزلت الآية ، وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له : ربح بيعك ، فقال له صهيب : وبيعك فلا نخسر ما ذاك ؟
فقال : أنزل الله فيك كذا ، وقرأ عليه الآية ، وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة ، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر ، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا ، وفيهم نزل قول الله تعالى : {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْا بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } النحل : 41) بتعذيب أهل مكة {وَءَاتَيْنَـاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } (النحل : 41) بالنصر والغنيمة ، ولأجر الآخرة أكبر ، وفيهم نزل : {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ} .
والرواية الثانية : أنها نزلت في رجل أمر معروف ونهى عن منكر ، عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم.
والرواية الثالثة : نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
(1/848)
المسألة الثانية : أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء : البيع ، قال تعالى : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (يوسف : 20) أي باعوه ، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله ، من الصلاة والصيام والحج والجهاد ، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله ، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة ، وصار الباذل كالبائع ، والله كالمشتري ، كما قال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (التوبة : 111) وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة ، فاقل : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } (الصف : 10 ـ 11) وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع / في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأان نفسه كانت له ، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار والعذاب ، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه أبداً لكن المكاتب عبد ما بقي عليه دارهم/ فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام : {نَبِيًّا * وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} (مريم : 31) وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
فإن قيل : إن الله تعالى جعل نفسه مشترياً حيث قال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} (التوبة : 111) وهذا يمنع كون المؤمن مشترياً.
قلنا : لا منافاة بين الأمرين ، فهو كمن اشترى ثوباً بعبد ، فكل واحد منهما بائع ، وكل واحد منهما مشتر ، فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع.
إذا عرفت هذا فنقول : يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين ، فيدخل فيه المجاهد ، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل ، كما فعله أبو عمار وأمه ، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين ، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب ، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشاً فحاصروا قصراً فتقدم منهم واحد ، فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال عمر : كذبتم رحم الله أبا فلان ، وقرأ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّه } ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل ، قال قتادة : أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهاً آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضباً لله وجهاداً في سبيله.
المسألة الثانية : {يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّه } أي لابتغاء مرضاة الله ، و{يَشْرِى} بمعنى يشتري.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ} فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ، ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب. / وأعطاه الثواب الدائم ، ومن رأفته أن النفس له والمال ، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
(1/849)
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشاً فحاصروا قصراً فتقدم منهم واحد ، فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال عمر : كذبتم رحم الله أبا فلان ، وقرأ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّه } ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل ، قال قتادة : أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهاً آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضباً لله وجهاداً في سبيله.
المسألة الثانية : {يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّه } أي لابتغاء مرضاة الله ، و{يَشْرِى} بمعنى يشتري.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ} فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ، ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب. / وأعطاه الثواب الدائم ، ومن رأفته أن النفس له والمال ، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً.
جزء : 5 رقم الصفحة : 349
351
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، أمر المسلمين بما يضاد ذلك ، وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه ، فقال : {بِالْعِبَادِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} وفيه مسائل.
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع والكسائي {السِّلْمِ} بفتح السين ، وكذا في قوله : {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} (الأنفال : 61) وقوله : {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} (محمد : 35) وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش {السِّلْمِ} بكسر السين في السكل ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين في هذه ، والتي في البقرة ، والتي في سورة محمد في قوله : {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} وقرأ ابن عامر بكسر السين في هذه التي في البقرة وحدها وبفتح السين في الأنفال ، وفي سورة محمد ، فذهب ذاهبون إلى أنهما لغتان بالفتح والكسر ، مثل : رطل ورطل وجسر وجسر ، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام.
المسألة الثانية : أصل هذه الكلمة من الإنقياد ، قال الله تعالى : {إِذْ قَالَ لَه رَبُّه ا أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ} (البقرة : 131) والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى ، وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه ، قال أبو عبيدة : وفيه لغات ثلاث : السلم ، والسلم ، والسلم.
المسألة الثالثة : في الآية إشكال ، وهو أن كثيراً من المفسرين حملوا السلم على الإسلام ، فيصير تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام ، والإيمان هو الإسلام ، ومعلوم أن ذلك غير جائز ، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوهاً في تأويل هذه الآية :
أحدها : أن المراد بالآية المنافقون ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق ، ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه } الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان / بالقلب وترك النفاق.
جزء : 5 رقم الصفحة : 351
وثانيها : أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي عليه السلام أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى ، فعظموا السبت ، وكرهوا لحوم الإبل وألبانها ، وكانوا يقولون : ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام ، وواجب في التوراة ، فنحن نتركها احتياطاً فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ، أي في شرائع الإسلام كافة ، ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقاداً له وعملاً به ، لأنها صارت منسوخة {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة ، والقائلون بهذا القول جعلوا قوله : {كَآفَّةً} من وصف السلم ، كأنه قيل : ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقاداً وعملاً.
(1/850)
وثالثها : أن يكون هذا الخطاب واقعاً على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام فقوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي بالكتاب المتقدم {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد عليه السلام وبكتابه في السلم على التمام/ ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة : تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض ، وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة.
ورابعها : هذا الخطاب واقع على المسلمين {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالألسنة {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية ومن قال بهذا التأويل قال : هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها ، أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في صفة ذلك المنافق في قوله : {سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين ، فكأنه تعالى قال : دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون ، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} (البقرة : 210) يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 351
فإن قيل : الموقوف بالشيء يقال له : دم عليه ، ولكن لا يقال له : ادخل فيه والمذكور في الآية هو قوله : {ادْخُلُوا } .
قلنا إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال ، وإن كان كائناً فيها في الحال ، لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن / يدخلها ، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها ، ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام وخامسها : أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمتنازعة ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس ، وهو كقوله : {وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (آل عمران : 103) وقال تعالى : {الْحِسَابِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا } (آل عمران : 200) وقال : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } (آل عمران : 103) وقال عليه الصلاة والسلام : "المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه" وهذه الوجوه في التأويل ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر أحدها : أن قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب وقوله : {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي ، وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله ، فيصح أن يسمي تركها بالسلم ، أو يكون المراد منه : كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات ، وترك المحظورات ، وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر وثانيها : أن يكون المراد من السلم كون العبد راضياً ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث "الرضا بالقضاء باب الله الأعظم" وثالثها : أن يكون المراد ترك الإنتقام كما في قوله : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان : 72) وفي قوله : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ} (الأعراف : 199)فهذا هو كلام في وجوه تأويلات هذه الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 351
(1/851)
المسألة الرابعة : قال القفال {كَآفَّةً} يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم. ولا تفرقوا ولا تختلفوا ، قال قطرب : تقول العرب : رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه قال الواحدي رحمه الله : هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها ، ومعنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة يقال : كففت فلاناً عن السوء أي منعته ، ويقال : كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار ، وقيل لطرف اليد : كف لأنه يكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر ، فالكافة معناها المانعة ، ثم صارت اسماً للجملة الجامعة وذلك لأن الإجتماع يمنع من التفرق والشذوذ ، فقوله : {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} أي ادخلوا في شرائع الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئاً من شرائعه ، أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحداً من أن لا يدخل فيه.
أما قوله تعالى : {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } فالمعنى : ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره ، ولا فرق بين ذلك وبين قوله : اتبعت خطواته. وخطوات / جمع خطوة ، وقد تقدم ذلك.
أما قوله تعالى : {إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فقال أبو مسلم الأصفهاني : إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، وأقول : الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله : {حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الزخرف : 1 ، الدخان : 1) ولا يعني بقوله مبيناً إلا ذلك.
فإن قيل : كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه.
قلنا : إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله : من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال : إن فلاناً عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمي بياناً لهذا المعنى ، فإنه يقطع بعض الإحتمالات عن بعض ، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه.
فإن قيل : كون الشيطان عدواً لنا إما أن يكون بسبب أن يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال ، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب ، والأول باطل ، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } (ابراهيم : 22) إذا ثبت هذا فكيف يقال : إنه عدو مبين العداوة ، والحال ما ذكرناه ؟
.
جزء : 5 رقم الصفحة : 351
الجواب : أنه عدو من الوجهين معاً أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك ، وليس يلزم من كونه مريداً لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادراً عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروماً عن الثواب ، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة.
جزء : 5 رقم الصفحة : 351
354
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو السمال {زَلَلْتُم} بكسر اللام الأولى وهما لغتان كضللت وضللت.
المسألة الثانية : يقال : زل يزل زلولاً وزلزالاً إذا دحضت قدمه وزل في الطين ، ويقال لمن زل في حال كان عليها : زلت به الحال ، ويسمى الذنب زلة ، يريدون به الزلة للزوال عن الواجب فقوله : {فَإِن زَلَلْتُم} أي أخطأتم الحق وتعديتموه ، وأما سبب نزول هذه الآية فقد اختلفوا في السلم كافة ، فمن قال في الأول : إنه في المنافقين ، فكذا الثاني ، ومن قال : إنه في أهل الكتاب فكذا / الثاني ، وقس الباقي عليه.
يروى عن ابن عباس : {فَإِن زَلَلْتُم} في تحريم السبت ولحم الإبل {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} محمد صلى الله عليه وسلّم وشرائعه {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} بالنقمة {حَكِيمٌ} في كل أفعاله ، فعند هذا قالوا لئن شئت يا رسول الله لتتركن كل كتاب غير كتابك ، فأنزل الله تعالى {خَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه } (النساء : 136).
المسألة الثالثة : قوله : {فَإِن زَلَلْتُم} فيه سؤال وهو أن الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفاً بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة عن ذلك فقال : قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه.
(1/852)
المسألة الرابعة : قوله تعالى : {فَإِن زَلَلْتُم} يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به ، وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الإنحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل. فتوعد تعالى على كل ذلك زجراً لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه ، وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقاً به وحينئذ يجب الاحتراز عنه.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : {مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بالمعلومات كلها ، قادراً على الممكنات كلها ، غنياً عن الحاجات كلها ، ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر ، والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية ، وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزوال عند حصول كل هذه البينات.
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
المسألة السادسة : قال القاضي : دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وإزاحة العلة ، فإذا علق الوعيد بشرط مجيء البينات وحصولها فبأن لا يجوز أن يحصل الوعيد لمن لا قدرة له على الفعل أصلاً أولى ، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا القدرة ، وقد ينتفع بالقدرة مع فقد الدلالة ، وقال أيضاً : دلت الآية على أن المعتبر حصول البينات لا حصول اليقين من المكلف فمن هذا الوجه دلت الآية على أن المتمكن من النظر والإستدلال يلحقه الوعيد كالعارف ، فبطل قول من زعم أن لا حجة لله على من يعلم ويعرف.
أما قوله تعالى : {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن قوله تعالى : {فَإِن زَلَلْتُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} / إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم/ فكيف يدل قوله : {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} على الزجر والتهديد.
الجواب : أن العزيز من لا يمنع عن مراده ، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة ، وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات ، فكان عزيزاً على الإطلاق ، فصار تقدير الآية : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم ، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ، وربما قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي ، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره ، فإن قيل : أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد ؟
قلنا : نعم من حيث أتبعه بقوله : {حَكِيمٌ} فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة.
المسألة الثانية : احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال : لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات ، ولفظ {الْبَيِّنَـاتُ} لفظ جمع يتناول الكل ، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات ، فوجب أن لا يحصل الوعيد ، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع.
المسألة الثالثة : قال أبو علي الجبائي : لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار : السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم ، لأن من فعل السفه وأراده كان سفيهاً ، والسفيه لا يكون حكيماً أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيماً إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ومريداً لها ، بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا : لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
قلنا : هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمراً بما لا يتم إلا به ، وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا : لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق ، قلنا هذا عندنا جائز والله أعلم.
المسألة الرابعة : يحكى أن قارئاً قرأ {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فسمعه أعرابي فأنكره ، وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 354
356
اعلم أن في الآية مسائل :
(1/853)
المسألة الأولى : الكلام المستقصي في لفظ النظر مذكور في تفسير قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 32 ـ 33) وأجمعوا على أنه يجيء بمعنى الانتظار ، قال الله تعالى : {فَنَاظِرَة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل : 35) فالمراد من قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ} هو الانتظار.
المسألة الثانية : أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب ويدل عليه وجوه أحدها : ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون ، وهما محدثان ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثاً مخلوقاً والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك وثانيها : أن كل ما يصح عليه الإنتقال من مكان إلى مكان ، فأما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء ، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئاً كبيراً فيكون أحد جانبيه مغايراً للآخر فيكون مركباً من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركباً ، فإن ذلك المركب يكون مفتقراً في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب هو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد ، فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم ، والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك وثالثها : أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتنه فيكون مختصاً بمقدار معين ، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح ، وتخصيص مخصص ، وكل ما كان كذلك كان فعلاً لفاعل مختار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق ، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك ورابعها : أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلهاً قديماً أزلياً فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر ، وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول : الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور ، فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس ، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله وخامسها : أن الله تعالى حكى عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله : {لا أُحِبُّ الافِلِينَ} (الأنعام : 76) ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
(1/854)
سادسها : أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال : {وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ} (الشعراء : 23) وطلب منه الماهية والجنس والجوهر ، فلو كان تعالى جسماً موصوفاً بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل والقدر : فكان جواب موسى عليه السلام بقوله : {رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ} (مريم : 65) {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} (الدخان : 8) {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (المزمل : 9 ، الشعراء : 28 ) خطأ وباطلاً ، وهذا يقتضي بخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب ، وتصويب فرعون في قوله : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء : 27) ولما كان كل ذلك باطلاً ، علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسماً ، وأن يكون في مكان ، ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب وسابعها : أنه تعالى قال : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص : 1) والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين ، فلما كان تعالى أحداً امتنع أن يكون جسماً أو متحيزاً ، فلما لم يكن جسماً ولا متحيزاً امتنع عليه المجيء والذهاب ، وأيضاً قال تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا} (مريم : 65) أي شبيهاً ولو كان جسماً متحيزاً لكان مشابهاً للأجسام في الجسمية ، إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية ، وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات ، وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات ، وأيضاً قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ } (الشورى : 11) ولو كان جسماً لكان مثلاً للأجسام وثامنها : لو كان جسماً متحيزاً لكان مشاركاً لسائر الأجسام في عموم الجسمية ، فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفاً في خصوص ذاته المخصوصة ، وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فعموم كونه جسماً مغاير لخصوص ذاته المخصوصة ، وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسماً كنا قد جعلنا الجسم صفة وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة ، وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسماً وغير موصوف بكونه جسماً ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئاً مغايراً للمفهوم من الجسم ، وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسماً ، وإما إن قيل : إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسماً لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية ، فحينئذ يكون مثلاً لها مطلقاً ، وكل ما صح عليها فقد صح عليه ، فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك ، وكل ذلك محال ، فثبت أنه تعالى ليس بجسم ، ولا بمتحيز ، وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف أهل الكلام في قوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} وذكروا فيه وجوهاً.
الوجه الأول : وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال ، علمنا قطعاً أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب ، وأن مراده بعد ذلك شيء آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ ، فالأولى السكوت عن التأويل ، / وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى ، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه : وجه لا يعرفه أحد لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله وهذا القول قد استقصينا القول فيه في تفسير قوله تعالى : { الر } .
الوجه الثالث : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لا بد من التأويل على سبيل الفصيل ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول : المراد {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي آيات الله فجعل مجيء الآيات مجيئاً له على التفخيم لشأن الآيات ، كما يقال : جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته ، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة {فَإِن زَلَلْتُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 209) فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزجر ، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم ، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب/ فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سبباً للتهديد والوعيد ، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد ، وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد ، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية ، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
(1/855)
والوجه الثاني : في التأويل أن يكون المراد {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي أمر الله ، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلاً وأضافه إلى شيء ، فإن كان ذلك محالاً فالواجب صرفه إلى التأويل ، كما قاله العلماء في قوله : {قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} والمراد يحاربون أولياءه ، وقال : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) والمراد : واسأل أهل القرية ، فكذا قوله : {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} المراد به يأتيهم أمر الله ، وقوله : {وَجَآءَ رَبُّكَ} (الفجر : 22) المراد : جاء أمر ربك ، وليس فيه إلا حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو مجاز مشهور ، يقال : ضرب الأمير فلاناً ، وصلبه ، وأعطاه ، والمراد أنه أمر بذلك ، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه ، ثم الذي يؤكد القول بصحة هذا التأويل وجهان الأول : أن قوله ههنا : {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} وقوله : {وَجَآءَ رَبُّكَ} إخبار عن حال القيامة ، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ } (النحل : 33) فصار هذا الحكم مفسراً لذلك المتشابه ، لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض والثاني : أنه تعالى قال بعده : {وَقُضِىَ الامْرُ } (هود : 24 ، البقرة : 21) ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق ، فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه ، وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله : {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} أي يأتيهم أمر الله.
فإن قيل : أمر الله عندكم صفة قديمة ، فالإتيان عليها محال ، وعند المعتزلة أنه أصوات فتكون / أعراضاً ، فالإتيان عليها أيضاً محال.
قلنا : الأمر في اللغة له معنيان ، أحدهما الفعل والشأن والطريق ، قال الله تعالى : {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحا بِالْبَصَرِ} (هود : 97) {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (القمر : 50) وفي المثل : لأمر ما جدع قصير أنفه ، لأمر ما يسود من يسود فيحمل الأمر ههنا على الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة ، وهذا هو التأويل الأول الذي ذكرناه ، وأما إن حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان أحدهما : أن يكون التقدير أن منادياً ينادي يوم القيامة : ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر ، وقوله : {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} أي مع ظلل ، والتقدير : إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد والثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشاً منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
الوجه الثالث : في التأويل أن المعنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب ، فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم ، إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم ، وذهاب فكرهم في ك لوجه ، ومثله قوله تعالى : {فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ} (الحشر : 2) والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا وكذلك قوله تعالى : {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} (النحل : 26) فقوله : {وَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ} كالتفسير لقوله تعالى : {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر : قد جاءنا فلان بجوره وظلمه ، ولا شك أن هذا مجاز مشهور.
الوجه الرابع : في التأويل أن يكون {فِى } بمعنى الباء ، وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض ، وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.
(1/856)
الوجه الخامس : أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها ، وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة ، وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهراً وأكبرهم هيبة ، فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة ، فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع ، ونظيره / قوله تعالى : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (الزمر : 67) من غير تصوير قبضة وطي ويمين ، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي ، فكذا ههنا والله أعلم.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
الوجه السادس : وهو أوضح عندي من كل ما سلف : أنا ذكرنا أن قوله تعالى : {بِالْعِبَادِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} (البقرة : 208) إنما نزلت في حق اليهود ، وعلى هذا التقدير فقوله : {فَإِن زَلَلْتُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 209) يكون خطاباً مع اليهود ، وحينئذ يكون قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ} (البقرة : 210) حكاية عن اليهود ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا : {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة : 55) وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها ، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه ، وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب ، وكانوا يقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز ، وبالجملة فالآية تدل على أن قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون ، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال.
فإن قيل : فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} .
قلنا : الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد ، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق ، والله أعلم بحقيقة كلامه.
الوجه السابع : في التأويل ما حكاه الفقال في "تفسيره" عن أبي العالية ، وهو أن الإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة ؛ فأما المضاف إلى الله جل جلاله فهو الإتيان فقط ، فكان حمل الكلام على التقديم والتأخير ، ويستشهد في صحته بقراءة من قرأ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} قال القفال رحمه الله : هذا التأويل مستنكر.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
أما قوله : {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} فاعلم أن جمع ظلة ، وهي ما أظلك الله به ، لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعاً متراكماً ، فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم ، فكل قطعة ظلة ، والجمع ظلل ، قال تعالى : {شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} (لقمان : 32) وقرأ بعضهم : {إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} فيحتمل أن يكون الظلال جمع ظلة ، كقلال وقلة ، وأن يكون جمع ظل.
/ إذا عرفت هذا فنقول : المعنى ما ينظرون إلا أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام.
فإن قيل : ولم يأتيهم العذاب في الغمام ؟
.
قلنا : لوجوه أحدها : أن الغمام مظنة الرحمة ، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع ، لأن السر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهول وأفظع ، كما أن الخير إذا جاء منحيث لا يحتسب كان أكثر تأثيراً في السرور ، فكيف إذاجاء الشر من حيث يحتسب الخير ، ومن هذا اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) وثانيها : أن نزول الغمام علامة لظهور ما يكون أشد الأهوال في القيامة قال تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ وَنُزِّلَ الْمَلَـا اـاِكَةُ تَنزِيلا * الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِا وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَـافِرِينَ عَسِيرًا} (الفرقان : 25 ـ 26) وثالثها : أن الغمام تنزل عنه قطرات كثيرة غير محصورة ولا محدودة ، فكذا هذا الغمام ينزل عنه قطرات العذاب نزولاً غير محصور.
(1/857)
أما قوله تعالى : { والملائكة } فهو عطف على ما سبق ، والتقدير : وتأتيهم الملائكة وإتيان الملائكة يمكن أن يحمل على الحقيقة فوجب حمله عليها فصار المعنى أن يأتي أمر الله وآياته والملائكة مع ذلك يأتون ليقوموا بما أمروا به من إهانة أو تعذيب أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.
أما قوله تعالى : {وَقُضِىَ الامْرُ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى أنه فرغ ما كانوا يوعدون به فعند ذلك لا تقال لهم عثرة لهم ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة.
المسألة الثانية : قوله : {وَقُضِىَ الامْرُ } معناه : ويقضي الأمر والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن ، وخصوصاً في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيراً بالماضي ، قال الله سبحانه وتعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ} (المائدة : 116) والسبب في اختيار هذا المجاز أمران أحدهما : التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه والثاني : المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى ، فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
المسألة الثالثة : الأمر المذكور ههنا هو فصل القضاء بين الخلائق. وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته من الجنة والنار ، قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَـانُ لَمَّا قُضِىَ الامْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (إبراهيم : 22).
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : {وَقُضِىَ الامْرُ } يدل على أن أحوال القيامة توجد دفعة من غير توقف ، فإنه تعالى ليس لقضائه دافع ، ولا لحكمه مانع.
المسألة الرابعة : قرأ معاذ بن جبل {قُضِىَ الامْرُ} على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة.
/ أما قوله تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : من المجسمة من قال : كلمة إلى لانتهاء الغاية ، وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة ، أجاب أهل التوحيد عنه من وجهين الأول : أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيراً من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال : {وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ} (الأنفطار : 19) وهذا كقولهم : رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى : {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (آل عمران : 28) مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه الثاني : قال أبو مسلم : إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أموراً امتحاناً فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر ، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
(1/858)
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {تُرْجَعُ} بضم التاء على معنى ترد ، يقال : رجعته أي رددته ، قال تعالى : {وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى } (فصلت : 50) وفي موضع آخر : {وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى} (الكهف : 36) وفي موضع آخر : {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ } (الأنعام : 62) وقال تعالى : {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا} (المؤمنون : 99 ـ 100) أي ردني ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تُرْجَعُ} بفتح التاء أي تصير ، كقوله تعالى : {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} (الشورى : 53) وقوله : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} (هود : 4 ، المائدة : 48 ، الغاشية : 25) قال القفال رحمه الله : والمعنى في القراءتين متقارب ، لأنها ترجع إليه جل جلاله ، وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بافناء الدنيا وإقامة القيامة ، ثم قال : وفي قوله : {تُرْجَعُ الامُورُ} بضم التاء ثلاث معان أحدها : هذا الذي ذكرناه ، وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية : {وَقُضِىَ الامْرُ } وهو قاضيها والثاني : أنه على مذهب العرب في قولهم : فلان يعجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يذهب بك ، وإن لم يكن أحد يذهب به والثالث : أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون ، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله : {تُرْجَعُ الامُورُ} أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كما قال : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ} (الجمعة : 1 ، التغابن : 1) فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال ، لا بحسب النطق باللسان ، وعليه يحمل أيضاً قوله : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (الرعد : 15) قيل : إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ، ويسجد له الكفار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله ، فكذا يجوز أن يقال : إن العباد يردون أمورهم إلى الله ، ويعترفون برجوعها إليه ، أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكفار فبشهادة الحال.
جزء : 5 رقم الصفحة : 356
365
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : {سَلْ} كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفاً ، ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها ، وعند هذا التصريف استغنى عن ألف الوصل ، وقال قطرب : يقال سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر ، وسأل يسأل ، مثل خاف يخاف ، والأمر فيه : سل مثل خف ، وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر {سَأَلَ سَآاـاِلُ } على وزن قال ، وكال ، وقوله : {كَمْ} هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد ، يقال إنه من تأليف كاف التشبيه مع {مَّآ} ثم قصرت (ما) وسكنت الميم ، وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام ، وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر ، والنصب عند الاستفهام ، ومن العرب ينصب به في الخبر ، ويجر به في الاستفهام ، وهي ههنا يحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون خبرية.
المسألة الثانية : اعلم أنه ليس المقصود : سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه ، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، وبيان هذا لكلام أنه تعالى قال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } (البقرة : 208) فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر ، ثم قال : {فَإِن زَلَلْتُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف / صرتم مستحقين للتهديد بقوله : {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 209) ثم بين ذلك التهديد بقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ} (البقرة : 210) ثم ثلث ذلك التهديد بقوله : {سَلْ بَنِى إسرائيل } يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه ، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم ، كما قال تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) وقال : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } (يوسف : 111) فهذا بيان وجه النظم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 365
(1/859)
365
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : {سَلْ} كان في الأصل اسأل فتركت الهمزة التي هي عين الفعل لكثرة الدور في الكلام تخفيفاً ، ونقلت حركتها إلى الساكن الذي قبلها ، وعند هذا التصريف استغنى عن ألف الوصل ، وقال قطرب : يقال سأل يسأل مثل زأر الأسد يزأر ، وسأل يسأل ، مثل خاف يخاف ، والأمر فيه : سل مثل خف ، وبهذا التقدير قرأ نافع وابن عامر {سَأَلَ سَآاـاِلُ } على وزن قال ، وكال ، وقوله : {كَمْ} هو اسم مبني على السكون موضوع للعدد ، يقال إنه من تأليف كاف التشبيه مع {مَّآ} ثم قصرت (ما) وسكنت الميم ، وبنيت على السكون لتضمنها حرف الاستفهام ، وهي تارة تستعمل في الخبر وتارة في الاستفهام وأكثر لغة العرب الجر به عند الخبر ، والنصب عند الاستفهام ، ومن العرب ينصب به في الخبر ، ويجر به في الاستفهام ، وهي ههنا يحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون خبرية.
المسألة الثانية : اعلم أنه ليس المقصود : سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه ، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، وبيان هذا لكلام أنه تعالى قال : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } (البقرة : 208) فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر ، ثم قال : {فَإِن زَلَلْتُم مِّنا بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ} أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف / صرتم مستحقين للتهديد بقوله : {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 209) ثم بين ذلك التهديد بقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ} (البقرة : 210) ثم ثلث ذلك التهديد بقوله : {سَلْ بَنِى إسرائيل } يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه ، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم ، كما قال تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَـا أُوْلِى الابْصَـارِ} (الحشر : 2) وقال : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } (يوسف : 111) فهذا بيان وجه النظم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 365
المسألة الثالثة : فرق أبو عمرو في {سَلْ} بين الاتصال بواو وفاء وبين الاستئناف ، فقرأ {سَلْهُمْ} و{سَلْ بَنِى إسرائيل } بغير همزة {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) فاسأل الذين يقرؤن الكتاب ، {وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه } (النساء : 32) بالهمز ، وسوى الكسائي بين الكل ، وقرأ الكل بغير همز وجه الفرق أن التخفيف في الاستئناف وصلة إلى أسقاط الهمزة المبتدأة وهي مستقلة وليس كذلك في الاتصال والكسائي اتبع المصحف ، لأن الألف ساقطة فيها أجمع.
المسألة الرابعة : قوله : {مِّنْ ءَايَةا بَيِّنَةٍ } فيه قولان أحدها : المراد به معجزات موسى عليه السلام ، نحو فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب ، وإنزال التوراة عليهم ، وتبيين الهدى من الكفر لهم ، فكل ذلك آيات بينات.
والقول الثاني : أن المعنى ؛ كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد عليه الصلاة والسلام/ يعلم بها صدقه وصحة شريعته.
أما قوله تعالى : {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {وَمَن يُبَدِّلْ} بالتخفيف.
المسألة الثانية : قال أبو مسلم : في الآية حذف ، والتقدير : كم آتيناهم من آية بينة وكفروا بها لكن لا يدل على هذا الإضمار قوله : {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} .
المسألة الثالثة : في نعمة الله ههنا قولان أحدهما : أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة ، ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام ، قال : المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة : 125) ومن قال : المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد عليه السلام ، قال : المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها.
والقول الثاني : المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى / هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا ، ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 365
(1/860)
أما قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} فإن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله : {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} أي من بعد ما تمكن من معرفتها ، أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى : {ثُمَّ يُحَرِّفُونَه مِنا بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة : 75) لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها ، فكأنها غائبة عنه ، وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية ، فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح ، فلهذا قال : {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قال الواحدي رحمه الله تعالى : وفيه إضمار ، والمعنى شديد العقاب له ، وأقول : بين عبد القاهر النحوي في كتاب "دلائل الإعجاز" أن ترك هذا الإضمار أولى ، وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب ، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك ، ثم قال الواحدي رحمه الله : والعقاب عذاب يعقب الجرم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 365
366
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يبدل نعمة الله من بعدما جاءته وهم الكفار الذين كذبوا بالدلالة والأنبياء وعدلوا عنها أتبعه الله تعالى بذكر السبب الذي لأجله كانت هذه طريقتهم فقال : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} ومحصول هذا الكلام تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار والمشركين في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من درجات الآخرة.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : إنما لم يقال : زينت لوجوه أحدها : وهو قول الفراء : أن الحياة والإحياء واحد ، فإن أنث فعلى اللفظ ، وإن ذكر فعلى المعنى كقوله : {فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّه } (البقرة : 275) ، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هود : 67)وثانيها : وهو قول الزجاج أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، لأنه ليس حيواناً بإزائه ذكر ، مثل امرأة ورجل ، وناقة وجمل ، بل معنى الحياة والعيش والبقاء واحد فكأنه قال : زين للذين كفروا الحياة الدنيا والبقاء وثالثها : وهو قول ابن الأنباري : إنما لم يقل : زينت ، لأنه فصل بين زين وبين الحياة الدنيا ، بقوله : {لِلَّذِينَ كَفَرُوا } وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الإسم / بفاصل ، حسن تذكير الفعل ، لأن الفاصل يغني عن تاء التأنيث.
المسألة الثانية : ذكروا في سبب النزول وجوهاً :
فالرواية الأولى : قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين ، كعبد الله بن مسعود ، وعمار ، وخباب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة وأبي عبيدة بن الجراح بسبب ما كانوا فيه من الفقر والضرر والصبر على أنواع البلاء مع أن الكفار كانوا في التنعم والراحة.
والرواية الثانية : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين ، حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والرواية الثالثة : قال مقاتل : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين وفقراء المهاجرين ، واعلم أنه لا مانع من نزولها في جميعهم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
والمسألة الثالثة : اختلفوا في كيفية هذا التزيين ، أما المعتزلة فذكروا وجوهاً أحدها : قال الجبائي : المزين هو غواة الجن والإنس ، زينوا للكفار الحرص على الدنيا ، وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم ، وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة ، فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا قال : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل ، لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فإن كان المزين هو الله تعالى ، فأما أن يكون صادقاً في ذلك التزين ، وإما أن يكون كاذباً ، فإن كان صادقاً وجب أن يكون مازينه حسناً ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر ، وهذا أيضاً كفر ، قال : فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان ، هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في "تفسيره".
(1/861)
وأقول هذا ضعيف لأن قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } يتناول جميع الكفار ، فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين ، والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم ، إلا أن يقال : إن كل واحد منهم كان يزين للآخر ، وحينئذ يصير دوراً فثبت أن الذين يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم/ فبطل قوله : إن المزين هم غواة الجن والإنس ، وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضاً ، وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف ، وأما قوله : المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة ، وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزيناً ، وعلى هذا التقدير سقط كلامه ، ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، فلم لا يجوز أن يقال : الله تعالى أخبر عن حسنه ، والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات / والرحات ، والإخبار عن ذلك لس بكذب ، والتصديق بها ليس بكفر ، فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية.
التأويل الثاني : قال أبو مسلم : يحتمل في {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أنهم زينوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك لا يريدون أن ذاهباً ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة : 75 ، التوبة : 30 ، المنافقون : 4) ، {أَنَّى يُصْرَفُونَ} (غافر : 69) إلى غير ذلك ، وأكده بقوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّه } (المنافقون : 9) فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب ، ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه ، واعلم أن هذا ضعيف ، وذلك لأن قوله : {زُيِّنَ} يقضي أن مزيناً زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
التأويل الثالث : أن هذا المزين هو الله تعالى ويدل على صحة هذا التأويل وجهان أحدهما : قراءة من قرأ {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا} على البناء للفاعل الثاني : قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} (الكهف : 7) ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوهاً الأول : يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة ، وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده ، ونظيره قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} (آل عمران : 14) إلى قوله : {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتٌ} (آل عمران : 15) وقال أيضاً : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} (الكهف : 46) وقالوا : فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى في الكل أن الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الإمتحان ، وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام الثاني : أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص الشديد في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين.
واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر وهذا محال ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة أو ما رجح فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه فهذا يمنع كونه تزييناً في قلبه ، والنص دل على أنه حصل هذا التزيين ، وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية/ على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار لأن حال الإستواء لما امتنع حصول الرجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً كان أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع ، ضرورة / أنه لا خروج عن النقيضين فهذا هو توجيه السؤال ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
(1/862)
الوجه الثالث : في تقرير هذا التأويل أن المراد : أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا الوجه سقط الإشكال ، وهذا أيضاً ضعيف ، وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار ، وتزيين المباحات لا يختص به الكافر ، فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات ، وأيضاً فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص ، وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها ، وليس كذلك الكافر ، فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالباً على ظنه ، لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها ، وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات ، وأيضاً أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة ، وتحملهم المشاق الواجبة ، فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات.
وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال والأحوال ، وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه ، وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية.
أما قوله تعالى : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوهاً من الروايات ، قال الواحدي : قوله : {وَيَسْخَرُونَ} مستأنف غير معطوف على زين ، ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي ، وذلك لأن الله أخبر عنهم بزين وهو ماض ، ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل ، ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه ، بل قال بعض المحققين الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاساً معدودة وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمراً متعيناً فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى.
/
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
أما قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال : {مِّنَ الْكِتَـابِ يُؤْمِنُونَ} ثم قال : {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا } ؟
.
الجواب : ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى.
السؤال الثاني : ما المراد بهذه الفوقية ؟
.
الجواب : فيه وجوه أحدها : أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان ، لأن المؤمنين يكونون في عليين من السماء والكافرين يكونون في سجين من الأرض وثانيها : يحتمل أن يكون المراد بالفوقية الفوقية في الكرامة والدرجة.
فإن قيل : إنما يقال : فلان فوق فلان في الكرامة/ إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالاً من الآخر في تلك الكرامة ، والكافر ليس له شيء من الكرامة فكيف يقال : المؤمن فوقه في الكرامة.
قلنا : المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر ، فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين ، وثالثها : أن يكون المراد : أنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة ، وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين ، ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى ، وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك ، بل تزول الشبهات ، ولا تؤثر وساوس الشيطان ، كما قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ} (المطففين : 29 ـ 34) الآية ورابعها : أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة ، وهي مع بطلانها منقضية ، وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ومع حقيتها هي دائمة باقية.
السؤال الثالث : هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد فإن لقائل أن يقول : إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار.
الجواب : هذا تمسك بالمفهوم ، فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
(1/863)
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب ، ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين فإذا حملناه على رزق الآخرة احتمل وجوهاً أحدها : أنه يرزق من يشاء في / الآخرة ، وهم المؤمنون بغير حساب ، أي رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ، ولا انقطاع ، وهو كقوله : {فَ أولئك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر : 40) فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه ، فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال : {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِه } (النساء : 173) فالفضل منه بلا حساب وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده ، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقي ، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به ، والله لا يحتاج إلى الحساب ، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته ورابعها : أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة ، وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً انتقص قدر الواجب عما كان ، والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً ، فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب وخامسها : أراد أن الذي يعطي لا نسبة له إلى ما في الخزانة لأن الذي يعطي في كل وقت يكون متناهياً لا محالة ، والذي في خزانة قدرة الله غير متناه والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فهذا هو المراد من قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى وسادسها : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير استحقاق يقال لفلان على فلان حساب إذا كان له عليه حق ، وهذا يدل على أنه لا يستحق عليه أحد شيئاً ، وليس لأحد معه حساب بل كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان ، لا بسبب الاستحقاق وسابعها : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يزيد على قدر الكفاية/ يقال : فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية ، فأما إذا زاد عليه فإنه يقال : ينفق بغير حساب وثامنها : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي كثيراً لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
واعلم أن هذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها والله أعلم.
أما إذا حملنا الآية على ما يعطي في الدنيا أصناف عباده من المؤمنين والكافرين ففيه وجوه :
أحدها : وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدينوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل ، فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله : {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً وذلك متعلق بمحض المشيئة ، فقد وسع الدنيا على قارون ، وضيقها على أيوب عليه السلام ، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين ، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج ، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان ، ولهذا قال تعالى : {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} (الزخرف : 33) وثانيها : أن المعنى : أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه ، ولا مطالبة ، ولا تبعة ، ولا سؤال سائل ، والمقصود منه أن لا يقول الكافر : لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا ؟
وأن لا يقول المؤمن إن كان الكافر مبطلاً فلم وسع عليه في الدنيا ؟
بل الإعتراض ساقط ، والأمر أمره ، والحكم حكمه {لا يُسْاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْاَلُونَ} (الأنبياء : 23) وثالثها : قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره : لم يكن هذا في حسابي ، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية : أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم ، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين ، قال القفال رحمه الله : وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، وبما فتح على رسوله صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر.
فإن قيل : قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم {عَطَآءً حِسَابًا} (النبأ : 36) أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية.
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
(1/864)
قلنا : أما من حمل قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} على التفضل ، وحمل قوله : {عَطَآءً حِسَابًا} على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا ، أو بحسب الإستحقاق على ما هو قول المعتزلة ، فالسؤال ساقط ، وأما من حمل قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} على سائر الوجوه ، فله أن يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل ، صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حساباً ، ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 366
372
اعلم أنه تعالى لما بين في هذه الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا ، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلاً في الأزمنة المتقادمة ، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ، ثم اختلفوا وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا فهذا هو الكلام في ترتيب النظم.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال القفال : الأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض ، وهو مأخوذ من الأئتمام.
المسألة الثانية : دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة ، ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل ، واختلف المفسرون فيه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق ، وهذا قول أكثر المحققين ، ويدل عليه وجوه الأول : ما ذكره القفال فقال : الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه } فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الإختلاف ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } (يونس : 19) ويتأكد أيضاً بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه } .
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
إذا عرفت هذا فنقول : الفاء في قوله : {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ} تقتضي أن يكون بعثهم بعد الإختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر ، لكانت بعثة الرسل قبل هذا الإختلاف أولى ، لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقاً وبعضهم مبطلاً ، فلأن يبعثوا حين ماكانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى ، وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه الله حسن في هذا الموضوع وثانيها : أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة ، ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه ، وبحسب قراءة ابن مسعود ، ثم قال : {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } والظاهر أن المراد من هذا الإختلاف هو الإختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه ، بقوله : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ثم حكم على هذا الإختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي ، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة ، فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت / بسبب البغي ، وهذا يدل على أن الاتفاق الذي كان حاصلاً قبل حصول هذا الإختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل ، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل وثالثها : أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولاً إلى أولاده ، فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى ، ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين/ إلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي ، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر ، والآية منطبقة عليه ، لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث ، كانوا أمة واحدة على الحق ، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد ، كما حكى الله عن ابني آدم {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخَرِ} (المائدة : 27) فلم يكن ذلك القتل والكفر بالله إلا بسبب البغي والحسد ، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه ورابعها : أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة ، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، ثم اختلفوا بعد ذلك ، وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر ، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك ، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك ولم يثبت ألبتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر ، وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل.
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
(1/865)
وخامسها : وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل بها إلى النتائج ، وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات ، وكما أن المقدمات يجب إنتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضاً إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل ، وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل ، وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فأما إذا عرض له سبب خارجي ، فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ ، وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الإستحقاق وبحسب الزمان أيضاً ، هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال : كان الناس أمة واحدة في الدين الحق ، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد ، فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه.
فإن قيل : فما المراد من قوله : {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَا وَلِذَالِكَ خَلَقَهُمْ } (هود : 188/ 119).
قلنا : المعنى ولأجل أن يرحمهم خلقهم.
وسادسها : قوله عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة ، وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية ، وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض / الفاسدة من البغي والحسد وسابعها : أن الله تعالى لما قال : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق ، وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين ، إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثاً كثيرة ، ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه ، فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول.
أما الوجه الثاني : هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل ، فهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس ، واحتجوا بالآية والخبر أما الآية فقوله : {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وهو لا يليق إلا بذلك ، وأما الخبر فما روي عن النبي عليه السلام : "أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب".
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
وجوابه : ما بينا أن هذا لا يليق إلا بضده ، وذلك لأن عند الإختلاف لما وجبت البعثة. فلو كان الإتفاق السابق اتفاقاً على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى/ وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الإتفاق كان اتفاقاً على الحق لا على الباطل ، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنه متى كان الناس متفقين على الكفر فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفاراً ، ثم سألوا أنفسهم سؤالاً وقالوا : أليس فيهم من كان مسلماً نحو هابيل وشيث وإدريس ، وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب ، ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير ، وقد يقال : دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.
القول الثالث : وهو اختيار أبي مسلم والقاضي : أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية ، وهي الإعتراف بوجود الصانع وصفاته ، والإشتغال بخدمته وشكر نعمته ، والإجتناب عن القبائح العقلية ، كالظلم ، والكذب ، والجهل ، والعبث وأمثالها.
واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والإستغراق ، وحرف الفاء يفيد التراخي ، فقوله : {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ} يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت متأخرة عن كون الناس أمة واحدة ، فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء ، فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه ، وأيضاً فالعلم بحسن شكر المنعم ، وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق ، والعدل ، مشترك فيه بين الكل ، والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل ، فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك ، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة ، ثم سأل نفسه ، فقال : أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبياً ، فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل ، وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولاً ، ثم إن الله / تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده ، ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرساً ، فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية ، واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه ، والكلام فيه مشهور في الأصول.
القول الرابع : أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة ، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر ، فهو موقوف على الدليل.
(1/866)
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
القول الخامس : أن المراد من الناس ههنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى عليه السلام ، وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله : {بِالْعِبَادِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} (البقرة : 208) وذكرنا أن كثيراً من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود ، فقوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة ، على دين واحد ، ومذهب واحد ، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد ، فبعث الله النبيين ، وهم الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب ، كما بعث الزبور إلى داود ، والتوراة إلى موسى ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقان إلى محمد عليه السلام لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها ، وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله : {كَانَ النَّاسُ} بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضاً للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية.
أما قوله تعالى : {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار ، والتقدير {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ} واعلم أنه الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث :
الصفة الأولى : كونهم مبشرين.
الصفة الثانية : كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (النساء : 165) وإنما قدم البشارة على الإنذار ، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض ، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر.
الصفة الثالثة : قوله : {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ} فإن قيل : إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب ؟
أجاب القاضي عنه فقال : لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب ، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير / والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي : ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزاً أو لم يكن كذلك ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقتضي شيئاً من ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
أما قوله تعالى : {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} فاعلم أنه قوله : {لِيَحْكُمَ} فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة ، فأقربها إلى هذا اللفظ : الكتاب ، ثم النبيون ، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحاً ، فيكون المعنى : ليحكم الله ، أو النبي المنزل عليه ، أو الكتاب ، ثم إن كل واحد من هذه الإحتمالات يختص بوجه ترجيح ، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات ، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب ، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال : حمله على الكتاب أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : الحاكم هو الله ، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول : هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول : أنه مجاز مشهور يقال : حكم الكتاب بكذا ، وقضى كتاب الله بكذا ، ورضينا بكتاب الله ، وإذا جاز أن يكون هدي وشفاء ، جاز أن يكون حاكماً قال تعالى : {إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء : 9) والثاني : أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله.
أما قوله تعالى : {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه } فاعلم أن الهاء في قوله : {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه } يجب أن يكون راجعاً ، إما إلى الكتاب ، وإما إلى الحق ، لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم ، لكن رجوعه إلى الحق أولى ، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكماً فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم ، والمختلف فيه محكوم عليه ، والحاكم يجب أن يكون مغايراً للمحكوم عليه.
(1/867)
أما قوله تعالى : {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ} فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية : إلى الكتاب والتقدير : وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب ، ثم قال أكثر المفسرين : المراد بهؤلاء : اليهود والنصارى والله تعالى كثيراً ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة : 5) {قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران : 64) ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضاً كقوله تعالى : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَـارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـابَ } (البقرة : 113) ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم ، فقوله : {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الإختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الإختلاف في الحق حاصلاً ، بل كان الإتفاق في الحق حاصلاً وهو / يدل على أن قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} معناه أمة واحدة في دين الحق.
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
أما قوله تعالى : {مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ} فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها ، وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته ، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور ، بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم.
أما قوله تعالى : {بَغْيَا بَيْنَهُمْ } فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية. أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب ، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة ، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا ، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة : 4).
أما قوله تعالى : {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِه } فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيا أهل الكتاب ، يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، ونحن أولى الناس دخولاً الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا لله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فهذا اليوم الذي هدانا له ، والناس له فيه تبع وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى" قال ابن زيد : اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام ، فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود : كان يهودياً وقالت النصارى : كان نصرانياً ، فقلنا : أنه كان حنيفاً مسلماً واختلفوا في عيسى ، فاليهود فرطوا ، والنصارى أفرطوا ، وقلنا القول العدل ، وبقي في الآية مسائل :
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
المسألة الأولى : من الأصحاب من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق لله تعالى قال : لأن الهداية هي العلم والمعرفة ، وقوله : {فَهَدَى اللَّهُ} نص في أن الهداية حصلت بفعل الله تعالى ، فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق لله تعالى.
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير ، والاهتداء غير ، والذي يدل ههنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان الأول : أن الهداية إلى الإيمان غير / الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان والثاني : أنه تعالى قال في آخر الآية : {بِإِذْنِه } ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله : {فَهَدَى اللَّهُ} إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد ههنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليه/ والتقدير : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه ، وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء.
(1/868)
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر ، والمعتزلة أجابوا عنه من وجوه أحدها : أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصة كقوله : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) ثم قال : {هُدًى لِّلنَّاسِ} وثانيها : أن المراد به : الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة وثالثها : هداهم إلى الحق بالألطاف.
المسألة الثالثة : قوله : {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (المجادلة : 3) أي إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى : {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أي إلى ما قالوا ويقال : هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق.
فإن قيل : لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، ولم يقل : هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الإختلاف ؟
والجواب من وجهين الأول : أنه لما كانت العناية بذكر الإختلاف لهم بدأ به ، ثم فسره بمن هداه الثاني : قال الفراء : هذا من المقلوب ، أي فهداهم لما اختلفوا فيه.
المسألة الرابعة : قوله : {بِإِذْنِه } فيه وجهان أحدها : قال الزجاج بعلمه الثاني : هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال : قطعت بالسكين ، وذلك لأن الحق لم يكن متميزاً عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه الثالث : قال بعضهم : لا بد فيه من إضمار والتقدير : هداهم فاهتدوا بإذنه.
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
أما قوله : {وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فاستدلال الأصحاب به معلوم ، والمعتزلة أجابوا من ثلاثة أوجه أحدها : المراد بالهداية البيان ، فالله تعالى خص المكلفين بذلك والثاني : المراد بالهداية الطريق إلى الجنة الثالث : المراد به اللطف فيكون خاصاً لمن يعلم أنه يصلح له وهو قول أبي بكر الرازي.
جزء : 6 رقم الصفحة : 372
377
في النظم وجهان الأول : أنه تعالى قال في الآية السالفة : {وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم } الآية الثاني : أنه في الآية السالفة ما بين أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى ، فكذا أنتم يا أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : استقصينا الكلام في لفظ {أَمْ} في تفسير قوله تعالى : {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} (البقرة : 133) والذي نريده ههنا أن نقول {أَمْ} استفهام متوسط كما أن {هَلْ} استفهام سابق ، فيجوز أن يقول : هل عندك رجل ، أعندك رجل ؟
ابتداء ، ولا يجوز أن يقال : أم عندك رجل ، فأما إذا كان متوسطاً جاز سواء كان مسبوقاً باستفهام آخر أو لا يكون ، أما إذاكان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك : أنت رجل لا تنصف ، أفعن جهل تفعل هذا أم لك سلطان ؟
وأما الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام فهو كقوله : {الاـم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاه } (السجدة : 1 ـ 3) وهذا القسم يكون في تقدير القسم الأول ، والتقدير : أفيؤمنون بهذا أم يقولون أفتراه ؟
فكذا تقدير هذه الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فصبروا على استهزاء قومهم بهم ، أفتسلكون سبيلهم ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم ؟
هذا ما لخصه القفال رحمه الله ، والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
المسألة الثانية : قوله تعالى : {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم } أي ولم يأتكم مثل الذين خلوا وذكر الكوفيون من أهل النحو أن {لِمَا} إنما هي {لَّمْ} و{مَّآ} زائدة وقال سيبويه : {مَّآ} ليست زائدة لأن {لِمَا} تقع في مواضع لا تقع فيها {لَّمْ} يقول الرجل لصاحبه : أقدم فلان ؟
فيقول : {لِمَا} ولا يقول : {لَّمْ} مفردة ، قال المبرد : إذا قال القائل : لم يأتني زيد ، فهو نفي لقولك أتاك زيد وإذا قال : لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه قال النابغة :
أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
فعلى هذا قوله : {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم } يدل على أن إتيان ذلك متوقع منتظر.
(1/869)
/ المسألة الثالثة : قال ابن عباس : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة ، اشتد الضرر عليهم ، لأنهم خرجوا بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم {أَمْ حَسِبْتُمْ} وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن ، وكان كما قال سبحانه وتعالى : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (الأحزاب : 10) وقيل نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله بن أبي لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم : إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبياً لما سلط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعلم أن تقدير الآية : أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي ، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر والفاقة ، ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو ، كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين ، وهو المراد من قوله : {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم } والمثل هو المثل وهو الشبة ، وهما لغتان : مثل ومثل كشبه وشبه ، إلا أن المثل مستعار لحالة غريبة أو قصة عجيبة لها شأن ومنه قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى } (النحل : 60) أي الصفة التي لها شأن عظيم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
واعلم أن في الكلام حذفاً تقديره : مثل محنة الذين من قبلكم ، وقوله : {مَّسَّتْهُمُ} بيان للمثل ، وهو استئناف كأن قائلاً قال : فكيف كان ذلك المثل ؟
فقال : {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا } (البقرة : 214).
أما {الْبَأْسَآءِ} فهو اسم من البؤس بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة ومنه يقال فلان في بؤس وشدة.
وأما {الضَّرَّآءُ} فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف ، وعندي أن البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه ، والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه.
وأما قوله : {وَزُلْزِلُوا } أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا قال الزجاج : أصل الزلزلة في اللغة من أزال الشيء عن مكانه فإذا قلت : زلزلته فتأويله أنك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه ، وكل ما كان فيه تكرير كررت فيه فاء الفعل ، نحو صر ، وصرصر ، وصل وصلصل ، وكف ، وكفكف ، وأقل الشيء ، أي رفعه من موضعه ، فإذا كرر قيل : قلقل ، وفسر بعضهم ههنا بخوفوا ، وحقيقته غير ما ذكرنا ، وذلك لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه ، ولذلك لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد ، لأنه يذهب السكون ، فيجب أن يكون زلزلوا ههنا مجازاً ، والمراد : خوفوا ، ويجوز أن يكونوا مضطربين لا يستقرون لما في قلوبهم من الجزع والخوف ، ثم أنه تعالى بعد ذكر هذه الأشياء ذكر شيئاً آخر وهو النهاية في الدلالة على كمال الضر / والبؤس والمحنة ، فقال : {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه مَتَى نَصْرُ اللَّه } وذلك لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا ، كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة ، فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} إجابة لهم إلى طلبهم ، فتقدير الآية هكذا : كانت حالهم إلى أن أتاهم نصر الله ولم يغيرهم طول البلاء عن دينهم ، وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا الأذى والمشقة في طلب الحق ، فإن نصر الله قريب ، لأنه آت ، وكل ما هو آت قريب ، وهذه الآية مثل قوله : {الاـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} (العنكبوت : 1 ـ 3) وقال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ} (آل عمران : 142) والمقصود من هذه الآية ما ذكرنا أن أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينالهم الأمر العظيم من البأساء والضراء من المشركين والمنافقين واليهود/ ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والنفوس ما لا يخفى ، فعزاهم الله في ذلك وبين أن حال من قبلهم في طلب الدين كان كذلك ، والمصيبة إذا عمت طابت ، وذكر الله من قصة إبراهيم عليه السلام وإلقائه في النار ، ومن أمر أيوب عليه السلام وما ابتلاه الله به ، ومن أمر سائر الأنبياء عليهم السلام في مصابرتهم على أنواع البلاء ما صار ذلك في سلوة المؤمنين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
(1/870)
روى قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت ، قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نلقى من المشركين ، فقال : "إن من كان قبلكم من الأمم كانوا يعذبون بأنواع البلاء فلم يصرفهم ذلك عن دينهم ، حتى إن الرجل يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ، ويمشط الرجل بأمشاط الحديد فيما دون العظم من لحم وعصب وما يصرفه ذلك عن دينه ، وايم الله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
المسألة الرابعة : قرأ نافع {حَتَّى يَقُولَ} برفع اللام والباقون بالنصب ، ووجهه أن {حَتَّى } إذا نصبت المضارع تكون على ضربين أحدهما : أن تكون بمعنى : إلى ، وفي هذا الضرب يكون الفعل الذي حصل قبل {حَتَّى } والذي حصل بعدها قد وجدا ومضيا ، تقول : سرت حتى أدخلها ، أي إلى أن أدخلها ، فالسير والدخول قد وجدا مضياً ، وعليه النصب في هذه الآية ، لأن التقدير : وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ، والزلزلة والقول قد وجدا والثاني : أن تكون بمعنى : كي ، كقوله : أطعت الله حتى أدخل الجنة ، أي كي أدخل الجنة ، والطاعة قد وجدت والدخول لم يوجد ، ونصب الآية لا يمكن أن يكون على هذا الوجه ، وأما الرفع فاعلم أن الفعل الواقع بعد {حَتَّى } لا بد وأن يكون على سبيل الحال المحكية التي وجدت ، كما حكيت الحال في قوله : {هَـاذَا مِن شِيعَتِه وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّه } (القصص : 15) وفي قوله : {وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } (الكهف : 18) لأن هذا لا يصح إلا على / سبيل أن في ذلك الوقت كان يقال هذا الكلام ، ويقال : شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنة ، والمعنى شربت حتى إن من حضر هناك يقال : يجيء البعير يجر بطنه ، ثم هذا قد يصدق عند انقضاء السبب وحده دون المسبب ، كقولك : سرت حتى أدخل البلد. فيحتمل أن السير والدخول قد وجدا وحصلا ، ويحتمل أن يكون قد وجد السير والدخول بعد لم يوجد ، فهذا هو الكلام في تقرير وجه النصب ووجه الرفع ، واعلم أن الأكثرين اختاروا النصب لأن قراءة الرفع لا تصح إلا إذا جعلنا الكلام حكاية عمن يخبر عنها حال وقوعها ، وقراءة النصب لا تحتاج إلى هذا الفرض فلا جرم كانت قراءة النصب أولى.
المسألة الخامسة : في الآية إشكال ، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد {مَتَى نَصْرُ اللَّه } .
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
والجواب عنه من وجوه أحدها : أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، قال تعالى : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (الحجر : 97) وقال تعالى : {لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء : 3) وقال تعالى : {حَتَّى ا إِذَا اسْتَيْـاَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ} (يوسف : 110) وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته ، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك ، قال عند ضيق قلبه : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطالب قلبه ، والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعاً عن القرب/ ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا ؟
لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال ، وهذا هو الجواب المعتمد.
والجواب الثاني : أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكر كلامين أحدهما : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } والثاني : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين : فالذين آمنوا قالوا : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } والرسول صلى الله عليه وسلّم قال : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر ، أما القرآن فقوله : {وَمِن رَّحْمَتِه جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه } والمعنى : لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ، وأما من الشعر فقول امرىء القيس :
كأن قلوب الطير رطباًويابسا
لدي وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس ، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جداً.
المسألة السادسة : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} يحتمل أن يكون جواباً من الله تعالى لهم ، إذ قالوا : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } ثم قال الله عند ذلك {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ويحتمل أن يكون ذلك قولاً لقوم منهم ، كأنهم لما قالوا : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } رجعوا / إلى أنفسكم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم ، فقالوا : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك.
(1/871)
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
فإن قيل : قوله : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابت.
قلنا : لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام ، ويمكن أن يكون ذلك عاماً في حق الكل ، إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين ، إما أن يتخلص عنه ، وإما أن يموت وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريباً لأن الموت قريب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 377
381
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بالغ في بيان أنه يجب على كل مكلف أن يكون معرضاً عن طرب العاجل ، وأن يكون مشتغلاً بطلب الآجل ، وأن يكون بحيث يبذل النفس والمال في ذلك شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ} (البقرة : 243) لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطاً بعضها بالبعض ، ليكون كل واحد منها مفوياً للآخر ومؤكداً له.
الحكم الأول
فيما يتعلق بالنفقة هو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى : قال عطاء : عن ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل أتى للنبي عليه الصلاة والسلام فقال إن لي ديناراً فقال : أنفقه على نفسك قال : إن لي دينارين قال : أنفقهما على أهلك قال : إن لي ثلاثة قال : أنفقها على خادمك قال : إن لي أربعة قال : أنفقها على والديك قال : إن لي خمسه قال : أنفقها على قرابتك قال إن لي ستة قال : أنفقها في سبيل الله وهو أحسنها : وروى الكلبي / عن ابن عباس أن الآية نزلت عن عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً هرماً ، وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم ، فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : للنحويين في {مَاذَآ} قولان أحدهما : أن يجعل {مَّآ} مع {ذَا} بمنزلة اسم واحد ويكون الموضع نصباً بينفقون ، والدليل عليه أن العرب يقولون : عماذا تسأل ؟
بإثبات الألف في {مَّآ} فلولا أن {مَّآ} مع {ذَا} بمنزلة اسم واحد لقالوا : عماذا تسأل ؟
بحذف الألف كما حذفوها من قوله تعالى : {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (النبأ : 1) وقوله : {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاـاهَآ} (النازعات : 43) فلما لم يحذفوا الألف من آخر {مَّآ} علمت أنه مع {ذَا} بمنزلة اسم واحد ولم يحذفوا الألف منه لما لم يكن آخر الاسم والحذف يلحقها إذا كان آخراً إلا أن يكون في شعر كقوله :
جزء : 6 رقم الصفحة : 381
غلاماً قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
والقول الثاني : أن يجعل {ذَا} بمعنى الذي ويكون {مَّآ} رفعاً بالابتداء خبرها {ذَا} والعرب قد يستعملون {ذَا} بمعنى الذي ، فيقولون : من ذا يقول ذاك ؟
أي من ذا الذي يقول ذاك ، فعلى هذ يكون تقدير الآية : يسألونك ما الذي ينفقون.
المسألة الثالثة : في الآية سؤال ، وهو أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم ، فكيف أجابهم بهذا ؟
.
(1/872)
والجواب عنه من وجوه أحدها : أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود ، وذلك لأن قوله : {مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} جواب عن السؤال ، ثم إن ذلك الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفاً إلى جهة الإستحقاق ، فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلاً للبيان وثانيها : قال القفال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ {مَّآ} إلا أن المقصود : السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذين أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو ؟
وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو ؟
وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَـابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّه يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الارْضَ وَلا تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْـاَـانَ جِئْتَ بِالْحَقِّا فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة : 70 ، 71) وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال ، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : {مَا هِىَ} لا يمكن حمله على طلب الماهية ، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها ، فبهذا الطريق قلنا : إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال ، فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو ، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم : {مَاذَا يُنفِقُونَ} ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف فلهذا حسن الجواب وثالثها : يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا / السؤال فكأنهم قيل لهم : هذا السؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالاً حلالاً وبشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان ، فقال للطبيب : ماذا آكل ؟
فيقول الطبيب : كل في اليوم مرتين ، كان المعنى : كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا ههنا المعنى : أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك.
جزء : 6 رقم الصفحة : 381
(1/873)
المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق ، فقدم الوالدين ، وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب ، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف ، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه ، ولذلك قال تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ} (الإسراء : 23) وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين ، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة ، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة ، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق ، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين ، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض ، والترجيح لا بد له من مرجح ، والقرابة تصلح أن تكون سبباً للترجيح من وجوه أحدها : أن القرابة مظنة المخالطة ، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر ، فإذا كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً كان اطلاع الفقير على الغني أتم ، واطلاع الغني على الفقير أتم ، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها : أنه لو لم يراع جانب الفقير ، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعاً للضرر عن النفس وثالثها : أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى ، وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم ، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب. وأشرب على الضياع ، ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يقع في الاحتياج والفقر ، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق ، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِه عَلِيمٌ} أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلباً لجزيل ثوابه وهرباً من أليم عقابه فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالماً يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في / السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال : {أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } (آل عمران : 19) وقال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } (الزلزلة : 7).
جزء : 6 رقم الصفحة : 381
المسألة الخامسة : المراد من الخير هو المال لقوله عز وجل : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات : 8) وقال : {إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (البقرة : 180) فالمعنى وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر ، وفيه قول آخر وهو أن يكون قوله : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} يتناول هذا الإنفاق وسائر وجوه البر والطاعة ، وهذا أولى.
المسألة السادسة : قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها أحدها : قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك ، والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال أنها منسوخة بآية المواريث ، لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت ، وأيضاً فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة وثانيها : أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع وثالثها : أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة ورابعها : يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ.
الحكم الثاني
فيما يتعلق بالقتال
جزء : 6 رقم الصفحة : 381
384
وفيه مسائل :
(1/874)
/المسألة الأولى : اعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن له في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله الجهاد واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم : إنها تقتضي وجوب القتال على الكل وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب ونقل عن ابن عمر وعطاء : أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط حجة الأولين أن قوله : {كَتَبَ} يقتضي الوجوب وقوله : {عَلَيْكُمْ} يقتضيه أيضاً ، والخطاب بالكاف في قوله : {عَلَيْكُمْ} لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد بعد ذلك كما في قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة : 178) ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة : 183).
فإن قيل : ظاهر الآية هل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان أو على الكفاية.
قلنا : بل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان لأن قوله : {عَلَيْكُمْ} أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} حجة عطاء أن قوله : {كَتَبَ} يقتضي الإيجاب ، ويكفي في العمل به مرة واحدة وقوله : {عَلَيْكُمْ} يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت إلا أنا قلنا : إن قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك ، بدلالة منفصلة وهي الإجماع ، وتلك الدلالة مفقودة ههنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلى ، قالوا : ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى : {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (النساء : 95) ولو كان القاعد مضيعاً فرضاً لما كان موعوداً بالحسنى ، اللهم إلا أن يقال : الفرض كان ثابتاً ثم نسخ ، إلا أن التزام القوم بالنسخ من غير أن يدل عليه دليل غير جائز ، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً } (التوبة : 122) والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه ، والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض الكفايات ، إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل والله أعلم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 384
المسألة الثانية : قوله : {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } فيه إشكال وهو أن الظاهر من قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أن هذا الخطاب مع المؤمنين ، والعقل يدل عليه أيضاً لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر ، وإذا كان كذلك فكيف قال : {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارهاً لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز ، لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله تعالى وتكاليفه ، بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده.
والجواب من وجهين : الأول : أن المراد من الكره ، كونه شاقاً على النفس ، والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه ، لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلاً شاقاً على النفس ، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة ، ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة ، / فلذلك أشق الأسياء على النفس القتال الثاني : أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف ، ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم.
المسألة الثالثة : الكره بضم الكاف هو الكراهة بدليل قوله : {وَعَسَى ا أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ثم فيه وجهان أحدهما : أن يكون المعنى وضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقول الخنساء :
فإنما هي إقبال وإدبار
كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له والثاني : أن يكون فعلاً بمعنى مفعول ، كالخبر بمعنى المخبور أي وهو مكروه لكم وقرأ السلمي بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز ، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ، ومشقته عليهم ، ومنه قوله تعالى : {حَمَلَتْهُ أُمُّه كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } (الأحقاف : 15) والله أعلم وقال بعضهم : الكره ، بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه ، وإذا كان بالإكراه فبالفتح.
أما قوله : {وَعَسَى ا أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَعَسَى ا أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : {عَسَى } فعل درج مضارعه وبقي ماضيه فيقال منه ، عسيتما وعسيتم قال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} (محمحد : 22) ويرتفع الاسم بعده كما يرتفع بعد الفعل فتقول : عسى زيد. كما تقول : قام زيد ومعناه : قرب قال تعالى : {قُلْ عَسَى ا أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} (النمل : 72) أي قرب ، فقولك عسى زيد أن يقوم تقديره عسى قيام زيد أي قرب قيام زيد.
جزء : 6 رقم الصفحة : 384
(1/875)
المسألة الثانية : معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال ، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد ، ولأجله حسن شرب الدوا المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل ، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى ، وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل ، وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المضار منها : أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم ، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح ، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء ، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطراً إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة ، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن ، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت ، ومنها وجدان الغنيمة ، ومنها / السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة ، منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقرباً وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله ، ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين ، ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله ، ومنها أن من أقدم على القتال طلباً لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله ، وما لم يصر الرجل متيقناً بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين ، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا ، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد ، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله : {وَعَسَى ا أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَعَسَى ا أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } .
المسألة الثالثة : {الشَّرَّ} السوء وأصله من شررت الشيء إذا بسطته ، يقال شررت اللحم والثوب إذا بسطته ليجف ، ومنه قوله :
وحتى أشرت بالأكف المصاحف
اللهب لانبساطه فعلى هذا {لِلنَّاسِ الشَّرَّ} انبساط الأشياء الضارة.
جزء : 6 رقم الصفحة : 384
المسألة الرابعة : {عَسَى } توهم الشك مثل {لَعَلَّ} وهي من الله تعالى يقين ، ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة ، فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل ، أما إن قلنا بأنها بمعنى {لَعَلَّ} فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 183) قال الخليل : {عَسَى } من الله واجب في القرآن قال : {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ} (المائدة : 52) وقد وجد {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } (يوسف : 83) وقد حصل والله أعلم.
أما قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه ، وكمال علم الله تعالى ، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته ، علم قطعاً أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله ، سواء كان مكروهاً للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال : يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 384
386
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول : الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقالوا : أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع ؟
فنزلت الآية ، فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
(1/876)
الفريق الثاني : وهم أكثر المفسرين : رووا عن ابن عباس أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين ، وبعد سبعة عشر شهراً من مقدمة المدينة في ثمانية رهط ، وكتب له كتاباً وعهداً ودفعه إليه ، وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ، ويقرأه على أصحابه ، ويعمل بما فيه ، فإذا فيه : أما بعد فسر على بركة الله تعالى بمن اتبعك حتى تنزل بطن نخل ، فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير ، فقال عبد الله : سمعاً / وطاعة لأمره فقال لأصحابه : من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره ، ومن أحب التخلف فليتخلف فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف ، فمر عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه ، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار ، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فضجت قريش وقالوا : قد استحل محمد الشهر الحرام ، شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء ، والمسلمون أيضاً قد استبعدوا ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، وقال عبد الله بن جحش يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم العير والأسارى ، فنزلت هذه الآية ، فأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام الغنيمة ، وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه أحدها : أن أكثر الحاضرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا مسلمين وثانيها : أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} وهو خطاب مع المسلمين وقوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌا وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُم وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة : 219 ، 220) وثالثها : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
والقول الثاني : أن هذا السؤال كان من الكفار قالوا : سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه } أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال {وَلا يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين ثم أنزل الله تعالى بعده قوله : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌا فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة : 194) فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز.
المسألة الثانية : قوله تعالى : {قِتَالٍ فِيه } خفص على البدل من الشهر الحرام ، وهذا يسمى بدل الإشتمال ، كقولك : أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله ، وسلب زيد ثوابه ، قال تعالى : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} (البروج : 4 ، 5) وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير : يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه ، وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع ، ونظيره قوله تعالى : {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} وقرأ عكرمة {قِتَالٍ فِيه } .
/ أما قوله تعالى : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : {قِتَالٍ فِيه } مبتدأ و{كَبِيرٌ } خبره ، وقوله : {قِتَالٍ} وإن كان نكرة إلا أنه تخصص بقوله : {فِيه } فحسن جعله مبتدأ والمراد من قوله : {كَبِيرٌ } أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة قال تعالى : {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } (الكهف : 5).
(1/877)
فإن قيل : لم نكر القتال في قوله تعالى : {قِتَالٍ فِيه } ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول ، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح : 6).
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
قلنا : نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه } ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش ، فقال تعالى : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه ، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الفكر فكيف يكون هذا من الكبائر ، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه ، وباطنه يكون موافقاً للحق ، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير ، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة ، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب.
المسألة الثانية : اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال : حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا على سبيل الدفع/ روى جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام ؟
قال نعم ، قال أبو عبيد : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها ، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز.
والحجة في إباحته قوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة : 5) وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام ، والذي عندي أن قوله تعالى : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فرداً واحداً ، ولا يتناول كل الأفراد ، فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقاً في الشهر الحرام ، فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه.
/ أما قوله تعالى : {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّه } ففيه مسألتان :
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
المسألة الأولى : للنحويين في هذه الآية وجوه الأول : قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج ، أن قوله : {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ} كلها مرفوعة بالابتداء ، وخبرها قوله : {أَكْبَرُ عِندَ اللَّه } والمعنى : أن القتال الذي سألتم عنه ، وإن كان كبيراً ، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه ، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام ، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذراً ظاهراً ، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ} (البقرة : 44) ، {ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف : 2) وهذا وجه ظاهر ، إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وذكروا فيه وجهين أحدهما : أنه عطف على الهاء في به والثاني : وهو قول الأكثرين : أنه عطف على {سَبِيلِ اللَّهِ} قالوا : وهو متأكد بقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الحج : 25).
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير ، فإنه لا يقال : مررت به وعمرو ، وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية : صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فقوله : {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (المائدة : 2) صلة للصد ، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد ، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزاً.
(1/878)
أجيب عن الأول : لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير : وكفر به وبالمسجد الحرام ، والإضمار في كلام الله ليس بغريب ، ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة {تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَ } (النساء : 1) على سبيل الخفض ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولاً بالاتفاق ، فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولاً ، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا : لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول ، والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين الأول : أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل الثاني : أن موضع قوله : {وَكُفْرُا بِه } عقيب قوله : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلا أنه قدم عليه لفرط العناية ، كقوله تعالى : {وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ } كان من حق الكلام أن يقال : ولم يكن له أحد كفواً إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
الوجه الثاني : في هذه الآية ، وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطف بالواو على الشهر الحرام ، والتقدير : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام ، ثم بعد هذا طريقان أحدهما : أن قوله : {قِتَالٍ فِيه } مبتدأ ، وقوله : {كَبِيرٌا وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه } خبر بعد خبر ، والتقدير : إن قتلاً فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله ، وبأنه كفر بالله.
والطريق الثاني : أن يكون قوله : {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملة مبتدأ وخبر ، وأما قوله : {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فهو مرفوع بالابتداء ، وكذا قوله : {وَكُفْرُا بِه } والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، والتقدير : قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير ، ونظيره قولك : زيد منطلق وعمرو ، تقديره : وعمرو منطلق ، طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا : أما قولكم تقدير الآية : يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعاً عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام ، وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً بالله ، وهو خطأ بالإجماع ، وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك : {وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ أَكْبَرُ} أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر ، وهو خطأ بالإجماع.
وأقول : للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام ، بل الظاهر أنه وقع لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال ، وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً.
قلنا : يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفراً ونحن نقول به ، لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم ، وعندنا أن قتالاً واحداً في المسجد الحرام كفر ، ولا يلزم أن كل قتال كذلك ، وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر ، قلنا : المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة ، وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفراً فهو ظلم لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلماً وكفراً ، أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفراً وحده ، فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
القول الثالث : في الآية قوله : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌا وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه } وجهه ظاهر ، وهو أن قتالاً فيه موصوف بهذه الصفات ، وأما الخفض في قوله : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزناً.
(1/879)
المسألة الثانية : أما الصد عن سبيل الله ففيه وجوه أحدها : أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد عليه السلام وثانيها : صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام وثالثها : / صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت ، ولقائل أن يقول : الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش ، وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في معلوم الله تعالى كان كالواقع ، وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلاً للرسل ، مستحقاً للعبادة ، قادراً على البعث ، وأما قوله : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإن عطفناه على الضمير في {بِه } كان المعنى : وكفر بالمسجد الحرام ، ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به ، فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع ، ومن قال : إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى : وصد عن المسجد الحرام ، وذلك لأنهم صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكين والركع السجود.
وأما قوله تعالى : {وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ} فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من مكة ، وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } (الفتح : 26) وقال تعالى : {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَه ا إِنْ أَوْلِيَآؤُه ا إِلا الْمُتَّقُونَ} (الأنفال : 34) فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر ، أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام ، وهذا تفريع على قول الزجاج ، وإنما قلنا : إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين : أحدهما : أن كل واحد من هذه الأشياء كفر ، والكفر أعظم من القتال والثاني : أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش ، وهو ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام ، وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام ، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
أما قوله تعالى : {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } فقد ذكروا في الفتنة قولين أحدهما : هي الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين ، وهو عندي ضعيف ، لأن على قول الزجاج قد تقدم ذكر ذلك ، فإنه تعالى قال : {وَكُفْرُا بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ أَكْبَرُ} فحمل الفتنة على الفكر يكون تكراراً ، بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء.
(1/880)
والقول الثاني : أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم ، تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم ، وتارة بالتعذيب ، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر ، وهذا قول محمد بن إسحاق وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ } (التغابن : 15) أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده ، فصار ذلك مانعاً له عن الإنفاق ، وقال تعالى : { الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (العنكبوت : 1 ، 2) أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : {وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } (طه : 40) وإنما هو الامتحان بالبلوى ، وقال : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت : 10) والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } (البروج : 10) والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم ، وقال : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (النساء : 101) وقال : {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 162 ، 163) وقال : {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ} (آل عمران : 7) أي المحنة في الدين وقال : {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (المائدة : 49) وقال : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } (الممتحنة : 5) وقال : {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ} (يونس : 85) والمعنى أن يفتنوا بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال : {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم : 65) قيل : المفتون المجنون ، والجنون فتنة ، إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان ، وإنما قلنا : إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا ، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي.
روى أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش صاحب هذه السرية إلى مؤمني مكة : إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة ، ومنع المؤمنين عن البيت الحرام قال : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} والمعنى ظاهر ، ونظيره قوله تعالى : والمعنى ظاهر ، ونظيره قوله تعالى : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } (البقرة : 120).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما زال يفعل كذا ، ولا يزال يفعل كذا ، قال الواحدي : هذا فعل لا مصدر له ، ولا يقال منه : فاعل ولا مفعول ، ومثاله في الأفعال كثير نحو {عَسَى } ليس له مصدر ولا مضارع وكذلك : ذو ، وما فتىء ، وهلم ، وهاك ، وهات ، وتعال ، ومعنى : {وَلا يَزَالُونَ} أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي فإذا أدخلت عليه : ما ، كان ذلك نفياً للنفي فيكون دليلاً على الثبوت الدائم.
المسألة الثانية : قوله : {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} أي إلى أن يردوكم وقيل المعنى : ليردوكم.
المسألة الثالثة : قوله : {إِنِ اسْتَطَـاعُوا } استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق على وهو واثق بأنه لا يظفر به.
ثم قال تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : قال الواحدي قوله : {وَمَن يَرْتَدِدْ} أظهر التضعيف مع الجزم لسكون الحرف الثاني : وهو أكثر في اللغة من الإدغام ، وقوله : {فَيَمُتْ} هو جزم بالعطف على {يَرْتَدِدْ} وجوابه {لَمَعَكُم حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} .
المسألة الثانية : لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم ، ذكر بعده وعيداً شديداً على الردة ، فقال : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } واستوجب العذاب الدائم في النار.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
(1/881)
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر ، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام ، وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي ، أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة ، فالإيمان لا يكون إيماناً إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفراً إلا إذا مات الكافر عليه ، قالوا : لأن من كان مؤمناً ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيماناً في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي ، ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال : إن الطارىء يزيل السابق وهذا محال لوجوه أحدها : أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارىء ، فليس كون الطارىء مزيلاً للسابق أولى من كون السابق دافعاً للطارىء ، بل الثاني أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وثانيها : أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين ، كان شرط طريان الطارىء زوال السابق فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال وثالثها : أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارىء ، إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر ، فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر ، فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع ، وإن ازداد أحدهما على الآخر ، فلنفرض أن السابق أزيد ، فعند طريان الطارىء لا يزول إلا ما يساويه ، فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية ، فيكون ذلك ترجيحاً من غير مرجح وهو محال ، لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارىء الزائد ، يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال ، وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارىء دون البعض ، وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحاً للمثل من غير مرجح وهو محال ، فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمناً ثم كفر ، فذلك الإيمان السابق ، وإن كنا نظنه إيماناً إلا أنه ما كان عند الله إيماناً ، فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيماناً ، والكفر كفراً ، وهذا هو الذي دلت الآية عليه ، فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت / المرتد على تلك الردة.
أما البحث الفروعي : فهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت قال الشافعي رحمه الله : لا إعادة عليه ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج ، حجة الشافعي رضي الله تعالى عنه قوله تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ} شرط في حبوط العمل أن يموت وهو كافر ، وهذا الشخص لم يوجد في حقه هذا الشرط ، فوجب أن لا يصير عمله محبطاً ، فإن قيل : هذا معارض بقوله : {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام : 88) وقوله : {وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه } (المائدة : 5) لا يقال : حمل المطلق على المقيد واجب.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
لأنا نقول : ليس هذا من باب المطلق والمقيد ، فإنهم أجمعوا على أن من علق حكماً بشرطين ، وعلقه بشرط أن الحكم ينزل عند أيهما وجه ، كمن قال لعبده : أنت حر إذا جاء يوم الخميس ، أنت حر إذا جاء يوم الخميس والجمعة : لا يبطل واحد منهما ، بل إذا جاء يوم الخميس عتق ، ولو كان باعه فجاء يوم الخميس ولم يكن في ملكه ، ثم اشتراه ثم جاء يوم الجمعة وهو في ملكه عتق بالتعليق الأول.
والسؤال الثاني : عن التمسك بهذه الآية أن هذه الآية دلت على أن الموت على الردة شرط لمجموع الأحكام المذكورة في هذه الآية ، ونحن نقول به فإن من جملة هذه الأحكام : الخلود في النار وذلك لا يثبت إلا مع هذا الشرط ، وإنما الخلاف في حبط الأعمال ، وليس في الآية دلالة على أن الموت على الردة شرط فيه.
والجواب : أن هذا من باب المطلق والمقيد لا من باب التعليق بشرط واحد وبشرطين ، لأن التعليق بشرط وبشرطين إنما يصح لو لم يكن تعليقه بكل واحد منهما مانعاً من تعليقه بالآخر ، وفي مسألتنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً في شيء من الأوقات ، فعلمنا أن هذا ليس من باب التعليق بشرط وبشرطين بل من باب المطلق والمقيد.
وأما السؤال الثاني : فجوابه أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة ، وإنما توجب الخلود في النار بشرط الموت على الردة ، وعلى هذا التقدير فذلك السؤال ساقط.
أما قوله تعالى : {فَأُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } ففيه مسائل :
(1/882)
المسألة الأولى : قال أهل اللغة أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرها فتعظم بطونها فتهلك وفي الحديث "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم" فسمى بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.
/ المسألة الثانية : المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال ، وإعدام المعدوم محال ، ثم اختلف المتكلمون فيه ، فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق ، إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولاً بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي ، وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعاً بل يستفيد منه أعظم المضار يقال : إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة ، ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط ، إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط ، وإما أن لا يكون ، فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه ، وإن كان مجازاً وجب المصير إليه ، لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان ، على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال.
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
المسألة الثالثة : أما حبوط الأعمال في الدنيا ، فهو أنه يقتل عند الطفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً ، وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين ، ويجوز أن يكون المعنى في قوله : {حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا} أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالإنتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة ، وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بأعمالهم السالفة ، وعند المنكرين لذلك معناه : أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثواباً ونفعاً في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار ، ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى : {وَأُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ} .
جزء : 6 رقم الصفحة : 386
394
قوله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوالَـا ئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
في الآية مسألتان :
/ المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت هذه الآية ، لأن عبد الله كان مؤمناً ، وكان مهاجراً ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً والثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } (البقرة : 216) وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد.
المسألة الثانية : {هَاجَرُوا } أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم ، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل ، ومنه قيل للكلام القبيح : هجر ، لأنه مما ينبغي أن يهجر ، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل ، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة ، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين ، وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب ، فكان ذلك مهاجرة ، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة ، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله ، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة ، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو ، وعند فعل العدو ، ومثل ذلك فتصير مفاعلة.
ثم قال تعالى : {أُوالَـا ئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه } وفيه قولان : {الاوَّلِ } أن المراد منه الرجاء ، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها ، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالفوز والثواب في عمله ، بل كان يتوقعه ويرجوه.
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقاً بالرجاء ، ولم يقع به كما في سائر الآيات ؟
.
جزء : 6 رقم الصفحة : 394
(1/883)
قلنا : الجواب من وجوه أحدها : أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلاً ، بل بحكم الوعد ، فلذلك علقه بالرجاء وثانيها : هب أنه واجب عقلاً بحكم الوعد ، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن ، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها : أن المذكور ههنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها : ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد ، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى ، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون : 60).
القول الثاني : أن المراد من الرجاء : القطع واليقين في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته ، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى : {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة : 46).
/ ثم قال تعالى : {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح/ وأنه غفور رحيم ، غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم.
الحكم الثالث
في الخمر
جزء : 6 رقم الصفحة : 394
395
اعلم أن قوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعاً عن الحل والحرمة.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله تعالى : {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } (النحل : 67) وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزل فيها قوله تعالى : {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ} فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم ، فشربوا وسكروا ، فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، فنزلت : {لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى } (النساء : 43) فقل من شربها ، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار ، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله : {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة : 91) فقال عمر : انتهينا يا رب ، قال القفال رحمه الله : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج ، وهذا الرفق ، ومن / الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ، ثم نزل قوله تعالى : {لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى } فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة ، لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر ، فكان المنع من ذلك منعاً من الشرب ضمناً ، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم ، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
المسألة الثانية : اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو ؟
ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر.
(1/884)
أما المقام الأول : في بيان أن الخمر ما هو ؟
قال الشافعي رحمه الله : كل شرب مسكر فهو خمر ، وقال أبو حنيفة : الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد ، حجة الشافعي على قوله وجوه أحدها : ما روى أبو داود في "سننه" : عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والحنطة ، والشعير ، والذرة ، والخمر ما خامر العقل ، وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه أحدها : أن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير ، كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر ، وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمراً وثانيها : أنه قال : حرمت الخمر يوم حرمت/ وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمر ، وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة وثالثها : أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب ، ولا شك أن عمر كان عالماً باللغة ، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره.
الحجة الثانية : روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً ، وإن من الشعير خمراً" والاستدلال به من وجهين أحدهما : أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر والثاني : أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات ، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها ، أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب ، فوجب أن يكون ثابتاً في هذه الأشربة ، قال الخطابي رحمه الله : وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها ، وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان ، فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة ، فحكمها حكم هذه الخمسة ، كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.
الحجة الثالثة : روى أبو داود أيضاً عن نافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام" قال الخطابي : قوله عليه السلام "كل مسكر خمر" دل على / وجهين أحدهما : أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها ، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر ، وكان مسمي الخمر مجهولاً للقوم حسن من الشارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية ، أو على سبيل أن يضع اسماً شرعياً على سبيل الاحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
والوجه الآخر : أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة ، وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمراً فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازاً على المشابهة في الحكم ، الذي هو خاصية ذلك الشيء.
الحجة الرابعة : روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البتع ، فقال : "كل شراب أسكر فهو حرام" قال الخطابي : البتع شراب يتخذ من العسل ، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة ، وإفساد لقول من قال : إن القليل من المسكر مباح ، لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس ، فيدخل فيه القليل والكثير منها ، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله.
الحجة الخامسة : روى أبو داود عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
الحجة السادسة : روى أيضاً عن القاسم عن عائشة ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" قال الخطابي : "الفرق" مكيال يسع ستة عشر رطلاً ، وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب.
الحجة السابعة : روى أبو داود عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن كل مسكر ومفتر ، قال الخطابي : المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء ، وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة ، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر ، وهو حرام.
النوع الثاني : من الدلائل على أن كل مسكر خمر التمسك بالاشتقاقات ، قال أهل اللغة : أصل هذا الحرف التغطية ، سمي الخمار خماراً لأنه يغطي رأس المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، من وهدة وأكمة ، وخمرت رأس الإناء أي غطيته ، والخامر هو الذي يكتم شهادته ، قال ابن الأنباري : سميت خمراً لأنها تخامر العقل ، أي تخالطه ، يقال : خامره الداء إذا خالطه ، وأنشد لكثير :
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
(1/885)
/ ويقال خامر السقام كبده ، وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول ، لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له ، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل ، كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل أي تحجزه ، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً إذا ستره للمبالغة ، ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر ، لأن السكر يغطي العقل ، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء ، فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر ، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس ، وهو غير جائز ، لأنا نقول : ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس ، بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات ، كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات ، ومسمى الصوم هو الإمساك ، ويثبتونه بالاشتقاقات.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
النوع الثالث : من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر ، أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما : هذه الآية والثانية : آية المائدة والثالثة : وردت في السكر وهو قوله : {لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى } (النساء : 43) وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر.
النوع الرابع : من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذاً قالا : يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل ، مذهبة للمال ، فبين لنا فيه ، فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل ، فوجب أن يكون كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في هذا الحكم.
النوع الخامس : من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ } (المائدة : 91) ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر ، وهذا التعليل يقيني ، فعلى هذا تكون هذه الآية نصاً في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة ، فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر ، وكل من أنصف وترك العناد ، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } (النحل : 67) من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، وما نحن فيه سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
والحجة الثانية : ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها ، وقال : اسقوني ، فقال العباس : ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا ؟
فقال : ما تسقي الناس ، فجاءه بقدح من نبيذ فشمه ، فقطب وجهه ورده ، فقال العباس : يا رسول الله أفسدت على / أهل مكة شرابهم ، فقال : ردوا على القدح ، فردوه عليه ، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب ، وقال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا منتها بالماء.
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص/ ولأن اغتلام الشراب شدته ، كاغتلام البعير سكره.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
الحجة الثالثة : التمسك بآثار الصحابة.
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } نكرة في الإثبات ، فلم قلتم : إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ؟
ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر ، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة ، أو مخصصة لها.
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماءً نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلاً إلى الحموضة ، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم ، فلذلك قطب وجهه ، وأيضاً كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة ، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة ، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام ، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر.
(1/886)
المقام الثاني : في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول : أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم ، والإثم حرام لقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاثْمَ وَالْبَغْىَ} (الأعراف : 33) فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر الثاني : أن الإثم قد يراد به العقاب ، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب ، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث : أنه تعالى قال : {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } صرح برجحان الإثم والعقاب ، وذلك يوجب التحريم.
فإن قيل : الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم ، بل تدل على أن فيه إثماً ، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم : إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراماً ؟
.
قلنا : لأن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر ، فلما بين تعالى أن فيه إثماً ، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرمة ، ومستلزم المحرم محرم ، فوجب أن يكون الشرب محرماً ، ومنهم من قال : هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر ، واحتج عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني : / لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة ؟
الثالث : أنه تعالى أخبر أن فيهما إثماً كبيراً فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلاً ما داما موجودين ، فلو كان ذلك الإثم الكبير سبباً لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
والجواب عن الأول : أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرماً ، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعاً من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام.
والجواب عن الثاني : أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر ، والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم ، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم ، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكوناً وطمأنينة.
والجواب عن الثالث : أن قوله : {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي ، وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان ، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب.
المسألة الثالثة : في حقيقة الميسر فنقول : الميسر القمار ، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما ، يقال يسرته إذا قمرته/ واختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها : قال مقاتل : اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب ، كانوا يقولون : يسروا لنا ثمن الجزور ، أو من اليسار لأنه سبب يساره ، وعن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله وثانيها : قال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام ، يقال : يسروا الشيء ، أي اقتسموه ، فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، والياسر الجازر ، لأنه يجزىء لحم الجزور ، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : إنهم ياسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزؤن لحم الجزور وثالثها : قال الواحدي : إنه من قولهم : يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسراً إذا وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح ، هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة.
وأما صفة الميسر فقال صاحب "الكشاف" : كانت لهم عشرة قداح ، وهي الأزلام والأقلام الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، بفتح الحاء وكسر اللام ، وقيل بكسر الحاء وسكون اللام ، والمسبل ، والمعلي ، والنافس ، والمنيح ، والسفيح ، والوغد ، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء ، وقيل : ثمانية وعشرين جزءاً إلا ثلاثة ، وهي : المنيح والسفيح ، والوعد ، ولبعضهم في هذا المعنى شعر :
لي في الدنيا سهام
ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد
وسفيح ومنيح
فللفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل / ستة ، وللمعلي سبعة ، يجعلونها في الربابة ، وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً ، وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ، ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
(1/887)
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين ، أو هو اسم لجميع أنواع القمار ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم" وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز ، وأما الشطرنج فروي عن علي عليه السلام أنه قال : النرد والشطرنج من الميسر ، وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا خلا الشطرنج عن الرهان ، واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان ، لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر ، لأن الميسر ما يوجب دفع المال ، أو أخذ مال ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قماراً ولا ميسراً ، والله أعلم ، أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر ، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه.
المسألة الخامسة : الإثم الكبير ، فيه أمور أحدها : أن عقل الإنسان أشرف صفاته ، والخمر عدو العقل ، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس ، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور ، وتقريره أن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يجري مجرى عقال الناقة ، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح ، كان عقله مانعاً له من الإقدام عليه ، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل المانع منها ، والتقريب بعد ذلك معلوم ، ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ، ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً ، وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك ؟
فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسى سفيههم وثانيها : ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وثالثها : أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى. بخلاف سائر المعاصي ، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل ، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم ، بخلاف الشرب ، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر ، كان نشاطه أكثر ، ورغبته فيه أتم. فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقاً في اللذات البدنية ، معرضاً عن تذكر الآخرة والمعاد ، حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، وبالجملة فالخمر يزيل العقل ، وإذا زال العقل / حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "الخمر أم الخبائث" وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة ، وأيضاً لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضاً يورث العداوة ، لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجاناً أبغضه جداً ، وهو أيضاً يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، وأما المنافع المذكورة في قوله تعالى : {وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ} فمنافع الخمر أنهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة ، فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب ، ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه ، ويسلي المحزون ، ويشجع الجبان ، ويسخي البخيل ويصفي اللون ، وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء ومن منافع الميسر : التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور ، وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير ، فيحصل له مال من غير كد وتعب ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب منه المدح والثناء.
جزء : 6 رقم الصفحة : 395
المسألة السادسة : قرأ حمزة والكسائي {كَثِيرٌ} بالثاء المنقوطة من فوق والباقون بالباء المنقوطة من تحت حجة حمزة والكسائي ، أن الله وصف أنواعاً كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (المائدة : 91) فذكر أعداداً من الذنوب فيهما ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لعن عشرة بسبب الخمر ، وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما ، ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال : فيهما إثم ومنافع ، وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال : فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيراً يدل عليه قوله تعالى : {كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ} (النجم : 32) ، {كَبَآاـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} (النساء : 31) ، {إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (النساء : 2) وأيضاً القراء اتفقوا على قوله : {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ} بالباء المنقوطة من تحت ، وذلك يرجح ما قلناه.
/ الحكم الرابع
في الإنفاق
قوله تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ} .
(1/888)